الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرابلس الغرب
جغرافيتها وتاريخها
هي عبارة عن قطعة واسعة من شمالي أفريقيا واقعة بين مصر وتونس يمتد طولها من مصر حتى إيالة تونس وشمل هذه البلاد مطل على البحر المتوسط ومن الجنوب تتصل بالصحراء الإفريقية الكبرى مساحتها نحو 400 ألف ميل مربع وبعبارة ثانية بقدر إيطاليا ثلاث مرات أو بقدر ثمانية أضعاف سورية. سكانها 1. 600. 000 وهم مزيج من البرابرة والإعراب والزنوج وهم مسلمون يتكلمون بالعربية ومن هذا العدد نحو 40 ألفاً في نفس مدينة طرابلس و300 ألف في بنغازي وملحقاتها والبقية في ملحقات طرابلس.
وقد افتتحها المسلمون عام 23 للهجرة ابتدأ فتحها عمرو بن العاص والزبير بن العوام في خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم. والبقية في ملحقات طرابلس. وقد استولت الدولة العثمانية عليها في المائة العاشرة من الهجرة سنة 958 وذلك أن الدولة الحفصية التي قاعدتها تونس لما ضعف أمرها واستبد عليها الولاة في الأطراف كان من جملة من عصى عليها وإلى طرابلس وقد كان تابعاً لها وجار على الأهالي فتهجز إليه السلطان الناصر الحفصي وغلبه وولى على طرابلس أبا محمد عبد الواحد بن حفص فقبل الولاية بعد امتناع طويل على شروط أولها إبقاؤه والياً إلى أن يعيد البلاد إلى أعز ما كانت عليه من الرفاهية والراحة. الثاني أن يستقل بالإدارة مدة ولايته بحيث لا يعارض ولا يرد أمره في شيء. الثالث أن ينتخب مقداراً من العساكر حسب إرادته لإبقائهم في إعانته فأجيز له ذلك فبقي في الولاية إلى أن مات وولي بعده ولده فاستقر العدل والغني في المملكة حتى بلغ النهاية وأخلدت الأهالي إلى الراحة والاطمئنان وتركوا حمل السلاح وكان ذلك سبباً لطمع العدو فيهم وذلك أنه قدمت إلى ثغر طرابلس سفينتان مشحونتان تجارة فاشترى جميع ما فيهما رجل واحد ونقد الثمن حالاً واستدعى من فيهما لوليمة أعدها لهم وقد كانوا من الأسبنيول القائم أمره في ذلك الوقت فعلموا بضعف الأهلين وما هم عليه من الغفلة واللهو فأخبروا دولتهم بما رأوا فطعمت في طرابلس وكان عندها ابن السلطان الحفصي مستنجداً بها على أبيه فحملت بجيش قليل على طرابلس وامتلكتها باسم أحمد الحفصي ابن السلطان المذكور وجار في البلاد أشد الجور هو والأسبينول ولما رأى ذلك النابلطان الذي هو أحد
ممالك إيطاليا تداخل بين الأهالي بالإفساد ووعدهم بالحماية من الظلم وأنهم إذا أطاعوا حماهم من المظالم ولا يتداخل في أمورهم وإنما يستولي على الحصون فقط فكان ما كان وأجرى فيهم الأمر أولاً على نحو ما وعد ثم ابتدأ بالتداخل في أمرهم فامتنع بعض أعيان الأهالي وتحصنوا في (تاجوري) وكانت الحرب بينهم قائمة غير أنهم عملوا بضعفهم عن امتداد المقاومة فأرسلوا وفداً منهم إلى الأستانة مستنجدين بالدولة العثمانية في إنقاذهم ودعوها للاستيلاء على جميع البلاد وكانت أقوى دول الإسلام وقد جمعت رايتها أغلب الممالك الإسلامية ولما وصل الوفد إلى الأستانة تعجب من شكلهم كل من رآهم فأخذوا للقصر السلطاني وكان أحد رجاله عالماً باللغة العربية فكان الواسطة في إبلاغ مطالبهم للدولة فأولته على تلك البلدة وأرسلته معهم مع حامية ضعيفة لأنهم سهلوا الأمر على الدولة لكن لما وصل ذلك الوالي وعلم حقيقة الأمر راسل بتفصيل الأخبار إلى الدولة وكان إذ ذاك أسطولها الموجه إلى الاستيلاء على تونس على أهبة السفر تحت رئاسة سنان باشا فأمر بالتعريج على طرابلس أولاً فافتكها من أيدي النابلطان وبقيت مستقلة بالإدارة وليس للدولة عليها إلا هدايا وإعانات في وقت الحرب إلى أن عصى يوسف باشا القره منلي وحاربته الدولة في أواسط هذا القرن أي سنة 1251 هـ واستولت استيلاءً باتاً على المملكة وصارت إدارتها مثل إدارة سائر الولايات العثمانية ومركز الولاية طرابلس ولشهرة هذه المدينة سميت الولاية باسمها وكانت قديماً تسمى برقة وتقسيماتها الإدارية هي كما يأتي:
طرابلس الغرب ويدخل في هذا اللواء قضاء زاوية. غريان عجيلات، ترهوته، أورفلة.
فزان مركزه مرزوق، ويدخل فيه قضاء سوكنة. شاملي، غان.
جبل غربيه مركزه غدامس. ويدخل فيه قضاء فساطو نالوت، حوض، بفرين.
حمس ويدخل فيه قضاء مصراطة، ظلتين. مسلاطة، سرت.
بنغازي ويدخل فيه قضاء درنة، برقه، أوجله. جالوت.
ويبلغ طول سواحل هذه البلاد 1600 كيلو متر وهي شواطئ نظيفة الداخلية ذات رمال متحركة، وتلال وجبال. وأهم جبالها جبل أطلس فهو يمتد من الشرق إلى الغرب موازياً البحر المتوسط والجبال السوداء الكائنة في صحاري فزان. وأنهار هذه البلاد قليلة ولذا صار ريها بمياه الأمطار المحزونة بمخازن واسعة نعم الأنحاء الشمالية الغربية من بلاد
برقة وبني غازي منبتة وبها عيون ومراع يخرج منها القمح والذرة وغيرها من أنواع الحبوب وسواحلها محصنة بالقلاع المتينة وتمسك أهلها بالعصبة العربية الإسلامية والخلافة العثمانية يحول دون مطامع كل طامع والتعليمات العسكرية منبثة هناك بين سائر العشائر والقبائل وهم في غاية الإقبال على تعلمها والميل إليها والخدمة العسكرية عندهم فرض على كل قادر على حمل السلاح. هذا وقد اضطررنا لكتابة ما تقدم ليعلم من لم يكن عظمة هذه البلاد وغزارتها وما كانت عليه من الجودة والرخاء وكيف أن غفلة أهلها عن مكايد الأعداء واسترسالهم في صحبتهم أدى بهم أولاً وأخراً إلى ما هم عليه الآن. وبعد فليعلم العالم أجمع أن هذه البلاد عثمانية وأن كل شبر منها جزء عظيم من الدولة لايمكن أن ينفصل عنها بقوة الله حتى لا يبقى في العثمانيين دم يجري ولا عرق ينبض.
إيطاليا وطرابلس الغرب
باغتتنا دولة إيطاليا بأمر غير منتظر ألا وهو رغبتها باحتلال طرابلس الغرب وضمها إلى أملاكها وقد قدمت مذكرة للباب العالي جعلتها مبررة لهذا العمل الفظيع بينتا فيه أن الحكومة تسعى في عرقلة مساعيها الاقتصادية في تلك الولاية وتمنعها بعض امتيازاتها المشروعة إلى غير ذلك من الأباطيل التي تستند عليها لتموه أنها مطالبة بحق. أو مضطرة إلى حماية رعاياها ومصالحها، والحقيقة التي ينبغي أن نعتقدها ونثق بصحتها تام الوثوق هو أن دول أوروبا منذ تداخلت في شؤوننا لم ننتظر منا إلا مضايق الضعف لتوسعها. ومكامن المغانم لتجرها. وكل دولة من دول أوروبا إذا بدن لنا مودة وصداقة فلمطمع وغاية فليس منها من يضمر لنا الخير مجاناً. وأو يحبنا رغبة بنشر مبادئ العدالة والإنسانية الكاملة كما يدعون وسوق الأدلة على ذلك يكاد عبثاً بعد ما صار معلوماً عند أكثر العقلاء بالبداهة.
استعادت الأمة العثمانية دستورها بسيوف أبطال جيشها وأركان أحرارها وتأهبت للسير في طريق الإصلاح من جميع وجوهه وأملت بمستقبل زاهر يرفعها إلى مصاف أعظم الدول الراقية لما لها من الاستعداد العقلي لكل رقي ونجاح. فبدأت بإصلاح جيشها وبحريتها وتنظيم ماليتها فشعرت أوروبا بأن الدولة العثمانية إذا سلكت طريق الإصلاح لا تلبث غير قليل حتى تصبح ذات مكانة، تساعدها على حفظ أملاكها. وعلى المطالبة بحقوقها المهضومة.
فعولت على عرقلة مساعيها وخلق المشاكل لها حتى لا تتمكن مما تبتغيه من الإصلاح فلم يمض ثلاثة أشهر على إعلان المشروطية حتى أعلنت دولة بلغارية استقلالها ورفع سيادة الدولة العلية عنها.
وما صدقت النمسا إن رأت بلغاريا تفعل هذا الفعل حتى قامت تعبث بحقوق سيادة الدولة العلية على ولايتي البوسنة والهرسك فأعلنت ضم هاتين الولايتين إلى أملاكها. فقامت الدولة العليا تحتج لدى الدول على هذه الأعمال الغير المشروعة والمخالفة لمعاهدة برلين الموقع عليها من جميع الدول العظمى (ومتى كان الخصم قاضياً منصفاً؟) ولم يكن من مصلحة الدولة العلية أن تعلن الحرب على دولتين معاً في وقت تعد فيه كأنها في مبدأ تكوينها وأول نشأتها ولم ترَ من باقي الدول مساعداً لها على الاحتفاظ بحقوقها وإيقاف المعتدين عند حدهم فاضطرت لارتكاب أخف الضررين فمنحت بلغاريا استقلالها. والنمسا الولايتين المذكورتين في مقابلة تعويض مالي وظن العثمانيون إن ما جرى نهاية الحوادث. وخاتمة الكوارث وأخذوا يمهدون طرق الرقي للسير عليها. فلم يرق ذلك في أعين أوروبا لأنها اعتقدت أننا صائرون إلى الإصلاح وأننا إذا بلغنا الوطر منه وأصبحنا دولة منظمة قوية مالاً وجنداً لا يتأتى لها العبث بحقوقنا كلما لاحت بارقة أمل وساعد عليها الطمع الشعبي فما فتئت تخلق لنا المشاكل الداخلية والخارجية. ولا نكاد ننتهي من ضمد جرح حتى نجد أنفسنا أمام غيره. فمشكلة كريد واليونان لا تزال على حالها من يوم أعلن الدستور إلى اليوم ولا تزيد على طول الأيام إلا تعقيداً. ولا نزال من وقت إلى آخر يزداد صداها في الأندية السياسية على غير جدوى. والمسلمون في كريد يضطهدون ويسامون العذاب. ولم تشأ الدول الأربع الحامية لكريد محافظة على حقوقنا أن تحل هذه العقدة وتوعز إلى ملك اليونان بأن يتنازل عن المطالبو بشيء غير مشروع أضف إلى ذلك مشاكلنا الداخلية التي أدمت القلوب وكانت تذهب القوى وأعظمها فتنة الألبان واليمن التي لم يكن منشؤها إلا دسائس أجنبية وما أصعب أن يقتل المرء ولده في ساحة الوغى ولكن؛
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
…
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
وهل يحتاج ما ذكر إلى دليل في الفتنة الأخيرة. وتؤدي الفار منهم وأخيراً تساعد العصاة الماليسور في الفتنة الأخيرة. وتؤوي الفار منهم وأخيراً لما اتفقوا مع أمهم العثمانية واخلدوا
إلى الطاعة ساء ذلك حكومة الجبل المذكور. وسعت بعقلة المساعي السلمية بكل مافي وسعها فلم تنجح.
وهاهي اليوم إيطاليا تحفزت لالتهام ولاية طرابلس الغرب تلك الولاية العظيمة الواسعة المدى المترامية الأطراف فأرسلت إليها أسطولها بقصد احتلالها وإنزال جندها إليها واحتجت لتبرير عملها كما أسلفنا بحجج واهية لم ير أحد حقيقتها حتى أن الدافعين لإيطاليا على هذا العمل والمشوقين لها عليه لم يقدروا على المجاهرة باستحسان هذا العذر المشين وكثير من ساسة الأوروبيين صرحوا بفظاعته ولكن هل يفيد التصريح بالفظاعة شيئاً مع الإقرار على العمل.
إن دول أوروبا لا تروق بعينها نهضة العثمانيين لأنهم يعملون أن رقي العثمانيين رقي للعالم الإسلامي بأسره الخاضع للخلافة العمى والإمامة الكبرى فلا عجب إذ لم نر منها تداخلاً حقيقياً في مسألتنا الحاضرة وإيقافاً لإيطاليا عن أن تطال إلى ما ليس من حقها ولا في وسعها الحصول عليه ولكنهم سيتوسطون متى رأوا فشل إيطاليا الذي ظهرت بوادره ولله الحمد فقد بشرت البرقيات بغرق جملة من سفنها الحربية تجاه طرابلس بقنابل معاقلها وحصونها وهمة وغيرة جندها وأهلها وسترى من بأس العثمانيين وشدتهم ما تذم معه غب سراها وتنحي باللائمة على تطوحها والدافعين لها إليه (وعلى الباغي تدور الدوائر) ولن تصل إن شاء الله لامتلاك شبر من طرابلس الغرب مادام العثمانيون يبذلون آخر نقطة من دمهم في سبيل المحافظة عليها.
فيا أيها المسلمون حافظوا على إخوانكم وساعدوا دولة الخلافة التي هي عزكم وعليها مدار وجودكم واستقلالكم وحفظ دينكم فأنتم معروفون بالشمم وإباء الضيم وحب المجد وكراهية الذل واخلصوا النية في الأعمال (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
طرابلس والإعانة
في دمشق
كان لنبأ اعتداء إيطاليا وقع سيء في نفوس عموم العثمانيين، تمزقت له الأحشاء، وانفطرت له الأكباد، وبدت علائم الحمية على وجه كل عثماني، وأخذت منهم الحماسة مأخذها. وأصبح أكثرهم يجب أن يكتب في دفتر المتطوعين، نعم أخذوا يشعرون بوجوب
التآخي والتعاضد والقيام يداً واحداً لمعونة جولتنا المحبوبة. وقد كان للدمشقيين من ذلك الحظ الأوفر فقد رأينا الكبير والصغير والغني والفقير والتاجر والزارع والناس جميعاً ينقدون حمية وشهامة وقد ظهرت عليهم علامات التأثر والتألم. رأينا ظهر يوم الخميس الموافق 13 شوال الناس يهرعون للاجتماع في جامع بني أمية ومن بينهم العلماء والصلحاء والأمراء ووالي الولاية وبعد أن أدوا صلاة الظهر تحلقوا أمام ضريح النبي الحصور عليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام لختم صحيح الإمام البخاري الجليل المجربة قراءته لدفع البلايا ورفع النوازل فحصل خشوع عم الحاضرين ثم بعد ذلك شاع الخبر في دمشق فتسارع الناس لحضور بركة هذا الختام وكنت ترى طلبة مدارس المسلمين من سائر الأنحاء صفاً صفاً يتسابقون للانتظام في سلك هذا المجتمع وجعل القوم يذكرون الله تعالى باسمه (اللطيف) نحواً من ساعة ثم صاروا يرددون صيغة صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ذلك ثم ختم هذا المشهد المهيب خطيب المسجد الشريف وبلبل منبره (الشيخ حسن أفندي الأسطواني) بدعاء مؤثر للغاية رجا الله فيه أن ينصر دولتنا ويؤدها بروح من عنده وأن يخذل كلمة الباغين المعتدين. والشيوخ والأطفال والكبار والعلماء والأمراء يؤمنون على دعائه تأميناً خالصاً من قلوب تبكي حناناً ورحمة لأولئك الأقوام البائسين مع انكسار وخضوع لله ورجوع إليه سبحانه اعترافاً بأن بيده مقاليد كل شيء وأن الأمر له كله.
وبعد الدعاء انبرى حضرة العالم العلامة المصلح الكبير الأستاذ الشيخ صالح أفندي الشريف فخطب الناس بخطاب وجلت منه القلوب وذرفت منه الدموع وجعل الناس على كثرتهم كأنهم الرجل الواحد يسمع للأمر يهمه وكان مدار خطابه على أمور ثلاثة الأول التأسف على طرابلس وذكر حدودها وأنها لبقية الباقية من أفريقيا. والثاني دعوى الناس إلى رفع الخلاف والشحنأ وأن يتحدوا ويتفقوا ويكونوا يداً واحدة على إنقاذ بلادهم والثالث دعوتهم إلى جمع الإعانات لهذه الحرب وإعلامهم بأن المال في مثل هذه الأوقات الحرجة أعظم معين لصد هجمات هذا العدو المتوحش. وقد ظهر في هذه الخطبة العظيمة لمن لم يعرف الاستاذ حفظه الله مقدار همته، وشدة غيرته، على جمع كلمة العثمانيين، وتفانيه في تأييد هذه الخلافة وجمع القلوب عليها وأن قلبه يتفتت رحمة وحناناً لأولئك الضعفاء
المساكين. ثم تلاه حضرة العالم الفاضل والأديب الكامل الشيخ عبد الجليل أفندي الدرا بخطاب مؤثر للغاية. دعا الناس فيه إلى الجهاد في سبيل الله فيما إذا دعتهم الدولة العلية. وبين لهم لذة الاتفاق والوفاق وأمرهم بالاطمئنان والسكون ثم تلاه الشاعر المجيد الفاضل الشيخ عبد الرحمن أفندي القصار فتلا قصيدة حركت العواطف وبثت في الناس روح الشجاعة والشهامة وسننشرها بعد تتميماً للفائدة ثم ختمت هذه الجلسة المباركة كما بدأت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وابتدر الناس يجودون بما في وسعهم من المال كل على حسبه ومقدار وطنيته إعانة لهذه الحرب ومعاضدة لإخوانهم الطرابلسيين والله يعلم بما خامر قلوبنا من الاستبشار بسبب هذه المظاهر الوطنية والاحساسات القومية. ثم انفض القوم وكلهم يبتهل إلى الله تعالى بأن ينصر دولتنا العلية المحبوبة. أما الذين كانوا يقبضون أموال الإعانة من الناس فقد نشطوا لهذا العمل المبرور فهرعوا إلى الأسواق يدعون الناس إلى الإعانة فكنت ترى الإقبال عليهم من كل صوب من المسلمين والمسيحيين والإسرائيليين.
وقد كان هذا الاجتماع باعثاً على تأليف جمعية عمومية يرأسها مفتي الشام غايتها جمع الإعانة من أهل الإحسان والمروءة لتنفق في ما نحتاج إليه إبان هذه الحرب وقد جعلت هذه الجمعية مركزها دائرة البلدية لأنها المحل العام للأهلين ودعت بعض سراة الحاضرة ليقوموا معاً في هذا المشروع الخيري وقر قرارها على أن تجتمع في كل أسبوع ثلاث ليال وأن تعين في كل ثمن من أثمان البلدة ستة أشخاص ليستوردوا المال من ساكني محلتهم بموجب وصولات مختومة بختم الرئيس وأميني الصندوق ثم يردون في كل جمعة ما استوردوه إلى الجمعية العمومية وقد بدأ القوم بعملهم هذا واستمطروا كف أهل الخير.
وهو عمل كبير يدل على وطنية صادقة ومروءة تامة وتعلق شديد بعرش الخلافة العظمى فنشكرهم شكراً خالصاً. ونخص عامة الدمشقيين مؤملين فيهم كبير المساعدة بالنظر لما اشتهر عنهم من الحمية والغيرة وحب الإحسان والمعاضدة للأعمال الخيرية والمشاريع العمومية ونذكرهم بأن هذا الوقت وقت إظهار الحمية وقت الغيرة والشفقة على اليائسين وقت إبداء المعروف وإغاثة الملهوف.
هذا وقد دبت الغيرة في جميع الأنحاء العثمانية فقام والله الحمد أهل كل قطر يجمعون
الإعانة لهذه الغاية والأمل من شهامة كل عثماني بذل الجهد في هذا السبيل والله لا يضيع أجر المحسنين.
الجهاد والاستعداد
الجهاد والاستعداد للحرب هما قوام الأمم، وحياة الشعوب، بهما يحفظ كيانهم، وتصان معتقداتهم وأخلاقهم، وبهما يرقون مراقي العز. ويتسنمون ذرى المجد، كما أنهم بإهمالهما يتلاشى أمرهم، ويفقدون استقلالهم ويضطرون للخنوع لسلطة العدو، والاستسلام لبأسه وشدته.
الجهاد والاستعداد من أجل ما يعنى بأمره المفكرون، وأعظم ما يبحث عن شأنه الباحثون، إذ كان من نتائجهما أنه ما قامت أمه بهما وأحسنت استعمالها إلا وتم لها الحصول على ما تريد، وأرهبت بسطوتها عظماء ملوك الأرض.
الجهاد والاستعداد مما تأمر به الأديان السماوية، وتدعو إليه النواميس الطبيعية، لأنهما الحافظان لهذا النوع الإنساني والعاملان الوحيدان على بقائه حيث كان حب التفوق على الأفران، والاستئثار بمرافق الحياة غريزة من غرائز النوع البشري، وخاصة من خواصه، يتطلبهما ما وجد غليهما سبيلاً، ولا يصده عنهما إلا ما يرهبه من القوي، ويهوله من المعدات الجهاد والاستعداد يتشكلان بأشكال مختلفة، ولهما مظاهر متنوعة، يتبعان في ذلك اختلاف الزمان والمكان، وتغير الأقوام والشعوب، فشكلهما اليوم غيره بالأمس. وستكون صورتهما غداً غيرها اليوم.
كان مجموعهما بالأمس مقصوراً على المدافعة والهجوم وعلى السيف والرمح وما مثلهما وكان ذلك كافياً للتغلب على العدو ونيل الوطر منه أما هما اليوم فالاستعداد إنشاء المدرعات الضخمة ذات المدافع الهائلة وعمل المدافع الرشاشة والموز وغيرهما من آلات الرماية وتشييد المعاقل التي لا تتأثر بقذائف المدرعات واستحضار الآلات التي تمكن كل لحظة من معرفة حال العدد ما هو عليه في عامة شؤونه إلى غير ذلك من الاختراعات التي تحير الأفكار وتدهش الألباب.
والجهاد أربعة أقسام مقاومة وسياسة ونشر للمبادئ واستنزاف للثروة.
فجهاد المقاومة ظاهرة وهو القيام بوجه العدو بالآلات الحربية للتمكن منه والاستيلاء عليه.
وجهاد السياسة هو أن تبذر الأمة المجاهدة بذور الشقاق بين عناصر الشعب الذي تحاربه. وتنفخ فيهم روح التعصب لأجناسهم ومذاهبهم وتعمل على حل عرى جامعتهم من دين أو وطن. وتسعى بما فيها من قوة لتنفيرهم من ساستهم وعلمائهم فلا يلبثون إلا قليلاً حي تثور ثائرتهم. وتضرم نيران الحرب فيما بينهم وعند ذلك تتمكن من الدخول فيهم فلا تخرج إلا وقد استولت عليهم وأصبحوا من المحكومين لها والخاضعين لسلطانها.
وجهاد نشر المبادئ هو أن تنشئ الأمة المحاربة المدارس في مدن أعدائها وتبث المبشرين بدينها في عامة قراهم لتسلبهم دينهم وأخلاقهم وتعوضهم عنها بدينها وأخلاقها وبذلك يتأتى لها أخذهم بدون مقاومة وتستفيد منهم مالاً تستفيده ممن استولت عليهم بالتغلب.
وجهاد استنزاف الثروة هو أن تعمد الأمة القوية إلى تجارة الشعب الذي تريد ابتلاعه فتسعى لإضعافها، وتأتي إلى ما بيده من الحرف والصناعات فتعمل على انتزاعها. وذلك بأن تبعث إليه ما بيده من الحرف والصناعات فتعمل على انتزاعها. وذلك بأن تبعث غليه بالعارفين بفنون التجارة من شعبها. فيقبضون على زمام تجارته وتتحفه بمصنوعاتها المزخرفة فتقضي بها على حرفة وصنائعه. ولا تزال به حتى تستأصل ثروته وتسلبه جميع ما يملك وتذهله عن كل استعداد وتضعفه عن كل مقاومة وبذلك تجد فرصة لابتلاعه. ومساغاً لالتقامه.
هذا الجهاد بأنواعه الأربعة المارة، وذلك الاستعداد بشكله المتقدم هما اللذان رفعا من مقام دول أوروبا ومكناها من العالم بأسره كما أن فقد هما هو الذي حط من قدر من دونها، وأوصلها إلى ما هي عليه من الضعف.
ومن تأمل في قول الله تعالى (وجاهدوا في الله حق جهاده) وقوله عز من قائل (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) يرى أن الله جلت عظمته أوجب على هذه الأمة المحمدية أن يكون جهادها في كل وقت بحسبه إذ هو حق الجهاد (وهو شامل للجهاد بالأنواع الأربعة المارة كما هو ظاهر) وأن يكون استعدادها كذلك لأنه مما تستطيعه. يدخل في وسعها.
نعم من الواجب عليها أن يكون جهادها اليوم كجهاد الدول الكبرى واستعدادها كاستعدادهم ولكنها تركت ما افترض عليها وتمادت في غفلتها فأصابها ما نشاهده من الضعف وما نبصره من الانحطاط حتى تمكن أعداؤها من محاربتها بجميع أنواع الحرب. وقدروا أن
يسلبوها كل حق ومنفعة فما أحراها والحالة هذه أن تهب من سباتها وتبتصر في أمرها فتجمع كلمتها وتوحد غايتها وتعد لأعدائها فوق ما أعدوه لها وتجاهد فيهم مثل جهادهم فيها وبذلك تحفظ كيانها وتصون شرفها وأخلاقها وتسترجع مجد أسلافها وما حصلوا عليه من العز والمهابة هذا ما نذكر به أولي الأمر ومن بيدهم الحل والعقد إذ هم الأمة بهم تذل وتعز وبهم تشقى وتسعد هذا وليعملوا أن كل فرد من العثمانيين رهن إشارتهم ماعدلوا. وطوع أمرهم ما استقاموا وأهون شيء عليه أن يبذل نفسه وماله في سبيل تأييد هذا الوطن وإعزازه.
دعوة إلى الإعانة
من خطبة للعلامة الفاضل صاحب الإمضاء
أيها المؤمنون سارعوا إلى فعل الخير قبل أن ينزل بكم المنون (سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) اعلموا إخواني أن ارتفاع شأن الملة الحنفية بارتفاع شأن الخلافة العثمانية وذلك بإعداد المعدات البحرية والبرية وتجنيد الجيوش واتخاذ الأساطيل المدرعة السليمة القوية وحفظ الثغور والقلاع بجيوش تردون بها غارات من يرومونكم قال تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) إخواني رحمكم الله وهداكم هذه الأعداء أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم وأخذوا من بلادنا المعظم فيجب علينا أن نتوسل بكل الذراع لنحفظ كياننا وأموالنا ونساءنا وناموسنا وعرضنا وبلادنا ولا أظنكم ترضون بالدمار وخراب الديار وانتساف الآثار وتلبسون ثوب الذل والعار فلهذا تنبهت الأفكار وقامت الملة على قدم وساق لتدفع هذا الأمر المدلهم الذي هو حميم وغساق وأسسوا جمعيات خيرية وصناديق للإعانة البحرية وبرز الموحدون إلى ميدان السباق ولم يبخلوا بالبذل والإنفاق فلو نظرتم إلى أقدام أهالي مركز الخلافة والأناطول والروم إيلي وسائر البلاد العثمانية لاستصغرتم أنفسكم عندهم في بذل الإعانة فمنهم من تعهد بشراء سفينة مدرعة ومنهم من بذل جل ما معه وملئوا الصناديق وذلك المهم أن هذا المال لا يضيع منه درهم بل يصرف في سبيل الله لكشف
هذا الأمر المدلهم فيا طوبى لهم قد شروا الدار الآخرة بالعرض الأدنى وعلموا أن الله مخلفة فهو الذي أعطى وأغنى وأنتم أيها الإخوان تعلمون أن هذا المال ظل زائل ولا فائدة في كنزه ولا طائل ولا سمح الله إذا استولى عليكم العدو يلحقكم الذل والصغار ويسومكم أنواع الخسف والاحتقار ويبتز أموالكم بما فيه الهلاك والدمار فليكن كل منا لأمر الله سميعاً مطيعاً واعتصموا بحبل الله جميعاً واسمعوا ما أتلوه عليكم من الكتاب والسنة قال تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين وروى البخاري بسنده إلى سهل رضي الله تعالى عنه أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها فرحم الله عبداً سمع النصيحة ووعاها وبادر إلى العمل بمقتضاها.
مفتي الاى 76 محمد رضا