الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين الإسلامي والتوحيد الحقائق ج1 م1
مباحث دينية
الدين الإسلامي والتوحيد
ليس من الصعب على من منح عقلاً سامياً وفكراً نيراً ورزق براعة في الاستدلال ومهارة في الاستنباط أن يستعمل النظر فيما أسس عليه الدين الإسلامي من توحيد وتصديق وعلم وبرهان وتعبد وإذعان وأمر ونهي لتنكشف له حقيقته ويعلم سر قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).
تأمل أيها المستدل في حجته القويمة ومحجته الواضحة وسيرته الغراء وطريقته الحنيفة السمحاء تجد ما يبهر العقول ويدهش الألباب.
سما بأمته في مدة وجيزة إلى أعلى مراقي الكمال وصعد بها إلى ذروة المجد وشاهق العزة وقدَّسها عما كانت عليه الجاهلية قبل من أوصاف الهمجية وسفاسف الدنايا حتى سادت على العالم بما أحرزته من مقتضيات المدينة وامتازت على الأمم بالشهامة والشجاعة وتهذيب الأخلاق وتسديد الأحكام، تدبرايها الواقف على أحوال سير الأمم في هذا الدين تراه أرشد معلم يهدي الأنفس إلى اكتساب الفضائل واقتناء العلوم والمعارف وأجل أستاذ يطبع الأرواح على مكارم الصفات ومحاسن الآداب.
كان الناس في حيرة وتردد وتقاطع وتبدد في أسر الوسائط والشفعاء وتحت سيطرة المتكهنة والعرفاء يقودهم الجهل إلى أضيق المسالك ويسوقهم الغي إلى مهامة المهالك فجاء الإسلام بالدين القويم والذكر الحكيم أشرقت شموسه وسطعت أنواره وانتشرت محاسنه وهبن نسمات عدالته فطفق الناس يدخلون فيه أفواجاً تصافحهم أيدي العناية وتعانقهم كواعب الهداية وتبشرهم دواعي الرحمة بالسعادة والفوز بالحسنى وزيادة محا الله به عبادة الأوثان والعادات السيئة والمذاهب الباطلة التي كانت عليها العرب في الجاهلية ووضع الأصر والغلال التي كانت على الأمم وأحل الطيبات وحرم الخبائث، ورفع الحجر الذي كان وضعه رؤساء الأديان على عقول السذج والضرائب التي كانوا يأخذونها من سفلتهم وجهالهم وأصبح المسلم عبداً لله خالصاً من رق العبودية لكل ما سواه.
كم هدى الدين ضالاً والآن قاسياً وهذب خشناً وعلم جاهلاً ونبه خاملاً وأصلح من الخلق
فاسداً فهو منبع العلم ومبعث الفضائل وسلسبيل الحكم فاض على الأمم فبث فيها روح الحياة المدنية (فاهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج) ابتدأ هذا الدين بالدعوة وكان الداعي إليه سيدنا (محمد) بن عبد الله الرسول المجتبى بأمر من ربه فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وبشر وأنذر ومازال يقتحم المخاطر ويتجشم المصاعب ويكابد خطوب الأسى وضروب الأذى من الكفار حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ولم يصده عن التبليغ شي من ذلك بل كان يدعوهم إلى الدين بأنواع من الطرق المستحسنة بالخطابات البارعة والعبارات الباهرة.
فأصحاب البصائر النافذة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها كان يدعوهم بالدلائل القطعية اليقينية وأصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان كان يدعوهم بالمواعظ الحسنة والترغيب والترهيب.
وأصحاب الجدال والخصام والمعاندة كان يدعوهم بأحسن طريقة في المجادلة بالرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف لأنه أنفع في تسكين لهبهم وتبيين شبههم (أدع إلي سيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
شرف الله هذا الدين ببعثة رسوله عليه الصلاة والسلام وأيده بالمعجزات الدالة على صدق دعواه وحماه من كل ما يكون قادحاً في مقامه العالي وأمر عباده على لسان نبيه أن يتلقوا الحكام التي شرعها بقبول وإذعان ولولا إرساله لما عرف الفرق بين الطاعة والمعصية ولا تميز الشقي من السعيد أخذ رسول الله صلى الله عليه ولسم يسوس الناس حتى جمع كلمتهم ووحدها وآلف بينهم وألف وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم بما طبعه الله عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وساوى بينهم فيما حكم الله لا رفيع في الحق ولا وضيع فأصبح المسلمون أقوياء أشداء أعزاء رحماء.
استقام أمر المسلمين في عز ومجد وسؤدد وفخار إلى ما شاء الله أن يكون حتى وقع ما وقع في زمن عثمان رضى الله عنه وفتح للناس باب التعدي للحدود ووقعت الحروب بين المسلمين إلى أن أفضت الخلافة إلى الأمويين كل ذلك ولم يقف شيئ في سبيل الدعوة الإسلامية بل كان الناس يهرعون إلى الدخول في دين الإسلام فعلموا على توسيع دائرة مملكتهم وجردوا الجيوش وفتحوا المدن حتى وطئت حوافر خيولهم ما وراء النهر وفتحوا
إسبانيا وما جاورها من بلاد الإفرنج إلى نهر تورس وحولوا الاحتلال الموقت إلى السيادة الدائمة.
ثم لما ظهر ضعف بني أمية بعد ذلك واضطرابهم هان على الناس الخروج عن طاعتهم وتوفق العباسيون يومئذ إلى رجل فارسي يدعى أبا مسلم الخراساني فأنقذوه في طلب البيعة لهم في خراسان لبعدها عن مركز الخلافة فتوفق توفيقاً عجيباً حتى أدني الخلافة لبني العباس وسلم أزمتها إلى السفاح أول خلفائهم اعتمد العباسيون على جماعة من الفرس تظاهروا بالعدالة والاستقامة فاتخذوهم أنصاراً في عواملهم السياسية وأعلوا مراتبهم وأجلسوهم على منصة الرفعة والعز وكان الكثير منهم ليس من الدين في شيئ بل كان منهم طوائف ضالة مضلة كالمانوية والباطنية والإسماعيلية وغيرهم من الطوائف المارقة وهكذا إلى أن ظهرت المعتزلة وتفرقت الأمة المحمدية فأخذوا يضلون الناس ويدعونهم إلى اتباعهم والنأسي بأقوالهم وأفعالهم فظهر الإلحاد وفشت الزندقة وكثر الغى واستفحل الأمر فصدر أمر المنصور بتأليف كتب لإظهار شباتهم ودحض دعاويهم الباطلة.
كانت الأوائل من الصحابة والتابعين لسلامة عقائدهم وقلة الوقائع والاختلافات في زمنهم مستغنين عن تدوين على أصول الدين وفروعه أعني التوحيد والفقه فلما حدثت الفتن اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثر جدال المبتدعه وتقووا بحيث لا يمكن زجرهم اشتغل علماء الدين بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع وتبين المذاهب. أول من أظهر الخلاف من فرقة المعتزلة وأصل بن عطاء وكان في مجلس الحسن البصري فقال رجل للحسن يا إمام زعم أناس كفر من فعل كبيرة وقال آخرون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة فما الحق في ذلك فأطرق ملياً لينظر فأسرع وأصل بإثبات المنزلة بين المنزلتين وعقد له مجلساً وقال الناس ثلاثة (مؤمن، وكافر، ولا مؤمن، ولا كافر) فقال الحسن اعتزلنا وأصل ثم تعاظم الأمر لما عرب المأمون العلوم الفلسفية وكان طلبها من اليونان فضنوا بها فلم يزل حتى أرسلوها وخلطت تلك الشبه فكانت المعتزلة ينتحلون منها وذلك أن من قواعد الفلاسفة أن واجب الوجود لا يكون إلا واحداً من جميع جهاته أخذت منه المعتزلة نفى صفات المعاني ومن قواعدهم التأثير بالتعليل ونفي الاختيار بإثبات اللزوم أخذوا منه
وجوب الصلاح والأصلح ومن قواعدهم أن الرؤية بأشعة تتصل بالمرئي أخذوا منه أن الله لا يرى ومنها تأثير العقول أخذوا منه أن العباد يخلقون أفعالهم الاختيارية وكل ذلك باطل مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة كما هو مقرر في محله أن علماء الإسلام ما صنفوا كتب القواعد ليثبتوا في أنفسهم العلم بالله تعالى وإنما وضعوا ذلك ردعاً وسلم بالخصوص وإعادة الأجسام بعد الموت ونحو ذلك مما لا يصدر إلا من كافر فطلب علماء الإسلام إقامة الأدلة على هؤلاء ليرجعوا إلى اعتقاد وجوب الإيمان بذلك فكان البرهان عندهم كالمعجزة التي ينساقون بها إلى دين الإسلام.
الأدلة على وجود الصانع وتوحيده تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب والطبيب أن لم يكن حاذقاً مستعملاً للأدوية على قدر قوة الطبيعة وضعها كان إفساده أكثر من إصلاحه كذلك الإرشاد بالأدلة إلى الهداية إذا لم يكن على قدر إدراك العقول كان الإفساد للعقائد بالأدلة أكثر من إصلاحها وحينئذ يجب أن لا يكون طريق الإرشاد لكل أحد على وتيرة واحدة فإن الناس تتفاوت بحسب مراتبهم واستعدادهم.
فمن آمن بالله وصدق الرسول واعتقد الحق وأضمره واشتغل بعبادة أو صناعة فلا ينبغي أن تحرك عقيدته بتحرير الأدلة فإنه عليه الصلاة والسلام لم يطالب العرب في مخاطبته أياهم بأكثر من التصديق ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو يقين برهاني وغير المؤمن الجافي الغليظ الضعيف العقل الجامد على التقليد المصر على الباطل لا تنفع معه الحجة والبرهان وإنما ينفع معه السيف والسنان إن كثير من الكفرة أسلم تحت ظلال السيوف ومن استقرأ التاريخ لم يصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلا انكشفت عن جماعة من أهل الكفر مالوا إلى الانقياد. وأما الشاكون الذين فيهم نوع الذكاء ولا تصل عقولهم إلى فهم البرهان العقلي فينبغي أن يتلطف في معالجتهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم بالأدلة البرهانية لقصور عقولهم عن إدراكها.
وأما الفطن الذكي لا يقنعه الكلام الخطابي فتجب المحاجة معه بالدليل القطعي البرهاني فقد تبين أن أقسام الخلق أربعة وكل منهم له مرتبة في طريق الإرشاد يخاطب بحسبها فيما يناسب حالة فلا ينبغي أن يساوي بين الناس بالخطاب بالإرشاد كما هو دأب أهل التعصب الذين نصبوا للناس شرك التزلزل في عقائدهم ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير
والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة حتى عسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها.
إذا تمهد هذا فعلينا أن نلتزم طريقة سهلة المأخذ جديرة في النفع واضحة البرهان ظاهرة الحجة ونتباعد عنا يشوش عقائد العامة ويدخل عليهم الريب من نشر الشبه والرد عليها إذا لا يلزمنا أن نطيل المشاغبة في اللوازم إلا عند الاقتضاء وقصارى مطلوبنا تقرير الأدلة الإقناعية والقطعية فالأولى للقسم الثالث والثانية للقسم الرابع: