الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعطيل الأشغال في يوم الجمعة
شاع أن بعض المسلمين يرغبون في تعطيل الأشغال في يوم من الأسبوع طلباً للراحة. واختاروا يوم الجمعة ليتفرغوا للطاعة ويبادورا إلى أداء الصلاة مستدلين بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).
كما أن كثيراُ منهم يعتقدون أن ذلك بدعة منكرة ولا خير فيها لما يترتب عليها من زيادة انتشار الفساد. ولأن فيها تشبهاً بأهل الكتاب وقد أمرنا بمخالفتهم. ويقولون أن الآية المذكورة تدل على وجوب المبادرة إلى الصلاة وقت النداء فقط.
فأحببنا أن نبين الحق والصواب في ذلك. قياماً بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فنقول:
أما التشاغل بالبيع أو غيره يوم المجمعة بعد النداء للصلاة أي الآذان فهو حرام. وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك.
وأما الإجبار من آحاد الناس على تعطيل الأشغال فنه لا يجوز باتفاق المسلمين لا في يوم الجمعة ولا غيره. سواء حصل الإجبار بالإكراه أو الحياء أو الإلزام بصرف مال في إعانة خيرية أو نحوه. وسواء صار تحصيل المال الذي ألزم المغرم به خوفاً من الإهانة أو بطريق الحياء أو بغير ذلك من الوجوه المحرمة. لأن هذا تسلط على الناس بغير وجه شرعي وهو حرام قطعاً.
وأما التفرغ يوم الجمعة للطاعة والمبادرة إلى المساجد من أول النهار فهو أمر حسن مندوب إليه كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في الفتاوى الكبرى وكتب الفقه طافحة فيه وقد جاء كثير من الأحاديث المرغبة في ذلك.
وأما الاستراحة فلا بأس بها لمن أحب وقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم القيلولة كل يوم وقت الظهر لنرتاح ونقوم للعبادة بنشاط ولكن الذي ليس له رغبة في الاستراحة لا يجوز إجباره عليها. لا وقت القيلولة ولا في يوم من الأيام. لأن دين الإسلام جاء بالتيسير والتسهيل حتى أنه أباح الاشتغال في أيام العيد لمن أراد فلا سبيل إلى منع الناس من الأشغال لا في يوم الجمعة ولا غيره. ومن أحب أن يستريح في يوم أو يومين أو أكثر فلا حرج عليه.
فإن قال قائل إذا تركت الأشغال وحدي في يوم الجمعة أو غيره يظن الناس أن ذلك لخلل
في تجارتي فيحصل لي الضرر.
قلنا ربما يتوهم بعض الناس ذلك ولكن في مرة أو مرتين فقط ثم يعلمون أن من عادتك ترك الأشغال في يوم الجمعة مثلاً أو غيره من الأيام فترتفع الشبهة ويزول هذا التوهم.
فإن قال إن نفسي لا تسنح أن أترك تجارتي إلا أذ ترك أمثالي تجارتهم أيضاً.
قلنا إن كنت أنت لا ترضى بذلك فإنه يوجد أناس لا يرضون بترك أشغالعم إما لضرورة أو غيرها. فكيف يسوغ منعهم من شيء أحله الله لهم.
وأيضاً الاتفاق على التعطيل في يوم الأسبوع يكو سبباً لزيادة انتشار الفساد وفيه تشبه بأهل الكتاب. وقد أمرنا بمخالفتهم فإن قال أن من أراد الفساد لا يكون الشغل مانعاً له منه. والراغبين في تعطيل يوم لا يقصدون التشبه بأهل الكتاب.
قلنا أن التعطيل يكون سبباً لسهولة الفساد لمن أراده ولمزيد انتشاره بين الناس والاتفاق على تعطيل يوم في الأسبوع فيه تشبه بأهل الكتاب ولو كان غير مقصود.
وأما قوله تعالى: (يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فإنه يقتضي تحريم التشاغل والتأخر بعد النداء للصلاة أي الآذان لها. ولا يتعدى هذا إلى ما قبل النداء. بل الاشتغال بالتجارة ونحوها قبل النداء باقٍ على أصله وهو الإباحة وكذلك بعد أداء الصلاة كما قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) أي إذا أديتم الصلاة فإنها يباح لكم أن تشتغلوا بالتجارة كما قاله كثير من المفسرين كالشهاب الخفاجي والعلامة الفخر الرازي والمحققين النسفي والخازن وغيرهم. ونقله أيضاً العيني في شرحه على البخاري بل استقرب العلامة المحقق الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي أن الاشتغال يوم الجمعة مندوب إليه لما فيه من عدم التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد وهذا اليوم لنا بمنزلتهما. بل قال أن العلامة السرخسي نقل أنه واجب وذهب جمع من المفسرين إلى أن الابتغاء من فضل الله يكون بالتجارة أو صلة الرحام أو طلب العلم أو نحوه. وذهب قوم إلى غير ذلك وعلى كل حال فالأصح أن الاشتغال بالتجارة في يوم الجمعة قبل الآذان وبعد أداء الصلاة إن لم يكن مندوباً فهو مباح.
وأما اتفاق بعض المسلمين على تعطيل يوم في الأسبوع فهو بدعة منكرة لما يترتب عليه
من المفاسد.
أولاً: زيادة انتشار الفساد وتسهيله لمن أراده ويكفينا دليلاً على هذا ما يشاهده أو يسمع به كل من الخاصة والعامة في أيام العيد من زيادة الفحش وفشوه بين الناس بسبب سهولة الاختلاط وإنكار هذا الأمر في زمان فسدت فيه تربية قسم عظيم ما هو إلا مكابرة وقد أخبرنا من نثق بدينه وأمانته أن بعض الراغبين في تعطيل يوم الجمعة بحجة التفرغ للطاعة يتعمدون ترك صلاة الجمعة في كثير من الأيام وأخبرنا أيضاً من نتحقق فيه العدالة أن قوماً تركوا أشغالهم في اليوم المذكور وذهبوا إلى بعض البساتين للتنزه وتركوا صلاة الجمعة مع أن الخروج بعد الفجر إلى محل لا تدرك فيه الجمعة محرم على اختلاف فيه. ونقل إلينا من نعتقد صدقه أن قوماً بسبب تعطيل الأشغال يوم الاثنين ذهبوا إلى بعض النواحي وأحضروا آلات اللهو وشربوا الخمر فنهاهم رجل منهم وبين لهم أن هذا محرم وجزاؤه غضب الله عز وجل وعقابه فأجابوه بأنا قد تركنا الأشغال لنرتاح ونأخذ حظنا من البسط وداموا على ما هم عليه.
ثانياً: إن تعطيل يوم في الأسبوع فيه تشبه بأهل الكتاب ولو كان غير مقصود كما تقدم وقد أمرنا بمخالفتهم.
ثالثاً: إن التعطيل يكون سبباً للإسراف بصرف الأموال لأن البطالة من أكبر الدواعي إليه مع أن أهل الحرف وهم أكثر الناس تشتهي عيالهم الأدم وأكثرهم بحالة من الضيق والفقر تبكي لها القلوب القاسية شفقة وحناناً.
رابعاً: إذا تم هذا الأمر لا سمح الله فأطفالنا إذا نشؤا عليه يعتقدون أنه من الشعائر الدينية.
خامساً: إذا تم هذا الأمر لا قدر الله تتألف شركات لفتح مقامر ومحال للتياترو ونحو ذلك في اليوم المذكور زيادة على ما يوجد الآن وهذا يكون سبباً لمزيد من انحطاطنا في الأخلاق والثروة.
فاتفاق بعض المسلمين على تعطيل يوم في الأسبوع ولو كان اختيارياً من غير إكراه ولا إجبار هو أمر محرم إذا ترتبت عليه هذه المفاسد والمحرمات.
لأن كل ما أدى إلى الحرام يكون حراماً. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو مقرر. فليتيقظ الناس قبل تفاقم الأمر فإن نتيجة هذا العمل تعود عليهم بمزيد من الانحطاط
وليعلموا أن كل من سعى في هذه البدعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها يوم القيامة.
وحيث أن كثيراً من الراغبين في التعطيل لهم نية صالحة وأكثرهم يعلم أننا لا غاية لنا إلا المحافظة على الآداب الإسلامية وتنبيه المسلمين إلى ما يخالف دينهم ويعود عليهم بالانحطاط والضرر كما تشهد بذلك أبحاث مجلتنا فنحن على ثقة بأنهم متى اطلعوا على ما كتبناه وتبين لهم أنه الحق رجعوا إليه.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجمع قولبنا على التقوى. وكلمتنا على ما فيه مصلحتنا وأن يجعلنا من الذين يستمعون الحق فيتبعون أحسنه.