المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أجوبة العلماء عن التمثيل - مجلة الحقائق - جـ ١٤

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌أجوبة العلماء عن التمثيل

‌أجوبة العلماء عن التمثيل

ننشرها على حسب ورودها

الجواب الأول للعلامة الكبير الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله تعالى ملهم الصواب، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى جميع الآل والأصحاب. ومن به آمن وله وإليه في كل أموره آب.

أما بعد فقد رأيت في الجزء الثاني من مجلد السنة الثانية من مجلتكم الغراء سؤالاً بإمضاء ي. ص يسأل فيه صاحبه عن حكم التمثيل المسمى (بالرواية) هل هو محظور أو جائز شرعاً ويطلب الجواب عنه من أهل العلم بالدين وفي الحديث الشريف من كتم علماً عن أهله ألجمه لله تعالى يوم القيامة بلجام من نار وأني وإن كنت لست من رجال هذا الميدان ولم يتعين علي الجواب لو كنت منهم وفيهم ولله الحمد كثرة أحببت أن أذكر ما رأيته في هذا الباب تاركاً الحكم فيه لأولي البصائر والألباب فأقول:

إنَّ السؤال ورد في تمثيل مخصوص وقع في جمعية مخصوصة وبما أن الحكم على الشيء فرع من تصوره ولم أكن حاضراً فأتصوره أذكر حكم الفقهاء على أصل التمثيل وأترك الجواب عن سائره لمن كان من العلماء حاضراً قال العلامة ابن حجر المكي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر في قسم الكلام على الغيبة بعد الاستدلال على تحريمها وبيان أقسامها وحدها بأنها ذكرك أخاك بما يكره قد يتوهم من حدهم السابق للغيبة أنها تختص باللسان وليس كذلك لأن علة تحريمها الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهذا موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب ولو بالتعريض أو الفعل أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو الرمز أو الكتابة قال النووي بلا خلاف وكذا سائر ما يتوصل به فهم المقصود كأن يمشي مشيته فهو غيبة بل هو أعظم من الغيبة كما قال الغزالي لأنه أبلغ في التصوير أو التفهيم وأنكى للقلب وقال ومنها أي من التنبيهات التي ذكرها البواعث على الغيبة كثيرة أما تشفي الغيظ بذكر مساوي من أغضبك ثم قال وأما اللعب والهزل فيذكر عن غيره ما يضحك الناس به وأما السخرية والاستهزاء به في غيبته كهو في حضرته تحقيراً له. وروى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها

ص: 4

قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته أي لا تنته وغيرت رائحته قالت وحكيت له إنساناً فقال ما أحب إني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا انتهى.

وهذا بالنسبة لتمثيل المسلم أما تمثيل الكافر فإن ذمياً فقال ابن حجر في الزواجر أيضاً الوجه بل الصواب تحريم غيبة الذمي كما تقرر أو لا وروى ابن حيان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع يهودياً أو نصرانياً فله النار وقال ومعنى سمعه اسمعه بما يؤذيه ولا كلام بعد هذا أي لظهور دلالته على الحرمة وقال الغزالي وأما المبتدع فإن كفر أي ببدعته فكا الحربي وإلا فكا لمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروهاً انتهى ومن هذا يعلم أن التمثيل وهو حكاية حال الغير سواء كان مسلماً أو ذمياً أو مبتدعاً لا يكفر ببدعته حرام غلا ذكر بدعته فليس حراماً ولا مكروهاً. وأما الجواب عن سائر ما وقع في الجمعية التمثيلية بما أشار له السائل وطلب الجواب عنه فإنه منوط كما قدمنا بمن شاهده من علماء الدين مثل أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار والشيخ جمال أفندي القاسمي الحلاق والشيخ رشيد أفندي سنان وعبد الرزاق أفندي الدردري ومحمد أفندي الحكيم وأبي السعود أفندي مراد الذين حضروها وشاهدوا الأعمال التي حوتها (فماء راء كمن سمعا) والله تعالى أعلم.

دمشق

محمد عارف المنير الحسيني

الجواب الثاني للعلامة المحقق الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء

بينما كنت أراجع الجزء الثاني من مجلة (الحقائق) الغراء من السنة الثانية عثرت على سؤال تحت عنوان رواية زهير الأندلسي لصاحب الإمضاء ي. ص سأل فيها أصحاب المجلة المذكورة وفضلاء العلماء عن التمثيل هل هو جائز وارد في الشرع أو محظور فهي عنه وتفصيل السؤال هناك وخلاصته أن السائل المذكور شهد تمثيل غلمان المدرسة العثمانية لهذه الرواية فقام أحد أساتذتها ومدح التمثيل بغلو حتى جعله من الاعتبار الوارد في قوله تعالى (فاعتبروا) الآية ومن مكارم الأخلاق الواردة في السنة (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ثم ظهر غلمان متزينون ينشدون أدواراً منها (إنما التمثيل فرض جاء في

ص: 5

القرآن) وبعده ظهر بعض الممثلين لابساً البرنيطة كل ذلك بحضور بعض أهل العلم من غير إنكار أحد منهم على ذلك ثم أن السائل حضر خطبة الجمعة في الأموي فسمع خطيبه العلامة المفضال يذم التمثيل المذكور ويحظره بتاتاً فوقع السائل المذكور في حيرة عظيمة فالتمس الجواب.

(الجواب) إن الكلام على ذلك من وجهين (الأول) في التمثيل وهو في اللغة التصوير في الصحاح ومثل له كذا تمثيلاً إذا صور له مثاله بالكتابة أو غيرها وأما المثل فجمعه أمثال في الصحاح أيضاً والمثل ما يضرب به من الأمثال وهو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر وبهذا تبين أن التمثيل الذي نحن بصدده ليس من التمثيل لا من الأمثال بل الأليق والأحرى به أن يدعى تلبيساً أو تدليساً وكذباً الخ وإذا لقب أثناء الحجاج بالتمثيل فلقصد الحكاية فقط فليتنبه له. والتمثيل المذكور عبارة عن تمويه وجوه الصبيان المرد بما للرجال من شارب ولحية وكلاهما عارية من شعر أو صوف أو غير ذلك وتبديل ثيابهم ولبستهم بزي تخيلوه بفكرهم يحكي زي الملوك الماضيين والأمم السالفين حتى أن كل شخص منهم يسمى باسم ملك أو وزير أو جليل أو حقير هذا هو التمثيل الذي نوهبه ذلك الجاهل فليتأمل. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع لوجوه (الأول) كونه كذباً قولاً وفعلاً كما سمعت وهو أيضاً من الافتراء على أولئك الرفات قال تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) الآية إذ كل قول أو فعل ما لم يعلم أخذن من كتاب أو سنة ولم يقل به أمام من أئمة الدين فهو رد لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وهو أيضاً من البدع السيئة المنهي عنها كما في آخر حديث طويل إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي وفي مسلم في شق حديث ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ولا عبرة في الأقوال والأفعال بمجرد عمل العوام بها وأن غلوا في مدحها لأنهم ليسوا من أهل النظر في الشرعيات ولا يفهمون الحجة ولا يعقلون البرهان وأعظم من هذا افتراء وأشد معصية تفسيره القرآن برأيه لحديث من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار قال في الأحياء، هنا أثناء كلام له ما لفظه وأما النهي فإنه ينزل على أحد أمرين أحدهما أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه

ص: 6

فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. أه هـ

وعليه فمن قال أن التمثيل ورد في القرآن والحديث الحث عليه أو مما أمر الله به أو من الاعتبار أو فرض جاء في القرآن أو تكلم في الدين بلا علم أو أعان من تكلم فيه بلا علم أو أدخل في الدين ما ليس منه أو حرف القرآن عن موضعه أو غير ذلك مما لا مستند له سوى مجرد عقله وهواه فإن كان جاهلاً فيعرف ويستتاب فإن تاب وإلا فن قامت عليه الحجة وجب على أولياء الأمور أن يعاملوه بما يقضي عليه الشرع لأنه ممن قال على الله بغير علم وهو مضاة لقول المشركين (الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل أن الله لا يأمر بالفحشاء القولون على الله مالا تعلمون) وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة وكانوا يقولون. . لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر فكيف بمن يجعل شيئاً من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام من الاعتبار المأمور به في الآية ولو كان التمثيل مما أمر الله به أو من المكارم لبينه عليه الصلاة والسلام ومثله لهم أو أمر أصحابه أن يمثلوه ولو بقصة واحدة مما في القرآن المنطوي على الأخبار عن حوادث الأمم التي قبلنا وما فعلوا وما فعل بهم وما صاروا إليه كقصة أهل الكهف وذي القرنين وبني إسرائيل مع أنبيائهم وقصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وما جرى له مع أخوته أو غير ذلك لقوله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بطرق البيان لمحتاج إليه وأنصح الخلق لعباد الله تعالى ولما تيقنا أنه صلى الله عليه وسلم ما فعل التمثيل ولا مر به ولا أقر عليه أحداً ولا دعا الناس إليه ولا تكلم فيه الصحابة ولا فعله أحد من أئمة الدين علمنا أنه قول مفتعل ومختلق وكذب على الله وكتابه وعلى رسوله وسنته وأن هذا الفعل محض تقليد للإفرنجة قال تعالى (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) فهذا جزاء الكذب على الله تعالى وأما الكذب عليه صلى الله عليه وسلم فجزاؤه ما في الصحيحين وغيرهما (من كذب علي معتمداً فليتبوأ مقعده من النار) ولهذا الحديث طرق كثيرة صحيحة ويلزم على كون التمثيل من مكارم الأخلاق عدم وتتميم مكارم الأخلاق في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة الكرام لأنه صلى الله

ص: 7

عليه وسلم انتقل إلى أعلى عليين ولم يفعله ولا أصحابه كما تقدم حتى انبعث من أشقاه الله وعليه ما يستحق من الله تعالى وجعل هذا التمثيل منها وتممها فمزيد المقت منه تعالى يلجئ الشخص على أن يقول مالا يعقله ولا يفهمه نعوذ بالله من الجهل (الوجه الثاني) اشتماله على نشيد إنما التمثيل فرض الخ. فقد اشتمل على محرم بل على محرمات منها كونه كذباً أيضاً وافتراء محضاً على القرآن بإجماع سلف هذه الأمة وخلفها عالمها وجاهلها خاصها وعامها من غير نزاع ومنها أن فيه تضليل جميع الأئمة سلفاً وخلفاً حيث أنه فرض ولم يظهروه ولم يفعلوه كما مر وقد جمع الناس على أنه ليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله دون ما يشتهيه ويهواه قال تعالى (ولا تتبعوا هواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن وساء السبيل) ومنها تغرير العوام السامعين المصفقين له بكل انشراح ونشاط حيث اعتقدوا أنه من فروض الدين لاسيما بحضور من شأنه الإنكار ولم ينكر ولم يغير هذا المنكر وقتئذٍ لا نطقاً ولا إشارة. (الوجه الثالث) اشتماله على الغيبة والسخرية والاستهزاء وكلها حرام من الكبائر أما الغيبة فلقوله تعالى (أيحب حدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وبلدكم هذا الأهل بلغت وفي مسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله وفي هذا الباب أحاديث كثيرة لا يسعها هذا الجواب ومعلوم أن الغيبة بالقول والفعل كالمحاكاة كما هو معلوم وأما السخرية والاستهزاء فهما محرمان كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ن يكونوا خيراً منهم) الآية ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء (الوجه الرابع) ما فيه من مجالسة المرد والنظر إليهم مع تخنثهم وتلويهم وإنشادهم الشعر ملحناً بأصواتهم المطربة وهذا مخالف لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من عبادته وطاعته وطاعة رسوله ومرتكبه غير متبع للدين بل متبع لهواه وكما يحرم ما ذكر تحرم الإعانة عليه وبالجملة فكل ما اشتمل على سخف أو مدح معصية أو محرم فحضوره والرضا به حرام وقد رفع على عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له ن فيهم صائماً فقال ابدأوا به ثم

ص: 8

قال أما سمعت قوله تعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أنكم إذاً مثلهم) فاستدل عمر بالآية لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله بل إذا كان من دعا إلى دعوة مباحة كدعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق فكيف بمشاهدة المنكر من غير حق (فصل في رياضة الصبيان) قال في الأحياء أعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والده وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه فإن عود الخير وعلمه نشأ وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب وأن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له وقد قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من قرنا، السوء إلى أن قال ويمنع من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسرى لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء فإذ كان الصبي يصان عما نحن بصدده وهو التمثيل أولى وأحرى لاشتماله على محرمات وفواحش أعظم مما ذكر كما تقدم فاعتقاد هؤلاء الجهلاء أن التمثيل من الاعتبار وأنه ينبه الأفكار وغير ذلك مما موهوا به خطأ وكذب وضرر على الأمة وأولادهم فهو بضد ماموهوا به إذ هو يثبط الأفكار ويبطئ الإفهام لأن الاعتبار والاتعاظ لهذه الأمة إنما هو بالمعاني كالأمثال المضروبة في القرآن لا بالمحسوسات كالتمثيل المخصص بغيرهم من الأمم وذلك أن التمثيل المذكور هو من الأعيان المحسوسة المشاهدة بحاسة البصر كما هو معلوم فإن كان الاعتبار والاتعاظ بمثل هذا على زعمهم وارتاضت الصبيان عليه صار حكمهم حكم بعض الأمم الماضية في البلادة حيث أن البليد لا يدرك ولا يعقل إلا ما شاهد بعيني رأسه وإذا كان كذلك فقد غيروا سنة الله في هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس المشهورين بالفصاحة والبلاغة حيث أنهم يتعظون ويعتبرون بمجرد ضرب الأمثال وقصص الأحوال التي تضمنها القرآن الكريم بأوجز عبارة وألطف إشارة قال تعالى (وتبين لكم كيف فعلنا

ص: 9

بهم وضربنا لكم الأمثال) وقال عز اسمه (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) قال بعض المفسرين يعني أن ضرب الأمثال زيادة في الإفهام وتصويراً للمعاني وتذكيراً ومواعظ لمن تذكر واتعظوا افترك هؤلاء المعطلون للسنن الإلهية ما أمر الله تعالى به من التدبر والتفكير فيما في القرآن من المواعظ ونسوا حظاً مما ذكروا به وجاؤوا بهذا التمثيل المنوط بذي البلادة كما تقدم التي تأباها أذواق هذه الأمة وذكاؤها يروضون الصبيان السذج عليه ليعتادوا من أول نشوهم عليها وعلى الكذب والحيل والافتراء والسخرية والغيبة وغير ذلك مما تقدم من الأوصاف التي ينيو عنها العقل والطبع وبهذه المناسبة تنقل عن العلامة الماوردي ما نصه (والثاني) أن المعجزة في كل قوم بحسب إفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم وكان في بني إسرائيل من قوم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بلادة وغباوة لأنه لم ينقل عنهم ما تدون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر وقالوا لنبيهم حين مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فخصوا من الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم وهذه الأمة أصح الناس إفهاماً وأحدهم أذهاناً قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها ومن المعاني أغربها ومن الآداب أحسنها فخصوا من معجز القرآن بما تجول فيه إفهامها وتصل إليه أذهانهم فيدركوه بالفطنة دون البديهة وبالروية دون المبادرة لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها ويوافق فهمها بتصرف (الوجه الخامس) حدوث هذه المحرمات في محل أنشئ للطاعة لأن المدارس إنما أنشئت لتعليم العلوم الشرعية وللعبادة والطاعة فهي من البيوت التي إذن الله أن ترفع وبذكر فيها اسمه لا للملاهي والخلاعة فوجود مثل هذا المحرم في مثل هذا المحل جهل على جهل وظلمات بعضها فوق بعض هذا وإني أوجه خطابي إليك أيها المدير الكامل لأن حبي القديم محقق لديك ونصحي الخالص أقدمه إليك أن تخدم وطنك أحسن خدمة وتعنى بتربية تلامذتك تربية دينية وتخلقهم بالأخلاق الإسلامية كي تصلح الأحوال وتنجح الآمال (الفصل الثاني في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويدل على ذلك كما قال في الأحياء بعد إجماع الأمة عليه وأشارت العقول السليمة إليه الآيات والأخبار والآثار أما الآيات فقوله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى ولتكن أمر وظاهر الأمر الإيجاب وفيها

ص: 10

بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال أولئك هم المفلحون وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وانه إذا قامت به أمة سقط الفرض عن الآخرين إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف بل قال ولتكن منكم أمة فإن ذلك مهما قام به واحد وجماعة سقط الحرج عن الآخرين واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة وقال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله إناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة) فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين بهذه الآية إلى أن قال وقال عز وجل (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيئس بما كانوا يفسقون) فبين أنهم استفادوا والنجاة بالنهي عن السوء ويدل ذلك على الوجوب أيضاً إلى أن قال وأما الأخبار فمنها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة خطبها أيها الناس أنكم تقرؤون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده وقل صلى الله عليه وسلم إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا مالنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال فإن أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها وما حقها قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أه

قلت وأخرج أبو داوود وابن ماجة وابن حيان في صحيحه ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن

ص: 11

يموتوا ومسلم في صحيحه من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فياللعجب من رجال حاضرة ولهم السنة ناطقة وعيون باصرة وأذان صاغية واعية ترى أفعالاً منكرات وتسمع أقوالاً محرمات وتستطيع أن تغير بالأقوى فضلاً عن الأضعف فلم تفعل كيف وقد أجمعوا على أنه يجب على أئمة الدين وعلماء المسلمين إيضاح المشكلات ورد شبه أهل الضلالات وبيان ما يجب وما يحرم وغير ذلك ليكونوا من جملة المرادين بقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوُ له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين أو كما قال والله تعالى أعلم.

دمشق

محمد القاسمي الحلاق

ص: 12