المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اللغة العربية ومن يسعى في محوها كالذهاوي حفظ اللغات علينا … فرض - مجلة الحقائق - جـ ٢

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌اللغة العربية ومن يسعى في محوها كالذهاوي حفظ اللغات علينا … فرض

‌اللغة العربية

ومن يسعى في محوها كالذهاوي

حفظ اللغات علينا

فرض كحفظ الصلاة

إذ ليس يحفظ دين

إلا بحفظ اللغات

أطبق علماء الاجتماع والعمران، على أن احتفاظ كل أمة بلغتها مما يضمن لها حفظ حسبها ومجدها، وبقاء ميزاتها بين سائر الأمم وهي العلاقة الوثيقة التي تجمع بين أفراد الأمة مهما افترقوا وتباعدوا ومهما اختلفت آرائهم وتباينت أهوائهم، ومن أمعن النظر في أسرار الجامعة اللغوية، ظهر له فضل هذه الحكمة العمرية التي كتب بها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري وهي قوله له (خذ الناس بالعربية، فإنها تزيد في العقل، وتثبت المروءة).

فإن العربي المطلع على كنه لغة قومه باستقراء أشعارهم وأمثالهم وتتبع حكمهم، وسائر أوقالهم، يعرف بذوقه العربي ما كانوا عليه من الأنفة والإباء، والشهامة والذكاء، وسمو المدارك والأفكار، وسائر مكارمه ومأثر أخلاقه، من سعة الصدر والسماحة والوفاء بالعهد والتزام الصدق. وبذل النفس والنفيس. في حماية الجار والمستجير. وإغاثة الملهوف والمتصرخ. مع الحذق في الفراسة. والمهارة في الفروسية والشجاعة. التي كانت تقلل في عيونهم جحافل الأعداء. وكتائب العاديين مهما بلغت عدداً وعدداً وماذا عسى أن أسرد للقراء مما يمكنهم أن يستنبطوه من خلال كلمات العرب وغضون عباراتهم من المناقب والمفاخر التي لم تذل تتناقلهم الأمم، جيلاً فجيلاً، وكابراً عن كابر ولولا هذه اللغة المجيدة لما ظفرنا بشيء من آثار تلك الأمة النجيبة التي أصبح تاريخها آية كبرى، وأكبر موعظة وذكرى، ولأن كان في كتب المؤرخين مجال لدعوى الارتياب في الحقائق التاريخية فلسان العرب المشتمل على كلامهم الجذل البليغ، أصدق شاهد ينبئ عما انطوت عليه تلك الأيام من الوقائع المأثورة التي (لها غرر مشهورة وحجول).

وأما فصاحة هذه اللغة واتساعها، فمما لا يتمارى فيه اثنان، ولا يمتطح فيه عنزان، ولذلك قيل أن الحكمة تنزلت على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض، ألسنت العرب، وأدمغة اليونان وأيدي أهل الصين، فالعربي الصحيح هو الذي إذا نطق أراك السحر الحلال، وأجرى

ص: 6

بسلاسة قوله الماء الزلال، على أنه هو الذي بين فكيه سيف صارم كما قال الشاعر:

تقلقل بين فكيكَ ابنُ غمدٍ

صليل غراره الكلم الفصاح

تقطُّ به مفاصل كل قول

ونت عنه المهندة الصحاح

فقل لي يا ناشدتك الله أي ناطق بالضاد تتمثل له فضائل قومه هذه وضاحة جلية بالسان المبين ثم لا يدفعه ضميره إلى التحلي بآدابها. والتمسك بأهدابها. والاقتباس من محاسنها. جهد المستطيع اللهم إلا إذا كان ميت النفس. فاقد الحس. وهذا لا كلام لنا فيه لأنه ملحق بالجمادات أو العجماوات وإنما كلامنا في هذا المخلوق المكرم الذي يقال له المرء. والرجل. والإنسان. أي ذو المروءة والرجولية والإنسانية وهذا لابدان تدعوه نفسه الناطقة. الحساسة الدراكة. أن يعمل بمقتدية قول جد النبي صلى الله عليه وسلم:

لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوماً على الأحساب نتكل

نبنى كما كانت أوائلنا

تبنى ونفعل مثل ما فعلوا

وحسبك دليلاً على أن اللغة تزيد في العقل، وتثبت المروءة. كونها تدعوا ابنها إلى التأسي بكرام. قومه ورجالات أمته. ليكون عصامياً عظامياً كما قال عامر بن الطفيل:

فما سودتني عامر بن كلالة

أبي الله أن أسموا بأم ولا أب

ولكنني أحمي حماها وأتقى

أذاها وأرمى من رماها بمنكب

ومن ذا الذي يحيط علما بجزء صالح من هذه اللغة الكريمة ويشرف على بحور قواميسها الذاخرة. ثم يدعى أنها قليلة المادة لا تفي بالتعبير عن حاجيات هذا الزمن، ولا تكفي لأداء معاني العلوم العصرية ولا يمكن أن يوجد ألفاظها ما يليق اطلاقه على ما لم يذل يتجدد من هذه المخترعات والمكتشفات هكذا أصبح اليوم بعض الناس يتقولون فينسبون إلى هذه اللغة العظيمة تتزهها عنه (الحقائق).

فاللهم غفراً غفراً. يئدون بناتها. ثم يدعون عقمها. ويعمون عن مخدراتها وغانياتها. ثم يصومونها بالقبح. ويصومون عن لحنها الرقيق ونغمتها الرخيمة. ثم يرمونها بالعي والحصر، ويتهمونها بالبكم والخرس، فساء ما تقول وبئس ما يدعون مما لا يمالئهم عليه إلا كل من يهرف بما لا يعرف.

يشدو أحدنا من العلوم العربية شيئاً نزراً يسيراً لا يتجاوز قصائد معدودة وأمثالاً قليلة مع

ص: 7

بعض النوادر الإعرابية ثم يستظهر نتقة من الكلمات العويصة ويحفظ نبذة من القواعد اللغوية ثم يريد أن يظهر بين الملاء بمظهر ثعلب أو ابن السكيت أو غيرهما من أئمة اللغة غير أنه يرى نفسه تتضائل في ميدان أولئك الفرسان ويخشى أن يقال له أخطأت أستك الحفرة أو أطرق كرا أو ليس بعشك فادرجي فتأخذه العزة بالإثم لعجزه عن لحاق فحول رجال العربية ويتميز غيظاً فلا يجد ما يتشفى به لنفسه الكسلى أسهل عليه من الإفتراء على هذه اللغة الكريمة فيتحامل عليها تحاملاً يجعله مضغة في الأفواه، وضحكة بين العقلاء على انه لا يجد ما يلفقه غير زعمه أن لسان الناطقين بالضاد لا يليق بأنباء هذا العصر الممتلئ بالمخترعات الجديدة، والمكتشفات الحديثة، ثم يؤيد هذه الدعوة الواهية بأن لغة العرب تحتاج إلى علوم كثيرة يصعب تحصيلها فيا له من تأييد عاد صاحبه بنقض دعواه وكأنه لم يدر في غلده أن تلك العلوم الكثيرة أوضح برهان على رقي اللغة التي دونت هي لبيان محاسنها، والدلالة على بديع أساليبها الحكيمة، وإرشاد المتكلمين بها على وجوه الصواب ووضع كل قول في موضعه حيث أن لكل مقام مقالاً واللغة الغزيرة المادة التي تشتمل على دقائق المعاني الجمة هي التي تخدم بالعلوم الكثيرة من نحو وصرف ومعاني وبيان وبديع وغير ذلك وها نحن كل يوم نرى أن من تبحر في لغة الضاد وكل طويل الباع في تناول جواهرها ومحرزاً قصب السبق في مضمارها، يشهد لها بعظم الفضل والتميز بين سائر اللغات، ويعترف بالعجز عن بلوغ نهاياتها، هذا الإمام الشافعي وهو الثقة الثبت والحجة في المسائل اللغوية والذي لا ينعقد إجماع بدونه بل كان رجال العلم يتوقفون على رأيه في اللغة بلهو ثائر العلوم التي كان مجلياً في حلبتها وقد صرح رضي الله عنه أن الإحاطة بهذه اللغة العربية مما لا يمكن إلا للأنبياء يريد أن ذلك لا يكون الأمن طريق العناية الإلهية الخاصة بالأنبياء من وحي وإلهام وغيرهما ومن البراهين المحسوسة على هذا أن الكاتب العربي مهما سبق له التوفر على دراسة لغته وصرف الهمة إلى تحصيلها أو مهما بلغ من الحذق والمهارة والإتقان في فن الإنشاء قلماً تسلم كتابتهم من الهفوات والأغلاط اللغوية.

وبهذا يزول العجب مما قد تزل به ألسنة بعض أكابر الكتاب البارعين في الإنشاء ويصدر من فحول أرباب اليراع النابغين في الكتابة نظماً ونثراً وإنما الفاضل المجيد منهم جداً هو

ص: 8

الذي تعد سقطاته وتحصى غلطاته والكمال من جميع الجهات في كل أمر إنما هو لله وحده.

ولعمر الحق أننا أولي الأمم بالاعتناء والاحتفاظ بشأن لغتنا الفصحى التي هي عندنا لغة الدين والعلوم ونحن إذا أخلصنا الخدمة لهذا اللسان المبين وأحسنا القيام بواجباته فلسنا نخدم بذلك العرب فقد بل نخدم المسلمين قاطبة من أي عنصر كانوا وحيثما أقاموا.

فموضوع اللغة هو الذي يجب علينا القيام بلم شعثه، وضم نشره، وإظهار معالمه وتصحيح الخطأ الذي ينتابه، ورد الشبه التي تتوارد عليه، فتمسخ الألفاظ وتنسخ المعاني.

فحسبنا ما فرطناه في جنب اللغة حتى كادت تكون أثراً بعد عين، وتصبح عسلطة كرطانة البرابرة، وزمازم العلوج، وأصبحنا ونحن المنتمون إلى ملوك الكلام نرتضخ اللكنة الأعجمية ونوشك أن نندمج في بقية العناصر أو نستحيل انقلاب إلى عنصر جديد مستعجم. فيصدق علينا قول أبي العلاء:

أين أمرء القيس والعزاري

إذ مال من تحته الغبيط

استنبط العرب في الموامي

بعدك واستعرب النبيط

وكأننا لا نبالي بأن ننسلخ من هذا العنصر الصميم الكريم الذي يشهد له بالمجد والسؤدد والعظمة حتى المستشرقون والمستشرقات من الإفرنجة والفضل ما شهدت به.

وهلا نهب الآن من سباتنا ونزاول إزالة ما حال بيننا وبين لساننا المجيد من العقبات العنودة بأن نعمل معاً معاشر الكتاب على إزاحتها مهما كثرت وصعب خطبها فإن همم الرجال تزيح الجبال ولله در القائل:

لاستسهلن الصعب وأدرك المنى

فما قادت الآمال إلا لصابر

وهلا نستمع لصوت هذه اللغة التي قامت اليوم تستصرخ بأبنائها مما ابتليت به ممن يتجرأ على القول بوجوب إهمالها وإلغائها ونبذها ظهرياً وأن يستعاض عنها بالمتداول على ألسنة السوقة وعامة الناس مما يتخاطب به الأوباش والهمج ويتحاور به الرعاع والطغام من تلك اللغة الملفقة والمبتذلة المشحونة بالرطانة واللكنة والمشينة بالكلمات الأعجمية التي عنها الحافظ إبراهيم ذلك الشاعر الخنذيذ المفلق بقوله:

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة

منوعة الألوان مختلفات

وإننا مع كوننا من عشاق حرية الفكر لنستهجن رفع العقيرة بمثل هذا الرأي الفطير البديهي

ص: 9

البظلان وهل هو يا رعاك الله إلا بمثابة من يطلب مسخ الغادة الحسناء الرائعة الوسية القسيمة ويحرص على جعلها قردة مشوهة قبيحة المنظر دميمة الخلقة شنيعة الهيئة سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم ولولا خوف الإطالة لأوردت من اللغة المحكية العامية ما تمجه الإسماع وتنفر منه الطباع من ركاكة الألفاظ وتنافر التراكيب وقصور المعاني وغير ذلك مما يبرهن على أن اللغة المحكية اليوم بين العرب هي اللغة الفوضوية بين اللغات فلا يمكن أن تنحصر تحت قواعد أو تنضبط بأصول وقوانين على أن القائل بجعلها لغة الكتابة بدل اللغة الفصحى لابد أن تظهر له الأيام خطأه ويسقط رأيه بنفسه:

وما كل قول قيل علم وحكمة

ولا كل آراءِ الرجال صواب

ص: 10