المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربيع الآخر - 1349ه - مجلة المنار - جـ ٣١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (31)

- ‌المحرم - 1349ه

- ‌فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

- ‌نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مساواة المرأة للرجلفي الحقوق والواجبات

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌أحوال مسلمي روسية

- ‌رسالة مهمة من الصينفي حال مَن فيها من المسلمين

- ‌الدين قبل كل شيء

- ‌رسالة من مؤلف كتابحياة محمد في باريس

- ‌معاملة البنوكاستدراك على ترجمة تيمور

- ‌تهنئة للمنار بالعام الجديد

- ‌ربيع الأول - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نقض أساس مذهب داروين

- ‌مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

- ‌الفتح الأوربي والفتح الإسلاميوالاستعمار البريطاني والفرنسي

- ‌المعاهدة الجديدةبين إنكلترة والعراق

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تفسير القرآن الحكيم

- ‌آفة الشرقأمراؤه المستبدونوزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون

- ‌نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*]

- ‌آراء ساسة فرنسافي سياستها الإسلامية

- ‌كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلامفي المغرب الأقصى

- ‌تهنئة للمنار ونقد واقتراح

- ‌الشيخ سليمان بن سحمانوفاته وترجمتهمن جريدة أم القرى الغراء

- ‌جمادى الأولى - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تلبُّس الجن بالإنس

- ‌جمع كلمة المسلمينقاعدة أهل السنة والجماعة

- ‌السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

- ‌بيان إلى العالم الإسلاميعن قضية البربر في المغرب الأقصى

- ‌إصرار فرنسةعلى إخراج البربر من الإسلام

- ‌الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خانعلى عرش الأفغان

- ‌المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا

- ‌رجب - 1349ه

- ‌ليلة النصف من شعبان

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟!(1)

- ‌للحقيقة والتاريخ

- ‌زيارة وزير الحقانيةلقسم التخصص التابع للأزهر

- ‌شعبان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟(2)

- ‌مناظرة في الجامعة المصريةفي المدنيتين الفرعونية والعربية

- ‌بقية رد المنارعلى مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلامفي الدفاع عن نفسه وعنها

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(2)

- ‌رمضان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

- ‌نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين

- ‌مولانا محمد علي الزعيم الهنديوفاته ودفنه

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(3)

- ‌ذو الحجة - 1349ه

- ‌نسخ الشريعة المحمدية لما قبلهاوبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين [*]

- ‌بيان بشأن المجالس الحسبيةحادث تنصير البربر يتكرر في مصر [*]

- ‌الانتقاد على المنار وتفسيره

- ‌اقتراحمناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة

- ‌نظرة تاريخية في الثورة الهندية الكبرىوأسبابها

- ‌حول النشأة الإسلامية في الهند

- ‌الشيخ محمد عبد العزيز الخولي

- ‌تأخر صدور المناروكثرة مواده المتأخرة والمنتظَرة

- ‌المحرم - 1350ه

- ‌إيطاليةشر دول الاستعمار

- ‌الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي

- ‌العلويون في أوغندة والمنار

- ‌بيان عن سياسة الإبادة والاستئصالالتي اتبعتها إيطاليا في طرابُلس الغرب

- ‌صفر - 1350ه

- ‌الزواج بالمسلمة وراثةوالكتابية والوثنية تنطق بالشهادتين

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في صولو

- ‌حكم وقوف التعظيملشعار الأمة أو الدولة

- ‌عقد النكاحوصيغة الطلاق عند أعراب فِلَسْطِين

- ‌مراهنة سباق الخيل والتداوي بما خلط بمحرم

- ‌مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(4)

- ‌إلحاد في القرآنودين جديد بين الباطنية والإسلام(2)

- ‌التجديد والتجدُّد والمجدِّدون

- ‌مقدمة الطبع والنشرلرحلة الأمير شكيب الحجازية

- ‌خاتمة المجلد الحادي والثلاثين

الفصل: ‌ربيع الآخر - 1349ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ

تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .

لبيك اللهم ولك الحمد كما تحب وترضى، وصلواتك الطيبات، وتحياتك

المباركات الزاكيات، وصلاة ملائكتك المقربين وعبادك المؤمنين على رسولك

محمد خاتم النبيين، الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أُولي قرابته

وقربه، وعلى التابعين لهم في طاعته وحبه، واتباع سُنته في بيان كتاب ربه،

على ما نقلوه لنا عنه من قول وعمل، وفضيلة وأدب، وتشريع وحكم.

أما بعد:

فإنني أُذكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الحادي والثلاثين، بنحوٍ مما كنت

أذكرهم به فيما سلف من السنين، من حظ المسلمين من الإسلام وأثر الإسلام في

المسلمين، ولا سيما حال ملاحدتهم ومبتدعتهم، وفساقهم وظلمتهم، وجامديهم

ومقلدتهم. وقد كان من قدر الله تعالى أن ألممت في فاتحة المجلد الثلاثين بشيء من

دعاية التجديد الإلحادية. ومفاسد فوضى النساء الشهوانية، ثم كان أن اصطدمت

بالفريقين في أثناء تلك السنة بالمناظرة والمحاضرة، فكانت الحجة والغلب لهداية

الإسلام، وظهر ذلك للخاص والعام، وعلمنا به أن ما كانوا يذيعونه عن شباب

مصر وسائر نابتة العصر، من انسلاخهم من وجدان الدين، واتباعهم غير سبيل

المؤمنين، وانتظامهم جندًا خاضعًا لدعاية الإلحاد، وقيادة الإباحة والفساد - إنما هو

زور وبهتان، وإرجاف وإيهام، فقد نصر جمهورُ طلبة الجامعة المصرية داعية

الإسلام نصرًا عزيزًا، واقترحوا عليه أن يكتب مقالات في بعض الجرائد اليومية

يفصِّل بها ما أجمل في مناظرة الجامعة تفصيلاً، فكتبنا في جريدة (كوكب الشرق)

مقالات تجاوزت جمع القلة إلى جمع الكثرة، فكان لها ما كان من حسن التأثير في

الأمة، ولم يرتفع للملحدين والإباحيين في الرد عليها صوت، على ما حذقه أكثرهم

من خلابة المِراء وسخف القول. وإن لها لبقية، ستكون إن شاء الله تعالى راضية

مرضية.

بيد أن ريح الطيش طارت بلب داعية قبطي منهم كان أول مَن عاب الإسلام،

وقال بتفضيل الذكور على الإناث في الميراث، ودعا المسلمين إلى نبذ الفرائض

المقررة في نصوص القرآن، فلم يجد حيلة في مقاومتنا إلا إثارة العصبية الجنسية

الفرعونية. ودعوة المصريين كافة إلى ترك قراءة كل ما يكتبه مَن لا يجري في

عروقه الدم المصري الفرعوني، ولا سيما مَن كان من أصل سوري، كأنه لغروره

بقبطيته يتوهم أن مسلمي مصر كلهم يفضلون نسب فرعون - الذي لعنه الله ولعن

آله وقومه في كتبه، وعلى ألسنة رسله - على نسب سيد ولد آدم، وأكمل مصلح

ظهر في العالم، وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، الذي تعبَّدهم الله تعالى

بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، كما تعبَّدهم بلعن فرعون وقومه الوثنيين،

بقوله تعالى بعد ذكر غرقهم وعاقبة ظلمهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ

القِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: 41-42) .

ولو شئنا لأثرنا عصبية إسلامية على هذه العصبية الفرعونية فاجتاحتها وكان

أهلها الخاسرين، ولكننا نكرم أنفسنا عن مثل هذا السلاح، ومن العجيب أن أعداء

الدين الذين يزعمون أن التعصب له هو الذي يفرق بين أهل الوطن - يستبيحون

التفريق والتعادي والتخاصم بالتعصب للجنس والنسب؛ لأنهم لا يكرهون شرور

العصبيات وضررها، وإنما يكرهون مثارها من النفس وسببها، كأنهم يكرهون

الغرائز والعقائد الدينية الإسلامية - وهي وجدانية اضطرارية - دون المفاسد التي

تتولد من الغلو والإفراط فيها وهي اختيارية. وأما نحن فنكره سوء استعمال الغرائز

والأديان، الذي هو كسوء استعمال العقل والجوارح والحواس. ويرى جماهير

المسلمين في مصر أن القبط قد أسرفوا في تعصبهم الملي، واستغلال نفوذهم في

الوفد المصري، فصبر الأكثرون عليهم صبر الكرام، حرصًا على الوحدة السياسية

أن يصدعها الانقسام، وإن تصدى خصوم الوفد منهم لإثارة النعرة الإسلامية عليهم

وعلى الوفد بغضًا في الوفد لا تمسكًا بالإسلام، ونحن نربأ بنفسنا أن تعبث بها هذه

الأهواء، وإنما هذه كلمة قد حبذها الاستطراد.

بيد أن الذي أتأياه في هذه الفاتحة، وأذكِّر بخطره الأذهانَ الغافلة، هو أن

أنصار الجمود والبدع المأوفة، وحماة التقاليد المألوفة، ممن سماهم الأستاذ الإمام

(حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) قد أثار بعضهم في هذا العهد عصبية

مذهبية هي أضر على المسلمين من أثرة القبط عليهم في مصالح الحكومة، ومن

فريقي المبشرين والملاحدة. فإن انتصارنا على هذين الخصمين بالحجة والبرهان

يفهمه ويغتبط به جميع طبقات المسلمين من الخواص والعوام.

وأما انتصارنا على أولئك بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

وسيرة السلف الصالح فلا يعقله إلا من أوتي من سلامة الفطرة واستقلال الفكر ما

كان به ممن قال الله تعالى فيهم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) ولا

يزال أكثر طلاب العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية يطلبون معرفة الحق بشهرة

قائله، أو سعة جبته وشكل عمامته، أو بلقبه الوهمي، أو بمنصبه الرسمي، وهم

ينفرون من الدليل ومن صاحبه، ويسيئون الظن به.

وقد كان طلاب الإصلاح الإسلامي يسمعون من هؤلاء الجامدين ومن

المبتدعين أذًى كثيرًا ويصبرون عليهم، إذ يرون أن مبلغ أذاهم لا يعدو بطء

انتشار الإصلاح فيمن حولهم، ويسُرّ الذين يعرفون تاريخ الأمم والملل أن مقاومة

الإصلاح في تاريخ الإسلام أضعف من مثلها في تاريخ النصرانية، ويحمدون الله

تعالى أن الجامدين من كبار علماء الدين الرسميين لم يبلغ منهم الجمود أن يتصدى

أحد له قيمة منهم للكتابة والنشر في الرد على دعاة الإصلاح المستقلين، ذلك بأنهم

يعلمون أنهم يدعون إلى حق وخير وهو الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله

عليه وسلم في الدين على منهج السلف الصالح الذين هم خيار هذه الأمة، والأخذ

في مصالح الدنيا بما ثبت للبشر نفعه بالتجارِب الفنية والعملية، مع مراعاة القواعد

الشرعية، وإنما يمتعضون من هذه الدعوة لأمرين:

(أحدهما) خشية إفضاء الاستقلال في فهم الدين إلى الخروج عن المذاهب

المتبعة إلى دعوى الاجتهاد المطلق، ولا يتسع هذا التذكير لبيان مثار هذه الخشية

من النفس وما لها من الهوى فيها.

(وثانيهما) أن هذا تجديد في الإسلام تخرج به الزعامة الدينية من عهدتهم

لعدم استعدادهم للنهوض به، وعجزهم عن تولي القيادة في ميدان جهاده، وأذكّّرهم

بما بينته مرارًا من التفرقة بين الاجتهاد المطلق بوضع مذهب جديد، والاستقلال

في العلم واتباع السلف في هداية الدين.

ولكن نجم في هذه السنين الأخيرة رجل من أعداء السنن، كما ينجم قرن

المعز، لم يلبث أن تصدى لنطاح صخرة هداية السنة النبوية والسيرة السلفية،

دون غيرها من المقاصد الإصلاحية، وهو شيخ تركي لا ندري أكان من أولئك

الجامدين الذين فتنوا رجال الدولة العثمانية عن الدين بتعصبهم لتقاليد كتب الحنفية،

فصدوا أولئك السياسيين عن أصل الملة الحنيفية، أم هو دسيسة كمالية يبغي بها

الكماليون مقاومة حركة الإصلاح الإسلامية، التي تقاوم دعاية التفرنج الكمالية؟ !

بدأ هذا التركي نطاحه للسنة وحُفَّاظها بدسائس ببثها في حواشي المطبوعات

من كتبها، التي يتَّجر تلميذ له من الأغرار بطبعها، ثم بث دعايته في الأزهر

فاستمال لمشايعته عليها عالم من أشياخه المشهورين، كان في موقف التجاذب

والتدافع بين الجامدين والمجددين، حتى كان بعض تلاميذه وأصدقائه يرجون أن

يخلف الأستاذ الإمام في ناحية من نواحي خدمته للإسلام، فخابت فيه الآمال.. أو

يعود إلى الاعتدال.

كان الشيخ التركي أحذق من الشيخ المصري في الصد عن السنة وحفاظها،

وعن مذهب السلف وأنصاره. فإنه سلك فيه مسلك الدسائس السياسية، وقدر السير

فيها مراحل كالمراحل الكمالية في هدم الشريعة الإسلامية، فبدأ هو بالطعن على

بعض حفاظ السنة المشهورين، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، وسخَّر

الشيخ المصري للجهر بما لم يتجرأ هو على الجهر به من مناجزة المعاصرين،

واستدرجه إلى كتابة شيء جهر فيه بالنيل من شيخ الإسلام، وهجر بغميزة الأستاذ

الإمام، ونشره له مطبوعًا باسمه، ولعله فعل ذلك بدون إذنه، ليجعله دريئة له في

ميدان الجدال، ومِجَنًّا يتقي به في معارك النزال.

لا خوف اليوم على مذهب السلف من سيف هذا التركي ولا من مِجَنِّهِ. وقد

أعلى الله مناره، وأعز مهاجرته وأنصاره، وأنشأ له دولة، وجعل له صولة،

فتعددت جمعياته وصحفه، وكثرت رسائله وكتبه، فتضاءلت أمامه التأويلات

الكلامية والتقاليد الخرافية، ولا خوف على طريقة الأستاذ الإمام في الإصلاح،

بعد أن اتفقت الكلمة على إمامته، وانكشفت بموته الحجب التي كانت مضروبة أمام

جلالته، من استبداد أمير، وحسد شيخ كبير، وتقليد غر جاهل، وحقد غمر

متجاهل. وإن ظهر أن لحسد بعض الأشياخ بقية في الزاوية، أخرجها منها ذلك

التركي الداهية، وسنفرُغ في هذا المجلد لرد هذا الهجوم ببيان بطلانه وضرره في

الإسلام والمسلمين في هذا العصر، الذي يهاجم الإسلام جيشان قويان من جحافل

الكفر أقواهما جيش الملاحدة الذين صار لهم دولة، وإن كانت واحدة، وأضعفهما

جيش المبشرين وإن كان لهم دول متعددة، فيجب على أهل العلم وحملة الأقلام من

المسلمين الاتحاد والتعاون للجهاد في هذه السبيل سبيل الله، بدلاً من إضعاف

الإسلام بالتعصبات المذهبية التي كانت أضر عليه في عهد قوته من كل أعدائه من

الكفار. فكيف يكون ضررها الآن؟ ! .

وقد كان من حكمة الله في تقديره ولطفه في تدبيره أن بلغنا عند كتابة هذه

الفاتحة الكلام على تأسيس جمعية العروة الوثقى من تاريخ الأستاذ الإمام الذي

ألجأتنا أحداث السياسة إلى تأخير نشره إلى هذا العام. فرأينا أن ننشر لقراء المنار

بعض تعاليمها السرية؛ لأنها قد صارت من الحوادث التاريخية، فهي أفضل أطوار

الإصلاح الذي نتخوَّلهم به في هذه الفواتح، وخير صدمة لتقحم الجامح، وتهجم

الطامح، وهذا نصها:

بعض الأصول العملية

لأعضاء جمعية العروة الوثقى السياسية

العقد الرابع للعروة الوثقى:

(1)

ينعقد بثلاثة يقسمون اليمين المعهود.

(2)

مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد تكون في أمور: التذكير بآيات

الله - النظر في حالة الإسلام عند بدئه وما كان عليه النبي وخلفاؤه فقط - البحث في

السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان وكان يبتلعها في

زمن قصير - كيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟ .

(3)

يلاحظ كل باحث أن ذاته في موضوع البحث فيطلب العلة من نفسه

قبل أن يطلبها في غيره، ويقارن بين حاله وحال السلف بوجه الدقة والإنصاف.

(4)

مدارسة أحكام الجهاد وحقوق المسلم وما هو مكلف به في معاملة غيره

وما يُفرض عليه إذا زحف الأعداء لخضد شوكة الإسلام.

(5)

النظر في حال المسلمين لهذا الوقت أخذًا من أقوالهم وأعمالهم للوقوف

على إحساسهم الديني ومقدار الداعية الاعتقادية ليعلم الداء ويعالج بالدواء اللائق به.

(6)

كتب كل فكر وتدوينه مفصلًا ثم مجملاً مع ما تستقر عليه الآراء.

(7)

العمل في الدواء بالقول (ومنه الكتابة والتأليف) وبذل المال في

مساعدة من يقوم بنصر الدين وحمل السلاح للمقاتلة بين يديه عند المُكنة.

(8)

كل واحد من أهل العقد مكلف بالعمل وإعداد أسبابه وما لا يتم إلا به،

وبدعوة الناس إلى عقده والارتباط به؛ مع الاحتراس التام من كل ما يفيد أن هناك

عقدًا، والثقة بمريد الانضمام إنما تتحقق عند اتفاق آراء أهل العقد عليها.

(9)

يكون معظم الاهتمام بضم الصالحين للأمر من ذوي المكانة على

اختلاف طبقاتهم من علماء وأمراء ورؤساء عشائر وغيرهم. وفريضة كل منهم أن

يعمل للإسلام فيما خوله الله.

(10)

في كل حالة يراعى تمكين الفكر وتأسيس الارتباط حتى يكون عند

كل واحد أن مصلحة الكل بمنزلة الشخص أو أعلى، ولا يُقبل قول من قائل حتى

يكون عمله أزيد من قوله أو مساويًا. العمل: بذْل المال والروح، والأول أقرب

الدليلين.

(11)

على أهل العقد أن يرسلوا رسلاً إلى نواحي الوطن الحالِّين به وإلى

المواطن المستعدة من غيره؛ متى أمكنهم ذلك.

(12)

لا يكون الشخص رسولاً حتى يكون سير العقد ملكة راسخة فيه،

ويكون على قدرة كاملة في تصريف القول، وتوفيق النصح مع طباع المنصوحين

وحالة السلطة العارضة عليهم، فيكون حكيمًا في عمله لا يحتاج لوصية من غيره،

ولا لقَيِّم يلاحظ عمله.

(13)

يسمح للعقد أن يبعث رسلاً من الخارجين عنه على أنهم وعاظ

يعملون المعروف من الدين ويؤيدون مناطيق القرآن، وعلى العقد أن يرسم لهم

طريق النصيحة بدون أن يعرفوا أن هناك عقدًا.

(14)

على الرسول إن كان من أهل العقد أن يكاشف عقده بما يحس به من

انفعالات الناس، وما يأخذ قوله من قلوب السامعين لدعوته، وما أثر تعليم الوعاظ

المبعوثين من طرف العقد.

(15)

من استحق باستعداده الدخول في العقد فعليه أن يقدم رسمًا ماليًّا أقله

مائة فرنكٍ وأوسطه مائتان وأكثره ثلاثمائة، ولا يُستثنى من ذلك إلا عالم أو معتقَد

عند الناس لا يستطيع أداءً، على شريطة أن يبذل العالم وسعه في تبيين الحق وبثه،

والمعتقد جهده في حمل معتقديه على العمل في مقاصد العقد، فإن استطاع هذان

الصِّنفان تأدية النقد فهم أولى الناس بها.

(16)

يجتمع أهل العقد في كل أسبوع مرتين للمذاكرة فيما سبق بيانه في

الفصل الأول وما بعده.

(17)

يجب على كل واحد أن يؤدي في آخر كل جلسة مقدارًا من النقد

على حسب استطاعته قليلاً أو كثيرًا يدور على الحاضرين مَن أصغرهم سنًّا

بصندوق صغير له فوهة ضيقة يضع فيها كل واحد ما تيسر خفية حتى لا يُعلم مَن

أدى أقل ومن أدى أكثر. لا يستثنى من ذلك أحد، ويسمى هذا الصندوق صندوق

التبرع.

(18)

يحفظ النقد المجتمع من الرسوم الابتدائية والتبرع عند من ينتخبه

العقد أمينًا.

(19)

يودع في ظرف تكتب عليه هذه العبارة: (هذا مال حق التصرف

فيه لعقد الإخلاص تحت رئاسة فلان) (يُذكر اسم الرئيس) .

(20)

يستعمل هذا المال في النفقة على محل الاجتماع ولوازمه، وفي

سبيل نشر المشرب وإرسال الرسل الداعين إلى الحق، وفي إغاثة المقصرين مما

ترجى منهم فائدة لمقصد الجمعية، وما يفضل عن ذلك فالنظر فيه للجمعية العليا

(جمعية العروة الوثقى) إما مباشرة أو على يد أحد نوابها.

(21)

يكون للعقد أربعة دفاتر (أحدها) لحصر أسماء رجاله (ثانيها)

لأسماء رسله (ثالثها) لحصر النقد المجتمع (رابعها) لإحصاء النفقات.

(22)

إذا توفر في الصندوق مبلغ من النقد وافر وأمكن تنميته على وجه

شرعي مأمون الخسارة فعلى أهل العقد أن يدبروا أمر نموه.

(23)

على القائم بضبط الحساب في الإيراد والصرف أن ينهج الطريقة

المعهودة في مركز العقد: أن يضعوا لها نظامًا حسب المعروف في بلادهم.

(24)

لا يصرف شيء إلا بقرار من أهل العقد يتفق عليه جميعهم أو

أكثرهم.

(25)

إذا قضت الحوادث بعمل عاجل يقرب من مقصد الجمعية وخيف

فوات الفرصة بفوات الوقت واحتيج إلى نفقة تقتضي زيادة عن الموجود وجب على

أهل العقد أن يبذلوا ما في وسعهم لإتمام العمل.

(26)

لا يباح لأحد من رجال العقد أن يذكر شيئًا من أحوالهم ومقاصدهم

ومذاكراتهم عند مَن ليس من مقصده في شيء، بل لا يباح التصريح باسم العقد

وأهله إلا لمن حصلت الثقة بحاله عند رجال العقد.

(27)

على رجال العقد أن يحمي بعضهم بعضًا ويعِين كل منهم باقيهم بقدر

الاستطاعة.

(28)

الاستطاعة لا تفسر بالأهواء حتى يعد كل وهم عجزًا وإنما هي

المعروفة عند المخلصين التي لا يعدمها الإنسان ما دام حيًّا قادرًا على الحركة.

(29)

إذا رأى أهل العقد أن يزيدوا شيئًا فيما وصلهم من قانون الجمعية

حسب حالة بلادهم فعليهم مخابرة من يتولى مواصلتهم فيما يريدون.

(30)

القانون الداخلي للاجتماع يضعه أهل العقد.

***

اليمين الذي يحلفه المرتبطون بالعقد

أقسم بالله العالِم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي، القائم على كل نفس بما

كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت - لأُحَكِّمَنَّ كتاب الله تعالى في أعمالي

وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل. ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه ولا أتقاعد عن تلبيته

في أمر ولا في نهي، ولأدعون لنصرته، ولأقومن بها ما دمت حيًّا، لا أُفضل

على الفوز بها مالاً ولا ولدًا.

أقسم بالله مالك روحي، ومالي، القابض على ناصيتي، المصرف لإحساسي

ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله - لأبذلن ما في وسعي لإحياء

الأُخوَّة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين، ولأعرفنها كذلك

لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينها في

غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني أبذل

جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما آخذ عليها

في المدافعة عن شخصي.

أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما

أخره الدين، ولا أسعى قدمًا واحدة أتوهم فيها ضررًا يعود على الدين جزئيًّا كان أو

كليًّا، وأن لا أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا اليمين في شيء يتفق رأي

أكثرهم عليه، وعليّ عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين

عقلاً وقدرة بكل وجه أعرفه، وما جهلته أطلب علمه من العارفين، لا أدع وسيلة

حتى أحيط بها بقدر ما يسعه إمكاني الوجودي.

وأسأل الله نجاح العمل، وتقريب الأمل، وتأييد القائم بأمره، والناشر لواء

دينه، آمين.

...

...

...

...

النائب: محمد عبده

(المؤلف) مَن تأمل هذه الأصول وهذه اليمين حق التأمل تجلى له أن كاتبها

الداعي إليها، المجاهد في سبيل غايتها - من أقوى المؤمنين بالله وبما جاء به محمد

رسول الله وخاتم النبيين إيمانًا، وأشدهم في إيمانهم إيقانًا، وأرسخهم في يقينه

وجدانًا، وأعلمهم بمقاصد هذا الدين وتاريخه وإصلاحه لأمور البشر، وأعظمهم

غيرة عليه وجهادًا في سبيل الله لإعادة مجده، وتجديد ملكه، وإحياء شرعه، وإنقاذ

أهله من الذل.

ومن قرأ مكتوباته - قدس الله روحه - لبعض العلماء والكبراء من المنتظمين

في سلك العقد في الفصل الأول من الباب الخامس من منشآته، المصدَّر أكثرها بكلمة

شعاره (لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة) رأى فيها شرحًا جليًّا لهذه

الأصول الجليلة، وعلم من هذا وذاك أن خدمة الجم الغفير من كبار علماء الأزهر

وغيره من المصنفين في العلوم الإسلامية المختلفة منذ عدة قرون للإسلام لَتصغُر

وتتضاءل في جانب خدمة هذا الرجل وأستاذه، فإن علومهم ومصنفاتهم كانت في العهد

الذي تهدَّم فيه ملك الإسلام وضعفت هدايته ولم يكن لها أقل تأثير في العلم والعمل؛

لأنها كلها مباحث لفظية، ومناقشات في عبارات بعض كتب المقلدين، وليس لأحد

منهم فيها كلمة تدل على الشعور بذلك، فضلاً عن الدعوة إلى تداركه، والجهاد في

سبيله.

ولو شئنا شرح هذه الأصول وما أدمج فيها من الحِكَم والعبر لزدنا القارئ

إعجابًا بأمر هذين الحكيمين وجهادهما، ولا تظن أن بين ما في الأصل الثاني من

التذكير بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فقط، وما في الأصل

الثالث من الاعتبار بسيرة السلف، وما في الأصل الرابع من الإشارة إلى أحكام

الفقه - لا تظن أن بين ما ذكر شيئًا من التعارض فإن لكل نوع منها غرضًا خاصًّا،

فالأول للاعتبار بنشأة الإسلام وتأسيسه، وما بعده ظاهر لا يحتاج إلى بيان.اهـ.

من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام.

فليعتبر قراء المنار بهذا الجهاد، ونسأله تعالى أن يهدينا سبيل الرشاد.

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

أو الربا المحرم القطعي المراد بالوعيد الشديد

إن هؤلاء العلماء الأعلام من محققي المفسرين والمحدِّثين والأصوليين

والفقهاء قد صرحوا بأن الربا الذي حرمه الله تعالى بنص كتابه العزيز، وتوعد

آكليه أشد الوعيد، هو الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية ومعروفًا عند المخاطبين

في زمن التنزيل، وهو أخذ مال في مقابلة تأجيل دَيْن مستَحَقّ في الذمة من قبل،

وهو المسمى (ربا النسيئة) لأن أخذ الزيادة على رأس المال إنما سببه إنساء

أجل الدين المستحق - أي تأخيره - لا في مقابلة منفعة ما لمعطيها. وهو قول الحبر

ابن عباس في تفسير آيات سورة البقرة وتدل عليه نصوص الآيات بإباحة ما سلف

منه وإيجاب الاكتفاء برأس المال على مَن تاب كما تقدم عنه رضي الله عنه.

ويؤيد هذا أمران: (أحدهما) الاستعمال اللغوي، ووجهه: أن هذا اللفظ كان

مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم وذكر في بعض

السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعًا جديدًا في الشريعة

فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي،

بل اللام في (الربا) للعهد كما صرح به بعضهم.

(ثانيهما) أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تُعهد في

التنزيل ولا في السنة ولا ما يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم إثمه وفحش

ضرره من الكبائر، ويؤكده الوعيد الوارد في الأحاديث النبوية، وهاك الإشارة

إليها بالإيجاز:

(1)

قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} (البقرة: 275) أي

من قبورهم يوم البعث والنشور {إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وهو الجنون، وقد ورد أن المرء يبعث على ما مات عليه، فإذا

كان هذا حال آكل الربا عند البعث وقبل الحساب، فكيف يكون حاله بعد ذلك في

النار؟ وهو:

(2)

قوله تعالى فيمن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ

النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقد حملوه على المستحِلِّ له لأن استحلاله

كفر.

(3)

قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أي يمحق بركته.

(4)

قوله تعالى بعد ذلك {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم بغضه ومقته عز وجل.

(5)

تسميته كفَّارًا أي مبالغًا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء

واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من انتظاره وتأخير دينه إلى الميسرة، أو

إسعافه بالصدقة.

(6)

تسميته أثيمًا، وهي صيغة مبالغة من الإثم وهو كل ما فيه ضرر في

النفس أو المال أو غيرهما وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية.

(7)

إعلامه بحرب من الله ورسوله لأنه عدو لهما، في قوله تعالى بعد الأمر

بترك ما بقي للمرابين من الربا بعد التحريم {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) .

(8)

وصفه بالظلم في قوله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا

تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) .

(9)

عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر

الكبائر ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اجتنبوا السبع

الموبقات) أي المهلكات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله والسحر

وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم

الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) .

(10)

ورود عدة أحاديث صحيحة في لعنه صلى الله عليه وسلم لآكل الربا

وموكله، وفي بعضها زيادة كاتبه وشاهديه.

(11)

في غير الصحاح أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه منها أن

درهم ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام وفي بعضها 36 زنية، وفي

بعضها بضع وثلاثين زنية وفي بعضها (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان

الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه) رواه الطبراني في

الأوسط من طريق عمرو بن راشد وقد وثقه ابن حبان على نكارة حديثه هذا.

وجملة القول أن هذا الوعيد الشديد كله لا يمكن أن يكون على ربا الفضل

الوارد في حديث عبادة وأبي سعيد وغيرهما لأنه لا ضرر فيه ولذلك اضطر بعض

الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه. ومن المعلوم من الدين

بالضرورة لصراحة أدلته في الكتاب والسنة أن الإسلام يسر لا عسر فيه ولا حرج،

وأنه الحنيفية السمحة، وقال العلماء: إن من علامة الحديث الموضوع أن يكون

فيه وعد بثواب عظيم على عمل تافه أو سهل قليل التأثير - أو وعيد شديد على

عمل ليس فيه ضرر في الدين ولا في الدنيا أو فيه ضرر قليل.

هذا، وإن بيع الأجناس الستة بعضها ببعض مع التفاضل المعتاد بالتراضي

أو بيع جنس بآخر مع تأخير القبض ليس فيه من الضرر والفساد ما يستحق فاعله

شيئًا من أنواع ذلك الوعيد فلا يفهم له علة إلا سد ذريعة ربا النسيئة الذي نهى الله

عنه وتوعد فاعله بما لخصناه آنفًا، فهو كنهيه صلى الله عليه وسلم عن خلوة

الرجل بالمرأة الأجنبية، وعن سفرها إلا مع ذي رحم محرم، وعن الانتباذ في

الأواني التي يسرع فيها اختمار النقيع المنبوذ فيها من تمر أو زبيب، وعن الجلوس

على مائدة يشرب عليها الخمر؛ لأن هذا وذاك مما يسهل وجود الخمر ويجرئ على

شربها بتأثير الألفة والقدوة، ومثله أو أشد شرب القليل من الشراب الذي لا يسكر

إلا الكثير منه. وأبلغ من هذا في النهي لسد الذريعة نهي الله عز وجل للمؤمنين

عن سب آلهة المشركين وأصنامهم مع تعليله الدالّ على ذلك وهو قوله: {وَلَا

تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) .

وأما تسمية ذلك ربا في بعض الروايات فمن باب المجاز المرسل كقوله تعالى

حكاية عن أحد صاحبي يوسف في السجن {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف:

36) وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على هذا في بعض روايات

هذه الأحاديث كحديث ابن عمر عند الإمام أحمد والطبراني (لا تبيعوا الدينار

بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا) وقد

ورد في روايات متعددة إطلاق لفظ الربا أو أشد الربا على استطالة الرجل في

عرض أخيه يعني بالغيبة، وإطلاق لفظ الزنا على مقدماته في حديث مرفوع

معروف.

وروى مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن ابن عمر قال: قال

عمر بن الخطاب لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلاً بِمِثْل ولا تبيعوا الورِق بالذهب

أحدهما غائب، والآخر ناجز، وإن استنظرك حتى يلج بيته فلا تنتظره إلا يدًا بيد

هات وهاء، إني أخشى عليكم الرماء. والرماء هو الربا.

وروى مالك والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف

ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. قال: قال عمر: لا تبايعوا

الذهب بالذهب ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بِمِثْلٍ سواءً بسواء ولا تشفوا بعضه على

بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء.

ولكن الوعيد الشديد في الربا وما يقتضيه من الورع واتقاء الشبهات أوقع

الناس في مشكلات من هذه المسألة منذ ذلك العصر إلى اليوم، فترى أن عمر

رضي الله عنه على نهيه عن ربا الفضل خوفًا من إفضائه إلى الربا وعلى

تصريحه بأن آية البقرة آخر ما نزل يعني من آيات الأحكام وأنه صلى الله عليه

وسلم توفي ولم يقل لهم فيها شيئًا غير ما كانوا يعلمونه من ربا الجاهلية، ومن

وضعه وإبطاله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقوله فدعوا الربا والريبة -

تراه على هذا قد قال فيما رواه عنه ابن أبي شيبة لقد خفت أن نكون قد زدنا في

الربا عشرة أضعافه بمخافته، ولقد صدق رضي الله عنه فكل من جاوز حد شيء

وقع في ضده.

***

فصل مهم

في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته

بالربا القطعي بالنص

قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات: وإنما حرمت المخابرة وهي

المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس

النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل

بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسمًا لمادة الربا

لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من

تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب

ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال الله تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا تنتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا.

يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا. والشريعة شاهدة بأن كل حرام

فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به

فهو واجب. اهـ كلام ابن كثير، وأورد بعده حديث النعمان في الحلال والحرام

والشبهات وهو معروف وسيأتي البحث فيه.

أقول: إن العماد ابن كثير رحمه الله تعالى قد فطن لما غفل عنه جمهور العلماء

أو قصروا في بيانه في هذه المسألة الخطيرة ولكنه لم يسلم من مجاراتهم في بعض

ما أخطأوا فيه بل أقرهم عليه واحتج لهم بما لا حجة فيه، ويؤخذ منه ومما قدمناه

عليه أمور يجب تدبرها لتحرير هذه المسألة المشكلة فنقول:

(1)

إذا كان عمر أمير المؤمنين (الذي قال فيه عبد الله بن مسعود من

أكبر علماء الصحابة إنه قد مات بموته تسعة أعشار العلم) قد خشي أن يكون

مسلمو عصره قد زادوا في الربا عشرة أضعافه من شدة خوفهم من الوقوع في شيء

منه، فإن من بعدهم قد زادوا عليهم أضعاف ما وقعوا فيه من باب الاحتياط واتقاء

الشبهات، فإنهم عدوا منه ما نُهي عنه من البيوع مهما تكن صفة النهي ومهما يكن

سببه، وعدوا منه البيوع الفاسدة عندهم، وإن يكن سبب ما قالوه في فسادها رأي

لبعضهم ما أنزل الله به قرآنًا، ولا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بيانًا،

وصارت هذه الأنواع التي لا تكاد تُحصى مقرونة في أذهان الجميع بذلك الوعيد

الشديد في كتاب الله تعالى وفي الأحاديث الصحيحة وكذا الضعيفة والمنكرة والشاذة

والموضوعة التي رووها في ذلك، ويقل في المسلمين في هذه الأعصار من يميز

بين ما يصح منها وما لا يصح فأوقعوا المسلمين في أشد الحرج المنفي بنص كتاب

الله تعالى المحكم في دينه.

(2)

إن قولهم الذي جعلوه أصلاً تتدلى منه فروع لا تحصى في الربا وهو

(إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة) غير مسَلَّم فالجهل ليس كالعلم ولا يصح أن

يُجعل دليلاً على التحريم الذي تقدم أن السلف الصالحين لم يكونوا يقولون به إلا

بنص قطعي الرواية والدلالة؛ بل نقل الإمام أبو يوسف عنهم اشتراط وروده في

كتاب الله تعالى بنص جلي لا يحتاج إلى تفسير. وقد علمنا أن الله تعالى لم يحرم

في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه

الذي من شأنه أن يتضاعف ويكون مخربًا للبيوت ومفسدًا للعمران، ومبطلاً

لفضائل التراحم والتعاون بين الناس. ومن الغريب أن ينوه العماد رحمه الله تعالى

بعلم هؤلاء الذين قال فيهم: إنهم حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك

المفضية إلى الربا، وغفل عن كونهم إنما ضيقوا ما وسَّعه الله تعالى وعسروا ما

يسره مخالفين في ذلك لنص كتابه ولسنة رسوله الذي أمر أصحابه وعماله وأمته

بالتيسير ونهاهم عن التعسير كما هو ثابت في أحاديث الصحاح والسنن المشهورة.

(3)

قوله في توجيه مسلكهم إن الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه

مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام - فيه نظر من ثلاثة وجوه:

(أحدها) أن الوسائل ليست كالمقاصد في نفسها بل هي دونها في الخير

والشر والنفع والضر والحلال والحرام كما يظهر من الأمثلة التي ذكرنا آنفًا (في ص

39) أن النصوص وردت في النهي عنها لأنها ذريعة إلى الحرام القطعي.

(ثانيها) أن تحديد الوسائل في المسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من

أشق الأمور فإذا لم تكن منصوصة اختلفت باختلاف الأفهام والآراء.

(ثالثها) جهة الدلالة فيها فإن من أحكام المقاصد مما لا يثبت إلا بالنص

القطعي كأصل العبادة والتحريم الديني فالوسيلة له أولى بذلك، ومنها ما يثبت

بالدليل الظني. واعتبر ذلك بقوله تعالى في الزواج: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً

أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3) فقد أوجب تعالى على مَن

خاف على نفسه عدم العدل بين الزوجتين أو الأزواج أن يتزوج واحدة لأن التعدد

وسيلة للعول وهو الظلم المحرم لذاته. وكون تعدد الزوجات وسيلة إليه عند أكثر

المعددين في هذه الأزمنة مشاهَد، ويدل عليه من النص قوله تعالى: {وَلَن

تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) الآية ومع هذا لم

يقل أحد من هؤلاء الفقهاء بتحريم التعدد وعدم ثبوت الزوجية وما يترتب عليها من

الأحكام به.

(4)

استدل العماد على القاعدة الكلية التي ذكرها بحديث النعمان بن بشير

مرفوعًا: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن

كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في

الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن

لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) الحديث وهو في الصحيحين وهذا

اللفظ هو الذي اختاره النووي في الأربعين. وقد روي عن غير النعمان بألفاظ

تختلف بعض الاختلاف. وهو لا يدل على تلك القاعدة الكلية لإجماع المسلمين على

أن من رعى سائمته أو دابته حول حمى وأمكنه اجتناب الوقوع فيه لا يكون رعيه

حرامًا كالرعي في الحمى وأن اتقاء الرعي حول الحمى إنما يطلب تورُّعًا واحتياطًا.

وللعلماء في تفسير (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) تفصيل؛ لأنه إما أن

يكون من الكثيرين الذين لا يعلمونهن وإما أن يكون ممن يعلمون الحكم ولا يشتبهون

فيه، فإن كان ممن يعلمون أن هذا المشتبه فيه - لخفاء في وجه حله أو حرمته -

حلال فإنه لا يأثم به وإن كان ممن يعلمون أنه حرام فإنه يأثم. وأما من يقع في

المشتبه مع اشتباهه عليه فإنه لا يأمن أن يكون الحرام فكأنه تجرأ على الحرام، وكذا

من علم أنه ذريعة إلى الحرام كالذي يتزوج على امرأته وهو لا يثق من نفسه بالعدل

لكراهته للأولى وحبه للثانية فإنه لا يلبث أن يظلم، فهذان محملان للحكم بوقوعه في

الحرام وليس المعنى أن نفس المشتبه فيه حرام لأنه يخرج بهذا عن كونه مشتبهًا

فيه.

قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري: ونختلف في حكم

الشبهات فقيل التحريم وهو مردود، وقيل الكراهة، وقيل الوقف كالخلاف فيما

يقبل الشرع. وحاصل ما فسره به العلماء الشبهات أربعة أشياء: (أحدها)

تعارض الأدلة كما تقدم (ثانيها) اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى (ثالثها)

أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك (رابعها) أن المراد

بها المباح. ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل

يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار

ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.. إلخ.

ومن ألفاظ الحديث ما هو صريح في أن الوقوع في الشبهات مدرجة للوقوع

في الحرام لا وقوع فيه كحديث ابن عمر (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما

مشتبهات فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع

في الحرام) .

وقال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها

منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وفسرها

تارة باختلاط الحلال والحرام. وذكر أن أصحابهم الحنابلة اختلفوا فيه هل هو

مكروه أو محرم؟ على وجهين وأن منهم من حمل ذلك على الورع.

وذكر هو وابن مفلح في الآداب الشرعية آثارًا عن كبار علماء السلف في

ذلك: (منها) ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان

لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام (ومنها) كان النبي

صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا

يجتنبون الحرام كله.

قال الحافظ ابن رجب: وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه. قال سفيان:

لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إليَّ. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل

منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن

فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه. نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن

راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما وغيرهما من

الرخصة - وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي (؟)

من الربا والقِمَار، ونقله عن ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه

حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرَّف في الباقي،

وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر معه

السلامة من الحرام بخلاف الكثير.

ثم قال: ومن أصحابنا مَن حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح

التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه وهو قول الحنفية وغيرهم

وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بِشْر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل

ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه كما تقدم عن مكحول

والزُّهْرِي، وروي مثله عن الفضيل بن عياض، وروي في ذلك آثار عن السلف،

فصحَّ عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية لا يتحرج من مال

خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام؟ ! قال: أجيبوه فإنما الهناء (أو المهنأة) لكم والوزر

عليه. اهـ. المراد منه.

فعلم بهذا كله أن من الجهل المبين أن يُعد ما يشتبه في أمره ولا يتبين وجه

الحلال والحرمة فيه من الحرام المحض ولو من الصغائر، فكيف يجوز أن يعد من

أكبر الكبائر التي أنذر الله مرتكبها بأشد الوعد ولعنه رسوله صلى الله عليه وسلم؟

وإنما يكثر مثله في كلام المقلدين الذين يأخذون بالتسليم كل ما يرونه في كتب مَن

قبلهم ولا سيما علماء مذاهبهم، ولا يعنون بالنظر في أدلتهم، بل يأخذونها بالتسليم

على علاتها. وعلى من ينظر في الأدلة أن يستقصي ما قاله أهلها المستقلون ويتحرى

في البحث عن غيرها وينصب الميزان المستقيم لترجيح بعضها على بعض، لا كما

فعل أخونا المفتي الهندي في مسألة الربا.

إذا تمهد هذا ظهر به الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد

فاعله بما لم يتوعد بمثله على ذنب آخر - أنه ربا النسيئة الذي كان معروفًا في

الجاهلية كما قال من ذكرنا عباراتهم من أعلام العلماء المستقلين والتابعين لبعض

الأئمة في النظر والاستدلال، لا مجرد التعبد بالآراء والأقوال.

وإمام هؤلاء القائلين بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس

رضي الله عنهما. ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير

الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر مهما يكن أصل ذلك الدين من بيع أو قرض

أو غيرهما، وهذا النوع هو الذي كان يتضاعف بعجز المدين عن القضاء مرة

أخرى حتى يصير أضعافًا مضاعفة ويستهلك جميع ما يملكه المدين في كثير من

الأحيان.

وبهذا تظهر حكمة العليم الحكيم في ذلك الوعيد الشديد عليه وفي تسميته ظلمًا،

ولا يظهر هذا في كل قرض جر نفعًا، ولا في بيع أحد الأجناس بمثله متفاضلاً

نقدًا أو نسيئة، فضلاً عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط

الفقهاء فيها كما يأتي بعد وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة

الربا المحرم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، وقد ذكرنا آنفًا بعض ما لها

في الشريعة من الأمثلة، ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه

أو خلاف الأولى، وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني، وإنما يكون التمييز

بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص

وترجيح الأقوى كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص

القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله

به. وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص

القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر. وبينا فيه أن التعبير في بعض

الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى لفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم.

وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث

عبادة (إلا يدًا بيد مثلاً) بمثل إذا اتحد الجنس، والاكتفاء بالتقابُض إذا اختلف.

ومما يدل على أن هذا النهي غير مقصود بالذات ما صح في إباحة بيع العرايا

والحيلة في بيع الكثير من التمر الرديء بالقليل من التمر الجيد بأن يجعل العقد على

بيع كل منها بالثمن. وهذا أصل من أصول أدلة مَن جوزوا الحيلة في الشرع ولكن

لا يصح هذا الاستدلال إلا في المسائل التي لا تضيع فيها علة الحكم وتذهب حكمة

الشارع فيه كمسألة بيع التمر بالتمر التي أفتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وسنعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا إتمامًا لتحقيق مسألة الربا العامة من كل وجه.

_________

ص: 37

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حكم قراءة الجرائد والمجلات

(س1) من صاحب الإمضاء في دبي - خليج فارس

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة السيد الأجلّ مفتي الأمة، وبحر العلوم، وعلامة الزمان، وترجمان

القرآن، قامع المبتدعين، البحر الزاخر، والصارم الباتر، السيد محمد رشيد رضا

رضي الله عنه وأرضاه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فالمرجو من فضيلتكم الجواب عن هذا السؤال: وهو أنه قد حصل في بلدتنا

خلاف بين طلبة العلم؛ فإن فريقًا منهم يعترض على فريق آخر بسبب انكبابهم على

قراءة الجرائد والمجلات الأسبوعية واليومية؛ ويشمل ذلك الجرائد المصورة،

فالواجب أن تصرفوا أوقاتكم في مطالعة كتب السنة والتفاسير والفقه؛ لأن بها سعادة

الدارين، وهذه الجرائد من لهو الحديث المشار إليه في الآية، والدليل في عدم الفائدة

منها أن هذه مصر؛ الجرائد والمجلات بها مذ عهد بعيد ولم تنتفع ولم تتخلص من

الرق، وهذه الأمة العربية جند الإمام ابن السعود أيده الله بنهوضهم في هذه المدة

القريبة حصل خير كثير والمستقبل يبشر بالخير مع أنهم لم يطالعوا جرائد

ولا مجلات.

ويقول الفريق الآخر هل الخير إلا في الجرائد وهي تذكي الذهن وتحرك

الأفكار وتفيد عن تطور العالم وهي من أنعُم الله الكبار.

فالرجاء من فضيلتكم الإيضاح والتخطئة والتصويب لأنه حصلت مشاحنة

تكدر الخاطر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

أحمد بن حسن

(ج) إن الجرائد والمجلات التي توصف بالدورية مثل الرسائل والكتب في

القصص والأدب والتاريخ والعلوم منها الضار والنافع، وفيها الحق والباطل، فلكل

من مادحيها وذامِّيها وجه، ويختلف حكم قراءتها باختلاف موضوعاتها واستعداد

قارئيها في العلم ورسوخ العقيدة الصحيحة، والآداب الشرعية القويمة، فإن في

بعضها ما هو كفر صريح وصد عن الدين بضروب من الشبهة والتأويل، وفي

بعضها تزيين للشهوات المحرمة وغير ذلك من المعاصي، كما أن في هذه وغيرها

كثيرًا من المسائل العلمية والتاريخية وأخبار السياسة التي تفيد صاحبها عبرة وخبرة

وتثقيفًا، وإنني أعلم أن كثيرًا من قرائها قد فسدت عقائدهم وآدابهم، ولا بد أن

تكونوا رأيتم في المنار ردودًا على بعضها بالتعيين تارة وبالإبهام تارة، وأن كثيرًا

من قرائها لا يحملهم عليها إلا التلذُّذ والتسلِّي بما فيها من الغرائب، دون ما

يزعمون من الفوائد، وناهيك بالمصورة التي تعنى بصور النساء العاريات

والمتبرجات، وأخبار العاشقين والمعشوقات، والمدار في نفع ذلك وضره منوط

بحسن الاختيار وسوء الاختيار.

فمن الجرائد المصرية التي يحسن اختيارها في قطر إسلامي كبلادكم جريدة

كوكب الشرق اليومية والفتح والشورى والمصلح الأسبوعيات، ومن المجلات

المصرية مجلة مكارم الأخلاق والزهراء والهداية ومجلة الشبان المسلمين، ومن

الجرائد السورية العهد الجديد والنداء اليوميتان والنذير الأسبوعية من جرائد بيروت

وجريدتا الحياة والجامعة العربية من جرائد فلسطين والهداية البغدادية والحلبية،

وأم القرى الحجازية.

ومن المجلات مجلة الكشاف البيروتية والإصلاح الحجازية ومجلة الكويت.

فمَن كان يريد قراءة الصحف من أهل بلادكم الإسلامية العربية لما فيها من

الفوائد العلمية والأدبية والسياسية مع الأمن من المفاسد الدينية ونزعات الإلحاد،

وإباحة الفسق والفساد، فليختر لنفسه بعض هذه الجرائد والمجلات، ومن رغب

عنها إلى الصحف التي ينشرها بعض الملاحدة أو الكفرة لإفساد عقائد المسلمين

وأخلاقهم وتفريق كلمتهم ويجذبون الشبان إلى قراءتها بصور النساء العاريات وغير

ذلك من مثارات الشهوات - فهم يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم وبلادهم من حيث

لا يشعرون.

***

تفسير آية (ما ننسخ

)

(س2) من صاحب الإمضاء (الطلفون - الدار البيضاء بالمغرب)

صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل رشيد رضا دامت معاليه، تحية وسلامًا لائقين

بمقامكم الشريف، هذا فالمنهى لسماحتكم سؤال أرجو الجواب عنه وهو قوله تعالى:

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن

رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ

نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:

105-

106) .

ملخص السؤال المعروض لفضيلتكم هو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ

نُنسِهَا} (البقرة: 106) هنا قد ظهر لي أن ما ننسخ من توراة وإنجيل أو نُنسي

اليهود في التوراة وننسي النصارى في الإنجيل. لا كما قال بعض المفسرين أن

عشرين آية نسخت ويستدلون بالآية، وأستدل على رأيي بأن الآية السابقة قوله

تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ

خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105) وأي خير أفضل من القرآن؟

هذا وإني ملتمس من فضيلتكم أن تمنحوني عفوًا والكريم مَن عذر مَن اعتذر،

وأقال عثرة من عثر، إن وقع غلط في فهمي للآية، مع أتمّ الرجاء أن تلهمني إلى

الصواب، وتبدي نظركم السديد، وأسأله سبحانه أن يسدد أعمالنا ويوفقنا لما يحبه

ويرضاه، ودمتم محروسين بعنايته، والسلام ختام.

...

...

...

... السيد محمد اليعقوبي

(ج) جمهور المفسرين والفقهاء على أن النسخ المراد من هذه الآية هو

نسخ آيات الأحكام الشرعية، فعلى هذا القول يظهر لفهمكم في الآية وجه وجيه

بقرينة الآية التي قبلها. وللآخذين برأيهم أن يقولوا: إن هذه القرينة لا تقتضي

الحصر فالآية تدل على أن ما ينسخه الله تعالى من التوراة والإنجيل وما ينسخه من

القرآن أو ينسيه منهما سواء في كونه يأتي بخير منه أو مثله، ولكن هذا لا يدل

على أن في القرآن عشرين آية منسوخة وهو العدد الذي اعتمده السيوطي في

الإتقان، ولا على ما قال بعضهم من أن المنسوخ بضع آيات فقط، فالعدد لا يدخل

في مفهوم الآية من باب ولا من طاق.

وفي الآية وجه آخر وهو أن لفظ (آية) فيها معناه، الآية الكونية أي المعجزة

التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام؛ إذ كان الكفار يطالبونه عليه السلام بآية من

تلك الآيات ولا سيما آيات موسى عليه السلام إذ {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا

أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) ويؤيده قوله تعالى بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن

تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وهو الذي اختاره

شيخنا وتجدونه مفصلاً في تفسيرها من الجزء الأول من تفسيرنا.

***

حبوط أعمال المشركين بالشرك

(س3) من صاحب الإمضاء في البترون (لبنان)

حضرة الأستاذ الجليل، إمام المسلمين، ومحيي شريعة سيد المرسلين،

الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم.

السلام عليكم وبعد:

فقد قرأت في العدد الرابع من المجلد الثلاثين في مجلتكم الغراء ما يأتي:

بعد ما ذكر الله في كتابه أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم أعظم درجة وأسمى

مقاماً من الذين يسقون الحاج ويخدمون البيت. قلتم في تفسير هذه الآية التي تؤدي

هذا المعنى: لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها

درجة عند الله إذا فعلا ما يرضي الله ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف

الجاهلية، ولكن الشرك يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها

كما تقدم. اهـ.

فالعجبُ كيف يُحْبِطُ الشركُ الأعمالَ التي هي بحد ذاتها حسنة خيرية والله لا

يضيع للإنسان مثقال ذرة من خير أو شر كما جاء في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وعدل

الله أجلُّ من أن يجعل المشرك الذي يفسد في الأرض كالمشرك الذي يعمل الأعمال

الخيرية. ومعلومكم أن كلمة (مَن) عامة كما هو معلوم من علم الأصول تعم

المؤمن والمشرك. فالرجاء نشر الجواب على صفحات مجلتكم الغراء ودمتم.

...

...

...

مدير مدرسة البترون الإسلامية

...

...

...

... محمد فؤاد إشراقية

...

...

...

... من طرابلس الشام

(ج) أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى:

{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا

كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي

الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (المائدة: 5) {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَزْناً} (الكهف: 105) وأما وجهه المعقول فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول

الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية

ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون

كقليل من الماء أو نقط من العطر تُلقَى في مجتمع القذر من الكنيف لا يكون لها

أدنى تأثير في تطهيره، فضلاً عن تطييبه.

وأما قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

} (الزلزلة: 7) إلخ فيجيب عنه

العلماء بأنه عام مخصوص بغير المشركين والكافرين وقالوا: إنهم يُجزَوْن في الدنيا

على أعمالهم الحسنة، ولكن موضوع النص أن كل أحد يعرض عليه يوم الجزاء ما

عمل من خير فيراه في الحساب الذي يترتب عليه الجزاء فإذا وُزنت أعمال

المشرك الحسنة مع شركه وما له من سوء التأثير في تدنيس نفسه بالخرافات

والسيئات تطيش كِفَّة تلك الحسنات فيكون معنى حبوط عمله أنه لا يرى له تأثيرًا

في النجاة من العذاب ودخول الجنة، فكأنه لا وجود له إلا أن يكون في كون عذابه

يكون دون عذاب مَن لم يعمل تلك الأعمال، وبهذا تنتفي المساواة بين المشركين

المنافية للعدل، وقد بيَّنا في الكلام على الجزاء أن عذاب الكفار في النار يتفاوت

بحسب أعمالهم وما كان لها من التأثير في أنفسهم كغيرهم إلا أنها لا تبلغ درجة أقل

المؤمنين عملاً صالحًا، وقد ورد في أصحاب المعاصي من المسلمين أن أصحاب

الحقوق عليهم من العباد يأخذون من حسناتهم بقدر حقوقهم عليهم فإذا لم تفِ بها

حملوا من أوزارهم بقدر ما بقي منها، وورد في الحديث تسمية هؤلاء بالمفلسين.

ولكن مَن مات على الإيمان الصحيح لا بد أن تكون عاقبته الخروج من النار إذا

عُذب فيها بمعاصيه ثم يدخل الجنة.

_________

ص: 46

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

(س 4 - 6)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل

السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي، راجياً التفضل بالإجابة عليه:

1-

هل يجوز لجمعية إسلامية أُسست لخدمة الدين وأبناء الأمة الإسلامية

كجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت وغيرها - أن تُدخل في مدارسها معلمين غير

مسلمين لتعليم أولاد الأمة الذين هم مطمح أنظارها في نشر الدين وتقويته مع وجود

معلمين مسلمين فيهم الكفاءة التامة لما عساه أن ينشأ عن غير المسلمين أمور تنافي

ديننا الإسلامي سواء بالمقال كبثّ بذور الفساد في النفوس، أو بالحال ككونهم

بصفات لا تلائم مبادئ الدين مما تنتشر به النفوس الساذجة؛ لأن التلاميذ مرآة

معلميهم، وفيهم قابلية انطباع ما يصدر عنهم من صلاح أو فساد، هل ذلك يجوز

أم لا؟

2-

ما قول السادة علماء الدين الإسلامي الحنيف فيمن لا يصوم ولا يصلي

خوفاً من تجعيد ثيابه كالبنطلون وغيره فهل هو مسلم أم لا؟ وما هي الضرورة التي

يباح فيها عدم الصوم والصلاة؟

أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا جميع أسماء مؤلفاتكم؛ لأننا نريد اقتناءها

وأن تتكرموا بالجواب الكافي عن ذلك كله.

ولكم من الله تعالى عظيم الأجر والثواب.

...

...

...

... مصطفى أحمد شهاب

...

...

...

...

... بيروت

أجوبة المنار

(4)

حكم جعل غير المسلم معلماً لأولاد المسلمين:

يجوز للأفراد وللجمعيات استئجار غير المسلم لتعليم أولاد المسلمين ما

يحتاجون إليه من العلوم الدنيوية النافعة؛ كالحساب والاقتصاد مثلاً، إذا كان متقنًا

لذلك ولا يُخشى على الأولاد ضرر منه في دينهم ولا في تربيتهم القومية والملية، ولا

يجوز مع خشية الضرر مطلقاً مهما يكن نوعه وإذا وجد معلمان سيان في ذلك العلم

وفي فن التعليم أحدهما مسلم والآخر غير مسلم فإسلام المسلم كافٍٍ في ترجيحه كما

أن المسلم التقي الحسن الآداب يرجح على مَن دونه في التقوى والأدب لا على

الفاسق فقط. ورُبَّ كافر أقل ضرراً في التربية من فاسق، فالعبرة بدرء المفسدة أولاً

ثم بتحقق المصلحة.

***

(5)

ترك الصيام والصلاة لغير عذر شرعي:

لا يترك الصلاة مسلم صحيح الإيمان خوفاً من تجعيد ثيابه، ولا لما هو فوق

ذلك تشعيثاً لهيئته وهندامه، ففاعل ذلك ليس له من الإسلام نصيب إلا لقبه

الموروث عن آبائه، وإنما الإسلام الإذعان العملي الذي يقتضيه الإيمان الصحيح

بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد أن ترك الصلاة في مثل هذا

مسبب عن عدم الإسلام لا سبب له في الغالب كما فصلناه في تفسير قوله تعالى:

{.. فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11)

فراجعْه. ولا عذر يبيح ترك الصلاة إلا سقوط التكليف مطلقاً كالجنون أو موقتاً

بنوم أو إغماء أو نسيان مثلاً. وأما الصيام فيباح تركه في المرض والسفر على أن

يقضي ما فاته بعد الشفاء والإقامة ويجوز كذلك للحامل والمرضع أن تفطر في

رمضان إذا خافت على نفسها أو ولدها. ومن عجز عن الصيام لهرم أو مرض لا

يرجي برؤه أفطر وأطعم مسكيناً عن كل يوم من رمضان كما هو مفصَّل في كتب

الفقه، فمن كان غير عالم بذلك فعليه أن يسأل عنه أهل العلم ولا تتسع هذه الفتاوى

لتفصيله كل ما سُئلنا عنه.

***

(6)

مؤلفاتنا المطبوعة:

(1)

تفسير القرآن الحكيم وقد تم منه تسعة أجزاء.

(2)

تفسير الفاتحة وقد طُبع معه مقالات في التفسير وغيره للأستاذ الإمام.

(3)

خلاصة السيرة المحمدية وكليات الإسلام.

(4)

الوحدة الإسلامية وفيه مقالات المصلح والمقلد.

(5)

يسر الإسلام والتشريع العام.

(6)

شبهات النصارى وحجج الإسلام.

(7)

نظرة في عقيدة الصلب والفداء عند النصارى.

(8)

الخلافة أو الإمامة الكبرى.

وتجدون أسماء هذه الكتب وغيرها مع بيان أثمانها في غلاف المنار أحياناً.

***

أسئلة من صاحب الإمضاء في زِنْجِبَار

(س7 - 12) لصاحب الإمضاء

حضرة العلامة صاحب المنار الأغرّ السيد محمد رشيد رضا:

1-

نقدم إلى فضيلتكم السؤال الآتي لتجاوبوا عنه في مجلتكم الشريفة.

سيدي مَن هم المحققون من علماء الإسلام، فهل يطلق هذا اللقب على علماء معينين

أو لكل فن من فنون علوم الدين ووسائلها محققون؟ فإن كان يطلق على معينين

فاسردوا لنا أسماء بعضهم، وإن كان لكل فن محققون فاسردوا لنا أيضًا أسماء

بعض من محققي التفسير.

ولكم من الله الأجر الجزيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

2-

ما قولكم في الترضِّي على الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة والدعاء

لسلطان البلد في الخطب كخطبة الجمعة أو العيدين أو الخسوفين أو الاستسقاء،

وحقيقة أنه جارٍ من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أم لا؟

3-

هل الأذان الثاني يوم الجمعة بين يدي الخطيب تحت المنبر كان في عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟

4-

هل ما يفعله المؤذنون على مئذنة المساجد قبل أذان صلاة الصبح ويوم

الجمعة من الأذكار والأدعية والصلاة على رسول الله بصوت نُكُر - واجب؟

5-

هل من وقف أو أوصى بأن يصنع يوم موته أو بعده طعام أو إعطاء

دراهم معدودة لمن يتلو القرآن العظيم أو يسبح أو يهلل أو يصلي على النبي صلى

الله عليه وسلم أو يصلي نوافل ويهدي ذلك إلى روح الموصي أو من يريده هل

تكون وصيته ووقفه صحيحين أم لا؟

6-

هل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين

التهليل أو أي ذكر مع تشييع الجنائز؟ فإن قلتم: لا، هل يجوز، أم بدعة،

أيحسن عملها أم لا؟

سيدي: الرجاء من فضيلتكم فيما تثبتون ابتداعه أسماء المبتدعين وإماتتهم به

الدين. ولكم الأجر الجزيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... محمد عبد الله قرنح

أجوبة المنار

(7)

العلماء المحققون:

في علماء كل علم وفن محققون كالأئمة الواضعين لها والمجتهدين فيها، ونقلة

مقلدون لهم، والمؤلفون يطلقون لقب المحقق على من يعجبهم بحثه واستدلاله، وقد

اشتهر بلقب المحقق أفراد من العلماء عند أكثر المؤلفين كالسعد التفتازاني في

العلوم النظرية وابن القيم في العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والكمال بن الهمام

في فقه الحنفية والنووي في فقه الشافعية. وابن هشام في النحو. وأما التفسير

فللعلماء فيه مسالك لا نعرف أحداً محققًا فيها كلها ولكن الإمام الطبري أجمعهم

للروايات والمعاني الفقهية والتاريخية، والحافظ ابن كثير أمثلهم في تحقيق التفسير

المأثور، والزمخشري أدقّهم في تحرِّي المعاني اللغوية للألفاظ متناً ونحواً وبياناً إلا

ما يؤيد به مذهب جماعته المعتزلة، ومثله البيضاوي من مفسري الأشعرية في

المسائل الكلامية والفقهية والعربية، والخفاجي مُحَشِّيه في العلوم العربية، وأبو

السعود في نكت البلاغة.

***

(8)

الترضِّي عن الصحابة والدعاء للسلاطين:

الترضي عن الخلفاء الراشدين وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة

رضي الله عنهم حسن وقد شرع الله لنا أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا

بالإيمان وهؤلاء العشرة خيارهم، ولا ينبغي أن يلتزم دائماً لئلا يظن العوام أنه

واجب، وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة فينبغي

للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر أن هذا دعاء مستحب على

إطلاقه ولم يطلبه الشرع في الخطبة فهو ليس من أركانها ولا من سننها. وإلا بقي

مواظباً عليه.

وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين أو لأولياء، أمورهم ويراعَى فيه أن لا يكون

متضمناً لمنكر كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما، ولا لألفاظ من الإطراء في

المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجَّه إلا إلى الله تعالى.

وأما الدعاء للسلطان المعين باسمه فهو بدعة استحسنها بعض المؤلفين

بشرطها.

قال الإمام النووي في المجموع - أي شرح المهذب -: وأما الدعاء للسلطان

فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، وظاهر كلام المصنف وغيره أنه بدعة

إما مكروه وإما خلاف الأولى. هذا إذا دعا له بعينه، فأما الدعاء لأئمة المسلمين

وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش

الإسلام - فمستحب بالاتفاق.

والمختار أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه والله

أعلم. اهـ.

وقد صرح بعض الفقهاء بأن ما يجب من الإنصات عند إلقاء خطبة الجمعة

يستثنى منه الإنصات وقت الدعاء للسلاطين وخاصة الظلمة والفساق منهم. وقد

بينا هذا في مواضع لا أذكر منها الآن إلا ما في المجلد التاسع من المنار (سنة

1324) (الموافق 1906) ، ونقلنا هنالك عبارة من شرح الإحياء للزبيدي نعيدها

هنا مع ما قبلها مما قاله في الدعاء للخلفاء والصحابة وهو:

وينبغي أن تكون الخطبة الثانية هكذا: الحمد لله نحمده ونستعينه.... إلخ؛

لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر

الخلفاء الراشدين عموماً والعمين والسبطين وأمهما وجدتهما مستحسن، وإن احتاج

إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة فلا بأس أن

يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ثم يعطف عليهم بالباقين من

العشرة. ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل

الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به

إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ولا نحو ذلك فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة

الأمر والآن صار واجباً؛ لأنه مأمور به من السلطان.

هذا ما ذكره عن فقهاء الشافعية وهو معنى ما تقدم عن المجموع إلا قوله

الأخير بوجوبه فلم أره في كتبهم ثم أورد جملة مما قاله علماء مذهبه الحنفية فقال:

وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو

يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم

بالصلاح لا بأس به وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله؛ فإن

تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام [1] وفيه إرهاب على الأعداء [2] وقد اتفق أن

الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع

الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان وأطنب فيه فلما فرغ من صلاته

أنكر عليه وقال - مع كونه تركيًّا -: ما لهذا الخطيب يقول في خطبته.. السلطان

السلطان ليس شرط الخطبة هكذا؟ ! ، وأمر به أن يُضرب بالمقارع فتشفَّع له

الحاضرون. هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه، فما خلص إلا بعد الجهد

الشديد. واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في أحد

جوامع مصر وكان مغروراً بدولته مستبدًّا برأيه، وربما نازعته نفسه في خلافه على

مولانا السلطان نصره الله تعالى، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد

اسم السلطان فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن

مصر إلى بعض القرى. فهذا وأمثال ذلك ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى

برضا الناس فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي، نسأل الله العفو منه

آمين. اهـ.

***

(9)

أذان الجمعة:

إنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد لصلاة الجمعة

وهو الأذان بين يدي الخطيب؛ لأن كل المؤمنين الموجودين في المدينة كانوا

يجتمعون في المسجد ويتسابقون إلى التبكير إليه. وحدث الأذان الآخر في عهد

عثمان رضي الله عنه للحاجة إليه بكثرة الناس وذلك معروف في كتب الصحاح

والسنن المشهورة، وقد بيناه من قبل.

***

(10)

الزيادة في الأذان:

ما يفعله المؤذنون في كثير من البلاد من الأذكار وغيرها قبل أذان الصبح

وأذان الجمعة على المنارة - كله بدع، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

بعد الأذان متصلاً به مع رفع الصوت، ولا يدخل ذلك في عموم الذكر والصلاة

عليه صلى الله عليه وسلم الواردة في الأحاديث المطلقة؛ لأنه يجب علينا التزام

ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول من إطلاق وتقييد ولا سيما شعائر الإسلام

كالأذان والإقامة، فلا نزيد فيهما ولا ننقص منهما، وقد شرحنا هذه المسألة مراراً،

ولو قلت لمن يفعلون ذلك ولمن يقرونهم عليه: هل لنا أن نزيد في إقامة الصلاة

ذكراً أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنه من

الشعائر التي يجب فيه التزام المأثور الذي كان عليه المسلمون في عهده صلى الله

عليه وسلم فقل: أوَ ليس الأذان كذلك؟ وكذلك المدائح الشعرية التي يتغنى بها

المؤذنون يوم الجمعة قبل الأذان بدعة، ومنهم من كان يفعلها قبل الخطبة أيضًا وقد

كثر في عصرنا من أنكرها من أنصار السنة في ديار مصر والشام فتُركت في كثير

من المساجد وستُترك في باقيها إن شاء الله تعالى.

***

(11)

الوصية والوقف في إهداء العبادة للميت:

الذي أعتقده أن العبادات البدنية لا تنفع إلا مَن عبد الله تعالى بها مخلصاً له

فيها، وأن فاعلها لا يملك إهداءها إلى غيره ولا ينتفع بها من تُهدَى إليه، وعلى هذا

لا يصح أن يوصى لفاعلها بمال لأجل إهدائها للموصي ولا الوقف لأجل ذلك.

ولكن بعض الفقهاء يرون أن ثواب قراءة القرآن يصل إلى الميت الذي يُقرأ

لأجله ويُهدى ثوابه إليه كالصدقة لا الصلاة، ويجيزون الوصية به والوقف عليه،

فالمسألة مما تنازع فيه العلماء فوجب ردّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله

عليه وسلم، فمن كان أهلاً لمعرفة أدلتها منهما وجب عليه اتباع ما ظهر له من

دلائلهما بنفسه؛ وإلا فبإرشاد بعض العلماء بهما، وقد بينت أدلة ذلك بالتفصيل في

تفسير آخر سورة الأنعام (ص256، ج8 تفسير) .

***

(12)

الذكر برفع الصوت في الجنائز:

إن ما اعتاده بعض أهل الطرق وغيرهم من الذكر في حال تشييع الجنازة

برفع الصوت وزيادة بعضهم قراءة أبيات من البردة - كله من البدع، وقد ورد

النهي عن رفع الصوت في الجنازة مرفوعاً وفي عمل الصحابة. قال ابن مفلح في

الفروع: ويُسن الذكر والقراءة سِرًّا وإلا الصمت، ويُكره رفع الصوت ولو بالقراءة

اتفاقاً. قاله شيخنا، وحرمه جماعة من الحنفية وغيرهم. وقال الشيخ الموفق في

المُغني:

ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع

الجنازة بصوت، قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباس أنه قال: كان

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند

الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وذكر الحسن عن أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند ثلاثة فذكر نحوه.

وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وإمامنا (أي

أحمد) وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له. وقال الأوزاعي:

بدعة، وقال عطاء: محدثة. وقال سعيد بن المسيب في مرضه: إياي وحاديهم هذا

الذي يحدو لهم يقول: استغفروا له غفر الله لكم، فقال ابن عمر: لا غفر الله

لك، رواهما سعيد. قال أحمد: ولا يقول خلف الجنازة: سلم رحمك الله، فإنه بدعة،

ولكن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الله إذا

تناول السرير.

_________

(1)

هذه دعوى باطلة؛ لأن زمن التشريع والأحكام الدينية - ولا سيما الشعائر - لم يكن فيه شيء من، ذلك بل لم يكن فيه ملوك مفتونون بالتعظيم.

(2)

وهذا باطل أيضًا؛ فإن أعداءنا يحتقروننا بشدة إطرائنا وتذللنا للسلاطين.

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مساواة المرأة للرجل

في الحقوق والواجبات

الشبهات على حق المساواة في الميراث

- 12 -

كتب الدكتور فخري ميخائيل الكاثوليكي في محاضرته كل ما قاله الدكتور

عزمي اللاديني في مناظرته، وما أيدته به الآنسة هانم محمد - والظاهر أنها على

عقيدته - من الشبهات على وجوب مساواة المرأة للرجل في الميراث، وزاد

شبهاتهما إيضاحًا وشرحًا، إذ كان أوسع منهما وقتًا، وانفرد عزمي دونه بزعم

واحد، وهو أن نظام الإرث وُضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث

من جمود تقتضي أطوار الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يتركون بعض أحكام

الميراث بوقف أموالهم على من يريدون إعطاءهم من مال مورِّثهم فوق ما تعطيهم

تلك الآيات.

هذا ما فهمته من كلامه في هذا الزعم فأبدأ بالتصريح ببطلانه، ثم أنقل كلام

الدكتور فخري بنصه وأفنده بالدليل العقلي فيتم الرد على الجميع.

ألا فليعلم مُفْتَحِر هذا الزعم أن الوقف على الذرية بما يخالف الفريضة

الشرعية ليس فيه نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

يرتقي في قطعيته إلى أن يكون مخصصًا لكتاب الله تعالى، بل هو من توسُّع بعض

الفقهاء المختلف فيه بينهم وحجة من يقول ببطلان هذا الوقف وحظره أقوى من

حجة من يقول بجوازه وصحته.

ومن القائلين ببطلانه المحققون من الحنابلة، وقد صرحوا ببطلان قاعدة

الحنفية: أن شرط الواقف كنص الشارع، وإنما الوقف الصحيح هو ما يُحبس على

أعمال البر قربة لله تعالى، وكل شرط خالف كتاب الله تعالى فهو باطل بنص

الحديث الصحيح الذي لا خلاف في صحته، وقد بينا هذا في المنار من قبل، ولا

محل له في هذا البحث.

ثم إن الذين ينتقصون من بعض أحكام الشريعة في الميراث إنما يخالفونها في

توريث البنات غالبًا فيحبسون أملاكهم على الذكور وحدهم، فالتطور الذي يحتج به

طلاب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث يقتضي حرمانها منه ألبتة لا مساواتها

للرجل فيه، فإن الذين يقفون أطيانهم ودورهم على أبنائهم يرون أن بناتهم لسن

أهلاً لإرث شيء منها؛ لأنهن صرن أو سيصرن أرومات لأسر (عائلات) أخرى

غير أسرة أبيهن، ومن ثم كانوا فاسقين عن شرع الله العدل المبني على أساس

الحكمة والرحمة.

وأما ما كتبه الدكتور فخري في بحث الواجب المالي للأمومة على المرأة

المقتضي للمساواة عنده فهذا نصه السقيم بحروفه:

(على المرأة واجبات مالية للأمومة؛ لأنها - رغم قيام الرجل بمصروفاتها

وأطفالها - مكلفة بحالة عجز زوجها عن القيام بواجباته المادية نحو العائلة بالعناية

بأطفالها وبنفسها على الأقل، هذا إذا لم تفكر - بعطفها المعروف عنها كامرأة تحب-

في العناية بزوجها في حالة عجزه. فإذا كان لها موارد ثروة خاصة فإنها

ستصرف على العائلة، ولذلك طالبنا بتعليم الفتاة حتى العلوم العالية أو الفنية التي

تليق بها لترجع إلى هذه المعارف إذا اضطرتها الظروف المعيشية إلى الجهاد للحياة،

فتكون أسلحة الجهاد الشريف بين يديها. ومن هذا ترون أن المرأة عليها واجبات

مالية للأمومة رغم عناية الزوج بهذه الواجبات. وفي حالة قيام الزوج بكل واجبات

العائلة المالية ثروة الزوجة تُختزن للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها

سواء بسواء، كما لو كانت الزوجة غنية وزوجها فقيرًا؛ فإنهما سيصرفان على

قدر ثروة الزوج إذا كان أبيًّا وسيخزنان ثروة الزوجة للأولاد. وأما إذا قبل الزوج

الصرف من مال زوجته فستكون مورد رزق العائلة.

هذا من جهة المرأة وواجبها نحو الأمومة المتزوجة فما بالك في أمومة

مترملة أو أمومة مطلقة أو أمومة غير شرعية؟ هي هي كل شيء في القيام بحمل

الصرف المالي على هذه الأمومة، ومن هذا ترون - حضراتكم - أن المرأة

معرضة في حياتها لحمل عبء الأمومة حملاً تامًّا كالرجل، فلست أدري لماذا يريد

الرجل أن يعطيها نصف حقه في الميراث وهي إنسانة مثله لها الحق في التمتع

بميراثها كأخيها الرجل وعليها واجبات نحو أمومتها لا تقل عن واجباته نحو زوجته

أهمية.

وإن كان حق الميراث ناتجًا عن البنوة فهي أكثر منه عطفًا على والديها وهي

أكثر منه برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما) .

هذا نص ما كتبه الدكتور فخري بعد قدح زناد الفكر، وطول التروي في

الأمر، ثم ألقاه في قاعة الخطابة من المدرسة الجامعة الأميركانية التبشيرية، كتبه

بعد هذيان كثير في شأن المرأة وظلم الرجل لها وقفَّى عليه بما تقدم تفنيده في المقالة

الماضية من التحكك بالشريعة الإسلامية. وهو يفرض - بل يزعم - أن أحكام

الشريعة من تحكم الرجال وظلمهم للنساء.

وإنني أفند هذه الشبهات الواهية بصريح من القول لا أدعمه بشيء من

المسلَّمات الخطابية، ولا أزينه بشيء من التخيلات الشعرية، ولا أشينه بشيء من

الإفك والبهتان، ولا من مكابرة الحس والوجدان، كما فعل فخري، وسبقه إلى مثله

سلامة موسى وعزمي، وأبني التفنيد على رد كلامه وأقصد به الرد على جميع

هؤلاء الدعاة إلى فوضى الإلحاد فأقول:

يعترف هؤلاء الذين يوجبون بأهوائهم مساواة المرأة للرجل في الميراث -

بأن الرجل هو الذي ينفق على المرأة وعلى أولادها منه، ويعلمون أن هذا واجب لها

عليه في الشريعة الإسلامية لها حق المطالبة به، وأن القاضي الشرعي يحكم لها به

ويُكرِه الرجل عليه في حال الامتناع، وأن لها أن تقترض عليه، ولا تكلَّف أن

تشتري لنفسها رغيفًا ولا ثوبًا، وإن كانت أغنى من (هدى شعراوي) .

ولعلهم لا يجهلون أيضًا أنه إذا امتنع أو عجز عن النفقة كان لها حق فسخ عقد

الزوجية، وكان على القاضي أن يحكم بذلك إذا طلبته منه وثبت عنده الامتناع ثم هم

يعترفون بأنها إذا أنفقت شيئًا في دارها على نفسها أو أولادها فإنما تكون في حكم

الشريعة متبرعة متفضلة، وإن قال الدكتور فخري إنها (واجبات مالية للأمومة)

فإنه لا يفهم المعاني الصحيحة للألفاظ التي يكتبها وإن كانت أقرب إلى لغته العامية

منها إلى العربية الفصيحة، ألا ترى أنه لا يميز بين ما للأمومة وما عليها؟

ثم إنه يصرح بأنه في حال قيام الزوج بكل ما يجب للعائلة من الحقوق المالية

(تختزن ثروة الزوجة للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها) يعني أنها

تكون مالاً احتياطيًّا للعائلة يخزن في الصندوق إلى وقت الحاجة إليه ولو بعد الموت!

فليخبِِرْنا هؤلاء الجناة على الشريعة الحق العادلة، وعلى أفضل النظم لقوام

العائلة، أي عقل وأي قانون مالي في العالم جعل المال الاحتياطي الذي يدخر

للحاجة العارضة في المستقبل مساويًا للمال المعد في الميزانية لجميع النفقات

الواجبة التي لا يمكن تأخير شيء منها؟ !

نقول هذا وهو برهان لا يمكن رده على بطلان قولهم - على تقدير صحة

زعمهم - أن مال الزوجة المكنوز احتياطي مدخر للعائلة. وهو لا يصح على إطلاقه

بالاطِّراد كما هو مشاهَد في هذا الزمان، وسيصير شاذًّا إذا تفاقم خطب هذه

الفوضى في حرية النسوان، التي يسرف فيها دعاة الخروج على الشريعة والفسوق

من هداية الأديان.

والحجة عليهم أظهر فيما ظنوا أن الحجة لهم فيه، وهو ما عبر عنه الدكتور

فخري بقوله: (فما بالك في أمومة أرملة أو أمومة مطلقة، أو أمومة غير شرعية)

وهو يعلم من فساد هذه الأمومات الآن ما لا يعلمه أكثر الناس ونقول قبل البحث

فيها: إن المطلقة الرجعية زوجة تجب لها النفقة، فإذا لم يراجعها الزوج قبل

انقضاء عدتها بانت منه وصارت كالأرملة، وكثيرًا ما تتزوج المرأة منهن وتنفق

جُل ما كانت تدخره في سبيل الزوج الجديد إن لم تنفقه كله، ومنهن من تقف

أملاكها عليه وعلى أولاده منها دون أولادها من مطلقها، وقد وقع في هذه الأيام أن

امرأة وقفت عقارها على زوجها وعلى أولاده من غيرها!

هذا ما يقع كثيرًا ممن عندهن بقية من الدين، وأما اللائي قضت حرية

الإباحة على عصمتهن الدينية فهن ينفقن ما ادخرن من الثروة في سبل اتخاذ

الأخدان، والتمتع بالفسوق والعصيان، ومن أغرب ما سمعته من أخبارهن في هذا

العهد أن الوطنيات منهن يفضلن الأجانب من الأخدان على الوطنيين وينفقن عليهم

الألوف الكثيرة من الجنيهات، وأن بعض الوطنيين سأل بعضهن عن سبب هذا

الاختيار والتفضيل قائلاً: ألسنا نحن أولى بكن من (الخواجات) ؟ ! فكان الجواب:

إنكم أنتم كثيرو الكلام دون الخواجات! وأخبرنا بعض المحامين أن أرملة من

هؤلاء الأرامل الغنيات ورثت من زوجها مالاً كثيرًا، ولم يعجبها قصر أبيها الغني

بعد أن أقامت فيه مدة قليلة فاستأجرت لنفسها دارًا واسعة زينتها بأحسن الأثاث

والرياش والماعون واتخذت فيها الخدم الكثيرين، وكان مما عابته من دار أبيها أن

الثلج يأتي إليها متأخرًا!

(للمقالات بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

انشقاق القمر - همّ يوسف بامرأة العزيز - التأويل لدفع الشبهات

جاءت الرسالة التالية من البصرة بعد طبع جزء ذي الحجة فنشرناها في هذا

الجزء، وإن كانت على خلاف شرطنا والشرط العرفي عند أرباب الصحف، وهو

أن لا ينشروا شيئًا لمن يكتم اسمه عنهم وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي الكريم المصلح الكبير والعالم الشهير السيد محمد رشيد رضا حفظه الله

وبارك له في سعيه وسدده في كل ما يأتي وما يذر، آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد استفدت من الجزء الأخير في المنار الأغر ميلكم إلى عدم انشقاق القمر

معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معللين ذلك بما يأتي، ولرجائي أن أكون معكم من

المتعاونين على البر والتقوى سأبدي رأيي راجيًا العفو عما أتقدم به: إن أحاديث

الانشقاق أتت في عامة الأمهات لا سيما الصحيحين على ما فيها من حسن وصحيح

ومرسل ومسند وأثبته التاريخ العربي والعجمي، وأظهر من ذلك أن الآية في

الانشقاق قد كانت تُتلى بمحضر المسلم والكافر، فلم نسمع بمنكر مع أن الضد

بالمرصاد، ومضى على ذلك القرون الكثيرة ما بين ناقل لذلك ومُقر عليه.

واختلاف الأحاديث فيه مع ورودها على معنى واحد وهو الإثبات - لا يوجب

الرد، واتفاق آية (سبحان) مع آية الانشقاق سهل يسير، وهو أن آية سبحان دلت

على منع الاقتراح المعين وآية الانشقاق أتت بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين، هذا

ما دلت عليه الأحاديث المعتمدة. وأما مجيء آية الانشقاق باقتراح معين فلا يصح

كما بينتموه، وفرق بين حصول الآية باقتراح معين وحصولها بغير اقتراح أو

باقتراح لم يعين: القسم الأول يعقبه الهلاك؛ لأنه جاءهم عين ما طلبوا فلم تبق لهم

شبهة، وأما القسمان الأخيران فلهم شبهة تدرأ نزول العذاب بكون الآية لم تقنعهم.

وأما تفسيركم الآية بأن الانشقاق كناية عن ظهور الأمر واتضاحه، واستشهادكم

عليه من اللغة فلا ريب أن العرب تقول: انشق الصبح؛ بمعنى ظهر وبان، وأما

انشق القمر بمعنى: ظهر الحق وبان، فلا نسلم أن العرب تستعمل مثل ذلك ويكاد أن

يكون لغزًا لا يتفق مع بيان القرآن.

وقد ذكرني ذلك تفسيركم لهمّ يوسف بامرأة العزيز بالضرب، وكلا التفسيرين

بالنفس منهما شيء، فقوله تعالى:{.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)

دليل على أن المتقدم أمر لا يليق بمنصبه الشريف، والهم عارض لا مستقر ولا هو

بوسع الإنسان وإذا دفعه بعد رؤية البرهان فهو من الكمال ولا يمس منصب النبوة

بسوء.

ومما يناسب ذكره قولكم جوابًا لرسالة عالِم القصيم عبد الرحمن السعدي: (قد

يكون التأويل هو المنقذ الوحيد في الرد على..) إلخ وهذا لا يتفق مع جهادكم

الجهمية وأمثالهم، وليس في القرآن ولا السنة ما ظاهره يحتاج للتأويل على شرط أن

يؤخذ الحكم من مجموع السياق لا من مفرداته.

وأما قولكم: لا علاقة بين الانشقاق ودعوى النبوة حتى يكون علامة عليها، فله

علاقة لاصقة وهي أنه لما أخبر الله باقتراب الساعة التي هي خراب العالم أجمع

وكانت قريش تنكر ذلك أراهم الله آية محسوسة وهي شق القمر فِرقتين، فالقادر على

تخريب هذا الجرم الكبير - وإعادته كما كان - قادرٌ على إيجاد الساعة التي أخبر

بها الرسول صلى الله عليه وسلم والآية بعدها تثبته، وأما تصدير الجملة بالشرط

فهو يفيد أنهم سيكذبون بكل آية يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس التكذيب

مختصًّا بهذه المعجزة. وإن رغبتم الوقوف على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في

الانشقاق فهو في نمرة 55 من الجزء الأول من الجواب الصحيح.

وبالختام أرجو الله أن يكون معكم وفي عونكم كما أننا نسأله أن يجعلكم

مؤثرين للحق، وقد علمت من بعض الإخوان محبتهم لمبادلتكم الأفكار في شيء من

البحوث بَيد أنهم يخشون عدم رغبتكم، فهذا رأيي الضعيف، والمرجو أن عفوكم

يسع ما تقدمت به حضرتكم.

...

...

...

...

... صديق نجديّ

تعليق المنار

رغبتنا في انتقاد النجديين

لقد كان أخونا الكاتب في غنًى عن الاعتذار وطلب العفو في أول رسالته

وآخرها، فإنما يكون الاعتذار وطلب العفو عما كان ذنبًا وإن في العرف، ونحن

نُسَر بالانتقاد، ونعدّه إحسانًا إلينا وإلى قراء مجلتنا؛ لأنه من أسباب تمحيص

الحقائق، ولا سيما انتقاد طالب الحق المخلص فيه، بخلاف مريد النيل من المنتقَد

عليه، أو مريد إظهار علمه إعجابًا به. وقد سبق لنا أن نشرنا لبعض المنتقدين ما

فيه تصريح بتجهيلنا، بل ما يتضمن تكفيرنا لئلا يتوهموا أننا تركنا نشره كراهة

لإظهار علمهم أو لأجل إخفاء جهلنا، ومنه ما لامنا كثير من فضلاء القراء على

إضاعة وقتنا ووقتهم به.

وأزيدهم أنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار

ويكتبون إلينا بما يرونه فيه منتقَدًا لما نرجو أن نستفيد منهم ويستفيدوا منا.

أما الأول: فلأنهم لشدة اعتصامهم بالسنة ومقتهم للبدع والمعاصي وقلة وجودها

في بلادهم وقلة قراءتهم للكتب التي يكثر فيها تأويل بعض البدع وعدّها مشروعة -

يكون لهم دقة نظر في نزعات الشرك الخفية والمشتبهات بين الحلال والحرام

والتأويلات المنكرة وسائر ما يخالف طريق السلف مما قد يخفى علينا بعضه أو

يفوتنا إنكاره لكثرته وألفته بكثرة أهله وكثرة كتبهم.

وأما الثاني: فلأنه يُخشى أن يكون من لوازم التشدد في الدين وقوع بعضهم في

الغلو المنهي عنه بِعَدّ بعض المباحات المستحدثة من البدع المنكرة، أو ما ليس من

الشرك الجلي منه، أو تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. ويدخل في هذا بعض

العلوم والفنون والصناعات الحادثة التي تقوم الدلائل على ندبها أو وجوبها لما فيها

من المصالح العامة في قوة الأمة والدولة الحربية والمالية.

وقد كنت كتبت إلى إمام نجد منذ بضع عشرة سنة كتابًا ذكرت له فيه أنني

أرغب في اطِّلاع علماء نجد على المنار وطالبتهم بأن يكتبوا إليّ بما يرونه فيه

منتقَدًا بالأدلة الشرعية لأجل نشره وفتح باب المناظرة بيني وبينهم فيه، وأنني

سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء لأجل توزيعها على كبارهم هدية مني، وقد

ظللت أرسل هذه النسخ من طريق البحرين عدة سنين ولكن لم يصل إليَّ ما يدل

على وصولها، فلا أدري ما فعل الله بها، ولكن علمت أن عمال البريد البريطاني

الذي ينقل الرسائل والمطبوعات إلى بلاد العرب من طريق الهند كانوا يمنعون

بعض ما لا يحبون وصوله إلى أهله من المطبوعات، حتى إذا كانت الحرب العامة

اشتدت المراقبة عندهم وفي جميع مكاتب البريد الدولية، وكثر اختزال كل ما

يرونه ضارًّا بسياستهم ولو بالشبهة البعيدة.

ولما صار يسهل على النجديين الاطلاع على المنار في الحجاز لم يبلغني عن

أحد منهم انتقاد على شيء مما يُنشر فيه ولو في أحاديثهم مع بعض الناس إلا

ونشرته وبينت ما عندي فيه، إلا أن يكون شيئًا سخيفًا يُعَدُّ نشره إهانة لقائله ولا يفيد

أحدًا.

بعد هذا التمهيد المقصود لذاته في باب الانتقاد على المنار أقول:

مسألة انشقاق القمر

(1)

إن شُراح دواوين السنة - ولا سيما فتح الباري شرح صحيح البخاري

وبعض المفسرين - قد ذكروا أن بعض الناس أنكروا هذه القصة، وأن بعضهم

استشكلوها من عدة وجوه: منها أنها مما تتوفر الدواعي على نقل الأمم لها بالتواتر ولم

تنقل كذلك، فمن المستغرب أن يدعي المنتقد إثبات تواريخ الأمم لها وأن جميع الناس

تلقوها بالقبول.

(2)

ذكرنا أن الإشكال الأكبر عليها عندنا هو التعارض بين الحديث

والآيات الكثيرة في مسألة التحدي بالقرآن ولا حاجة إلى شرحه هنا، ولم أر أحدًا

من العلماء ذكره وأجاب عنه كما ذكروا غيره من الإشكالات وأجابوا عنها، وليس

التعارض بين آية الانشقاق وآية الإسراء وحدها، بل هناك آيات متعددة ذكرنا بعضها

في بحثنا، فمن كان يرى أن لا تعارض في المسألة كالمنتقِد فلا إشكال عنده فيها،

وها نحن أولاء قد ذكرنا دليله على عدم التعارض ونود أن يقبله جميع الناس،

ولهذا لا نرد على ما نرى فيه من ضعف؛ فإنه لا غرض لنا من البحث كله إلا أن

يكون القرآن في الأفق الأعلى من توجيه أي اعتراض عليه فيتضاءل دون وصوله

إليه، إلا أننا نقول: إن صح فرضه أن الآية وقعت بدون اقتراح، يزول هذا

الإشكال من أصله.

والفرق بيننا وبين مَن يكتبون لتأييد مذهب كلامي أو فقهي: أن هؤلاء على

اختلاف صفاتهم لا يقبلون ما يخالف مذاهبهم. وأما نحن فلا نلتزم مذهب إمام معين

فنجعله أصلاً ترد إليه نصوص الكتاب والسنة بل كلام الله ثم كلام رسوله عندنا

فوق كل مذهب وكل إمام فكل ما وافقهما فهو مقبول عندنا وكل ما خالفهما فهو

مردود، فإن تعارضا ولم نهتدِ إلى الجمع بين المتعارضين ببحثنا ولا بإرشاد غيرنا

لم يكن لنا مندوحة عن ترجيح كلام الله تعالى وهو القاعدة المتفق عليها عند سلفنا

الصالح وأئمة السنة. وأهون من ذلك أن يكون التعارض بين نص كلام الله أو كلام

رسوله وبين أقوال مروية عن بعض الصحابة في بيانهم لشيء منهما كحديث

انشقاق القمر، فإنه لم يروه أحد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

قوله: وأما تفسيركم لانشقاق القمر

إلخ - يدل على أنه تفسير انفردنا

به لم يسبقنا إليه أحد، وليس الأمر كذلك وإنما نقلناه عن غيرنا واخترناه على تقدير

ما ظهر لنا في الرواية. وعدم تسليمه إياه ليس حجة على الذين قالوا به وهم أعلم

منه ومنا بهذه اللغة وناهيك بالراغب - صاحب كتاب مفردات القرآن - الذي لا

نعرف أحدًا من علماء اللغة يحدد معاني الكلمات العربية مثله. ولا تتوقف صحته

على سبق نطق العرب به فالقرآن حجة على العرب وغيرهم، وكم له من تعبير

مبتكَر لم يُعلم نطق العرب به بل يعجزون عنه. وقد نقله شارح القاموس عن

الراغب وأقره ولم يقل: إن اللغة العربية تتبرأ منه ولا أنه لا يفهم ويصح أن يعد

من الألغاز. ولعله لو لم ينقل عن العرب قولهم: انشق الفجر والبرق - لعدَّه المنتقِد

مما لا يُفهم أيضًا.

(4)

ما ذكره من العلاقة بين دعوى النبوة وانشقاق القمر بصرف النظر

عن الحديث فيه وهو إثبات قدرة الله على البعث - غريب جدًّا ولا حاجة بنا إلى

المناقشة فيه ولا سيما دلالته وإنما نذكره بأنه يخرج بالحدث عن موضوعه وعن

كونه تفسيرًا للآية، وبأن العرب لم تكن تنكر قدرة الله تعالى وما كل ما يقدر تعالى

عليه يفعله.

(5)

ما كتبه لشيخ الإسلام في المسألة قد اطلعنا عليه من قبل وهو مبني

على المشهور المسلَّم من أن القمر قد انشق جرمه بالفعل، وأن المنكرين لذلك من

المخالفين فيه إنما ينكرونه؛ لأنه معارض عندهم بعقولهم وبقول علماء الهيئة

المتقدمين: إن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ويرد عليهم كغيره بقدرة الله على ذلك.

وقد بينا أن مسألة الأفلاك واستحالة عروض الخرق والالتئام لها نظرية

يونانية سخيفة أجمع علماء الفلك في هذا العصر على بطلانها، ولو فكر شيخ

الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة معارضة الآيات لحديث اقتراح كفار قريش على

النبي صلى الله عليه وسلم آية على صدقه وكون القمر قد انشق إجابة لهم إلى هذا

الاقتراح كما جرى عليه هو وغيره أخذًا بحديث أنس المرسل وكون المعارضة من

وجهين أحدهما الاكتفاء بالقرآن في إقامة الحجة على رسالته صلى الله عليه وسلم،

وثانيهما: كون إعطاء الآية باقتراح الكفار يقتضي وقوع العذاب كالذي وقع على

الأولين، وثَمّ وجه ثالث مصرَّح به في بعض الآيات وهو عدم الفائدة في إجابتهم

إليها - نعم، لو فكر وأجال قلمه السيال في هذا لرأينا من تحقيقه فيها ما لا يدع

مجالاً لقائل، كدأبه في أكثر ما يحققه من المسائل، ولكن شَغَله عن التفكر في هذا

توجيه همته كلها إلى الرد على أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين يردون كل ما يخالف

نظرياتهم وآراءهم. وهذا الفقير في اعترافه بل افتخاره بأنه استفاد من كتب شيخ

الإسلام قدس الله روحه ما كان أعظم مُثبِّت لقلبه ومقوٍّ لحجته في مذهب السلف

الصالح - يصرح بأنه على إعجابه بتحقيقه لا يقلده في شيء من أقواله تقليدًا، بل

يعده ممن يدخل في عموم قاعدة الإمام مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من

كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ومن

المعلوم أن له - كأمثاله من المجتهدين - عدة مسائل انفرد بها أو اختارها على ما

هو أقوى منها في مذهب الإمام أحمد لا يوافقه جمهور الحنابلة عليها كلها ومنهم

علماء نجد المتأخرون.

مسألة همّ يوسف وامرأة العزيز

استدل الأخ المنتقد على رد ما اخترناه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ

بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: 24) بأن قوله بعده: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) يدل على أن موضوع الهم لا يليق بمنصب يوسف الشريف (عليه

السلام) وهو غفلة منه عن كون همه بمثل ما همت به من الانتقام بالضرب لا يليق

بمنصبه الشريف أيضًا، وإذا كان الضرب الخفيف من المعاصي الصغائر في نفسه

فهو في مثل هذه الحال قد يفضي إلى القتل أو إلى ما يقرب منه كما وقع لموسى

عليه السلام؛ إذ وكز القبطي دفاعًا عن الإسرائيلي فقتله.

وليعلم الأخ المنتقد أنني ما اخترت هذا القول لأجل موافقة الآية لقول مَن قال

من المتكلمين بعصمة الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وبعدها من كل ذنب، فالقرآن

عندي فوق المتكلمين وغيرهم، بل فوق كل علم وكل شيء خلقه الله. وإني أقول

إن آدم قد عصى ربه حقيقة كما قال الله تعالى بغير تأويل، وإنما اخترت ذلك القول

في الهم؛ لأنه المتبادر من استعمال اللغة والموافق للمعهود من طباع البشر والمؤيد

بما بعده مما بينته في محله، وقد قال به بعض العلماء قبلي.

مسألة التأويل

ما قاله المنتقد في مسألة التأويل مجمل وهو يدل على أنه لم يَرَ في المنار ولا

في تفسيره شيئًا مما كتبته في هذا الموضوع مرارًا، وملخصه أن ما أَدين الله تعالى

به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف

من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله ونفي ما نفياه

من غير تعطيل ولا تأويل. وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما

أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس مَن لا يقتنع بحقيقة النص بدونه مع العلم

بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص

متأولاً لا يكفر. وأن إنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه

أمر عظيم و (لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم) .

وأما قوله: (إنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يحتاج إلى التأويل إلخ) إن

أراد به تأويل غلاة المبتدعة كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام

عن مدلولات اللغة - فهو حق؛ وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا هو بالذي يُعَد عذرًا للمتأول. وإن أراد به ما يشمل صرف الكلام عن ظاهر مدلوله اللغوي

الذي يسمى حقيقة لغوية إلى مجاز أو كناية أو تمثيل - فقد قضى على بلاغة

القرآن وسعة علومه قضاءً لا يقوم عليه دليل، بل يقوم الدليل على خلافه،

وقد صح في الأحاديث المرفوعة تأويل بعض الآيات؛ كما يرى في تفسير {يَوْمَ

يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (التوبة: 35) من هذا الجزء. ومجال القول في

تأويل الأحاديث أوسع؛ لأن أكثرها منقول بالمعنى ولم يتواتر باللفظ إلا قليل منها؛

كما صرحوا به. وماذا يقول المنتقد في حديث خروج النيل والفرات من أصل سدرة

المنتهى فوق السماء السابعة؟ ! ومنابع هذين النهرين وغيرهما في الأرض

معروفة بمساحتها ومجاريها، يستطيع أن يراها كل أحد ولا سيما النيل، أفلا

يحتاج هذا الحديث إلى تأويل؟ ولا يتسع هذا التعليق لأكثر من هذه الكلمة

الموجزة فيه وفي أصل التأويل.

{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

_________

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال مسلمي روسية

جاءنا الخطاب الآتي مطبوعًا فنشرناه مع تصحيح قليل وحذف بعض المكرر

منه.

إلى العالم الإسلامي..

عالم الإسلام! هل تعرف كيف يعيش إخوانك المسلمون في روسيا؟ هل

تتصور كيف يتألمون من الظلم هناك؟ هل تشعر كيف ينال الثلاثين مليون مسلم

حربٌ دينية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ لا، لا تعرف ذلك ولا ترى ولا تشعر

بذلك. أنت لا تسمع العويل من هذا الرق. فلو تصورت دماء المسلمين المراقة هناك

منذ 12 سنة والدموع السائلة، والزفرات الصاعدة، ما كنت ترضى بها دون أن تقوم

ضدها. ولو نظرت إلى الآلام التي يصاب بها المسلمون لأنهم مسلمون ما كنت

تحافظ على قلة اهتمامك حتى الآن.

عالم الإسلام! انظر إلى الأحوال هناك!

يعيش في روسيا في الأصقاع المختلفة مثل قريم والقوقاس والتوركستان

والولغا أورال 30 مليون مسلم لم يهاجروا إلى تلك البلاد من بلاد أخرى بل هم أهلها

الأصليون. وقد وقعت بلادهم الغنية الجميلة في أيدي الروس المتعصبين الذين لا

يعرفون احترام الأديان الأخرى وصاروا رعيّتهم. وبذلك اضطروا إلى مقاومة

الظلم الروسي منذ عصور، الذي (كان) يرمي إلى تنصيرهم وجعلهم روسًا بالقوة.

وليس من النادر أن ماتوا في الحرب من أجل دينهم المحترم المحبوب موتة

فظاعة وشهادة. وهم أبوا إجابة طلب ظالمهم أن يخونوا مدنيتهم التي جاوروها

واتصلوا بها عصورًا طويلة ويتخذوا مدنية غريبة. وقد تحملوا لثباتهم تضحيات

كبيرة جدًّا. وبالرغم من الظلم قد دافعوا عن عقيدتهم حتى الآن، وإذ لم يستطع

الروس تنصيرهم فقد استطاعوا محو أكثر معالم مدنيتهم.

والآن (صارت) الأمة الروسية متهافتة على شيوعية متعصبة كما كانت

متهافتة على نصرانية متعصبة. وهي تفكر في جعل روسيا الواسعة شيوعية وفي

إدخال الثلاثين مليون مسلم في الدين الجديد اللينيني، وتريد قطعهم عن دينهم ذي

الألف سنة وعن عاداتهم الإسلامية وهكذا تخرب الجماعات الإسلامية التي تعيش

هناك وتهدم المدنية الإسلامية.

عالم الإسلام!

إن الأصقاع الإسلامية سواء كانت حرة سياسية أو تحت حكم حكومات أوربية

لم تَرَ ظلمًا مثل ما في روسيا. اسمعوا ماذا يحدث هناك:

في مدن وقرى هؤلاء الثلاثين مليون مسلم أغلقوا المدارس التي يدرس فيها

الدين. واليوم لا يوجد ولا مدرسة تعلم الأمة القديمة الإسلامية الإسلام، والتي

تخرِّج لهذه الأمة الإمام، والمؤذن، والخطيب والواعظ. هذه المدارس صارت

معسكرات (كومونيستية) وليس هناك حرية لإعادة المدارس ثانية. كانت تُطبع

من قديم لسد حاجة الثلاثين مليون مسلم في مطابع إسلامية ملايين من نسخ القرآن

والكتب الإسلامية. وكان هناك 40-50 مطبعة وآلاف من المكاتب التي لم تنشر

هذه الكتب بين المسلمين في روسيا فقط بل كانت ترسلها إلى عالم الإسلام أجمع.

الآن لا يوجد شيء من هذا، فحكومة موسكو امتلكت المطابع كافة. فبدلاً من

القرآن والكتب الأخرى تطبع الآن المقالات الشيوعية.

والمكاتب الإسلامية ومحتوياتها أُخذت من طرف الحكومة البولشفية ونُهبت،

ومنذ تحكم البولشفية في بلادنا لم يطبع القرآن ولا كتاب ديني؛ لأن طبع وتوزيع

أي كتاب ديني ممنوع، واستجلاب الكتب الدينية من الخارج مستحيل وفاعله يعاقب.

عالم المحمديين!

أنت حر في احترام دينك أينما تعيش في وطنك أو في أوربا أو في إفريقيَّة لا

يمنعك عن ذلك أحد، ويمكن أن تقوم في كل وقت بصلواتك وصيامك. ويمكنك أن

تعيد أعيادك في بلدان أوربا الكبرى كبرلين ولندرة وباريس ورومية كما تحب،

وإن الأوربي والأميركي يحترم دينك وصلاتك، ولكن الحال في روسيا

الكومونيستية الحالية غير ذلك. هناك تعد الصلاة والدعاء والصيام والذهاب إلى

الجامع جريمة. والموظف يضيع وظيفته إذا صلى وصام. وإذا ما عقد زوجان

شابان زواجهما على يد إمام يُطردان من وظيفتهما، وإذا رؤي عامل في الجامع

وجب عليه ترك شغله. وفي أيام العيد الإسلامية تقام مظاهرات بالموسيقى والأبواق

أثناء صلاة العيد لجرح عواطف المسلمين، وهؤلاء المظاهرون يدورون صارخين

حول الجامع ليشاغبوا على المصلين في صلاتهم وسكوتهم، ويرمون المصلين

بالأقذار، ويقذفون الإسلام ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأقبح الكلام، ويغنون

أغاني قذرة على قديسي الإسلام، وفي عيد الأضحى يأتي هؤلاء المظاهرون

ببعض الخنازير ويدعوها تصيح أثناء الصلاة، ويذبحوها قرب الجامع وهم

يسمونها ضحية، وأولاد المسلمين الذين هم تلاميذ يضطرونهم لأكل طعام الضحية

من الخنزير، وكل هذه المسائل تحسب من ذنوب الحكومة الشيوعية، وبمساعدة

الحكومة يقوم عسكر وموظفون ودرك في مثال هذه الأعياد الإسلامية بهذه الفظائع

التي تثقل الضمير الإسلامي.

عالم الإسلام!

إن المؤمنين الشجعان يذهبون لنجاة أرواحهم كل سنة آلافًا مؤلفة إلى البلاد

المقدسة ويحجون إلى الكعبة المقدسة، ويمسون بوجوههم القبر المقدس للنبي عليه

الصلاة والسلام، ويطلبون رحمة القديسين [1] وهم يرجعون فرحين مؤمنين إلى

أوطانهم. وقد كان مسلمو الروسيا يزورون في السابق أيضًا البلاد المقدسة، وهناك

يقابلون المسلمين من أقطار أخرى، ويتزودون بحديثهم تجارب دينية، فكان يذهب

لا أقل من عشرة آلاف حاج إلى البلاد المقدسة، أما اليوم فلا يراهم ولا يسمعهم

هناك أحد ولم يُرَ منذ اثني عشر عامًا حاج واحد من روسيا؛ لأن السيادة الشيوعية

تمنع الحج [2] .

عالم الإسلام!

في كل مكان - حيث أنت موجود - يمكنك أن تسير على القوانين الإسلامية

وتتبعها. وأئمتك ومؤذنوك ومدرسوك وجميع وكلاء الدين الآخرين محترمون وقد

كان الأمر في بلادنا أيضًا كذلك. أما الآن فمنذ وقعت بلادنا تحت الحكم البولشفي

فإن أئمتنا وخطباءنا ووعاظنا ومؤذنينا ليسوا محترمين. وإنهم خارجون عن كافة

الحقوق الإنسانية حسب القوانين الكومونيستية، ولا يمكنهم أن يتقلدوا وظائف

دنيوية أم معنوية، ولا يمكنهم أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، ولا أن يشتركوا بالرأي

والمشورة عقليًّا. بل تمامًا بلا حقوق. وقد وضع عليهم بصفتهم من طبقة دينية

خاصة ضريبة. وهي أن يدفعوا 40-50 في المئة بل 100 في المئة أكثر مما

يدفع سائر الناس من الضرائب، وإذا لم يستطيعوا الدفع لفقرهم فإن الحكومة

البوليشفية تصادر دورهم وأملاكهم وترسلهم إلى سيبيريا.

أيها المسلمون:

كان عندنا قريب 25000 جامع وهذه كانت تُبنى منذ ألف سنة من الجماعات

الإسلامية وقد اشتريت لها من دراهم المسلمين سجاجيد وما شابهها وأسست خزائن

مخصوصة للمحافظة على هذه الجوامع، وهذا كله مالنا وإرثنا من آبائنا، ولكن بعد

أن وقعت بلادنا في أيدي الكومنيست أعلنوا أن هذه الجوامع وخزائنها هي أميرية

أي ملك الروس المسكاو. وقد نهبت السجاجيد والأشياء الثمينة التي في الجوامع

وصودرت السجادة التي وهبها الخليفة السلطان محمد رشاد سنة 1917 لجامع

بطرسبورغ (اليوم لينينغراد) ويطلبون للصلاة في الجامع ضريبة خاصة، وهذه

الضريبة عالية فوق الطاقة. وإن الجوامع التي لا تدفع جماعاتها ضرائب تغلق أو

تجعل أندية عامة أو صالات رقص ولعب أو مدارس غير دينية، أو إلى حانات

حمراء. وكثير من الجوامع التاريخية القيمة تخرب وتهدم.

وأما في وطننا (إيدل أورال)(ولغا أورال) - وهي مركز الإدارة العليا

للمسلمين في روسيا - فإن حرب الأديان في منتهى الشدة. وفي سنة 1929

تأسست في (إيدل أورال، قازان، أستراخان، أوفا، أورينبورغ) بمساعدة

الحكومة جمعيات لا دينية من العسكر والموظفين لهدم كافة الجوامع، وهؤلاء

يغلقون الجوامع بالقوة، وينهبون من المقابر الإسلامية الأحجار التاريخية والشبابيك

من قبور القديسين ويخربونها.

وقد أغلق في السنين الأخيرة في باشكيرستان - قسم من (إيدل أورال) -

عدد كبير من الجوامع، وأقيل كثير من الروحيين من وظائفهم، تأخذ هذا كله من

الجريدة الكومونيستية الرسمية (ينا أول) وأن عدد الذين استقالوا مضطرين 502

من الأئمة و363 مؤذنًا وأغلق 103 من الجوامع.

نحن ننظر إلى هذه المظالم في المسلمين في الروسيا ونعطي هذه التفاصيل

كمحاربين لاستقلال منطقة (إيدل أورال) ونرجو المساعدة منكم ومن باقي إخواننا

في العقيدة.

أفِقْ يا عالم الإسلام ولا تدع عقيدتك تدنس بأيدٍ وسخة، ولا تسمح بأن يداس

إخوانك بأرجل الظلم، فاستيقظ! اهـ.

...

...

...

...

(ختم الجمعية)

(المنار)

جاءتنا هذه الرسالة في البريد مطبوعة مختومة بختم المركز العام لجمعية

استقلال (إيدل أورال) فنشرناها انتصارًا لإخواننا المسلمين المظلومين في البلاد

الروسية الذين انتقلوا من ظلم القياصرة إلى ظلم الشيوعية الذي يفوقه في القسوة

والاستعباد أضعافًا مضاعفة، والعجب من غفلة هؤلاء الأشقياء كيف يطمعون في

نشر نفوذهم في الأقطار الإسلامية حتى العربية منها مع هذا الاضطهاد الذي

يسومون به مسلمي بلادهم سوء العذاب.

إن الشعوب الإسلامية قد ضاقت صدورها من عدوان الدول الرأسمالية

المستعمرة واستبدادهم ولكنهم لا يرجحون عليها دولة كافرة معطلة تعادي الأديان

وتكفر بالرحمن، وتحتقر وجدان الإنسان، ولو لم تقهر الدولة البولشفية الناس

وتكرههم على ترك دينهم لكثر أنصارها في كل مكان.

إن احتجاج الصحف وحده لا يرد هؤلاء البغاة عن بغيهم، وإننا نذكِّر إخواننا

المسلمين الذين يرون بعض دعاة البولشفية في بلادهم بأنه يجب عليهم أن يبينوا لهم

سوء تأثير اضطهادهم لأبناء دينهم في بلادهم، ونقترح على كل حكومة إسلامية

عندها سفير أو ما دون السفير من المعتمدين السياسيين أن تخاطبه في ذلك وتفعل ما

فعلت دول أوربة في الاحتجاج على اضطهاد النصارى، وأولى الحكومات

الإسلامية بهذا حكومتا اليمن والحجاز ونجد؛ لأنهما دينيتان يلقب رئيس كل منهما

بإمام المسلمين.

هذا، وإن في قطر آخر من الأقطار الإسلامية اضطهادًا لشعب إسلامي كبير

ومحاولة منظمة لرد أولادهم عن دينهم بتعميم التربية والتعليم الإجباريين، وهذا لا

يقل خطره عن اضطهاد دولة الروس البلشفية لمسلمي بلادها، بل ربما كان هذا

الخطر الهادئ المنظم أشد وعاقبته أسوأ، والواقع عليهم يرون أنهم لا يستطيعون

التظلم والشكوى؛ لأن كل من اعترض منهم يسام سوء العذاب، والحق أنهم يجب

عليهم ذلك وأن ما يقع عليهم من العقاب لا يكون أشد مما هم صائرون إليه في الدنيا

ثم في الآخرة، ولكن لابد لذلك من نظام، ليكون له قوة الرأي العام.

_________

(1)

المنار: القبر الشريف لا يمسه أحد من الزائرين بل قلما يراه أحد؛ لأنه في الحجرة النبوية الشريفة وإنما يقف الزائرون أمام الحجرة ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما ويدعون الله تعالى وحده ويطلبون رحمته، لا رحمة القديسين، ويعني بهم الكاتب

(الصالحين) والتعبير بالقديسين اصطلاح نصراني.

(2)

منذ خمس سنين حج بعض مسلمي روسية وحضروا المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة وما سمعنا أن أحدًا منهم حج بعد ذلك.

ص: 70

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة مهمة من الصين

في حال مَن فيها من المسلمين

إلى منشئ المنار وناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر مولانا رئيس أهل السنة

والجماعة محمد رشيد رضا:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فيا مولانا، إني رجل من معلمي العلوم الإسلامية في بلد (القواندن) ، يا

سيدي؛ إن دين الإسلام في الصين داخل في الضعف والخمود يومًا فيومًا كأنه على

شفا جرف هارٍ، لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. سببه: أن مسلمي الصين أكثرهم

قليلو الديانة وجاهلون للعلوم الإسلامية والقرآن والحديث وتاركون للصلاة

والفرائض، بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة الإيمان وهم مقلدون. وأكثرهم ما كان

لهم علم واسع ولا ديانة. يشتغلون بقراءة القرآن عن الغير عن تعليم العلوم

الإسلامية ونظر الكتب الدينية وتبليغ الشرع.

وإن الفقير (أنا) تحسر على غربة الدين في الصين، ووضع هو وإخوانه

مجلة الإسلامية الدينية العلمية المترجمة بالصينية. ويرتجي الآن أن يستعين على

هذا الخطاب الخطير من جنابكم، وأنه استمع أن مجلة المنار كأنها شمس، ولم يَرَ

وجهها الجميل، وترجى أن يشتري نصيبًا منها كل شهر وترجمه وشاعه (كذا

والمراد ترجمة هذا النصيب وإشاعته في الصين) ولكن لم يدرِ محلة مجلتكم

الشريفة. فالمرجو من كرمكم أن تخبروني محلة مجلتكم وكيفية الشراء وثمن

الجرائد المنارية كم هو لأرسل إلى جنابكم الثمن والسلام.

في أوائل شهر المحرم الحرام.

الداعي أحقر خادم الطلبة ومبلّغ الدين الإسلامي ومدير المجلة الإسلامية في

القواندن.

...

...

عثمان بن الحاج نور الحق الصيني الحنفي

الجواب

(المنار)

لبيك لبيك، وسلام عليك وعلى مَن لديك ورحمة الله وبركاته.

ومجلة المنار تُرسل إليك هدية مع هدايا أخرى، واعلم أن صاحب المنار

ليس رئيسًا لأهل السنة والجماعة بل خادمًا ضعيفًا مخلصًا، بل ليس لأهل السنة

والجماعة رئيس عام يعني بشؤون الإسلام، والذنب في ذلك عليهم فإنهم فوضى،

ولكن يرجى أن يتجدد لهم في هذا العصر شيء من النظام.

_________

ص: 75

الكاتب: إبراهيم عريقات

‌الدين قبل كل شيء

إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك الإسلامي الغيور على دينه فؤاد

الأول نصره الله.

ثم إلى دولة رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء ثم إلى مجلسي شيوخنا

الأجلاء ونوابنا المحترمين

نبث آلامًا أحاطت بنا حتى كدنا نموت أسفًا وحزنًا على ما حل بديننا الحنيف

في هذا القطر. ذلك القطر العربي الإسلامي العظيم وبه الأزهر الذي هو أكبر

جامعة إسلامية ومن مواد الدستور المصري أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ومع

هذا فقد راعنا أن معالم الدين الآن آخذة في الاضمحلال والفناء، والأخلاق انهارت

وتدهورت، والرذيلة سادت الفضيلة، وحشرات الإلحاد برزت إلى حيز الوجود

ترفع رأسها غير آبهة، وصحفنا اليومية تمحضت للسياسة إلا قليلاً جدًّا وتركت

معاول التضليل تهدم في صرح دين الدولة المصرية الرسمي حتى أفسدت أخلاق

الشبيبة. وبالجملة فالأمر جد خطير وأملنا وطيد في رجال حكومتنا الذين لا نشك

في إخلاصهم للوطن وحبهم لرفعته أن يأخذوا بناصر الدين ويضربوا على أيدي

الملحدين والمفسدين، وأن يعطوا لتلك المادة القائلة بأن دين الدولة الرسمي هو

الإسلام حقيقتها ومدلولها وإلا كانت اسمية فقط، وتتلخص فيما يلي:

(1)

أن يدخل التعليم الديني في المدارس الحكومية وغيرها دخولاً يكون

معها مادة أصلية أساسية لا إضافية حتى يخرج النشء عارفًا بدينه نافعًا لأمته.

(2)

أن يقرر بجميع المدارس الإلزامية قسم لحفظ القرآن الكريم جميعه.

(3)

منع البغاء الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.

(4)

تحريم الخمر الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.

(5)

عقاب تارك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبتعميمها في

أفراد الأمة المصرية يستتب الأمن، ويقل الأشرار وتتلاشى الجرائم وتستريح

الحكومة.

(6)

عقاب مَن يتجاهر بالفطر في نهار رمضان.

(7)

مما لا مراء فيه أن الدين الإسلامي ليس كغيره من الأديان بل هو

صالح لكل زمان ومكان؛ ولذا ختم الله به الدين وجعله عامًّا للخلق أجمعين، ولا

يعجز حكومتنا - الإسلامية رسمًا - أن تكون إسلامية فعلاً بالعمل بقواطع

الدين وتخصيص لجنة لذلك من هيئة كبار العلماء والمفكرين.

لا زلتم للدين الحنيف ناصرين، وللواء الفضيلة رافعين، آمين.

...

...

... أهالي برنبال مركز فُوَّة مديرية الغربية

...

...

...

عنهم: إبراهيم عريقات

_________

ص: 76

الكاتب: إميل درمنغام

‌رسالة من مؤلف كتاب

حياة محمد في باريس

الحمد لله وحده

إلى سيدي مدير مجلة (المنار) الغراء.

تحيةً وسلامًا وبعد:

فإني قرأت في مجلتكم مقالاً للسيد اليزيدي على كتابي (حياة محمد) ، أنا لا

أريد هنا مناقشة مطولة مع صاحب المقال فيكفي القارئ أن يراجع كتابي نفسه فيجد

فيه الأجوبة لاعتراضاته التي لم تأتِ بشيء جديد، ولكن يجب عليَّ أن أعلمكم أن

فكري قد حُرِّفَ تحريفًا كاملاً؛ فإن صاحب المقال لم يفهم شيئًا مما قلته.

الله شاهد على أن ليس لي المقاصد التي أعارنيها، وحقيقة قصدي في نشر

(حياة محمد) هو البحث الحق الذي هو من أسماء الله تعالى، وعاملت القرآن مثل

معاملتي التوراة والإنجيل، وأظهرت في كل حين ميلي للرسول صلى الله عليه وسلم

وعطفي إلى الإسلام دين الغزالي وابن (العربي) وابن الفارض وابن رشد

وابن سينا وابن خلدون رضي الله عنهم. ورجال أكابر الدين إنما فهموا مقصدي

وفكري لو أنهم قرأوا كتابي (؟) إن الشيخ الأكبر قال - ولله دره -:

إذا علم الله الكريم سريرتي

فلست أبالي من سواه إذا سخط

وليت علماء مسلمين قرأوا كتابي ودرسوه بمثل الإنصاف والميل اللذين كتبته

بهما، وقد علق عليه بعضهم منهم السيد بلا فريج في (الفتح) ومكاتب (فتى

العرب) اللذين إن لم يكونا في الكل من فكري علما صدق ضميري، وإني أطلب

من لطافتكم، أيها المدير أن تنشروا في مجلتكم هذه الكلمات لتقويم ما علق على

كتابي في مجلتكم.

وفي الختام اقبلوا تحياتي واحترامي والسلام.

...

...

...

...

إميل درمنغام

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌معاملة البنوك

استدراك على ترجمة تيمور

أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين للفقيد رحمه الله ومما ذكره بعض

المؤبِّنين: أنه كان يعامل بنك الكريدي ليونيه خلافًا لما كنا نسمعه من أنه كان لا يودع نقوده في المصارف المالية حتى لا يعينها على استغلاله بالربا، ولكن يا ليت

شعري هل كان يأخذ هو ربحًا على نقوده أم لا؟

المشهور أن كثيرًا من المسلمين يودعون الأموال الكثيرة في المصارف

الأوروبية، ولا يقبلون أخذ شيء من الربح عليها فينفعون بها الأجانب، ولا

ينتفعون منهم من حيث يأخذ آخرون الربح منهم ولا يعدونه من الربا المحرم،

وبعضهم لا يبالي أن يكون منه، واستحسن بعض الباحثين أخذه وإنفاقه في المصالح

الخيرية التي ترقي الأمة، فماذا كان يفعل فقيدنا وهو المتفقه في دينه، المعتصم به

في عمله؟

لعل نجلَيْ الفقيد أو بعض بطانته يخبرنا بالحقيقة.

_________

ص: 79

الكاتب: عبد الله بك الأنصاري

نفثة حزن لعالِم دُفن

للأستاذ عبد الله بك الأنصاري أستاذ العلوم العربية في المدرسة التوفيقية

(كان) :

يا دار أحمد تيمور أتيناك

فأين ربك غوث اللاجئ الشاكي

يا دار أحمد دار العلم آهلة

بالفاضلين وأهل المذهب الذاكي

يا مُسدي الفضل والإحسان في ترف المـ لوك عزًّا وفي أخلاق أملاك

دين بدون رياء في شعائره

وفي العلوم خبير جدٌّ درَّاك

ما كنت أحسب أن الموت يفجعنا

فيه سريعًا فيخلو منه مثواك

يا روضة العلم تلك الكتب ناطقة

بما تجمع في حجرات مغناك

لم يألُ جهدًا ولم يبخل بدرهمه

في وفرة العلم أو في رحمة الباكي

له فضائل ليس العد يحصرها

ودون أيسرها قد يعجز الحاكي

فحسبه من ثناء الناس ما اجتمعت

عليه ألسنهم في صدق إدراك

واحسرتاه على ذلك العظيم ومن

سمت به نفسه في غير تحراك

نادى الفضائل فانحازت لدعوته

وحاد عن كل كفار وأفاك

كانت مجالسه بالعلم زاهية

نقية لم يشبها أي إشراك

ونفسه نفس حر لا يمازجها

كبر الغني ولا إعجاب ملاك

عليه رحمة ربي في معارجه

إلى منازل أبرار ونساك

وأفرغ الخير والصبر الجميل على

نجليه في طول عمر طيب زاكي

_________

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهنئة للمنار بالعام الجديد

سيدي الكريم وأستاذي العظيم حجة الإسلام السيد الإمام حفظه الله تعالى.

أهدي إليكم سلام المخلص لذاتكم، المعجب بفضلكم، الداعي لكم بالثبات في

طريقكم، والاستزادة من صالح أعمالكم، أما بعد:

فيسرني في هذا العام الهجري الجديد وقد هل هلاله أن أهنئكم وأهنئ نفسي

والمسلمين بما متَّعكم الله من صحة وعافية، ووفقكم إليه من جهاد في سبيله،

تنيرون السبيل للناس بمناركم، وتدفعون الأباطيل بسديد آرائكم وقوي حججكم.

ولقد أصبحت حياتكم مرتبطة بحياة الحق والمسلمين، ومناركم مصدرًا للنور الذي

به يهتدون، فإن يكن الناس لا يزالون في غيهم يعمهون، وعن الحق عمين؛ فلأن

عملكم لا يزال بعيدًا عن الغاية، وأنه لا بد لكم من متابعة السير سنوات وسنوات

حتى يتم لكم النصر إن شاء الله في النهاية، والله نصير العاملين وولي المؤمنين.

إن نفسي لتكاد تذوب حسرة من هذه الحال، فلقد انحطت الأخلاق، وقل

العمل بالدين في نفوس المسلمين بقدر ما تقدموا في العلوم العصرية، ونبغوا

في مظاهر المدنية الغربية، فكثرت الاعتداءات، واغتيلت الحقوق، وضاعت

الأمانات، وضعفت شوكة الحكومات، ولا غرو فلا يمكن حكم القلوب بغير سلطان

الدين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

ففي مجاهل هذه الحال ترفعون صوتكم ولا يلقى من يردد صداه، وبين هذه

الظلمات المتكاثفة تنشرون مناركم ولا نور في تجديد الدعوة على وجهها سواه،

فاثبتوا - وفقكم الله - فسيُظهر الله دينه ولو تأخر النصر، وسيهزم عدوه مهما

عظمت شوكته واستفحل الشر، واعلموا أن هناك نفوسًا تحنُّ إليكم، وقلوبًا تحفّ

بكم، ستجتمع حولكم لشد أزركم، متى جدَّ العمل، وقوي الأمل {وَمَا كَانَ اللَّهُ

لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143){وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (آل عمران: 126) .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

...

نجيب

(المنار)

نشكر لأخينا المهنئ حسن ظنه وإخلاصه فيما لا نستحق من إطرائه، وكان

في كل سنة يهنئنا فنشكره بكتاب خاص، وقد آن لنا إعلان شكره على صفحات

المنار.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

وصف كلامه تعالى بالقديم

وبحادث الآحاد قديم النوع وهل هما مبتدعان؟

وما حكم القائل بهما؟ ونذر زيارة قبر الوالد والصالح؟

(س13-15) من إمام الحاج محمد جابر في كمفوغ سوك هاتي (سمبس -

برنيو)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدي ومولاي العالم العلامة السيد محمد

رشيد رضا صاحب المنار الأغر، رزقه الله عمرًا مديدًا ونفع بعلومه المسلمين

جميعًا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أرفع إليكم هذه الأسئلة الآتية راجيًا التفضل بجوابها في صفحات مناركم

الغراء وهي:

(1)

قال في كتاب (تنبيه ذوي الألباب السليمة) من الكتب النجدية صفحة

20: إن لفظ (القديم) إذا وُصف به كلامه سبحانه وتعالى فهو من الألفاظ المبتدعة

حيث قال: فقوله * كلامه سبحانه قديم * هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة

المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها. اهـ. مع أن علماء الكلام نطقوا

بلفظ القديم فهذه كتبهم بين ظهرانينا مذكورة فيها أقوالهم بأنهم عرفوا ووصفوا كلامه

جل وعلا بالقديم، ويعتقدون قدمه. وقال الشيخ حسين والي في كتابه كلمة

التوحيد صفحة 57: (ويجل مقام أحمد بن حنبل وأضرابه أن يعتقدوا قدم القرآن

المقروء) ولا أسيء الظن بهم أنهم يعتقدون شيئًا ويمنعون أن يقولوا به في مثل هذه

القضية.

ومعلوم أن القرآن هو كلام الله. قال صاحب الهداية السنية النجدية صفحة

106: (ونعتقد أن القرآن هو كلام الله.. إلخ) وما رأيكم في قول صاحب كتاب

التنبيه المذكور؟ هل هو صحيح في عدِّه الواصفين بلفظ القديم من أهل البدع كما

يدل عليه مفهوم قوله الآتي، أم لا؟ فإن كان صحيحًا فهل يأثم الواصف به أم لا؟

(2)

وقال أيضًا: والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع

أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع.. إلخ، فهل قوله (حادث

الآحاد وقديم النوع) من الألفاظ المبتدعة أم لا؟ وهل وردت هاتان الكلمتان في

السنة أو في كلام سلف الأمة؟ فإن وردتا فيهما فذاك وإلا فهما من الألفاظ المبتدعة

أيضًا، وإني لم أقف في كتاب من كتب أهل السنة على نص يوصف فيه كلامه

تبارك وتعالى بهما أو ينقل فيه قول من أقوال سلف الأمة يقولون بهما، ولم أسمع

أحدًا من المشايخ يصف بهما كلامه تعالى. أليستا من الألفاظ التي توهم التشبيه؟

وإني أرجو أن تحرروا مع الجواب معناهما ومرادهما وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ فإني

لم أزل في وهم وإشكال وأرى أنكم من أقدر الناس في هذا العصر على حل

المشكلات.

(3)

إذا نذر المريض وقال: (إن شفى الله مرضي فعليَّ زيارة قبر فلان

أو قبر والدي مثلاً؛ لاعتقاده أن لصاحب القبر كرامة ومزيَّة ولا يعتقد أنه مؤثر في

ذلك ومن المعلوم أن زيارة القبور من القربات. فهل يجوز ذلك ويصح نذره، أم لا؟

وإذا قلتم بعدم الجواز فهل الناذر يكون مشركًا بسبب ذلك الاعتقاد أو آثمًا فقط، أم

لا؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب) .

جواب المنار مرتبًا على عدد الفتاوى فيه

(13)

وصف كلام الله بالقديم ومن قال إنه مبتدع:

قول من قال: إن وصف كلام الله تعالى بالقديم من الألفاظ المبتدعة - صحيح،

ومثله قول الآخر إن كلام الله تعالى حادث بالآحاد قديم النوع، كلاهما لم يرد في

كتاب الله تعالى ولا في أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في أقوال الصحابة

رضي الله عنهم. ولكن ليس كل من يستعمل لفظًا محدثًا يكون من أهل البدع

المخالفين لأهل السنة والجماعة، فجميع أئمة الأمصار من مدوني علوم الشرع في

الأصول والفروع قد استعملوا ألفاظًا اصطلاحية لم تُستعمل في القرآن ولا في أقوال

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين تصدوا من أهل السنة للرد على

المبتدعة لم يسلموا من استعمال بعض الألفاظ الاصطلاحية المبتدعة، ومنها قولهم:

إن كلامه تعالى قديم بقدم ذاته، وهذا من أسباب وقوع الخلاف بين المسلمين في

مسألة كلام الله تعالى وكذا غيرها من صفاته، ولم يسلم من ذلك أئمة الحديث والفقه

منهم، وقد اشتهر ما وقع من الخلاف في ذلك بين البخاري والذهلي من أئمتهم.

بل أتباع إمام الأئمة أحمد بن حنبل المنسوبين إلى مذهبه في العقائد والفروع قد وقع

بينهم الخلاف في هذه المسألة. فلا يصح أن يقال في كل من استعمل لفظًا محدثًا

في ذلك ولا كل من خالف أحمد أو جمهور السلف في مسألة من دقائق هذه المسائل

- إنه من المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرح كتاب التوحيد من البخاري وبعض أقوال

أهل السنة من المحدثين واتباع المذاهب الأربعة وأقوال المبتدعة في مسألة القرآن

في مواضع وقال بعدها كلمة كررها بعد ذكر الخلاف بينهم وهي: والمحفوظ عن

جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن

كلام الله وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ. وهذا الذي ينبغي

لكل مسلم إلا أن مَن كان في قلبه اضطراب من هذا الخلاف ولم يطمئن بهذا التسليم،

فله أن يراجع كلام المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول وينظر فيه باستقلال

فكر وإخلاص قلب فإنه حينئذ يصل إلى ما يطمئن به قلبه إن شاء الله تعالى.

وكنت أخرت الجواب عن هذه الأسئلة راجيًا أن أجد وقتًا واسعًا أكتب فيه

خلاصة هذا البحث المضطرب الأمواج، ولما أجد الوقت الذي يتسع له، ولكنني

سأشرع إن شاء الله تعالى قريبًا في طبع عدة فتاوى في ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين

ابن تيمية، وأشهد بالله إنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما

أحاط به من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة

والمبتدعة في هذه المسألة وأمثالها، والوقوف على أدلتهم وتمحيصها وتحرير الحق

الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه، فلينتظر ذلك السائل وغيره ممن

يهمهم تحقيق هذه المباحث وهي ستطبع في كتاب مستقل وربما ننشر بعضها في

المنار.

وأما وصف كلام الله تعالى بالقديم فهو صحيح في نفسه وأثبته علماء السنة

وفي المراد منه عند السلفيين وعند غيرهم بحث مفصل في مباحث شيخ الإسلام.

***

(14)

مَن قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قديم النوع

إن قول من قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قول مبتدع مبهَم موهم، وله

وجه يظهر أنه هو مراده منه، وهو ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {مَا

يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) وقد جعل البخاري هذه الآية

ترجمة لأحد أبواب كتاب التوحيد من صحيحه مع آية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ

أَمْراً} (الطلاق: 1) وقال عقبها: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) يعني أن كونه محدثًا لا

يقتضي كونه مخلوقًا، فهو كقول السلف من أهل الحديث وغيرهم: له يد لا كأيدينا

واستواء لا كاستوائنا، وإن كلامه الموحى إلى رسله بصوت لا كصوتنا. ومن

القائلين بهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهو يقول كغيره من أئمة السلف: إن

القرآن المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وهم

يصرحون بأن القارئ مخلوق وقراءته وكتابته مخلوقتان، وإنما يتقون في هذا المقام

ما يتضمن الإيهام. فما قاله الشيخ حسين والي وغيره من إجلال الإمام أن يقول كذا

مبني على الاقتناع بنظرية المتكلمين في المسألة وبكون الإمام أحمد كان من أئمة

الهدى والسنة، ومقتضاه عنده أنه لا يخالفها. وليس مبنيًّا على النقل عنه. وكان

شيخنا الأستاذ الإمام ذكر مثل هذا في رسالة التوحيد، وعند قراءته لهذا البحث منها

في الأزهر صرح بأنه رجع عنه وبأنه سيحذف هذه الجملة في الطبعة الثانية

للرسالة وكتب ذلك في حاشية نسخة الدرس، ولذلك حذفناها من كل طبعاتنا لها.

وقد استدلت المعتزلة بالآية على خلق القرآن، والتحقيق أن المراد منها محدث

إتيانه ونزوله. قال إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري وأقران أحمد وقد سأله

عن الآية حرب الكرماني ما نصه: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. اهـ

وراجع سائر الأقوال في الآية وفي المسألة من فتح الباري.

***

(15)

نذر زيارة قبر الوالد والصالح:

لا ريب في أن زيارة القبور مستحبة بالنية التي أرشد إليها الحديث الوارد في

الإذن بها بعد النهي وهي تذكر الآخرة، وإنما هي مستحبة بهذه النية وإلا فإن

الأصل في الإذن بالشيء بعد النهي عنه الإباحة، وما كان من نية صالحة أخرى

في الزيارة تزيد هذا الاستحباب تأكيدًا كزيارة قبر أحد الوالدين أو كليهما، فإنها تعد

من بقايا برهما وتذكُّرهما، الذي يترتب عليه ما أمرنا الله به من الدعاء لهما،

وكذلك زيارة قبر الرجل الصالح إذا كان لذكرى صلاحه ورجاء في قوة الاقتداء به،

لا لطلب نفع أو كشف ضر منه، ولم يكن فيها شيء من البدع ولا من إقرارها.

ويصح نذر مثل هذه الزيارة المشروعة. ولا وجه للقول بعدم جوازها فضلاً

عن القول بإثم فاعله أو رميه بالشرك والعياذ بالله تعالى. فإن الشرك لا يثبت إلا

بدليل قطعي لا مجال فيه للتأويل، ولكن بعض الغلاة في مذاهبهم يرتكبون من

مخالفة الشرع في الطعن على مخالفيهم ما هو أكبر إثمًا مما ينكرونه عليهم إن كان

منكرًا. أعاذنا الله من ذلك.

***

الجمع بين الصلاتين في الحضر

واشتراط الطهارة في الصلاة وصلاة مكشوف الرأس

(س16-18) من صاحب الإمضاء في (ببا - من الوجه القبلي)

حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والأستاذ المحقق السيد محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبعد:

فقد سمعت منذ سنوات عديدة ممن أثق به (توفي رحمه الله في أحاديثه

الخاصة معي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في صلاته بين الظهر والعصر

وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بلا عذر، وأنه لا حرج على المصلي إذا كان

بثوبه أو بدنه شيء من النجاسات وأنه لا كراهة في الصلاة ورأس الإنسان عارٍ بل

ربما كان ذلك أفضل؛ لأن هذا المظهر أقرب إلى التذلل والخضوع والعبودية.

ولأمر خاص بي أريد التثبت من ذلك ولثقتي بفضيلتكم بعثت بهذا إليكم،

فأرجو إفتائي على ما تقدم والله تعالى يتولى مثوبتكم بفضله.

وتفضلوا بقبول عظيم الاحترام.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

...

سيد أحمد عابدين

جواب المنار

(16)

أما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في المدينة

المنورة، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه في سنن الشافعي وصحيح

مسلم وغيرهما من كتب السنن، وقد تأول ذلك فقهاء المذاهب المعروفة بتكلُّف،

وظاهر قول ابن عباس فيه: (لئلا يحرج أمته) يدل على أنه رخصة، وبهذا

أخذ بعض فقهاء الحديث وهو ما أعتقده، ولا يخفى أن الرخصة تؤتى عند الحاجة

لا دائمًا، ولولا أن سبق لنا بيان هذه المسألة ونص الحديث فيها من قبل لبسطت

الكلام فيها وذكرت لفظ الحديث وتأويلات مَن تأوَّله.

(17)

وأما قول ذلك الثقة عندكم بأنه لا حرج على المصلي إذا كان في ثوبه

وبدنه شيء من النجاسات - فهو مخالف لقول أكثر علماء الأمة بأن طهارة الثوب

والبدن شرط في صحة الصلاة، وعن مالك أنها واجبة وليست بشرط لصحة

الصلاة. فالمسألة اجتهادية والاحتياط تحري الطهارة في الصلاة؛ لأنها إذا كانت

واجبة في غيرها فهي فيها أوجب، نعم؛ إن الوجوب لا يقتضي الشرطية، وقد أطال

الشوكاني في الرد على من قال بها، ولأن تكون صلاتك صحيحة بالإجماع خير من أن تكون مختلفًا فيها، ولك الأخذ بالقول الآخر عند تعسر الطهارة وفي ترك

القضاء إذا علمت بعد الصلاة أنه كان في ثوبك أو بدنك نجاسة.

(18)

وأما قول ذلك الثقة: إنه لا كراهة في الصلاة مع كشف الرأس - فهذا

قد يظهر فيمن يصلي في بيته منفردًا إذا لم يلتزمه متعمدًا. وأما التزامه أو فعله

مع الجماعة المستوري الرؤوس أو في المسجد بحضرة من يستنكرونه ويكون

مدعاة للخوض في ذم فاعله - فالقول فيه بالكراهة واضح. أما الأول فلأنه التزام لا

دليل في الشرع عليه بل هو مخالف لما جرى عليه العمل الغالب من صدر

الإسلام، وأما الثاني فلمخالفته للجماعة وهو منهي عنه، وأما الثالث فلما ذكرناه في

صفته من كونه سببًا لوقوع الناس في الإثم ولأنه من الشهرة المذمومة.

وأما قوله إن ذلك ربما كان أفضل وتعليله بما علله به فهو قول بالرأي

المحض في مسألة تعبدية، ومعارَض بأنه تشبه بالنصارى وغيرهم ممن يلتزمون

كشف رءوسهم في الصلاة وقد نهينا عن التشبه بهم حتى في العادات. ومعارض

أيضًا بأن العرف عندنا في هيئة الكمال التي نقابل بها الملوك والأمراء وكبار

العلماء والصلحاء والرؤساء أن يكون على رءوسنا ما جرت به عادتنا من عمامة أو

كمة أو طربوش أو غيرها، وإنما يُتساهل في ترك ذلك بين الأقران والأصدقاء،

والعرف عندهم خلاف ذلك.

***

النسخ والأحاديث المشكلة

وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوسل

(س19-23) لصاحب الإمضاء في صنبو (من الوجه القبلي)

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة السيد الفاضل، والأستاذ الكامل، من جعله الله للشريعة موئلاً وللدين

ملجأً، المهدي الرشيد، السيد محمد رشيد.

سلامًا وتحية واحترامًا، وبعد:

فإني أرجوك للإجابة عن هذه الأسئلة التي طالما ترددت في خاطري، فتفضل

بذلك ولك مني الشكر ومن الله جل وعلا الأجر:

(1)

في القرآن الكريم ناسخ ومنسوخ ولكن العلماء فيهما مختلفون، فما القول

الفصل الذي يرتاح إليه المسلمون في ذلك؟

(2)

في كتب الحديث مئات الأحاديث الحاضّة على فضائل الأعمال ولكنها

رتبت على فعلها ثوابًا لا يتناسب معها، فهل يصح العمل بها؟

(3)

ما هو الحد الذي إذا بلغه المؤمن سقطت عنه تبعة الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر ولا سيما في هذا الزمن الذي عمت شروره، وطمت من الفساد

بحوره؟

(4)

كيف يستطاع جمع الزكاة على الطريقة الشرعية لتصرف في

مصارفها في هذا العصر العصيب؟

(5)

ما الحق في مسألة التوسل التي لا تزال تشغل قلوب جمهور المسلمين؟

وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.

...

...

...

مصطفى أحمد الرفاعي

...

...

... الأستاذ بمدرسة ميخائيل فلتس بصنبو

أجوبة المنار

(19)

الناسخ والمنسوخ:

قد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ..} (البقرة: 106) من سورة البقرة وهي الآية 106 من سورة البقرة فراجعوه في

ص414 من جزء التفسير الأول، وذهب السيوطي في الإتقان إلى أن الآيات

المنسوخة عشرون آية. وقال الشوكاني بعده بل هي بضع آيات. وأنكر النسخ أبو

مسلم الأصفهاني في تفسيره ووضح رأيه الطبيب البحاثة محمد توفيق صدقي

ونشرنا بحثه في المجلد الثامن من المنار وطبع في ضمن كتاب له. ولا يتسع وقتنا

لإعادة الكلام في هذا الموضوع وليس باب الفتاوى بمحل له. وكثيرًا ما يسألنا

السائلون عن تحقيق مسائل لا يمكن تحقيقها إلا في سفر كبير، وجملة القول أن

النسخ بالمعنى المعروف عند السلف ثابت ونحن نحقق ما قيل إنه منه في كل آية

عند تفسيرنا لها.

***

(20)

العمل بأحاديث فضائل الأعمال وشرطه:

الأعمال الدينية مبنية على قاعدتين (إحداهما) أنه لا يُعبد إلا الله (والثانية)

أن يعبد بما شرعه. والمشروع قسمان: قسم مطلق وقسم مقيد بأقوال مخصوصة

وأفعال مخصوصة وصفات مخصوصة وأوقات مخصوصة وأعداد معينة، فما ورد

في الشرع مقيدًا بشيء من هذه القيود وجب التزام قيوده بلا زيادة ولا نقصان، ومنه

شعائر الإسلام كلها كالأذان والإقامة والصلاة والجماعة والجمعة ومناسك

الحج

إلخ.

والمطلق يجري على إطلاقه في دائرة النصوص العامة كصلاة النفل غير

الراتبة وذات السبب، فإن هيئتها كسائر الصلوات ولكن لا يجوز لأحد أن يقيدها

بزمان ولا مكان ولا عدد ولا صفة بحيث تلتزم هذه القيود فيها كقيود الشرع؛

ولذلك قال الفقهاء إن صلاة الرغائب وصلاة ليلة نصف شعبان اللتين قيدهما بعض

العباد بالعدد والزمان وغيرهما - أنهما بدعتان قبيحتان مذموتان. وذلك أنه لا يصح ما

ورد فيهما مع كونهما بصفة مقيدة بقيود لا تثبت إلا بنص الشارع، وقد ذُكر من

ثوابهما نحو مما تستشكلونه في السؤال.

وإن من علامات وضع الحديث أن يذكر فيه ثواب كبير جدًّا على عمل صغير

جدًّا في نفسه وفي أدائه وفي قاعدته، أو عقاب عظيم جدًّا على عمل لا ضرر فيه

في الدين ولا في النفس ولا في العقل ولا في العرض ولا في المال.

هذا وإنه لا يجوز لأحد أن يعتمد على كل ما يراه من الأحاديث في الكتب ولا

على كل ما يسمعه من الخطباء من غير تخريج له عن حُفاظ السنة بما يبين مرتبته

من الصحة وعدمها. وإذا تحرى الإنسان الأحاديث الصحيحة يرى أنه قلما يوجد

فيها ما ذكره السائل من الإشكال.

وأما الأحاديث الضعيفة فقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز

العمل بها مطلقًا، وقال الجمهور: يجوز العمل بها في فضائل الأعمال كالذكر وصلاة

النفل المعتادة وصيام التطوع، واشترطوا لذلك شروطًا بيناها من قبل ملخصها ألا

يكون الحديث شديد الضعف، وألا يعتقد العامل بالحديث منها صحته لئلا ينسب إلى

النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وأن يكون معناه مندرجًا تحت أصل عام في

الشريعة.

***

(21)

الحد الذي تسقط به فرضية الأمر والنهي:

قد اختلف العلماء في هذه المسألة ما بين مشدد ومخفف، وينبغي لكل أحد أن

يحاسب نفسه في هذا وأمثاله، وإذا كانت المنكرات في زماننا أكثر منها في أزمنة

أولئك العلماء كالغزالي والشاطبي وابن تيمية - فإن في زماننا من حرية القول في

مثل هذه البلاد ما لم يكن في أزمنتهم. وإننا نرى سفهاء الجرائد يطعنون أشد

الطعن وأقذعه في الأمراء والوزراء والعلماء ولا يصيبهم أذى، فأجدر بمن يأمر

بالمعروف وينهى عن المنكر بالنزاهة والأدب وحسن النية ألا يصيبه أذى.

ولا خلاف بين العلماء في سقوط الفريضة عمن يخاف على نفسه أذًى كبيرًا،

ورخص بعضهم في الترك لمن يعتقد أن أمره ونهيه لا يفيد، ولكن استفتِ قلبك وما

أنا ممن يستطيع أن يضع لك حدًّا، ولا ينبغي أن تنسى أن هذه الفريضة هي سياج

الدين فلولا ترْك القيام بها لما فشت المنكرات إلى هذا الحد.

***

(22)

جمع أموال الزكاة وصرفها في مصارفها:

إن هذا العمل غير مستطاع في زماننا في بلادنا، وإنما الشأن فيه للحكومة

الإسلامية التي تقيم الشرع، والمسلمون في جزيرة العرب يؤدون زكاة المواشي

والزروع إلى أئمتهم وحكامهم، وزكاة النقدين إلى الفقراء والمساكين، وينبغي في

مثل بلادنا أن تؤلف جمعية إسلامية من رجال يوثق بهم تقنع أهل الدين بأداء الزكاة

إلى رجالها بعد أن تبين في نظامها كيف تنفق ما تجمعه في مصارفه الشرعية.

***

(23)

التوسل الشاغل للمسلمين:

التوسل المشروع ليس فيه ما يشغل قلب أحد فهو التقرب إلى الله تعالى بما

شرعه من علم وعمل على القاعدتين اللتين في الفتوى آنفًا (ص127) وأما

التقرب إليه تعالى بأشخاص الصالحين من الأنبياء فمن دونهم الذي تعنونه بالتوسل -

فهو غير مشروع في الإسلام، بل هو أصل الوثنية. فإن الوثنيين هم الذين يعتمدون

في نجاتهم من عذاب الآخرة ومن مصائب الدنيا وفي نيل الخير والسعادة في

الدارين على أشخاص رجال الدين فيهم، وأما أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام

فأمر الثواب والعقاب عندهم منوط بالعقائد والأعمال التي تتزكى بها أنفسهم وتصلح،

أو تتدسى وتفسد، وآيات القرآن صريحة في ذلك، وأمر منافع الدنيا ومضارها

منوط بالأسباب المشروعة التي يعرفها الناس بالعلم والتجربة كطرق الكسب

والتداوي في المرض مثلاً. وقد سمى الناس منذ القرون الوسطى ما فشا فيهم باتباع

سنن من قبلهم في الاعتماد من أشخاص الأنبياء والصالحين في جلب النفع ودفع

الضر توسلاً، وبنوا عليه بدعًا كثيرة تنافي التوحيد المجرد والإخلاص في العبادة،

كدعاء الموتى والنذر لهم والاستغاثة بهم مع العلم بأن الدعاء هو العبادة أو مخ

العبادة كما ورد في الحديث وفي مثل قوله تعالى {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وليس لما يعملون شبهة من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من

عمل السلف الصالح. والخرافيون من سدنة قبور الصالحين وغيرهم يأتون على

ذلك بشبهات ضعيفة الرواية أو الدلالة أو باطلة أمثلها حديث الأعمى الذي طلب من

النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد له بصره فأمره بأن يدعو بدعاء فيه

لفظ التوسل والاستشفاع به فدعا ودعا له صلى الله عليه وسلم. فالتوسل هنا إنما كان

بالدعاء منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء مشروع وطلبه مشروع فهو

غير خارج عن قاعدتي عبادة الله وحده بما شرعه. فلا يدل على التوسل بالشخص

والذات من غير عمل، ولا على طلب الدعاء من الأموات، فضلاً عن طلب قضاء

الحاجات فيما لا يطلب إلا من الله عز وجل وهو ما وراء الأسباب.

وقد شرحنا هذا في مواضع كثيرة من المنار والتفسير فلهذا نختصره هنا،

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقل في هذه المسألة طبع المرة بعد المرة باسم

(التوسل والوسيلة) فإن شئتم الإحاطة بها من كل وجه فعليكم بمطالعته وهو يطلب

من مكتبة المنار بمصر.

_________

ص: 120

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نقض أساس مذهب داروين

هذا المذهب قائم على أساس من النظريات القابلة في نفسها للثبوت وللنقض،

ولم تصل في يوم من الأيام إلى درجة الحقائق القطعية عند الآخذين بها؛ تفضيلاً

لها على كل ما كتب في موضوعها، إلا بعض المقلدين من ملاحدتنا؛ الذين يجعلون

أضعف ما فيها من الاحتمالات في درجة الحسيات أو الضروريات، ويدافعون عنها

في جملتها وتفصيلها.

والحق فيها أنه إذا كان فيها بعض التعليلات المعقولة المقبولة بادي الرأي

فإن فيها تعليلات أخرى لم تتجاوز حيز الوهم، وإذا صح أن نظام الكون قائم بسنن

حكيمة مطَّردة؛ سواء عرفت كلها أو لم تعرف كما أثبته الكتاب الكريم فلن يصح أن

تكون هذه السنن الحكيمة من بنات الضرورة ولا من بنات المصادفة، بل المعقول أن

تكون من تقدير العزيز العليم كما قال الكتاب الحكيم، وإذا صح أن تكون هذه

السنن لا تبديل لها في الطبيعة ولا تحويل كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فلن يصح أن يكون الخالق

المقدر لها والمدبر لأمرها مقيَّدًا بها، بحيث لا يستطيع إبداع شيء غيرها، فإن

هذا النفي لا يقدم على القول به عاقل.

وقد حدث في الوجود من الآيات البينات، والمعجزات الخارقة لسنن العادات ما

تواتر خبره وصار من القطعيات، فالتكذيب به أو التأويل البعيد عن قياس المنطق له

ليوافق تلك النظريات المادية - ليس بأولى في نظر العقل السليم من عدِّه منتظمًا في

سلك سنن أخرى مما وراء المادة. ولا يزال العقلاء والحكماء يرون من آيات الله في

أنفسهم ما هو إبداع محض لا يتفق مع سنن المادة في شيء، وآخرهم العلامة الشهير

آينيشتين الألماني قد ناط بهذا الإبداع كل ما امتاز به من تحقيق علمي وفلسفي.

الكلام في فساد مذهب داروين يوجَّه إلى أساسه لا إلى فروعه وجزئياته

كطبقات الأرض وتشابه الأنواع وتعليل الأعضاء الأثرية، وأساسه الفاسد هو أن ما

عُلم من السنن في نظام الكون هو دليل على أن ما لم يُعلم منها مثله في كونه لابد

أن يكون حصوله بالتطور التدريجي. ومقتضاه أنه ما وجد ولن يوجد كائن مبدع

مبتدأ، ولا آية خارقة للعادة، وغايته أنه ليس للكون رب قادر مريد يفعل ما يشاء.

والدلائل الوجودية والأخبار المتواترة القطعية تنقض هذه القاعدة وتبطل اطِّرادها.

كان هذا المذهب هدفًا لسهام النقد في كل عصر، وقد فوق له في هذا العهد

سهم جديد أقصده وكاد أن يقضي عليه، وهو ما نترجم لك خبره في المقال التالي.

***

احتضار مذهب علمي

نشر العلامة ليون دوديه Daudet Leon صاحب صحيفة الاكسيون

فرنسيز Francaise L'action بعدد صحيفته المؤرخ 11 يونيو سنة 1930

ما يأتي تحت هذا العنوان:

من المفيد جدًّا أن يُعمل على إسقاط أحد تلك المذاهب (المادية) التي انتشرت

في القرن الماضي، تلك العقائد التي حملتني على تسميتها (بالسخافة) .

لما أذعت سنة 1922 مؤلَّفي المعنون بهذا الاسم (السخافة) قامت ضجة

شعواء عند الجامدين على الاعتقاد بالتطور والتحول الذاتي، وتكوين اللغات،

والنوبات العصبية (الهستريا) والجمهورية (الديمقراطية) وعلى كثير من

ضروب العبث بالقول في علوم الحياة والسياسة. ولا غرو فليس من الهين أن

تنتزع من مخيِّلتك تلك الخزعبلات التي صحبتك ثلاثين أو أربعين سنة. أما

احتجاجات تلك الضجة التي كنت عولت على عدم إعارتها أي اهتمام فلم تؤثر في

نفسي؛ لأني أعلم أن الزمن سينقضي ويظهر أن الحق بجانبي كظهور استعداد

الألمان للحرب الأوربية العظمى.

وقد كنت بناءً على ذلك كتبت منذ ثماني سنوات في الكتاب الذي سميته

(سخائف القرن التاسع عشر) ما يلي:

إن المبدأ الأساسي لمذهب التطور والتحول الذاتي هو أن الطبيعة لا طفرة

فيها ولا خلل، فلا محل فيها إذًا للمعجزات. فإن المعجزة هي الظاهرة الفجائية

غير المنتظرة الخارجة عن القوانين المعروفة.

هذا هو الشرط الأساسي في تخيلات (بالتبيوس هيكل) القصصي في روايته

التي تبتدئ من تكوين الهلام البحري [1] وتنتهي بتكوين الإنسان بتنويع تدريجي

بطيء يحدث داخل الخلايا والأنسجة تحت تأثير مضاعَف لنوع من القوة الرافعة

الداخلة (لم يبرهنوا عليها) وتأثير عوامل خارجة عدُّوها حسب أهوائهم.

ويلاحظ دائمًا أن في الحياة خواص قابلة للتغير وهي نواة التحول الذاتي

وأخرى لا تقبل التغير وهي الثابتة، وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا تحت تأثير أنواع

كثيرة من القوى الكامنة التي تارة تعمل فينا في ظروف خاصة، وطورًا لا تعمل

في ظروف أخرى، ونحن نجهل السبب في كلتا الحالتين.

وأما هذه الذبذبة بين الأصل المولِّد (الخلية) والأنواع المتولدة وكذا الانتقال

من بساطة التكوين إلى أوج النهى فسِرّ يرجع إلى نظام أرقى.

ثم إن سلسلة الأجناس تتجدد حلقاتها بانعدام بعضها كلما زاد الجنس نموًّا،

وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية تعين علينا القول بأن عالم الأحياء سائر في طريق

التقدم المستمر، وأن بقاء الأجناس الدنيا إنما هو للدلالة على حصول هذه التقلبات

المتعاقبة المستمرة مع انعدام بعض الأجناس الوسيطة المؤقتة التي هي في الغالب

أعظمها أهمية.

ولما كانت هذه السلسلة ينقصها الحلقة التي تصل القرد بالإنسان بحثوا مدة

ستين عامًا للعثور على الجنس الوسيط، فأكدوا حينًا ما أنهم وجدوه ثم كذبوا هذا

الخبر. على أنهم تنبهوا اليوم إلى أن معضلة أصل الأنواع - وخصوصًا ما يتعلق

منها بالجنس البشري - ما زالت معقدة ومضطرِبة كما كانت قبل داروين

Darwin ولمارك Lamarek وأن مذهب القائلين بالتشابه الخارجي

والتشريحي ليس بجواب عن هذا السؤال يحسن السكوت عليه، فإن مذهب

المشابهات التشريحية والفسيولوجية لا يلقي إلا نورًا ضئيلاً على مسألة تخصص

الحياة وتشخصها.

إن الحياة ما زالت حافظة لقابليتها للانفجار والالتهاب ولما فيها من الخواص

الوراثية لتغير الأعضاء تغيرًا فجائيًّا، إننا نجد منها خواص تنتقل وتقبل التغير

والتبدل، وخواص أخرى لا تنتقل ولا تقبل تعديلاً، فسينتج مما تقدم أننا في آن

واحد خاضعون لتأثير قوى غيبية خفية تفعل فينا فعلها ولا نعرف كنهها، كما أننا من

هذه القوى في بعض أحوال خاصة لا ندريها أيضًا، وأن هذا التغير من الشخصي

إلى النوعي ومن التخصيص إلى التعميم خاضع هو أيضًا إلى نظام أسمى. وهلم

جرًّا.

إن مذهب التحول الذاتي الذي سيطر على علم الكائنات الحية مدة ستين عامًا إنما هو مظهر موضعي بل أحقر المظاهر لحل قضية الحياة، بل هو رد على

السؤال بسؤال آخر.

إني قد أشَّرت بخط تحت الفقرة الخاصة بالقوات الخفية ثم قلت في الكتاب

المذكور في محل آخر ما يأتي:

(إن المذهب المضاد لمذهب التحول الذاتي لم يأتِ بعد بالعالم الذي يستحقه

على أننا في انتظاره بإيمان وثيق) وها هو ذا قد أتى هذا العالم فعلاً فإن المسيو

فيالتون Vialleton نشر في سنة 1929 كتاباً بحث فيه عن أصل الأنواع الحية

تحت عنوان (أوهام التحوليين) أورد فيه من الدلائل المقنعة ما يقضي على مذهبي

داروين ولمارك القضاء المبرم.

ولا بد أن يكون عالقاً بأذهان القراء ما كتبنا هنا من التعليق على كتاب المسيو

فيالتون العظيم الشأن، غير أن الصحف العلمية والفلسفية لم تعلق أهمية كبيرة على

نقض هذا الأستاذ العالم. إلا أن جريدة الطان tenps نشرت في عددها الصادر في

8 يونيه سنة 1930 مقالاً في الموضوع بقلم المسيو لويس لافل Lavelle Lauis

جاء فيه ما يأتي:

(

وردت في كتاب المسيو فيالتون فكرة ثانية يظهر لنا أنها أشد خصوبة،

وهي أن في داخل الأشكال الأساسية غير المنفصلة عن المظاهر الأولية للحياة يمكن

تصور وجود (جراثيم أو براعيم الانتظار)[2] وهي غير مرئية وتبقى منتظرة

لتفرخ في اللحظة الملائمة، أعني اللحظة التي تكون فيها شروط البيئة قاضية

بخروجها من القوة والاستعداد إلى الفعل، وإذا ضربنا صفحًا عن التوسع في بحث

طبيعة هذه الجراثيم يمكننا اعتبار أنها قوات مستترة لا تفعل فعلها إلا تحت تأثير

الظروف المناسبة ولا يظهر فيها مظهر الحياة إلا إذا أخذت أشكالاً قياسية خاصة.

فنفهم من ذلك الأسباب التي حدت بالمسيو فيالتون لأن يكون من خصماء معتنقي

مذهب التحول الذاتي الذي هو شرح للتطور بأسباب آلية.

فالتطور في نظره هو تطور يدبره مدبر، وهو يتعارض مع مذهب (لمارك)

القائل بأن الكائن يتكيف بالوسط الذي يعيش فيه وأن هذا التكيف يتأصل فيه

بالتدريج حتى يورثه نسله. ويتعارض أيضًا مع مذهب داروين القائل بأن في

الكائن المولود تغيرات عرضية بعضها نافع له وكافل له الفوز في معترك الحياة

وبعضها مؤذٍ وقاضٍ عليه القضاء المبرم) . اهـ.

وهكذا كان إدراك (فهم) القوات الخفية التي أشار إليها المسيو فيالتون يتصل

بإدراك (فهم) القوات الخفية المنوه عنها في (سخافات القرن التاسع عشر) .

غير أن المسيو فيالتون يرى أن الضغط الخارجي هو الذي يساعد على تجلي

هذه القوات في عالم الظهور مع أني في كتابي قد نسبت ذلك إلى عوامل باطنية

عرضية. ومهما يكن الأمر فإن التبدل الذي نحن بصدده إنما هو انقلاب أو تحول

فجائي وليس تطورًا أو تكيفًا.

على أن القوات الخفية موجودة في مظاهر العالم بأجمعها، فإن الراديوم قبل

اكتشافه كان قوة مستترة، والموجات الفضائية كانت كذلك قبل اكتشافها، وكذلك ما

يحصل في الدم من الاستعدادات البطيئة لمرض السل والسرطان التي أشار إليها في

هذه السنوات الأخيرة الطبيبان فانييه وروا Aroy Vanniet هي أيضًا قوات

مستترة لأشكال مرضية.

والآن قد فتح أمامنا عالم جديد للمعرفة واسع المجال إلا أن النور الساطع فيه

مازال ضئيلاً كنور الفجر الذي لا يكفي إلا لتمييز الأشياء بعضها من بعض. اهـ.

_________

(1)

الهلام البحري هو الخلايا النباتية الأولى التي دبت فيها الحياة في أول الخليقة على شواطئ البحار فتدرجت منها الحياة بتكاثر تلك الخلايا وتكيفها تدريجًا.

(2)

المنار: مثال هذا عندهم ثندوة الرجل هي مستعدة لإفراز اللبن كثدي المرأة إذا وجدت الداعية الطبيعية لذلك، ويقال إن هذا وقع بالفعل لرجل ماتت امرأته وتركت له طفلاً رضيعًا ولم يوجد هناك مرضع له ولا لبن بقرة أو غيرها يمكن تغذيته به فكان من تأثير حنانه الوالدي أن صارت ثندوته كثدي الأم في إفراز اللبن له، وهكذا يوجد في سائر الأحياء جراثيم أو براعم مستعدة لظهور وظيفة فجائية تنافي مذهب التطور التدريجي البطيء الذي هو أساس مذهب داروين ولمارك.

ص: 130

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الشبهات على حق المساواة في الميراث

- 13 -

وجملة القول أن الشرع الإسلامي قد عظم أمر الزوجية والأمومة الشرعية،

ففرض على الرجل القيام بجميع ما تحتاجه الزوجة والأم لتتفرغ المرأة للقيام بما

تقتضيه هاتان الوظيفتان التي قضت الفطرة بأن تكون الأولى منهن وسيلة والثانية

مقصدًا، فإن عجز الرجل عن النفقة أو مات كان على غيره من الأقارب القيام بها

وإلا فبيت المال، ولن تقوى المرأة على القيام بما تقتضيه الفطرة ودين الفطرة من

الاستعداد للحمل والوضع والرضاعة والحضانة والتربية للأطفال وجعل الدار

لهن خير مدرسة ومأوى ومطعم ومصح، إلا إذا كان الرجل يكفيها مؤنة الكسب وتثمير الأموال بنفسها في الزراعة والصناعة والتجارة واستخراج الكنوز والمعادن

وغير ذلك مما هو أقدر عليه منها، وكذا مؤنة أمور الدولة العامة والدفاع عن

الوطن بالخدمة العسكرية بأنواعها.

وكان مقتضى هذا بادي الرأي أن لا ترث المرأة شيئًا من المال والعقار؛ لأن

الشرع كفل لها رزقها على كل حال، وهذا ما كان يحتج به العرب في الجاهلية

على عدم توريث النساء مع أنهم لم يكفلوا لهن رزقهن كما كفله الإسلام؛ إذ جعله

حقًّا على الرجال بوازع الوجدان والإيمان، وكفالة الشريعة والسلطان.

ولكن دين العدل والرحمة راعى في أمر النساء سائر الأحوال التي وراء حال

الزوجية والأمومة، ففرض لهن من الإرث نصف ما فرض للرجال، ومن أحسن ما

يوجه به هذا الفرض أن يقال: إنه من قبيل الاحتياط ومراعاة شواذ الحياة

الاجتماعية، ولولا أنه فرض إلهي لكان لقائل أن يقول: إن النصف كثير؛ لأن الأمر

يؤول فيه إلى أن يكون مال المرأة أكثر من مال الرجل لأنه لا يُفرض عليها من النفقة

حتى على نفسها في عهد الزواج ما يفرض على الرجل، أو يفضي إلى إضعاف

الثروة العامة؛ إذ ليس للمرأة من القدرة على إدارة المال وتثميره ولا من

التفرغ لاستغلاله من جميع الطرق الاقتصادية مثل ما للرجل.

وأما الأمهات الفواجر غير الشرعيات فلا يفرض لهن الشرع الإلهي وجودًا

يقتضي حقوقاً مالية أو غير مالية، بل يفرض عليهن عقابًا شديدًا يقتضي إرهابًا يمنع

وجودهن إلا على سبيل الندور الذي لا يراعَى في القواعد التشريعية المنزلة ولا

الموضوعة، ومن ثم كان دعاة الفوضى النسائية والإباحة الذين رُزئت هذه البلاد

يهم يقترحون أصلاً للتشريع ينسخ شرع الله تعالى ويبطله مبنيًّا على إقرار أمومة

السِّفاح، فترى الدكتور فخري يقول - بغير خجل ولا حياء من الجهل ومكابرة

الحس والعقل -: إن المرأة (هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي

على هذه الأمومة) وإنه لا يدري (لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقها في

الميراث؟ !)

نعم إنه لا يدري لأنه لا يريد أن يدري، أو لا يعترف بما يدري، فإنه

يخاطب المسلمين بقوله: (هي هي كل شيء..) وهي عندهم ليست بشيء من

ذلك، أما الأمومة السفاحية فلا وجود لها في شريعتهم كما قلنا آنفًا. ولا وجود لها

في الخارج أيضًا، فإن اللائي يلدن من حمل السفاح يلقين بالطفل المولود في أحد

الشوارع ليلاً على حين غفلة من المارين ليحمله رجال الشرطة أو غيرهم إلى

معاهد اللقطاء إن لم يخنقه عند الوضع ويدفنه حيث لا يعلم به إلا الله.

وأما الأم التي يطلقها زوجها فلها من النفقة مدة العدة ومدة الحضانة ما هو

معروف للعامة والخاصة من الناس. ومن المطلقات المعتدات بالقروء مَن تنكر

حيضها وتدَّعي امتداد أجل عدتها بحيث تعد بالسنين، ويجبر القضاء بمذهب

الحنفية الرجل على النفقة عليها حتى تعترف بمرور الثلاثة القروء عليها وقلما

تعترف بذلك في ظل القضاء الحنفي إلا إذا أرادت الزواج!

فأما الأم التي يموت زوجها فترث هي وولدها كل ما ترك إن لم يكن له زوج

أخرى أو أولاد من غيرها أو أبوان وهو الغالب، وكثيرًا ما يترك الأبوان نصيبهما

لولد ولدهما إذا كانا موسرين، وإذا هو لم يترك مالًا يكفي أولاده وجبت نفقتهم

على من قدر عليها من أولي القربى أيهم أقرب كما تجب نفقتها هي أيضًا على أولي

قرباها بالتفصيل المفصل في كتب الفقه.

وما أظن أن جميع دعاة الإباحة الإلحادية يوافقون الدكتور فخري على جعل

أمومة العُهر موجبة لمساواة المرأة بالرجل في الميراث لما تقتضيه من انفرادها

بالنفقة على نفسها وعلى أولادها غير الشرعيين إذا لم تكن ذات فراش تفتري هذا

البهتان على صاحبه، وتلصق هؤلاء الأولاد بنسبه، ولعل أكثرهم يتعجبون مع

أهل الدين والصيانة من اقتراح مثله لهذا الرجس من التشريع وهو من أعلم الناس

بقبح الفاحشة وأمراضها الخبيثة المعدية؛ لأنه من أطبائها الأخصائيين العاملين

المطلعين على ذلك، فكان الواجب عليه أن يقترح ما يقلل هذا الفساد إذا لم يمكن

إزالته، لا ما يمكِّن المسافحات (البغايا) ومتخذات الأخدان (المرافقات) من

تكوين بيوت جهرية لأولاد الزنا، يعرف كل واحد منهم أمه ولا يعرف له أبًا، إلا

أن تتبع الحكومة فيهم ما حكي عن التشريع البلشفي من الأخذ بقول المرأة في إلحاق

كل ولد بالرجل الذي تدعي أنها علقت به منه، فتُلزمه الحكومة النفقة عليه [1]

وحينئذ يمكن أن يكون لكل أم من هؤلاء الأمهات غير الشرعيات بضعة أولاد

لبضعة رجال تتقاضى من كل واحد منهم نفقة رضاعته وحضانته وتربيته! ! إلى

أن تتولى الحكومة أمر رزقه إذا صارت بلشفية خالصة؛ لأن التشريع من بعض

جوانب الشيء يفضي به إلى سائر الجوانب، ولولا استباحة الزنا وكثرته لما اقترح

الدكتور فخري ما اقترحه.

بيد أن الفواجر لا يعترفن بمن يضعن من أولاد السفاح في هذه البلاد بل يلقينه

ليلاً في بعض الشوارع؛ ليوضع في ملاجئ اللقطاء، ومنهن من تقتل الطفل عند

وضعه وتدفنه سرًّا؛ إذا لم تكن ذات فراش تفتريه على بعلها فيه كما قلنا آنفًا، ولا

يصدها عن إلقائه أو خنقه أن تكون ذات مال تكفله به، فإنها إنما تفعل ذلك فرارًا من

عار الفاحشة، لا لأجل العجز عن النفقة، فمساواتها لأخيها في الإرث لا يهون

عليها احتمال العار والاحتقار اللذين يلصقان بها من الأمومة غير الشرعية، فهي

لن ترضاها لنفسها إلا أن يهبط تجديد الإلحاد والإباحة بالأمة كلها إلى حضيض

المساواة بين حضانة الزوجية وإباحة الفاحشة في عدّ كل منهما حسنًا شريفًا لا عار

فيه! فإن هبطت دعاية هذا التجديد بالأمة إلى هذه الدركة السفلى من المساواة

بين الفضيلة والرذيلة - لا سمح الله - فإنه لا يبقى بين دعاته وبين المساواة في

الإرث وغيره إسلام يُتبع، ولا قرآن يُتعبَّد به، ولا توراة ولا إنجيل أيضًا، وحينئذ

يكونون هم أصحاب الرأي النافذ في الحكومة البلشفية التجديدية؛ فإنه ليس في

الأرض أجدر منها، وإن لم يتجرؤوا (على ذمهم لكل قديم ومدحهم لكل جديد)

على التصريح بها، كما ظنوا أننا لا نتجرأ على التصريح بطلب تنفيذ الشريعة

الإسلامية كلها، وها نحن أولاء نصرح به لأنه حق ومصلحة، فنحن الشجعان لأننا

نجهر باعتقادنا كله، وهم الجبناء لأنهم لا يجرؤون على التصريح بكل ما يستحسنونه.

أقول هذا لأنه من لوازم هذه الدعاية الحمقاء، ولا أجزم بأن أفكارهم القصيرة

الخطى الكثيرة الخطأ قد وصلت إليه، أو قصدت إركاس الأمة فيه، وإنما أرجح

أنهم يجلبون المال والجاه والزعامة الأدبية لهم ولمن يرتبط بهم بتحويل أفكار النابتة

الجديدة من المسلمين وقلوب النساء عن هداية الإسلام وتشريعه، إذ لا يمكن لزعنفة

قليلة أن تتبوأ مقام الزعامة والقيادة في أمة كبيرة هم أعداء الأكثرية الساحقة الماحقة

منها في كل ما تعتقد حقيته وقداسته من أدب وتشريع، ومنافع هذه الزعنفة من

ساسة الأجانب ومبشري دينهم رهينة بتأثير كلامهم في هذين الصنفين من المسلمين-

أعني الشبان والنسوان - وجل الظلم والخسران في هذا كله واقع على أكتاف

هؤلاء النسوان كما سنبينه في خاتمة هذه المقالات إن شاء الله تعالى.

هذا وإن الدكتور فخري ختم احتجاجه على وجوب مساواة المرأة للرجل بأنها

إنسانة مثله وأخت له - وأعاد ذكر واجبات الأمومة - ثم قال: وإن كان حق

الميراث ناتجًا (كذا) عن النبوة فهي أكثر منه عطفاً على والديها وهي أكثر منه

برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما. اهـ.

ونقول في تفنيده: إن الإنسانية ليست مناطاً للإرث ولا سببًا لتحديد درجات

الوارثين فذِكْرها في هذا البحث لغو. وأما كون الوارثة أختًا للوارث معها وبنتاً

لمورثهما فهي إنما تقتضي المساواة بينهما في نفقة الوالدين عليهما وفي عطفهما أو

إكرامهما لها، وهذا حق قررته الشريعة الإسلامية فلا يجوز للوالدين تفضيل بعض

أولادهما على بعض فيما تتساوى حاجاتهم فيه عرفاً؛ لأنه ظلم وسبب للتحاسد

والتعادي بينهم، والواقع بالفعل أنهما ينفقان على البنت أكثر مما ينفقان على الابن

في الغالب؛ لأنها تحتاج من الحلي والحُلَل الحريرية وغيرها ما يفوق ثمنه ما ينفق

على ملابس أخيها، والذي أعرفه في بيوتنا وتربيتنا الإسلامية أننا نكرم البنات

ونخصهن بعطف زائد عل عطفنا على البنين، فلا أذكر أن أحداً من رجالنا ضرب

بنتاً ضرب التأديب الذي لا يسلم منه أحد من البنين وقد كنت في بيت أبي أضرب

إخوتي الصغار وأوبخهم وأنهرهم بغليظ القول، ولم أضرب أختاً من أخواتي قط،

ولا أذكر أنني أغلظت على إحداهن في القول. ولو شئت لذكرت ما هو أبلغ من

ذلك في تربيتنا الإسلامية ولله الحمد.

ثم إن الوالد يجهز البنت عند تزويجها بأضعاف ما قد يدفعه مهرًا لزوج الابن

إذا لم يدفعه هذا من كسبه، وقد اعتاد المسلمون المغالاة في هذا التجهيز حتى صاروا

يبذلون فوق ما تسمح لهم به ثروتهم، فيقترضون بالربا ولو فاحشاً أو يبيعون

الأرض والعقار بأقل من ثمن المثل لأجله، ولا يستحيي هؤلاء المفتاتون على

المسلمين في شريعتهم وبيوتهم من عيبهم بالتقصير مع الإناث وهضم حقوقهن وهم

يعلمون كل هذا.

وأما الإرث فلا يناط بدرجة القرابة وعاطفتها، بل هو ركن من أركان تكوين

الأسرة ومصالح الأمة الاقتصادية، وكل منهما يقتضي أن يكون جل الثروة في

أيدي (الجنس القوي النشيط) لأنه أقدر على جميع أنواع التثمير والاستغلال

والقيام بشؤون النفقات المنزلية (العائلية) والقومية والدولية، والذي يقعد

(بالجنس اللطيف الضعيف) عن مجاراته في الأمرين (الاستغلال والإنفاق) هو

وظيفة الأمومة؛ الأمومة التي عكس الدكتور فخري القضية وخالف مقتضى الفطرة

فجعلها سببًا للمساواة.

وجملة القول أن الإسلام خالف جميع الشعوب وشرائعها بما شرعه من العناية

بالنساء، وإعطائهن أكمل حقوق الزوجية التي تقتضيها سنن الفطرة السليمة،

ومنحهن في الإرث نصف ثروة الأسرة من جميع وجوه القرابة النسبية والزوجية

ولم يضع عليهن من الواجبات المالية نصف ما وضعه على الرجال، فقد ترث

المرأة المتزوجة أباها وأمها وبعض إخوتها وأخواتها وعمومتها وهي في حجر

زوجها ينفق عليها وعلى أولادها، ولا يكلفها الشرع أن تنفق من ذلك شيئًا على نفسها

ولا على أولادها فضلاً عن زوجها، إلا أن تتفضل بالتبرع بذلك فتكون لها المنة.

وأما أخوها الذي يشاركها في هذا الإرث كله فيأخذ منه مثلَيْ ما تأخذه فهو

مكلف أن ينفق على زوجة أو أكثر وعلى أولاد قد يكونون كثيرين، فأيهما يكون

أكثر مالاً، وأحسن حالاً، وأضمن مآلاً؟

إذا تيسر للمرأة استغلال ما ترثه كما يستغله أخوها أو أحسن إما بنفسها عند

توفر الوسائل وانتفاء الموانع الزوجية والوالدية، وإما باستخدام أولي الكفاية من

الرجال - فإن ثروتها تزيد على ثروة أخيها المثقل بنفقات الزوجية والأبوة أضعافًا.

ولو شئنا لوضعنا لذلك مُثُلاً حسابية تتجلى بها تفاصيل هذه المسألة المدهشة،

وذلك مما يتيسر لكل من يعرف علم الحساب على تفاوت الناس فيه.

وأراني قد أتيت في هذه المسألة بما قامت به حجة الإسلام تتبختر اتضاحاً،

ودحضت شبهة الإلحاد والإباحة تتضاءل افتضاحًا.

وأرجو من قراء الكوكب المنير أن يمنحوني إجازة في الخمسة الأيام الباقية من

رمضان وأسبوع العيد.

أعادهم الله تعالى عليهم وعلى سائر الأمة بالخير والنعمة وكشف كل غمة

وسأشرح لهم بعدها سائر الحقوق إن شاء الله تعالى.

(المنار)

عرض لنا في أسبوع العيد وعكة تجددت لنا بعدها شواغل فوق الأعمال

المعتادة فأخَّرنا بقية مسائل الموضوع، ثم عرض بعد ذلك الانقلاب المعروف في

سياسة الحكومة، وكان من نتائجه تعطيل جريدة كوكب الشرق، وسننشر بقية

المقالات في المنار، وبعد إتمامها ستصدر في كتاب مستقل إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

بعد نشر هذه المقالة في جريدة كوكب الشرق كتب إلينا الأمير شكيب أن البلشفيك ليس فيه هذا، ونحن نقلناه عن بعض الصحف معزوًّا إلى كاتب من أمريكا.

ص: 135

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

ودولتي إيران وبولونية

وعدنا في الجزء الأخير من المجلد الثلاثين بنشر اعتراف دولة بولونية

بالمملكة السعودية، وسبب ذلك أنه قد زار مصر صاحب الفضيلة مفتي المسلمين في

بولونية وزعيمهم الديني الشيخ يعقوب شنكفتش في طريقه إلى الحجاز، فلقي من

تكريم فضلاء المسلمين وجمعية شبانهم، ومن جمعية الرابطة الشرقية ما يليق

بزعامته وشخصه الكريم، وقد ألقى في نادي الخطابة من دار جمعية الشبان

المسلمين محاضرة في بيان حال المسلمين في بولونية وما لهم فيها من حرية الدين

المطلقة ومن مساعدة الحكومة البولونية الكاثوليكية لهم ما كان موضع الإعجاب

والعجب من كل مَن سمعه؛ لأنه فوق المعهود من الدول الأوربية. وسببه الحقيقي

عندنا أن تدين بولونية أمتها وحكومتها بالنصرانية تدين عقيدة وإخلاص، فهو لا

ينافي الاتفاق مع المسلمين، وأما تدين دول الاستعمار والدعاية فهو تدين سياسة

وتجارة وبذلك كان مثار الشرور.

ثم سافر المفتي إلى الحجاز، وحظي مع الوفد البولوني المؤلف برياسة المعتمد

السياسي الجديد لدولته لدى ملك المملكة الحجازية النجدية بلقاء ملكها في مدينة جدة،

واحتفل فيها بتبادل خطبتي الاتفاق بين الدولتين بما هو صريح في اعتراف حكومة

بولونية وشعبها بمزايا الشعب العربي الإسلامي، والرغبة الصادقة في مودته بأسلوب

لم يعهد مثله من الدول الأوربية في روحه ومغزاه. وكان جواب الملك السعودي زعيم

العرب والإسلام له بمثل هذه الروح الشريفة؛ لهذا أحببنا نشر ذلك في المنار للتنويه

به.

وقد اتفق أن جريدة أم القرى الحجازية الغَرَّاء نشرت تفصيل الاحتفال بالوفد

والمعتمد البولوني عقب تفصيل الاحتفال بالمعتمد الإيراني وكنا نوهنا في المنار

بالاتفاق بين الدولتين السعودية والبهلوية الإيرانية في المنار وأظهرنا السرور به

ولكننا رأينا في خطبة المعتمد الإيراني وجواب الملك السعودي له ما ضاعف

سرورنا بأصل الاتفاق بين هاتين الدولتين الإسلاميتين المستقلتين، وهو التصريح

فيهما بالجامع الأقوى والأعلى بينهما وهو الرابطة الإسلامية وتعزيز الإسلام، وقد

أكبرنا هذا التصريح الذي يعبق منه شذى الصدق والإخلاص؛ لأنه وقع بعد سعاية

خبيثة لإيقاع الشقاق بينهما إحياءً وتجديدًا لشر المصائب والرزايا القديمة التي

أضعفت الإسلام والمسلمين وهي العداوة بين أهل السنة والشيعة. وبعد ما وقع من

شيعة العراق من إظهار العداوة والبغضاء لأهل السنة النجديين وتكفيرهم، ومن شيعة

سورية من نشر أحد شيوخ علمائهم لكتاب خبيث في الطعن في دين الوهابية

يتضمن الطعن في السنة وأئمتها وحُفاظها، ومن تأليف عالم آخر منهم لكتاب آخر في

دعاية الرفض والطعن في أهل السنة، وتصدي مجلتهم العرفان لنشر هذه الدعاية.

فهذا الاتفاق بين الدولة المقيمة للسنة على أصولها الصحيحة والدولة الممثلة

لفريق الشيعة الإمامية، وبناؤه على ما صرح به في الخطبتين من جعل الشعور

الإسلامي والوحدة الإسلامية أساسًا للمودة، والاتفاق والتعاون - يعد مبدأ إصلاح

إسلامي عظيم تعب دعاة الإصلاح في سبيله تعبًا عظيمًا ولم يفوزوا بما كانوا

يرجون منه، وناهيك بما قام به حكيمَا نهضتنا الإسلامية منذ نصف قرن من السعي

الحميد لذلك. وهما السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده

المصري.

وإننا نبدأ بنشر خطبتي هذا الاتفاق وننشر عقبه خطبتي الاتفاق الآخر.

خطاب الممثل الإيراني

(وهو صاحب السعادة حبيب الله خان هويدا)

يا صاحب الجلالة:

إن مولاي المعظم صاحب الجلالة شاهنشاه إيران - خلد الله ملكه - أولاني

أسمى شرف، وأعظم فخر، وأغلى ثقة، بتعييني ممثلاً في بلاط جلالتكم؛ لأقوم

بكل قواي على إحكام روابط المحبة والوداد الموجودة لحسن الحظ بين الدولتين

الصديقتين الإسلاميتين.

إن اطمئناني - يا صاحب الجلالة - على وجود الصداقة الخالصة المتينة بين

الحكومتين المعظمتين، واعتمادي وثقتي على العواطف السامية الملوكانية التي

شملتموني بها عند مثولي بين يدي جلالتكم في الدفعات الماضية، وشعوري على ما

بين الأمتين من روابط الإخاء والولاء يشدد ساعدي في تأدية الواجب، ويقوي

عزيمتي على القيام بمهمتي.

يا صاحب الجلالة:

إن بين الشعبين صلة أكيدة، قوامها الدين المبين، وأواصر إخاء وثيقة،

عمادها الاتحاد والغاية في النزعة القومية؛ لأن الأمتين استناروا من نور واحد

أشرق من أفق البطحاء واستفاضوا من منبع فيض واحد كان ينبوعها هذه الأراضي

المقدسة.

فأي ضمان أثبت على دوام المحبة وأحفظ على تبادل الولاء الصادق من

الاتفاق في شعائر الدين والتقاليد القومية؟ وإني - يا صاحب الجلالة - أراني في

هذه الساعة محاطًا بروح الشرف والفخار بتشرفي بالمثول بين يدي جلالتكم لتقديم

أوراق اعتمادي، الكتاب الكريم المرسل من لدن صاحب الجلالة شاهنشاه بهلوي

متبوعي المعظم مليك إيران لجلالتكم بتعييني ممثلاً للدولة الإمبراطورية في بلاط

جلالتكم مليك الحجاز ونجد وملحقاتها، فأغتنم هذه الفرصة الثمينة - يا صاحب

الجلالة المعظم - لأعرب عن المودة الصادقة الأكيدة التي يبديها مليكي المعظم في

تمنياته لذاتكم الملوكانية بالفوز والتأييد، ولأسرتكم الملكية الكريمة بالعظمة والإقبال،

ولأمتكم المجيدة بالسعادة والرفاء، كما أن حكومة جلالة مولاي المعظم والأمة

الفارسية لترجو بأن يكون عهد توليتكم شؤون الدولة وتبوأكم عرش المملكة فاتحة

واطرادًا للرقي والتقدم، ويعود على الأمة العربية بالعز والرفاهية، ويزيد الصلات

الودية الموجودة بين الشعبين الفارسي والعربي متانةً وإحكامًا، مولاي.

***

الجواب الملوكي

وقد تلاه أمين السر لصاحب الجلالة السعودية الأستاذ الشيخ يوسف ياسين

يا جناب الممثل:

إنه لمن دواعي سرورنا العظيم أن نتقبل ممثل صديقنا العزيز جلالة شاهنشاه

إيران في بلاطنا ليكون واسطة في تأييد أواصر الصداقة - القائمة ولله الحمد -

وتمتين حسن الصلات بين البلدين اللذين يرتبطان بصلات الجوار والحس المشترك

في الشعور الإسلامي العام.

وإنه ليسر شعب هذه البلاد المقدسة أن يروا هذه الصلات الحسنة مستمرة

على الدوام مع سائر الشعوب التي تنتسب للإسلام ليكون هذا عونًا على ارتباط

المسلمين جميعًا للتعاضد على العمل الذي كان منشؤه - كما ذكرتم - هذه البلاد

المقدسة ليسطع نور الإسلام في سائر الآفاق ويكون من آثار سطوعه تعاضد

المسلمين على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.

ولقد كان من دواعي سرورنا أن يقع اختيار جلالة صديقنا العزيز لجنابكم

لتمثلوه لدينا لما عرفناه في شخصكم من القديم في السعي والحرص في تأييد أواصر

الصداقة بين البلدين. تلك المساعي التي أنتجت - ولله الحمد - هذا العصر السعيد

من الوئام والاتحاد بيننا وبين الجارة الصديقة؛ لذلك نتقبل بسرور أوراق اعتمادكم

التي حملتموها من لدن جلالته.

ونحب أن تكونوا على ثقة - جناب الممثل - من أنكم ستلقون منا ومن

رجال حكومتنا كل مساعدة وتأييد لتتمكنوا من القيام بمهمتكم التي أُسندت إليكم خير

قيام، وإنا لنتمنى لكم توفيقًا ونجاحًا في جميع ما تسعون إليه من أعمالكم

المفيدة. والسلام.

***

اعتراف حكومة بولونيا بالحكومة السعودية

(منقول من جريدة أم القرى الغراء بحروفه)

في الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور تشرف الكونت إدوارد راشينسكي

والدكتور يعقوب شنكفتش مفتي مسلمي بولونيا أعضاء الوفد البولوني الذي ذكرنا نبأ

وصوله في العدد الماضي بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد استقبل الوفد

بالمراسم المعتادة ولقي من جلالة الملك كل عطف ورعاية.

ثم ألقى الكونت إدوارد راشينسكي أمام جلالة الملك خطابًا نشرنا صورته فيما

يلي وعقبه الشيخ يوسف يس فألقى الخطاب الجوابي الملوكي.

***

(خطاب الكونت إدوارد)

يا صاحب الجلالة:

أتشرف بأن أقدم إلى جلالتكم رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية

بولونيا الفتية الناهضة وباسم فخامته أعرض على جلالتكم تمنيات صحتكم ودوام

ملككم لرفاه الأمم المتحدة تحت لوائكم المنصور.

إن مملكة بولونيا تعرف جيدًا الأمة العربية الجسورة وفروسيتها، وتقدرها

حق قدرها، وقد اشتهرت في العالم بحبها للحرية حتى بلغت شهرتها إلى بولونيا،

فتغنى شعراؤها منذ العصور بفروسية هذه الأمة الكريمة.

إن الأمة البولونية تقدر هذه الفروسية وهذا الحب للحرية؛ لأنها هي أيضًا

قاتلت متفانية لنيل استقلالها وتحملت آلامًا ومتاعب كثيرة لبلوغ غايتها من الحرية

المنشودة، وقد كانت حياتها في خطر ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه

استطاعت أن تحافظ على كِيانها حتى أصبحت مملكة قوية يتمنى العالم كله هدوءها

وسكونها للمحافظة بسببها على السلام العام.

أقدم هذا التقدير وهذه الممنونية التي تحفظها الأمة البولونية نحو الأمة العربية

الكريمة ونحو جلالتكم الذي جمعتم هذه الأمة العربية وكونتم مملكة الحجاز ونجد

وملحقاتها العظيمة على يدكم المنصورة بسعيكم النادر وحكمتكم النافذة، وشجاعتكم

الشخصية التي هي أكبر ما تقدرها الأمة البولونية.

إن شهرة جلالتكم - كأتقى ملك وأكثرهم دفاعًا عن الدين - تزداد انتشارًا يومًا

فيومًا بين إخوانكم المسلمين في بولونيا الذين توطنوا بلاد الشمال البعيدة منذ قرون

عديدة، وقوبلوا من الأمة البولونية كإخوة لشهرتهم بالتخلق بالأخلاق الحسنة

والفروسية والتفاني في الدفاع عن الوطن مع إخوانهم البولونيين حين هجوم الأعداء

على بلادهم، وقد حضر اليوم معي إلى هنا ممثلهم ورئيس ديانتهم المحترم المفتي

الأكبر يعقوب شنكفيتش ليرتبط بمنبع ديانتهم ارتباطًا وثيقًا ويهنئ جلالتكم بالصعود

على عرش البلاد المقدسة والدفاع عنها.

إنني لا أشك من أن وفدنا - الذي أتشرف بأن أكون رئيسه - ليستطيع أن

يضع الأساس الأول لارتباط الأمتين الكريمتين (الأمة العربية والأمة البولونية)

برباط الصداقة القلبية المتينة لمنفعة هاتين الأمتين اللتين يمكنهما أن تنتفعا من

بعضهما انتفاعًا عظيمًا فتظهر هذه المنفعة جليًّا في ميدان الاقتصاد؛ لأن بلادنا

محشودة بثروات طبيعية وصناعات تتقدم بسرعة مدهشة فيمكن أن تستفيد هاتان

المملكتان البعيدتان من بعضهما فائدة عظيمة بسبب تبادل محصولاتهما الطبيعية

والصناعية.

بعد أن تشرفت بتقديم إحساسات وتمنيات حضرة فخامة رئيس الجمهورية

البولونية الفتية، وحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي وباسم

الحكومة البولونية والأمة البولونية كلها _ ألتمس السماح لي بأن أتشرف بتقديم

تمنياتي وإحساساتي الشخصية مع إحساسات وتمنيات زميلي المحترم وأرجو

وألتمس من جلالتكم التنازل بقبولها وتعطفوا علينا بمعونتكم في إنهاء مهمتنا التي

تشرفنا بتحملها لإنهائها مع معاونة جلالتكم.

***

الجواب الملوكي

يا جناب المندوب:

إننا نتقبل بسرور رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا

الفتية الناهضة ونتقبل بامتنان التمنيات الطيبة التي نقلتموها لنا عن فخامته.

كما أننا نفاخر بما ذكرتم مما هو معروف في بلادكم عن مزايا أمتنا العربية

التي نراها تشابه في كثير من الحالات الأمة البولونية في مراميها ومزاياها من

الشجاعة والإقدام.

وإن الأمة العربية لتنظر للبراعة التي ظهرت في الأمة البولونية وعلى

الأخص في الأيام الأخيرة بعين التقدير والاحترام، ولقد سرنا ما ذكرتم لنا عن

الذين ينتسبون للإسلام ويتفيئون ظلاله، وإنا لنتمنى لهم هناءً وراحةً وتوفيقًا في

إقامة شعائر دينهم ونجاحًا في السير على ما جاء به الإسلام الذي كان منشؤه هذه

الديار المقدسة التي تسر باستقبالكم فيها، وإنا لنرحب بحضرة ممثل المسلمين في

ديار بولونيا وسيلقى منا ومن رجال حكومتنا كل مساعدة في سبيل تأييد الصلات مع

أولئك المسلمين الذين نهتم بأمرهم كل الاهتمام.

وإنا لواثقون من أنه سيكون لوفدكم الكريم أحسن الأثر في العلاقات

الاقتصادية بين بلادنا وبلاد الأمة البولونية النجيبة.

ونرجوكم أن تقدموا بالنيابة عنا لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية

البولونية ولحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي تمنياتنا بدوام

صحتهما ورفاهيتهما، كما نرجو إبلاغ الأمة البولونية النجيبة تمنياتنا لسعادتها

وسُؤْدُدها كما نتمنى لجنابكم ولرفيقكم الموقر كل هناء وصحة وعافية، ونأمل أن

يبدأ في القريب العاجل عهد علاقات ودية واقتصادية بين البلادين تكون مفتاح هذه

العلاقات والسلام.

وبعد الانتهاء من الخطب أبلغ الدكتور إدوارد راشنسكي جلالة الملك اعتراف

حكومة بولونيا بارتقاء جلالته على عرش مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، فشكر

جلالته الحكومة البولونية على صنيعها هذا. اهـ.

_________

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الفتح الأوربي والفتح الإسلامي

والاستعمار البريطاني والفرنسي

يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم، فهم

يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم، شغلهم الفاتحون

لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم، وتشريع عادل، وتاريخ مجيد،

وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل

مرعبة من مظاهر قوتهم، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم

واستذلالهم، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال، وتنكيس رؤوس الرجال،

حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد

أن سلبهم سعادة الدنيا.

كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من

أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم،

مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسمحون

لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم، وبجميع الأعمال التي

يقدرون عليها لترقية أنفسهم. ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا

للمسلمين في الأمور الروحية، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية،

وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر

على الأداء.

وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون

عليها أكثر ثمرات كسبهم، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم،

ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم -

يسومونه سوء العذاب، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم، وإن هو دخل في

دينهم. وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية، وقد كان رجال سياستها

يسخرون من الإنكليز؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون

عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية،

ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة، ويكتفون في

سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية

ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية

العامة لا خروج عنها.

كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في

مستعمراتها على سيرة دولته (فرنسة) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن

السياسة الإنكليزية الاستعمارية، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان

الاستقلال، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في

استعباد البشر؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة،

ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها!

إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي

عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب، وتُلقي بين

المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء. أما إفساد

الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات

بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة، وإما إلقاء العداوة

والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات.

والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة

أهلها على المطالبة باستقلالها، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم

إلى القيام بشئون الإصلاح فيها، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته

الحيوانية، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه

من أهل بلاده.

وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم

من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم، كما يمنعون منها

المسلمين أنفسهم؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند

تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا

بالمعروف وينهوا عن المنكر، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين

بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً، إذا كان فيما

بينهم بصفة لا يضر غيرهم.

وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على

دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام حكومة تركية من

أنقاضها، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها، وأبطلت محاكمها

ومدارسها وأوقافها، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية، وعلى كتابة

اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة

لا يثق بها مسلم؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية.

ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه

كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا

الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه، وقد حاول اغتيال رئيس

جمهوريته الإلحادية (اللاييك) مرارًا فلم يظفر به، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى

بانقلاب آخر.

فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج

المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة. وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل

لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد،

ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى،

واستعانت على ذلك بحيلة صورية، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة

رسمية أو شرعية، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا

(مرسومًا سلطانيًّا) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني

على شعب البربر ويجرد نفسه منه، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور

هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق

الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية،

ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي

تقدر عليها، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى، وهم

يزعمون أنه أصدره، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به، بل عادت بعد موته إلى

ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة

المخزن (الطيب المقري) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام

بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة

العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره

يحل محل الشريعة الإسلامية، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية.

أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا

الحق، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع، كأحكام الزوجية والطلاق

والإرث، وهي منصوصة في القرآن، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة

القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ

الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن

تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن

أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم

بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين.. إلخ، وكذا مَن استحل

أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم، وإذا كان من يجحد مثل

هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام

بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم؟ ! قال صاحب

عقيدة جوهرة التوحيد:

وَمَن لمعلوم ضرورة جحد

من ديننا يقتل كفرًا ليس حد

ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل

تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل، وكان قد

استحوذ عليهم الخوف والجبن، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة

هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله، مع البحث في

آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم

يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام

بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل،

ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين، ومصلحة

البشر أجمعين.

_________

ص: 148

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المعاهدة الجديدة

بين إنكلترة والعراق

إن في العراق حزبًا عراقيًّا إنكليزيًّا، وأعني بكونه إنكليزيًّا أن ساسة الإنكليز

يثقون بزعمائه ويعدونهم أصدقاء أو غير أعداء لهم. وإن من أركان الحزب

العراقي الإنكليزي: نوري باشا السعيد، وجعفر باشا العسكري. ولما تعذر الاتفاق

بين الإنكليز في العراق وبين الوزارات كلها، عَهِد جلالة الملك فيصل برياسة

الوزارة إلى نوري باشا السعيد فلم يلبث أن اتفق مع الإنكليز على عقد معاهدة

سياسية عسكرية يلغي بها ما يسمى الانتداب وتجعل شؤون العراق بين الدولتين

بدون وساطة جمعية الأمم، بل تساعد الدولة الإنكليزية العراق بمقتضاها على

أن تكون عضوًا في جمعية الأمم كسائر الممالك الداخلة في دائرة الإمبراطورية

البريطانية المرنة التي يسعى ساسة لندن لجعْل الشرق كله في جوفها.

وقد كانت الدعاية التي تقدمت هذه المعاهدة والتي أعلنت فيها بالإجمال قبل

التفصيل، متقنة كل الإتقان، فلم يعلم الناس بما فيها من الخطر على العراق بل

على الأمة العربية كلها إلا بعد نشرها برمتها. وقد كنت ممن ظنوا أن أكبر غوائلها

بقاء حظائر الطيارات البريطانية فيها. ثم ظهر أنها معاهدة عسكرية تقرر فيها جعل

بلاد العراق وكل ما فيها من القوى وطرق المواصلات تحت تصرف الإنكليز

العسكري إذا وقع بينهم وبين أحد حرب، كما تقرر فيها مساعدة الإنكليز للعراق

بقواها العسكرية حالة وقوع حرب بينها وبين دولة أخرى، بل تقرر فيها أن تكون قوة

العراق العسكرية وأسلحتها في تصرف الإنكليز!

ومن المعلوم بالبداهة عند جميع المشتغلين بالسياسة أن الدولة البريطانية

موجهة براعتها السياسية إلى استعباد الأمة العربية وجعل جميع بلادها العامرة تحت

سلطانها، من مصر الرازحة تحت نير احتلالها العسكري إلى العراق فالكويت

فعُمان أي إلى آخر حدود جزيرة العرب والتمهيد بذلك إلى جعل الحجاز ونجد تحت

سيطرتها، وبهذا تقطع الطريق على الشعوب العربية دون الاتفاق والاتحاد

والاستقلال.

ومن المعلوم بالاختبار الصحيح وتاريخ الفتح أو الاستعمار الإنكليزي في الهند

ثم في مصر والسودان أن الإنكليز يضربون الأمم الجاهلة أو المتخاذلة بعضها

ببعض، فيفتحونها بأيدي أهلها وبأموالها، فإن ما ينفقونه من المال في أول الأمر

يستوفونه بعد ذلك مع ربح فاحش جدًّا، هكذا فعلوا في الهند وهكذا فعلوا في مصر

والسودان، وهكذا يفعلون اليوم في البلاد العربية بِدَارًا أن تجمع كلمتها وتوحد

نهضتها وتؤلف الدولة أو الدول المتحدة أو المتحالفة التي يسعى إليها أهل اليقظة

والرأي من أبنائها.

نصبوا أولاد الشريف حسين ملوكًا وأمراءَ على حدود الحجاز ونجد لعلمهم بما

تأرَّث بينهم وبين ابن السعود من سعير العداوة والبغضاء، فهم يخوفون به ملك

العراق وأمير شرق الأردن ويستعينون بنفوذهما وبرجال البلاد ومالها على إقامة

الحصون والمعاقل تجاه نجد والحجاز، ويخوفون ملك الحجاز ونجد بأنه إذا شذ عن

رغبتهم فإنهم يقاتلونه بأيدي أمته العربية وبما وراءها من قوتهم، لعلمهم أن قوة

العراق وشرق الأردن دون قوته الآن، على أنهم يُظهرون الصداقة له ولجيرانه معًا

كما كانوا يفعلون في الهند سواء، وسنأتي بالشواهد التاريخية على هذا في الجزء

التالي إن شاء الله تعالى.

عبد العزيز آل سعود رجل مسلم قوي الإيمان، عربي صادق العربية، لا

مطمع له في بلاد شرق الأردن ولا العراق، وهو لم يزحف على الحجاز ويستولي

عليه إلا مضطرًا إلى ذلك بما أحرجه الملك حسين حتى جعل مقاتلته ضربة لازب

يوجبها الشرع الإسلامي ومصلحة نجد والعرب والمسلمين، وهو يرى حمل الحجاز

ثقيلاً عليه لما يحتاج إليه من أنواع الإصلاح الكثيرة من دينية ومدنية، وناهيك

بتقريب مسافة الخلف بين تربية أهله وشؤونهم الدينية والمعاشية وتربية أهل نجد

وشؤونهم، فهو لا مطمع له فيما وراء ذلك ولا ينوي أن يعتدي على أحد من جيرانه

في الجنوب ولا في الشمال وكلهم من قومه وأهل ملته.

فأي حاجة مع هذا إلى إقامة الحصون والمعاقل على حدوده إذا لم تكن

استعدادًا لما ذكرنا من قطع الطريق على الوحدة العربية قبل أن تتمهد سبيلها؟

وأي حاجة بالعراق إلى مجاراة الإنكليز على هذه السياسة بمعاهدة حربية وهم

يعلمون أن جيرانها الآخرين من الترك والإيرانيين لا يمكن أن يتصدوا لفتحه لأن

لهم في أنفسهم شغلاً عن ذلك، على علمهم بأن الدولة البريطانية لا تنوي ترك

العراق لأهله، وأن أعمالها العسكرية ولا سيما المطارات والمعاقل والحصون

والسكك الحديدية التي تصل العراق بحيفا قبل انتهاء الخمس السنين التي ضربتها

المعاهدة أمدًا لخروج الجيوش الإنكليزية من العراق - وما في النية إحداثه من

السكة الحديدية العسكرية التي تصل العراق بالبحر الأحمر - كل ذلك وسائل

لرسوخ قدمها في هذه البلاد وتأسيس إمبراطورية بريطانية جديدة فيها في هذا

الوقت الذي تتداعى فيه أركان إمبراطورية الهند الكبرى التي لولاها لم تكن إنجلترة

من الدول العظمى، وستستقل الهند بيقظة زعمائها وعلمهم وإخلاصهم، بل في الوقت

الذي يتحدث فيه بعض ساسة أوربة بقرب أجل هذه الدولة ويتوقع فيه سقوطها في

الحرب الآتية التي لا بد منها.

إن أعظم ضباط العراق وطنية عربية ومعرفة بقيمة الاستقلال قد أقسموا أغلظ

الأيمان لجمعية عربية غايتها استقلال البلاد العربية استقلالاً تامًّا بجميع معانيه

الحقوقية والسياسية، وجعل الأمة العربية في مصاف الأمم الحية، فماذا فعلوا

بيمينهم هذه؟ ومنهم بعض أعضاء هذه الوزارة التي عقدت هذه المحالفة وهي الآن

تبذل نفوذها لتأليف مجلس نيابي يجعل استعباد إنكلترة العسكري للعراق شرعًا

بالاعتراف لها بأنه من طرق مواصلاتها الإمبراطورية! وبأن لها الحق في

استخدام جميع قواته لمصلحتها العسكرية، وفي جعْل تأليف قواته العسكرية وسلاحه

وسائر شؤونه بيد الإنكليز يتصرفون فيها كما تصرفوا في قوات مصر، ولم يكن

لهم من الأمة المصرية مثل هذه المعاهدة ولا هذا الاعتراف.

إن تأليف مجلس نيابي يبرم هذه المعاهدة على علاتها ليس له معنى إلا بيع

العراق للإنكليز بيعًا شرعيًّا لا يمكن الرجوع فيه، وإنما يبقى أمام العراق طريق

واحد للحرية والاستقلال وهو الثورة العامة لإخراجهم بالقوة، ولكنها ستقطع هذا

الطريق عليهم بأيديهم. وقد شرعت في ذلك ببثّ الأحقاد المذهبية بين أهل السنة

والشيعة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، والعصبيات الجنسية بين العرب

والكرد والآشوريين، وبإلقاء جراثيم الإلحاد والإباحة وحرية الفسق التي لا يمكن أن

تقوم لأمة معها قائمة، وستنزع السلاح من جميع القبائل بقوة الجيش العراقي الذي

ستنظمه لخدمتها. وللعراقيين كبير عبرة بسيرتهم في مصر والسودان، ومَن لم

تؤدبْه الحوادث أدبتْه الكوارث!

_________

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(نور الإسلام)

(مجلة دينية علمية أخلاقية تاريخية حكيمة. تصدرها مشيخة الأزهر

الشريف أول كل شهر عربي [1] مدير إدارة المجلة عبد العزيز (بك) محمد من

أعضاء مجلس الأزهر الأعلى. رئيس التحرير السيد محمد الخضر حسين من

علماء الأزهر.

قيمة الاشتراك السنوي داخل القطر المصري 40 قرشًا، لطلبة المعاهد

والمدارس 20، خارج القطر المصري 50) .

هذا تعريف إدارة المجلة بها، ولقد كان وجود مجلة لمعهد الجامع الأزهر

أُمنية قديمة لنا ولكثير من مفكري المسلمين ومحبي الإصلاح ونشر الإسلام والدفاع

عنه. وقد بيَّن رئيس التحرير هذا في فاتحة العدد الأول وذكر سبب حصول هذه

الأمنية وأصحاب الفضل فيه وبيان الخطة التي رسمتها المجلة لنفسها، وإننا ننشر

ذلك لما لنا من العناية الخاصة والاهتمام بأمر هذه المجلة بعد أن سلخنا ثلث قرن في

الاشتغال بنشر مجلة المنار والقيام فيها بأهم فروض الكفاية التي اشتدت الحاجة إليها

في هذا العصر الذي فشا فيه الإلحاد، ونشر شبهاته والدعوة إليه في جميع البلاد،

ونشط دعاة النصرانية في محاولة تنصير المسلمين في جميع الأقطار بمساعدة دولهم

وأغنيائهم، وقد دخلنا في سن الشيخوخة ولم نوفَّق لتربية أحد نرجو أن يقوم بعدنا

بإصدار المنار، كما أننا لم نجد مجلة إسلامية تقوم بما يقوم به، وهكذا كل عمل

يقوم به الأفراد يزول بزوالهم في الغالب؛ لهذا نسر ونهتم بإنشاء المعهد الإسلامي

الأكبر لمجلة إسلامية يُرجى دوامها بدوامه إن شاء الله تعالى، ولهذا نطيل في

تقريظها ما لم نطله في تقريظ مجلة أخرى وما لم تطله الصحف الأخرى بتقريظها،

وهذا نص ما جاء في فاتحتها:

(أحسَّ الناس شدة الحاجة إلى هذه الصحيفة ووثقوا بأن سيكون لها في إنارة

السبيل والذب عن حوزة الدين موقف خطير، وهذا الإحساس الشريف هو الذي

بعث حضرة صاحب العزة عبد العزيز محمد بك مدير هذه المجلة أن اقترح على

المجلس الأعلى للمعاهد الدينية في جلسته المنعقدة في 3 جمادى الثانية (؟) سنة

1345 الموافق 8 ديسمبر سنة 1926 أن يدرج في ميزانية المعاهد مبلغًا يقوم

بإنشاء مجلة إسلامية، فعهد إليه المجلس بوضع تقرير في مشروع هذه المجلة على

أن يعرضه عليه في جلسته المقبلة. وفي يوم 8 محرم (؟) سنة 1346 - الموافق

27 يوليو سنة 1927 عرض حضرته هذا التقرير في المجلس فكان من المجلس

أن قرر تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: المدير العام للمعاهد

الدينية المرحوم الشيخ أحمد هارون. وشيخ معهد الإسكندرية لذلك العهد الشيخ

محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر، وشيخ معهد طنطا المرحوم الشيخ

عبد الغني محمود، وعهد إليها ببحث ما احتواه التقرير من الاقتراحات، فنظرت

اللجنة في التقرير وقدمت نتيجة بحثها إلى المجلس. وحينما أخذ ينظر في ميزانية

سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للإنفاق على المجلة. إذ وثق بأنها عمل صالح وفاتحة

نهضة مباركة.

ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ

محمد الأحمدي الظواهري، كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة،

فأخذ يدبره بجد وحكمة، حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه.

وفضل هذا المشروع الإسلامي الجليل عائد في الحقيقة إلى حضرة صاحب

الجلالة مولانا ملك مصر المعظم أحمد فؤاد الأول حرسه الله؛ فإن جلالته سار على

سنن أسلافه الأماجد، فأقبل يرفع صروح العلم ويحوط العلماء بالرعاية حتى نال

الأزهر الشريف وعلماؤه من هذه الرعاية أوفر نصيب.

فإقبال جلالته على هذا المعهد الإسلامي بعناية ضافية قد وطد في نفوس رجال

العلم الأمل في أن تكون دعوتهم إلى سبيل الخير ناجحة، وجعل الأزهر بمكان

القادر على أن يصرع كل ضلالة وينهض بكل صالحة.

خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة، لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن،

ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول؛ إذ لا يعزب عنها ما يحدث عن

مثل هذا القصد من الفتن وبواعث التفرقة بين سكان الوطن الواحد وهم في حاجة

إلى السكينة والتعاون على المصالح فردية كانت أم اجتماعية.

خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن،

وقصارى مجهودها أن تعمل على نشر آداب الإسلام وإظهار حقائقه نقية من كل

لبس، وتكشف عما ألصق بالدين من بدع ومحدثات، وتنبه على ما دس في السنة

من أحاديث موضوعة، وتدفع الشبهة التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من

أصول الشريعة، وتعنى بعد هذا بسير العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم

لتذكرة لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيِّمة

علمية كانت أو أدبية. وسترى هذه المقاصد إن شاء الله مودعة في الأبواب

المفصلة على ما يأتي: التفسير. السنة. السيرة النبوية. أصول الدين. دفع الشبه.

أصول الفقه. الفتاوى والأحكام. العلوم والآداب. آراء الباحثين. التاريخ. السير

والتراجم. أنباء العالم الإسلامي. الطرف والمُلَح.

تتناول المجلة من مباحث هذه العلوم والفنون ما يدعو الحال إلى نشره، ولا

تحكي رأيًا خارجًا عن نهج الصواب إلا أن تقرنه بما يكشف عن كنهه، وسنتحرى

بتوفيق الله تعالى الطريقة التي تتجلى بها سماحة الدين في بهاء طلعتها وصفاء

ديباجتها، ونُراعي في تحريرها الأساليب التي تألفها أذواق القراء، ويجتلون فيها

صور المعاني ماثلة أمامهم لا لبس فيها ولا التواء.

تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق،

مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وإذا كان هذا أدبها مع قوم هم

عن الحق غافلون فأحرى بها أن تأخذ به في مناقشة آراء العلماء إذا رأت في

بعضها انحرافًا عما تقتضيه نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة الواضحة. نذكر

هذا ليلحظه الذين يرغبون في مراسلة المجلة ببعض منشآتهم الموافقة لمنهجها.

ومن أجل أن يكون جهاد هذه المجلة متصلاً بالحركة الفكرية في البلاد

الأوروبية أنشئ في إدارة المجلة قسم لترجمة ما يجيء في الصحف الأجنبية من

مباحث علمية أو مقالات يُتحدَّث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء

مقالة في الإسلام صدرت من غير منصف إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأ كاتبها

ناقلاً كان أو مدعيًا.

هذا غرض المجلة وهو بلا ريب غرض نبيل، وهذه خطتها وهي كما عرفت

خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل) .

اهـ.

(المنار)

علمنا من هذا البيان المنقول من المجلة أنها مجلة رسمية تابعة لمشيخة

الأزهر، فهي المسئولة عنها، ويعد كل ما ينشر فيها من أقلام محرريها ومديرها

صادرًا عن المشيخة نفسها، وتعد هي مقرة له ومعترفة به، وكذا ما ينشر فيها من

الرسائل المنشأة لغيرهم أو المترجمة إذا سكتت المجلة عليه ولم تتعقبه بنقد ولا

تصحيح، وهذه مزية لها تجعل تبعتها على المشيخة عظيمة، وتكون ثقة الناس

بصحة ما فيها بقدر ثقتهم بالمشيخة في جملتها، كأنه فتاوى صادرة عنها.

وقد كان من موانع إنشاء المشيخة لمجلة إسلامية علمية في السنين الخالية ما

كان من البُعد الشاسع بين تعليم الأزهر الديني واللغوي الإنشائي وما تجدد من حاج

العصر، فقلما كان يوجد في الأزهر مَن يستطيع أن يكتب في بيان عقائد الدين وآدابه

وحكمة تشريعه والدفاع عنه ما تقبله عقول غير طلاب الأزهر وترجى استفادتهم

منه، وكان أول من أرشدهم وأرشد غيرهم في هذا القطر إلى الإنشاء العصري في

أساليبه وموضوعاته السيد جمال الدين الأفغاني، ولكنهم ناوؤوه وناوؤوا تلاميذه

ومريديه، وكانوا يعدون الاعتراف بحاجتهم إلى أي علم من العلوم - غير ما

يتداولونه بينهم - أو إلى أي إصلاح لمنهاج التعليم، إقرارًا بنقص الأزهر ونقص

أهله، ووضعًا من عظمة قدره وشهرته!

لهذا أعد أول مأثرة للمشيخة الحاضرة ولفضيلة رئيسها الشيخ محمد الأحمدي

في هذا الطور الجديد أنه ناط الأعمال الرئيسية في المجلة الأزهرية برجال من غير

خريجي الأزهر، وهي إدارة المجلة ورياسة تحريرها وكتابة أهم مباحثها وأعلاها

وأشدها توقفًا على فنون اللغة وعلوم الشرع وهي مباحث التفسير والحديث؛ فالمدير

العام للمجلة والمقترح لها وهو صاحب العزة عبد العزيز بك محمد من خريجي

مدرسة الحقوق وقضاة المحاكم الأهلية، وقد جعل عضوًا في مجلس الأزهر الأعلى

هو وآخرون من أمثاله من قبل الحكومة بناءً على نظرية حاجة الأزهر إلى رجال

من غير أهله لإصلاح شأنه وتنفيذ قانونه، وهو كفء لهذا وذاك، ورئيس التحرير

صاحب الفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين من علماء تونس وأدبائها وقد أُعطي

لقب عالم في الأزهر بامتحان خاص وصفة استثنائية وجعله الشيخ محمد مصطفى

المراغي شيخ الأزهر السابق مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة

استثنائية أيضًا، وهو كفؤ لهذا وذاك، ولكنني عجبت له كيف لم يذكر اسم الشيخ

محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبها لهذه المجلة في فاتحة

العدد الأول؛ مع علمه بأنه هو الذي وضع مشروع المجلة في قانون الأزهر الجديد

وفي ميزانية هذه السنة وخصص لها هذا المبلغ العظيم (ستة آلاف جنيه) وأنه هو

الذي بذل جهده لإقرار الحكومة هذه الميزانية، فله الفضل الأول في تنفيذ هذا

المشروع كما أن له الفضل عليه نفسه، وإن لم يكن من أعضاء جمعيته أو حزبه،

ويجب أن يكون الدين والتاريخ فوق الأحزاب والجمعيات {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ

أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) .

وأما كاتب التفسير والحديث في المجلة الأستاذ الشيخ حسن منصور فهو من

خريجي مدرسة دار العلوم الأميرية؛ ولكنه كان يحضر دروس التفسير معنا على

الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وهذا مرجح له على غيره ممن لم يحضر تلك

الدروس العالية من علماء الأزهر وفيهم من كان يحضرها. ثم إن من المحررين

الموظفين للمجلة صاحبي الفضيلة الشيخ يوسف الدجوي والشيخ إبراهيم الجبالي

وكلاهما من هيئة كبار علماء الأزهر.

إنني أستقبل هذه المجلة بالترحيب والترجيب والتحبيب ولا أرى أن أذكر الآن

رأيي في تحريرها ومسلكها في موضوعاتها، وقد كنت كتبته قبل صدورها في

تقرير قدمته إلى الأستاذ المراغي بطلبه، وإنما أقترح على المشيخة الجليلة

اقتراحين، وأذكرها برأيي في أمرين، أراهما من الواجب عليَّ الآن.

(الاقتراح الأول) أن لا يذكر في المجلة حديث نبوي إلا مقرونًا بتخريجه

وبيان درجته من الصحة وما يقابلها، وأن يتولى ذلك مَن يعنون بعلم الحديث في

الأزهر. وقد رأيت المدير الفاضل يعنى بهذا ولكنه لا يستقصيه، وقد أورد في

ترجمته للفصل العاشر من السيرة النبوية التي كتبها بالفرنسية المرحوم (اتيين

دنييه) الفرنسي المهتدي وسليمان بن إبراهيم الجزائري - هذه العبارة: (وقد

حصل في فرنسة وفي بلاد أخرى من أوربة وإفريقيَّة وآسية دخول أشخاص في

الإسلام فرادى وربما كان ذلك مصداقًا لهذا الحديث النبوي الذي معناه) قد يؤيد الله

هذا الدين بالغرباء منه " وقد وضع المدير لهذا الحديث حاشية هذا نصها: لا يعرف

حديث بهذا المعنى بل الإسلام صلة ولُحمة بين جميع المسلمين مهما اختلفت

أجناسهم وتباعدت أوطانهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) اهـ.

ولكن الحديث مروي في الصحيحين كليهما وفي غيرهما. ولفظه فيهما: (إن الله

يؤيد الدين بالرجل الفاجر) وفي الطبراني: (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من

أهله) .

(الاقتراح الثاني) أن ترغّب أصحاب العلم والرأي والقلم من أهل الأزهر

في التحرير في المجلة بتعيين مكافأة مالية لمَن يجيد كتابة موضوع تتجوده المشيخة،

فإن هذا أمر معهود في المجلات الغنية التي يصدرها الأفراد، فأحرى بمجلة غنية

لمصلحة كبيرة خُصص لها ألوف الجنيهات من الأوقاف أن تفعل ذلك.

وأما الرأي الذي أذكِّرها به فهو أن تنصلها من السياسة أن تمسها في أي شأن

من شؤونها هو تضييق على نفسها وحرمان لمحرريها من حرية خدمة الإسلام

والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها غير سياسة الحكومة الداخلية

والخارجية وأحزاب الأمة كالسياسة العامة والدفاع عما يصيب مسلمي مصر

وغيرهم من رزاياها ومصابها، فالإسلام دين سياسة وسيادة وتشريع يشمل جميع

شؤون البشر فلماذا يحظر رجال الدين على أنفسهم بعض ما يجب عليهم بيانه منها

مما لا يوجد في الكتب المدونة لأنه مما تجدد في هذا العصر؟ ! وإذا لم يوجد في

المجلة إلا ما هو في الكتب استغني بالكتب عنها؟

ومثل هذا قولها: إنها (لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال

الأديان بمكروه من القول) أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن تطعن في الأديان بالبذاء

والسفاهة كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم على الإسلام ولكنها لن تستطيع

أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية المهاجمين للإسلام في مصر

وغيرها مع تجنب كل ما يكرهونه من قول، والله تعالى يقول: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم

مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ} (التوبة: 12) الآية، فإذا

كان العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان،

ومجادلتهم بالتي هي أحسن وإن كرهوها، وأما تعليله لذلك فهو غير مسلَّم من

وجهين:

(أحدهما) أن هذا الذي تخشاه من الفتن والتفرقة في الوطن غير مخشي

في مصر التي اعتادت الحرية وسماع المناقشات الخارجة عن قانون الأدب فكيف

يخشى ذلك من مجلة تلتزم فيها أكمل الأدب؟ ! .

(ثانيهما) أن هذه المجلة تجب أن تكون للإسلام ولجميع الأوطان الإسلامية

لا لمصر وحدها.

_________

(1)

قد سبق إلى إنشاء مجلة دينية بهذا الاسم المرحوم الشيخ أمين أبو يوسف المحامي.

ص: 155