الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين الإسلامي والتوحيد
14
معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
أثبتنا آنفاً أن الله سبحانه امتن على عباده ببعثة سيد الرسل صلى الله عليه وسلم لينقذهم مما كانوا فيه من ظلمات الغي والغواية، والجهل والضلالة ويهديهم إلى صراطه الأعدل، ومنهاجه الأقوم، وأيده بما يدل على صدق نبوته، وتحقيق رسالته من المعجزات الباهرات، والآيات البينات مما تتقاصر العقول دون الإحاطة بمنتاها. فكان عليه الصلاة والسلام أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهاناً، وأوضحهم محجة وتبياناً.
أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم وأظهر آياته معجزة القرآن العظيم المتحدى به أنزله الله عليه في عصر اشتهرت رجاله بالفصاحة، وتوفرت فيهم مادة البلاغة، وأوتوا من ذرابة اللسان، ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب، ما يبهر الألباب، ومن البداهة ما يقضي بالعجب العجاب، فكان منهم البدوي ذو اللفظ الجزل، والقول الفصل، والطبع الجوهري، والمنزع القوي ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل والتصرف في القول، فما استطاع أحد معارضته، ولا حام حول محاكاة أقصر سورة من سوره بل أخرس بفصاحته فرسان البلاغة، وقادة الخطابة، وسادات القوافي، وملوك البيان، مع حرصهم على معارضته، والتماسهم الوسائل التامة لمتناقضته (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).
كتاب حوى من الإعجاز مارد كل جاحد وصد كل معاند وسجل العجز على كل مكابر من بلاغة ألفاظه واستيفاء معانيه وحسن نظمه العجيب وأسلوبه الغريب المخالف لأسلوب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها انطوى على علوم لا يحيط بكنهها بشر ولا يطمع في إصائها مخلوق واستمل على أخبار القرون الخالية وقصص الأمم السالفة والأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلا علام الغيوب وهو مع اتساع مجاله في كل فن من أخبار وأحكام ومواعظ وأمثال وأخلاق وآداب وترغيب وترهيب وتحذير من قبائح السجايا ومواقع الدنايا وتدبير السياسات ومراعاة الأوداء ومدافعة الأعداء ومجادلة الأخصام وتبكيت الطغام وإقامة
الحجج والبراهين على وجود الله تعالى وتوحيده وعلى الحشر والنشر ودفع الشبه وإزالة الريب ووصف دار النعيم وأحوال سكانها ودار الجحيم وأهوالها ونعت عالم السموات وما في العالم العلوي من الآيات من كواكب وأمطار وسحائب وغيرها ووصف الأرض وجبالها وسهولها وبحارها وينابيعها وما اشتملت عليه من نباتات وحيوانات ومعادن وأزهار وغيرها حتى يصح أن يقال أنه لم يبق علماً من علوم الأوائل والأواخر إلا صرح به أو أشار إليه على أساليب متنوعة وطرائق بديعة مع هذا كله لم يقع فيه تناقض ولم يتخلله تضارب خال عن جميع العيوب بعيد بحسن نظمه عن مشابهة كل أسلوب ليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به فلا هو من نوع القصائد العربية ولا من الأراجيز البدوية ولا يمل مع الترديد ولا يشبع منه لعلماء ولا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه.
ولو لم يكن من عظيم شأنه وجليل برهانه إلا أن عمّ الأرض نوره وجلل الآفاق ضياؤه ونفذ في العالم حكمه وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ممدود الأطناب مبسوط الباع مرفوع العماد ليس على الأرض من يعرف الله تعالى حق معرفته أو يعبده حق عبادته أو يدين بعظمته أو يعلم علو جلالته أو يتفكر في بديع حكمته لكان ذلك كافياً في الدلالة على أنه من عند الله (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري مالكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نور نهدي به من تشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).
أليس في ظهور هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها على لسان أمي لا يكتب ولا يقرأ أعظم معجزة وأكبر دليل وأدل برهان على أنه ليس من صنيع البشر وإنما هو تنزيل من عزيز حكيم.
ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آية باقية ما بقيت الدنيا (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) وسائر معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد انقضت بانقضاء أوقاتها ولم يبق إلا خبرها والقرآن الكريم الباهرة آياته مضى عليه ما يزيد على ألف وثلاثمائة سنة وهو على ما هو عليه حجة قاهرة ومعارضته ممتنعة والأعصار كلها طافحة بأهل اوحملة علم اللسان وأئمة البلاغة وجهابذة الكلام والبراعة والملحد فيهم كثير والمعادي للشرع عنيد فما منهم من أتى بشيء يؤثر في
معارضته ولا ألف جملة في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن صحيح ولا قدح إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه والنكوص على عقبيه.
فإذا ثبت القرآن الكريم ظهر لك معنى قولهم أن القرآن معجزاي لا تقدر العباد على معارضته إذ المعجز الدال على صدق النبي لا يصح دخوله تحت قدرة العباد وإنما ينفرد به الله تعالى ولا يمكن أن يتهيأ لمن كان لسانه غير العربي كالعجم والترك أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك فإذا عرفوا أن العرب قد تحدوا على أن يأتوا بمثله أو بأقصر سورة منه فعجزوا بعد استفراغ وسعهم وبذل جهدهم حينئذ يتحقق لديهم ويثبت عندهم أنهم هم أعجز وكذلك يقال فيمن كان من أهل اللسان العربي إلا أنه لم يبلغ في الفصاحة شأواً يؤهله إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما ذكرنا. وأما من قد تناهى في معرفة اللسان العربي ووقف على طرقه ومذاهبه ومارس فنون البلاغة فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع الكلام من الفصاحة ويعرف مايخرج عن الوسع ويتجاوز حدود القدرة فمثل هذا لا يخفى عليه إعجاز القرآن وأسرار دقائقه.
وإليك بعض ما جاء في الأخبار من اعتراف فصحاء العرب بمنتهى فصاحته وإقرارهم بالعجز عن معارضته لاشتماله كما قدمنا على أعلى طبقات البلاغة وأسمى درجات البراعة والبيان. فمن ذلك ما ورد أن الوليد بن المغيرة زعيم قريش في الفصاحة لما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) إلى آخر الآية قال والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر.
وقد أخرج البيهقي عن محمد بن كعب قال حدثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم وحده في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل مني بعضها ويكف عنا قالوا بلى يا أبا الوليد فقام عتبة فجلس إلى سول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قاله عتبة وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام لأفرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فاسمع مني قال افعل فقال عليه الصلاة والسلام (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته) فمضى يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت
لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها ثم قال سمعت يا أبا الوليد قال سمعت فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال والله إني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر وبالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نباء قال فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم) حتى بلغ (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وقال بعضهم أن هذا القرآن لو وجد مكتوباً في مصحف في فلاة من الأرض ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثله فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأنقاهم وقال أنه كلام الله وتحداهم كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا فكيف يبقى مع هذا شك؟.
وروي أن أعرابياً سجد عند سماع قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام وحكي أيضاً أن جارية من فصحاء العرب قالت للأصمعي لما رأته تعجب من فصاحة حديثها أو يعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى (وأوصينا إلى أم موسى أن أرضعيه الآية) فإنه قد جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين إلى غير ذلك مما هو ثايب في الآثار ومبسوط في كتب الأخبار وفقنا الله لتلاوته ورزقنا فهم معانيه وأسراره.
(يتبع)