المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الطبع والنشرلرحلة الأمير شكيب الحجازية - مجلة المنار - جـ ٣١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (31)

- ‌المحرم - 1349ه

- ‌فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

- ‌نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مساواة المرأة للرجلفي الحقوق والواجبات

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌أحوال مسلمي روسية

- ‌رسالة مهمة من الصينفي حال مَن فيها من المسلمين

- ‌الدين قبل كل شيء

- ‌رسالة من مؤلف كتابحياة محمد في باريس

- ‌معاملة البنوكاستدراك على ترجمة تيمور

- ‌تهنئة للمنار بالعام الجديد

- ‌ربيع الأول - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نقض أساس مذهب داروين

- ‌مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

- ‌الفتح الأوربي والفتح الإسلاميوالاستعمار البريطاني والفرنسي

- ‌المعاهدة الجديدةبين إنكلترة والعراق

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تفسير القرآن الحكيم

- ‌آفة الشرقأمراؤه المستبدونوزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون

- ‌نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*]

- ‌آراء ساسة فرنسافي سياستها الإسلامية

- ‌كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلامفي المغرب الأقصى

- ‌تهنئة للمنار ونقد واقتراح

- ‌الشيخ سليمان بن سحمانوفاته وترجمتهمن جريدة أم القرى الغراء

- ‌جمادى الأولى - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تلبُّس الجن بالإنس

- ‌جمع كلمة المسلمينقاعدة أهل السنة والجماعة

- ‌السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

- ‌بيان إلى العالم الإسلاميعن قضية البربر في المغرب الأقصى

- ‌إصرار فرنسةعلى إخراج البربر من الإسلام

- ‌الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خانعلى عرش الأفغان

- ‌المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا

- ‌رجب - 1349ه

- ‌ليلة النصف من شعبان

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟!(1)

- ‌للحقيقة والتاريخ

- ‌زيارة وزير الحقانيةلقسم التخصص التابع للأزهر

- ‌شعبان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟(2)

- ‌مناظرة في الجامعة المصريةفي المدنيتين الفرعونية والعربية

- ‌بقية رد المنارعلى مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلامفي الدفاع عن نفسه وعنها

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(2)

- ‌رمضان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

- ‌نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين

- ‌مولانا محمد علي الزعيم الهنديوفاته ودفنه

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(3)

- ‌ذو الحجة - 1349ه

- ‌نسخ الشريعة المحمدية لما قبلهاوبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين [*]

- ‌بيان بشأن المجالس الحسبيةحادث تنصير البربر يتكرر في مصر [*]

- ‌الانتقاد على المنار وتفسيره

- ‌اقتراحمناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة

- ‌نظرة تاريخية في الثورة الهندية الكبرىوأسبابها

- ‌حول النشأة الإسلامية في الهند

- ‌الشيخ محمد عبد العزيز الخولي

- ‌تأخر صدور المناروكثرة مواده المتأخرة والمنتظَرة

- ‌المحرم - 1350ه

- ‌إيطاليةشر دول الاستعمار

- ‌الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي

- ‌العلويون في أوغندة والمنار

- ‌بيان عن سياسة الإبادة والاستئصالالتي اتبعتها إيطاليا في طرابُلس الغرب

- ‌صفر - 1350ه

- ‌الزواج بالمسلمة وراثةوالكتابية والوثنية تنطق بالشهادتين

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في صولو

- ‌حكم وقوف التعظيملشعار الأمة أو الدولة

- ‌عقد النكاحوصيغة الطلاق عند أعراب فِلَسْطِين

- ‌مراهنة سباق الخيل والتداوي بما خلط بمحرم

- ‌مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(4)

- ‌إلحاد في القرآنودين جديد بين الباطنية والإسلام(2)

- ‌التجديد والتجدُّد والمجدِّدون

- ‌مقدمة الطبع والنشرلرحلة الأمير شكيب الحجازية

- ‌خاتمة المجلد الحادي والثلاثين

الفصل: ‌مقدمة الطبع والنشرلرحلة الأمير شكيب الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة الطبع والنشر

لرحلة الأمير شكيب الحجازية

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ

عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم

مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 27-28) ، {أَفَلَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى

الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) (الآيات من سورة

الحج) .

يحج بيت الله الحرام، ويزور مسجد رسوله وروضته عليه أفضل الصلاة

والسلام - ألوف كثيرة من مسلمي الآفاق، أكثرهم من العوام والفقراء، وبعضهم

من العلماء والأدباء والكُتاب والشعراء، ويقل في جملتهم مَن يفقه ما يعمل ومَن يعي

ما يسمع، ومن يعقل ما ينظر، ويقل في هؤلاء من يكتب لإخوانه المسلمين ما

يفيدهم شيئًا لا يجدونه في كتب الفقه أو التاريخ والرحلات والأدب.

بل نرى من حجاج إخواننا المصريين مَن يكتبون في كل عام ما يغضب الله

تعالى ويسوء جيرانه في حرمه، وجيران رسوله صلى الله عليه وسلم في روضته،

وخدام قاصدي هذين الحرمين من المطوّفين والمزورين، وحكامهما الحافظين

لأمن السكان، وآمّين البيت الحرام، وأطباءهما المحافظين على صحة أهلهما،

وصحة من يتشرف بأداء المناسك والزيارة فيهما، بل يكتبون ما ينفر المسلمين عن

إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ويصدهم عن إحياء هذه الجامعة العامة

التي امتاز بها على جميع الأديان، فهذا يشكو من شدة الحر، وذاك يتململ من كثرة

النفقة، وآخر يتبرم بما يزعم من تقصير المطوفين وطمعهم.

وأغرب من كل هذا أن منهم مَن ينتقدون منع البدع والخرافات، والطواف

بالقبور والاستغاثة بالأموات، وأن منهم مَن كتب في هذا الشهر مشنِّعًا على حكومة

الحجاز التقصير في عمارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وتجديد فرشه، وهو

يعلم أن حكومة الحجاز الحاضرة - على فقرها - قد فعلت ما لم تفعله حكومة قبلها:

من حفظ الأمن، وتسهيل السبل، وتوفير المياه، والإسعافات الصحية للحاج،

فإن هذا قد صار متواترًا، ويعلم أيضًا أن حكومته هو قد منعت ما كانت ترسله إلى

الحرمين وأهلهما من الأموال، والحقوق المقررة لهما التي كانت ترسلها في كل عام،

وأن هذه الحقوق هي بعض ما وقفه الملوك والأمراء، وأهل البر من الأغنياء

ويعلم أن وزارة الأوقاف تجبي من أوقاف الحرمين في كل عام مئات الألوف من

الجنيهات، وتصرفها في غير ما وُقفت عليه، ويعلم أيضًا أن الحكومة التركية قد

استحالت حكومة لا دينية، وضمت أوقاف الحرمين إلى أملاكها، بل هي تمنع مَن

يريد الحج من شعبها، وحجتها الظاهرة على هذا المنع أن الترك أحق بأموالهم أن

تبقى في بلادهم من أن تُصرف في بلاد العرب!!

وخير من هؤلاء الصادّين عن سبيل الله، والمنفرين عن شعائر الله،

والمؤذين لجيران الله - من يؤلفون كتبًا في رحلاتهم الحجازية، ينقلون فيها أحكام

المناسك الفقهية، وبعض الأخبار التاريخية والأدبية، ومن كتبوا في رحلاتهم وفي

الصحف ما أملاه الحق من وصف أمن الحجاز، وتوفير أسباب الراحة للحاج،

والثناء على الحكومة السعودية ورجاء الخير العظيم للإسلام فيها.

بيد أنك قلما ترى فيما كتبوا عبرة جديدة، أو شيئًا من الاقتراحات المفيدة، أو

ترغيبًا في البذل لعمارة المسجد الحرام، ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو

لتسهيل السبيل على الحجاج والزائرين، وتوفير المياه لهم وللمقيمين، اقتداءً بما كان

من فعل السلف الصالحين.

دعْ ما هو أعلى من ذلك منزعًا، وأروى مشرعًا، وأبعد في الإصلاح غايةً،

وأقوى في درء الخطر عن الإسلام وقاية،فقد علم الواقفون على سياسة الاستعمار

الأوربي أن خطره قد أحاط بجزيرة العرب، ونفوذ بعض دوله تغلغل في بعض

أنحائها، ثم طفق يوغل في أحشائها، ويلغ في دمائها؛ فإن المستعمرين قد استولوا

على سكة الحديد الحجازية، التي كان الغرض الظاهر القريب من إنشائها تسهيل

أداء الفريضة، والباطن البعيد حفظ الجزيرة نفسها من الاستعمار الأوربي، ومن

قتل الإسلام في عقر داره، وإزاحته عن قراره، تمهيدًا لمحوه من الأرض

كلها.

كذلك كان شأن المسلمين في حجهم وزيارتهم، وكذلك كان ما دونوا في

رحلاتهم ومقالاتهم، إلى أن أذن الله تعالى لعبده المجاهد في سبيله بماله ونفسه،

ولسانه وقلمه، وعلمه وعمله - الأمير شكيب أرسلان، الذي بحق لقبته أمته بأمير

البيان - أن يستجيب لأذان إبراهيم خليل الرحمن، فيؤدي فريضة الحج، ويمرض

مرضًا يضطره بعد أداء المناسك إلى الالتجاء إلى الطائف، والتوغل في جبالها

وذُراها، والتنقل في مزارعها وقراها، والهبوط في أخيافها وأوديتها، فينال الشفاء

والعافية من مرضه ومن مرض سابق له، بما شم من هواء نقي، وشرب من ماء

روي، وجنى من ثمر شهي، ويشاهد ما تم من قابلية للعمران، لا يكاد يفضلها

مكان، في عصر عَمَّ الحجاز فيه العدل والأمان، وأن يصف ذلك بقلمه السيَّال،

وبيانه السلسال، الذي يجري، فتكبو في غاياته جياد الفرسان، ومَن ذا الذي يطمع

في لحاق أمير البيان في مثل هذا الميدان؟ ! ، ميدان التاريخ وعلم الاجتماع

والعمران،وما فيه من عِبَر السياسة في هذا الزمان، ولا سيما سياسة الأمة العربية

والإسلام.

أحمد الله تعالى أن وفق أخي شكيبًا لأداء المناسك، وشهود ما قرنه بها القرآن

من المنافع، وإنما هي منافع أمته، لا منافع شخصه وأسرته، وأن يسَّر له السير

في تلك الأرض؛ لفقه ما أرشد إليه عقله، وهدى له قلبه، فيعرف بنفسه جبالها

ووهادها، وأغوارها وأنجادها، وسهوبها وصفاصفها، ومجاهلها ومعارفها، ثم

يبعث ما دُفن في بطون الكتب من تاريخ عمرانها، وكنوز معادنها، مع بيان أماكنها،

ووسائل استخراجها من مكامنها، ويجلي للعقول ما فيها من العبر البالغة، ويقرن

بها وصف حالتها الحاضرة، ويستنبط منهما ما يجب على الأمة العربية وحكوماتها،

والشعوب الإسلامية وزعمائها، من توجيه أصدق ما أُوتوا من إرادة وعزيمة،

وأفضل ما أُعطوا من علم وثروة، في سبيل عمران الحجاز، وصيانته من خطر

الاستعمار، وأن ذلك لا يتم لهم إلا بعمران جزيرة العرب كلها؛ لأن انتقاصها من

أطرافها، يفضي إلى الإحاطة بسائر أكنافها.

تلك الغاية البعيدة المرمى هي التي وضع لها الأمير رحلته الحجازية التي

سماها (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) وقد أقام الدلائل على

إمكان ما دعا إليه وسهولته، من قابلية في المكان، ومواتاة من الزمان، وأشار إلى

ما يعترض به على ذلك من شبهات داحضة، وكرّ عليها بما ينقضها من حجج

ناهضة، بما لم يبق لمعتذر عذرًا مقبولاً، ولمقصر قولاً معقولاً.

ثم إنه لم يقف في ارتساماته دون هذا المقصد الأسمى، بل ألمَّ فيها بكل ما يهم

المسلم من حال الحجاز وأهله وحكومته، فأفاض القول في تعظيم شأن المياه فيه،

وما يُرجى من زيادتها بالوسائل العصرية، ولا سيما الآبار الارتوازية، واستشهد

التاريخ على ما كان من عناية السلف الصالح بعمرانه، وحبس الأوقاف الواسعة

عليه، وعناية الخلف الطالح بتخريب ما عمروا، وإضاعة أكثر ما وقفوا، وتمهيد

حكامهم الفاسقين سبيل ذلك لسالبي ملكهم من المستعمرين. وضرب لذلك الأمثال

بتاريخ أكبر المعمّرين من الملوك والأمراء والوزراء، وأسهب في بيان أحوال

المطوفين والمَزُورين وقناعتهم، وما يجب من إصلاح حالهم، ونوه فيها بفضل

الحكومة السعودية الحاضرة وخدمة ملكها للحجاز، وأعظمها والمقدم منها تعميم

الأَمَنة في بدو البلاد وحضرها، قريبها وبعيدها، وما يرجى بحكمته من سائر

أركان الإصلاح فيها.

وقد مَنَّ عليَّ بأن عهد بنشر هذه الارتسامات إليَّ، بأن أطبعها بمطبعة المنار،

وأشرف على تصحيحها بنفسي؛ لتعذر إرسال مثل الطبع إليه في أوربة ليتولى

تصحيحها بنفسه، بل منّ علي بالإذن لي بتعليق بعض الحواشي على بعض

المواضع التي أرى التعليق عليها مفيدًا لقارئيها؛ ليكون اسمي مقرونًا باسمه في هذا

الأثر الخالد له في خدمة العرب والإسلام، كما منّ علي قبله بمثله في رسالته التي

جعل عنوانها (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ !) وهي هي الرسالة التي:

سارت بها الركبان تطوي نفنفا

فنفنفا وسبسبًا فسبسبا

فاضطربت بها بعض دول الاستعمار وزُلزلت زلزالاً شديدًا، حتى قيل لنا

إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه

العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها!

ولقد كان سماح الأمير حفظه الله لي بهذا وذاك إعلامًا لقارئي الرسالة والرحلة

بما بيننا من الأخوة الإسلامية الصادقة، والاتفاق في المقاصد الإصلاحية النافعة للأمة

العربية، والشعوب الإسلامية، التي نفخ روحها في كل منا شيخنا الأستاذ الإمام

الشيخ محمد عبده بالتبع لأستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين

الأفغاني قدس الله روحهما، وأجزل ثوابهما.

هذا، وإن الأمير - أمتع الله بعلمه وعمله، ولسانه وقلمه - قد وضع للرحلة

حواشي كثيرة، عزوتها إليه في مواضعها، وكان يجب أن أشير إلى ذلك في

ديباجتها، ولكنني ما علمت بها إلا عند أول حاشية منها.

وقد كان لي وقفة ونظر في اقتراحه على الحكومات المختلفة في الدين والسياسة

- أن تشدِّد على حجاج بلادها الفقراء، فيما تفرضه من الشروط للسماح لهم بالسفر

إلى الحجاز، لا لأن هذا الاقتراح منكر في نفسه؛ بل لأن الحكومات الاستعمارية

التي تكره للمسلمين المرزوئين بسيطرتها عليهم أن يؤدوا هذه الفريضة لم تقصر

في إرهاقهم بالشروط المالية والصحية، بل أنا أعلم علم اليقين أن جميع الدول

الاستعمارية تمقت قيام المسلمين بهذه الفريضة، وتتعاون على صدهم عنها بما

تستطيع من حول وحيلة، ولولا ما لبواخرها وتجارتها من المنافع ومن نقل

الحجاج لكان تشديدهم في الصد أكبر، ولكن ما وضعوه من العواثير والعقاب في

سبيل الحج باسم المحافظة على الصحة - قد أنالهم بعض مرادهم منه بقلة من

يتحمل مشقته من ملوك المسلمين، وأمرائهم المترفين، وأغنيائهم المحسنين،

وزعمائهم المفكرين.

وقد كانوا حاولوا أن يقرروا في مؤتمر طبي عقد بمصر في أوائل عهد

الاحتلال البريطاني أن الحجاز بيئة وبائية بطبعه - يجب جعْله تحت سلطة الحجر

الدولي دائمًا لذاته! فجاهد المرحوم سالم باشا سالم كبير أطباء مصر (والطبيب

الخاص لسمو الخديو توفيق باشا وأسرته) يومئذ جهادًا كبيرًا دون ذلك، حتى دحض

كل شبهة تؤيد هذا الاقتراح، وأثبت بالأدلة الفنية الطبية والتاريخية أن الحجاز ليس

بوطن لوباء الهيضة الوبائية (الكولرة) ولا لغيرها من الأوبئة السارية المُعْدية.

ولكنني لم أضع لهذه المسألة حاشية، بل أدعها إلى علم الأمير الواسع،

ورأيه الناضج؛ لعله يستدرك ما يرى استدراكه ممحّصًا لهذا الرأي [1] .

وها أنا ذا أزفّ إلى قراء العربية هذه الرحلة النفسية، والارتسامات اللطيفة،

ولا ريب عندي في أنهم يقدرونها قدرها، ويُعنون معي بنشرها، وبث الدعاية إلى

العمل بما فيها من النصيحة الثمينة، التي تتوقف عليها حياة هذه الأمة المسكينة،

التي كانت الناشرة لدعوة الإسلام، والمفيضة لنور هدايته، والمفجرة لأنهار

حضارته، وبإحيائها وعمران بلادها يُناط بقاؤه، ويعود رواؤه، وينضر إهابه،

ويتجدد شبابه.

وأختم هذا التصدير لها بما يؤيد قولي هذا من الأحاديث النبوية في شأن

الحجاز ومستقبله، وكونه مأرز الإسلام ومعقله، وحصنه ومَوْئله،عندما يشتد على

المسلمين البغي والعدوان، ويركبون المناكير فيناكرهم الزمان، أو تُستباح بيضتهم

بما أعرضوا عن هداية القرآن:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان لَيأرز إلى المدينة كما تأرز

الحية إلى جحرها) [2] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

وأعم منه وأدل على المراد قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ

غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها)

رواه مسلم من حديث ابن عمر.

وأعم منه وأظهر قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما

تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلنّ الدين من الحجاز معقل الأُرويّة [3] من رأس

الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا؛ فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما

أفسد الناس بعدي من سنتي) .

وأوسع من ذلك كله وأدل على الباعث عليهما - ما رواه أحمد والبخاري

ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث:

أولها: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وما رواه أحمد ومسلم والترمذي

عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأُخرجنَّ

اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدَع فيها إلا مسلمًا) وما رواه أحمد

من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: (آخر ما عهد به رسول الله صلى الله

عليه وسلم أن قال: لا يُترك بجزيرة العرب دينان) وروي عن أبي عبيدة عامر

بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا يهود

أهل الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب، والمراد أنه آخر ما أوصى به عند

موته، وأما آخر كلمة نطق بها صلى الله عليه وسلم فهي:(اللهم الرفيق الأعلى) .

وقد بينت في مواضع من جزء التفسير العاشر وغيره حكمة هذه الوصايا

النبوية، وهي ما أطلع الله تعالى عليه رسوله وأخبر به كما في حديث ثوبان رضي

الله عنه وغيره: من تداعي الأمم على المسلمين كما تتداعى الأكَلة على قصعتها،

وسلبهم لملكهم، واضطهادهم لهم في دينهم، إلى أن يضطروا إلى الالتجاء إلى مهد

الإسلام الأول، ومعقله الأعظم، ومأرزه الآمن، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة

العرب؛ ولذلك أوصى بأن يكون هذا المعقل خاصًّا بالمسلمين لا يشاركهم فيه

غيرهم، فهذه الوصية من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم قد ظهر سرّها في هذا

العصر.

وها نحن أولاء نرى أعداء الإسلام مازالوا يطاردون المسلمين حتى انتهوا بهم

إلى جزيرة العرب، وطفقوا ينازعونهم فيها، بل وصلوا إلى الحجاز واستولوا

بمساعدة بعض أمرائه على أعظم موقع من معاقله البرية والبحرية (ما بين العقبة

ومعان) وصاروا باستيلائهم على سكة الحديد الحجازية على مقربة من المدينة

المنورة التي خصها الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الوصايا بالذكر، وأنشئوا

يؤسسون وطنًا لليهود في جوارها من فلسطين التي يدَّعون أنها لهم وحدهم

وسيطلبون ضم خيبر إليها، بأنها كانت لهم وأخرجهم عمر بن الخطاب منها.

فإذا لم تتعاون جميع الشعوب الإسلامية على مساعدة حكومة الحجاز بالمال

والنفوذ الصوري والمعنوي على حفظ الحجاز وعمرانه، بل إلجائها إلى ذلك

واضطرارها إليه - فستقطَّع قلوبهم أسفًا وندمًا، ويذرفون بدل الدموع دمًا؛ إذ لا

ذات مندم، ولا متأخر ولا متقدم، ولقد كنت في حيرة لا أهتدي السبيل إلى أقرب

الوسائل لهذا العمران، حتى وجدته مرسومًا في هذه الارتسامات، داحضة أمامه

جميع الشبهات، فبادرِوا إليه - أيها المسلمون -.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل

عمران: 105) .

...

...

...

... وكتبه ناشر الارتسامات

...

...

...

... منشئ مجلة المنار

الإنكليز في جزيرة العرب

(المنار)

كتبنا هذه المقدمة لرحلة الأمير شكيب الحجازية في الشهر الماضي وهو شهر

المحرم عندما تم طبعها ثم أردنا نشرها في هذا الجزء من المنار وهو جزء (صفر) ؛

لتكون تقريظًا لها، فاتفق أن رأينا في جريدة (الضياء) الغراء مقالاً مترجمًا عن

اللغة الإنكليزية لرجل من كبار ساسة الإنكليز، كان من أكبر العاملين في سبيل

استعمارهم لهذه الجزيرة، بيَّن فيها ما وصل إليه نفوذهم فيها وأنواعه وما هم

مستهدفون له في هذا العصر بيقظة الأمة العربية وسعي المستيقظين منها لإعادة

مجدهم واستقلال بلادهم؛ لينبه دولته لما ينبغي لها من الحذر والحكمة في هذا

الطور الجديد لهذه الأمة ذات التاريخ العجيب.

فرأيت أن أنشرها في هذا الجزء بجانب هذه المقدمة مفصِّلة لما أجملته فيها

وحجة على صحة رأيي وصدقه في الإنكليز الذي بينته في المنار مرارًا كثيرة؛

عسى أن يكون نشرها من أسباب انتشار اليقظة العربية التي نسعى لها سعيها منذ

سنين كثيرة، وإقناع بعض الزعماء والأمراء بما يرمي إليه هذا السياسي الإنكليزي،

من أن الأمم إذا عرفت نفسها تعذر على غيرها استعبادها أو استعمارها؛ فإن

أكثر أمراء الجزيرة يجهلون هذه الحقيقة؛ فلذلك خنعوا واستخذوا أمام هذه الدولة

الطامعة. وهذا نص المقالة:

بريطانيا ستخرج من جزيرة العرب

كما خرج الفرس والرومان

هكذا يقول بريطاني كبير من رجال السياسة [*]

كانت قد وافتنا التلغرافات بنبذ مقتضبة من مقال نشرته الديلي تلغراف لجناب

السر هنري دوبس مندوب العراق السامي البريطاني بين سنة 1923-1929.

ثم جاء بعد ذلك أصل المقال وقد رغب فيه إلى حكومته أن تكون أكثر اهتمامًا

وأوفر درسًا للحالة الروحية التي عليها بلاد العرب، وقد اقتطفنا من هذا المقال

الخطير الجزء التالي، قال:

إن المناقشة الحديثة العهد التي جرت في مجلس اللوردات حول اقتراح اللورد

ترانشود - الذي يرمي به إلى توحيد زمام السيطرة والسياسة في الشرق الأوسط -

قد انتهت بالخيبة. وقد كان فحوى جواب اللورد باسفيلد يفيد أن الحكومة البريطانية

تظل قابضة بيديها على جميع زمام السياسة، وأن تنوع المصالح العديدة في البلدان

المختلفة، تلك المصالح المتصلة المرجع بعدة من دوائر الحكومة - يقضي بأن تكون

هذه الدوائر متصلاً بعضها ببعض اتصالاً مستمرًّا بتبادل الرأي والمشاورة، وعلى

هذا لا تبقى هناك فائدة في إنشاء دائرة واحدة يعهد إليها اسميًّا في إدارة الشؤون

المتعلقة بالبلدان المذكورة.

فما هي تلك البلدان ذات المصالح والشأن في هذه القضية، وما هي الأساليب

التي تجري سياستنا عليها في تلك البلدان؟

تلك البلدان هي:

سوريا، وهي تحت الانتداب الفرنسي، وعلاقتها تدار من قِبَل وزارة

الخارجية عن طريق باريس.

فلسطين، وهي تحت الانتداب البريطاني الذي سيتطاول أمده إلى حد غير

معروف (!!!) ، وتدار من قبل وزارة المستعمرات.

شرقي الأردن، وهي أيضًا تحت انتداب مندرج في صلب معاهدة معقودة مع

الأمير الحاكم، وتدار تحت إشراف وزارة المستعمرات.

العراق، ويرجى دخوله عضوًا في عصبة الأمم في السنة المقبلة بصفته

مملكة مستقلة. وعند حصول هذا يُعتاض عن المندوب السامي - المرتب الآن

بوزارة المستعمرات - بسفير مرتبط بوزارة الخارجية.

نجد والحجاز، ومنهما يتألف معظم جزيرة العرب، وهما تحت حكم الملك

ابن السعود الذي تدار علاقاته من قبل وزارة الخارجية بواسطة وزير مفوض.

الإمارات المستقلة والمقاطعات الواقعة في الخليج الفارسي، وهذه الإمارات

والمقاطعات داخلة في نطاق دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند.

عدن، وبعضها من الأملاك البريطانية، وبعضها الآخر من البلاد المحمية،

إدارتها الداخلية مرتبطة بحكومة الهند في بُومْبِي، وتقوم وزارة المستعمرات

بالإدارة السياسية تجاه القبائل التي في الأراضي المحمية وتجاه سائر جزيرة العرب.

اليمن، وهي تشمل جانبًا من البحر الأحمر إلى شمالي عدن وهي تحت

الإمام يحيى المنافس الكبير لابن السعود، والمقيم السياسي في عدن يجري - في

علاقاته مع الإمام يحيى - على ما يتلقاه من إرشاد من وزارة المستعمرات.

ففي جميع هذه البلاد اللغة العربية هي السائدة، والإسلام هو الدين الغالب،

وفي أي قطر من هذه الأقطار سرحت بصرك - ترى الجيل الحديث من أهل

السياسة من العرب يطوون صدورهم على أحلام وآمال، تتعلق بتكوين بلاد عربية

مستأنفة الحياة والقوة، بحيث يكون بوسع هذه البلاد المتجددة النشأة القبض على

المراكز الخطيرة لطرق المواصلات الكبرى في العالم بحرًا وهواءً، وإحراز الثروة

من التجارة الحديثة العزيزة التي لا بد لها أن تمر في هذه الطرق.

هذا من ناحية - ومن ناحية أخرى لا يصح أن نعتقد أن أفكار النشء العربي

الحديث فيما لبلادهم من الخطورة الجغرافية - هي مجرد تصور وخيال، فإن

تجارة أمريكا جمعاء تخترق الآن البحر الأحمر، وجميع الطرق الهوائية إلى آسيا

وأستراليا - ما عدا الاتجاه الذي تقوم به روسيا الآن - كل ذلك لا بد له من اجتياز

العراق. وأنابيب الزيت أوشك يُشرع في إنشائها بين آبار الزيت العراقية والبحر

المتوسط، بحيث ينتهي خط من هذه الأنابيب في طرابلس لسورية وينتهي خط آخر

في حيفا بفلسطين. وسكك الحديد ستماشي أنابيب الزيت جنبًا إلى جنب. ومما لا

يكون عنه مندوحة أن سكك الحديد ستمد شرقًا إلى الهند مخترقة أرجاء إيران.

وإن الأهمية التاريخية الكبرى التي كانت لهذه البلدان العربية في الزمن

السابق - باعتبار أنها صاحبة طرق التجارة - وقد زالت هذه الأهمية مؤقتًا

باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ستستعاد عما قريب بكاملها، فينجلي من هذا

أن ضمان سلامة المواصلات هذه في الأقطار مصلحة حيوية للإمبراطورية

البريطانية.

وفي جميع هذه البلاد - ما عدا سوريا - لم يبرح النفوذ البريطاني هو

المسيطر الغالب كل هذا الزمن الحديث، وقد ازداد هذا النفوذ بسطة واتساعًا إلى

حد كبير بنتائج الحرب الكبرى. فيتعين علينا - والحالة هذه - أن نأخذ بالوسائل

التي تحفظ هذا النفوذ حتى لا يعتوره تناقض ينشأ عن الجري على خطة مشوشة في

علاقاتنا مع هذه الأقطار أو عن أي غموض أو ارتباك في إيضاح الغاية والقصد. أو

عن خرق في السياسة؛ فإنه إذا سارت الحال مصابة بآفة من هذه الآفات؛ فالعرب

- وجذوة الأمل في إحراز الاستقلال حديثة الاشتعال في صدورهم - سينابذون مثل

هذه السياسة بقسوة وعنف.

وأقول بعبارة أخرى: إن سياستنا مع هذه البلاد ينبغي أن لا يفسدها أقل

افتقار إلى العطف على طموح العرب إلى استعادة ماضيهم وقوتهم.

وآمال العرب هذه لا يبعد أن يكون مكتوبًا لها التحقق والنجاح. وإن الأقوام

العربية بعد أن هجعت سنين طوالاً دبت فيها روح اليقظة ثانية وانطلقت فيها

عوامل الحركة والحياة. وكل أمة تُقْدِمُ على تجاهل ما للعرب من خطورة وعلو شأن -

لا بد لها من تحمل مرارة النتيجة،فيصيبها مثل ما أصاب المملكتين: الرومانية

والفارسية من قبل، يوم أقدمتا على مصارحة العرب العداء عند قيام النبي صلى الله

عليه وسلم في جزيرة العرب وظهور قوته فيها، فندمتا ولات ساعة مندم.

وإن عليَّ أن آخذ وأعطي مليًّا مع اللورد باسفيلد؛ فإن الخلاصة الموجزة التي

شرحتها بصدد أوضاعنا الحالية توضح أن وزارة الهند ووزارة المستعمرات ليستا

أهلاً لتصريف هذه الشؤون؛ ولا يزيد عملها أن يكون تخبطًا وارتباكًا، في حين

ينبغي أن نقبض على زمامه في وزارة الخارجية. فإذا لم تبدل الحالة بأحسن منها؛

فتكون النتيجة فساد الأمر، وفوات الفرصة، وتضارب الغايات والمقاصد.

فالمقصد الكبير الذي أومئ إليه هو أن سياستنا إزاء القضية العربية الكبرى

ينبغي أن تتفرغ بحلة متناسقة الشكل، تسود الرجال العاملين فيها روح السخاء

المشتقة من بعد النظرين، وهذه الروح ينبغي أن تسيطر لا على مديري دفة الأمور

في المركز، بل يجب أن تشمل أيضًا أولئك الذين يعهد إليهم في تصريف الشؤون

والإدارة في مواطن الأمور وأماكنها مباشرة. اهـ

(المنار)

صرحنا في المنار مرارًا كثيرة جدًّا بأن الدولة الإنكليزية مجدة في تأليف

إمبراطورية بريطانية من بلاد العرب، وأن أمراء العرب وزعماءهم جاهلون ما

يحيط بهم، وما يجب عليهم، ودهاة هذه الدولة يسخّرونهم لما يحاولون من سلب

ملكهم واستعباد أمتهم؛ فينقادون مذعنين، طائعين أو كارهين، محترمين أو

محتقرين، وغير المسخر منهم للخدمة الإيجابية، يقنعون منه بالخطة السلبية، فلا

يوجد في البلاد العربية مقاوم لهم في عمل من أعمالهم المنظمة البطيئة لاستعمار

البلاد العربية وهم لا يتمون عملاً ويُحكمونه إلا ويشرعون في غيره؛ إذ يكونون قد

مهدوا له.

وصاحب هذا المقال يحذرهم يقظة الشعب العربي الجديدة؛ لما أثبته التاريخ

من وثبات العرب القوية عقب النومات الطويلة، وهو ينصح لهم بثلاثة أمور، لا

يرجى بقاء نفوذهم وامتداده في هذه الأمة بدونها:

(الأول) توحيد المرجع الذي يتولى السياسة والإدارة الخاصة بالبلاد العربية

جزيرتها وولايتها وهو وزارة الخارجية.

(الثاني) عدم الاكتفاء بما يجرون عليه من توطيد السيطرة والنفوذ في مركز

كل حكومة عربية (أي وإن كانت كلها مركزية لا شريك للحاكم العام في نفوذه فيها)

- فإن هذا لا يدوم إذا استيقظت الأمة، بل لا بد من استمالة جميع الرجال العاملين

في كل منها، ممن ظهر وممن سيظهر في كل موطن وكل ناحية.

(الثالث) أن يكون الرجال - الذين يتولون السياسة العربية والإدارة الخاصة

بها - قادرين بما أُعطوا من المرونة وروح السخاء على مداراة العواطف الوطنية

وعدم تنفيرها من الإنكليز.

(فتدبروا واعقلوا أيها المستيقظون!) .

_________

(1)

أرسلنا إلى الأمير مثالاً من هذه المقدمة قبل طبعها؛ فكتب إلينا هذا الاستدراك: (اقتراح تشديد الحكومات على الفقراء بعدم الحج لم يكن مرادي به إلا منع الفقراء المعدَمين الذين لا يستطيعون إلى الحج سبيلاً، والذين إذا جاءوا إلى مكة صاروا وقرًا على أهلها وحكومتها وأما الفقراء الذين لم يبلغ فقرهم هذه الدرجة فليسوا المراد بكلامي وإني أوافق الأستاذ على كوْن دول الاستعمار تشدد الشروط عمدًا على من يريد الحج المستطيع وغير المستطيع، وذلك قطعًا لصلة المسلمين بمكة وعزلاً لهم عن إخوانهم في الدين وإذا سمحت أحيانًا بالحج فيكون على كره منها وتعتاض من ذلك بإكراه الحجاج على ركوب بواخرها، وتفرض عليهم أجرة فاحشة وتحشرهم فيها حشرًا يزيد قهرهم، وفي السنة الفائتة لم تزل فرنسة تتنوع في الشروط وتتعنَّت على الحجاج، حتى لم يقدر على الحج إلا 30 شخصًا من كل جزائر الغرب، مع أن الذين كانوا نووا الحج هم أكثر من ألف وتسعمائة ولا يكثر على الفرنسيس بعد ذلك أن يمنوا بكرة وأصيلاً على مسلمي المغرب بالحرية الدينية التي أمتعوهم بها! ، وأن يملؤوا جرائدهم بما منحوهم منها! ، حتى يخال لمَن لم يطَّلع على الحقيقة أن مسلمي المغرب راتعون في بحابح الحرية الدينية كما يصفها هؤلاء الخطباء والكُتاب! والحقيقة أن أهل المغرب جميعًا في عناء شديد من كل جهة ولا سيما من جهة حرية الاجتماع بسائر المسلمين، بل من جهة حرية اجتماعهم بعضهم مع بعض، ومنذ نحو شهر نادى المنادي في أسواق فاس بأنه ممنوع ذهاب التجار للبيع أو للشراء بين قبائل البربر! وجميع الناس يعلمون أنه لا يقدر أحد من الفقهاء ولا من حملة القرآن ولا من مشايخ الطرق الصوفية أن يدخل قرى البربر، ولا أن يجول في الجبال التي هم فيها إلا بإذن خاص من الحكومة، على حين مئات من الرهبان والراهبات والأقسة والمبشرين يجولون في بلاد البربر كيف يشاءون ويبنون المدارس والكنائس! فهذا هو كُنْه الحرية الدينية التي تمُن بها فرنسة على مسلمي المغارب ومَن كان في شك من كلامنا هذا فليذهبْ إلى تلك البلاد أو فليسألْ الثقات من أهلها) .

(2)

أَرِزَ - كعلم - انضم واجتمع وانكمش (وورد لغة من بابَيْ: ضرب وقعد) ، والمعنى أنه سيعود إلى المدينة والحجاز كله ويأوي إليه، كما تعود الحية إلى جُحرها ولا سيما إذا خافت.

(3)

الأُروِيّة: بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء: أنثى الوعول وهي تعتصم في أعالي الجبال والمعنى: أن الإسلام سيضعف ويصير غريبًا ومضطهَدًا في الأقطار؛ فلا يجد له حصنًا ومعقلاً إلا الحجاز، فيعتصم فيه كما يعتصم الأروية في شناخيب الجبال.

(*) هذا القول غير موجود فيما نشرته (الضياء) ، ولعلها تعده نتيجة له.

ص: 778

الكاتب: محمد رشيد رضا

إشاعة اكتشاف عظيم في وادي يو شفاط

ببيت المقدس

(تابوت يسوع بن يوسف)

(جاء في جريدة الأهرام الصادرة في 13/4/1931 لمكاتبها في باريس تحت

هذا العنوان ما نصه) :

اهتزت المقامات المسيحية لنبأ اكتشاف عظيم الأهمية والتأثير، لا من حيث

قيمته التاريخية فحسب، بل من حيث علاقته بالدين المسيحي، وهو نبأ اكتشاف

ناووس كُتبت عليه باللغة الآرامية من الخارج عبارة (يسوع بن يوسف) وذلك في

وادي يوشفاط بجوار القدس.

فقد وردت الأنباء بأن الأثري المعروف الدكتور سوكنيك قد عثر على هذا

التابوت الحجري في سرداب عليه ركام من الخريات جرّ عليها تقادم ذيول النسيان،

وذلك في جانب من ذلك الوادي الذي ستجري فيه دينونة العالم حينما يعتقد بعض

المتمسكين بحرفية ما جاء في كتب الدين. ويتساءل الناس الآن، هل ذلك الناووس

حوى رفات مؤسس المسيحية وهل العبارة المكتوبة عليه كُتبت بيد المسيح نفسه؛

إذ قد جرت العادة في العهد المسيحي وقبله - كما قد يعلم رجال الآثار - أن يعد

الناس توابيتهم الصخرية قبل دنوّ الأجل المحتوم ويسطرون أسماءهم عليها بأيديهم

فتُنقش كما هي.

ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن ذلك الأثري قد عثر في السرداب نفسه على

نواويس أخرى قد نقشت على ظاهرها أسماء الكثيرين من تلاميذ المسيح وأتباعه

فعلى أحدها اسم مريم وعلى بواقيها أسماء مرثا واليصابات وسمعان ويعقوب

ويوحنا ومتى. فإذا ثبت ما يدعيه الدكتور سوكنيك فإنه يؤدي إلى بطلان اعتقادات

وتقاليد كثيرة بشأن مدفن السيد المسيح وأتباعه، ويكون الملايين من الذين زاروا

القبر المقدس في سالف الزمن قد سجدوا في غير المكان الذي وُضع فيه جسد

المسيح بعد أن أُنزل عن الصليب!

والمفهوم الآن أن الدكتور سوكنيك مكتشف هذه النواويس كان ولا يزال شديد

التحفظ في إبداء رأيه فيها وعلمنا منه بأهميتها الدينية وبما يترتب على ذلك من

المسؤولية إذا بدر منه قول عنها قبل التثبت من أمرها. فلما اتصل بصاحب جريدة

الجورنال خبر اكتشافه أبرق إلى مراسله في برلين يأمره بمقابلة المكتشف وأخذ ما

لديه من المعلومات مهما كلفه ذلك من العناء والمال، فقابله المراسل إذ كان يجمع

أمتعته للرجوع إلى فلسطين فأبى الدكتور التلفظ بكلمة واحدة يُفهم منها أنه موقن بأن

الناووس الذي قرأ عليه اسم يسوع هو تابوت المسيح الحقيقي. وكل ما قاله هو أنه

قد قرأ الاسم المكتوب بالأرامية على الناووس وأنه لا يزيد على ذلك حرفًا إلا بعد

أن يصير على بينة من الأمر.

ولكنه يقول: إنهم عثروا على أمثال هذه النواويس في سالف الأيام في جوار

أورشليم، وبما أنها كانت خالية لم يهتم لها الناس كثيرًا. ولكن الشيء المهم من

الوجهة التاريخية والدينية هو الأسماء المنقوشة عليها.

وقرأ الدكتور سوكنيك على أحد النواويس هذه العبارة (في هذا الناووس

عظام نكانور الإسكندري الذي بنى الباب) فهو في رأي الدكتور الرجل الذي تبرع

بباب نكانور في هيكل هيرودس وقد ورد ذكره في أقاصيص التلمود. والناووس

المنقوش عليه (يسوع بن يوسف) لا يزال على جدّته. ومن رأيه أيضًا أن الاسم

المنقوش عليه قد كُتب بخط يده. أما ما إذا كان يسوع هذا هو المسيح صاحب

الديانة المسيحية فالدكتور يأبى الجزم بذلك، فهو يدرك شدة عاصفة الاحتجاج التي

تهب عليه من العالم المسيحي ولا سيما إذا فهم من قوله أن هذا الناووس قد كان

محتويًا على بقايا السيد المسيح.

ووجد الدكتور بإزاء ناووس يسوع ناووس اليصابات أم يوحنا المعمدان

ونسيبته مريم، وناووس يعقوب وهو من التلاميذ. أما مريم فلا يعلم هل كانت أم

يسوع أم مريم المجدلية وقد تكون أخت مرثا. وهناك ناووس سالومي التي كانت

مع الرفاق عند الصليب، أما سمعان فلا يظن أنه سمعان بطرس لأن قبر هذا قد

تأكد وجوده في رومية. فهو ربما كان سمعان المذكور في الإصحاح العاشر من

إنجيل مَتَّى.

أما الاسم (يسوع بن يوسف) المنقوش على الناووس الذي يظن أنه محتوٍ

على رفات المسيح - فهو بالأرامية لا العبرانية؛ إذ كانت الأرامية في أيام المسيح

لغة أهل فلسطين. كذلك كانت اللغة الإغريقية كثيرة الاستعمال في ذلك العهد؛

ولهذا نقش اسم اليصابات على ناووسها بالإغريقية والأرامية.

ويقول الأثريون بوجود مدينة أخرى منسية تحت أورشليم لم تبد آثارها حتى

الأعوام الأخيرة، فالذي يزور المدينة المقدسة لا يدري ما استتر تحت سطحها من

العمران البائد؛ لأن الأرض التي يمشي عليها في شوارع المدينة الضيقة تعلو عن

الشوارع القديمة من 30 إلى 70 قدمًا ففي تلك المدينة البائدة عثر الأثريون على

تلك التوابيت الحجرية الموسومة بأسماء معروفة في التوراة واسم يسوع أيضًا.

ولا يدهشنا إذا سمعنا في الحين القريب أن الأثريين قد أماطوا لثام الدهور عن

آثار أخرى عظيمة الأهمية في أورشليم السفلى ترجع في تاريخها إلى عهد السيد

المسيح وإلى ما قبل تبلج فجر المسيحية بقرون عديدة وتكون ذات أهمية تاريخية

ليس لرجال العلم فقط بل لرجال الدين أيضًا.

ولعل مكاتبكم الأورشليمي يزيدكم إيضاحًا عن الآثار التي وجدت وعما إذا كان

ما نقل إلينا عنها حقيقة راهنة أو حديث خرافة فهو أولى من الأجانب بالإشراف

عليها والتثبت من أمرها، فإن الكثيرين من رجال الدين هنا قد هزؤوا بالحكاية

وظن البعض منهم أنها تنطوي على قصد سيئ، ومن أجل هذا كتب أحدهم مقالة

جاء فيها ما يأتي:

(إذا سلمنا جدلاً بأن المسيح حديث خرافة، وأن المسيحية بجملتها حكاية

صبيانية فما الذي يربحه المشكك وما الذي يخسره الدين. فإن هذه الحكاية أو هذه

الخرافة قد كانت أعظم قوة في مدى ألفي سنة أوصلت التمدن إلى الأوج الذي نراه

فيه اليوم.

إن هذه النظرية قد بدلت الحياة، وتلك الخرافة المبتدعة قد أعطتنا محبة بدل

البغضاء، وطهارة بدلاً من الشهوات السافلة، ونقاوة بدلاً من النجاسة، ورجاء بدلاً

من اليأس، والإخاء بدل العداء. فإذا كانت هذه الميزات نتيجة تلك الخرافة التي

حملت النفوس على توخي أفضل ما في الحياة فلتحيَ الخرافة!

إن أكبر العقول في التسعة عشر قرنًا التي انقضت قد اعتقدت بهذه الفكرة،

الرجال العظام والنساء العاقلات الطاهرات والأولاد البسطاء قد صدقوا بها وكل

الذين تمسكوا بها كحقيقة وعاشوا بما رسمته قد كانوا أفضل مثال لكل ما هو حسن

وجميل. فإذا كان كل ذلك حديث خرافة فليكن المسيح خرافة، فإن تعاليمه قد رفعت

التمدن إلى أسمى الذرى) . اهـ. والظاهر أن كاتب هذا باريسي أو فرنسي.

تعليق المنار على هذه المقالة

لئن ثبت وجود رفات المسيح عليه السلام في هذا التابوت ليكون هدمًا لدين

النصرانية الحاضر من أساسه فإن الأناجيل الأربعة مصرحة بأنه خرج من قبره في

ليلة الأحد وأن مريم المجدلانية ومريم الأخرى وسالومي اللائي تفقَّدنه في صباح

ذلك اليوم ولم يجدنه قد وجدن هنالك ملاك الرب فأخبرهن أنه قام من بين

الأموات.. إلخ.

ولهذا لم يجد الكاتب ما يدافع به عن هذا الدين على فرض ثبوت ذلك إلا قوله

إنه دين كان له من الفوائد الأدبية والحضارة العظيمة ما يحملهم على المحافظة عليه

وإن كان أصله حديث خرافة. ولا شك أن هذا عين ما تفعله الكنائس التي فاقت

بنظامها الديني ومدارسها وجمعياتها أعلى الدول نظامًا ونفوذًا، وإذا أعوزهم الإنكار

وعز عليهم التكذيب وأعياهم التأويل، ولن يعجزهم هذا ولا ذاك.

ولكن ثبوت ما ذكر لا ينقص شيئًا من نصوص القرآن؛ فإنه يقول بعد

الإخبار بمكر اليهود به: {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل

عمران: 55) فظاهره أنهم لن ينالوا ما يريدون بمكرهم به وأن الله تعالى هو الذي

يتوفاه فيقبض روحه ويرفعه إليه ويصدق برفع جسده بعد إعادة الحياة إليه وبرفع

روحه وحدها كما قال في إدريس عليه السلام {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} (مريم:

57) ويكون ثبوت وفاته ودفنه في الدنيا قبل رفعه حجة لمَن قال من المفسرين: إن

الآية على ظاهرها، دون مَن قال بتأويل الوفاة أو بتقديم الرفع على التوفِّي. وجملة

القول أن ثبوت ما ذُكر يكون حجة للقرآن كما هو حجة على الأناجيل، والقرآن لا

يمكن أن ينقضه شيء؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من

خلفه.

وأما أقوال الأناجيل في قيامه بجسمه من القبر فهي روايات تاريخية عن

النسوة اللائي ذهبن إلى القبر ليس لها أسانيد متواترة فإن خبر الأربعة المؤلفين لهذه

الأناجيل لا يثبت به التواتر لو سمعوه من النسوة وهن غير معصومات في خبرهن

فكيف وهم لم يصرحوا بالسماع منهن.

والعبرة في هذا كله أن مبشري النصرانية يشككون عوام المسلمين في دينهم

وفي كلام ربهم المعجز للبشر من وجوه كثيرة منها أنه لا يمكن نقض كلمة منه،

وهم يتمسكون بدينهم ويدعون إليه ويدافعون عنه حتى على فرض ثبوت ما ينقضه

من أساسه! ! بحجة أنه كان سببًا لهداية كثيرين من البشر وهذا صحيح ويفوقه

فيه الدين الإسلامي، وسببًا لوجود الحضارة الحاضرة وهذا باطل وإنما كان الإسلام

هو الذي أحيا الحضارة القديمة التي ولدت الحضارة الحاضرة.

_________

ص: 793

الكاتب: محمد رشيد رضا

الشريف حسين ملك الحجاز السابق

(2)

كتب كثير من أصحاب الجرائد العربية وغيرهم مقالات في تأبين الشريف

حسين ونظمت قصائد متعددة في رثائه، وأقيمت حفلات في الأمصار العربية

لتأبينه فمنهم من أطرى ومن انتقد ومن حاولوا الجواب عما ينتقد، ويقل فيمن كتب

وأبّن من تحرى الحقيقة لذاتها أو من هو واقف عليها، ومن الظاهر البين أن من

المؤبِّنين والراثين من كان غرضه الازدلاف إلى أنجاله أصحاب الجلالة والسمو.

ومن العجيب أن بعض الأفراد - قيل: والجماعات - قد اقترحوا نصب تمثال

له فتهكَّم الكاتب الإسلامي محب الدين أفندي الخطيب بهم؛ إذ اقترح عليهم أن

ينصبوا ذلك التمثال تجاه الزاوية التي كان يصلي فيها الجمعة من الحرم المكي

الشريف، أي فيكون من مناقبه إعادة التماثيل التي أزالها جده النبي الأعظم صلى

الله عليه وسلم من بيت الله الحرام، والتي قال فيها جده أمير المؤمنين علي عليه

السلام لعامله أبي الهياج: أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتَه.

وقال بعض الذين طرقوا باب المباحث التاريخية في سيرته: إنه قد نهض

بدعوته وأشعل نار ثورته توسلاً إلى استقلال أمته، وتأسيس سلطنة (إمبراطورية)

لها لا لنفسه، فخدعه الإنكليز ونكثوا عهده كما خدعوا مَن هو أجدر منه بمعرفة

كيدهم وخداعهم وهو الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة. وإنه لم يجد

من ينصح له ويبين له ما يجب من الاحتياط في ذلك، وقال بعضهم إنه إنما أراد إنقاذ

الحجاز من غائلة الحرب ومجاعتها ولم يُرد إسقاط الدولة العثمانية التي كانت هي

السياج الأخير للحكم الإسلامي.

وصرح بعضهم بأن المنقبة الوحيدة له في سياسته سلبية، وهي امتناعه من

إمضاء الاتفاق الأخير الذي حمله إليه من لندن وكيله ونائبه في ذلك الدكتور ناجي

الأصيل، ومن مواده اعترافه بالانتداب الذي يتضمن إنشاء الوطن القومي لليهود في

فلسطين، وزاد امتناعه قبل ذلك من إلحاق منطقة العقبة ومعان بحكومة نجله

الأمير عبد الله في شرق الأردن؛ إذ طلبه منه الإنكليز لعلمه بأنها حينئذ تكون

إنكليزية يتصرف الإنكليز بها كما يشاؤون فيكون أول مسلم خان الله ورسوله في

أرض الحجاز المحرمة بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته

على غير المسلمين، ولكن ما امتنع منه وعُدَّ هو المنقبة الصحيحة له قد فعله أبناؤه

في حياته.

وزعم بعضهم أنه بامتناعه ما ذكر قد ضحى ملكه وسلطانه على الحجاز أو

حرم نفسه من امتداد ملكه إلى آخر حدود جزيرة العرب بمساعدة الإنكليز والصحيح

أنه ما كان يتصور زوال ملكه بذلك، ولا الإنكليز يفضلون امتداد ملك ابن سعود

إلى البحر الأحمر فيقال: إنهم ساعدوه على ذلك.

وإننا لم نجد أحدًا من الكتاب ولا من الخطباء احتج على شيء من أقواله

بمستند رسمي مما نشره الملك حسين في جريدته القبلة التي كان كل ما يكتب فيها

إما بقلمه وإما بإملائه أو إقراره.

وقد نقلت من هذه الوثائق الرسمية في المنار ما هو حجة على أكثر هؤلاء

الذين يقولون بغير علم، ومنهم من يقول بلسانه ويكتب بقلمه خلاف ما يعتقد ويعلم

باختباره.

ذهبت إلى الحجاز في أثناء ثورته في أول مدة الحرب الكبرى، وتكلمت معه

في هذه الشؤون سرًّا وجهرًا، وارتجلت في حفلة تهنئته بالعيد الأكبر في مِنى خطبة

بينت فيها الأسباب الظاهرة لثورته العربية، وأقصى ما يمكن أن يحتج به لجوازها

من حال الدولة العثمانية، وما ينبغي أن يقصد بها وما تنتهي إليه، فوافقني هو

على ما قلته، وصرح في ذلك المحفل الحافل بأنه لم يَرَ أحدًا وافق رأيه رأيه من

كل وجه بلا تواطؤ ولا سبق حديث إلا هذا الخطيب، وأمر أن أكتب الخطبة لتُنشر

في جريدة القبلة فكتبتها فأمر بنشرها والتعليق عليها بما قاله في المحفل.

والظاهر أن موافقته كانت في الباطن كالظاهر والراجح عندي أنه اقتنع بما

قلته لا أن ذلك كان رأيه من قبل، وكان يعتقد يومئذ أنني مخلص في نصحي له

وكذلك كنت وهو دأبي وخلقي، ولكن جواسيس الإنكليز أرجعوه عن ذلك الرأي

الذي كان اقتنع به، وقد صرح لي برجوعه عنه مدير مكتبهم العربي في مصر

(كورنواليس) مستشار الداخلية لحكومة العراق الآن، وكذلك غيَّر قلبه عليَّ أحد

حاشيته من صنائعهم الذي كان يحلف لي قولاً وكتابةً بأن مكانتي من قلبه فوق كل

مكانة، بل أحفظ منه كتابًا بخطه أقسم فيه أنه لو اجتمع الخلائق كلهم صفًّا صفًّا..

وقالوا قولاً وقلت غيره (لجعلت مقالهم دبر أذني ووراء ظهري) فكان هو سبب

منعه المنار من الحجاز و (من الممالك الهاشمية) كما جاء في بلاغ المنع الرسمي

من جريدة القبلة! وكان هذا المنع خيرًا لي كما بينته في المنار.

أنا لم أكن أعرف الشريف حسينًا قبل الحرب معرفة شخصية وإنما عرفت في

الآستانة نجله الشريف عبد الله معدن الظرف واللطف والتواضع والأدب، وكنا

نشتغل في ذلك الوقت بتكوين الجامعة العربية فرأيت منه ميلاً إليها ورغبةً في

تأييدها، وتعارفنا وتواعدنا على ذلك وعقدنا رابطة المودة.

ثم كان بيني وبينه في مصر ما ذكرته مختصرًا في الجزء الماضي وقد بلغ

والده ذلك، ومنه ما ذكرته له في الآستانة من شدة استيائي مما كان يكتبه عبيد الله

أفندي عدو العرب المشهور من الطعن في والده فكان هذا هو السبب الأول لثقته

بإخلاصي في نصحه. وقد أكده سبب آخر وهو ما بلغه إياه المرحوم محمد شريف

الفاروقي معتمده في مصر من الثناء والتعاون معه على كل ما فيه نجاح النهضة

العربية، وقد كان هذا الرجل جامعًا بين الذكاء والإخلاص في خدمته، ولولا أنه

بلغ الإنكليز رسميًّا بأنه يطلبني لمقابلته في مكة المكرمة لما سمحوا لي بالذهاب ولو

بقصد الحج، على أن الجنرال كليتون حاول إقناعي بأن لا أذهب إلى الحجاز

ووعدني وعودًا عظيمة إن بقيت في مصر منها إعادة مساعدة وزارة الأوقاف

لمدرسة الدعوة والإرشاد! ! لأنه ظن أنني أريد أن أبقى عند الشريف في مكة

وكان يعتقد أنني إذا كنت بجانبه لا يستطيعون أن يسيِّروه كما يريدون.

وجملة القول أنني جئت مكة مزودًا بثقة لا مجال للظنة فيها، فأجلَّني وأكرم

مثواي، وكاشفني بما يبعد أن يكون كاشف به غيري، وهو مَن عرف جميع رجاله

وأولاده شدة كتمانه وعدم ثقته بالناس، حتى أنه صرح لي بأنه إنما يخاطب معتمده

في مصر بالبرقيات الرمزية (الشفرة) لئلا يعلم موظفو ديوانه بما يخاطبه به لا

للتعمية على الإنكليز بمصر فهو لا يرى مانعًا من علمهم بكل ما يخاطبه به.

(للترجمة بقية)

_________

ص: 797