الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين الإسلامي والتوحيد
البعث والحشر23
البعث هو عبارة عن إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم بعد جمع الأجزاء الأصلية التي هي الذرات المخرجة من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام المشار إليها بقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) والحشر هو عبارة عن سوق المخلوقات جميعاً إلى الموقف وهو الموضع الذي يقفون فيه لفصل القضاء بينهم ولا فرق في ذلك بين من يحاسب كالمكلف وبين غيره.
البعث والحشر من الأمور التي يجب اعتقادها لثبوتهما بالبراهين النقلية والعقلية التي تذعن لها العقول الصحيحة وتطمئن لذكراها البصائر النافذة فمن الأدلة النقلية قوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) وقوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وقوله عز شأنه: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه) وقد أخرج البخاري ومسلم عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال إنكم محشورون إلى الله إلى غير ذلك مما ورد في الشرع الأنور وأما الأدلة العقلية فسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
البعث والحشر أصلبان من أصول الديانة افسلامية بل التصديق بهما أساس كل دين وأقوم وسيلة لإحقاق الحق والوقوف عن الحد. مسألة المصير بعد الموت طالما كانت الشغل الشاغل لأساطين العلماء وكبار الفلاسفة والظاهر أن حب الحياة جعلهم يطلبونها بعد ذهابها حتى أضحى أول خاطر يخطر للمتفكر البصير الموقف بأنه إنما ورد هذه الحياة الدنيا ليتزود كمالاً يؤهله للعروج إلى عالم أرقى وأنفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي والانتقال من دار ضيقة الساحات كثيرة الآفات خليقة بأن تسمى بيت الأكدار وقرارة الأحزان والآلام إلى دار وسيعة الساحات فسيحة الباحات لا فيها غول ولا تأثيم.
لذلك ترى أهل الملل كافة وجمهور المحققين من الفلاسفة متفقين على حقيقة المعاد وإن اختلفوا في كيفيته على ما سيتضح للقارئ إلا شرذمة من الطبيعيين الذين أعماهم الضلال وأرهقتهم الغواية واستزلهم شيطان الوهم فهوى بهم إلى أخس منزلة من منازل السخافة وزعموا أن لا حياة للإنسان بعد هذه الحياة وأنه لا يختلف عن النباتات الأرضية التي
تتفرق أجزاؤها فتدخل في تركيب آخر وهكذا يبقى بين التحليل والتركيب فتارة يكون جزءاً من إنسان وتارة ناباً من ثعبان وآونة ورقة من أغصان وغيرها ذنباً في حيوان وهلم جرا وذهبوا إلى أن العبد يستوفي في هذه الحياة حظوظه من الشهوات البهيمية وبهذا الزعم الفاسد والمذهب الباطل أطلقوا النفوس من قيد التأثم ودفعوها إلى أنواع العدوان وسهلوا لها الغدر والخيانة وحملوها على فعل كل خبيثة واقتراف كل رذيلة وأعرضوا بالعقول عن كسب الكمال البشري وأعدموها الرغبة في كشف الحقائق وتعرف أسرار الكائنات.
هذه الشرذمة الطاغية أنكرت الروح والملأ الأعلى والخلود والبعث والحشر والعقاب والثواب جهلاً وعناداً زاعمين أن ذلك كله من خيالات الأفكار القديمة وبقية من توهمات السالفين وليس في الوجود شيء غير المادة وقوتها الذاتية وأخذت تتبجح بطلب الأدلة الحسية لا العقلية حتى أنك لو أتيتهم بأعظم البراهين العقلية والدلائل القطعية والإقناعية لقالوا أن هو إلا تصوير خيالي أو فكر وهمي فبينما يموجون في دياجير الحيرة ويضطربون في غياهب الغواشي الوهمية إذا هم بآية عظمى ظلت أعناقهم لهم خاضعة وقارعة كبرى أضحت عقولهم أمامها حائرة وهي التنويم المغناطيسي ثم تلاه فن استحضار الأرواح وتجسدها المشهور (بالأسبيرنيزم) فكانت النتيجة انهزام تلك الشرذمة العائثة في الأرض فساداً انهزاماً لا يقوم لها بعده علم ولا يرفع لها صوت. قال فريد بك وجدي في كتابه كنز العلوم عند الكلام على مادة (آخرة) هي الحياة الآخرة التي وعد الله عباده بها والناس بإزاء العقيدة بها في أربع مراتب (أولها) رتبة أهل الله وخاصته وهؤلاء قد انكشف لهم الحال فرأوا بأعينهم ما لا يدركه غيرهم بعقولهم فاعتقدوا بالآخرة عقيدة عيانية حسية وهؤلاء هم الأنبياء والصديقون (ثانيها) رتبة أهل البصائر النافذة وأولئك يكفيهم مجرد النظر في ملك الله وملكوته وما أودع فيهما من أعلام بينة وأدلة ناطقة (ثالثها) رتبة الحسيين الذين لا يرضيهم من العقائد إلا ما يؤثر على حسهم ويدهش مشاعرهم.
أما الرتبتان الأوليان فقد هداهما الله بنوره ودلهم على الطريق بتوفيقه وهل بعد قوله تعالى: (من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها من أنشأها أول مرة) مطمع لمستزيد. أما الرتبة الثالثة فنحيلها إلى ما كتبناه تحت عنوان (أنبوتزم ومانيتيزم وإسبرتزم) فإن هذه المباحث من الأدلة المحسوسة على وجود الروح ما جدع أنف الإلحاد الأوروبي وبلغ مقتله وهناك
رتبة رابعة وهي التي لا يقنعها بل ولا تريد أن تقنع فهي الرتبة السفلى التي ظهرت في كل جيل وكل قرن وكانت جائحة على الفضيلة والإنسانية إلا أنها ما نجمت حتى اجتثت وما طارت حتى قصت. ولقد كانت في أوائل هذا القرن والذي قبله أشسد مما كانت عليه في أي جيل من الأجيال أدرعت بالعلوم الطبيعية واستلامت بالتجارب الفنية وقامة قومة أطاشت بها الأحلام وزعزعت بها أطواد الأفئدة تصيح على وجوه الناس الحس الحس التجربة التجربة إياكم والوهم احذروا الخيال. فلم يلبثوا على غلوائهم ردحاً من الزمن حتى قرعهم الله بقارعة (الإسبرتزم) مذهب استحضار الأرواح فإذا هم حيارى لا يدرون ما يفعلون فقاوموه وشنعوا عليه وعلى أشياعه ثم جالوا فيه جولة حسية وإذا بأماثلهم يقولون كما يقول الأستاذ الطائر الصيت أحد أركان العلوم الفزيولوجية العصرية (روسل ولاس) الإنجليزي مكتشف ناموس (الانتخاب الطبيعي) قال في كتابه (معجزات العصر الحاضر) لقد كنت دهرياً صرفاً مقتنعاً بمذهبي تمام الاقتناع ولم يكن في ذهني أدنى محل للتصديق بحياة روحية ولا بوجود عامل في هذا الكون كله غير المادة وقوتها ولكني رأيت أن المشاهدات الحسية لن تغالب فإنها قهرتني وأجبرتني على اعتبارها أشياء مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة ثم أخذت هذه المشاهدات مكاناً في عقلي شيئاً فشيئاً ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصورية ولكن بتأثير المشاهدات التي كان يتلو بعضها لبعضاً بطريقة لا يمكن التخلص منها بوسيلة أخرى (أي بغير نسبتها إلى الأرواح) أ. هـ.
يقول روسل ولاس هذا ومن هو روسل ولاس ويردد قوله أخوانه اللوف من علماء الأرض كما تراه في كلمة (إسبرتزم) ولكن يوجد من الناس هنا من يدعي أن هؤلاء هاذون. وإذا كان هؤلاء هاذين فمن هم المدققون الحسيون بخ بخ ولماذا هم هاذون؟ ألأنهم قاموا يثبتون عالم ما وراء الطبيعة ويقولون أن الإنسان روحاً خالدة بعد الموت؟
هذه مقالة جاء بها رسول ومال الناس إليها قديماً وحديثاً فهل يصح أن يوصم بالجنون من قام يثبت مذهب الأنبياء والصديقين؟
نحن نقول كما يقول علماء أوروبا أن تلك الخوارق منسوبة للأرواح ولكن نقول أن تلك المدهشات كافية في إثبات عالم ما وراء الطبيعة وأنها برهنت بالحس على أن وراء المادة حياة روحية عالية جداً وهذا كاف لتهدئ النفوس على مستقبلها وتعزية المصابين في
كروبها وشدائدها وفي المستقبل العجب العجاب فواها لمن تاب وأناب وآها لمن أصر واستكبر واستأسد وتنمرد (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).
وقال أيضاً في كتابه (الإسلام في عصر العلم) سيرى النوع الإنساني وراء هذه المسألة (استحضار الرواح) إن شاء الله العجب العجاب في قصم ظهور الملحدين وفصم عرى خزعبلات الماديين والله غالب على أمره ولا معقب لحكمه.
أما لدينا معشر المسلمين فمسألة ظهور الأرواح للأحياء من الأمور الشائعة للصالحين والمقربين ونظن أنه لا يوجد واحد من المسلمين ولم يقرأ في كتاب أو لم يسمع من قارئ أن روح فلان الصالح ظهرت لفلان التقي وحصل بينهما كيت وكيت من المحادثات والمحاضرات بل كثيراً ما تروي العامة أموراً تدل على معرفتها بمسألة ظهور الأرواح للناس مثل روايتهم عن بعضهم أن فلاناً تاه في الصحراء وألمت به الحيرة من كل جانب ولما أوشك أن يقع في اليأس إذا برجل مرتد بثياب بيضاء وعليه جمال وبهاء جاء إليه فدله على الطريق وأزال عنه بوائق التعويق ثم يعقب قوله بأن ذلك الشخص لا شك في أنه روح التقي فلان الخ من أمثال هذه الأخبار التي لا يليق بنا إنكارها على عجل وإن كانت تعوز النظر وللعلماء المحققين أدلة عقلية على بطلان ما جنح إليه الطبيعيون ودحض مذهبهم الذي ليس له ظل في الحقيقة ولا وجه من الصحة.