المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (31)

- ‌المحرم - 1349ه

- ‌فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

- ‌نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مساواة المرأة للرجلفي الحقوق والواجبات

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌أحوال مسلمي روسية

- ‌رسالة مهمة من الصينفي حال مَن فيها من المسلمين

- ‌الدين قبل كل شيء

- ‌رسالة من مؤلف كتابحياة محمد في باريس

- ‌معاملة البنوكاستدراك على ترجمة تيمور

- ‌تهنئة للمنار بالعام الجديد

- ‌ربيع الأول - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌نقض أساس مذهب داروين

- ‌مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

- ‌الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

- ‌الفتح الأوربي والفتح الإسلاميوالاستعمار البريطاني والفرنسي

- ‌المعاهدة الجديدةبين إنكلترة والعراق

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الآخر - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تفسير القرآن الحكيم

- ‌آفة الشرقأمراؤه المستبدونوزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون

- ‌نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*]

- ‌آراء ساسة فرنسافي سياستها الإسلامية

- ‌كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلامفي المغرب الأقصى

- ‌تهنئة للمنار ونقد واقتراح

- ‌الشيخ سليمان بن سحمانوفاته وترجمتهمن جريدة أم القرى الغراء

- ‌جمادى الأولى - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تلبُّس الجن بالإنس

- ‌جمع كلمة المسلمينقاعدة أهل السنة والجماعة

- ‌السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

- ‌بيان إلى العالم الإسلاميعن قضية البربر في المغرب الأقصى

- ‌إصرار فرنسةعلى إخراج البربر من الإسلام

- ‌الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خانعلى عرش الأفغان

- ‌المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا

- ‌رجب - 1349ه

- ‌ليلة النصف من شعبان

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟!(1)

- ‌للحقيقة والتاريخ

- ‌زيارة وزير الحقانيةلقسم التخصص التابع للأزهر

- ‌شعبان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌لماذا تأخر المسلمون؟ولماذا تقدم غيرهم؟(2)

- ‌مناظرة في الجامعة المصريةفي المدنيتين الفرعونية والعربية

- ‌بقية رد المنارعلى مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلامفي الدفاع عن نفسه وعنها

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(2)

- ‌رمضان - 1349ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

- ‌نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين

- ‌مولانا محمد علي الزعيم الهنديوفاته ودفنه

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(3)

- ‌ذو الحجة - 1349ه

- ‌نسخ الشريعة المحمدية لما قبلهاوبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين [*]

- ‌بيان بشأن المجالس الحسبيةحادث تنصير البربر يتكرر في مصر [*]

- ‌الانتقاد على المنار وتفسيره

- ‌اقتراحمناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة

- ‌نظرة تاريخية في الثورة الهندية الكبرىوأسبابها

- ‌حول النشأة الإسلامية في الهند

- ‌الشيخ محمد عبد العزيز الخولي

- ‌تأخر صدور المناروكثرة مواده المتأخرة والمنتظَرة

- ‌المحرم - 1350ه

- ‌إيطاليةشر دول الاستعمار

- ‌الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي

- ‌العلويون في أوغندة والمنار

- ‌بيان عن سياسة الإبادة والاستئصالالتي اتبعتها إيطاليا في طرابُلس الغرب

- ‌صفر - 1350ه

- ‌الزواج بالمسلمة وراثةوالكتابية والوثنية تنطق بالشهادتين

- ‌فتاوى المنار

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في صولو

- ‌حكم وقوف التعظيملشعار الأمة أو الدولة

- ‌عقد النكاحوصيغة الطلاق عند أعراب فِلَسْطِين

- ‌مراهنة سباق الخيل والتداوي بما خلط بمحرم

- ‌مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي

- ‌مسيح الهند القادياني الدجال(4)

- ‌إلحاد في القرآنودين جديد بين الباطنية والإسلام(2)

- ‌التجديد والتجدُّد والمجدِّدون

- ‌مقدمة الطبع والنشرلرحلة الأمير شكيب الحجازية

- ‌خاتمة المجلد الحادي والثلاثين

الفصل: ‌رجب - 1349ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .

{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ

تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .

لبيك اللهم ولك الحمد كما تحب وترضى، وصلواتك الطيبات، وتحياتك

المباركات الزاكيات، وصلاة ملائكتك المقربين وعبادك المؤمنين على رسولك

محمد خاتم النبيين، الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أُولي قرابته

وقربه، وعلى التابعين لهم في طاعته وحبه، واتباع سُنته في بيان كتاب ربه،

على ما نقلوه لنا عنه من قول وعمل، وفضيلة وأدب، وتشريع وحكم.

أما بعد:

فإنني أُذكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الحادي والثلاثين، بنحوٍ مما كنت

أذكرهم به فيما سلف من السنين، من حظ المسلمين من الإسلام وأثر الإسلام في

المسلمين، ولا سيما حال ملاحدتهم ومبتدعتهم، وفساقهم وظلمتهم، وجامديهم

ومقلدتهم. وقد كان من قدر الله تعالى أن ألممت في فاتحة المجلد الثلاثين بشيء من

دعاية التجديد الإلحادية. ومفاسد فوضى النساء الشهوانية، ثم كان أن اصطدمت

بالفريقين في أثناء تلك السنة بالمناظرة والمحاضرة، فكانت الحجة والغلب لهداية

الإسلام، وظهر ذلك للخاص والعام، وعلمنا به أن ما كانوا يذيعونه عن شباب

مصر وسائر نابتة العصر، من انسلاخهم من وجدان الدين، واتباعهم غير سبيل

المؤمنين، وانتظامهم جندًا خاضعًا لدعاية الإلحاد، وقيادة الإباحة والفساد - إنما هو

زور وبهتان، وإرجاف وإيهام، فقد نصر جمهورُ طلبة الجامعة المصرية داعية

الإسلام نصرًا عزيزًا، واقترحوا عليه أن يكتب مقالات في بعض الجرائد اليومية

يفصِّل بها ما أجمل في مناظرة الجامعة تفصيلاً، فكتبنا في جريدة (كوكب الشرق)

مقالات تجاوزت جمع القلة إلى جمع الكثرة، فكان لها ما كان من حسن التأثير في

الأمة، ولم يرتفع للملحدين والإباحيين في الرد عليها صوت، على ما حذقه أكثرهم

من خلابة المِراء وسخف القول. وإن لها لبقية، ستكون إن شاء الله تعالى راضية

مرضية.

بيد أن ريح الطيش طارت بلب داعية قبطي منهم كان أول مَن عاب الإسلام،

وقال بتفضيل الذكور على الإناث في الميراث، ودعا المسلمين إلى نبذ الفرائض

المقررة في نصوص القرآن، فلم يجد حيلة في مقاومتنا إلا إثارة العصبية الجنسية

الفرعونية. ودعوة المصريين كافة إلى ترك قراءة كل ما يكتبه مَن لا يجري في

عروقه الدم المصري الفرعوني، ولا سيما مَن كان من أصل سوري، كأنه لغروره

بقبطيته يتوهم أن مسلمي مصر كلهم يفضلون نسب فرعون - الذي لعنه الله ولعن

آله وقومه في كتبه، وعلى ألسنة رسله - على نسب سيد ولد آدم، وأكمل مصلح

ظهر في العالم، وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، الذي تعبَّدهم الله تعالى

بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، كما تعبَّدهم بلعن فرعون وقومه الوثنيين،

بقوله تعالى بعد ذكر غرقهم وعاقبة ظلمهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ

القِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: 41-42) .

ولو شئنا لأثرنا عصبية إسلامية على هذه العصبية الفرعونية فاجتاحتها وكان

أهلها الخاسرين، ولكننا نكرم أنفسنا عن مثل هذا السلاح، ومن العجيب أن أعداء

الدين الذين يزعمون أن التعصب له هو الذي يفرق بين أهل الوطن - يستبيحون

التفريق والتعادي والتخاصم بالتعصب للجنس والنسب؛ لأنهم لا يكرهون شرور

العصبيات وضررها، وإنما يكرهون مثارها من النفس وسببها، كأنهم يكرهون

الغرائز والعقائد الدينية الإسلامية - وهي وجدانية اضطرارية - دون المفاسد التي

تتولد من الغلو والإفراط فيها وهي اختيارية. وأما نحن فنكره سوء استعمال الغرائز

والأديان، الذي هو كسوء استعمال العقل والجوارح والحواس. ويرى جماهير

المسلمين في مصر أن القبط قد أسرفوا في تعصبهم الملي، واستغلال نفوذهم في

الوفد المصري، فصبر الأكثرون عليهم صبر الكرام، حرصًا على الوحدة السياسية

أن يصدعها الانقسام، وإن تصدى خصوم الوفد منهم لإثارة النعرة الإسلامية عليهم

وعلى الوفد بغضًا في الوفد لا تمسكًا بالإسلام، ونحن نربأ بنفسنا أن تعبث بها هذه

الأهواء، وإنما هذه كلمة قد حبذها الاستطراد.

بيد أن الذي أتأياه في هذه الفاتحة، وأذكِّر بخطره الأذهانَ الغافلة، هو أن

أنصار الجمود والبدع المأوفة، وحماة التقاليد المألوفة، ممن سماهم الأستاذ الإمام

(حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) قد أثار بعضهم في هذا العهد عصبية

مذهبية هي أضر على المسلمين من أثرة القبط عليهم في مصالح الحكومة، ومن

فريقي المبشرين والملاحدة. فإن انتصارنا على هذين الخصمين بالحجة والبرهان

يفهمه ويغتبط به جميع طبقات المسلمين من الخواص والعوام.

وأما انتصارنا على أولئك بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

وسيرة السلف الصالح فلا يعقله إلا من أوتي من سلامة الفطرة واستقلال الفكر ما

كان به ممن قال الله تعالى فيهم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) ولا

يزال أكثر طلاب العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية يطلبون معرفة الحق بشهرة

قائله، أو سعة جبته وشكل عمامته، أو بلقبه الوهمي، أو بمنصبه الرسمي، وهم

ينفرون من الدليل ومن صاحبه، ويسيئون الظن به.

وقد كان طلاب الإصلاح الإسلامي يسمعون من هؤلاء الجامدين ومن

المبتدعين أذًى كثيرًا ويصبرون عليهم، إذ يرون أن مبلغ أذاهم لا يعدو بطء

انتشار الإصلاح فيمن حولهم، ويسُرّ الذين يعرفون تاريخ الأمم والملل أن مقاومة

الإصلاح في تاريخ الإسلام أضعف من مثلها في تاريخ النصرانية، ويحمدون الله

تعالى أن الجامدين من كبار علماء الدين الرسميين لم يبلغ منهم الجمود أن يتصدى

أحد له قيمة منهم للكتابة والنشر في الرد على دعاة الإصلاح المستقلين، ذلك بأنهم

يعلمون أنهم يدعون إلى حق وخير وهو الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله

عليه وسلم في الدين على منهج السلف الصالح الذين هم خيار هذه الأمة، والأخذ

في مصالح الدنيا بما ثبت للبشر نفعه بالتجارِب الفنية والعملية، مع مراعاة القواعد

الشرعية، وإنما يمتعضون من هذه الدعوة لأمرين:

(أحدهما) خشية إفضاء الاستقلال في فهم الدين إلى الخروج عن المذاهب

المتبعة إلى دعوى الاجتهاد المطلق، ولا يتسع هذا التذكير لبيان مثار هذه الخشية

من النفس وما لها من الهوى فيها.

(وثانيهما) أن هذا تجديد في الإسلام تخرج به الزعامة الدينية من عهدتهم

لعدم استعدادهم للنهوض به، وعجزهم عن تولي القيادة في ميدان جهاده، وأذكّّرهم

بما بينته مرارًا من التفرقة بين الاجتهاد المطلق بوضع مذهب جديد، والاستقلال

في العلم واتباع السلف في هداية الدين.

ولكن نجم في هذه السنين الأخيرة رجل من أعداء السنن، كما ينجم قرن

المعز، لم يلبث أن تصدى لنطاح صخرة هداية السنة النبوية والسيرة السلفية،

دون غيرها من المقاصد الإصلاحية، وهو شيخ تركي لا ندري أكان من أولئك

الجامدين الذين فتنوا رجال الدولة العثمانية عن الدين بتعصبهم لتقاليد كتب الحنفية،

فصدوا أولئك السياسيين عن أصل الملة الحنيفية، أم هو دسيسة كمالية يبغي بها

الكماليون مقاومة حركة الإصلاح الإسلامية، التي تقاوم دعاية التفرنج الكمالية؟ !

بدأ هذا التركي نطاحه للسنة وحُفَّاظها بدسائس ببثها في حواشي المطبوعات

من كتبها، التي يتَّجر تلميذ له من الأغرار بطبعها، ثم بث دعايته في الأزهر

فاستمال لمشايعته عليها عالم من أشياخه المشهورين، كان في موقف التجاذب

والتدافع بين الجامدين والمجددين، حتى كان بعض تلاميذه وأصدقائه يرجون أن

يخلف الأستاذ الإمام في ناحية من نواحي خدمته للإسلام، فخابت فيه الآمال.. أو

يعود إلى الاعتدال.

كان الشيخ التركي أحذق من الشيخ المصري في الصد عن السنة وحفاظها،

وعن مذهب السلف وأنصاره. فإنه سلك فيه مسلك الدسائس السياسية، وقدر السير

فيها مراحل كالمراحل الكمالية في هدم الشريعة الإسلامية، فبدأ هو بالطعن على

بعض حفاظ السنة المشهورين، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، وسخَّر

الشيخ المصري للجهر بما لم يتجرأ هو على الجهر به من مناجزة المعاصرين،

واستدرجه إلى كتابة شيء جهر فيه بالنيل من شيخ الإسلام، وهجر بغميزة الأستاذ

الإمام، ونشره له مطبوعًا باسمه، ولعله فعل ذلك بدون إذنه، ليجعله دريئة له في

ميدان الجدال، ومِجَنًّا يتقي به في معارك النزال.

لا خوف اليوم على مذهب السلف من سيف هذا التركي ولا من مِجَنِّهِ. وقد

أعلى الله مناره، وأعز مهاجرته وأنصاره، وأنشأ له دولة، وجعل له صولة،

فتعددت جمعياته وصحفه، وكثرت رسائله وكتبه، فتضاءلت أمامه التأويلات

الكلامية والتقاليد الخرافية، ولا خوف على طريقة الأستاذ الإمام في الإصلاح،

بعد أن اتفقت الكلمة على إمامته، وانكشفت بموته الحجب التي كانت مضروبة أمام

جلالته، من استبداد أمير، وحسد شيخ كبير، وتقليد غر جاهل، وحقد غمر

متجاهل. وإن ظهر أن لحسد بعض الأشياخ بقية في الزاوية، أخرجها منها ذلك

التركي الداهية، وسنفرُغ في هذا المجلد لرد هذا الهجوم ببيان بطلانه وضرره في

الإسلام والمسلمين في هذا العصر، الذي يهاجم الإسلام جيشان قويان من جحافل

الكفر أقواهما جيش الملاحدة الذين صار لهم دولة، وإن كانت واحدة، وأضعفهما

جيش المبشرين وإن كان لهم دول متعددة، فيجب على أهل العلم وحملة الأقلام من

المسلمين الاتحاد والتعاون للجهاد في هذه السبيل سبيل الله، بدلاً من إضعاف

الإسلام بالتعصبات المذهبية التي كانت أضر عليه في عهد قوته من كل أعدائه من

الكفار. فكيف يكون ضررها الآن؟ ! .

وقد كان من حكمة الله في تقديره ولطفه في تدبيره أن بلغنا عند كتابة هذه

الفاتحة الكلام على تأسيس جمعية العروة الوثقى من تاريخ الأستاذ الإمام الذي

ألجأتنا أحداث السياسة إلى تأخير نشره إلى هذا العام. فرأينا أن ننشر لقراء المنار

بعض تعاليمها السرية؛ لأنها قد صارت من الحوادث التاريخية، فهي أفضل أطوار

الإصلاح الذي نتخوَّلهم به في هذه الفواتح، وخير صدمة لتقحم الجامح، وتهجم

الطامح، وهذا نصها:

بعض الأصول العملية

لأعضاء جمعية العروة الوثقى السياسية

العقد الرابع للعروة الوثقى:

(1)

ينعقد بثلاثة يقسمون اليمين المعهود.

(2)

مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد تكون في أمور: التذكير بآيات

الله - النظر في حالة الإسلام عند بدئه وما كان عليه النبي وخلفاؤه فقط - البحث في

السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان وكان يبتلعها في

زمن قصير - كيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟ .

(3)

يلاحظ كل باحث أن ذاته في موضوع البحث فيطلب العلة من نفسه

قبل أن يطلبها في غيره، ويقارن بين حاله وحال السلف بوجه الدقة والإنصاف.

(4)

مدارسة أحكام الجهاد وحقوق المسلم وما هو مكلف به في معاملة غيره

وما يُفرض عليه إذا زحف الأعداء لخضد شوكة الإسلام.

(5)

النظر في حال المسلمين لهذا الوقت أخذًا من أقوالهم وأعمالهم للوقوف

على إحساسهم الديني ومقدار الداعية الاعتقادية ليعلم الداء ويعالج بالدواء اللائق به.

(6)

كتب كل فكر وتدوينه مفصلًا ثم مجملاً مع ما تستقر عليه الآراء.

(7)

العمل في الدواء بالقول (ومنه الكتابة والتأليف) وبذل المال في

مساعدة من يقوم بنصر الدين وحمل السلاح للمقاتلة بين يديه عند المُكنة.

(8)

كل واحد من أهل العقد مكلف بالعمل وإعداد أسبابه وما لا يتم إلا به،

وبدعوة الناس إلى عقده والارتباط به؛ مع الاحتراس التام من كل ما يفيد أن هناك

عقدًا، والثقة بمريد الانضمام إنما تتحقق عند اتفاق آراء أهل العقد عليها.

(9)

يكون معظم الاهتمام بضم الصالحين للأمر من ذوي المكانة على

اختلاف طبقاتهم من علماء وأمراء ورؤساء عشائر وغيرهم. وفريضة كل منهم أن

يعمل للإسلام فيما خوله الله.

(10)

في كل حالة يراعى تمكين الفكر وتأسيس الارتباط حتى يكون عند

كل واحد أن مصلحة الكل بمنزلة الشخص أو أعلى، ولا يُقبل قول من قائل حتى

يكون عمله أزيد من قوله أو مساويًا. العمل: بذْل المال والروح، والأول أقرب

الدليلين.

(11)

على أهل العقد أن يرسلوا رسلاً إلى نواحي الوطن الحالِّين به وإلى

المواطن المستعدة من غيره؛ متى أمكنهم ذلك.

(12)

لا يكون الشخص رسولاً حتى يكون سير العقد ملكة راسخة فيه،

ويكون على قدرة كاملة في تصريف القول، وتوفيق النصح مع طباع المنصوحين

وحالة السلطة العارضة عليهم، فيكون حكيمًا في عمله لا يحتاج لوصية من غيره،

ولا لقَيِّم يلاحظ عمله.

(13)

يسمح للعقد أن يبعث رسلاً من الخارجين عنه على أنهم وعاظ

يعملون المعروف من الدين ويؤيدون مناطيق القرآن، وعلى العقد أن يرسم لهم

طريق النصيحة بدون أن يعرفوا أن هناك عقدًا.

(14)

على الرسول إن كان من أهل العقد أن يكاشف عقده بما يحس به من

انفعالات الناس، وما يأخذ قوله من قلوب السامعين لدعوته، وما أثر تعليم الوعاظ

المبعوثين من طرف العقد.

(15)

من استحق باستعداده الدخول في العقد فعليه أن يقدم رسمًا ماليًّا أقله

مائة فرنكٍ وأوسطه مائتان وأكثره ثلاثمائة، ولا يُستثنى من ذلك إلا عالم أو معتقَد

عند الناس لا يستطيع أداءً، على شريطة أن يبذل العالم وسعه في تبيين الحق وبثه،

والمعتقد جهده في حمل معتقديه على العمل في مقاصد العقد، فإن استطاع هذان

الصِّنفان تأدية النقد فهم أولى الناس بها.

(16)

يجتمع أهل العقد في كل أسبوع مرتين للمذاكرة فيما سبق بيانه في

الفصل الأول وما بعده.

(17)

يجب على كل واحد أن يؤدي في آخر كل جلسة مقدارًا من النقد

على حسب استطاعته قليلاً أو كثيرًا يدور على الحاضرين مَن أصغرهم سنًّا

بصندوق صغير له فوهة ضيقة يضع فيها كل واحد ما تيسر خفية حتى لا يُعلم مَن

أدى أقل ومن أدى أكثر. لا يستثنى من ذلك أحد، ويسمى هذا الصندوق صندوق

التبرع.

(18)

يحفظ النقد المجتمع من الرسوم الابتدائية والتبرع عند من ينتخبه

العقد أمينًا.

(19)

يودع في ظرف تكتب عليه هذه العبارة: (هذا مال حق التصرف

فيه لعقد الإخلاص تحت رئاسة فلان) (يُذكر اسم الرئيس) .

(20)

يستعمل هذا المال في النفقة على محل الاجتماع ولوازمه، وفي

سبيل نشر المشرب وإرسال الرسل الداعين إلى الحق، وفي إغاثة المقصرين مما

ترجى منهم فائدة لمقصد الجمعية، وما يفضل عن ذلك فالنظر فيه للجمعية العليا

(جمعية العروة الوثقى) إما مباشرة أو على يد أحد نوابها.

(21)

يكون للعقد أربعة دفاتر (أحدها) لحصر أسماء رجاله (ثانيها)

لأسماء رسله (ثالثها) لحصر النقد المجتمع (رابعها) لإحصاء النفقات.

(22)

إذا توفر في الصندوق مبلغ من النقد وافر وأمكن تنميته على وجه

شرعي مأمون الخسارة فعلى أهل العقد أن يدبروا أمر نموه.

(23)

على القائم بضبط الحساب في الإيراد والصرف أن ينهج الطريقة

المعهودة في مركز العقد: أن يضعوا لها نظامًا حسب المعروف في بلادهم.

(24)

لا يصرف شيء إلا بقرار من أهل العقد يتفق عليه جميعهم أو

أكثرهم.

(25)

إذا قضت الحوادث بعمل عاجل يقرب من مقصد الجمعية وخيف

فوات الفرصة بفوات الوقت واحتيج إلى نفقة تقتضي زيادة عن الموجود وجب على

أهل العقد أن يبذلوا ما في وسعهم لإتمام العمل.

(26)

لا يباح لأحد من رجال العقد أن يذكر شيئًا من أحوالهم ومقاصدهم

ومذاكراتهم عند مَن ليس من مقصده في شيء، بل لا يباح التصريح باسم العقد

وأهله إلا لمن حصلت الثقة بحاله عند رجال العقد.

(27)

على رجال العقد أن يحمي بعضهم بعضًا ويعِين كل منهم باقيهم بقدر

الاستطاعة.

(28)

الاستطاعة لا تفسر بالأهواء حتى يعد كل وهم عجزًا وإنما هي

المعروفة عند المخلصين التي لا يعدمها الإنسان ما دام حيًّا قادرًا على الحركة.

(29)

إذا رأى أهل العقد أن يزيدوا شيئًا فيما وصلهم من قانون الجمعية

حسب حالة بلادهم فعليهم مخابرة من يتولى مواصلتهم فيما يريدون.

(30)

القانون الداخلي للاجتماع يضعه أهل العقد.

***

اليمين الذي يحلفه المرتبطون بالعقد

أقسم بالله العالِم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي، القائم على كل نفس بما

كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت - لأُحَكِّمَنَّ كتاب الله تعالى في أعمالي

وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل. ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه ولا أتقاعد عن تلبيته

في أمر ولا في نهي، ولأدعون لنصرته، ولأقومن بها ما دمت حيًّا، لا أُفضل

على الفوز بها مالاً ولا ولدًا.

أقسم بالله مالك روحي، ومالي، القابض على ناصيتي، المصرف لإحساسي

ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله - لأبذلن ما في وسعي لإحياء

الأُخوَّة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين، ولأعرفنها كذلك

لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينها في

غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني أبذل

جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما آخذ عليها

في المدافعة عن شخصي.

أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما

أخره الدين، ولا أسعى قدمًا واحدة أتوهم فيها ضررًا يعود على الدين جزئيًّا كان أو

كليًّا، وأن لا أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا اليمين في شيء يتفق رأي

أكثرهم عليه، وعليّ عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين

عقلاً وقدرة بكل وجه أعرفه، وما جهلته أطلب علمه من العارفين، لا أدع وسيلة

حتى أحيط بها بقدر ما يسعه إمكاني الوجودي.

وأسأل الله نجاح العمل، وتقريب الأمل، وتأييد القائم بأمره، والناشر لواء

دينه، آمين.

...

...

...

...

النائب: محمد عبده

(المؤلف) مَن تأمل هذه الأصول وهذه اليمين حق التأمل تجلى له أن كاتبها

الداعي إليها، المجاهد في سبيل غايتها - من أقوى المؤمنين بالله وبما جاء به محمد

رسول الله وخاتم النبيين إيمانًا، وأشدهم في إيمانهم إيقانًا، وأرسخهم في يقينه

وجدانًا، وأعلمهم بمقاصد هذا الدين وتاريخه وإصلاحه لأمور البشر، وأعظمهم

غيرة عليه وجهادًا في سبيل الله لإعادة مجده، وتجديد ملكه، وإحياء شرعه، وإنقاذ

أهله من الذل.

ومن قرأ مكتوباته - قدس الله روحه - لبعض العلماء والكبراء من المنتظمين

في سلك العقد في الفصل الأول من الباب الخامس من منشآته، المصدَّر أكثرها بكلمة

شعاره (لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة) رأى فيها شرحًا جليًّا لهذه

الأصول الجليلة، وعلم من هذا وذاك أن خدمة الجم الغفير من كبار علماء الأزهر

وغيره من المصنفين في العلوم الإسلامية المختلفة منذ عدة قرون للإسلام لَتصغُر

وتتضاءل في جانب خدمة هذا الرجل وأستاذه، فإن علومهم ومصنفاتهم كانت في العهد

الذي تهدَّم فيه ملك الإسلام وضعفت هدايته ولم يكن لها أقل تأثير في العلم والعمل؛

لأنها كلها مباحث لفظية، ومناقشات في عبارات بعض كتب المقلدين، وليس لأحد

منهم فيها كلمة تدل على الشعور بذلك، فضلاً عن الدعوة إلى تداركه، والجهاد في

سبيله.

ولو شئنا شرح هذه الأصول وما أدمج فيها من الحِكَم والعبر لزدنا القارئ

إعجابًا بأمر هذين الحكيمين وجهادهما، ولا تظن أن بين ما في الأصل الثاني من

التذكير بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فقط، وما في الأصل

الثالث من الاعتبار بسيرة السلف، وما في الأصل الرابع من الإشارة إلى أحكام

الفقه - لا تظن أن بين ما ذكر شيئًا من التعارض فإن لكل نوع منها غرضًا خاصًّا،

فالأول للاعتبار بنشأة الإسلام وتأسيسه، وما بعده ظاهر لا يحتاج إلى بيان.اهـ.

من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام.

فليعتبر قراء المنار بهذا الجهاد، ونسأله تعالى أن يهدينا سبيل الرشاد.

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

أو الربا المحرم القطعي المراد بالوعيد الشديد

إن هؤلاء العلماء الأعلام من محققي المفسرين والمحدِّثين والأصوليين

والفقهاء قد صرحوا بأن الربا الذي حرمه الله تعالى بنص كتابه العزيز، وتوعد

آكليه أشد الوعيد، هو الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية ومعروفًا عند المخاطبين

في زمن التنزيل، وهو أخذ مال في مقابلة تأجيل دَيْن مستَحَقّ في الذمة من قبل،

وهو المسمى (ربا النسيئة) لأن أخذ الزيادة على رأس المال إنما سببه إنساء

أجل الدين المستحق - أي تأخيره - لا في مقابلة منفعة ما لمعطيها. وهو قول الحبر

ابن عباس في تفسير آيات سورة البقرة وتدل عليه نصوص الآيات بإباحة ما سلف

منه وإيجاب الاكتفاء برأس المال على مَن تاب كما تقدم عنه رضي الله عنه.

ويؤيد هذا أمران: (أحدهما) الاستعمال اللغوي، ووجهه: أن هذا اللفظ كان

مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم وذكر في بعض

السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعًا جديدًا في الشريعة

فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي،

بل اللام في (الربا) للعهد كما صرح به بعضهم.

(ثانيهما) أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تُعهد في

التنزيل ولا في السنة ولا ما يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم إثمه وفحش

ضرره من الكبائر، ويؤكده الوعيد الوارد في الأحاديث النبوية، وهاك الإشارة

إليها بالإيجاز:

(1)

قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} (البقرة: 275) أي

من قبورهم يوم البعث والنشور {إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وهو الجنون، وقد ورد أن المرء يبعث على ما مات عليه، فإذا

كان هذا حال آكل الربا عند البعث وقبل الحساب، فكيف يكون حاله بعد ذلك في

النار؟ وهو:

(2)

قوله تعالى فيمن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ

النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقد حملوه على المستحِلِّ له لأن استحلاله

كفر.

(3)

قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أي يمحق بركته.

(4)

قوله تعالى بعد ذلك {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم بغضه ومقته عز وجل.

(5)

تسميته كفَّارًا أي مبالغًا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء

واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من انتظاره وتأخير دينه إلى الميسرة، أو

إسعافه بالصدقة.

(6)

تسميته أثيمًا، وهي صيغة مبالغة من الإثم وهو كل ما فيه ضرر في

النفس أو المال أو غيرهما وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية.

(7)

إعلامه بحرب من الله ورسوله لأنه عدو لهما، في قوله تعالى بعد الأمر

بترك ما بقي للمرابين من الربا بعد التحريم {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) .

(8)

وصفه بالظلم في قوله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا

تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) .

(9)

عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر

الكبائر ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اجتنبوا السبع

الموبقات) أي المهلكات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله والسحر

وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم

الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) .

(10)

ورود عدة أحاديث صحيحة في لعنه صلى الله عليه وسلم لآكل الربا

وموكله، وفي بعضها زيادة كاتبه وشاهديه.

(11)

في غير الصحاح أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه منها أن

درهم ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام وفي بعضها 36 زنية، وفي

بعضها بضع وثلاثين زنية وفي بعضها (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان

الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه) رواه الطبراني في

الأوسط من طريق عمرو بن راشد وقد وثقه ابن حبان على نكارة حديثه هذا.

وجملة القول أن هذا الوعيد الشديد كله لا يمكن أن يكون على ربا الفضل

الوارد في حديث عبادة وأبي سعيد وغيرهما لأنه لا ضرر فيه ولذلك اضطر بعض

الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه. ومن المعلوم من الدين

بالضرورة لصراحة أدلته في الكتاب والسنة أن الإسلام يسر لا عسر فيه ولا حرج،

وأنه الحنيفية السمحة، وقال العلماء: إن من علامة الحديث الموضوع أن يكون

فيه وعد بثواب عظيم على عمل تافه أو سهل قليل التأثير - أو وعيد شديد على

عمل ليس فيه ضرر في الدين ولا في الدنيا أو فيه ضرر قليل.

هذا، وإن بيع الأجناس الستة بعضها ببعض مع التفاضل المعتاد بالتراضي

أو بيع جنس بآخر مع تأخير القبض ليس فيه من الضرر والفساد ما يستحق فاعله

شيئًا من أنواع ذلك الوعيد فلا يفهم له علة إلا سد ذريعة ربا النسيئة الذي نهى الله

عنه وتوعد فاعله بما لخصناه آنفًا، فهو كنهيه صلى الله عليه وسلم عن خلوة

الرجل بالمرأة الأجنبية، وعن سفرها إلا مع ذي رحم محرم، وعن الانتباذ في

الأواني التي يسرع فيها اختمار النقيع المنبوذ فيها من تمر أو زبيب، وعن الجلوس

على مائدة يشرب عليها الخمر؛ لأن هذا وذاك مما يسهل وجود الخمر ويجرئ على

شربها بتأثير الألفة والقدوة، ومثله أو أشد شرب القليل من الشراب الذي لا يسكر

إلا الكثير منه. وأبلغ من هذا في النهي لسد الذريعة نهي الله عز وجل للمؤمنين

عن سب آلهة المشركين وأصنامهم مع تعليله الدالّ على ذلك وهو قوله: {وَلَا

تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) .

وأما تسمية ذلك ربا في بعض الروايات فمن باب المجاز المرسل كقوله تعالى

حكاية عن أحد صاحبي يوسف في السجن {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف:

36) وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على هذا في بعض روايات

هذه الأحاديث كحديث ابن عمر عند الإمام أحمد والطبراني (لا تبيعوا الدينار

بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا) وقد

ورد في روايات متعددة إطلاق لفظ الربا أو أشد الربا على استطالة الرجل في

عرض أخيه يعني بالغيبة، وإطلاق لفظ الزنا على مقدماته في حديث مرفوع

معروف.

وروى مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن ابن عمر قال: قال

عمر بن الخطاب لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلاً بِمِثْل ولا تبيعوا الورِق بالذهب

أحدهما غائب، والآخر ناجز، وإن استنظرك حتى يلج بيته فلا تنتظره إلا يدًا بيد

هات وهاء، إني أخشى عليكم الرماء. والرماء هو الربا.

وروى مالك والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف

ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. قال: قال عمر: لا تبايعوا

الذهب بالذهب ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بِمِثْلٍ سواءً بسواء ولا تشفوا بعضه على

بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء.

ولكن الوعيد الشديد في الربا وما يقتضيه من الورع واتقاء الشبهات أوقع

الناس في مشكلات من هذه المسألة منذ ذلك العصر إلى اليوم، فترى أن عمر

رضي الله عنه على نهيه عن ربا الفضل خوفًا من إفضائه إلى الربا وعلى

تصريحه بأن آية البقرة آخر ما نزل يعني من آيات الأحكام وأنه صلى الله عليه

وسلم توفي ولم يقل لهم فيها شيئًا غير ما كانوا يعلمونه من ربا الجاهلية، ومن

وضعه وإبطاله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقوله فدعوا الربا والريبة -

تراه على هذا قد قال فيما رواه عنه ابن أبي شيبة لقد خفت أن نكون قد زدنا في

الربا عشرة أضعافه بمخافته، ولقد صدق رضي الله عنه فكل من جاوز حد شيء

وقع في ضده.

***

فصل مهم

في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته

بالربا القطعي بالنص

قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات: وإنما حرمت المخابرة وهي

المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس

النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل

بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسمًا لمادة الربا

لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من

تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب

ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال الله تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى

الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا تنتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا.

يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا. والشريعة شاهدة بأن كل حرام

فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به

فهو واجب. اهـ كلام ابن كثير، وأورد بعده حديث النعمان في الحلال والحرام

والشبهات وهو معروف وسيأتي البحث فيه.

أقول: إن العماد ابن كثير رحمه الله تعالى قد فطن لما غفل عنه جمهور العلماء

أو قصروا في بيانه في هذه المسألة الخطيرة ولكنه لم يسلم من مجاراتهم في بعض

ما أخطأوا فيه بل أقرهم عليه واحتج لهم بما لا حجة فيه، ويؤخذ منه ومما قدمناه

عليه أمور يجب تدبرها لتحرير هذه المسألة المشكلة فنقول:

(1)

إذا كان عمر أمير المؤمنين (الذي قال فيه عبد الله بن مسعود من

أكبر علماء الصحابة إنه قد مات بموته تسعة أعشار العلم) قد خشي أن يكون

مسلمو عصره قد زادوا في الربا عشرة أضعافه من شدة خوفهم من الوقوع في شيء

منه، فإن من بعدهم قد زادوا عليهم أضعاف ما وقعوا فيه من باب الاحتياط واتقاء

الشبهات، فإنهم عدوا منه ما نُهي عنه من البيوع مهما تكن صفة النهي ومهما يكن

سببه، وعدوا منه البيوع الفاسدة عندهم، وإن يكن سبب ما قالوه في فسادها رأي

لبعضهم ما أنزل الله به قرآنًا، ولا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بيانًا،

وصارت هذه الأنواع التي لا تكاد تُحصى مقرونة في أذهان الجميع بذلك الوعيد

الشديد في كتاب الله تعالى وفي الأحاديث الصحيحة وكذا الضعيفة والمنكرة والشاذة

والموضوعة التي رووها في ذلك، ويقل في المسلمين في هذه الأعصار من يميز

بين ما يصح منها وما لا يصح فأوقعوا المسلمين في أشد الحرج المنفي بنص كتاب

الله تعالى المحكم في دينه.

(2)

إن قولهم الذي جعلوه أصلاً تتدلى منه فروع لا تحصى في الربا وهو

(إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة) غير مسَلَّم فالجهل ليس كالعلم ولا يصح أن

يُجعل دليلاً على التحريم الذي تقدم أن السلف الصالحين لم يكونوا يقولون به إلا

بنص قطعي الرواية والدلالة؛ بل نقل الإمام أبو يوسف عنهم اشتراط وروده في

كتاب الله تعالى بنص جلي لا يحتاج إلى تفسير. وقد علمنا أن الله تعالى لم يحرم

في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه

الذي من شأنه أن يتضاعف ويكون مخربًا للبيوت ومفسدًا للعمران، ومبطلاً

لفضائل التراحم والتعاون بين الناس. ومن الغريب أن ينوه العماد رحمه الله تعالى

بعلم هؤلاء الذين قال فيهم: إنهم حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك

المفضية إلى الربا، وغفل عن كونهم إنما ضيقوا ما وسَّعه الله تعالى وعسروا ما

يسره مخالفين في ذلك لنص كتابه ولسنة رسوله الذي أمر أصحابه وعماله وأمته

بالتيسير ونهاهم عن التعسير كما هو ثابت في أحاديث الصحاح والسنن المشهورة.

(3)

قوله في توجيه مسلكهم إن الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه

مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام - فيه نظر من ثلاثة وجوه:

(أحدها) أن الوسائل ليست كالمقاصد في نفسها بل هي دونها في الخير

والشر والنفع والضر والحلال والحرام كما يظهر من الأمثلة التي ذكرنا آنفًا (في ص

39) أن النصوص وردت في النهي عنها لأنها ذريعة إلى الحرام القطعي.

(ثانيها) أن تحديد الوسائل في المسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من

أشق الأمور فإذا لم تكن منصوصة اختلفت باختلاف الأفهام والآراء.

(ثالثها) جهة الدلالة فيها فإن من أحكام المقاصد مما لا يثبت إلا بالنص

القطعي كأصل العبادة والتحريم الديني فالوسيلة له أولى بذلك، ومنها ما يثبت

بالدليل الظني. واعتبر ذلك بقوله تعالى في الزواج: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً

أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَاّ تَعُولُوا} (النساء: 3) فقد أوجب تعالى على مَن

خاف على نفسه عدم العدل بين الزوجتين أو الأزواج أن يتزوج واحدة لأن التعدد

وسيلة للعول وهو الظلم المحرم لذاته. وكون تعدد الزوجات وسيلة إليه عند أكثر

المعددين في هذه الأزمنة مشاهَد، ويدل عليه من النص قوله تعالى: {وَلَن

تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) الآية ومع هذا لم

يقل أحد من هؤلاء الفقهاء بتحريم التعدد وعدم ثبوت الزوجية وما يترتب عليها من

الأحكام به.

(4)

استدل العماد على القاعدة الكلية التي ذكرها بحديث النعمان بن بشير

مرفوعًا: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن

كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في

الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن

لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) الحديث وهو في الصحيحين وهذا

اللفظ هو الذي اختاره النووي في الأربعين. وقد روي عن غير النعمان بألفاظ

تختلف بعض الاختلاف. وهو لا يدل على تلك القاعدة الكلية لإجماع المسلمين على

أن من رعى سائمته أو دابته حول حمى وأمكنه اجتناب الوقوع فيه لا يكون رعيه

حرامًا كالرعي في الحمى وأن اتقاء الرعي حول الحمى إنما يطلب تورُّعًا واحتياطًا.

وللعلماء في تفسير (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) تفصيل؛ لأنه إما أن

يكون من الكثيرين الذين لا يعلمونهن وإما أن يكون ممن يعلمون الحكم ولا يشتبهون

فيه، فإن كان ممن يعلمون أن هذا المشتبه فيه - لخفاء في وجه حله أو حرمته -

حلال فإنه لا يأثم به وإن كان ممن يعلمون أنه حرام فإنه يأثم. وأما من يقع في

المشتبه مع اشتباهه عليه فإنه لا يأمن أن يكون الحرام فكأنه تجرأ على الحرام، وكذا

من علم أنه ذريعة إلى الحرام كالذي يتزوج على امرأته وهو لا يثق من نفسه بالعدل

لكراهته للأولى وحبه للثانية فإنه لا يلبث أن يظلم، فهذان محملان للحكم بوقوعه في

الحرام وليس المعنى أن نفس المشتبه فيه حرام لأنه يخرج بهذا عن كونه مشتبهًا

فيه.

قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري: ونختلف في حكم

الشبهات فقيل التحريم وهو مردود، وقيل الكراهة، وقيل الوقف كالخلاف فيما

يقبل الشرع. وحاصل ما فسره به العلماء الشبهات أربعة أشياء: (أحدها)

تعارض الأدلة كما تقدم (ثانيها) اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى (ثالثها)

أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك (رابعها) أن المراد

بها المباح. ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل

يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار

ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.. إلخ.

ومن ألفاظ الحديث ما هو صريح في أن الوقوع في الشبهات مدرجة للوقوع

في الحرام لا وقوع فيه كحديث ابن عمر (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما

مشتبهات فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع

في الحرام) .

وقال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها

منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وفسرها

تارة باختلاط الحلال والحرام. وذكر أن أصحابهم الحنابلة اختلفوا فيه هل هو

مكروه أو محرم؟ على وجهين وأن منهم من حمل ذلك على الورع.

وذكر هو وابن مفلح في الآداب الشرعية آثارًا عن كبار علماء السلف في

ذلك: (منها) ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان

لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام (ومنها) كان النبي

صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا

يجتنبون الحرام كله.

قال الحافظ ابن رجب: وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه. قال سفيان:

لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إليَّ. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل

منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن

فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه. نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن

راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما وغيرهما من

الرخصة - وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي (؟)

من الربا والقِمَار، ونقله عن ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه

حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرَّف في الباقي،

وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر معه

السلامة من الحرام بخلاف الكثير.

ثم قال: ومن أصحابنا مَن حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح

التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه وهو قول الحنفية وغيرهم

وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بِشْر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل

ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه كما تقدم عن مكحول

والزُّهْرِي، وروي مثله عن الفضيل بن عياض، وروي في ذلك آثار عن السلف،

فصحَّ عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية لا يتحرج من مال

خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام؟ ! قال: أجيبوه فإنما الهناء (أو المهنأة) لكم والوزر

عليه. اهـ. المراد منه.

فعلم بهذا كله أن من الجهل المبين أن يُعد ما يشتبه في أمره ولا يتبين وجه

الحلال والحرمة فيه من الحرام المحض ولو من الصغائر، فكيف يجوز أن يعد من

أكبر الكبائر التي أنذر الله مرتكبها بأشد الوعد ولعنه رسوله صلى الله عليه وسلم؟

وإنما يكثر مثله في كلام المقلدين الذين يأخذون بالتسليم كل ما يرونه في كتب مَن

قبلهم ولا سيما علماء مذاهبهم، ولا يعنون بالنظر في أدلتهم، بل يأخذونها بالتسليم

على علاتها. وعلى من ينظر في الأدلة أن يستقصي ما قاله أهلها المستقلون ويتحرى

في البحث عن غيرها وينصب الميزان المستقيم لترجيح بعضها على بعض، لا كما

فعل أخونا المفتي الهندي في مسألة الربا.

إذا تمهد هذا ظهر به الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد

فاعله بما لم يتوعد بمثله على ذنب آخر - أنه ربا النسيئة الذي كان معروفًا في

الجاهلية كما قال من ذكرنا عباراتهم من أعلام العلماء المستقلين والتابعين لبعض

الأئمة في النظر والاستدلال، لا مجرد التعبد بالآراء والأقوال.

وإمام هؤلاء القائلين بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس

رضي الله عنهما. ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير

الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر مهما يكن أصل ذلك الدين من بيع أو قرض

أو غيرهما، وهذا النوع هو الذي كان يتضاعف بعجز المدين عن القضاء مرة

أخرى حتى يصير أضعافًا مضاعفة ويستهلك جميع ما يملكه المدين في كثير من

الأحيان.

وبهذا تظهر حكمة العليم الحكيم في ذلك الوعيد الشديد عليه وفي تسميته ظلمًا،

ولا يظهر هذا في كل قرض جر نفعًا، ولا في بيع أحد الأجناس بمثله متفاضلاً

نقدًا أو نسيئة، فضلاً عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط

الفقهاء فيها كما يأتي بعد وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة

الربا المحرم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، وقد ذكرنا آنفًا بعض ما لها

في الشريعة من الأمثلة، ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه

أو خلاف الأولى، وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني، وإنما يكون التمييز

بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص

وترجيح الأقوى كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص

القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله

به. وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص

القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر. وبينا فيه أن التعبير في بعض

الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى لفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم.

وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث

عبادة (إلا يدًا بيد مثلاً) بمثل إذا اتحد الجنس، والاكتفاء بالتقابُض إذا اختلف.

ومما يدل على أن هذا النهي غير مقصود بالذات ما صح في إباحة بيع العرايا

والحيلة في بيع الكثير من التمر الرديء بالقليل من التمر الجيد بأن يجعل العقد على

بيع كل منها بالثمن. وهذا أصل من أصول أدلة مَن جوزوا الحيلة في الشرع ولكن

لا يصح هذا الاستدلال إلا في المسائل التي لا تضيع فيها علة الحكم وتذهب حكمة

الشارع فيه كمسألة بيع التمر بالتمر التي أفتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وسنعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا إتمامًا لتحقيق مسألة الربا العامة من كل وجه.

_________

ص: 37

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حكم قراءة الجرائد والمجلات

(س1) من صاحب الإمضاء في دبي - خليج فارس

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة السيد الأجلّ مفتي الأمة، وبحر العلوم، وعلامة الزمان، وترجمان

القرآن، قامع المبتدعين، البحر الزاخر، والصارم الباتر، السيد محمد رشيد رضا

رضي الله عنه وأرضاه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فالمرجو من فضيلتكم الجواب عن هذا السؤال: وهو أنه قد حصل في بلدتنا

خلاف بين طلبة العلم؛ فإن فريقًا منهم يعترض على فريق آخر بسبب انكبابهم على

قراءة الجرائد والمجلات الأسبوعية واليومية؛ ويشمل ذلك الجرائد المصورة،

فالواجب أن تصرفوا أوقاتكم في مطالعة كتب السنة والتفاسير والفقه؛ لأن بها سعادة

الدارين، وهذه الجرائد من لهو الحديث المشار إليه في الآية، والدليل في عدم الفائدة

منها أن هذه مصر؛ الجرائد والمجلات بها مذ عهد بعيد ولم تنتفع ولم تتخلص من

الرق، وهذه الأمة العربية جند الإمام ابن السعود أيده الله بنهوضهم في هذه المدة

القريبة حصل خير كثير والمستقبل يبشر بالخير مع أنهم لم يطالعوا جرائد

ولا مجلات.

ويقول الفريق الآخر هل الخير إلا في الجرائد وهي تذكي الذهن وتحرك

الأفكار وتفيد عن تطور العالم وهي من أنعُم الله الكبار.

فالرجاء من فضيلتكم الإيضاح والتخطئة والتصويب لأنه حصلت مشاحنة

تكدر الخاطر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

أحمد بن حسن

(ج) إن الجرائد والمجلات التي توصف بالدورية مثل الرسائل والكتب في

القصص والأدب والتاريخ والعلوم منها الضار والنافع، وفيها الحق والباطل، فلكل

من مادحيها وذامِّيها وجه، ويختلف حكم قراءتها باختلاف موضوعاتها واستعداد

قارئيها في العلم ورسوخ العقيدة الصحيحة، والآداب الشرعية القويمة، فإن في

بعضها ما هو كفر صريح وصد عن الدين بضروب من الشبهة والتأويل، وفي

بعضها تزيين للشهوات المحرمة وغير ذلك من المعاصي، كما أن في هذه وغيرها

كثيرًا من المسائل العلمية والتاريخية وأخبار السياسة التي تفيد صاحبها عبرة وخبرة

وتثقيفًا، وإنني أعلم أن كثيرًا من قرائها قد فسدت عقائدهم وآدابهم، ولا بد أن

تكونوا رأيتم في المنار ردودًا على بعضها بالتعيين تارة وبالإبهام تارة، وأن كثيرًا

من قرائها لا يحملهم عليها إلا التلذُّذ والتسلِّي بما فيها من الغرائب، دون ما

يزعمون من الفوائد، وناهيك بالمصورة التي تعنى بصور النساء العاريات

والمتبرجات، وأخبار العاشقين والمعشوقات، والمدار في نفع ذلك وضره منوط

بحسن الاختيار وسوء الاختيار.

فمن الجرائد المصرية التي يحسن اختيارها في قطر إسلامي كبلادكم جريدة

كوكب الشرق اليومية والفتح والشورى والمصلح الأسبوعيات، ومن المجلات

المصرية مجلة مكارم الأخلاق والزهراء والهداية ومجلة الشبان المسلمين، ومن

الجرائد السورية العهد الجديد والنداء اليوميتان والنذير الأسبوعية من جرائد بيروت

وجريدتا الحياة والجامعة العربية من جرائد فلسطين والهداية البغدادية والحلبية،

وأم القرى الحجازية.

ومن المجلات مجلة الكشاف البيروتية والإصلاح الحجازية ومجلة الكويت.

فمَن كان يريد قراءة الصحف من أهل بلادكم الإسلامية العربية لما فيها من

الفوائد العلمية والأدبية والسياسية مع الأمن من المفاسد الدينية ونزعات الإلحاد،

وإباحة الفسق والفساد، فليختر لنفسه بعض هذه الجرائد والمجلات، ومن رغب

عنها إلى الصحف التي ينشرها بعض الملاحدة أو الكفرة لإفساد عقائد المسلمين

وأخلاقهم وتفريق كلمتهم ويجذبون الشبان إلى قراءتها بصور النساء العاريات وغير

ذلك من مثارات الشهوات - فهم يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم وبلادهم من حيث

لا يشعرون.

***

تفسير آية (ما ننسخ

)

(س2) من صاحب الإمضاء (الطلفون - الدار البيضاء بالمغرب)

صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل رشيد رضا دامت معاليه، تحية وسلامًا لائقين

بمقامكم الشريف، هذا فالمنهى لسماحتكم سؤال أرجو الجواب عنه وهو قوله تعالى:

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن

رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ

نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:

105-

106) .

ملخص السؤال المعروض لفضيلتكم هو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ

نُنسِهَا} (البقرة: 106) هنا قد ظهر لي أن ما ننسخ من توراة وإنجيل أو نُنسي

اليهود في التوراة وننسي النصارى في الإنجيل. لا كما قال بعض المفسرين أن

عشرين آية نسخت ويستدلون بالآية، وأستدل على رأيي بأن الآية السابقة قوله

تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ

خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105) وأي خير أفضل من القرآن؟

هذا وإني ملتمس من فضيلتكم أن تمنحوني عفوًا والكريم مَن عذر مَن اعتذر،

وأقال عثرة من عثر، إن وقع غلط في فهمي للآية، مع أتمّ الرجاء أن تلهمني إلى

الصواب، وتبدي نظركم السديد، وأسأله سبحانه أن يسدد أعمالنا ويوفقنا لما يحبه

ويرضاه، ودمتم محروسين بعنايته، والسلام ختام.

...

...

...

... السيد محمد اليعقوبي

(ج) جمهور المفسرين والفقهاء على أن النسخ المراد من هذه الآية هو

نسخ آيات الأحكام الشرعية، فعلى هذا القول يظهر لفهمكم في الآية وجه وجيه

بقرينة الآية التي قبلها. وللآخذين برأيهم أن يقولوا: إن هذه القرينة لا تقتضي

الحصر فالآية تدل على أن ما ينسخه الله تعالى من التوراة والإنجيل وما ينسخه من

القرآن أو ينسيه منهما سواء في كونه يأتي بخير منه أو مثله، ولكن هذا لا يدل

على أن في القرآن عشرين آية منسوخة وهو العدد الذي اعتمده السيوطي في

الإتقان، ولا على ما قال بعضهم من أن المنسوخ بضع آيات فقط، فالعدد لا يدخل

في مفهوم الآية من باب ولا من طاق.

وفي الآية وجه آخر وهو أن لفظ (آية) فيها معناه، الآية الكونية أي المعجزة

التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام؛ إذ كان الكفار يطالبونه عليه السلام بآية من

تلك الآيات ولا سيما آيات موسى عليه السلام إذ {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا

أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) ويؤيده قوله تعالى بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن

تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وهو الذي اختاره

شيخنا وتجدونه مفصلاً في تفسيرها من الجزء الأول من تفسيرنا.

***

حبوط أعمال المشركين بالشرك

(س3) من صاحب الإمضاء في البترون (لبنان)

حضرة الأستاذ الجليل، إمام المسلمين، ومحيي شريعة سيد المرسلين،

الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم.

السلام عليكم وبعد:

فقد قرأت في العدد الرابع من المجلد الثلاثين في مجلتكم الغراء ما يأتي:

بعد ما ذكر الله في كتابه أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم أعظم درجة وأسمى

مقاماً من الذين يسقون الحاج ويخدمون البيت. قلتم في تفسير هذه الآية التي تؤدي

هذا المعنى: لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها

درجة عند الله إذا فعلا ما يرضي الله ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف

الجاهلية، ولكن الشرك يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها

كما تقدم. اهـ.

فالعجبُ كيف يُحْبِطُ الشركُ الأعمالَ التي هي بحد ذاتها حسنة خيرية والله لا

يضيع للإنسان مثقال ذرة من خير أو شر كما جاء في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وعدل

الله أجلُّ من أن يجعل المشرك الذي يفسد في الأرض كالمشرك الذي يعمل الأعمال

الخيرية. ومعلومكم أن كلمة (مَن) عامة كما هو معلوم من علم الأصول تعم

المؤمن والمشرك. فالرجاء نشر الجواب على صفحات مجلتكم الغراء ودمتم.

...

...

...

مدير مدرسة البترون الإسلامية

...

...

...

... محمد فؤاد إشراقية

...

...

...

... من طرابلس الشام

(ج) أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى:

{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا

كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي

الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (المائدة: 5) {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَزْناً} (الكهف: 105) وأما وجهه المعقول فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول

الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية

ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون

كقليل من الماء أو نقط من العطر تُلقَى في مجتمع القذر من الكنيف لا يكون لها

أدنى تأثير في تطهيره، فضلاً عن تطييبه.

وأما قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

} (الزلزلة: 7) إلخ فيجيب عنه

العلماء بأنه عام مخصوص بغير المشركين والكافرين وقالوا: إنهم يُجزَوْن في الدنيا

على أعمالهم الحسنة، ولكن موضوع النص أن كل أحد يعرض عليه يوم الجزاء ما

عمل من خير فيراه في الحساب الذي يترتب عليه الجزاء فإذا وُزنت أعمال

المشرك الحسنة مع شركه وما له من سوء التأثير في تدنيس نفسه بالخرافات

والسيئات تطيش كِفَّة تلك الحسنات فيكون معنى حبوط عمله أنه لا يرى له تأثيرًا

في النجاة من العذاب ودخول الجنة، فكأنه لا وجود له إلا أن يكون في كون عذابه

يكون دون عذاب مَن لم يعمل تلك الأعمال، وبهذا تنتفي المساواة بين المشركين

المنافية للعدل، وقد بيَّنا في الكلام على الجزاء أن عذاب الكفار في النار يتفاوت

بحسب أعمالهم وما كان لها من التأثير في أنفسهم كغيرهم إلا أنها لا تبلغ درجة أقل

المؤمنين عملاً صالحًا، وقد ورد في أصحاب المعاصي من المسلمين أن أصحاب

الحقوق عليهم من العباد يأخذون من حسناتهم بقدر حقوقهم عليهم فإذا لم تفِ بها

حملوا من أوزارهم بقدر ما بقي منها، وورد في الحديث تسمية هؤلاء بالمفلسين.

ولكن مَن مات على الإيمان الصحيح لا بد أن تكون عاقبته الخروج من النار إذا

عُذب فيها بمعاصيه ثم يدخل الجنة.

_________

ص: 46

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

(س 4 - 6)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل

السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي، راجياً التفضل بالإجابة عليه:

1-

هل يجوز لجمعية إسلامية أُسست لخدمة الدين وأبناء الأمة الإسلامية

كجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت وغيرها - أن تُدخل في مدارسها معلمين غير

مسلمين لتعليم أولاد الأمة الذين هم مطمح أنظارها في نشر الدين وتقويته مع وجود

معلمين مسلمين فيهم الكفاءة التامة لما عساه أن ينشأ عن غير المسلمين أمور تنافي

ديننا الإسلامي سواء بالمقال كبثّ بذور الفساد في النفوس، أو بالحال ككونهم

بصفات لا تلائم مبادئ الدين مما تنتشر به النفوس الساذجة؛ لأن التلاميذ مرآة

معلميهم، وفيهم قابلية انطباع ما يصدر عنهم من صلاح أو فساد، هل ذلك يجوز

أم لا؟

2-

ما قول السادة علماء الدين الإسلامي الحنيف فيمن لا يصوم ولا يصلي

خوفاً من تجعيد ثيابه كالبنطلون وغيره فهل هو مسلم أم لا؟ وما هي الضرورة التي

يباح فيها عدم الصوم والصلاة؟

أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا جميع أسماء مؤلفاتكم؛ لأننا نريد اقتناءها

وأن تتكرموا بالجواب الكافي عن ذلك كله.

ولكم من الله تعالى عظيم الأجر والثواب.

...

...

...

... مصطفى أحمد شهاب

...

...

...

...

... بيروت

أجوبة المنار

(4)

حكم جعل غير المسلم معلماً لأولاد المسلمين:

يجوز للأفراد وللجمعيات استئجار غير المسلم لتعليم أولاد المسلمين ما

يحتاجون إليه من العلوم الدنيوية النافعة؛ كالحساب والاقتصاد مثلاً، إذا كان متقنًا

لذلك ولا يُخشى على الأولاد ضرر منه في دينهم ولا في تربيتهم القومية والملية، ولا

يجوز مع خشية الضرر مطلقاً مهما يكن نوعه وإذا وجد معلمان سيان في ذلك العلم

وفي فن التعليم أحدهما مسلم والآخر غير مسلم فإسلام المسلم كافٍٍ في ترجيحه كما

أن المسلم التقي الحسن الآداب يرجح على مَن دونه في التقوى والأدب لا على

الفاسق فقط. ورُبَّ كافر أقل ضرراً في التربية من فاسق، فالعبرة بدرء المفسدة أولاً

ثم بتحقق المصلحة.

***

(5)

ترك الصيام والصلاة لغير عذر شرعي:

لا يترك الصلاة مسلم صحيح الإيمان خوفاً من تجعيد ثيابه، ولا لما هو فوق

ذلك تشعيثاً لهيئته وهندامه، ففاعل ذلك ليس له من الإسلام نصيب إلا لقبه

الموروث عن آبائه، وإنما الإسلام الإذعان العملي الذي يقتضيه الإيمان الصحيح

بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد أن ترك الصلاة في مثل هذا

مسبب عن عدم الإسلام لا سبب له في الغالب كما فصلناه في تفسير قوله تعالى:

{.. فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11)

فراجعْه. ولا عذر يبيح ترك الصلاة إلا سقوط التكليف مطلقاً كالجنون أو موقتاً

بنوم أو إغماء أو نسيان مثلاً. وأما الصيام فيباح تركه في المرض والسفر على أن

يقضي ما فاته بعد الشفاء والإقامة ويجوز كذلك للحامل والمرضع أن تفطر في

رمضان إذا خافت على نفسها أو ولدها. ومن عجز عن الصيام لهرم أو مرض لا

يرجي برؤه أفطر وأطعم مسكيناً عن كل يوم من رمضان كما هو مفصَّل في كتب

الفقه، فمن كان غير عالم بذلك فعليه أن يسأل عنه أهل العلم ولا تتسع هذه الفتاوى

لتفصيله كل ما سُئلنا عنه.

***

(6)

مؤلفاتنا المطبوعة:

(1)

تفسير القرآن الحكيم وقد تم منه تسعة أجزاء.

(2)

تفسير الفاتحة وقد طُبع معه مقالات في التفسير وغيره للأستاذ الإمام.

(3)

خلاصة السيرة المحمدية وكليات الإسلام.

(4)

الوحدة الإسلامية وفيه مقالات المصلح والمقلد.

(5)

يسر الإسلام والتشريع العام.

(6)

شبهات النصارى وحجج الإسلام.

(7)

نظرة في عقيدة الصلب والفداء عند النصارى.

(8)

الخلافة أو الإمامة الكبرى.

وتجدون أسماء هذه الكتب وغيرها مع بيان أثمانها في غلاف المنار أحياناً.

***

أسئلة من صاحب الإمضاء في زِنْجِبَار

(س7 - 12) لصاحب الإمضاء

حضرة العلامة صاحب المنار الأغرّ السيد محمد رشيد رضا:

1-

نقدم إلى فضيلتكم السؤال الآتي لتجاوبوا عنه في مجلتكم الشريفة.

سيدي مَن هم المحققون من علماء الإسلام، فهل يطلق هذا اللقب على علماء معينين

أو لكل فن من فنون علوم الدين ووسائلها محققون؟ فإن كان يطلق على معينين

فاسردوا لنا أسماء بعضهم، وإن كان لكل فن محققون فاسردوا لنا أيضًا أسماء

بعض من محققي التفسير.

ولكم من الله الأجر الجزيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

2-

ما قولكم في الترضِّي على الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة والدعاء

لسلطان البلد في الخطب كخطبة الجمعة أو العيدين أو الخسوفين أو الاستسقاء،

وحقيقة أنه جارٍ من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أم لا؟

3-

هل الأذان الثاني يوم الجمعة بين يدي الخطيب تحت المنبر كان في عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟

4-

هل ما يفعله المؤذنون على مئذنة المساجد قبل أذان صلاة الصبح ويوم

الجمعة من الأذكار والأدعية والصلاة على رسول الله بصوت نُكُر - واجب؟

5-

هل من وقف أو أوصى بأن يصنع يوم موته أو بعده طعام أو إعطاء

دراهم معدودة لمن يتلو القرآن العظيم أو يسبح أو يهلل أو يصلي على النبي صلى

الله عليه وسلم أو يصلي نوافل ويهدي ذلك إلى روح الموصي أو من يريده هل

تكون وصيته ووقفه صحيحين أم لا؟

6-

هل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين

التهليل أو أي ذكر مع تشييع الجنائز؟ فإن قلتم: لا، هل يجوز، أم بدعة،

أيحسن عملها أم لا؟

سيدي: الرجاء من فضيلتكم فيما تثبتون ابتداعه أسماء المبتدعين وإماتتهم به

الدين. ولكم الأجر الجزيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... محمد عبد الله قرنح

أجوبة المنار

(7)

العلماء المحققون:

في علماء كل علم وفن محققون كالأئمة الواضعين لها والمجتهدين فيها، ونقلة

مقلدون لهم، والمؤلفون يطلقون لقب المحقق على من يعجبهم بحثه واستدلاله، وقد

اشتهر بلقب المحقق أفراد من العلماء عند أكثر المؤلفين كالسعد التفتازاني في

العلوم النظرية وابن القيم في العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والكمال بن الهمام

في فقه الحنفية والنووي في فقه الشافعية. وابن هشام في النحو. وأما التفسير

فللعلماء فيه مسالك لا نعرف أحداً محققًا فيها كلها ولكن الإمام الطبري أجمعهم

للروايات والمعاني الفقهية والتاريخية، والحافظ ابن كثير أمثلهم في تحقيق التفسير

المأثور، والزمخشري أدقّهم في تحرِّي المعاني اللغوية للألفاظ متناً ونحواً وبياناً إلا

ما يؤيد به مذهب جماعته المعتزلة، ومثله البيضاوي من مفسري الأشعرية في

المسائل الكلامية والفقهية والعربية، والخفاجي مُحَشِّيه في العلوم العربية، وأبو

السعود في نكت البلاغة.

***

(8)

الترضِّي عن الصحابة والدعاء للسلاطين:

الترضي عن الخلفاء الراشدين وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة

رضي الله عنهم حسن وقد شرع الله لنا أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا

بالإيمان وهؤلاء العشرة خيارهم، ولا ينبغي أن يلتزم دائماً لئلا يظن العوام أنه

واجب، وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة فينبغي

للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر أن هذا دعاء مستحب على

إطلاقه ولم يطلبه الشرع في الخطبة فهو ليس من أركانها ولا من سننها. وإلا بقي

مواظباً عليه.

وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين أو لأولياء، أمورهم ويراعَى فيه أن لا يكون

متضمناً لمنكر كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما، ولا لألفاظ من الإطراء في

المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجَّه إلا إلى الله تعالى.

وأما الدعاء للسلطان المعين باسمه فهو بدعة استحسنها بعض المؤلفين

بشرطها.

قال الإمام النووي في المجموع - أي شرح المهذب -: وأما الدعاء للسلطان

فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، وظاهر كلام المصنف وغيره أنه بدعة

إما مكروه وإما خلاف الأولى. هذا إذا دعا له بعينه، فأما الدعاء لأئمة المسلمين

وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش

الإسلام - فمستحب بالاتفاق.

والمختار أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه والله

أعلم. اهـ.

وقد صرح بعض الفقهاء بأن ما يجب من الإنصات عند إلقاء خطبة الجمعة

يستثنى منه الإنصات وقت الدعاء للسلاطين وخاصة الظلمة والفساق منهم. وقد

بينا هذا في مواضع لا أذكر منها الآن إلا ما في المجلد التاسع من المنار (سنة

1324) (الموافق 1906) ، ونقلنا هنالك عبارة من شرح الإحياء للزبيدي نعيدها

هنا مع ما قبلها مما قاله في الدعاء للخلفاء والصحابة وهو:

وينبغي أن تكون الخطبة الثانية هكذا: الحمد لله نحمده ونستعينه.... إلخ؛

لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر

الخلفاء الراشدين عموماً والعمين والسبطين وأمهما وجدتهما مستحسن، وإن احتاج

إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة فلا بأس أن

يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ثم يعطف عليهم بالباقين من

العشرة. ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل

الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به

إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ولا نحو ذلك فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة

الأمر والآن صار واجباً؛ لأنه مأمور به من السلطان.

هذا ما ذكره عن فقهاء الشافعية وهو معنى ما تقدم عن المجموع إلا قوله

الأخير بوجوبه فلم أره في كتبهم ثم أورد جملة مما قاله علماء مذهبه الحنفية فقال:

وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو

يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم

بالصلاح لا بأس به وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله؛ فإن

تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام [1] وفيه إرهاب على الأعداء [2] وقد اتفق أن

الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع

الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان وأطنب فيه فلما فرغ من صلاته

أنكر عليه وقال - مع كونه تركيًّا -: ما لهذا الخطيب يقول في خطبته.. السلطان

السلطان ليس شرط الخطبة هكذا؟ ! ، وأمر به أن يُضرب بالمقارع فتشفَّع له

الحاضرون. هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه، فما خلص إلا بعد الجهد

الشديد. واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في أحد

جوامع مصر وكان مغروراً بدولته مستبدًّا برأيه، وربما نازعته نفسه في خلافه على

مولانا السلطان نصره الله تعالى، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد

اسم السلطان فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن

مصر إلى بعض القرى. فهذا وأمثال ذلك ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى

برضا الناس فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي، نسأل الله العفو منه

آمين. اهـ.

***

(9)

أذان الجمعة:

إنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد لصلاة الجمعة

وهو الأذان بين يدي الخطيب؛ لأن كل المؤمنين الموجودين في المدينة كانوا

يجتمعون في المسجد ويتسابقون إلى التبكير إليه. وحدث الأذان الآخر في عهد

عثمان رضي الله عنه للحاجة إليه بكثرة الناس وذلك معروف في كتب الصحاح

والسنن المشهورة، وقد بيناه من قبل.

***

(10)

الزيادة في الأذان:

ما يفعله المؤذنون في كثير من البلاد من الأذكار وغيرها قبل أذان الصبح

وأذان الجمعة على المنارة - كله بدع، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

بعد الأذان متصلاً به مع رفع الصوت، ولا يدخل ذلك في عموم الذكر والصلاة

عليه صلى الله عليه وسلم الواردة في الأحاديث المطلقة؛ لأنه يجب علينا التزام

ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول من إطلاق وتقييد ولا سيما شعائر الإسلام

كالأذان والإقامة، فلا نزيد فيهما ولا ننقص منهما، وقد شرحنا هذه المسألة مراراً،

ولو قلت لمن يفعلون ذلك ولمن يقرونهم عليه: هل لنا أن نزيد في إقامة الصلاة

ذكراً أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنه من

الشعائر التي يجب فيه التزام المأثور الذي كان عليه المسلمون في عهده صلى الله

عليه وسلم فقل: أوَ ليس الأذان كذلك؟ وكذلك المدائح الشعرية التي يتغنى بها

المؤذنون يوم الجمعة قبل الأذان بدعة، ومنهم من كان يفعلها قبل الخطبة أيضًا وقد

كثر في عصرنا من أنكرها من أنصار السنة في ديار مصر والشام فتُركت في كثير

من المساجد وستُترك في باقيها إن شاء الله تعالى.

***

(11)

الوصية والوقف في إهداء العبادة للميت:

الذي أعتقده أن العبادات البدنية لا تنفع إلا مَن عبد الله تعالى بها مخلصاً له

فيها، وأن فاعلها لا يملك إهداءها إلى غيره ولا ينتفع بها من تُهدَى إليه، وعلى هذا

لا يصح أن يوصى لفاعلها بمال لأجل إهدائها للموصي ولا الوقف لأجل ذلك.

ولكن بعض الفقهاء يرون أن ثواب قراءة القرآن يصل إلى الميت الذي يُقرأ

لأجله ويُهدى ثوابه إليه كالصدقة لا الصلاة، ويجيزون الوصية به والوقف عليه،

فالمسألة مما تنازع فيه العلماء فوجب ردّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله

عليه وسلم، فمن كان أهلاً لمعرفة أدلتها منهما وجب عليه اتباع ما ظهر له من

دلائلهما بنفسه؛ وإلا فبإرشاد بعض العلماء بهما، وقد بينت أدلة ذلك بالتفصيل في

تفسير آخر سورة الأنعام (ص256، ج8 تفسير) .

***

(12)

الذكر برفع الصوت في الجنائز:

إن ما اعتاده بعض أهل الطرق وغيرهم من الذكر في حال تشييع الجنازة

برفع الصوت وزيادة بعضهم قراءة أبيات من البردة - كله من البدع، وقد ورد

النهي عن رفع الصوت في الجنازة مرفوعاً وفي عمل الصحابة. قال ابن مفلح في

الفروع: ويُسن الذكر والقراءة سِرًّا وإلا الصمت، ويُكره رفع الصوت ولو بالقراءة

اتفاقاً. قاله شيخنا، وحرمه جماعة من الحنفية وغيرهم. وقال الشيخ الموفق في

المُغني:

ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع

الجنازة بصوت، قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباس أنه قال: كان

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند

الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وذكر الحسن عن أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند ثلاثة فذكر نحوه.

وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وإمامنا (أي

أحمد) وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له. وقال الأوزاعي:

بدعة، وقال عطاء: محدثة. وقال سعيد بن المسيب في مرضه: إياي وحاديهم هذا

الذي يحدو لهم يقول: استغفروا له غفر الله لكم، فقال ابن عمر: لا غفر الله

لك، رواهما سعيد. قال أحمد: ولا يقول خلف الجنازة: سلم رحمك الله، فإنه بدعة،

ولكن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الله إذا

تناول السرير.

_________

(1)

هذه دعوى باطلة؛ لأن زمن التشريع والأحكام الدينية - ولا سيما الشعائر - لم يكن فيه شيء من، ذلك بل لم يكن فيه ملوك مفتونون بالتعظيم.

(2)

وهذا باطل أيضًا؛ فإن أعداءنا يحتقروننا بشدة إطرائنا وتذللنا للسلاطين.

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مساواة المرأة للرجل

في الحقوق والواجبات

الشبهات على حق المساواة في الميراث

- 12 -

كتب الدكتور فخري ميخائيل الكاثوليكي في محاضرته كل ما قاله الدكتور

عزمي اللاديني في مناظرته، وما أيدته به الآنسة هانم محمد - والظاهر أنها على

عقيدته - من الشبهات على وجوب مساواة المرأة للرجل في الميراث، وزاد

شبهاتهما إيضاحًا وشرحًا، إذ كان أوسع منهما وقتًا، وانفرد عزمي دونه بزعم

واحد، وهو أن نظام الإرث وُضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث

من جمود تقتضي أطوار الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يتركون بعض أحكام

الميراث بوقف أموالهم على من يريدون إعطاءهم من مال مورِّثهم فوق ما تعطيهم

تلك الآيات.

هذا ما فهمته من كلامه في هذا الزعم فأبدأ بالتصريح ببطلانه، ثم أنقل كلام

الدكتور فخري بنصه وأفنده بالدليل العقلي فيتم الرد على الجميع.

ألا فليعلم مُفْتَحِر هذا الزعم أن الوقف على الذرية بما يخالف الفريضة

الشرعية ليس فيه نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

يرتقي في قطعيته إلى أن يكون مخصصًا لكتاب الله تعالى، بل هو من توسُّع بعض

الفقهاء المختلف فيه بينهم وحجة من يقول ببطلان هذا الوقف وحظره أقوى من

حجة من يقول بجوازه وصحته.

ومن القائلين ببطلانه المحققون من الحنابلة، وقد صرحوا ببطلان قاعدة

الحنفية: أن شرط الواقف كنص الشارع، وإنما الوقف الصحيح هو ما يُحبس على

أعمال البر قربة لله تعالى، وكل شرط خالف كتاب الله تعالى فهو باطل بنص

الحديث الصحيح الذي لا خلاف في صحته، وقد بينا هذا في المنار من قبل، ولا

محل له في هذا البحث.

ثم إن الذين ينتقصون من بعض أحكام الشريعة في الميراث إنما يخالفونها في

توريث البنات غالبًا فيحبسون أملاكهم على الذكور وحدهم، فالتطور الذي يحتج به

طلاب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث يقتضي حرمانها منه ألبتة لا مساواتها

للرجل فيه، فإن الذين يقفون أطيانهم ودورهم على أبنائهم يرون أن بناتهم لسن

أهلاً لإرث شيء منها؛ لأنهن صرن أو سيصرن أرومات لأسر (عائلات) أخرى

غير أسرة أبيهن، ومن ثم كانوا فاسقين عن شرع الله العدل المبني على أساس

الحكمة والرحمة.

وأما ما كتبه الدكتور فخري في بحث الواجب المالي للأمومة على المرأة

المقتضي للمساواة عنده فهذا نصه السقيم بحروفه:

(على المرأة واجبات مالية للأمومة؛ لأنها - رغم قيام الرجل بمصروفاتها

وأطفالها - مكلفة بحالة عجز زوجها عن القيام بواجباته المادية نحو العائلة بالعناية

بأطفالها وبنفسها على الأقل، هذا إذا لم تفكر - بعطفها المعروف عنها كامرأة تحب-

في العناية بزوجها في حالة عجزه. فإذا كان لها موارد ثروة خاصة فإنها

ستصرف على العائلة، ولذلك طالبنا بتعليم الفتاة حتى العلوم العالية أو الفنية التي

تليق بها لترجع إلى هذه المعارف إذا اضطرتها الظروف المعيشية إلى الجهاد للحياة،

فتكون أسلحة الجهاد الشريف بين يديها. ومن هذا ترون أن المرأة عليها واجبات

مالية للأمومة رغم عناية الزوج بهذه الواجبات. وفي حالة قيام الزوج بكل واجبات

العائلة المالية ثروة الزوجة تُختزن للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها

سواء بسواء، كما لو كانت الزوجة غنية وزوجها فقيرًا؛ فإنهما سيصرفان على

قدر ثروة الزوج إذا كان أبيًّا وسيخزنان ثروة الزوجة للأولاد. وأما إذا قبل الزوج

الصرف من مال زوجته فستكون مورد رزق العائلة.

هذا من جهة المرأة وواجبها نحو الأمومة المتزوجة فما بالك في أمومة

مترملة أو أمومة مطلقة أو أمومة غير شرعية؟ هي هي كل شيء في القيام بحمل

الصرف المالي على هذه الأمومة، ومن هذا ترون - حضراتكم - أن المرأة

معرضة في حياتها لحمل عبء الأمومة حملاً تامًّا كالرجل، فلست أدري لماذا يريد

الرجل أن يعطيها نصف حقه في الميراث وهي إنسانة مثله لها الحق في التمتع

بميراثها كأخيها الرجل وعليها واجبات نحو أمومتها لا تقل عن واجباته نحو زوجته

أهمية.

وإن كان حق الميراث ناتجًا عن البنوة فهي أكثر منه عطفًا على والديها وهي

أكثر منه برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما) .

هذا نص ما كتبه الدكتور فخري بعد قدح زناد الفكر، وطول التروي في

الأمر، ثم ألقاه في قاعة الخطابة من المدرسة الجامعة الأميركانية التبشيرية، كتبه

بعد هذيان كثير في شأن المرأة وظلم الرجل لها وقفَّى عليه بما تقدم تفنيده في المقالة

الماضية من التحكك بالشريعة الإسلامية. وهو يفرض - بل يزعم - أن أحكام

الشريعة من تحكم الرجال وظلمهم للنساء.

وإنني أفند هذه الشبهات الواهية بصريح من القول لا أدعمه بشيء من

المسلَّمات الخطابية، ولا أزينه بشيء من التخيلات الشعرية، ولا أشينه بشيء من

الإفك والبهتان، ولا من مكابرة الحس والوجدان، كما فعل فخري، وسبقه إلى مثله

سلامة موسى وعزمي، وأبني التفنيد على رد كلامه وأقصد به الرد على جميع

هؤلاء الدعاة إلى فوضى الإلحاد فأقول:

يعترف هؤلاء الذين يوجبون بأهوائهم مساواة المرأة للرجل في الميراث -

بأن الرجل هو الذي ينفق على المرأة وعلى أولادها منه، ويعلمون أن هذا واجب لها

عليه في الشريعة الإسلامية لها حق المطالبة به، وأن القاضي الشرعي يحكم لها به

ويُكرِه الرجل عليه في حال الامتناع، وأن لها أن تقترض عليه، ولا تكلَّف أن

تشتري لنفسها رغيفًا ولا ثوبًا، وإن كانت أغنى من (هدى شعراوي) .

ولعلهم لا يجهلون أيضًا أنه إذا امتنع أو عجز عن النفقة كان لها حق فسخ عقد

الزوجية، وكان على القاضي أن يحكم بذلك إذا طلبته منه وثبت عنده الامتناع ثم هم

يعترفون بأنها إذا أنفقت شيئًا في دارها على نفسها أو أولادها فإنما تكون في حكم

الشريعة متبرعة متفضلة، وإن قال الدكتور فخري إنها (واجبات مالية للأمومة)

فإنه لا يفهم المعاني الصحيحة للألفاظ التي يكتبها وإن كانت أقرب إلى لغته العامية

منها إلى العربية الفصيحة، ألا ترى أنه لا يميز بين ما للأمومة وما عليها؟

ثم إنه يصرح بأنه في حال قيام الزوج بكل ما يجب للعائلة من الحقوق المالية

(تختزن ثروة الزوجة للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها) يعني أنها

تكون مالاً احتياطيًّا للعائلة يخزن في الصندوق إلى وقت الحاجة إليه ولو بعد الموت!

فليخبِِرْنا هؤلاء الجناة على الشريعة الحق العادلة، وعلى أفضل النظم لقوام

العائلة، أي عقل وأي قانون مالي في العالم جعل المال الاحتياطي الذي يدخر

للحاجة العارضة في المستقبل مساويًا للمال المعد في الميزانية لجميع النفقات

الواجبة التي لا يمكن تأخير شيء منها؟ !

نقول هذا وهو برهان لا يمكن رده على بطلان قولهم - على تقدير صحة

زعمهم - أن مال الزوجة المكنوز احتياطي مدخر للعائلة. وهو لا يصح على إطلاقه

بالاطِّراد كما هو مشاهَد في هذا الزمان، وسيصير شاذًّا إذا تفاقم خطب هذه

الفوضى في حرية النسوان، التي يسرف فيها دعاة الخروج على الشريعة والفسوق

من هداية الأديان.

والحجة عليهم أظهر فيما ظنوا أن الحجة لهم فيه، وهو ما عبر عنه الدكتور

فخري بقوله: (فما بالك في أمومة أرملة أو أمومة مطلقة، أو أمومة غير شرعية)

وهو يعلم من فساد هذه الأمومات الآن ما لا يعلمه أكثر الناس ونقول قبل البحث

فيها: إن المطلقة الرجعية زوجة تجب لها النفقة، فإذا لم يراجعها الزوج قبل

انقضاء عدتها بانت منه وصارت كالأرملة، وكثيرًا ما تتزوج المرأة منهن وتنفق

جُل ما كانت تدخره في سبيل الزوج الجديد إن لم تنفقه كله، ومنهن من تقف

أملاكها عليه وعلى أولاده منها دون أولادها من مطلقها، وقد وقع في هذه الأيام أن

امرأة وقفت عقارها على زوجها وعلى أولاده من غيرها!

هذا ما يقع كثيرًا ممن عندهن بقية من الدين، وأما اللائي قضت حرية

الإباحة على عصمتهن الدينية فهن ينفقن ما ادخرن من الثروة في سبل اتخاذ

الأخدان، والتمتع بالفسوق والعصيان، ومن أغرب ما سمعته من أخبارهن في هذا

العهد أن الوطنيات منهن يفضلن الأجانب من الأخدان على الوطنيين وينفقن عليهم

الألوف الكثيرة من الجنيهات، وأن بعض الوطنيين سأل بعضهن عن سبب هذا

الاختيار والتفضيل قائلاً: ألسنا نحن أولى بكن من (الخواجات) ؟ ! فكان الجواب:

إنكم أنتم كثيرو الكلام دون الخواجات! وأخبرنا بعض المحامين أن أرملة من

هؤلاء الأرامل الغنيات ورثت من زوجها مالاً كثيرًا، ولم يعجبها قصر أبيها الغني

بعد أن أقامت فيه مدة قليلة فاستأجرت لنفسها دارًا واسعة زينتها بأحسن الأثاث

والرياش والماعون واتخذت فيها الخدم الكثيرين، وكان مما عابته من دار أبيها أن

الثلج يأتي إليها متأخرًا!

(للمقالات بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

انشقاق القمر - همّ يوسف بامرأة العزيز - التأويل لدفع الشبهات

جاءت الرسالة التالية من البصرة بعد طبع جزء ذي الحجة فنشرناها في هذا

الجزء، وإن كانت على خلاف شرطنا والشرط العرفي عند أرباب الصحف، وهو

أن لا ينشروا شيئًا لمن يكتم اسمه عنهم وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي الكريم المصلح الكبير والعالم الشهير السيد محمد رشيد رضا حفظه الله

وبارك له في سعيه وسدده في كل ما يأتي وما يذر، آمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد استفدت من الجزء الأخير في المنار الأغر ميلكم إلى عدم انشقاق القمر

معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معللين ذلك بما يأتي، ولرجائي أن أكون معكم من

المتعاونين على البر والتقوى سأبدي رأيي راجيًا العفو عما أتقدم به: إن أحاديث

الانشقاق أتت في عامة الأمهات لا سيما الصحيحين على ما فيها من حسن وصحيح

ومرسل ومسند وأثبته التاريخ العربي والعجمي، وأظهر من ذلك أن الآية في

الانشقاق قد كانت تُتلى بمحضر المسلم والكافر، فلم نسمع بمنكر مع أن الضد

بالمرصاد، ومضى على ذلك القرون الكثيرة ما بين ناقل لذلك ومُقر عليه.

واختلاف الأحاديث فيه مع ورودها على معنى واحد وهو الإثبات - لا يوجب

الرد، واتفاق آية (سبحان) مع آية الانشقاق سهل يسير، وهو أن آية سبحان دلت

على منع الاقتراح المعين وآية الانشقاق أتت بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين، هذا

ما دلت عليه الأحاديث المعتمدة. وأما مجيء آية الانشقاق باقتراح معين فلا يصح

كما بينتموه، وفرق بين حصول الآية باقتراح معين وحصولها بغير اقتراح أو

باقتراح لم يعين: القسم الأول يعقبه الهلاك؛ لأنه جاءهم عين ما طلبوا فلم تبق لهم

شبهة، وأما القسمان الأخيران فلهم شبهة تدرأ نزول العذاب بكون الآية لم تقنعهم.

وأما تفسيركم الآية بأن الانشقاق كناية عن ظهور الأمر واتضاحه، واستشهادكم

عليه من اللغة فلا ريب أن العرب تقول: انشق الصبح؛ بمعنى ظهر وبان، وأما

انشق القمر بمعنى: ظهر الحق وبان، فلا نسلم أن العرب تستعمل مثل ذلك ويكاد أن

يكون لغزًا لا يتفق مع بيان القرآن.

وقد ذكرني ذلك تفسيركم لهمّ يوسف بامرأة العزيز بالضرب، وكلا التفسيرين

بالنفس منهما شيء، فقوله تعالى:{.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)

دليل على أن المتقدم أمر لا يليق بمنصبه الشريف، والهم عارض لا مستقر ولا هو

بوسع الإنسان وإذا دفعه بعد رؤية البرهان فهو من الكمال ولا يمس منصب النبوة

بسوء.

ومما يناسب ذكره قولكم جوابًا لرسالة عالِم القصيم عبد الرحمن السعدي: (قد

يكون التأويل هو المنقذ الوحيد في الرد على..) إلخ وهذا لا يتفق مع جهادكم

الجهمية وأمثالهم، وليس في القرآن ولا السنة ما ظاهره يحتاج للتأويل على شرط أن

يؤخذ الحكم من مجموع السياق لا من مفرداته.

وأما قولكم: لا علاقة بين الانشقاق ودعوى النبوة حتى يكون علامة عليها، فله

علاقة لاصقة وهي أنه لما أخبر الله باقتراب الساعة التي هي خراب العالم أجمع

وكانت قريش تنكر ذلك أراهم الله آية محسوسة وهي شق القمر فِرقتين، فالقادر على

تخريب هذا الجرم الكبير - وإعادته كما كان - قادرٌ على إيجاد الساعة التي أخبر

بها الرسول صلى الله عليه وسلم والآية بعدها تثبته، وأما تصدير الجملة بالشرط

فهو يفيد أنهم سيكذبون بكل آية يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس التكذيب

مختصًّا بهذه المعجزة. وإن رغبتم الوقوف على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في

الانشقاق فهو في نمرة 55 من الجزء الأول من الجواب الصحيح.

وبالختام أرجو الله أن يكون معكم وفي عونكم كما أننا نسأله أن يجعلكم

مؤثرين للحق، وقد علمت من بعض الإخوان محبتهم لمبادلتكم الأفكار في شيء من

البحوث بَيد أنهم يخشون عدم رغبتكم، فهذا رأيي الضعيف، والمرجو أن عفوكم

يسع ما تقدمت به حضرتكم.

...

...

...

...

... صديق نجديّ

تعليق المنار

رغبتنا في انتقاد النجديين

لقد كان أخونا الكاتب في غنًى عن الاعتذار وطلب العفو في أول رسالته

وآخرها، فإنما يكون الاعتذار وطلب العفو عما كان ذنبًا وإن في العرف، ونحن

نُسَر بالانتقاد، ونعدّه إحسانًا إلينا وإلى قراء مجلتنا؛ لأنه من أسباب تمحيص

الحقائق، ولا سيما انتقاد طالب الحق المخلص فيه، بخلاف مريد النيل من المنتقَد

عليه، أو مريد إظهار علمه إعجابًا به. وقد سبق لنا أن نشرنا لبعض المنتقدين ما

فيه تصريح بتجهيلنا، بل ما يتضمن تكفيرنا لئلا يتوهموا أننا تركنا نشره كراهة

لإظهار علمهم أو لأجل إخفاء جهلنا، ومنه ما لامنا كثير من فضلاء القراء على

إضاعة وقتنا ووقتهم به.

وأزيدهم أنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار

ويكتبون إلينا بما يرونه فيه منتقَدًا لما نرجو أن نستفيد منهم ويستفيدوا منا.

أما الأول: فلأنهم لشدة اعتصامهم بالسنة ومقتهم للبدع والمعاصي وقلة وجودها

في بلادهم وقلة قراءتهم للكتب التي يكثر فيها تأويل بعض البدع وعدّها مشروعة -

يكون لهم دقة نظر في نزعات الشرك الخفية والمشتبهات بين الحلال والحرام

والتأويلات المنكرة وسائر ما يخالف طريق السلف مما قد يخفى علينا بعضه أو

يفوتنا إنكاره لكثرته وألفته بكثرة أهله وكثرة كتبهم.

وأما الثاني: فلأنه يُخشى أن يكون من لوازم التشدد في الدين وقوع بعضهم في

الغلو المنهي عنه بِعَدّ بعض المباحات المستحدثة من البدع المنكرة، أو ما ليس من

الشرك الجلي منه، أو تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. ويدخل في هذا بعض

العلوم والفنون والصناعات الحادثة التي تقوم الدلائل على ندبها أو وجوبها لما فيها

من المصالح العامة في قوة الأمة والدولة الحربية والمالية.

وقد كنت كتبت إلى إمام نجد منذ بضع عشرة سنة كتابًا ذكرت له فيه أنني

أرغب في اطِّلاع علماء نجد على المنار وطالبتهم بأن يكتبوا إليّ بما يرونه فيه

منتقَدًا بالأدلة الشرعية لأجل نشره وفتح باب المناظرة بيني وبينهم فيه، وأنني

سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء لأجل توزيعها على كبارهم هدية مني، وقد

ظللت أرسل هذه النسخ من طريق البحرين عدة سنين ولكن لم يصل إليَّ ما يدل

على وصولها، فلا أدري ما فعل الله بها، ولكن علمت أن عمال البريد البريطاني

الذي ينقل الرسائل والمطبوعات إلى بلاد العرب من طريق الهند كانوا يمنعون

بعض ما لا يحبون وصوله إلى أهله من المطبوعات، حتى إذا كانت الحرب العامة

اشتدت المراقبة عندهم وفي جميع مكاتب البريد الدولية، وكثر اختزال كل ما

يرونه ضارًّا بسياستهم ولو بالشبهة البعيدة.

ولما صار يسهل على النجديين الاطلاع على المنار في الحجاز لم يبلغني عن

أحد منهم انتقاد على شيء مما يُنشر فيه ولو في أحاديثهم مع بعض الناس إلا

ونشرته وبينت ما عندي فيه، إلا أن يكون شيئًا سخيفًا يُعَدُّ نشره إهانة لقائله ولا يفيد

أحدًا.

بعد هذا التمهيد المقصود لذاته في باب الانتقاد على المنار أقول:

مسألة انشقاق القمر

(1)

إن شُراح دواوين السنة - ولا سيما فتح الباري شرح صحيح البخاري

وبعض المفسرين - قد ذكروا أن بعض الناس أنكروا هذه القصة، وأن بعضهم

استشكلوها من عدة وجوه: منها أنها مما تتوفر الدواعي على نقل الأمم لها بالتواتر ولم

تنقل كذلك، فمن المستغرب أن يدعي المنتقد إثبات تواريخ الأمم لها وأن جميع الناس

تلقوها بالقبول.

(2)

ذكرنا أن الإشكال الأكبر عليها عندنا هو التعارض بين الحديث

والآيات الكثيرة في مسألة التحدي بالقرآن ولا حاجة إلى شرحه هنا، ولم أر أحدًا

من العلماء ذكره وأجاب عنه كما ذكروا غيره من الإشكالات وأجابوا عنها، وليس

التعارض بين آية الانشقاق وآية الإسراء وحدها، بل هناك آيات متعددة ذكرنا بعضها

في بحثنا، فمن كان يرى أن لا تعارض في المسألة كالمنتقِد فلا إشكال عنده فيها،

وها نحن أولاء قد ذكرنا دليله على عدم التعارض ونود أن يقبله جميع الناس،

ولهذا لا نرد على ما نرى فيه من ضعف؛ فإنه لا غرض لنا من البحث كله إلا أن

يكون القرآن في الأفق الأعلى من توجيه أي اعتراض عليه فيتضاءل دون وصوله

إليه، إلا أننا نقول: إن صح فرضه أن الآية وقعت بدون اقتراح، يزول هذا

الإشكال من أصله.

والفرق بيننا وبين مَن يكتبون لتأييد مذهب كلامي أو فقهي: أن هؤلاء على

اختلاف صفاتهم لا يقبلون ما يخالف مذاهبهم. وأما نحن فلا نلتزم مذهب إمام معين

فنجعله أصلاً ترد إليه نصوص الكتاب والسنة بل كلام الله ثم كلام رسوله عندنا

فوق كل مذهب وكل إمام فكل ما وافقهما فهو مقبول عندنا وكل ما خالفهما فهو

مردود، فإن تعارضا ولم نهتدِ إلى الجمع بين المتعارضين ببحثنا ولا بإرشاد غيرنا

لم يكن لنا مندوحة عن ترجيح كلام الله تعالى وهو القاعدة المتفق عليها عند سلفنا

الصالح وأئمة السنة. وأهون من ذلك أن يكون التعارض بين نص كلام الله أو كلام

رسوله وبين أقوال مروية عن بعض الصحابة في بيانهم لشيء منهما كحديث

انشقاق القمر، فإنه لم يروه أحد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

قوله: وأما تفسيركم لانشقاق القمر

إلخ - يدل على أنه تفسير انفردنا

به لم يسبقنا إليه أحد، وليس الأمر كذلك وإنما نقلناه عن غيرنا واخترناه على تقدير

ما ظهر لنا في الرواية. وعدم تسليمه إياه ليس حجة على الذين قالوا به وهم أعلم

منه ومنا بهذه اللغة وناهيك بالراغب - صاحب كتاب مفردات القرآن - الذي لا

نعرف أحدًا من علماء اللغة يحدد معاني الكلمات العربية مثله. ولا تتوقف صحته

على سبق نطق العرب به فالقرآن حجة على العرب وغيرهم، وكم له من تعبير

مبتكَر لم يُعلم نطق العرب به بل يعجزون عنه. وقد نقله شارح القاموس عن

الراغب وأقره ولم يقل: إن اللغة العربية تتبرأ منه ولا أنه لا يفهم ويصح أن يعد

من الألغاز. ولعله لو لم ينقل عن العرب قولهم: انشق الفجر والبرق - لعدَّه المنتقِد

مما لا يُفهم أيضًا.

(4)

ما ذكره من العلاقة بين دعوى النبوة وانشقاق القمر بصرف النظر

عن الحديث فيه وهو إثبات قدرة الله على البعث - غريب جدًّا ولا حاجة بنا إلى

المناقشة فيه ولا سيما دلالته وإنما نذكره بأنه يخرج بالحدث عن موضوعه وعن

كونه تفسيرًا للآية، وبأن العرب لم تكن تنكر قدرة الله تعالى وما كل ما يقدر تعالى

عليه يفعله.

(5)

ما كتبه لشيخ الإسلام في المسألة قد اطلعنا عليه من قبل وهو مبني

على المشهور المسلَّم من أن القمر قد انشق جرمه بالفعل، وأن المنكرين لذلك من

المخالفين فيه إنما ينكرونه؛ لأنه معارض عندهم بعقولهم وبقول علماء الهيئة

المتقدمين: إن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ويرد عليهم كغيره بقدرة الله على ذلك.

وقد بينا أن مسألة الأفلاك واستحالة عروض الخرق والالتئام لها نظرية

يونانية سخيفة أجمع علماء الفلك في هذا العصر على بطلانها، ولو فكر شيخ

الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة معارضة الآيات لحديث اقتراح كفار قريش على

النبي صلى الله عليه وسلم آية على صدقه وكون القمر قد انشق إجابة لهم إلى هذا

الاقتراح كما جرى عليه هو وغيره أخذًا بحديث أنس المرسل وكون المعارضة من

وجهين أحدهما الاكتفاء بالقرآن في إقامة الحجة على رسالته صلى الله عليه وسلم،

وثانيهما: كون إعطاء الآية باقتراح الكفار يقتضي وقوع العذاب كالذي وقع على

الأولين، وثَمّ وجه ثالث مصرَّح به في بعض الآيات وهو عدم الفائدة في إجابتهم

إليها - نعم، لو فكر وأجال قلمه السيال في هذا لرأينا من تحقيقه فيها ما لا يدع

مجالاً لقائل، كدأبه في أكثر ما يحققه من المسائل، ولكن شَغَله عن التفكر في هذا

توجيه همته كلها إلى الرد على أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين يردون كل ما يخالف

نظرياتهم وآراءهم. وهذا الفقير في اعترافه بل افتخاره بأنه استفاد من كتب شيخ

الإسلام قدس الله روحه ما كان أعظم مُثبِّت لقلبه ومقوٍّ لحجته في مذهب السلف

الصالح - يصرح بأنه على إعجابه بتحقيقه لا يقلده في شيء من أقواله تقليدًا، بل

يعده ممن يدخل في عموم قاعدة الإمام مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من

كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ومن

المعلوم أن له - كأمثاله من المجتهدين - عدة مسائل انفرد بها أو اختارها على ما

هو أقوى منها في مذهب الإمام أحمد لا يوافقه جمهور الحنابلة عليها كلها ومنهم

علماء نجد المتأخرون.

مسألة همّ يوسف وامرأة العزيز

استدل الأخ المنتقد على رد ما اخترناه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ

بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: 24) بأن قوله بعده: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) يدل على أن موضوع الهم لا يليق بمنصب يوسف الشريف (عليه

السلام) وهو غفلة منه عن كون همه بمثل ما همت به من الانتقام بالضرب لا يليق

بمنصبه الشريف أيضًا، وإذا كان الضرب الخفيف من المعاصي الصغائر في نفسه

فهو في مثل هذه الحال قد يفضي إلى القتل أو إلى ما يقرب منه كما وقع لموسى

عليه السلام؛ إذ وكز القبطي دفاعًا عن الإسرائيلي فقتله.

وليعلم الأخ المنتقد أنني ما اخترت هذا القول لأجل موافقة الآية لقول مَن قال

من المتكلمين بعصمة الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وبعدها من كل ذنب، فالقرآن

عندي فوق المتكلمين وغيرهم، بل فوق كل علم وكل شيء خلقه الله. وإني أقول

إن آدم قد عصى ربه حقيقة كما قال الله تعالى بغير تأويل، وإنما اخترت ذلك القول

في الهم؛ لأنه المتبادر من استعمال اللغة والموافق للمعهود من طباع البشر والمؤيد

بما بعده مما بينته في محله، وقد قال به بعض العلماء قبلي.

مسألة التأويل

ما قاله المنتقد في مسألة التأويل مجمل وهو يدل على أنه لم يَرَ في المنار ولا

في تفسيره شيئًا مما كتبته في هذا الموضوع مرارًا، وملخصه أن ما أَدين الله تعالى

به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف

من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله ونفي ما نفياه

من غير تعطيل ولا تأويل. وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما

أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس مَن لا يقتنع بحقيقة النص بدونه مع العلم

بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص

متأولاً لا يكفر. وأن إنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه

أمر عظيم و (لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم) .

وأما قوله: (إنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يحتاج إلى التأويل إلخ) إن

أراد به تأويل غلاة المبتدعة كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام

عن مدلولات اللغة - فهو حق؛ وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا هو بالذي يُعَد عذرًا للمتأول. وإن أراد به ما يشمل صرف الكلام عن ظاهر مدلوله اللغوي

الذي يسمى حقيقة لغوية إلى مجاز أو كناية أو تمثيل - فقد قضى على بلاغة

القرآن وسعة علومه قضاءً لا يقوم عليه دليل، بل يقوم الدليل على خلافه،

وقد صح في الأحاديث المرفوعة تأويل بعض الآيات؛ كما يرى في تفسير {يَوْمَ

يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (التوبة: 35) من هذا الجزء. ومجال القول في

تأويل الأحاديث أوسع؛ لأن أكثرها منقول بالمعنى ولم يتواتر باللفظ إلا قليل منها؛

كما صرحوا به. وماذا يقول المنتقد في حديث خروج النيل والفرات من أصل سدرة

المنتهى فوق السماء السابعة؟ ! ومنابع هذين النهرين وغيرهما في الأرض

معروفة بمساحتها ومجاريها، يستطيع أن يراها كل أحد ولا سيما النيل، أفلا

يحتاج هذا الحديث إلى تأويل؟ ولا يتسع هذا التعليق لأكثر من هذه الكلمة

الموجزة فيه وفي أصل التأويل.

{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

_________

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال مسلمي روسية

جاءنا الخطاب الآتي مطبوعًا فنشرناه مع تصحيح قليل وحذف بعض المكرر

منه.

إلى العالم الإسلامي..

عالم الإسلام! هل تعرف كيف يعيش إخوانك المسلمون في روسيا؟ هل

تتصور كيف يتألمون من الظلم هناك؟ هل تشعر كيف ينال الثلاثين مليون مسلم

حربٌ دينية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ لا، لا تعرف ذلك ولا ترى ولا تشعر

بذلك. أنت لا تسمع العويل من هذا الرق. فلو تصورت دماء المسلمين المراقة هناك

منذ 12 سنة والدموع السائلة، والزفرات الصاعدة، ما كنت ترضى بها دون أن تقوم

ضدها. ولو نظرت إلى الآلام التي يصاب بها المسلمون لأنهم مسلمون ما كنت

تحافظ على قلة اهتمامك حتى الآن.

عالم الإسلام! انظر إلى الأحوال هناك!

يعيش في روسيا في الأصقاع المختلفة مثل قريم والقوقاس والتوركستان

والولغا أورال 30 مليون مسلم لم يهاجروا إلى تلك البلاد من بلاد أخرى بل هم أهلها

الأصليون. وقد وقعت بلادهم الغنية الجميلة في أيدي الروس المتعصبين الذين لا

يعرفون احترام الأديان الأخرى وصاروا رعيّتهم. وبذلك اضطروا إلى مقاومة

الظلم الروسي منذ عصور، الذي (كان) يرمي إلى تنصيرهم وجعلهم روسًا بالقوة.

وليس من النادر أن ماتوا في الحرب من أجل دينهم المحترم المحبوب موتة

فظاعة وشهادة. وهم أبوا إجابة طلب ظالمهم أن يخونوا مدنيتهم التي جاوروها

واتصلوا بها عصورًا طويلة ويتخذوا مدنية غريبة. وقد تحملوا لثباتهم تضحيات

كبيرة جدًّا. وبالرغم من الظلم قد دافعوا عن عقيدتهم حتى الآن، وإذ لم يستطع

الروس تنصيرهم فقد استطاعوا محو أكثر معالم مدنيتهم.

والآن (صارت) الأمة الروسية متهافتة على شيوعية متعصبة كما كانت

متهافتة على نصرانية متعصبة. وهي تفكر في جعل روسيا الواسعة شيوعية وفي

إدخال الثلاثين مليون مسلم في الدين الجديد اللينيني، وتريد قطعهم عن دينهم ذي

الألف سنة وعن عاداتهم الإسلامية وهكذا تخرب الجماعات الإسلامية التي تعيش

هناك وتهدم المدنية الإسلامية.

عالم الإسلام!

إن الأصقاع الإسلامية سواء كانت حرة سياسية أو تحت حكم حكومات أوربية

لم تَرَ ظلمًا مثل ما في روسيا. اسمعوا ماذا يحدث هناك:

في مدن وقرى هؤلاء الثلاثين مليون مسلم أغلقوا المدارس التي يدرس فيها

الدين. واليوم لا يوجد ولا مدرسة تعلم الأمة القديمة الإسلامية الإسلام، والتي

تخرِّج لهذه الأمة الإمام، والمؤذن، والخطيب والواعظ. هذه المدارس صارت

معسكرات (كومونيستية) وليس هناك حرية لإعادة المدارس ثانية. كانت تُطبع

من قديم لسد حاجة الثلاثين مليون مسلم في مطابع إسلامية ملايين من نسخ القرآن

والكتب الإسلامية. وكان هناك 40-50 مطبعة وآلاف من المكاتب التي لم تنشر

هذه الكتب بين المسلمين في روسيا فقط بل كانت ترسلها إلى عالم الإسلام أجمع.

الآن لا يوجد شيء من هذا، فحكومة موسكو امتلكت المطابع كافة. فبدلاً من

القرآن والكتب الأخرى تطبع الآن المقالات الشيوعية.

والمكاتب الإسلامية ومحتوياتها أُخذت من طرف الحكومة البولشفية ونُهبت،

ومنذ تحكم البولشفية في بلادنا لم يطبع القرآن ولا كتاب ديني؛ لأن طبع وتوزيع

أي كتاب ديني ممنوع، واستجلاب الكتب الدينية من الخارج مستحيل وفاعله يعاقب.

عالم المحمديين!

أنت حر في احترام دينك أينما تعيش في وطنك أو في أوربا أو في إفريقيَّة لا

يمنعك عن ذلك أحد، ويمكن أن تقوم في كل وقت بصلواتك وصيامك. ويمكنك أن

تعيد أعيادك في بلدان أوربا الكبرى كبرلين ولندرة وباريس ورومية كما تحب،

وإن الأوربي والأميركي يحترم دينك وصلاتك، ولكن الحال في روسيا

الكومونيستية الحالية غير ذلك. هناك تعد الصلاة والدعاء والصيام والذهاب إلى

الجامع جريمة. والموظف يضيع وظيفته إذا صلى وصام. وإذا ما عقد زوجان

شابان زواجهما على يد إمام يُطردان من وظيفتهما، وإذا رؤي عامل في الجامع

وجب عليه ترك شغله. وفي أيام العيد الإسلامية تقام مظاهرات بالموسيقى والأبواق

أثناء صلاة العيد لجرح عواطف المسلمين، وهؤلاء المظاهرون يدورون صارخين

حول الجامع ليشاغبوا على المصلين في صلاتهم وسكوتهم، ويرمون المصلين

بالأقذار، ويقذفون الإسلام ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأقبح الكلام، ويغنون

أغاني قذرة على قديسي الإسلام، وفي عيد الأضحى يأتي هؤلاء المظاهرون

ببعض الخنازير ويدعوها تصيح أثناء الصلاة، ويذبحوها قرب الجامع وهم

يسمونها ضحية، وأولاد المسلمين الذين هم تلاميذ يضطرونهم لأكل طعام الضحية

من الخنزير، وكل هذه المسائل تحسب من ذنوب الحكومة الشيوعية، وبمساعدة

الحكومة يقوم عسكر وموظفون ودرك في مثال هذه الأعياد الإسلامية بهذه الفظائع

التي تثقل الضمير الإسلامي.

عالم الإسلام!

إن المؤمنين الشجعان يذهبون لنجاة أرواحهم كل سنة آلافًا مؤلفة إلى البلاد

المقدسة ويحجون إلى الكعبة المقدسة، ويمسون بوجوههم القبر المقدس للنبي عليه

الصلاة والسلام، ويطلبون رحمة القديسين [1] وهم يرجعون فرحين مؤمنين إلى

أوطانهم. وقد كان مسلمو الروسيا يزورون في السابق أيضًا البلاد المقدسة، وهناك

يقابلون المسلمين من أقطار أخرى، ويتزودون بحديثهم تجارب دينية، فكان يذهب

لا أقل من عشرة آلاف حاج إلى البلاد المقدسة، أما اليوم فلا يراهم ولا يسمعهم

هناك أحد ولم يُرَ منذ اثني عشر عامًا حاج واحد من روسيا؛ لأن السيادة الشيوعية

تمنع الحج [2] .

عالم الإسلام!

في كل مكان - حيث أنت موجود - يمكنك أن تسير على القوانين الإسلامية

وتتبعها. وأئمتك ومؤذنوك ومدرسوك وجميع وكلاء الدين الآخرين محترمون وقد

كان الأمر في بلادنا أيضًا كذلك. أما الآن فمنذ وقعت بلادنا تحت الحكم البولشفي

فإن أئمتنا وخطباءنا ووعاظنا ومؤذنينا ليسوا محترمين. وإنهم خارجون عن كافة

الحقوق الإنسانية حسب القوانين الكومونيستية، ولا يمكنهم أن يتقلدوا وظائف

دنيوية أم معنوية، ولا يمكنهم أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، ولا أن يشتركوا بالرأي

والمشورة عقليًّا. بل تمامًا بلا حقوق. وقد وضع عليهم بصفتهم من طبقة دينية

خاصة ضريبة. وهي أن يدفعوا 40-50 في المئة بل 100 في المئة أكثر مما

يدفع سائر الناس من الضرائب، وإذا لم يستطيعوا الدفع لفقرهم فإن الحكومة

البوليشفية تصادر دورهم وأملاكهم وترسلهم إلى سيبيريا.

أيها المسلمون:

كان عندنا قريب 25000 جامع وهذه كانت تُبنى منذ ألف سنة من الجماعات

الإسلامية وقد اشتريت لها من دراهم المسلمين سجاجيد وما شابهها وأسست خزائن

مخصوصة للمحافظة على هذه الجوامع، وهذا كله مالنا وإرثنا من آبائنا، ولكن بعد

أن وقعت بلادنا في أيدي الكومنيست أعلنوا أن هذه الجوامع وخزائنها هي أميرية

أي ملك الروس المسكاو. وقد نهبت السجاجيد والأشياء الثمينة التي في الجوامع

وصودرت السجادة التي وهبها الخليفة السلطان محمد رشاد سنة 1917 لجامع

بطرسبورغ (اليوم لينينغراد) ويطلبون للصلاة في الجامع ضريبة خاصة، وهذه

الضريبة عالية فوق الطاقة. وإن الجوامع التي لا تدفع جماعاتها ضرائب تغلق أو

تجعل أندية عامة أو صالات رقص ولعب أو مدارس غير دينية، أو إلى حانات

حمراء. وكثير من الجوامع التاريخية القيمة تخرب وتهدم.

وأما في وطننا (إيدل أورال)(ولغا أورال) - وهي مركز الإدارة العليا

للمسلمين في روسيا - فإن حرب الأديان في منتهى الشدة. وفي سنة 1929

تأسست في (إيدل أورال، قازان، أستراخان، أوفا، أورينبورغ) بمساعدة

الحكومة جمعيات لا دينية من العسكر والموظفين لهدم كافة الجوامع، وهؤلاء

يغلقون الجوامع بالقوة، وينهبون من المقابر الإسلامية الأحجار التاريخية والشبابيك

من قبور القديسين ويخربونها.

وقد أغلق في السنين الأخيرة في باشكيرستان - قسم من (إيدل أورال) -

عدد كبير من الجوامع، وأقيل كثير من الروحيين من وظائفهم، تأخذ هذا كله من

الجريدة الكومونيستية الرسمية (ينا أول) وأن عدد الذين استقالوا مضطرين 502

من الأئمة و363 مؤذنًا وأغلق 103 من الجوامع.

نحن ننظر إلى هذه المظالم في المسلمين في الروسيا ونعطي هذه التفاصيل

كمحاربين لاستقلال منطقة (إيدل أورال) ونرجو المساعدة منكم ومن باقي إخواننا

في العقيدة.

أفِقْ يا عالم الإسلام ولا تدع عقيدتك تدنس بأيدٍ وسخة، ولا تسمح بأن يداس

إخوانك بأرجل الظلم، فاستيقظ! اهـ.

...

...

...

...

(ختم الجمعية)

(المنار)

جاءتنا هذه الرسالة في البريد مطبوعة مختومة بختم المركز العام لجمعية

استقلال (إيدل أورال) فنشرناها انتصارًا لإخواننا المسلمين المظلومين في البلاد

الروسية الذين انتقلوا من ظلم القياصرة إلى ظلم الشيوعية الذي يفوقه في القسوة

والاستعباد أضعافًا مضاعفة، والعجب من غفلة هؤلاء الأشقياء كيف يطمعون في

نشر نفوذهم في الأقطار الإسلامية حتى العربية منها مع هذا الاضطهاد الذي

يسومون به مسلمي بلادهم سوء العذاب.

إن الشعوب الإسلامية قد ضاقت صدورها من عدوان الدول الرأسمالية

المستعمرة واستبدادهم ولكنهم لا يرجحون عليها دولة كافرة معطلة تعادي الأديان

وتكفر بالرحمن، وتحتقر وجدان الإنسان، ولو لم تقهر الدولة البولشفية الناس

وتكرههم على ترك دينهم لكثر أنصارها في كل مكان.

إن احتجاج الصحف وحده لا يرد هؤلاء البغاة عن بغيهم، وإننا نذكِّر إخواننا

المسلمين الذين يرون بعض دعاة البولشفية في بلادهم بأنه يجب عليهم أن يبينوا لهم

سوء تأثير اضطهادهم لأبناء دينهم في بلادهم، ونقترح على كل حكومة إسلامية

عندها سفير أو ما دون السفير من المعتمدين السياسيين أن تخاطبه في ذلك وتفعل ما

فعلت دول أوربة في الاحتجاج على اضطهاد النصارى، وأولى الحكومات

الإسلامية بهذا حكومتا اليمن والحجاز ونجد؛ لأنهما دينيتان يلقب رئيس كل منهما

بإمام المسلمين.

هذا، وإن في قطر آخر من الأقطار الإسلامية اضطهادًا لشعب إسلامي كبير

ومحاولة منظمة لرد أولادهم عن دينهم بتعميم التربية والتعليم الإجباريين، وهذا لا

يقل خطره عن اضطهاد دولة الروس البلشفية لمسلمي بلادها، بل ربما كان هذا

الخطر الهادئ المنظم أشد وعاقبته أسوأ، والواقع عليهم يرون أنهم لا يستطيعون

التظلم والشكوى؛ لأن كل من اعترض منهم يسام سوء العذاب، والحق أنهم يجب

عليهم ذلك وأن ما يقع عليهم من العقاب لا يكون أشد مما هم صائرون إليه في الدنيا

ثم في الآخرة، ولكن لابد لذلك من نظام، ليكون له قوة الرأي العام.

_________

(1)

المنار: القبر الشريف لا يمسه أحد من الزائرين بل قلما يراه أحد؛ لأنه في الحجرة النبوية الشريفة وإنما يقف الزائرون أمام الحجرة ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما ويدعون الله تعالى وحده ويطلبون رحمته، لا رحمة القديسين، ويعني بهم الكاتب

(الصالحين) والتعبير بالقديسين اصطلاح نصراني.

(2)

منذ خمس سنين حج بعض مسلمي روسية وحضروا المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة وما سمعنا أن أحدًا منهم حج بعد ذلك.

ص: 70

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة مهمة من الصين

في حال مَن فيها من المسلمين

إلى منشئ المنار وناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر مولانا رئيس أهل السنة

والجماعة محمد رشيد رضا:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فيا مولانا، إني رجل من معلمي العلوم الإسلامية في بلد (القواندن) ، يا

سيدي؛ إن دين الإسلام في الصين داخل في الضعف والخمود يومًا فيومًا كأنه على

شفا جرف هارٍ، لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. سببه: أن مسلمي الصين أكثرهم

قليلو الديانة وجاهلون للعلوم الإسلامية والقرآن والحديث وتاركون للصلاة

والفرائض، بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة الإيمان وهم مقلدون. وأكثرهم ما كان

لهم علم واسع ولا ديانة. يشتغلون بقراءة القرآن عن الغير عن تعليم العلوم

الإسلامية ونظر الكتب الدينية وتبليغ الشرع.

وإن الفقير (أنا) تحسر على غربة الدين في الصين، ووضع هو وإخوانه

مجلة الإسلامية الدينية العلمية المترجمة بالصينية. ويرتجي الآن أن يستعين على

هذا الخطاب الخطير من جنابكم، وأنه استمع أن مجلة المنار كأنها شمس، ولم يَرَ

وجهها الجميل، وترجى أن يشتري نصيبًا منها كل شهر وترجمه وشاعه (كذا

والمراد ترجمة هذا النصيب وإشاعته في الصين) ولكن لم يدرِ محلة مجلتكم

الشريفة. فالمرجو من كرمكم أن تخبروني محلة مجلتكم وكيفية الشراء وثمن

الجرائد المنارية كم هو لأرسل إلى جنابكم الثمن والسلام.

في أوائل شهر المحرم الحرام.

الداعي أحقر خادم الطلبة ومبلّغ الدين الإسلامي ومدير المجلة الإسلامية في

القواندن.

...

...

عثمان بن الحاج نور الحق الصيني الحنفي

الجواب

(المنار)

لبيك لبيك، وسلام عليك وعلى مَن لديك ورحمة الله وبركاته.

ومجلة المنار تُرسل إليك هدية مع هدايا أخرى، واعلم أن صاحب المنار

ليس رئيسًا لأهل السنة والجماعة بل خادمًا ضعيفًا مخلصًا، بل ليس لأهل السنة

والجماعة رئيس عام يعني بشؤون الإسلام، والذنب في ذلك عليهم فإنهم فوضى،

ولكن يرجى أن يتجدد لهم في هذا العصر شيء من النظام.

_________

ص: 75

الكاتب: إبراهيم عريقات

‌الدين قبل كل شيء

إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك الإسلامي الغيور على دينه فؤاد

الأول نصره الله.

ثم إلى دولة رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء ثم إلى مجلسي شيوخنا

الأجلاء ونوابنا المحترمين

نبث آلامًا أحاطت بنا حتى كدنا نموت أسفًا وحزنًا على ما حل بديننا الحنيف

في هذا القطر. ذلك القطر العربي الإسلامي العظيم وبه الأزهر الذي هو أكبر

جامعة إسلامية ومن مواد الدستور المصري أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ومع

هذا فقد راعنا أن معالم الدين الآن آخذة في الاضمحلال والفناء، والأخلاق انهارت

وتدهورت، والرذيلة سادت الفضيلة، وحشرات الإلحاد برزت إلى حيز الوجود

ترفع رأسها غير آبهة، وصحفنا اليومية تمحضت للسياسة إلا قليلاً جدًّا وتركت

معاول التضليل تهدم في صرح دين الدولة المصرية الرسمي حتى أفسدت أخلاق

الشبيبة. وبالجملة فالأمر جد خطير وأملنا وطيد في رجال حكومتنا الذين لا نشك

في إخلاصهم للوطن وحبهم لرفعته أن يأخذوا بناصر الدين ويضربوا على أيدي

الملحدين والمفسدين، وأن يعطوا لتلك المادة القائلة بأن دين الدولة الرسمي هو

الإسلام حقيقتها ومدلولها وإلا كانت اسمية فقط، وتتلخص فيما يلي:

(1)

أن يدخل التعليم الديني في المدارس الحكومية وغيرها دخولاً يكون

معها مادة أصلية أساسية لا إضافية حتى يخرج النشء عارفًا بدينه نافعًا لأمته.

(2)

أن يقرر بجميع المدارس الإلزامية قسم لحفظ القرآن الكريم جميعه.

(3)

منع البغاء الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.

(4)

تحريم الخمر الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.

(5)

عقاب تارك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبتعميمها في

أفراد الأمة المصرية يستتب الأمن، ويقل الأشرار وتتلاشى الجرائم وتستريح

الحكومة.

(6)

عقاب مَن يتجاهر بالفطر في نهار رمضان.

(7)

مما لا مراء فيه أن الدين الإسلامي ليس كغيره من الأديان بل هو

صالح لكل زمان ومكان؛ ولذا ختم الله به الدين وجعله عامًّا للخلق أجمعين، ولا

يعجز حكومتنا - الإسلامية رسمًا - أن تكون إسلامية فعلاً بالعمل بقواطع

الدين وتخصيص لجنة لذلك من هيئة كبار العلماء والمفكرين.

لا زلتم للدين الحنيف ناصرين، وللواء الفضيلة رافعين، آمين.

...

...

... أهالي برنبال مركز فُوَّة مديرية الغربية

...

...

...

عنهم: إبراهيم عريقات

_________

ص: 76

الكاتب: إميل درمنغام

‌رسالة من مؤلف كتاب

حياة محمد في باريس

الحمد لله وحده

إلى سيدي مدير مجلة (المنار) الغراء.

تحيةً وسلامًا وبعد:

فإني قرأت في مجلتكم مقالاً للسيد اليزيدي على كتابي (حياة محمد) ، أنا لا

أريد هنا مناقشة مطولة مع صاحب المقال فيكفي القارئ أن يراجع كتابي نفسه فيجد

فيه الأجوبة لاعتراضاته التي لم تأتِ بشيء جديد، ولكن يجب عليَّ أن أعلمكم أن

فكري قد حُرِّفَ تحريفًا كاملاً؛ فإن صاحب المقال لم يفهم شيئًا مما قلته.

الله شاهد على أن ليس لي المقاصد التي أعارنيها، وحقيقة قصدي في نشر

(حياة محمد) هو البحث الحق الذي هو من أسماء الله تعالى، وعاملت القرآن مثل

معاملتي التوراة والإنجيل، وأظهرت في كل حين ميلي للرسول صلى الله عليه وسلم

وعطفي إلى الإسلام دين الغزالي وابن (العربي) وابن الفارض وابن رشد

وابن سينا وابن خلدون رضي الله عنهم. ورجال أكابر الدين إنما فهموا مقصدي

وفكري لو أنهم قرأوا كتابي (؟) إن الشيخ الأكبر قال - ولله دره -:

إذا علم الله الكريم سريرتي

فلست أبالي من سواه إذا سخط

وليت علماء مسلمين قرأوا كتابي ودرسوه بمثل الإنصاف والميل اللذين كتبته

بهما، وقد علق عليه بعضهم منهم السيد بلا فريج في (الفتح) ومكاتب (فتى

العرب) اللذين إن لم يكونا في الكل من فكري علما صدق ضميري، وإني أطلب

من لطافتكم، أيها المدير أن تنشروا في مجلتكم هذه الكلمات لتقويم ما علق على

كتابي في مجلتكم.

وفي الختام اقبلوا تحياتي واحترامي والسلام.

...

...

...

...

إميل درمنغام

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌معاملة البنوك

استدراك على ترجمة تيمور

أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين للفقيد رحمه الله ومما ذكره بعض

المؤبِّنين: أنه كان يعامل بنك الكريدي ليونيه خلافًا لما كنا نسمعه من أنه كان لا يودع نقوده في المصارف المالية حتى لا يعينها على استغلاله بالربا، ولكن يا ليت

شعري هل كان يأخذ هو ربحًا على نقوده أم لا؟

المشهور أن كثيرًا من المسلمين يودعون الأموال الكثيرة في المصارف

الأوروبية، ولا يقبلون أخذ شيء من الربح عليها فينفعون بها الأجانب، ولا

ينتفعون منهم من حيث يأخذ آخرون الربح منهم ولا يعدونه من الربا المحرم،

وبعضهم لا يبالي أن يكون منه، واستحسن بعض الباحثين أخذه وإنفاقه في المصالح

الخيرية التي ترقي الأمة، فماذا كان يفعل فقيدنا وهو المتفقه في دينه، المعتصم به

في عمله؟

لعل نجلَيْ الفقيد أو بعض بطانته يخبرنا بالحقيقة.

_________

ص: 79

الكاتب: عبد الله بك الأنصاري

نفثة حزن لعالِم دُفن

للأستاذ عبد الله بك الأنصاري أستاذ العلوم العربية في المدرسة التوفيقية

(كان) :

يا دار أحمد تيمور أتيناك

فأين ربك غوث اللاجئ الشاكي

يا دار أحمد دار العلم آهلة

بالفاضلين وأهل المذهب الذاكي

يا مُسدي الفضل والإحسان في ترف المـ لوك عزًّا وفي أخلاق أملاك

دين بدون رياء في شعائره

وفي العلوم خبير جدٌّ درَّاك

ما كنت أحسب أن الموت يفجعنا

فيه سريعًا فيخلو منه مثواك

يا روضة العلم تلك الكتب ناطقة

بما تجمع في حجرات مغناك

لم يألُ جهدًا ولم يبخل بدرهمه

في وفرة العلم أو في رحمة الباكي

له فضائل ليس العد يحصرها

ودون أيسرها قد يعجز الحاكي

فحسبه من ثناء الناس ما اجتمعت

عليه ألسنهم في صدق إدراك

واحسرتاه على ذلك العظيم ومن

سمت به نفسه في غير تحراك

نادى الفضائل فانحازت لدعوته

وحاد عن كل كفار وأفاك

كانت مجالسه بالعلم زاهية

نقية لم يشبها أي إشراك

ونفسه نفس حر لا يمازجها

كبر الغني ولا إعجاب ملاك

عليه رحمة ربي في معارجه

إلى منازل أبرار ونساك

وأفرغ الخير والصبر الجميل على

نجليه في طول عمر طيب زاكي

_________

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تهنئة للمنار بالعام الجديد

سيدي الكريم وأستاذي العظيم حجة الإسلام السيد الإمام حفظه الله تعالى.

أهدي إليكم سلام المخلص لذاتكم، المعجب بفضلكم، الداعي لكم بالثبات في

طريقكم، والاستزادة من صالح أعمالكم، أما بعد:

فيسرني في هذا العام الهجري الجديد وقد هل هلاله أن أهنئكم وأهنئ نفسي

والمسلمين بما متَّعكم الله من صحة وعافية، ووفقكم إليه من جهاد في سبيله،

تنيرون السبيل للناس بمناركم، وتدفعون الأباطيل بسديد آرائكم وقوي حججكم.

ولقد أصبحت حياتكم مرتبطة بحياة الحق والمسلمين، ومناركم مصدرًا للنور الذي

به يهتدون، فإن يكن الناس لا يزالون في غيهم يعمهون، وعن الحق عمين؛ فلأن

عملكم لا يزال بعيدًا عن الغاية، وأنه لا بد لكم من متابعة السير سنوات وسنوات

حتى يتم لكم النصر إن شاء الله في النهاية، والله نصير العاملين وولي المؤمنين.

إن نفسي لتكاد تذوب حسرة من هذه الحال، فلقد انحطت الأخلاق، وقل

العمل بالدين في نفوس المسلمين بقدر ما تقدموا في العلوم العصرية، ونبغوا

في مظاهر المدنية الغربية، فكثرت الاعتداءات، واغتيلت الحقوق، وضاعت

الأمانات، وضعفت شوكة الحكومات، ولا غرو فلا يمكن حكم القلوب بغير سلطان

الدين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

ففي مجاهل هذه الحال ترفعون صوتكم ولا يلقى من يردد صداه، وبين هذه

الظلمات المتكاثفة تنشرون مناركم ولا نور في تجديد الدعوة على وجهها سواه،

فاثبتوا - وفقكم الله - فسيُظهر الله دينه ولو تأخر النصر، وسيهزم عدوه مهما

عظمت شوكته واستفحل الشر، واعلموا أن هناك نفوسًا تحنُّ إليكم، وقلوبًا تحفّ

بكم، ستجتمع حولكم لشد أزركم، متى جدَّ العمل، وقوي الأمل {وَمَا كَانَ اللَّهُ

لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143){وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (آل عمران: 126) .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

...

نجيب

(المنار)

نشكر لأخينا المهنئ حسن ظنه وإخلاصه فيما لا نستحق من إطرائه، وكان

في كل سنة يهنئنا فنشكره بكتاب خاص، وقد آن لنا إعلان شكره على صفحات

المنار.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

وصف كلامه تعالى بالقديم

وبحادث الآحاد قديم النوع وهل هما مبتدعان؟

وما حكم القائل بهما؟ ونذر زيارة قبر الوالد والصالح؟

(س13-15) من إمام الحاج محمد جابر في كمفوغ سوك هاتي (سمبس -

برنيو)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدي ومولاي العالم العلامة السيد محمد

رشيد رضا صاحب المنار الأغر، رزقه الله عمرًا مديدًا ونفع بعلومه المسلمين

جميعًا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أرفع إليكم هذه الأسئلة الآتية راجيًا التفضل بجوابها في صفحات مناركم

الغراء وهي:

(1)

قال في كتاب (تنبيه ذوي الألباب السليمة) من الكتب النجدية صفحة

20: إن لفظ (القديم) إذا وُصف به كلامه سبحانه وتعالى فهو من الألفاظ المبتدعة

حيث قال: فقوله * كلامه سبحانه قديم * هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة

المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها. اهـ. مع أن علماء الكلام نطقوا

بلفظ القديم فهذه كتبهم بين ظهرانينا مذكورة فيها أقوالهم بأنهم عرفوا ووصفوا كلامه

جل وعلا بالقديم، ويعتقدون قدمه. وقال الشيخ حسين والي في كتابه كلمة

التوحيد صفحة 57: (ويجل مقام أحمد بن حنبل وأضرابه أن يعتقدوا قدم القرآن

المقروء) ولا أسيء الظن بهم أنهم يعتقدون شيئًا ويمنعون أن يقولوا به في مثل هذه

القضية.

ومعلوم أن القرآن هو كلام الله. قال صاحب الهداية السنية النجدية صفحة

106: (ونعتقد أن القرآن هو كلام الله.. إلخ) وما رأيكم في قول صاحب كتاب

التنبيه المذكور؟ هل هو صحيح في عدِّه الواصفين بلفظ القديم من أهل البدع كما

يدل عليه مفهوم قوله الآتي، أم لا؟ فإن كان صحيحًا فهل يأثم الواصف به أم لا؟

(2)

وقال أيضًا: والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع

أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع.. إلخ، فهل قوله (حادث

الآحاد وقديم النوع) من الألفاظ المبتدعة أم لا؟ وهل وردت هاتان الكلمتان في

السنة أو في كلام سلف الأمة؟ فإن وردتا فيهما فذاك وإلا فهما من الألفاظ المبتدعة

أيضًا، وإني لم أقف في كتاب من كتب أهل السنة على نص يوصف فيه كلامه

تبارك وتعالى بهما أو ينقل فيه قول من أقوال سلف الأمة يقولون بهما، ولم أسمع

أحدًا من المشايخ يصف بهما كلامه تعالى. أليستا من الألفاظ التي توهم التشبيه؟

وإني أرجو أن تحرروا مع الجواب معناهما ومرادهما وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ فإني

لم أزل في وهم وإشكال وأرى أنكم من أقدر الناس في هذا العصر على حل

المشكلات.

(3)

إذا نذر المريض وقال: (إن شفى الله مرضي فعليَّ زيارة قبر فلان

أو قبر والدي مثلاً؛ لاعتقاده أن لصاحب القبر كرامة ومزيَّة ولا يعتقد أنه مؤثر في

ذلك ومن المعلوم أن زيارة القبور من القربات. فهل يجوز ذلك ويصح نذره، أم لا؟

وإذا قلتم بعدم الجواز فهل الناذر يكون مشركًا بسبب ذلك الاعتقاد أو آثمًا فقط، أم

لا؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب) .

جواب المنار مرتبًا على عدد الفتاوى فيه

(13)

وصف كلام الله بالقديم ومن قال إنه مبتدع:

قول من قال: إن وصف كلام الله تعالى بالقديم من الألفاظ المبتدعة - صحيح،

ومثله قول الآخر إن كلام الله تعالى حادث بالآحاد قديم النوع، كلاهما لم يرد في

كتاب الله تعالى ولا في أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في أقوال الصحابة

رضي الله عنهم. ولكن ليس كل من يستعمل لفظًا محدثًا يكون من أهل البدع

المخالفين لأهل السنة والجماعة، فجميع أئمة الأمصار من مدوني علوم الشرع في

الأصول والفروع قد استعملوا ألفاظًا اصطلاحية لم تُستعمل في القرآن ولا في أقوال

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين تصدوا من أهل السنة للرد على

المبتدعة لم يسلموا من استعمال بعض الألفاظ الاصطلاحية المبتدعة، ومنها قولهم:

إن كلامه تعالى قديم بقدم ذاته، وهذا من أسباب وقوع الخلاف بين المسلمين في

مسألة كلام الله تعالى وكذا غيرها من صفاته، ولم يسلم من ذلك أئمة الحديث والفقه

منهم، وقد اشتهر ما وقع من الخلاف في ذلك بين البخاري والذهلي من أئمتهم.

بل أتباع إمام الأئمة أحمد بن حنبل المنسوبين إلى مذهبه في العقائد والفروع قد وقع

بينهم الخلاف في هذه المسألة. فلا يصح أن يقال في كل من استعمل لفظًا محدثًا

في ذلك ولا كل من خالف أحمد أو جمهور السلف في مسألة من دقائق هذه المسائل

- إنه من المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرح كتاب التوحيد من البخاري وبعض أقوال

أهل السنة من المحدثين واتباع المذاهب الأربعة وأقوال المبتدعة في مسألة القرآن

في مواضع وقال بعدها كلمة كررها بعد ذكر الخلاف بينهم وهي: والمحفوظ عن

جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن

كلام الله وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ. وهذا الذي ينبغي

لكل مسلم إلا أن مَن كان في قلبه اضطراب من هذا الخلاف ولم يطمئن بهذا التسليم،

فله أن يراجع كلام المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول وينظر فيه باستقلال

فكر وإخلاص قلب فإنه حينئذ يصل إلى ما يطمئن به قلبه إن شاء الله تعالى.

وكنت أخرت الجواب عن هذه الأسئلة راجيًا أن أجد وقتًا واسعًا أكتب فيه

خلاصة هذا البحث المضطرب الأمواج، ولما أجد الوقت الذي يتسع له، ولكنني

سأشرع إن شاء الله تعالى قريبًا في طبع عدة فتاوى في ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين

ابن تيمية، وأشهد بالله إنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما

أحاط به من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة

والمبتدعة في هذه المسألة وأمثالها، والوقوف على أدلتهم وتمحيصها وتحرير الحق

الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه، فلينتظر ذلك السائل وغيره ممن

يهمهم تحقيق هذه المباحث وهي ستطبع في كتاب مستقل وربما ننشر بعضها في

المنار.

وأما وصف كلام الله تعالى بالقديم فهو صحيح في نفسه وأثبته علماء السنة

وفي المراد منه عند السلفيين وعند غيرهم بحث مفصل في مباحث شيخ الإسلام.

***

(14)

مَن قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قديم النوع

إن قول من قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قول مبتدع مبهَم موهم، وله

وجه يظهر أنه هو مراده منه، وهو ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {مَا

يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) وقد جعل البخاري هذه الآية

ترجمة لأحد أبواب كتاب التوحيد من صحيحه مع آية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ

أَمْراً} (الطلاق: 1) وقال عقبها: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) يعني أن كونه محدثًا لا

يقتضي كونه مخلوقًا، فهو كقول السلف من أهل الحديث وغيرهم: له يد لا كأيدينا

واستواء لا كاستوائنا، وإن كلامه الموحى إلى رسله بصوت لا كصوتنا. ومن

القائلين بهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهو يقول كغيره من أئمة السلف: إن

القرآن المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وهم

يصرحون بأن القارئ مخلوق وقراءته وكتابته مخلوقتان، وإنما يتقون في هذا المقام

ما يتضمن الإيهام. فما قاله الشيخ حسين والي وغيره من إجلال الإمام أن يقول كذا

مبني على الاقتناع بنظرية المتكلمين في المسألة وبكون الإمام أحمد كان من أئمة

الهدى والسنة، ومقتضاه عنده أنه لا يخالفها. وليس مبنيًّا على النقل عنه. وكان

شيخنا الأستاذ الإمام ذكر مثل هذا في رسالة التوحيد، وعند قراءته لهذا البحث منها

في الأزهر صرح بأنه رجع عنه وبأنه سيحذف هذه الجملة في الطبعة الثانية

للرسالة وكتب ذلك في حاشية نسخة الدرس، ولذلك حذفناها من كل طبعاتنا لها.

وقد استدلت المعتزلة بالآية على خلق القرآن، والتحقيق أن المراد منها محدث

إتيانه ونزوله. قال إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري وأقران أحمد وقد سأله

عن الآية حرب الكرماني ما نصه: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. اهـ

وراجع سائر الأقوال في الآية وفي المسألة من فتح الباري.

***

(15)

نذر زيارة قبر الوالد والصالح:

لا ريب في أن زيارة القبور مستحبة بالنية التي أرشد إليها الحديث الوارد في

الإذن بها بعد النهي وهي تذكر الآخرة، وإنما هي مستحبة بهذه النية وإلا فإن

الأصل في الإذن بالشيء بعد النهي عنه الإباحة، وما كان من نية صالحة أخرى

في الزيارة تزيد هذا الاستحباب تأكيدًا كزيارة قبر أحد الوالدين أو كليهما، فإنها تعد

من بقايا برهما وتذكُّرهما، الذي يترتب عليه ما أمرنا الله به من الدعاء لهما،

وكذلك زيارة قبر الرجل الصالح إذا كان لذكرى صلاحه ورجاء في قوة الاقتداء به،

لا لطلب نفع أو كشف ضر منه، ولم يكن فيها شيء من البدع ولا من إقرارها.

ويصح نذر مثل هذه الزيارة المشروعة. ولا وجه للقول بعدم جوازها فضلاً

عن القول بإثم فاعله أو رميه بالشرك والعياذ بالله تعالى. فإن الشرك لا يثبت إلا

بدليل قطعي لا مجال فيه للتأويل، ولكن بعض الغلاة في مذاهبهم يرتكبون من

مخالفة الشرع في الطعن على مخالفيهم ما هو أكبر إثمًا مما ينكرونه عليهم إن كان

منكرًا. أعاذنا الله من ذلك.

***

الجمع بين الصلاتين في الحضر

واشتراط الطهارة في الصلاة وصلاة مكشوف الرأس

(س16-18) من صاحب الإمضاء في (ببا - من الوجه القبلي)

حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والأستاذ المحقق السيد محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبعد:

فقد سمعت منذ سنوات عديدة ممن أثق به (توفي رحمه الله في أحاديثه

الخاصة معي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في صلاته بين الظهر والعصر

وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بلا عذر، وأنه لا حرج على المصلي إذا كان

بثوبه أو بدنه شيء من النجاسات وأنه لا كراهة في الصلاة ورأس الإنسان عارٍ بل

ربما كان ذلك أفضل؛ لأن هذا المظهر أقرب إلى التذلل والخضوع والعبودية.

ولأمر خاص بي أريد التثبت من ذلك ولثقتي بفضيلتكم بعثت بهذا إليكم،

فأرجو إفتائي على ما تقدم والله تعالى يتولى مثوبتكم بفضله.

وتفضلوا بقبول عظيم الاحترام.

...

...

...

...

... المخلص

...

...

...

...

سيد أحمد عابدين

جواب المنار

(16)

أما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في المدينة

المنورة، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه في سنن الشافعي وصحيح

مسلم وغيرهما من كتب السنن، وقد تأول ذلك فقهاء المذاهب المعروفة بتكلُّف،

وظاهر قول ابن عباس فيه: (لئلا يحرج أمته) يدل على أنه رخصة، وبهذا

أخذ بعض فقهاء الحديث وهو ما أعتقده، ولا يخفى أن الرخصة تؤتى عند الحاجة

لا دائمًا، ولولا أن سبق لنا بيان هذه المسألة ونص الحديث فيها من قبل لبسطت

الكلام فيها وذكرت لفظ الحديث وتأويلات مَن تأوَّله.

(17)

وأما قول ذلك الثقة عندكم بأنه لا حرج على المصلي إذا كان في ثوبه

وبدنه شيء من النجاسات - فهو مخالف لقول أكثر علماء الأمة بأن طهارة الثوب

والبدن شرط في صحة الصلاة، وعن مالك أنها واجبة وليست بشرط لصحة

الصلاة. فالمسألة اجتهادية والاحتياط تحري الطهارة في الصلاة؛ لأنها إذا كانت

واجبة في غيرها فهي فيها أوجب، نعم؛ إن الوجوب لا يقتضي الشرطية، وقد أطال

الشوكاني في الرد على من قال بها، ولأن تكون صلاتك صحيحة بالإجماع خير من أن تكون مختلفًا فيها، ولك الأخذ بالقول الآخر عند تعسر الطهارة وفي ترك

القضاء إذا علمت بعد الصلاة أنه كان في ثوبك أو بدنك نجاسة.

(18)

وأما قول ذلك الثقة: إنه لا كراهة في الصلاة مع كشف الرأس - فهذا

قد يظهر فيمن يصلي في بيته منفردًا إذا لم يلتزمه متعمدًا. وأما التزامه أو فعله

مع الجماعة المستوري الرؤوس أو في المسجد بحضرة من يستنكرونه ويكون

مدعاة للخوض في ذم فاعله - فالقول فيه بالكراهة واضح. أما الأول فلأنه التزام لا

دليل في الشرع عليه بل هو مخالف لما جرى عليه العمل الغالب من صدر

الإسلام، وأما الثاني فلمخالفته للجماعة وهو منهي عنه، وأما الثالث فلما ذكرناه في

صفته من كونه سببًا لوقوع الناس في الإثم ولأنه من الشهرة المذمومة.

وأما قوله إن ذلك ربما كان أفضل وتعليله بما علله به فهو قول بالرأي

المحض في مسألة تعبدية، ومعارَض بأنه تشبه بالنصارى وغيرهم ممن يلتزمون

كشف رءوسهم في الصلاة وقد نهينا عن التشبه بهم حتى في العادات. ومعارض

أيضًا بأن العرف عندنا في هيئة الكمال التي نقابل بها الملوك والأمراء وكبار

العلماء والصلحاء والرؤساء أن يكون على رءوسنا ما جرت به عادتنا من عمامة أو

كمة أو طربوش أو غيرها، وإنما يُتساهل في ترك ذلك بين الأقران والأصدقاء،

والعرف عندهم خلاف ذلك.

***

النسخ والأحاديث المشكلة

وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوسل

(س19-23) لصاحب الإمضاء في صنبو (من الوجه القبلي)

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة السيد الفاضل، والأستاذ الكامل، من جعله الله للشريعة موئلاً وللدين

ملجأً، المهدي الرشيد، السيد محمد رشيد.

سلامًا وتحية واحترامًا، وبعد:

فإني أرجوك للإجابة عن هذه الأسئلة التي طالما ترددت في خاطري، فتفضل

بذلك ولك مني الشكر ومن الله جل وعلا الأجر:

(1)

في القرآن الكريم ناسخ ومنسوخ ولكن العلماء فيهما مختلفون، فما القول

الفصل الذي يرتاح إليه المسلمون في ذلك؟

(2)

في كتب الحديث مئات الأحاديث الحاضّة على فضائل الأعمال ولكنها

رتبت على فعلها ثوابًا لا يتناسب معها، فهل يصح العمل بها؟

(3)

ما هو الحد الذي إذا بلغه المؤمن سقطت عنه تبعة الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر ولا سيما في هذا الزمن الذي عمت شروره، وطمت من الفساد

بحوره؟

(4)

كيف يستطاع جمع الزكاة على الطريقة الشرعية لتصرف في

مصارفها في هذا العصر العصيب؟

(5)

ما الحق في مسألة التوسل التي لا تزال تشغل قلوب جمهور المسلمين؟

وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.

...

...

...

مصطفى أحمد الرفاعي

...

...

... الأستاذ بمدرسة ميخائيل فلتس بصنبو

أجوبة المنار

(19)

الناسخ والمنسوخ:

قد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ..} (البقرة: 106) من سورة البقرة وهي الآية 106 من سورة البقرة فراجعوه في

ص414 من جزء التفسير الأول، وذهب السيوطي في الإتقان إلى أن الآيات

المنسوخة عشرون آية. وقال الشوكاني بعده بل هي بضع آيات. وأنكر النسخ أبو

مسلم الأصفهاني في تفسيره ووضح رأيه الطبيب البحاثة محمد توفيق صدقي

ونشرنا بحثه في المجلد الثامن من المنار وطبع في ضمن كتاب له. ولا يتسع وقتنا

لإعادة الكلام في هذا الموضوع وليس باب الفتاوى بمحل له. وكثيرًا ما يسألنا

السائلون عن تحقيق مسائل لا يمكن تحقيقها إلا في سفر كبير، وجملة القول أن

النسخ بالمعنى المعروف عند السلف ثابت ونحن نحقق ما قيل إنه منه في كل آية

عند تفسيرنا لها.

***

(20)

العمل بأحاديث فضائل الأعمال وشرطه:

الأعمال الدينية مبنية على قاعدتين (إحداهما) أنه لا يُعبد إلا الله (والثانية)

أن يعبد بما شرعه. والمشروع قسمان: قسم مطلق وقسم مقيد بأقوال مخصوصة

وأفعال مخصوصة وصفات مخصوصة وأوقات مخصوصة وأعداد معينة، فما ورد

في الشرع مقيدًا بشيء من هذه القيود وجب التزام قيوده بلا زيادة ولا نقصان، ومنه

شعائر الإسلام كلها كالأذان والإقامة والصلاة والجماعة والجمعة ومناسك

الحج

إلخ.

والمطلق يجري على إطلاقه في دائرة النصوص العامة كصلاة النفل غير

الراتبة وذات السبب، فإن هيئتها كسائر الصلوات ولكن لا يجوز لأحد أن يقيدها

بزمان ولا مكان ولا عدد ولا صفة بحيث تلتزم هذه القيود فيها كقيود الشرع؛

ولذلك قال الفقهاء إن صلاة الرغائب وصلاة ليلة نصف شعبان اللتين قيدهما بعض

العباد بالعدد والزمان وغيرهما - أنهما بدعتان قبيحتان مذموتان. وذلك أنه لا يصح ما

ورد فيهما مع كونهما بصفة مقيدة بقيود لا تثبت إلا بنص الشارع، وقد ذُكر من

ثوابهما نحو مما تستشكلونه في السؤال.

وإن من علامات وضع الحديث أن يذكر فيه ثواب كبير جدًّا على عمل صغير

جدًّا في نفسه وفي أدائه وفي قاعدته، أو عقاب عظيم جدًّا على عمل لا ضرر فيه

في الدين ولا في النفس ولا في العقل ولا في العرض ولا في المال.

هذا وإنه لا يجوز لأحد أن يعتمد على كل ما يراه من الأحاديث في الكتب ولا

على كل ما يسمعه من الخطباء من غير تخريج له عن حُفاظ السنة بما يبين مرتبته

من الصحة وعدمها. وإذا تحرى الإنسان الأحاديث الصحيحة يرى أنه قلما يوجد

فيها ما ذكره السائل من الإشكال.

وأما الأحاديث الضعيفة فقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز

العمل بها مطلقًا، وقال الجمهور: يجوز العمل بها في فضائل الأعمال كالذكر وصلاة

النفل المعتادة وصيام التطوع، واشترطوا لذلك شروطًا بيناها من قبل ملخصها ألا

يكون الحديث شديد الضعف، وألا يعتقد العامل بالحديث منها صحته لئلا ينسب إلى

النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وأن يكون معناه مندرجًا تحت أصل عام في

الشريعة.

***

(21)

الحد الذي تسقط به فرضية الأمر والنهي:

قد اختلف العلماء في هذه المسألة ما بين مشدد ومخفف، وينبغي لكل أحد أن

يحاسب نفسه في هذا وأمثاله، وإذا كانت المنكرات في زماننا أكثر منها في أزمنة

أولئك العلماء كالغزالي والشاطبي وابن تيمية - فإن في زماننا من حرية القول في

مثل هذه البلاد ما لم يكن في أزمنتهم. وإننا نرى سفهاء الجرائد يطعنون أشد

الطعن وأقذعه في الأمراء والوزراء والعلماء ولا يصيبهم أذى، فأجدر بمن يأمر

بالمعروف وينهى عن المنكر بالنزاهة والأدب وحسن النية ألا يصيبه أذى.

ولا خلاف بين العلماء في سقوط الفريضة عمن يخاف على نفسه أذًى كبيرًا،

ورخص بعضهم في الترك لمن يعتقد أن أمره ونهيه لا يفيد، ولكن استفتِ قلبك وما

أنا ممن يستطيع أن يضع لك حدًّا، ولا ينبغي أن تنسى أن هذه الفريضة هي سياج

الدين فلولا ترْك القيام بها لما فشت المنكرات إلى هذا الحد.

***

(22)

جمع أموال الزكاة وصرفها في مصارفها:

إن هذا العمل غير مستطاع في زماننا في بلادنا، وإنما الشأن فيه للحكومة

الإسلامية التي تقيم الشرع، والمسلمون في جزيرة العرب يؤدون زكاة المواشي

والزروع إلى أئمتهم وحكامهم، وزكاة النقدين إلى الفقراء والمساكين، وينبغي في

مثل بلادنا أن تؤلف جمعية إسلامية من رجال يوثق بهم تقنع أهل الدين بأداء الزكاة

إلى رجالها بعد أن تبين في نظامها كيف تنفق ما تجمعه في مصارفه الشرعية.

***

(23)

التوسل الشاغل للمسلمين:

التوسل المشروع ليس فيه ما يشغل قلب أحد فهو التقرب إلى الله تعالى بما

شرعه من علم وعمل على القاعدتين اللتين في الفتوى آنفًا (ص127) وأما

التقرب إليه تعالى بأشخاص الصالحين من الأنبياء فمن دونهم الذي تعنونه بالتوسل -

فهو غير مشروع في الإسلام، بل هو أصل الوثنية. فإن الوثنيين هم الذين يعتمدون

في نجاتهم من عذاب الآخرة ومن مصائب الدنيا وفي نيل الخير والسعادة في

الدارين على أشخاص رجال الدين فيهم، وأما أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام

فأمر الثواب والعقاب عندهم منوط بالعقائد والأعمال التي تتزكى بها أنفسهم وتصلح،

أو تتدسى وتفسد، وآيات القرآن صريحة في ذلك، وأمر منافع الدنيا ومضارها

منوط بالأسباب المشروعة التي يعرفها الناس بالعلم والتجربة كطرق الكسب

والتداوي في المرض مثلاً. وقد سمى الناس منذ القرون الوسطى ما فشا فيهم باتباع

سنن من قبلهم في الاعتماد من أشخاص الأنبياء والصالحين في جلب النفع ودفع

الضر توسلاً، وبنوا عليه بدعًا كثيرة تنافي التوحيد المجرد والإخلاص في العبادة،

كدعاء الموتى والنذر لهم والاستغاثة بهم مع العلم بأن الدعاء هو العبادة أو مخ

العبادة كما ورد في الحديث وفي مثل قوله تعالى {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وليس لما يعملون شبهة من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من

عمل السلف الصالح. والخرافيون من سدنة قبور الصالحين وغيرهم يأتون على

ذلك بشبهات ضعيفة الرواية أو الدلالة أو باطلة أمثلها حديث الأعمى الذي طلب من

النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد له بصره فأمره بأن يدعو بدعاء فيه

لفظ التوسل والاستشفاع به فدعا ودعا له صلى الله عليه وسلم. فالتوسل هنا إنما كان

بالدعاء منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء مشروع وطلبه مشروع فهو

غير خارج عن قاعدتي عبادة الله وحده بما شرعه. فلا يدل على التوسل بالشخص

والذات من غير عمل، ولا على طلب الدعاء من الأموات، فضلاً عن طلب قضاء

الحاجات فيما لا يطلب إلا من الله عز وجل وهو ما وراء الأسباب.

وقد شرحنا هذا في مواضع كثيرة من المنار والتفسير فلهذا نختصره هنا،

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقل في هذه المسألة طبع المرة بعد المرة باسم

(التوسل والوسيلة) فإن شئتم الإحاطة بها من كل وجه فعليكم بمطالعته وهو يطلب

من مكتبة المنار بمصر.

_________

ص: 120

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نقض أساس مذهب داروين

هذا المذهب قائم على أساس من النظريات القابلة في نفسها للثبوت وللنقض،

ولم تصل في يوم من الأيام إلى درجة الحقائق القطعية عند الآخذين بها؛ تفضيلاً

لها على كل ما كتب في موضوعها، إلا بعض المقلدين من ملاحدتنا؛ الذين يجعلون

أضعف ما فيها من الاحتمالات في درجة الحسيات أو الضروريات، ويدافعون عنها

في جملتها وتفصيلها.

والحق فيها أنه إذا كان فيها بعض التعليلات المعقولة المقبولة بادي الرأي

فإن فيها تعليلات أخرى لم تتجاوز حيز الوهم، وإذا صح أن نظام الكون قائم بسنن

حكيمة مطَّردة؛ سواء عرفت كلها أو لم تعرف كما أثبته الكتاب الكريم فلن يصح أن

تكون هذه السنن الحكيمة من بنات الضرورة ولا من بنات المصادفة، بل المعقول أن

تكون من تقدير العزيز العليم كما قال الكتاب الحكيم، وإذا صح أن تكون هذه

السنن لا تبديل لها في الطبيعة ولا تحويل كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فلن يصح أن يكون الخالق

المقدر لها والمدبر لأمرها مقيَّدًا بها، بحيث لا يستطيع إبداع شيء غيرها، فإن

هذا النفي لا يقدم على القول به عاقل.

وقد حدث في الوجود من الآيات البينات، والمعجزات الخارقة لسنن العادات ما

تواتر خبره وصار من القطعيات، فالتكذيب به أو التأويل البعيد عن قياس المنطق له

ليوافق تلك النظريات المادية - ليس بأولى في نظر العقل السليم من عدِّه منتظمًا في

سلك سنن أخرى مما وراء المادة. ولا يزال العقلاء والحكماء يرون من آيات الله في

أنفسهم ما هو إبداع محض لا يتفق مع سنن المادة في شيء، وآخرهم العلامة الشهير

آينيشتين الألماني قد ناط بهذا الإبداع كل ما امتاز به من تحقيق علمي وفلسفي.

الكلام في فساد مذهب داروين يوجَّه إلى أساسه لا إلى فروعه وجزئياته

كطبقات الأرض وتشابه الأنواع وتعليل الأعضاء الأثرية، وأساسه الفاسد هو أن ما

عُلم من السنن في نظام الكون هو دليل على أن ما لم يُعلم منها مثله في كونه لابد

أن يكون حصوله بالتطور التدريجي. ومقتضاه أنه ما وجد ولن يوجد كائن مبدع

مبتدأ، ولا آية خارقة للعادة، وغايته أنه ليس للكون رب قادر مريد يفعل ما يشاء.

والدلائل الوجودية والأخبار المتواترة القطعية تنقض هذه القاعدة وتبطل اطِّرادها.

كان هذا المذهب هدفًا لسهام النقد في كل عصر، وقد فوق له في هذا العهد

سهم جديد أقصده وكاد أن يقضي عليه، وهو ما نترجم لك خبره في المقال التالي.

***

احتضار مذهب علمي

نشر العلامة ليون دوديه Daudet Leon صاحب صحيفة الاكسيون

فرنسيز Francaise L'action بعدد صحيفته المؤرخ 11 يونيو سنة 1930

ما يأتي تحت هذا العنوان:

من المفيد جدًّا أن يُعمل على إسقاط أحد تلك المذاهب (المادية) التي انتشرت

في القرن الماضي، تلك العقائد التي حملتني على تسميتها (بالسخافة) .

لما أذعت سنة 1922 مؤلَّفي المعنون بهذا الاسم (السخافة) قامت ضجة

شعواء عند الجامدين على الاعتقاد بالتطور والتحول الذاتي، وتكوين اللغات،

والنوبات العصبية (الهستريا) والجمهورية (الديمقراطية) وعلى كثير من

ضروب العبث بالقول في علوم الحياة والسياسة. ولا غرو فليس من الهين أن

تنتزع من مخيِّلتك تلك الخزعبلات التي صحبتك ثلاثين أو أربعين سنة. أما

احتجاجات تلك الضجة التي كنت عولت على عدم إعارتها أي اهتمام فلم تؤثر في

نفسي؛ لأني أعلم أن الزمن سينقضي ويظهر أن الحق بجانبي كظهور استعداد

الألمان للحرب الأوربية العظمى.

وقد كنت بناءً على ذلك كتبت منذ ثماني سنوات في الكتاب الذي سميته

(سخائف القرن التاسع عشر) ما يلي:

إن المبدأ الأساسي لمذهب التطور والتحول الذاتي هو أن الطبيعة لا طفرة

فيها ولا خلل، فلا محل فيها إذًا للمعجزات. فإن المعجزة هي الظاهرة الفجائية

غير المنتظرة الخارجة عن القوانين المعروفة.

هذا هو الشرط الأساسي في تخيلات (بالتبيوس هيكل) القصصي في روايته

التي تبتدئ من تكوين الهلام البحري [1] وتنتهي بتكوين الإنسان بتنويع تدريجي

بطيء يحدث داخل الخلايا والأنسجة تحت تأثير مضاعَف لنوع من القوة الرافعة

الداخلة (لم يبرهنوا عليها) وتأثير عوامل خارجة عدُّوها حسب أهوائهم.

ويلاحظ دائمًا أن في الحياة خواص قابلة للتغير وهي نواة التحول الذاتي

وأخرى لا تقبل التغير وهي الثابتة، وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا تحت تأثير أنواع

كثيرة من القوى الكامنة التي تارة تعمل فينا في ظروف خاصة، وطورًا لا تعمل

في ظروف أخرى، ونحن نجهل السبب في كلتا الحالتين.

وأما هذه الذبذبة بين الأصل المولِّد (الخلية) والأنواع المتولدة وكذا الانتقال

من بساطة التكوين إلى أوج النهى فسِرّ يرجع إلى نظام أرقى.

ثم إن سلسلة الأجناس تتجدد حلقاتها بانعدام بعضها كلما زاد الجنس نموًّا،

وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية تعين علينا القول بأن عالم الأحياء سائر في طريق

التقدم المستمر، وأن بقاء الأجناس الدنيا إنما هو للدلالة على حصول هذه التقلبات

المتعاقبة المستمرة مع انعدام بعض الأجناس الوسيطة المؤقتة التي هي في الغالب

أعظمها أهمية.

ولما كانت هذه السلسلة ينقصها الحلقة التي تصل القرد بالإنسان بحثوا مدة

ستين عامًا للعثور على الجنس الوسيط، فأكدوا حينًا ما أنهم وجدوه ثم كذبوا هذا

الخبر. على أنهم تنبهوا اليوم إلى أن معضلة أصل الأنواع - وخصوصًا ما يتعلق

منها بالجنس البشري - ما زالت معقدة ومضطرِبة كما كانت قبل داروين

Darwin ولمارك Lamarek وأن مذهب القائلين بالتشابه الخارجي

والتشريحي ليس بجواب عن هذا السؤال يحسن السكوت عليه، فإن مذهب

المشابهات التشريحية والفسيولوجية لا يلقي إلا نورًا ضئيلاً على مسألة تخصص

الحياة وتشخصها.

إن الحياة ما زالت حافظة لقابليتها للانفجار والالتهاب ولما فيها من الخواص

الوراثية لتغير الأعضاء تغيرًا فجائيًّا، إننا نجد منها خواص تنتقل وتقبل التغير

والتبدل، وخواص أخرى لا تنتقل ولا تقبل تعديلاً، فسينتج مما تقدم أننا في آن

واحد خاضعون لتأثير قوى غيبية خفية تفعل فينا فعلها ولا نعرف كنهها، كما أننا من

هذه القوى في بعض أحوال خاصة لا ندريها أيضًا، وأن هذا التغير من الشخصي

إلى النوعي ومن التخصيص إلى التعميم خاضع هو أيضًا إلى نظام أسمى. وهلم

جرًّا.

إن مذهب التحول الذاتي الذي سيطر على علم الكائنات الحية مدة ستين عامًا إنما هو مظهر موضعي بل أحقر المظاهر لحل قضية الحياة، بل هو رد على

السؤال بسؤال آخر.

إني قد أشَّرت بخط تحت الفقرة الخاصة بالقوات الخفية ثم قلت في الكتاب

المذكور في محل آخر ما يأتي:

(إن المذهب المضاد لمذهب التحول الذاتي لم يأتِ بعد بالعالم الذي يستحقه

على أننا في انتظاره بإيمان وثيق) وها هو ذا قد أتى هذا العالم فعلاً فإن المسيو

فيالتون Vialleton نشر في سنة 1929 كتاباً بحث فيه عن أصل الأنواع الحية

تحت عنوان (أوهام التحوليين) أورد فيه من الدلائل المقنعة ما يقضي على مذهبي

داروين ولمارك القضاء المبرم.

ولا بد أن يكون عالقاً بأذهان القراء ما كتبنا هنا من التعليق على كتاب المسيو

فيالتون العظيم الشأن، غير أن الصحف العلمية والفلسفية لم تعلق أهمية كبيرة على

نقض هذا الأستاذ العالم. إلا أن جريدة الطان tenps نشرت في عددها الصادر في

8 يونيه سنة 1930 مقالاً في الموضوع بقلم المسيو لويس لافل Lavelle Lauis

جاء فيه ما يأتي:

(

وردت في كتاب المسيو فيالتون فكرة ثانية يظهر لنا أنها أشد خصوبة،

وهي أن في داخل الأشكال الأساسية غير المنفصلة عن المظاهر الأولية للحياة يمكن

تصور وجود (جراثيم أو براعيم الانتظار)[2] وهي غير مرئية وتبقى منتظرة

لتفرخ في اللحظة الملائمة، أعني اللحظة التي تكون فيها شروط البيئة قاضية

بخروجها من القوة والاستعداد إلى الفعل، وإذا ضربنا صفحًا عن التوسع في بحث

طبيعة هذه الجراثيم يمكننا اعتبار أنها قوات مستترة لا تفعل فعلها إلا تحت تأثير

الظروف المناسبة ولا يظهر فيها مظهر الحياة إلا إذا أخذت أشكالاً قياسية خاصة.

فنفهم من ذلك الأسباب التي حدت بالمسيو فيالتون لأن يكون من خصماء معتنقي

مذهب التحول الذاتي الذي هو شرح للتطور بأسباب آلية.

فالتطور في نظره هو تطور يدبره مدبر، وهو يتعارض مع مذهب (لمارك)

القائل بأن الكائن يتكيف بالوسط الذي يعيش فيه وأن هذا التكيف يتأصل فيه

بالتدريج حتى يورثه نسله. ويتعارض أيضًا مع مذهب داروين القائل بأن في

الكائن المولود تغيرات عرضية بعضها نافع له وكافل له الفوز في معترك الحياة

وبعضها مؤذٍ وقاضٍ عليه القضاء المبرم) . اهـ.

وهكذا كان إدراك (فهم) القوات الخفية التي أشار إليها المسيو فيالتون يتصل

بإدراك (فهم) القوات الخفية المنوه عنها في (سخافات القرن التاسع عشر) .

غير أن المسيو فيالتون يرى أن الضغط الخارجي هو الذي يساعد على تجلي

هذه القوات في عالم الظهور مع أني في كتابي قد نسبت ذلك إلى عوامل باطنية

عرضية. ومهما يكن الأمر فإن التبدل الذي نحن بصدده إنما هو انقلاب أو تحول

فجائي وليس تطورًا أو تكيفًا.

على أن القوات الخفية موجودة في مظاهر العالم بأجمعها، فإن الراديوم قبل

اكتشافه كان قوة مستترة، والموجات الفضائية كانت كذلك قبل اكتشافها، وكذلك ما

يحصل في الدم من الاستعدادات البطيئة لمرض السل والسرطان التي أشار إليها في

هذه السنوات الأخيرة الطبيبان فانييه وروا Aroy Vanniet هي أيضًا قوات

مستترة لأشكال مرضية.

والآن قد فتح أمامنا عالم جديد للمعرفة واسع المجال إلا أن النور الساطع فيه

مازال ضئيلاً كنور الفجر الذي لا يكفي إلا لتمييز الأشياء بعضها من بعض. اهـ.

_________

(1)

الهلام البحري هو الخلايا النباتية الأولى التي دبت فيها الحياة في أول الخليقة على شواطئ البحار فتدرجت منها الحياة بتكاثر تلك الخلايا وتكيفها تدريجًا.

(2)

المنار: مثال هذا عندهم ثندوة الرجل هي مستعدة لإفراز اللبن كثدي المرأة إذا وجدت الداعية الطبيعية لذلك، ويقال إن هذا وقع بالفعل لرجل ماتت امرأته وتركت له طفلاً رضيعًا ولم يوجد هناك مرضع له ولا لبن بقرة أو غيرها يمكن تغذيته به فكان من تأثير حنانه الوالدي أن صارت ثندوته كثدي الأم في إفراز اللبن له، وهكذا يوجد في سائر الأحياء جراثيم أو براعم مستعدة لظهور وظيفة فجائية تنافي مذهب التطور التدريجي البطيء الذي هو أساس مذهب داروين ولمارك.

ص: 130

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الشبهات على حق المساواة في الميراث

- 13 -

وجملة القول أن الشرع الإسلامي قد عظم أمر الزوجية والأمومة الشرعية،

ففرض على الرجل القيام بجميع ما تحتاجه الزوجة والأم لتتفرغ المرأة للقيام بما

تقتضيه هاتان الوظيفتان التي قضت الفطرة بأن تكون الأولى منهن وسيلة والثانية

مقصدًا، فإن عجز الرجل عن النفقة أو مات كان على غيره من الأقارب القيام بها

وإلا فبيت المال، ولن تقوى المرأة على القيام بما تقتضيه الفطرة ودين الفطرة من

الاستعداد للحمل والوضع والرضاعة والحضانة والتربية للأطفال وجعل الدار

لهن خير مدرسة ومأوى ومطعم ومصح، إلا إذا كان الرجل يكفيها مؤنة الكسب وتثمير الأموال بنفسها في الزراعة والصناعة والتجارة واستخراج الكنوز والمعادن

وغير ذلك مما هو أقدر عليه منها، وكذا مؤنة أمور الدولة العامة والدفاع عن

الوطن بالخدمة العسكرية بأنواعها.

وكان مقتضى هذا بادي الرأي أن لا ترث المرأة شيئًا من المال والعقار؛ لأن

الشرع كفل لها رزقها على كل حال، وهذا ما كان يحتج به العرب في الجاهلية

على عدم توريث النساء مع أنهم لم يكفلوا لهن رزقهن كما كفله الإسلام؛ إذ جعله

حقًّا على الرجال بوازع الوجدان والإيمان، وكفالة الشريعة والسلطان.

ولكن دين العدل والرحمة راعى في أمر النساء سائر الأحوال التي وراء حال

الزوجية والأمومة، ففرض لهن من الإرث نصف ما فرض للرجال، ومن أحسن ما

يوجه به هذا الفرض أن يقال: إنه من قبيل الاحتياط ومراعاة شواذ الحياة

الاجتماعية، ولولا أنه فرض إلهي لكان لقائل أن يقول: إن النصف كثير؛ لأن الأمر

يؤول فيه إلى أن يكون مال المرأة أكثر من مال الرجل لأنه لا يُفرض عليها من النفقة

حتى على نفسها في عهد الزواج ما يفرض على الرجل، أو يفضي إلى إضعاف

الثروة العامة؛ إذ ليس للمرأة من القدرة على إدارة المال وتثميره ولا من

التفرغ لاستغلاله من جميع الطرق الاقتصادية مثل ما للرجل.

وأما الأمهات الفواجر غير الشرعيات فلا يفرض لهن الشرع الإلهي وجودًا

يقتضي حقوقاً مالية أو غير مالية، بل يفرض عليهن عقابًا شديدًا يقتضي إرهابًا يمنع

وجودهن إلا على سبيل الندور الذي لا يراعَى في القواعد التشريعية المنزلة ولا

الموضوعة، ومن ثم كان دعاة الفوضى النسائية والإباحة الذين رُزئت هذه البلاد

يهم يقترحون أصلاً للتشريع ينسخ شرع الله تعالى ويبطله مبنيًّا على إقرار أمومة

السِّفاح، فترى الدكتور فخري يقول - بغير خجل ولا حياء من الجهل ومكابرة

الحس والعقل -: إن المرأة (هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي

على هذه الأمومة) وإنه لا يدري (لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقها في

الميراث؟ !)

نعم إنه لا يدري لأنه لا يريد أن يدري، أو لا يعترف بما يدري، فإنه

يخاطب المسلمين بقوله: (هي هي كل شيء..) وهي عندهم ليست بشيء من

ذلك، أما الأمومة السفاحية فلا وجود لها في شريعتهم كما قلنا آنفًا. ولا وجود لها

في الخارج أيضًا، فإن اللائي يلدن من حمل السفاح يلقين بالطفل المولود في أحد

الشوارع ليلاً على حين غفلة من المارين ليحمله رجال الشرطة أو غيرهم إلى

معاهد اللقطاء إن لم يخنقه عند الوضع ويدفنه حيث لا يعلم به إلا الله.

وأما الأم التي يطلقها زوجها فلها من النفقة مدة العدة ومدة الحضانة ما هو

معروف للعامة والخاصة من الناس. ومن المطلقات المعتدات بالقروء مَن تنكر

حيضها وتدَّعي امتداد أجل عدتها بحيث تعد بالسنين، ويجبر القضاء بمذهب

الحنفية الرجل على النفقة عليها حتى تعترف بمرور الثلاثة القروء عليها وقلما

تعترف بذلك في ظل القضاء الحنفي إلا إذا أرادت الزواج!

فأما الأم التي يموت زوجها فترث هي وولدها كل ما ترك إن لم يكن له زوج

أخرى أو أولاد من غيرها أو أبوان وهو الغالب، وكثيرًا ما يترك الأبوان نصيبهما

لولد ولدهما إذا كانا موسرين، وإذا هو لم يترك مالًا يكفي أولاده وجبت نفقتهم

على من قدر عليها من أولي القربى أيهم أقرب كما تجب نفقتها هي أيضًا على أولي

قرباها بالتفصيل المفصل في كتب الفقه.

وما أظن أن جميع دعاة الإباحة الإلحادية يوافقون الدكتور فخري على جعل

أمومة العُهر موجبة لمساواة المرأة بالرجل في الميراث لما تقتضيه من انفرادها

بالنفقة على نفسها وعلى أولادها غير الشرعيين إذا لم تكن ذات فراش تفتري هذا

البهتان على صاحبه، وتلصق هؤلاء الأولاد بنسبه، ولعل أكثرهم يتعجبون مع

أهل الدين والصيانة من اقتراح مثله لهذا الرجس من التشريع وهو من أعلم الناس

بقبح الفاحشة وأمراضها الخبيثة المعدية؛ لأنه من أطبائها الأخصائيين العاملين

المطلعين على ذلك، فكان الواجب عليه أن يقترح ما يقلل هذا الفساد إذا لم يمكن

إزالته، لا ما يمكِّن المسافحات (البغايا) ومتخذات الأخدان (المرافقات) من

تكوين بيوت جهرية لأولاد الزنا، يعرف كل واحد منهم أمه ولا يعرف له أبًا، إلا

أن تتبع الحكومة فيهم ما حكي عن التشريع البلشفي من الأخذ بقول المرأة في إلحاق

كل ولد بالرجل الذي تدعي أنها علقت به منه، فتُلزمه الحكومة النفقة عليه [1]

وحينئذ يمكن أن يكون لكل أم من هؤلاء الأمهات غير الشرعيات بضعة أولاد

لبضعة رجال تتقاضى من كل واحد منهم نفقة رضاعته وحضانته وتربيته! ! إلى

أن تتولى الحكومة أمر رزقه إذا صارت بلشفية خالصة؛ لأن التشريع من بعض

جوانب الشيء يفضي به إلى سائر الجوانب، ولولا استباحة الزنا وكثرته لما اقترح

الدكتور فخري ما اقترحه.

بيد أن الفواجر لا يعترفن بمن يضعن من أولاد السفاح في هذه البلاد بل يلقينه

ليلاً في بعض الشوارع؛ ليوضع في ملاجئ اللقطاء، ومنهن من تقتل الطفل عند

وضعه وتدفنه سرًّا؛ إذا لم تكن ذات فراش تفتريه على بعلها فيه كما قلنا آنفًا، ولا

يصدها عن إلقائه أو خنقه أن تكون ذات مال تكفله به، فإنها إنما تفعل ذلك فرارًا من

عار الفاحشة، لا لأجل العجز عن النفقة، فمساواتها لأخيها في الإرث لا يهون

عليها احتمال العار والاحتقار اللذين يلصقان بها من الأمومة غير الشرعية، فهي

لن ترضاها لنفسها إلا أن يهبط تجديد الإلحاد والإباحة بالأمة كلها إلى حضيض

المساواة بين حضانة الزوجية وإباحة الفاحشة في عدّ كل منهما حسنًا شريفًا لا عار

فيه! فإن هبطت دعاية هذا التجديد بالأمة إلى هذه الدركة السفلى من المساواة

بين الفضيلة والرذيلة - لا سمح الله - فإنه لا يبقى بين دعاته وبين المساواة في

الإرث وغيره إسلام يُتبع، ولا قرآن يُتعبَّد به، ولا توراة ولا إنجيل أيضًا، وحينئذ

يكونون هم أصحاب الرأي النافذ في الحكومة البلشفية التجديدية؛ فإنه ليس في

الأرض أجدر منها، وإن لم يتجرؤوا (على ذمهم لكل قديم ومدحهم لكل جديد)

على التصريح بها، كما ظنوا أننا لا نتجرأ على التصريح بطلب تنفيذ الشريعة

الإسلامية كلها، وها نحن أولاء نصرح به لأنه حق ومصلحة، فنحن الشجعان لأننا

نجهر باعتقادنا كله، وهم الجبناء لأنهم لا يجرؤون على التصريح بكل ما يستحسنونه.

أقول هذا لأنه من لوازم هذه الدعاية الحمقاء، ولا أجزم بأن أفكارهم القصيرة

الخطى الكثيرة الخطأ قد وصلت إليه، أو قصدت إركاس الأمة فيه، وإنما أرجح

أنهم يجلبون المال والجاه والزعامة الأدبية لهم ولمن يرتبط بهم بتحويل أفكار النابتة

الجديدة من المسلمين وقلوب النساء عن هداية الإسلام وتشريعه، إذ لا يمكن لزعنفة

قليلة أن تتبوأ مقام الزعامة والقيادة في أمة كبيرة هم أعداء الأكثرية الساحقة الماحقة

منها في كل ما تعتقد حقيته وقداسته من أدب وتشريع، ومنافع هذه الزعنفة من

ساسة الأجانب ومبشري دينهم رهينة بتأثير كلامهم في هذين الصنفين من المسلمين-

أعني الشبان والنسوان - وجل الظلم والخسران في هذا كله واقع على أكتاف

هؤلاء النسوان كما سنبينه في خاتمة هذه المقالات إن شاء الله تعالى.

هذا وإن الدكتور فخري ختم احتجاجه على وجوب مساواة المرأة للرجل بأنها

إنسانة مثله وأخت له - وأعاد ذكر واجبات الأمومة - ثم قال: وإن كان حق

الميراث ناتجًا (كذا) عن النبوة فهي أكثر منه عطفاً على والديها وهي أكثر منه

برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما. اهـ.

ونقول في تفنيده: إن الإنسانية ليست مناطاً للإرث ولا سببًا لتحديد درجات

الوارثين فذِكْرها في هذا البحث لغو. وأما كون الوارثة أختًا للوارث معها وبنتاً

لمورثهما فهي إنما تقتضي المساواة بينهما في نفقة الوالدين عليهما وفي عطفهما أو

إكرامهما لها، وهذا حق قررته الشريعة الإسلامية فلا يجوز للوالدين تفضيل بعض

أولادهما على بعض فيما تتساوى حاجاتهم فيه عرفاً؛ لأنه ظلم وسبب للتحاسد

والتعادي بينهم، والواقع بالفعل أنهما ينفقان على البنت أكثر مما ينفقان على الابن

في الغالب؛ لأنها تحتاج من الحلي والحُلَل الحريرية وغيرها ما يفوق ثمنه ما ينفق

على ملابس أخيها، والذي أعرفه في بيوتنا وتربيتنا الإسلامية أننا نكرم البنات

ونخصهن بعطف زائد عل عطفنا على البنين، فلا أذكر أن أحداً من رجالنا ضرب

بنتاً ضرب التأديب الذي لا يسلم منه أحد من البنين وقد كنت في بيت أبي أضرب

إخوتي الصغار وأوبخهم وأنهرهم بغليظ القول، ولم أضرب أختاً من أخواتي قط،

ولا أذكر أنني أغلظت على إحداهن في القول. ولو شئت لذكرت ما هو أبلغ من

ذلك في تربيتنا الإسلامية ولله الحمد.

ثم إن الوالد يجهز البنت عند تزويجها بأضعاف ما قد يدفعه مهرًا لزوج الابن

إذا لم يدفعه هذا من كسبه، وقد اعتاد المسلمون المغالاة في هذا التجهيز حتى صاروا

يبذلون فوق ما تسمح لهم به ثروتهم، فيقترضون بالربا ولو فاحشاً أو يبيعون

الأرض والعقار بأقل من ثمن المثل لأجله، ولا يستحيي هؤلاء المفتاتون على

المسلمين في شريعتهم وبيوتهم من عيبهم بالتقصير مع الإناث وهضم حقوقهن وهم

يعلمون كل هذا.

وأما الإرث فلا يناط بدرجة القرابة وعاطفتها، بل هو ركن من أركان تكوين

الأسرة ومصالح الأمة الاقتصادية، وكل منهما يقتضي أن يكون جل الثروة في

أيدي (الجنس القوي النشيط) لأنه أقدر على جميع أنواع التثمير والاستغلال

والقيام بشؤون النفقات المنزلية (العائلية) والقومية والدولية، والذي يقعد

(بالجنس اللطيف الضعيف) عن مجاراته في الأمرين (الاستغلال والإنفاق) هو

وظيفة الأمومة؛ الأمومة التي عكس الدكتور فخري القضية وخالف مقتضى الفطرة

فجعلها سببًا للمساواة.

وجملة القول أن الإسلام خالف جميع الشعوب وشرائعها بما شرعه من العناية

بالنساء، وإعطائهن أكمل حقوق الزوجية التي تقتضيها سنن الفطرة السليمة،

ومنحهن في الإرث نصف ثروة الأسرة من جميع وجوه القرابة النسبية والزوجية

ولم يضع عليهن من الواجبات المالية نصف ما وضعه على الرجال، فقد ترث

المرأة المتزوجة أباها وأمها وبعض إخوتها وأخواتها وعمومتها وهي في حجر

زوجها ينفق عليها وعلى أولادها، ولا يكلفها الشرع أن تنفق من ذلك شيئًا على نفسها

ولا على أولادها فضلاً عن زوجها، إلا أن تتفضل بالتبرع بذلك فتكون لها المنة.

وأما أخوها الذي يشاركها في هذا الإرث كله فيأخذ منه مثلَيْ ما تأخذه فهو

مكلف أن ينفق على زوجة أو أكثر وعلى أولاد قد يكونون كثيرين، فأيهما يكون

أكثر مالاً، وأحسن حالاً، وأضمن مآلاً؟

إذا تيسر للمرأة استغلال ما ترثه كما يستغله أخوها أو أحسن إما بنفسها عند

توفر الوسائل وانتفاء الموانع الزوجية والوالدية، وإما باستخدام أولي الكفاية من

الرجال - فإن ثروتها تزيد على ثروة أخيها المثقل بنفقات الزوجية والأبوة أضعافًا.

ولو شئنا لوضعنا لذلك مُثُلاً حسابية تتجلى بها تفاصيل هذه المسألة المدهشة،

وذلك مما يتيسر لكل من يعرف علم الحساب على تفاوت الناس فيه.

وأراني قد أتيت في هذه المسألة بما قامت به حجة الإسلام تتبختر اتضاحاً،

ودحضت شبهة الإلحاد والإباحة تتضاءل افتضاحًا.

وأرجو من قراء الكوكب المنير أن يمنحوني إجازة في الخمسة الأيام الباقية من

رمضان وأسبوع العيد.

أعادهم الله تعالى عليهم وعلى سائر الأمة بالخير والنعمة وكشف كل غمة

وسأشرح لهم بعدها سائر الحقوق إن شاء الله تعالى.

(المنار)

عرض لنا في أسبوع العيد وعكة تجددت لنا بعدها شواغل فوق الأعمال

المعتادة فأخَّرنا بقية مسائل الموضوع، ثم عرض بعد ذلك الانقلاب المعروف في

سياسة الحكومة، وكان من نتائجه تعطيل جريدة كوكب الشرق، وسننشر بقية

المقالات في المنار، وبعد إتمامها ستصدر في كتاب مستقل إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

بعد نشر هذه المقالة في جريدة كوكب الشرق كتب إلينا الأمير شكيب أن البلشفيك ليس فيه هذا، ونحن نقلناه عن بعض الصحف معزوًّا إلى كاتب من أمريكا.

ص: 135

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

ودولتي إيران وبولونية

وعدنا في الجزء الأخير من المجلد الثلاثين بنشر اعتراف دولة بولونية

بالمملكة السعودية، وسبب ذلك أنه قد زار مصر صاحب الفضيلة مفتي المسلمين في

بولونية وزعيمهم الديني الشيخ يعقوب شنكفتش في طريقه إلى الحجاز، فلقي من

تكريم فضلاء المسلمين وجمعية شبانهم، ومن جمعية الرابطة الشرقية ما يليق

بزعامته وشخصه الكريم، وقد ألقى في نادي الخطابة من دار جمعية الشبان

المسلمين محاضرة في بيان حال المسلمين في بولونية وما لهم فيها من حرية الدين

المطلقة ومن مساعدة الحكومة البولونية الكاثوليكية لهم ما كان موضع الإعجاب

والعجب من كل مَن سمعه؛ لأنه فوق المعهود من الدول الأوربية. وسببه الحقيقي

عندنا أن تدين بولونية أمتها وحكومتها بالنصرانية تدين عقيدة وإخلاص، فهو لا

ينافي الاتفاق مع المسلمين، وأما تدين دول الاستعمار والدعاية فهو تدين سياسة

وتجارة وبذلك كان مثار الشرور.

ثم سافر المفتي إلى الحجاز، وحظي مع الوفد البولوني المؤلف برياسة المعتمد

السياسي الجديد لدولته لدى ملك المملكة الحجازية النجدية بلقاء ملكها في مدينة جدة،

واحتفل فيها بتبادل خطبتي الاتفاق بين الدولتين بما هو صريح في اعتراف حكومة

بولونية وشعبها بمزايا الشعب العربي الإسلامي، والرغبة الصادقة في مودته بأسلوب

لم يعهد مثله من الدول الأوربية في روحه ومغزاه. وكان جواب الملك السعودي زعيم

العرب والإسلام له بمثل هذه الروح الشريفة؛ لهذا أحببنا نشر ذلك في المنار للتنويه

به.

وقد اتفق أن جريدة أم القرى الحجازية الغَرَّاء نشرت تفصيل الاحتفال بالوفد

والمعتمد البولوني عقب تفصيل الاحتفال بالمعتمد الإيراني وكنا نوهنا في المنار

بالاتفاق بين الدولتين السعودية والبهلوية الإيرانية في المنار وأظهرنا السرور به

ولكننا رأينا في خطبة المعتمد الإيراني وجواب الملك السعودي له ما ضاعف

سرورنا بأصل الاتفاق بين هاتين الدولتين الإسلاميتين المستقلتين، وهو التصريح

فيهما بالجامع الأقوى والأعلى بينهما وهو الرابطة الإسلامية وتعزيز الإسلام، وقد

أكبرنا هذا التصريح الذي يعبق منه شذى الصدق والإخلاص؛ لأنه وقع بعد سعاية

خبيثة لإيقاع الشقاق بينهما إحياءً وتجديدًا لشر المصائب والرزايا القديمة التي

أضعفت الإسلام والمسلمين وهي العداوة بين أهل السنة والشيعة. وبعد ما وقع من

شيعة العراق من إظهار العداوة والبغضاء لأهل السنة النجديين وتكفيرهم، ومن شيعة

سورية من نشر أحد شيوخ علمائهم لكتاب خبيث في الطعن في دين الوهابية

يتضمن الطعن في السنة وأئمتها وحُفاظها، ومن تأليف عالم آخر منهم لكتاب آخر في

دعاية الرفض والطعن في أهل السنة، وتصدي مجلتهم العرفان لنشر هذه الدعاية.

فهذا الاتفاق بين الدولة المقيمة للسنة على أصولها الصحيحة والدولة الممثلة

لفريق الشيعة الإمامية، وبناؤه على ما صرح به في الخطبتين من جعل الشعور

الإسلامي والوحدة الإسلامية أساسًا للمودة، والاتفاق والتعاون - يعد مبدأ إصلاح

إسلامي عظيم تعب دعاة الإصلاح في سبيله تعبًا عظيمًا ولم يفوزوا بما كانوا

يرجون منه، وناهيك بما قام به حكيمَا نهضتنا الإسلامية منذ نصف قرن من السعي

الحميد لذلك. وهما السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده

المصري.

وإننا نبدأ بنشر خطبتي هذا الاتفاق وننشر عقبه خطبتي الاتفاق الآخر.

خطاب الممثل الإيراني

(وهو صاحب السعادة حبيب الله خان هويدا)

يا صاحب الجلالة:

إن مولاي المعظم صاحب الجلالة شاهنشاه إيران - خلد الله ملكه - أولاني

أسمى شرف، وأعظم فخر، وأغلى ثقة، بتعييني ممثلاً في بلاط جلالتكم؛ لأقوم

بكل قواي على إحكام روابط المحبة والوداد الموجودة لحسن الحظ بين الدولتين

الصديقتين الإسلاميتين.

إن اطمئناني - يا صاحب الجلالة - على وجود الصداقة الخالصة المتينة بين

الحكومتين المعظمتين، واعتمادي وثقتي على العواطف السامية الملوكانية التي

شملتموني بها عند مثولي بين يدي جلالتكم في الدفعات الماضية، وشعوري على ما

بين الأمتين من روابط الإخاء والولاء يشدد ساعدي في تأدية الواجب، ويقوي

عزيمتي على القيام بمهمتي.

يا صاحب الجلالة:

إن بين الشعبين صلة أكيدة، قوامها الدين المبين، وأواصر إخاء وثيقة،

عمادها الاتحاد والغاية في النزعة القومية؛ لأن الأمتين استناروا من نور واحد

أشرق من أفق البطحاء واستفاضوا من منبع فيض واحد كان ينبوعها هذه الأراضي

المقدسة.

فأي ضمان أثبت على دوام المحبة وأحفظ على تبادل الولاء الصادق من

الاتفاق في شعائر الدين والتقاليد القومية؟ وإني - يا صاحب الجلالة - أراني في

هذه الساعة محاطًا بروح الشرف والفخار بتشرفي بالمثول بين يدي جلالتكم لتقديم

أوراق اعتمادي، الكتاب الكريم المرسل من لدن صاحب الجلالة شاهنشاه بهلوي

متبوعي المعظم مليك إيران لجلالتكم بتعييني ممثلاً للدولة الإمبراطورية في بلاط

جلالتكم مليك الحجاز ونجد وملحقاتها، فأغتنم هذه الفرصة الثمينة - يا صاحب

الجلالة المعظم - لأعرب عن المودة الصادقة الأكيدة التي يبديها مليكي المعظم في

تمنياته لذاتكم الملوكانية بالفوز والتأييد، ولأسرتكم الملكية الكريمة بالعظمة والإقبال،

ولأمتكم المجيدة بالسعادة والرفاء، كما أن حكومة جلالة مولاي المعظم والأمة

الفارسية لترجو بأن يكون عهد توليتكم شؤون الدولة وتبوأكم عرش المملكة فاتحة

واطرادًا للرقي والتقدم، ويعود على الأمة العربية بالعز والرفاهية، ويزيد الصلات

الودية الموجودة بين الشعبين الفارسي والعربي متانةً وإحكامًا، مولاي.

***

الجواب الملوكي

وقد تلاه أمين السر لصاحب الجلالة السعودية الأستاذ الشيخ يوسف ياسين

يا جناب الممثل:

إنه لمن دواعي سرورنا العظيم أن نتقبل ممثل صديقنا العزيز جلالة شاهنشاه

إيران في بلاطنا ليكون واسطة في تأييد أواصر الصداقة - القائمة ولله الحمد -

وتمتين حسن الصلات بين البلدين اللذين يرتبطان بصلات الجوار والحس المشترك

في الشعور الإسلامي العام.

وإنه ليسر شعب هذه البلاد المقدسة أن يروا هذه الصلات الحسنة مستمرة

على الدوام مع سائر الشعوب التي تنتسب للإسلام ليكون هذا عونًا على ارتباط

المسلمين جميعًا للتعاضد على العمل الذي كان منشؤه - كما ذكرتم - هذه البلاد

المقدسة ليسطع نور الإسلام في سائر الآفاق ويكون من آثار سطوعه تعاضد

المسلمين على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.

ولقد كان من دواعي سرورنا أن يقع اختيار جلالة صديقنا العزيز لجنابكم

لتمثلوه لدينا لما عرفناه في شخصكم من القديم في السعي والحرص في تأييد أواصر

الصداقة بين البلدين. تلك المساعي التي أنتجت - ولله الحمد - هذا العصر السعيد

من الوئام والاتحاد بيننا وبين الجارة الصديقة؛ لذلك نتقبل بسرور أوراق اعتمادكم

التي حملتموها من لدن جلالته.

ونحب أن تكونوا على ثقة - جناب الممثل - من أنكم ستلقون منا ومن

رجال حكومتنا كل مساعدة وتأييد لتتمكنوا من القيام بمهمتكم التي أُسندت إليكم خير

قيام، وإنا لنتمنى لكم توفيقًا ونجاحًا في جميع ما تسعون إليه من أعمالكم

المفيدة. والسلام.

***

اعتراف حكومة بولونيا بالحكومة السعودية

(منقول من جريدة أم القرى الغراء بحروفه)

في الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور تشرف الكونت إدوارد راشينسكي

والدكتور يعقوب شنكفتش مفتي مسلمي بولونيا أعضاء الوفد البولوني الذي ذكرنا نبأ

وصوله في العدد الماضي بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد استقبل الوفد

بالمراسم المعتادة ولقي من جلالة الملك كل عطف ورعاية.

ثم ألقى الكونت إدوارد راشينسكي أمام جلالة الملك خطابًا نشرنا صورته فيما

يلي وعقبه الشيخ يوسف يس فألقى الخطاب الجوابي الملوكي.

***

(خطاب الكونت إدوارد)

يا صاحب الجلالة:

أتشرف بأن أقدم إلى جلالتكم رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية

بولونيا الفتية الناهضة وباسم فخامته أعرض على جلالتكم تمنيات صحتكم ودوام

ملككم لرفاه الأمم المتحدة تحت لوائكم المنصور.

إن مملكة بولونيا تعرف جيدًا الأمة العربية الجسورة وفروسيتها، وتقدرها

حق قدرها، وقد اشتهرت في العالم بحبها للحرية حتى بلغت شهرتها إلى بولونيا،

فتغنى شعراؤها منذ العصور بفروسية هذه الأمة الكريمة.

إن الأمة البولونية تقدر هذه الفروسية وهذا الحب للحرية؛ لأنها هي أيضًا

قاتلت متفانية لنيل استقلالها وتحملت آلامًا ومتاعب كثيرة لبلوغ غايتها من الحرية

المنشودة، وقد كانت حياتها في خطر ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه

استطاعت أن تحافظ على كِيانها حتى أصبحت مملكة قوية يتمنى العالم كله هدوءها

وسكونها للمحافظة بسببها على السلام العام.

أقدم هذا التقدير وهذه الممنونية التي تحفظها الأمة البولونية نحو الأمة العربية

الكريمة ونحو جلالتكم الذي جمعتم هذه الأمة العربية وكونتم مملكة الحجاز ونجد

وملحقاتها العظيمة على يدكم المنصورة بسعيكم النادر وحكمتكم النافذة، وشجاعتكم

الشخصية التي هي أكبر ما تقدرها الأمة البولونية.

إن شهرة جلالتكم - كأتقى ملك وأكثرهم دفاعًا عن الدين - تزداد انتشارًا يومًا

فيومًا بين إخوانكم المسلمين في بولونيا الذين توطنوا بلاد الشمال البعيدة منذ قرون

عديدة، وقوبلوا من الأمة البولونية كإخوة لشهرتهم بالتخلق بالأخلاق الحسنة

والفروسية والتفاني في الدفاع عن الوطن مع إخوانهم البولونيين حين هجوم الأعداء

على بلادهم، وقد حضر اليوم معي إلى هنا ممثلهم ورئيس ديانتهم المحترم المفتي

الأكبر يعقوب شنكفيتش ليرتبط بمنبع ديانتهم ارتباطًا وثيقًا ويهنئ جلالتكم بالصعود

على عرش البلاد المقدسة والدفاع عنها.

إنني لا أشك من أن وفدنا - الذي أتشرف بأن أكون رئيسه - ليستطيع أن

يضع الأساس الأول لارتباط الأمتين الكريمتين (الأمة العربية والأمة البولونية)

برباط الصداقة القلبية المتينة لمنفعة هاتين الأمتين اللتين يمكنهما أن تنتفعا من

بعضهما انتفاعًا عظيمًا فتظهر هذه المنفعة جليًّا في ميدان الاقتصاد؛ لأن بلادنا

محشودة بثروات طبيعية وصناعات تتقدم بسرعة مدهشة فيمكن أن تستفيد هاتان

المملكتان البعيدتان من بعضهما فائدة عظيمة بسبب تبادل محصولاتهما الطبيعية

والصناعية.

بعد أن تشرفت بتقديم إحساسات وتمنيات حضرة فخامة رئيس الجمهورية

البولونية الفتية، وحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي وباسم

الحكومة البولونية والأمة البولونية كلها _ ألتمس السماح لي بأن أتشرف بتقديم

تمنياتي وإحساساتي الشخصية مع إحساسات وتمنيات زميلي المحترم وأرجو

وألتمس من جلالتكم التنازل بقبولها وتعطفوا علينا بمعونتكم في إنهاء مهمتنا التي

تشرفنا بتحملها لإنهائها مع معاونة جلالتكم.

***

الجواب الملوكي

يا جناب المندوب:

إننا نتقبل بسرور رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا

الفتية الناهضة ونتقبل بامتنان التمنيات الطيبة التي نقلتموها لنا عن فخامته.

كما أننا نفاخر بما ذكرتم مما هو معروف في بلادكم عن مزايا أمتنا العربية

التي نراها تشابه في كثير من الحالات الأمة البولونية في مراميها ومزاياها من

الشجاعة والإقدام.

وإن الأمة العربية لتنظر للبراعة التي ظهرت في الأمة البولونية وعلى

الأخص في الأيام الأخيرة بعين التقدير والاحترام، ولقد سرنا ما ذكرتم لنا عن

الذين ينتسبون للإسلام ويتفيئون ظلاله، وإنا لنتمنى لهم هناءً وراحةً وتوفيقًا في

إقامة شعائر دينهم ونجاحًا في السير على ما جاء به الإسلام الذي كان منشؤه هذه

الديار المقدسة التي تسر باستقبالكم فيها، وإنا لنرحب بحضرة ممثل المسلمين في

ديار بولونيا وسيلقى منا ومن رجال حكومتنا كل مساعدة في سبيل تأييد الصلات مع

أولئك المسلمين الذين نهتم بأمرهم كل الاهتمام.

وإنا لواثقون من أنه سيكون لوفدكم الكريم أحسن الأثر في العلاقات

الاقتصادية بين بلادنا وبلاد الأمة البولونية النجيبة.

ونرجوكم أن تقدموا بالنيابة عنا لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية

البولونية ولحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي تمنياتنا بدوام

صحتهما ورفاهيتهما، كما نرجو إبلاغ الأمة البولونية النجيبة تمنياتنا لسعادتها

وسُؤْدُدها كما نتمنى لجنابكم ولرفيقكم الموقر كل هناء وصحة وعافية، ونأمل أن

يبدأ في القريب العاجل عهد علاقات ودية واقتصادية بين البلادين تكون مفتاح هذه

العلاقات والسلام.

وبعد الانتهاء من الخطب أبلغ الدكتور إدوارد راشنسكي جلالة الملك اعتراف

حكومة بولونيا بارتقاء جلالته على عرش مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، فشكر

جلالته الحكومة البولونية على صنيعها هذا. اهـ.

_________

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الفتح الأوربي والفتح الإسلامي

والاستعمار البريطاني والفرنسي

يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم، فهم

يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم، شغلهم الفاتحون

لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم، وتشريع عادل، وتاريخ مجيد،

وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل

مرعبة من مظاهر قوتهم، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم

واستذلالهم، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال، وتنكيس رؤوس الرجال،

حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد

أن سلبهم سعادة الدنيا.

كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من

أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم،

مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسمحون

لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم، وبجميع الأعمال التي

يقدرون عليها لترقية أنفسهم. ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا

للمسلمين في الأمور الروحية، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية،

وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر

على الأداء.

وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون

عليها أكثر ثمرات كسبهم، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم،

ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم -

يسومونه سوء العذاب، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم، وإن هو دخل في

دينهم. وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية، وقد كان رجال سياستها

يسخرون من الإنكليز؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون

عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية،

ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة، ويكتفون في

سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية

ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية

العامة لا خروج عنها.

كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في

مستعمراتها على سيرة دولته (فرنسة) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن

السياسة الإنكليزية الاستعمارية، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان

الاستقلال، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في

استعباد البشر؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة،

ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها!

إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي

عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب، وتُلقي بين

المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء. أما إفساد

الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات

بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة، وإما إلقاء العداوة

والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات.

والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة

أهلها على المطالبة باستقلالها، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم

إلى القيام بشئون الإصلاح فيها، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته

الحيوانية، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه

من أهل بلاده.

وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم

من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم، كما يمنعون منها

المسلمين أنفسهم؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند

تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا

بالمعروف وينهوا عن المنكر، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين

بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً، إذا كان فيما

بينهم بصفة لا يضر غيرهم.

وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على

دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام حكومة تركية من

أنقاضها، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها، وأبطلت محاكمها

ومدارسها وأوقافها، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية، وعلى كتابة

اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة

لا يثق بها مسلم؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية.

ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه

كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا

الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه، وقد حاول اغتيال رئيس

جمهوريته الإلحادية (اللاييك) مرارًا فلم يظفر به، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى

بانقلاب آخر.

فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج

المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة. وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل

لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد،

ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى،

واستعانت على ذلك بحيلة صورية، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة

رسمية أو شرعية، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا

(مرسومًا سلطانيًّا) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني

على شعب البربر ويجرد نفسه منه، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور

هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق

الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية،

ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي

تقدر عليها، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى، وهم

يزعمون أنه أصدره، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به، بل عادت بعد موته إلى

ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة

المخزن (الطيب المقري) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام

بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة

العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره

يحل محل الشريعة الإسلامية، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية.

أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا

الحق، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع، كأحكام الزوجية والطلاق

والإرث، وهي منصوصة في القرآن، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة

القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ

الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن

تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن

أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم

بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين.. إلخ، وكذا مَن استحل

أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم، وإذا كان من يجحد مثل

هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام

بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم؟ ! قال صاحب

عقيدة جوهرة التوحيد:

وَمَن لمعلوم ضرورة جحد

من ديننا يقتل كفرًا ليس حد

ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل

تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل، وكان قد

استحوذ عليهم الخوف والجبن، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة

هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله، مع البحث في

آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم

يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام

بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل،

ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين، ومصلحة

البشر أجمعين.

_________

ص: 148

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المعاهدة الجديدة

بين إنكلترة والعراق

إن في العراق حزبًا عراقيًّا إنكليزيًّا، وأعني بكونه إنكليزيًّا أن ساسة الإنكليز

يثقون بزعمائه ويعدونهم أصدقاء أو غير أعداء لهم. وإن من أركان الحزب

العراقي الإنكليزي: نوري باشا السعيد، وجعفر باشا العسكري. ولما تعذر الاتفاق

بين الإنكليز في العراق وبين الوزارات كلها، عَهِد جلالة الملك فيصل برياسة

الوزارة إلى نوري باشا السعيد فلم يلبث أن اتفق مع الإنكليز على عقد معاهدة

سياسية عسكرية يلغي بها ما يسمى الانتداب وتجعل شؤون العراق بين الدولتين

بدون وساطة جمعية الأمم، بل تساعد الدولة الإنكليزية العراق بمقتضاها على

أن تكون عضوًا في جمعية الأمم كسائر الممالك الداخلة في دائرة الإمبراطورية

البريطانية المرنة التي يسعى ساسة لندن لجعْل الشرق كله في جوفها.

وقد كانت الدعاية التي تقدمت هذه المعاهدة والتي أعلنت فيها بالإجمال قبل

التفصيل، متقنة كل الإتقان، فلم يعلم الناس بما فيها من الخطر على العراق بل

على الأمة العربية كلها إلا بعد نشرها برمتها. وقد كنت ممن ظنوا أن أكبر غوائلها

بقاء حظائر الطيارات البريطانية فيها. ثم ظهر أنها معاهدة عسكرية تقرر فيها جعل

بلاد العراق وكل ما فيها من القوى وطرق المواصلات تحت تصرف الإنكليز

العسكري إذا وقع بينهم وبين أحد حرب، كما تقرر فيها مساعدة الإنكليز للعراق

بقواها العسكرية حالة وقوع حرب بينها وبين دولة أخرى، بل تقرر فيها أن تكون قوة

العراق العسكرية وأسلحتها في تصرف الإنكليز!

ومن المعلوم بالبداهة عند جميع المشتغلين بالسياسة أن الدولة البريطانية

موجهة براعتها السياسية إلى استعباد الأمة العربية وجعل جميع بلادها العامرة تحت

سلطانها، من مصر الرازحة تحت نير احتلالها العسكري إلى العراق فالكويت

فعُمان أي إلى آخر حدود جزيرة العرب والتمهيد بذلك إلى جعل الحجاز ونجد تحت

سيطرتها، وبهذا تقطع الطريق على الشعوب العربية دون الاتفاق والاتحاد

والاستقلال.

ومن المعلوم بالاختبار الصحيح وتاريخ الفتح أو الاستعمار الإنكليزي في الهند

ثم في مصر والسودان أن الإنكليز يضربون الأمم الجاهلة أو المتخاذلة بعضها

ببعض، فيفتحونها بأيدي أهلها وبأموالها، فإن ما ينفقونه من المال في أول الأمر

يستوفونه بعد ذلك مع ربح فاحش جدًّا، هكذا فعلوا في الهند وهكذا فعلوا في مصر

والسودان، وهكذا يفعلون اليوم في البلاد العربية بِدَارًا أن تجمع كلمتها وتوحد

نهضتها وتؤلف الدولة أو الدول المتحدة أو المتحالفة التي يسعى إليها أهل اليقظة

والرأي من أبنائها.

نصبوا أولاد الشريف حسين ملوكًا وأمراءَ على حدود الحجاز ونجد لعلمهم بما

تأرَّث بينهم وبين ابن السعود من سعير العداوة والبغضاء، فهم يخوفون به ملك

العراق وأمير شرق الأردن ويستعينون بنفوذهما وبرجال البلاد ومالها على إقامة

الحصون والمعاقل تجاه نجد والحجاز، ويخوفون ملك الحجاز ونجد بأنه إذا شذ عن

رغبتهم فإنهم يقاتلونه بأيدي أمته العربية وبما وراءها من قوتهم، لعلمهم أن قوة

العراق وشرق الأردن دون قوته الآن، على أنهم يُظهرون الصداقة له ولجيرانه معًا

كما كانوا يفعلون في الهند سواء، وسنأتي بالشواهد التاريخية على هذا في الجزء

التالي إن شاء الله تعالى.

عبد العزيز آل سعود رجل مسلم قوي الإيمان، عربي صادق العربية، لا

مطمع له في بلاد شرق الأردن ولا العراق، وهو لم يزحف على الحجاز ويستولي

عليه إلا مضطرًا إلى ذلك بما أحرجه الملك حسين حتى جعل مقاتلته ضربة لازب

يوجبها الشرع الإسلامي ومصلحة نجد والعرب والمسلمين، وهو يرى حمل الحجاز

ثقيلاً عليه لما يحتاج إليه من أنواع الإصلاح الكثيرة من دينية ومدنية، وناهيك

بتقريب مسافة الخلف بين تربية أهله وشؤونهم الدينية والمعاشية وتربية أهل نجد

وشؤونهم، فهو لا مطمع له فيما وراء ذلك ولا ينوي أن يعتدي على أحد من جيرانه

في الجنوب ولا في الشمال وكلهم من قومه وأهل ملته.

فأي حاجة مع هذا إلى إقامة الحصون والمعاقل على حدوده إذا لم تكن

استعدادًا لما ذكرنا من قطع الطريق على الوحدة العربية قبل أن تتمهد سبيلها؟

وأي حاجة بالعراق إلى مجاراة الإنكليز على هذه السياسة بمعاهدة حربية وهم

يعلمون أن جيرانها الآخرين من الترك والإيرانيين لا يمكن أن يتصدوا لفتحه لأن

لهم في أنفسهم شغلاً عن ذلك، على علمهم بأن الدولة البريطانية لا تنوي ترك

العراق لأهله، وأن أعمالها العسكرية ولا سيما المطارات والمعاقل والحصون

والسكك الحديدية التي تصل العراق بحيفا قبل انتهاء الخمس السنين التي ضربتها

المعاهدة أمدًا لخروج الجيوش الإنكليزية من العراق - وما في النية إحداثه من

السكة الحديدية العسكرية التي تصل العراق بالبحر الأحمر - كل ذلك وسائل

لرسوخ قدمها في هذه البلاد وتأسيس إمبراطورية بريطانية جديدة فيها في هذا

الوقت الذي تتداعى فيه أركان إمبراطورية الهند الكبرى التي لولاها لم تكن إنجلترة

من الدول العظمى، وستستقل الهند بيقظة زعمائها وعلمهم وإخلاصهم، بل في الوقت

الذي يتحدث فيه بعض ساسة أوربة بقرب أجل هذه الدولة ويتوقع فيه سقوطها في

الحرب الآتية التي لا بد منها.

إن أعظم ضباط العراق وطنية عربية ومعرفة بقيمة الاستقلال قد أقسموا أغلظ

الأيمان لجمعية عربية غايتها استقلال البلاد العربية استقلالاً تامًّا بجميع معانيه

الحقوقية والسياسية، وجعل الأمة العربية في مصاف الأمم الحية، فماذا فعلوا

بيمينهم هذه؟ ومنهم بعض أعضاء هذه الوزارة التي عقدت هذه المحالفة وهي الآن

تبذل نفوذها لتأليف مجلس نيابي يجعل استعباد إنكلترة العسكري للعراق شرعًا

بالاعتراف لها بأنه من طرق مواصلاتها الإمبراطورية! وبأن لها الحق في

استخدام جميع قواته لمصلحتها العسكرية، وفي جعْل تأليف قواته العسكرية وسلاحه

وسائر شؤونه بيد الإنكليز يتصرفون فيها كما تصرفوا في قوات مصر، ولم يكن

لهم من الأمة المصرية مثل هذه المعاهدة ولا هذا الاعتراف.

إن تأليف مجلس نيابي يبرم هذه المعاهدة على علاتها ليس له معنى إلا بيع

العراق للإنكليز بيعًا شرعيًّا لا يمكن الرجوع فيه، وإنما يبقى أمام العراق طريق

واحد للحرية والاستقلال وهو الثورة العامة لإخراجهم بالقوة، ولكنها ستقطع هذا

الطريق عليهم بأيديهم. وقد شرعت في ذلك ببثّ الأحقاد المذهبية بين أهل السنة

والشيعة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، والعصبيات الجنسية بين العرب

والكرد والآشوريين، وبإلقاء جراثيم الإلحاد والإباحة وحرية الفسق التي لا يمكن أن

تقوم لأمة معها قائمة، وستنزع السلاح من جميع القبائل بقوة الجيش العراقي الذي

ستنظمه لخدمتها. وللعراقيين كبير عبرة بسيرتهم في مصر والسودان، ومَن لم

تؤدبْه الحوادث أدبتْه الكوارث!

_________

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(نور الإسلام)

(مجلة دينية علمية أخلاقية تاريخية حكيمة. تصدرها مشيخة الأزهر

الشريف أول كل شهر عربي [1] مدير إدارة المجلة عبد العزيز (بك) محمد من

أعضاء مجلس الأزهر الأعلى. رئيس التحرير السيد محمد الخضر حسين من

علماء الأزهر.

قيمة الاشتراك السنوي داخل القطر المصري 40 قرشًا، لطلبة المعاهد

والمدارس 20، خارج القطر المصري 50) .

هذا تعريف إدارة المجلة بها، ولقد كان وجود مجلة لمعهد الجامع الأزهر

أُمنية قديمة لنا ولكثير من مفكري المسلمين ومحبي الإصلاح ونشر الإسلام والدفاع

عنه. وقد بيَّن رئيس التحرير هذا في فاتحة العدد الأول وذكر سبب حصول هذه

الأمنية وأصحاب الفضل فيه وبيان الخطة التي رسمتها المجلة لنفسها، وإننا ننشر

ذلك لما لنا من العناية الخاصة والاهتمام بأمر هذه المجلة بعد أن سلخنا ثلث قرن في

الاشتغال بنشر مجلة المنار والقيام فيها بأهم فروض الكفاية التي اشتدت الحاجة إليها

في هذا العصر الذي فشا فيه الإلحاد، ونشر شبهاته والدعوة إليه في جميع البلاد،

ونشط دعاة النصرانية في محاولة تنصير المسلمين في جميع الأقطار بمساعدة دولهم

وأغنيائهم، وقد دخلنا في سن الشيخوخة ولم نوفَّق لتربية أحد نرجو أن يقوم بعدنا

بإصدار المنار، كما أننا لم نجد مجلة إسلامية تقوم بما يقوم به، وهكذا كل عمل

يقوم به الأفراد يزول بزوالهم في الغالب؛ لهذا نسر ونهتم بإنشاء المعهد الإسلامي

الأكبر لمجلة إسلامية يُرجى دوامها بدوامه إن شاء الله تعالى، ولهذا نطيل في

تقريظها ما لم نطله في تقريظ مجلة أخرى وما لم تطله الصحف الأخرى بتقريظها،

وهذا نص ما جاء في فاتحتها:

(أحسَّ الناس شدة الحاجة إلى هذه الصحيفة ووثقوا بأن سيكون لها في إنارة

السبيل والذب عن حوزة الدين موقف خطير، وهذا الإحساس الشريف هو الذي

بعث حضرة صاحب العزة عبد العزيز محمد بك مدير هذه المجلة أن اقترح على

المجلس الأعلى للمعاهد الدينية في جلسته المنعقدة في 3 جمادى الثانية (؟) سنة

1345 الموافق 8 ديسمبر سنة 1926 أن يدرج في ميزانية المعاهد مبلغًا يقوم

بإنشاء مجلة إسلامية، فعهد إليه المجلس بوضع تقرير في مشروع هذه المجلة على

أن يعرضه عليه في جلسته المقبلة. وفي يوم 8 محرم (؟) سنة 1346 - الموافق

27 يوليو سنة 1927 عرض حضرته هذا التقرير في المجلس فكان من المجلس

أن قرر تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: المدير العام للمعاهد

الدينية المرحوم الشيخ أحمد هارون. وشيخ معهد الإسكندرية لذلك العهد الشيخ

محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر، وشيخ معهد طنطا المرحوم الشيخ

عبد الغني محمود، وعهد إليها ببحث ما احتواه التقرير من الاقتراحات، فنظرت

اللجنة في التقرير وقدمت نتيجة بحثها إلى المجلس. وحينما أخذ ينظر في ميزانية

سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للإنفاق على المجلة. إذ وثق بأنها عمل صالح وفاتحة

نهضة مباركة.

ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ

محمد الأحمدي الظواهري، كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة،

فأخذ يدبره بجد وحكمة، حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه.

وفضل هذا المشروع الإسلامي الجليل عائد في الحقيقة إلى حضرة صاحب

الجلالة مولانا ملك مصر المعظم أحمد فؤاد الأول حرسه الله؛ فإن جلالته سار على

سنن أسلافه الأماجد، فأقبل يرفع صروح العلم ويحوط العلماء بالرعاية حتى نال

الأزهر الشريف وعلماؤه من هذه الرعاية أوفر نصيب.

فإقبال جلالته على هذا المعهد الإسلامي بعناية ضافية قد وطد في نفوس رجال

العلم الأمل في أن تكون دعوتهم إلى سبيل الخير ناجحة، وجعل الأزهر بمكان

القادر على أن يصرع كل ضلالة وينهض بكل صالحة.

خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة، لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن،

ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول؛ إذ لا يعزب عنها ما يحدث عن

مثل هذا القصد من الفتن وبواعث التفرقة بين سكان الوطن الواحد وهم في حاجة

إلى السكينة والتعاون على المصالح فردية كانت أم اجتماعية.

خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن،

وقصارى مجهودها أن تعمل على نشر آداب الإسلام وإظهار حقائقه نقية من كل

لبس، وتكشف عما ألصق بالدين من بدع ومحدثات، وتنبه على ما دس في السنة

من أحاديث موضوعة، وتدفع الشبهة التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من

أصول الشريعة، وتعنى بعد هذا بسير العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم

لتذكرة لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيِّمة

علمية كانت أو أدبية. وسترى هذه المقاصد إن شاء الله مودعة في الأبواب

المفصلة على ما يأتي: التفسير. السنة. السيرة النبوية. أصول الدين. دفع الشبه.

أصول الفقه. الفتاوى والأحكام. العلوم والآداب. آراء الباحثين. التاريخ. السير

والتراجم. أنباء العالم الإسلامي. الطرف والمُلَح.

تتناول المجلة من مباحث هذه العلوم والفنون ما يدعو الحال إلى نشره، ولا

تحكي رأيًا خارجًا عن نهج الصواب إلا أن تقرنه بما يكشف عن كنهه، وسنتحرى

بتوفيق الله تعالى الطريقة التي تتجلى بها سماحة الدين في بهاء طلعتها وصفاء

ديباجتها، ونُراعي في تحريرها الأساليب التي تألفها أذواق القراء، ويجتلون فيها

صور المعاني ماثلة أمامهم لا لبس فيها ولا التواء.

تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق،

مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وإذا كان هذا أدبها مع قوم هم

عن الحق غافلون فأحرى بها أن تأخذ به في مناقشة آراء العلماء إذا رأت في

بعضها انحرافًا عما تقتضيه نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة الواضحة. نذكر

هذا ليلحظه الذين يرغبون في مراسلة المجلة ببعض منشآتهم الموافقة لمنهجها.

ومن أجل أن يكون جهاد هذه المجلة متصلاً بالحركة الفكرية في البلاد

الأوروبية أنشئ في إدارة المجلة قسم لترجمة ما يجيء في الصحف الأجنبية من

مباحث علمية أو مقالات يُتحدَّث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء

مقالة في الإسلام صدرت من غير منصف إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأ كاتبها

ناقلاً كان أو مدعيًا.

هذا غرض المجلة وهو بلا ريب غرض نبيل، وهذه خطتها وهي كما عرفت

خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل) .

اهـ.

(المنار)

علمنا من هذا البيان المنقول من المجلة أنها مجلة رسمية تابعة لمشيخة

الأزهر، فهي المسئولة عنها، ويعد كل ما ينشر فيها من أقلام محرريها ومديرها

صادرًا عن المشيخة نفسها، وتعد هي مقرة له ومعترفة به، وكذا ما ينشر فيها من

الرسائل المنشأة لغيرهم أو المترجمة إذا سكتت المجلة عليه ولم تتعقبه بنقد ولا

تصحيح، وهذه مزية لها تجعل تبعتها على المشيخة عظيمة، وتكون ثقة الناس

بصحة ما فيها بقدر ثقتهم بالمشيخة في جملتها، كأنه فتاوى صادرة عنها.

وقد كان من موانع إنشاء المشيخة لمجلة إسلامية علمية في السنين الخالية ما

كان من البُعد الشاسع بين تعليم الأزهر الديني واللغوي الإنشائي وما تجدد من حاج

العصر، فقلما كان يوجد في الأزهر مَن يستطيع أن يكتب في بيان عقائد الدين وآدابه

وحكمة تشريعه والدفاع عنه ما تقبله عقول غير طلاب الأزهر وترجى استفادتهم

منه، وكان أول من أرشدهم وأرشد غيرهم في هذا القطر إلى الإنشاء العصري في

أساليبه وموضوعاته السيد جمال الدين الأفغاني، ولكنهم ناوؤوه وناوؤوا تلاميذه

ومريديه، وكانوا يعدون الاعتراف بحاجتهم إلى أي علم من العلوم - غير ما

يتداولونه بينهم - أو إلى أي إصلاح لمنهاج التعليم، إقرارًا بنقص الأزهر ونقص

أهله، ووضعًا من عظمة قدره وشهرته!

لهذا أعد أول مأثرة للمشيخة الحاضرة ولفضيلة رئيسها الشيخ محمد الأحمدي

في هذا الطور الجديد أنه ناط الأعمال الرئيسية في المجلة الأزهرية برجال من غير

خريجي الأزهر، وهي إدارة المجلة ورياسة تحريرها وكتابة أهم مباحثها وأعلاها

وأشدها توقفًا على فنون اللغة وعلوم الشرع وهي مباحث التفسير والحديث؛ فالمدير

العام للمجلة والمقترح لها وهو صاحب العزة عبد العزيز بك محمد من خريجي

مدرسة الحقوق وقضاة المحاكم الأهلية، وقد جعل عضوًا في مجلس الأزهر الأعلى

هو وآخرون من أمثاله من قبل الحكومة بناءً على نظرية حاجة الأزهر إلى رجال

من غير أهله لإصلاح شأنه وتنفيذ قانونه، وهو كفء لهذا وذاك، ورئيس التحرير

صاحب الفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين من علماء تونس وأدبائها وقد أُعطي

لقب عالم في الأزهر بامتحان خاص وصفة استثنائية وجعله الشيخ محمد مصطفى

المراغي شيخ الأزهر السابق مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة

استثنائية أيضًا، وهو كفؤ لهذا وذاك، ولكنني عجبت له كيف لم يذكر اسم الشيخ

محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبها لهذه المجلة في فاتحة

العدد الأول؛ مع علمه بأنه هو الذي وضع مشروع المجلة في قانون الأزهر الجديد

وفي ميزانية هذه السنة وخصص لها هذا المبلغ العظيم (ستة آلاف جنيه) وأنه هو

الذي بذل جهده لإقرار الحكومة هذه الميزانية، فله الفضل الأول في تنفيذ هذا

المشروع كما أن له الفضل عليه نفسه، وإن لم يكن من أعضاء جمعيته أو حزبه،

ويجب أن يكون الدين والتاريخ فوق الأحزاب والجمعيات {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ

أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) .

وأما كاتب التفسير والحديث في المجلة الأستاذ الشيخ حسن منصور فهو من

خريجي مدرسة دار العلوم الأميرية؛ ولكنه كان يحضر دروس التفسير معنا على

الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وهذا مرجح له على غيره ممن لم يحضر تلك

الدروس العالية من علماء الأزهر وفيهم من كان يحضرها. ثم إن من المحررين

الموظفين للمجلة صاحبي الفضيلة الشيخ يوسف الدجوي والشيخ إبراهيم الجبالي

وكلاهما من هيئة كبار علماء الأزهر.

إنني أستقبل هذه المجلة بالترحيب والترجيب والتحبيب ولا أرى أن أذكر الآن

رأيي في تحريرها ومسلكها في موضوعاتها، وقد كنت كتبته قبل صدورها في

تقرير قدمته إلى الأستاذ المراغي بطلبه، وإنما أقترح على المشيخة الجليلة

اقتراحين، وأذكرها برأيي في أمرين، أراهما من الواجب عليَّ الآن.

(الاقتراح الأول) أن لا يذكر في المجلة حديث نبوي إلا مقرونًا بتخريجه

وبيان درجته من الصحة وما يقابلها، وأن يتولى ذلك مَن يعنون بعلم الحديث في

الأزهر. وقد رأيت المدير الفاضل يعنى بهذا ولكنه لا يستقصيه، وقد أورد في

ترجمته للفصل العاشر من السيرة النبوية التي كتبها بالفرنسية المرحوم (اتيين

دنييه) الفرنسي المهتدي وسليمان بن إبراهيم الجزائري - هذه العبارة: (وقد

حصل في فرنسة وفي بلاد أخرى من أوربة وإفريقيَّة وآسية دخول أشخاص في

الإسلام فرادى وربما كان ذلك مصداقًا لهذا الحديث النبوي الذي معناه) قد يؤيد الله

هذا الدين بالغرباء منه " وقد وضع المدير لهذا الحديث حاشية هذا نصها: لا يعرف

حديث بهذا المعنى بل الإسلام صلة ولُحمة بين جميع المسلمين مهما اختلفت

أجناسهم وتباعدت أوطانهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) اهـ.

ولكن الحديث مروي في الصحيحين كليهما وفي غيرهما. ولفظه فيهما: (إن الله

يؤيد الدين بالرجل الفاجر) وفي الطبراني: (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من

أهله) .

(الاقتراح الثاني) أن ترغّب أصحاب العلم والرأي والقلم من أهل الأزهر

في التحرير في المجلة بتعيين مكافأة مالية لمَن يجيد كتابة موضوع تتجوده المشيخة،

فإن هذا أمر معهود في المجلات الغنية التي يصدرها الأفراد، فأحرى بمجلة غنية

لمصلحة كبيرة خُصص لها ألوف الجنيهات من الأوقاف أن تفعل ذلك.

وأما الرأي الذي أذكِّرها به فهو أن تنصلها من السياسة أن تمسها في أي شأن

من شؤونها هو تضييق على نفسها وحرمان لمحرريها من حرية خدمة الإسلام

والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها غير سياسة الحكومة الداخلية

والخارجية وأحزاب الأمة كالسياسة العامة والدفاع عما يصيب مسلمي مصر

وغيرهم من رزاياها ومصابها، فالإسلام دين سياسة وسيادة وتشريع يشمل جميع

شؤون البشر فلماذا يحظر رجال الدين على أنفسهم بعض ما يجب عليهم بيانه منها

مما لا يوجد في الكتب المدونة لأنه مما تجدد في هذا العصر؟ ! وإذا لم يوجد في

المجلة إلا ما هو في الكتب استغني بالكتب عنها؟

ومثل هذا قولها: إنها (لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال

الأديان بمكروه من القول) أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن تطعن في الأديان بالبذاء

والسفاهة كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم على الإسلام ولكنها لن تستطيع

أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية المهاجمين للإسلام في مصر

وغيرها مع تجنب كل ما يكرهونه من قول، والله تعالى يقول: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم

مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ} (التوبة: 12) الآية، فإذا

كان العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان،

ومجادلتهم بالتي هي أحسن وإن كرهوها، وأما تعليله لذلك فهو غير مسلَّم من

وجهين:

(أحدهما) أن هذا الذي تخشاه من الفتن والتفرقة في الوطن غير مخشي

في مصر التي اعتادت الحرية وسماع المناقشات الخارجة عن قانون الأدب فكيف

يخشى ذلك من مجلة تلتزم فيها أكمل الأدب؟ ! .

(ثانيهما) أن هذه المجلة تجب أن تكون للإسلام ولجميع الأوطان الإسلامية

لا لمصر وحدها.

_________

(1)

قد سبق إلى إنشاء مجلة دينية بهذا الاسم المرحوم الشيخ أمين أبو يوسف المحامي.

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من جاوة

(س24-26) من صاحب الإمضاء.

الحمد لله وحده.

إلى مدير مجلة المنار الغراء السيد محمد رشيد رضا أدام الله سلامته.

سلامًا واحترامًا. وبعد:

فبما سمعنا بفضلكم وغيرتكم على الدين الإسلامي حتى إنكم خصصتم فصلاً

من فصول مجلتكم لإقناع المستفهمين - حررت هذه الأسئلة الثلاثة راجيًا من

حضرتكم أن تجيبوني عليهن ولكم عني وعن الإسلام أحسن جزاء، ولتمام النفع

أختار أن ينشرن على صفحات مجلتكم. وهذه هي:

(1)

ما حكم عبيد حضرموت هل هم عبيد حقيقيون أي تمشي عليهم أحكام

العبيد في الإسلام؟ ، مع العلم أن العبيد في الشريعة هم أسرى الكفار لا غير.

والذين نحن بصددهم خلاف ذلك، ولا أخالكم تجهلون الطريقة في استعبادهم.

(2)

ما حكم الدعاء بعد صلاة التراويح والوتر؟ وهل ورد عنه صلى الله

عليه وسلم أو عن أحد صحابته رضوان الله عليه فعل ذلك؟ وما هي سننه صلى

الله عليه وسلم فيها (التراويح) ، أجيبوا بإيضاح.

(3)

ما حكم شرب الدخان (السجارة) في نهار رمضان، هل هو من

مفطرات الصائم، وما الدليل الواضح في ذلك؟ ، أجيبونا مأجورين ودمتم في حرز

الله والسلام.

...

...

...

سعيفكم في الإصلاح

...

...

...

عبد الله بن عبد الله بن نبهان

...

...

...

... بانفيل (جاوة)

(جواب المنار)

(24)

حكم عبيد حضرموت:

الحق أنني ليس عندي علم خاص بطريقة استعباد الناس في حضرموت، وقد

بينت في المنار من قبل أن المعروف من طرق الاسترقاق للسودانيين في إفريقية

وللبيض في بلاد القوقاس وغيرها كله غير شرعي؛ فإن الرق الشرعي المعروف لا

مجال له في تلك البلاد ولا في حضرموت قطعًا، فليس هناك حرب دينية ولا إمام

يسترق السبايا إذا وجد ذلك من المصلحة العامة، وإنما قد يتصوّر على بُعد أن

يوجد رقيق موروث بالتوالد؛ فإن كان يوجد عند المستعبِدين لهؤلاء الأحرار - فيما

نعتقد - حجة على استرقاقهم لا نعلمها أو رقيق موروث فليبينوا ذلك لنا لرفع التهم

الكثيرة عنهم.

***

(25)

صلاة التراويح والوتر والدعاء بعدهما:

المراد بصلاة التراويح صلاة الليل بالجماعة في رمضان خاصة، وصلاة

الليل مشروعة في كل الشهور، وهي تتأكد في رمضان كسائر الطاعات فيه لفضله،

ولصلاتها بالجماعة أصل في السنة؛ ففي حديث عائشة المتفق عليه أن النبي

صلى الله عليه وسلم صلَّى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله

عليه وسلم فلما أصبح قال: (رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا

أني خشيت أن تفترض عليكم) وذلك في رمضان. اهـ. وفيه رواية أخرى

مفصلة عند الإمام أحمد، وحديث بمعناه عن جبير بن مطعم عن أحمد

وأصحاب السنن الأربعة.

أما عدد الركعات التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي

رمضان فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه ما كان يزيد في رمضان

ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة. وفي صحيح ابن حبان من حديث جابر رضي

الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثماني ركعات ثم أوتر. فعلم أن تهجده

ثمانٍ ووتره ثلاث فتلك إحدى عشرة.

وأما اجتماع الناس لهذه الصلاة جماعة في المساجد فقد كان في عهد عمر

رضي الله عنه، فإنه دخل المسجد فرأى الناس أوزاعًا متفرقين هذا يصلي وحده وهذا

برهط يؤمهم، فكره تفرقهم - وهو مكروه بالإجماع - فقال: إني أرى لو جمعت

هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ولما رآهم

في ليلة أخرى يصلون جماعة واحدة قال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها

أفضل من التي يقومون بها. رواه البخاري. ويعني عمر أن صلاة التهجد في آخر

الليل التي ينام عنها هؤلاء أفضل من هذه الصلاة التي يصلونها في أوله لأنها هي

المراد بالتهجد الموافق للسنة بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مفروضًا

عليه صلى الله عليه وسلم. ومراده بتسميتها بدعة أنها بهذا الشكل والوقت والالتزام

لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها وإن كان صلاها جماعة في بعض

الليالي. ولعل عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه لو نهاهم عن فعلها بهذه الصفة

وأمرهم أن يجعلوا قيامهم بعد النوم لمن ينام، وفي جوف الليل أو آخره لمن لم يَنَمْ

وأن يكون في بيوتهم وهو الموافق للسُّنَّة المطّردة من كل وجه - أنهم يتركونها، فإن

لم يتركوها كلهم كسلاً تركها بعضهم ونام عنها آخرون، فتعارض عنده هذا الذي

قال إنه خير مما جمعهم عليه مع ترك هذه السنة المؤكدة ولو من البعض، أو فعلها

في المسجد مع التفرق المذموم في الشرع كما رآهم أول مرة، فاختار ما هو وسط

بين المكروه - وهو التفرق - وبين الأفضل.

وأما الدعاء بعدها أو بعد غيرها من الصلوات كما يفعل الناس في المساجد

بالاجتماع ورفع الأيدي ورفع الإمام أو المؤذن صوته به وتأمين الآخرين فهو بدعة

من هذه الوجوه كلها، ولكل أحد أن يدعو الله بما يشاء بعد الصلاة كسائر الأوقات

ولكن تخصيص العبادة بالاجتماع والصفة والوقت يجعلها من الشعائر التي تتوقف

على إذن الشارع. وليس لأحد أن يبتدع مثل هذا بالقياس على فعل عمر؛ فإن

عمر لم يبتدع عبادة جديدة ولا هيئة فيها ولا شعارًا لا أصل له، فإن النبي صلى

الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة في بعض ليالي رمضان. ولكن الناس ابتدعوا

بعده في هذا القيام، فمنعهم عمر وكان ما حملهم عليه اجتهادًا بترجيح أقوى

العملين المتعارضين على الآخر، والاجتماع للدعاء ليس مثله إن صح أن يقاس

على الاجتهاد، ثم إن عمر من الخلفاء الراشدين الذين جعل النبي صلى الله عليه

وسلم سنتهم كسنته في حديث العِرْباض بن سارية إذ يقول: (فعليكم بسنتي وسنة

الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم، ومحدثات الأمور فإن كل

بدعة ضلالة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وهو صريح

في أن سنة الخلفاء الراشدين كسنته لا تعد بدعة، وناهيك بما وافق عمر عليه

الصحابةُ رضي الله عنهم وأقروه.

وقد روى أحمد والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي

صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: (إني لا أدري ما قَدْر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من

بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم به

ابن مسعود فصدقوه) .

ومع هذا نرى الأئمة قد اختلفوا في الأفضل في قيام رمضان فقال مالك وأبو

يوسف وبعض الشافعية: الأفضل فعلها فُرادى في البيت. وذهب الجمهور إلى أن

الأفضل صلاتها جماعة عملاً باجتهاد عمر الذي أقره عليه الصحابة وجرى عليه

العمل سلفًا وخلفًا.

ولا يعد عمل المتأخرين بالاجتماع للدعاء بعد صلاة التراويح ولا ما يفعله بعض

الجماعات من الأناشيد والأذكار ومدح الخلفاء الراشدين وغيرهم من أهل البيت

والصحابة رضي الله عنهم من ذلك، بل هو من بدع المتأخرين المقلدين،

والذي يظهر لي أن هذه البدع مانعة من كون حضورها والموافقة عليها

أفضل من صلاتها فرادى في البيت أو جماعة في أي مكان آخر مع التزام السنة.

وأن بعض المحافظين على السنة من إخواننا يصلونها جماعة ولا يزيدون على ما

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة المتقدم ولا يأتون معها ولا بعدها

ببدعة قط.

وقد ذكر العلامة الشاطبي في (الاعتصام) ما يأتيه الناس من الأذكار والدعاء

في أدبار صلاة الجماعات في قسم البدعة التي عبر عنها بالإضافية، وهي ما كان

الابتداع في صفتها أو الاجتماع لها ونحو ذلك لا في أصلها. وذكر خلاف علماء

بلادهم الأندلس فيها، وما حققه من كونها بدعة دينية غير جائزة شرعًا هو الحق،

وشبهة الدين استحسنوها ضعيفة وهي أن أصل الذكر والدعاء مشروع فلا يضر

جعله بصفة غير مشروعة كالاجتماع والتوقيت ورفع الصوت. وحسبك من بطلانها

الاعتراف بأن صفتها غير مشروعة، وأن العمل بها وإقرارها يجعلها كالشعائر

المشروعة، وأن العامة تعتقد به أنها مشروعة حتى أنهم ينكرون على تاركها ولا

سيما إذا أنكر مشروعيتها؛ فيكون ذلك اعتقاد شرع لم يأذن به الله، ويعد من

الافتراء على الله.

***

(26)

شرب الدخان في رمضان

ما علمت أن أحدًا من فقهاء المسلمين قال: إن شرب هذا الدخان غير مفطر

للصائم؛ ولذلك أستغرب هذا السؤال، ولا شك في أن مادة هذا الدخان تدخل في

الجوف وأنها تؤثر في شاربه تأثيرًا ينافي الصيام وحكمته، ولذلك اتفق جميع الناس

على تسمية التدخين شربًا، فشرب الدخان مبطل للصيام قطعًا.

_________

ص: 189

الكاتب: أحمد محمد شاكر

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تفسير القرآن الحكيم

تقريظ العالم العامل والقاضي الفاضل

خادم السنة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر

القرآن كتاب الله إلى خلقه، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة، أو هو كما

وصفه به سبحانه وتعالى {بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه} (إبراهيم: 52) ونِعم

البلاغ.

نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية، وتعمها

الجهالة العمياء، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي،

فصاروا أمة على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، وهم يد على مَن سواهم. وبعد

أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم، ولا يحميهم منهم

إلا بَيْداؤهم المحرقة - غزوا أعداءهم وفتحوا بلادهم واستنزلوهم عن ملكهم،

فصاروا سادة الأرض، كل هذا في بضع عشرات من السنين، وكل هذا بهداية الله

لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه.

ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض، وأرقى ضروب الحكمة،

فلما اهتدوا به ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته - كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم،

قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم.

وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض، من عدل وحرية ومساواة بين

الناس، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره

وفي كل حالاته.

ثم مرت عصور وأزمان، وإذا المسلمون متفرقون، وإذا هم مستعبَدون،

وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا

مَن كانوا في الحضيض، إذ هم في الذروة، وإذا هم يهجرون القرآن.

ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا - تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه بأن

الرسول الأعظم سيد الخلق عليه السلام سيشكونا إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ

إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) .

تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه صلى

الله عليه وسلم، إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم - لما كانوا على ما نرى من ضعف

واستكانة وذلة، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم، ونفوسهم حاجة إليهم.

أخذ الصدر الأول والسلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويعلمونه

للناس، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث، لا يرضون حكمًا في

دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له، نزولاً

على حكم الله، فكان علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون،

وكانوا كلهم بهذا مجتهدين.

ثم ضعفت النفوس والهمم، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن

أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح، فصار بعض العلماء يقلد مَن

سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام، عن غير أمر منهم أو مشورة، بل مع

نهيهم رضي الله عنهم عن التقليد.

فكان هذا بدء الضعف، ثم توالت العصور، فإذا المقلد مقلَّد، وإذا الأمر

فوضى، وإذا هم فرق وشيع، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية

المذاهب!

وأمامك تاريخ المسلمين، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن، فكلما بعدوا عن

كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم.

ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة أنشأ علماء الإسلام

يفسرون لهم كتاب الله، وكلٌّ على قدر همته، فكثرت أنواع التفاسير للسلف

والخلف، متقدمين ومتأخرين، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها، وقد

يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من

الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن، ولم تفرط أمة في حفظ ما

كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا. فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين؟ !

ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلا تفسير أبي

جعفر الطبري المتوفَّى سنة 310، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم

مقلدين.

ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث

مرفوعة، وآثار موقوفة، وباستنباط أحكام الفقه منه، تعليمًا للناس كيف يفهمون

وكيف يصلون إلى الاجتهاد.

ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى

لها ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ.

حتى أن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن

الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها، ولا إلى استنباط حكم، بل ولا إلى الثقة

بالنقل، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة وبأحاديث موضوعة، من

غير تحرٍّ في الرواية، ولا استعمال لموهبة العقل السليم.

وبالله، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد -

يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة

(العالِمية) وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا - ما عرف كيف ينبغ في المماحكات

اللفظية.

ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ

الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي

كتابها، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذه

السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان - فيما أظن - يرمي

بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه،

ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم

على ما كانوا عليه.

ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد

محمد رشيد رضا صاحب (المنار) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها

وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء

القرآن الكريم، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من

روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من

العاشر.

فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه

هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح

الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على

كثير من العلماء والمفسرين.

ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا

متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي

الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها -

ما جعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه.

ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله

فيها، وأرشد إلى الموعظة بها. وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها. وأعلن

حجة الله على الناس.

فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن

اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما

يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة

العالية، والقوة النادرة. لله دره!

وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية، وكأنه لم يترك بعده

قولاً لقائل، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم. وهذا قيام بواجب

قصَّر فيه أكثر المسلمين، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا

صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها،

وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة

للإسلام، وهي أمة البربر المجيدة. وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من

أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين.

ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في

شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلاً دقيقًا

وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن

الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما

ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من

أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة

ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم.

وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد.

بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين.

وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه

من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن

يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها

بالجهالات المتكررة.

ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها

ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً، بل لا تدفع عنه مَن أراد

به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة.

فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه،

وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم.

ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم

يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث

فيها، وذلك بحول الله وقوته.

...

...

...

...

أحمد محمد شاكر

...

...

...

...

القاضي الشرعي

_________

ص: 193

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آفة الشرق

أمراؤه المستبدون

وزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون

!

(خاتمة المقصد الثالث من الباب الخامس من تاريخ الأستاذ الإمام)

نختم الكلام في خدمة الإمامين الحكيمين للإسلام والشرق فيما فاضت به حكمة

الأول على بلاغة الثاني في جريدة العروة الوثقى بهذه الحقيقة التي وضعنا لها هذا

العنوان، فلقد كان الناس غافلين عنها فبينَّاها لهم أبلغ البيان، وشر مفاسد هؤلاء

الأمراء والزعماء في هذا العصر غرورهم بالأجانب الطامعين في بلادهم، ولو

عقلوها لتمكنت حقيقتها من عقولهم، ولو فقهوها لرسخت عبرتها في قلوبهم ولمَا

تكررت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تلك الرزايا التي انتزعت ممالكهم من

أيديهم، ومن العجائب أنها لا تزال تتجدد، ولا يزال مدَّعو الإيمان يُلدغون من

الجُحر الواحد مرارًا كثيرة. وقد قال رسولهم فيما صح عنه: (لا يلدغ المؤمن من

جُحر واحد مرتين) رواه البخاري ومسلم.

فلا عجب إذًا فيما يصدر عن ملاحدة المسلمين الذين لا حظّ لهم من حكمة

الإسلام وهدايته الصادّتين عن هذا الفساد، ورضاهم بأن يكونوا أعوانًا للأجانب

على استعمار البلاد، وهذا ما لا نزال نشاهده في كل عام {أَو َلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ

فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

طرقت العروة كل باب من أبواب هذا الموضوع ففُتح لها ودخلت منه فلم تدَع

في زواياه خبيئة إلا واستخرجِها. أنشأت له مقالات خاصة، وجعلته مضرب

الأمثال في المقالات العامة. وقد ورد فيما أثبتنا من الشواهد بعض هذه المُثل

والإشارة إلى بعض تلك المقالات، ونأتي في هذه الخاتمة بشواهد ومثل أخرى وهي:

المثال الأول

استيلاء الإنكليز على ممالك

الهند بمساعدة أمرائها

(قال من مقالة افتتح بها العدد الثامن من العروة الوثقى موضوعها: طرد

الإنكليز للجيش المصري وتأليف جيش صغير تولوا قيادته) :

دمر الإنكليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم، وانبثوا بينهم،

فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء، وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال،

والانفصال عن السلطة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا

كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه، فصارت الأراضي الهندية الواسعة

ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى النقود والجنود ليدافع بها عن حقه،

أو يتغلب بها على عدوه، فعند ذلك تقدم الإنكليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا

أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين، وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببُدر الذهب،

وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك

الصغار من عساكرهم الأهلية، ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال، ثم

أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنكليزية وقوادها، وما هم عليه من القوة والبسالة

والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالِبه إلا بالجنود

الإنكليزية.

فأقبل الانكليز على أولئك السذج يضمنون لكلٍّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب

على غيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنكليز، ويكون بعض الجنود من

الهنديين، وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها.

ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى

أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر

بعضهم عن بعض. وصار الإنكليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من

تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها

(عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة

والشيعة والوثنيين!

ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح

الإنكليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض، وأظهروا غاية السماحة،

فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة، وبعضهم بدون فائدة، وينتظرون به الميسرة، حتى

ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء. وبعد مضي زمان كانوا يُومِئون

إلى طلب ديونهم بغاية الرفق، ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية

اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات

الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من

الأرض نستغلها ونستوفي من ديوننا، وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها

لكم، ثم الأرض أرضكم، نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن

خادمون لكم. فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء

استغلالها يؤسسون بها قلاعًا حصينة، وحصونًا منيعة، كما يفعلون ذلك في ثكن

(أي أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية [1] .

وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابًا من الإسراف والتبذير، ويقرضونهم

ويقتضون قرضهم بالقيام على أراضٍ أخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار

العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتدخلون في أمر الصلح، فيجبرون أحد

المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة

من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين،

لكل من المتغالبين!

وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف

قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السير نهايته

واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم، وغُلَّت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكًا

ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية واقية لبلاده،

وكانت تُشحذ لجزِّ عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله، ثم خلفوه

على ملكه.

وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب المُلك، فيخلعون

المالك ويولون الطالب، على شريطة أن يقطعهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا،

فيحولون المُلك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه، ومن العم لابن أخيه، وفي الكل

هم الرابحون!

هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوربا. ما فاجأوا أحدًا بحرب

وما اختطفوا ملكًا بقوة مغالبة، بل ما أعلوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة

إلا بعدما أيقنوا أن لا قوة لحاكمها ولا أهليها، ولا بما تطرف به أجفانهم.

أولئك الإنكليز باقعة العالم وأحبال الحيل، يريدون اليوم طرد العساكر

المصرية، وأرض مصر لا تحرسها الملائكة، فلا تستغني عن حامية، فإن تم لهم

ما أرادوا زينوا لبعض ذوي السلطة في مصر أن يطلب منهم جندًا إنكليزيًّا يكون

خادمًا له وحافظًا لملكه، فإن لم يقبل داروا بحيلتهم تحت أستار التمويه على كل مَن

له حق في الولاية على تلك البلاد يعرضونها عليه، حتى يعثروا بمن يقبل نصحهم

أو غشهم ذهولاً عن حقيقة القصد، فيقيمونه حاكمًا خلفًا لمن لم تسمح ذمته بالقبول،

وتكون رغبة المغرور حجة لهم عند أوربا.

هذا سر انقلاب الإنكليز على الجند الوطني وقدحهم في سيرته بعد الثناء

على حسن استعداده، وسعيهم إلى طرده بالأدلة الواهية، والعلل الواهنة.

***

المثال الثاني

استعباد الأجانب للأمم بقوة رؤسائها [*]

إن في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار

كيف يمكن لقوة أجنبية تصول على أمة من الأمم أن تسود عليها، وتستعبدها

وتذللها للعمل في منافعها، مع التخالف في الطباع والعوائد والأفكار ووجود المقاومة

الطبيعية، فضلاً عن الإرادية؟

إن الوحشة المتمكنة في نفس كل واحد من الأمة، وظن كل فرد أنه في خطر

على روحه وماله إذا غلبه الغالبون - تحمله على المدافعة عن أمته، كما يدافع

عن بيته وحريمه، فلا يتسنى للقوة المغيرة أن تذل الأمة إلا بإفنائها عن آخرها،

أو إفناء الأغلب حتى لا يبقى إلا العجزة والزمنَى، هذا أمر طبيعي وحكم بديهي

متى كانت الغارة على الأمة.

نعم، يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أمة عظيمة بدون تناحر إن كان لهذه

الأمة حاكم أو رئيس روحاني تجتمع عليه قلوبها، وتدين له رقابها لمنزلة له في

أفئدة أبنائها، ولمكان آبائه من الكرامة في نفوسهم، فلا تحتاج القوة الغالبة إلا إلى

إيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه

بالأماني والآمال فيذعن لما تقضي به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعًا

له؛ ولهذا ترى طلاب الفتح وبغاة الغلب ينصبُّون قبل سوق الجيوش وقود الجنود

على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها، فيخلعونها

بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني فينالون بُغيتهم ويأخذون

أراضي الأمم.

وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنكليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا

ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري وقبض الإنكليز أول الأمر

على تلك العقدة لما تيسر للبريطانيين أن يُخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة.

هذه قبائل الأفغان عندما انحلَّت ثقتها بأميرها وصار الأمر إلى الأمة - قامت

كل عشيرة - بل كل فرد - للدفاع عن نفسه بعدما تمكنت عساكر الإنكليز في قلاعهم

وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنكليزية وهزموا قوتها

وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفًا من الجيوش المنتظمة مسلحة بالأسلحة

الجديدة، واضطر الإنكليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها.

لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصًا واحدًا أو أشخاصًا محصورين

بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقع

أهوائهم، ويأتيهم من أبوب رغائبهم، لكن يتعسر - بل يتعذر - عليه أن يأخذ

أمة بتمامها، وعقولها مختلفة عليه، ونفوسها في وحشة منه، اللهم إلا بالإبادة

والتدمير.

من هذا تجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أقتالهم [2] بل

ومَن هو أشد منهم قوة، ولكنهم يَفْرَقون [3] بل تذهب أفئدتهم هواءً إذا أحسوا بميل

الأمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلة تحت الضبط، وأما آحاد الأمم

وقواها فلا تضبط ولا تستطاع مقاومتها، إذا تعاصت وشحت بنفسها عن الذل

لسواها.

إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوى فعالة لنموها وعلوها

وعظمها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علة فاعلة في سقوطها

وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف - ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكون أمراؤنا

والأعلَوْن منا آلة في اضمحلالنا وفنائنا، لما غلب عليهم من الترف والانهماك في

اللذائذ والانكباب على الشهوات، مع سقوط الهمة وتغلُّب الجبن والحرص والطمع

على طباعهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.

***

المثال الثالث

رأي (العروة الوثقى) في معاقبة الأمم للأمراء

والرؤساء الذين يكونون أعوانًا للأجنبي عليها

(قال في آخر مقالة وجيزة موضوعها الأمة وسلطة الحاكم المستبد، وصف

فيها حال الأمة مع الحاكم المستبد المصلح الحكيم، وحالها مع المستبد الجاهل

الأحمق المتبع للهوى، ما نصه:

عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله

بها خيرًا اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه

الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة

القاتلة بين جميع الأمة فتميتها، وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا

العضو المجذوم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة

طيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وجددوا لهم بنيةً

صحيحة سالمة من الآفات؛ استبدلوا الخبيث بالطيب.

وإن انحطَّت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم

يصرفها كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة ووصمة العار بين

الأمم، جزاء على ما فرطوا في أمورهم. {وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:

46) . اهـ.

(المؤلف)

خلاصة هذا الإرشاد أن الأمم لا تُرجَى لها سيادة ولا سعادة ولا حرية ولا

استقلال إلا إذا عرفت نفسها، وجمعت كلمتها، وكان أمرها بيدها، ومَن خانها أو

أساء إليها عاقبته، ويجب عليها ألا تولي شيئًا من أعمالها لأحد من المفتونين بحب

الرياسة على قاعدة الإسلام: طالب الولاية لا يولَّى [4] ، وقال الخليفة الأول -

رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد مبايعته: (وُليت عليكم ولست بخيركم

فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) .

كانت هذه الحقائق مجهولة عند قراء العربية قبل بيان العروة الوثقى لها

بأفصح العبارات وأقواها تأثيرًا، ثم رأوا مصداقها في مصر وتونس، ثم في

المغرب الأقصى، ثم في البلاد العربية الآسيوية، فآفة الشعوب الجاهلة المتفرقة

أمراؤها ورؤساؤها وزعماؤها، ويليهم مَن دونهم من المتفرنجين الذين يتخذ منهم

الأجنبي السالب لاستقلالها صغار العمال لكل ما يحتاج إليه من عمل في إدارة

حكومتها، مما لا يليق بالأجنبي أو لا يوجد في أفراده من يكفي للقيام به، ومن

قواعد سياسة الأجانب أنهم لا يستخدمون في حكومة البلاد التي ترزأ بسيطرتهم

عليها إلا من يعلمون بالاختبار الدقيق أنه مخلص لهم ولو في خيانة بلاده! وقد

سبق في العروة الوثقى أن الإنكليز لو وجدوا في بلاد الأفغان عندما دخلوها

محاربين واحتلوا عاصمتها (كابُل) أمثال هؤلاء الرجال الذين يعرفون لغتهم، وقد

فتنوا ببهرج مدنيتهم - لما خرجوا أو يخرجوا من الهند، ولكنهم وجدوهم وغيرهم

في بلاد أخرى من أبناء البلاد ولا يزالون يجدون مَن لولاهم لم يستقر لهم قدم، ولم

يرفع لهم علم، وأين مَن يعقل ويفهم؟ !

_________

(*) مقالة نشرت في العدد العاشر من العروة الوثقى بعنوان الآية.

(1)

وكذا يفعلون الآن في البلاد العربية التي يريدون أن تكون هندًا ثانية.

(2)

أي أمثالهم.

(3)

يفرقون: يخافون، فهو كـ (يرهبون) وزنًا ومعنى.

(4)

روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أبي بريدة عن أبي موسى رضي الله عنهما أن رجلين من قومه (الأشعريين) سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمِّرهما فقال: (إنا لا نولي هذا الأمر مَن سأله ولا من حرص عليه)، هذا لفظ البخاري في كتاب الأحكام وله في استتابة المرتدين أنه قال:(لا نستعمل على عملنا مَن أراده) .

ص: 198

الكاتب: عبد الحميد سعيد

‌نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*]

وإلى علماء الحرمين الشريفين، ورجال المعاهد الإسلامية من أعلام الأزهر

وملحقاته في المملكة الإسلامية، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في

فاس، ومعهد ديوبند في الهند، ومعهد النجف في العراق، وإلى الجمعيات

الإسلامية في أنحاء الأرض، ولا سيما جمعيات الهند: جمعيات الخلافة في بومباي،

وجمعية العلماء في دهلي، وجمعية أهل الحديث في دهلي. وجمعيات إندونيسيا:

اتحاد الإسلام في سومطرا، وشركة إسلام في جاوة، والجمعية المحمدية في

جكجاكرتا وإلى المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، والمجلس الإسلامي في

بيروت، وإلى جمعية ترقِّي الإسلام في الصين، وإلى الصحف الشرقية على

اختلاف لغاتها ولهجاتها:

إن أمة البربر التي استهدت بالإسلام منذ العصر الأول، والتي طالما اعتمد

عليها الإسلام في فتوحه وانتشاره، وطالما استند إليها مستنجدًا أو مدافعًا في خطوبه

العظمى.

هذه الأمة التي سارت مع طارق إلى أسبانيا، ثم مع عبد الرحمن الغافقي إلى

فرنسا، ومع أسد بن الفرات إلى صقلية.

هذه الأمة التي كانت منها دولتا المرابطين والموحدين، فكانت لها في تاريخ

الإسلام أيام غراء مجيدة.

هذه الأمة التي ظهر منها العلماء الأعلام، والقادة العظام، والتي لرجالها في

المكتبة الإسلامية المؤلَّفات الخالدة إلى يوم الدين.

هذه الأمة التي تبلغ في المغرب الأقصى وحده أكثر من سبعة ملايين نسمة [1]

تريد دولة فرنسا الآن إخراجها برمتها من حظيرة الإسلام بنظام غريب تقوم به

سلطة عسكرية قاهرة ممتهنة به حرية الوجدان، ومعتدية على قدسية الإيمان، بما

لم يعهد له نظير في التاريخ.

لقد وردت على مصر كتب من الثقات في المغرب الأقصى تذكر أن فرنسا قد

استصدرت ظهيرًا سلطانيًّا تاريخه 17 ذي الحجة سنة 1348 (16 مايو سنة

1930) ونشرته الجريدة الرسمية في المغرب بعددها رقم 919 تنازل فيه سلطان

المغرب لها عن الإشراف على الأمور الدينية لأمة البربر، وإن فرنسا قد بدأت

بالفعل في تنفيذ ذلك الظهير، فقامت السلطة العسكرية في المغرب الأقصى تحُول

بين ثلاثة أرباع السكان وبين القرآن الذي كانت به حياتهم مدة ثلاثة عشر قرنًا،

فأبطلوا المدارس القرآنية ووضعوا قلوب أطفال هذه الملايين وعقولهم في أيدي أكثر

من ألف مبشر كاثوليكي بين رهبان وراهبات، يديرون مدارس تبشيرية للبنين

والبنات. وأقفلوا جميع المحاكم الشرعية التي كانت في تلك الديار، وأجبروا هذه

الملايين من المسلمين على أن يتحاكموا في أنكحتهم ومواريثهم وسائر أحوالهم

الشخصية إلى قانون جديد سنّوه لهم، أخذوه من عادات البربر التي كانت لهم في

جاهليتهم، وهي عادات لا تتفق مع الحضارة ولا تلائم مستوى الإنسانية، وحسبنا

مثالاً على انحطاطها وقبحها أنها تعتبر الزوجة متاعًا يعار ويباع، وتورث ولا

ترث. وأنها تجيز للرجل أن يتزوج ما شاء كيف شاء ولو أخته فمن عداها في عقد

واحد، وأن قانونًا كهذا القانون يسن للمسلمين مخالفًا للإسلام يعد مَن رضي به

مرتدًّا عن الإسلام بإجماع علماء المسلمين.

إن فرنسا التي تبث الدعاية في أمم الأرض بأنها أمة الحرية قد أجبرت رجال

حكومة المغرب المسلمين على أن يتركوا دينهم بتنازلهم عما للسلطان من الحق في

إقامة أحكام الشرع الإسلامي بين رعاياه من قبائل البربر وجماهيرهم، والاعتراف

لحكومة الحماية الفرنسية بأنها صارت صاحبة التصرف في دينهم وأمورهم

التشريعية والتهذيبية، وهو ما لا تملك الحكومة الحق في التنازل عنه. ومنذ

استصدر الفرنسيون ظهيرًا (مرسومًا) من سلطان المغرب بهذا التنازل اعتبروا

جميع المدارس القرآنية ملغاة، وجميع العبادات الإسلامية معطلة، ووكلوا أمر تعليم

أطفال المسلمين إلى الرهبان توطئة لتنصير هذه الأمة عقيدة وعبادة وعملاً، وحالوا

بين جميع مناطق البربر وبين علماء المسلمين ورؤسائهم فلا يتصل بها أحد منهم.

أيها المسلمون: قد أجمع علماؤكم من جميع المذاهب على أن مَن رضي بارتداد

مسلم عن دينه يكون مرتدًّا برضاه عن ذلك، فيجب على جماعات المسلمين وطوائفهم

وجمعياتهم وأفرادهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على هذا العمل المنكر الفظيع،

بكل ما في وسعهم، كُلٌُّ بحسب ما يليق به، فإذا لم ينفع الاحتجاج فكر المسلمون في

الوسائل المجدية. وإن في وسعكم - أيها المسلمون - أن تجبروا دولة فرنسا على

احترام إسلام هذا الشعب الكبير وتركه يتمتع بحريته الدينية والوجدانية؛ لأن حرية

الدين والوجدان حق من حقوق الإنسان يجب على الإنسانية حمايته من عبث

العابثين، واعتداء المعتدين.

لقد سلكت دولة فرنسا مع إخواننا مسلمي المغرب سبيلاً غير سبيل الرفق

والنصح، فجردتهم من وسائل النهوض، وحالت بينهم وبين التعليم الصحيح،

وأنفقت أموال أوقافهم الإسلامية ضد ما وقفت له، واختصتهم بشر النصيبين من

كل ما تتصل به مصالح الوطنيين والأجانب. وإن في المسلمين من كان يعرف هذا

ويتغاضى عنه إلى حين، رجاء أن يجعل الله لأهل المغرب فرجًا من عنده. ولكن

امتداد يد السلطة القاهرة في المغرب إلى دين الإسلام، واعتداءاتها على حرية

العقيدة والعبادة، قد أوصل هذا العدوان إلى الحد الذي ليس بعده حد، فحق على كل

مسلم أن يبادر إلى إنكار هذا المنكر بكل وسيلة يستطيعها.

يجب أن تعلم فرنسا أن الإسلام لم يمت، وأن المسلمين قد استيقظوا، وصار

بعضهم يشعر بما يصيب البعض الآخر من اضطهاد في دينه ودنياه، وأن بناء

مسجد في باريس يؤخذ باسمه ملايين الفرنكات من أوقاف الحرمين الشريفين

وملايين أخرى من الإعانات الجبرية من جميع مسلمي إفريقية مع إعانات أخرى

من سائر العالم الإسلامي - لا يمكن لفرنسة أن تجعله حجة على حرية الإسلام

ومودة المسلمين في مملكتها - التي تسميها أحيانًا إسلامية - مع هذا الجرم الفظيع

الذي شرعت فيه أخيرًا وظنت أنها تنزع به بضعة ملايين من حظيرة الإسلام بنظام

تنفذه قوة عسكرية قاهرة.

إن فرنسة إذا لم ترجع عن هذه الجريمة فإن العالم الإسلامي يعتبر ذلك

مجاهرة منها بعداوته، وسيعلن ذلك على منابر المساجد، وعلى صفحات المجلات

والجرائد، وفي حلقات الدروس الدينية، وفي نظم الجمعيات الإسلامية.

لقد حان حين امتحان أحرار أوربة فيما يدَّعونه من الانتصار لحرية العقيدة

والوجدان، حتى لقد رضوا بكثير من المنكرات التي يعترفون أنها منكرات، وذلك

حرصًا منهم على بقاء الحرية طليقة من قيودها، وإن أقدس الحريات حرية

الوجدان والاعتقاد، وأسوأ ما أصيبت به هذه الحرية في هذا العصر محاولة فرنسة

أن تحول المغرب الأقصى عن إسلامه إلى النصرانية أو ما شاءت أن تحوله إليه.

لقد سمعنا صوت أوربا - حكوماتها وشعوبها - يرتفع عاليًا باستنكار ما فعلته

روسيا البولشفية من إقفالها بعض المعابد، مع أن يد البولشفيك الحديدية امتدت إلى

الحجارة والطوب، ولم تمتد إلى النفوس والقلوب [2] ، فالعالم الإسلامي ينتظر من

أوربا التي احتجت على عمل السوفييت في الكنائس أن تقول لفرنسا كلمتها الصريحة

في عدوانها على دين الإسلام في المغرب الأقصى ومنعها سبعة ملايين من البشر

منعًا رسميًا مؤيدًا بالسياسة والجيش من أن يسكنوا إلى دينهم وأن يتصلوا بإخوانهم

المسلمين اتصالاً روحيًّا يطمئنون إليه ويرتاحون له.

فيا أيها المسلمون إن دينكم مهدد بالزوال من الأرض، فإن فرنسة إذا أمكنها

تنفيذ مشروعها هذا في المغرب فستحذو حذوها جميع دول أوربة في المشرق. وقد

وجب عليكم في هذه الحال بذل أنفسكم وأموالكم في سبيل الدفاع عن دينكم، فما

الذي يمنعكم من الدفاع عنه؟ ! والله يقول: {فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) ويقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ

إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي

الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) ويقول:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)

ويقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .

...

... محمد شاكر

وكيل مشيخة الأزهر سابقًا

عبد الحميد سعيد

...

... محمد رشيد رضا

الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين

...

منشئ مجلة المنار

خليل الخالدي

...

... أبو بكر يحيى باشا

رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين

المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا

علي جلال الحسيني بك

...

... علي سرور الزنكلوني

المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا

... من علماء الأزهر الشريف

محمود أبو العيون

...

... محمود شلتوت

من علماء الأزهر الشريف

...

من علماء الأزهر الشريف

ميرزا مهدي رفيع مشكي

...

محمد عبد اللطيف دراز

من علماء الأزهر الشريف

... من علماء الأزهر الشريف

محمود الغمراوي

...

... عبد المجيد الربيعي

من علماء الأزهر الشريف

...

... من العلماء

الدكتور يحيى أحمد الدرديري

...

محب الدين الخطيب

المراقب العام لجمعية الشبان المسلمين

... منشيء مجلة الزهراء والفتح

صالح جودت بك المحامي

...

... طنطاوي جوهري

عبد الصمد شرف الدين الهندي الفاروقي

محمد الههياوي

محمود يونس الأندونسي

...

السيد محمد عفيفي المحامي

خريج دار العلوم

***

(المنار)

اجتمع أصحاب هذه التواقيع في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة

وبحثوا في المكتوبات التي وردت من المغرب الأقصى في شأن شعب البربر فيه

وأجمعوا على إصدار هذا النداء ووقعوه بأيديهم كما ترى، وقرروا أن تسعى إدارة

جمعية الشبان المسلمين لعرضه على بعض علماء المذاهب في الجامع الأزهر

ووجهاء المسلمين لإمضائه، وبالقيام بتبليغه لمَن هو موجَّه إليهم في العالم الإسلامي

كله - وبتأليف وفد من رئيس الجمعية والسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار

الإسلامي ليذهب إلى الإسكندرية ويرفعه قبل كل شيء إلى صاحب الجلالة ملك

مصر ويرجو صاحب الدولة وكيل ديوانه السامي أن يبلغ جلالته آمال واضعي

النداء في غيرته الإسلامية - وبالقيام بتبليغه إلى رئيس جمهورية فرنسة وجمعية

الأمم وبعض الصحف الأوروبية الشهيرة.

وقد شرعت الجمعية في تنفيذ ما عهد إليها؛ لأنها تعده أقدس الواجبات عليها،

فذهب الوفد إلى الإسكندرية وانضم إليه فيها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد تاج الدين

مراقب التعليم في معهد الإسكندرية الديني من قبل جمعية الشبان المسلمين فيها

فذهب الثلاثة إلى قصر رأس التين ورفعوا النداء إلى دولة رئيس الديوان الملكي

وبلغوه ما كُلفوا أن يبلغوه إياه، وكلموا معالي رئيس الأمناء ورجاله في الموضوع

أيضًا، فقابلهم جميع رجال القصر أحسن المقابلة الدالة على العناية بالموضوع.

وعرض النداء على صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ

الأزهر ليمضيه فأبى ولم يصدر نداءً ولا إنكارًا غيره! ، فاستنكر منه هذا كل مَن

عرفه من المسلمين أولي الغيرة وخاضت فيه الجرائد وكان أشد ما نُشر فيها إنكارًا

وتثريبًا عليه كتاب مفتوح بإمضاء عبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان

المسلمين، ومقالة بإمضاء مسلم نُشرت في جريدة (العلم المصري) . وإنكار جريدة

المؤيد الجديد ولا نستحسن نشر شيء من ذلك في المنار. ولكن أمضى النداء كثير

من العلماء وسائر الطبقات الراقية، وتوالت علينا وعلى جميع الصحف - ولا سيما

الإسلامية - الاحتجاجات بالطعن في الدولة الفرنسية والتحريض على عداوتها

ومقاطعتها، بعضها من الجمعيات المنظمة وبعضها من الجماعات التي اجتمعت

لأجل ذلك في مدن القطر المصري وفلسطين، وقد نشر كثير من ذلك ولا يزال

يُنشر في الجرائد اليومية؛ إذ هي التي تتسع له.

ولم يتصدَّ للدفاع عن فرنسة في هذا العمل المنكر إلا جريدة الأهرام فكذبت

الخبر وهي تعلم صدقه، وطعنت في واضعيه بدون أدب، فردت عليها الصحف

الإسلامية ردودًا شديدة، ووصفوها بالتعصب الفرنسي والمسيحي وكراهة الإسلام.

وردت عليها جمعية الشبان المسلمين ردًّا أدبيًّا لم تَرَ بُدًّا من نشره، ومما ردت به

عليها الجمعية وغيرها أن حكومة فرنسا لم تكذب الخبر وكان وزيرها المفوض

بمصر أحق بتكذيبه لو لم يكن حقًّا وعلى إثر ذلك نشرت الأهرام - ثم غيرها -

البلاغ التالي من قِبَل المفوضية الفرنسية بمصر:

مسألة قبائل البربر

بيان المفوضية الفرنسية

(بترجمة الأهرام)

ترى المفوضية الفرنساوية أن من المفيد نشر البيان التالي بناءً على ما تلقته

من طلبات الاستفهام العديدة عن موضوع نظام الأحوال الشخصية لقبائل البربر في

بلاد المغرب، ففي 16 مايو سنة 1930 أصدر سيدي محمد سلطان المغرب ظهيرًا

يجعل لبلاد البربر نظامًا مشروعًا في المشاكل القضائية.

فهذا القرار الذي يشرك السلطان وفرنسة في خدمة العدالة نحو قبائل البربر

دون مساس بعقيدتهم الدينية الإسلامية هو التتمة المنطقية لظهير سابق صادر من

المأسوف عليه السلطان مولاي يوسف بتاريخ 11 سبتمبر سنة 1914 وفيه التسليم

للبربر بنظامهم الخاص المبني على التقاليد، وعلى حقهم بأن يحتفظوا بنظامهم،

الأمر الذي لم يجادل فيه أي مسلم حتى أشد العلماء تدينًا! .

والست عشرة سنة التي مرت بين صدور الظهيرين بالدرس والتفكير أظهرت

إظهارًا كافيًا أن عمل فرنسة في المغرب لا يتطرق إليه شك بالتسرع والخفة.

والنص الجديد لا يزيد فوق ما تقدم على أن يجعل الواقع المتبع منذ القديم

أمرًا مشروعًا. فليس هناك إذن قرار تحكمي ولا ابتداع بل تقرير مشروعية حالة

موجودة ومرعية منذ أبد الدهور ومعترف بها في الظهير الصادر في سنة 1914

وذلك بالتوفيق بين هذه الحالة والضرورات الحاضرة للقضاء والإدارة.

ويتناول الظهير ثلاثة أمور:

الأول - اختصاص القانون المعترف به بين البربر والجهات الأخرى أيضًا

ضمن حدوده ذاتها.

الثاني - الاختصاص القانوني للجماعة المتبع في جميع الأعمال المدنية

والتجارية وفي الثوابت والمنقولات ونظام الإرث والأحوال الشخصية.

الثالث - إدخال قاضٍ فرنساوي بين العدول الوطنيين في المسائل الجنائية

فقط.

ولا شك بأن هذا الظهير يتفق مع أماني البربر المغاربة كما تدل الرسائل

العديدة التي وصلت إلى رباط بشكر السلطان، والسلطان لا يجد في ذلك انتقاصًا

من سلطته؛ لأن القضاء في بلاد البربر يصدر بعد اليوم باسمه والقضاة يعينون

بقرارات وزارية.

وأقوى سلاطين المغرب وأشدهم تدينًا احترموا دائمًا عادات وتقاليد البربر

المختلفة عن قواعد الشرع! فلم يكن بوسع فرنسا أن تفعل غير ذلك، لا سيما أن

المبدأ الأساسي للحماية هو عدم التدخل في المسائل الدينية.

ويجب أن يكون جميع المسلمين واثقين من الحياد الفرنساوي التام في المسائل

الدينية الصرفة، والبربر مسلمون وسيظلون مسلمين.

وقد قدمت فرنسا في الجزائر من الأدلة على احترام الحرية ما يكفي حتى لا

تتهم بأنها تعمل خفية في الغرب ما لم تعمله أبدًا في الشرق.

وفوق ما تقدم أليس تشجيعًا - وبفضل تنظيم المالية المغربية على يديها -

ترمم الآن المساجد المتهدمة والمدارس التي كانت مقفرة؟ !

***

تعليق المنار على هذا البلاغ

في هذا البلاغ ما يرى القراء من الإبهام والإيهام المعهودين في البلاغات

السياسية، وهو مع هذا يدل على صدق الأنباء التي جاءت من عدة مدائن من

المغرب الأقصى في مسألة البربر، فكانت سبب إصدار البيان العام المتقدم، وعلى

بطلان تكذيب الأهرام لها، فهو يعترف بالظهير السلطاني الذي بنت عليه فرنسة

وضع نظام مبتدع للقضاء في البربر دون سائر المسلمين، ولكنه يدعي أن هذا النظام

خدمة للعدالة يشترك فيها السلطان مع فرنسة، كأن الشريعة الإسلامية غير عادلة!

والسلطان لا يعتقد عدم عدالة الشرع، ولكنه مكره بالطبع. ودعوى البلاغ أن والد

هذا السلطان الشاب كان أصدر ظهيرًا قبل هذا في أول مدة الحرب لا تعد حجة

على حقية الظهير الثاني؛ لأن ما بُني على الباطل باطل ولو كان كل منهما

اختياريًّا، فكيف وهو غير اختياري كما لا يخفى؟ .

وأما قول سعادة الوزير: إن هذه الخدمة لا تمس عقيدة البربر الدينية، فهو

مغالطة لا تروج لها في مصر بلد العالم الإسلامي. ونختصر في ردنا عليه بأن

الأحكام القضائية إذا كانت من قسم الأعمال الإسلامية لا من قسم العقائد - فإن من

أصول العقائد الإيمان بوجوب العمل بكل ما هو منصوص في القرآن وبكل ما أجمع

عليه المسلمون منها، ومن استحل ترك العمل بنصوص القرآن القطعية يعد مرتدًّا

عن الإسلام إذا كان يعلم ذلك، ويجب على أولي الأمر من المسلمين - كسلطان

المغرب ورجال حكومته - أن يعلِّموا الجاهل لا أن يقروه على جهله بضروريات

الدين ويشرعوا له قوانين ينسخون بها قانون الشرع.

فإن كان سلطان المغرب السابق أو اللاحق (فرضًا) قد جعل تقاليد بعض بدو

البربر المخالفة لنصوص الشريعة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة - حقًّا ثابتًا

لهم جاحدًا لتلك النصوص أو مستحلاًّ لتركها، فقد صار بذلك كافرًا مرتدًّا عن الإسلام،

وبطل حكمه وسقط سلطانه شرعًا؛ إذ الواجب عليه إرجاعهم عن تلك التقاليد

بالتعليم والإقناع، وإلا فبالقوة إن استطاع، ولعل السلطان يعذر نفسه أو يعذره

المنافقون من الحكام وعلماء السوء بأنه مكره على ذلك بقوة فرنسة المسيطرة على

بلاده لا مختار، وقد قال الله: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ

مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106) الآية وهو يعلم كما يعلم غيره أن فرنسة قادرة

على إخراجه من السلطنة كما أخرجت السلطان عبد الحفيظ. وهذه شبهة ولكنها

باطلة، فإن التهديد بالعزل من السلطنة ليس عذرًا يبيح لصاحبه نقض أحكام الشريعة

القطعية. فمن لا يستطيع أن يكون سلطانًا إلا بجعل نفسه آلة للكفار مساعدًا لهم على

إخراج المسلمين من دينهم أو ما دون ذلك من المعاصي - فلا يجوز له قبول السلطنة

بهذا الشرط، وقبولها لا يعد عذرًا كعذر من هُدد بالقتل على قول كلمة الكفر بلسانه

دون قلبه حتى ينجو من مهدِّده كما وقع لعمار بن ياسر رضي الله عنه، فكان سببًا

لنزول الآية في الرخصة.

وأما قول البلاغ: (إن أشد العلماء تدينًا لم يجادل في ذلك) فهو غير مسلَّم

على إطلاقه في إجماله. ولا ثقة لمسلم بمن تُعدِّله فرنسة في إسلامه وعلمه كابن

غبريط ولا الكتاني إن صح ما نقل عنه، وكالذين رضوا من مسلمي تونس

الجغرافيين (المنافقين) بمساعدة مؤتمر المبشرين (الأفخارستي) وغيرهم من حملة

شارات الشرف الفرنسية.

نعم، قد يعذر بعض جهلة بدو البربر في بعض التقاليد والعادات المخالفة

للشرع إذا كان عن جهل بها بشرطه المعروف في الفقه، ولكن السلطان وغيره من

أولي الأمر لا يعذرون بإقرارهم على هذا الجهل فضلاً عن جعله تشريعًا يبطل به

شرع الله. ومثل أولئك الجاهلين من بدو البربر كمثل الجاهلين من بدو العرب

الذين كانوا يستبيحون قتل الحُجاج وسلب أموالهم وغير ذلك من مخالفتهم للشريعة،

وكانت الحكومات الحجازية قبل حكومة ابن السعود مقصرة في تأديبهم، ولكن ذلك

التقصير لا يعد احترامًا من السلاطين وأمراء الحجاز والعلماء لتلك العادات ولا

إقرارًا لها، وكذلك يقال في سلاطين المغرب.

وأما كون الأحكام الجديدة تصدر باسم السلطان الذي لم تُبقِ له فرنسة من

الحكم إلا الاسم، فهو مؤيِّد لخروج هذه الأحكام عن الشرع الإسلامي؛ لأن فرنسة

تعده هو الشارع لها وإنما شارع الإسلام هو الله تعالى وباسمه تصدر أحكامه.

وأما قول البلاغ: (إن البربر مسلمون وسيبقون مسلمين) ، فالجملة الأولى منه

من قبيل: السماء فوقنا، والثانية خبر عن المستقبل، وكلاهما لا يقال في

البلاغات الرسمية.

وأما الأمور الثلاثة التي أشار البلاغ إلى اشتمال الظهير عليها فهي مؤيدة

للتهمة لا مبرئة منها، وإننا نطالب الدولة الفرنسية بنشر نص الظهيرين الأول

والثاني وإطلاع الرأي العام الإسلامي عليهما وعلى القانون الذي بُني عليهما.

وأما ما جاء من شكر بعض البربر للسلطان على عمله هذا فلا ينقض من

التهمة شيئًا - إن صح - لجواز أن يكون هؤلاء الشاكرون من الجهلة بأمور الدين

أو من المحمولين على الشكر بالإكراه والقهر، كما وردت به الأخبار من هناك،

فهو كما قال الشاعر:

ولم أَرَ ظلمًا مثل هضم ينالنا

يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر

ونحن نعلم من الروايات الصادقة أن من البربر وغير البربر من أنكر ذلك

بقدر ما في إمكانه مع فقد الحرية هنالك فعوقبوا.

وأما دعوى البلاغ الخاص بمعاملتها لمسلمي الجزائر فهو ضد الواقع، ولا محل

هنا لنقضه بالشواهد، وأما ما فيه من ذكر ترميم المساجد في المغرب فهو إيهام.

الحق أن فرنسة جعلت جميع أوقاف المساجد وغيرها تحت سيطرتها واستولت على

أموالها وجعلت التعليم الديني في أضيق من جحر الضب مع المراقبة على العلماء

كما فعلت في الجزائر من قبل. فهل لها أن تمُن على المسلمين مع هذا إن سمحت

بترميم قليل من المساجد المتداعية إرضاءً لعلماء الآثار من قومها مثلاً؟ !

ألا إنها مِنَّة عليهم كمنة فرعون على موسى بتربيته مع استعباده لقومه،

فأجابه كما حكى الله عنه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 22) نكتفي بهذا الرد على البيان لنحكي رد غيرنا عليه فيما يلي:

رأي شيخ الأزهر في البلاغ

جاء في (المقطم) أن أحد مندوبيه في الإسكندرية قد تحدث إلى حضرة صاحب

الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في صدد هذا البلاغ فأفضى إليه فضيلته

بما يأتي:

(لقد ارتحت إلى ما تضمنه بيان المفوضية من أن فرنسا واقفة في المسائل

الدينية على الحياد، وأن البربر مسلمون وسيبقون مسلمين. وأنه بتشجيعها رُممت

مساجد كثيرة في بلاد المغرب الأقصى.

ولكني لم أَرَ فيه ما يكشف الحقيقة من جميع وجوهها ولا ما يرد على كل تلك

التفاصيل التي وردت بها الأنباء وكانت سببًا في هياج الرأي العام الإسلامي، فهو

لم يتعرض لما قيل من إرسال نحو ألف راهب إلى تلك النواحي لتشجيع التبشير

المسيحي، ولا إلى ما قيل من إلغاء المكاتب القرآنية والمحاكم الشرعية، ولم يبين ما

هو نظام الإرث الذي أُقر الآن لأمة البربر، ولا ما هي الأحكام الشخصية التي

أُقروا عليها الآن أيضًا، مع أنهم ما داموا مسلمين لا يجوز شرعًا أن يكون لهم نظام

إرث غير نظام الإرث الشرعي ولا نظام أحوال شخصية غير النظام الإسلامي،

وتلك هي النتيجة المنطقية لأنهم مسلمون وسيبقون مسلمين.

وإن المسلمين فيما يوجهونه من الاحتجاجات موقفهم دفاعي محض، ولا

يقصدون أكثر من إبقاء الأمور على ما كانت عليه قبل حماية فرنسا، ولا

يرضيهم جعل العادات القديمة لبعض القبائل نظامًا مشروعًا ما دام في ذلك

مساس بالمسائل والشعائر الدينية. وفي إفريقية عادات متبعة منذ القدم وهي

استرقاق الأحرار والاتجار بهم، ولم يقل أحد: إن مثل هذا الاسترقاق ينبغي أن

يكون مشروعًا ما دام موجودًا، وأن المعروف عن فرنسة وغيرها من جماعة الأمم

أنها تعمل على توطيد دعائم السلم وإبعاد دواعي الاضطرابات.

فالمأمول منها بناءً على ذلك أن تستأصل الداء من مكامنه الخفية، فلا تساعد

ولا تقر المبشرين على أعمالهم في البلاد الإسلامية فإن ذلك مكمن عظيم من مكامن

الخطر، وعليها أن تفصل بين نشر الثقافة والتبشير.

وإني بصفتي الدينية - التي أعمل بها على توطيد دعائم السلم ومعاملة

الأجانب من أي دين أو جنس بالحسنى وبالتسامح - آمل من القائمين بالأمر ألا

يساعدوا ما يثير حفائظ النفوس، وأن يعملوا على إعادة الاطمئنان إلى تلك البلاد

الإسلامية) .

(المنار)

أحسن ما في هذا البيان الذي كان الفضل في إظهاره لمندوب المقطم - ما قاله

الشيخ في مسألة الرق، ولا يوافقه أحد من المسلمين على قوله: إنهم لا يقصدون أكثر

من إبقاء الأمور في المغرب كما كانت قبل الحماية الفرنسية، بل يطلبون إصلاح

ما كان من خلل وجهل كما أشرنا إليه، ولا يوافقونه أيضًا على كلمته في الثقافة

والتبشير على ما فيها من إجمال، وقد انتقدت الجرائد الإسلامية منه أمورًا أخرى.

***

رد جمعية الشبان المسلمين

على بيان المفوضية الفرنسية

نشرت المفوضية الفرنسوية في مصر بيانًا في مسألة مسلمي البربر بالمغرب

الأقصى فيه اعتراف صريح بأن ظهيرًا سلطانيًّا قد صدر في 16 مايو سنة 1930

يشرك فرنسا مع السلطان في الإشراف على الأحوال الشخصية للبربر المسلمين

ويجعل القانون في هذه الأحوال الشخصية هو العرف والتقاليد البربرية القديمة وبأن

هذا العرف وهذه التقاليد تخالف قواعد الشرع الإسلامي وأن تنفيذ ذلك في مناطق

البربر منوط بالقواد.

يعترف البيان بهذا ويحاول مع ذلك أن يُفهم المسلمين أن الظهير لا يمس

(العقيدة الإسلامية) كما ترجمه المقطم. ويطلب إلى جميع المسلمين أن يثقوا

بحياد فرنسا (في المسائل الدينية الصرفة) حسب ترجمة الأهرام. أو (في تلك

المسألة المصطبغة بصبغة دينية محضة) حسب ترجمة المقطم. ولا يمكن التوفيق

بين ذلك الاعتراف وبين هذا الطلب إلا على أساس أن مُصدر البيان لا يفهم ما

الإسلام أو أنه يظن أن المسلمين لا يفهمون!

إن أخص خصائص الإسلام في الحياة الاجتماعية للفرد وللمجموع هو أحكامه

في الإرث والأحوال الشخصية، ونظامه في ذلك هو النظام الواحد الباقي قائمًا إلى

الآن من نظم الإسلام المدنية والاجتماعية، فزواله من أي قطر أو إقليم إسلامي

معناه زوال البقية فيه من الإسلام في المجتمع وفي البيت من قلب الفرد ومن بين

الناس. ولم يتهم أحد فرنسا بتهمة أكبر مما يدل عليه بيان مفوضيتها صراحة من

أنها تُخرج قبائل البربر بقوة القانون من الإسلام عن طريق حملهم في الإرث

وأحوالهم الشخصية على العرف البربري القديم.

أما اعتذار البيان عن هذه الفعلة الشنعاء بأن العرف البربري كان قائمًا قبل

الآن معترفًا به من أقوى السلاطين حولاً وتدينًا - فغير صحيح ولا معقول؛ لأن معناه

- إذا صح على وجه يستقيم به الاعتذار - أن البربر لم يكونوا مسلمين قط،

والبيان نفسه يقول إنهم مسلمون وسيظلون مسلمين!

إن الذي كان مُعترفًا به من عُرفهم في بعض قبائلهم هو ما لم يناقض أصول

الشرع وصريح القرآن، وإلا فما حاجة فرنسا إلى أن تحمل السلطان يوسف منذ ستة

عشر عامًا - كما يزعم البيان - على التسليم بذلك العرف أولاً في ظهير لتجيء هذا

العام - بعد أن مضت الحرب وأمنت أو ظنت أنها أمنت أثر هذا التغيير في الناس

- فتحمل ابنه الذي لم يبلغ بعدُ عشرين عامًا على جعْل ذلك العرف قانونًا في

ظهير آخر مقابل إصدار الأحكام باسمه في مناطق البربر منذ الآن؟ !

لو كان العرف البربري قائمًا معمولاً به بين مسلمي البربر في الإرث والأحوال

الشخصية لما تدرجت فرنسا في الأمر ولما استصدرت من سلطان المغرب هذا

الظهير.

على أننا إذا سايرنا البيان إلى أقصى حد وسلمنا جدلاً بأن بعض مسلمي

البربر كان يسير في أحواله الشخصية على العرف المخالف لأحكام الشرع، فالبعض

الآخر الكثير كان من غير شك يسير في أحواله الشخصية على أحكام الشرع.

والمحاكم على أي حال لم تكن إلا بأحكام الشرع، وفرنسا قد قلبت هذا الآن رأسًا

على عقب، فجعلت المحاكم تحكم في الأحوال الشخصية بما يناقض الشرع وقهرت

على ذلك مسلمي البربر أجمعين، مَن كان - جدلاً - يسير على العرف منهم ومن

كان يسير على أحكام الدين.

إن هناك ملايين من مسلمي البربر قد أخرجتهم فرنسا بهذه الفعلة عن الإسلام،

وهذا ما ينكره عليها المسلمون.

على أن البيان قد اقتصر على مسألة الأحوال الشخصية وسكت عن الأمور

الخطيرة الأخرى التي جاءت الأخبار الوثيقة من المغرب بأن فرنسا ترتكبها هناك

كمنع تعليم القرآن واللغة العربية بين البربر، وإخراج العلماء وحملة القرآن من

بينهم، ووضع أطفالهم بين أيدي الراهبات والرهبان يعلمونهم النصرانية باللغة

الفرنسية. وقد اعترف البيان صراحة بصدق تلك الأخبار في مسألة الأحوال

الشخصية. فسكوته عن الأمور الخطيرة الأخرى يعتبر اعترافًا ضمنيًّا بها حتى

تصدر المفوضية الفرنسية بيانًا آخر في الموضوع.

أما رسائل الشكر العديدة التي يزعم البيان أنها جاءت إلى السلطان تشكره

على الظهير فهي - إن صحت - لعبة تلعبها السياسة في كل مكان.

وإذا كان هناك رسائل شكر عديدة فهناك أيضًا هياج كبير واحتجاجات كثيرة

سكت عنها البيان. وهناك ضرب وجلد وحبس في سبيل تنفيذ الظهير.

وأما استشهاد المفوضية بما تسميه (احترام الحرية في الجزائر) فإن الحرية

الدينية التي نحن الآن بصددها قد أصيبت في الجزائر بما لا تشرف به فرنسة؛

ففرنسا مثلاً مستولية هناك على الأوقاف الإسلامية وأوقاف الحرمين الشريفين

والعالِم المسلم لا يستطيع أن يقرأ درسًا في مسجد إلا تحت الرقابة الشديدة،

والمسلم ليس له حق تمثيل بلاده في الهيئات النيابية إلا إذا قبل القانون الفرنسي حتى

في الأحوال الشخصية. أي أن فرنسا تحرم المسلم الجزائري من كل حقوقه السياسية

إلا إذا خرج عن دينه في الأحوال الشخصية من زواج وإرث، فهي تعمل على

إخراج المسلم من دينه في الجزائر كما تعمل على إخراج المسلم من دينه في

المغرب وإن اختلف طريق العمل في القطرين.

...

...

...

... رئيس الجمعية العام

...

...

...

... عبد الحميد سعيد

_________

(*) وُضع هذا النداء في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وبعد البحث فيه وتنقيحه أمضاه مَن نذكر أسماءهم في آخره ووكلوا إلى مجلس إدارة الجمعية نشره.

(1)

هذا تقدير تقريبي؛ إذ لا إحصاء هنالك للقبائل.

(2)

المراد أنها تعدت على المعابد ولم تُكره المدنيين على تغيير العقائد، لكن بعض الناس يتهمونها بهذا أيضًا.

ص: 205

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آراء ساسة فرنسا

في سياستها الإسلامية

وإمكان الاتفاق على ما هو خير منها لها وللإنسانية

لقد آن للعالم الإسلامي أن يعلم ما تكيده له دول الاستعمار في دينه ودنياه،

وأن يبذل ما يستطيع من حول وقوة للدفاع عن نفسه من حيث هو أمة واحدة كما

قال الله تعالى، وكل شعب من شعوبه وكل فرد من أفراده كعضو لجسد واحد كما

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقله تنظيم الدعاية والمقاطعة العامة

الاقتصادية، وأكبره الثورة العامة المدنية فالدموية (وقد جمعت بينهما الهند) وآن لهذه

الدول أن تعلم أن هذه الشعوب قد تنبهت أو هبَّت من رقادها وشعرت بآلامها، فلم تعد

تطيق ما كانت تسام به من إرهاق واستذلال، فضلاً عما تحاوله هذه الدول من الزيادة

عليه، وأن تعلم مع هذا أنه يوجد في عقلاء المسلمين من يود الاهتداء بالبحث معها

إلى الاتفاق على معاملة مشتركة تكون خيرًا للإنسانية في ترقيها وتوقيها أسباب

الحروب الساحقة الماحقة، وحلاًّ للإشكال يكون جامعًا بين

الممكن من مصلحة المستعمَرين ومصلحتها.

وبهذا القصد نشرنا ما نشرنا في مسألة المغرب الإسلامي وما تفعله فرنسة فيه

لتعلم هي وكل من يقرّوه أننا لا نبغي به التشهير بسياستها تشفيًا منها وتحريضًا

على عداوتها ومقاطعة المسلمين لها، إلا بعد اليأس من إنصافها، وقد سبق لي

السعي لمثل هذا الجمع بين المصلحتين في معاملتها للسوريين في حديث طويل

ألقيته إلى مسيو روبير دوكيه في بيروت (إذ قابلني بالنيابة عن الجنرال غورو في

أوائل مارس سنة 1920) فقال - بعد المناقشة الطويلة فيه -: إنه رأي يمكن

تنفيذه وليس بخيال، ولكن يجب درسه وتمحيصه والاتفاق على طريقة تنفيذه بين

الفريقين. ثم حاولت مثل هذا السعي في (جنيف) مع مندوب فرنسة في عصبة

الأمم المتحدة موسيو هانوتو الشهير فلم يتح لي ذلك، وقد فصلت هذا وذاك في

المنار كما يعلم القراء.

ولكن أحرار فرنسة الذين لا يهمهم إلا مصلحتها العامة قلما ينظرون في أمثال

هذه الآراء الحرة؛ فإن تقاليد وزارة الخارجية الفرنسية السياسية الدينية (الأكليركية)

والعسكرية أرسخ من تقاليد العجائز في تقاليدهن الدينية والمنزلية، وقد خرجت

بها عن حد المعقول والمعتاد عند الحكماء والعقلاء الذين يتحرون الاستفادة مما يُنتقد

عليهم. فإن هؤلاء السياسيين إذا رأوا انتقادًا موجهًا إلى دولتهم يدفعونه بغير تأمل

ويعذرون أنفسهم أو يعتذرون عنها بأنه كلام عدو، وقد يكون كلام صديق أو

ناصح لمصلحة له في النصيحة، وقد قال الشاعر العربي الحكيم في ذم الأعداء:

عداتي لهم فضل علىّ ومنّة

فلا أذهبَ الرحمنُ عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

ولكن رجال السياسة الاستعمارية في فرنسة لا يحبون اجتناب زلاتهم، وإن

عرفوها من أنفسهم وأصدقائهم، وإنما ينكرون ويتأولون كما فعلوا في مسألة البربر.

قد ابتُلي مسلمو الجزائر فتونس فمراكش بالدولة الفرنسية، فكانت سيرتها

فيهم أشد استبدادًا واستعبادًا وظلمًا من استعمار إنجلترة وهولندة أضعافًا مضاعفة وقد

وجد من عقلاء الشعب الفرنسي ومن عقلاء المسلمين من حاولوا إقناع هذه الدولة

بإنصاف هؤلاء المسلمين، ولا يزال يوجد في المسلمين من يحب هذا ويريده إن

كانت هذه الدولة تقدر قدره وتريده.

ولكن، متى تريد وبين يدي أُولي الأمر في عاصمتها عدة مصنفات جديدة قد

عني مصنفوها بإقناعها فيها بأنه لا يمكن خضوع مسلمي إفريقية بالإخلاص لها إلا

إذا ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى أو ملاحدة، وبأن ردهم عنه ممكن.

فبعضهم يختار فيه إكراههم على النصرانية بالقوة القاهرة كما فعلت إسبانية في

الأندلس، وبعضهم يختار إكراههم على تربية أولادهم وتعليمهم في المدارس

التبشيرية والإلحادية ما يحول بينهم وبين الإسلام ولغته. وسياسة كبارهم بالشدة

والقهر، وإفساد أمرائهم وزعمائهم بالاصطناع والتمكين من الشهوات المفسدة

للأخلاق، والاستعانة بهم على كل ما يريدون من الاستيلاء على ثروة الأمة

وتحويلها عن شريعتها وآدابها.. إلخ.

إن كتاب (الإسلام في المستملكات الفرنسية) الذي ألفه الضابط موسيو

(جول سيكار) أحد الموظفين الفرنسيين في مراكش - يعد معتدلاً بين تلك الكتب التي

تغري فرنسة بإخراج مسلمي إفريقية من دينهم، ولما انتقدناه في مجلد العام الماضي

تعجب قراء المنار من كنود هذه الدولة التي سفك مغاربة المسلمين دماء مئات

الألوف منهم في الدفاع عنها ثم يجدونها تعدهم أعداءً غير مخلصين لها في الباطن،

وتحاول إهلاكهم في الآخرة بالكفر والإلحاد، كما أهلكتهم في الدنيا بالفقر والإذلال،

فكيف لو قرأ هؤلاء تلك الكتب التي تحضها على حرمانهم من كل علم نافع

وإكراههم على ترك دينهم بالقوة كما فعلت إسبانية بسلفهم من مسلمي الأندلس؟

عثرت صحيفة الفتح أخيرًا على نسخة من كتاب (السياسة الصريحة)

للضابط الفرنسي الكابتن أدينو وقد ترجم وطبع بالعربية سنة 1347 هـ، فلم تلبث

حكومة الاستعمار أن جمعت نسخه ومنعت نشره؛ لأنه صرح فيه بسياستها السرية

لاعتقاده أنه أنفع لها من الرياء الذي تحاول إخفاءها به، وهو لا بد أن يشف أو

يتمزق فتظهر الحقيقة في وقت غير ملائم.

وقد نشرت الفتح الغراء منه جملاً نختار منها الآن ما نصه:

(أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع

الحوادث السياسية أم لا؟ بلى، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون

لهم كافيًا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد. هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم

مبادئ قوانينها بالمغرب، وذلك أننا كثيرًا ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدن

أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها

وتوافق فكرة المسلمين. وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم

أمر يضيِّق لنا الفضاء الرحب المعد هنا لفرنسة.

لا؛ لا نسعى في هذا الأمر أبدًا، وإذا فعلنا وبالغْنا في تعليمهم فإنما نحن

جالبون على أنفسنا خطرًا عظيمًا يقف بوجه مهمتنا هنا.

الإسلام تهديد لفرنسة وخطر عظيم على نفسها؛ لأنه لو انحاز المسلمون عن

جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا.

أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي

تود صعودًا وانتشارًا؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يومًا ما على

كلمة واحدة واتفاقهم عليها.

إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدم كلمتي، وهي أن لا يسعوا في

تحديد شوكة (إرهاف حربة) يصابون بها يومًا ما، ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما

عثرت قط في التواريخ على أن فرنسة حاربت إنجلترا لتمنعها من هدم

مستعمراتها [1] وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة

وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا عليه؛ لأن وجودنا بأرض

المغرب هو معلوم لقصد فائدتنا الشخصية من أرضه، وإذا كانت الفائدة هي التي

تقود زمام أمة فكل شيء لديها مباح والحرب أكبر دليل عليه.

وما هي أيضًا حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى لأمر ليس هو بالهين، في

جلب عاقبة ليست بمحمودة النتيجة، أو عملنا لمنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود،

أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم. وبعبارة أخرى أقول: إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله

في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها.

قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام: إن تعجب من بقاء بلاد الجزائر

تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [2] وصدقًا قال.

وإني لآتي هنا بمقال الأب فوكول تأييدًا للفكر، قال:

لا يكون لكم المغرب ملكًا ما دام فيه المسلمون!

أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالمًا بأن المسلمين سيطلعون على مقالي هذا

ما غيرت من لهجته! [3]

ماذا يطلب منا المسلمون؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أن نخبرهم بكل صدق

وحقيقة ليتخذوا احتياطاتهم. وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة المموّهة الخادعة

الكذابة التي لا تريد أن تُغضب أحدًا من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع

الناس، وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرها لا تحترم أحدًا.

خلاف هذه الفكرة أبغي، أود أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة

فنصرح لهم: هل بودنا أن ندعهم سائرين على إثرنا عفوًا من أنفسهم؟ أم

سنرغمهم عليه قوة منا؟ لا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع

حالة الإسلام.

لماذا نقاسم المسلمين الجزائريين حقوقنا؟ ونحمي المغاربة حماية، على

حين نقف مع الأمة التركية قرنًا تجاه قرن وهم منتمون إلى دين واحد؟ [4] .

إذا تولت أمة مقاليد أمة ثانية - ولو ضعيفة - فإنه لابد من وقوع امتزاج

واندماج فيما بين الفريقين. وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن أن تندمج في الإسلام كما

أن الإسلام لا يقبل منها شيئًا خارجًا عن تقاليده، ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون

المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما عليه البروتستانتيون والإسرائيليون اليوم،

وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنبًا لجنب [5] .

أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معًا، وكل منهما على

ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة. وقد تدوم هذه الحالة إذا

أيدتها القوة، والقوة أمر لابد من اضمحلاله، وستحتاج فرنسة يومًا ما إلى جنود

للمدافعة عنها فماذا يكون عملها يومئذ؟ لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب منذ اليوم؟

لكن بقي علينا أن نقول: هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين

ونجلبها لجانبنا؟ . اهـ.

(المنار)

نشكر لهذا الكاتب صدقه وصراحته اللتين يقل مثلهما في قومه، وهو لم يُجِب

عن سؤاله الأخير؛ لأن الاستفهام فيه إنكاري لا حقيقي، يريد أنه لا سبيل إلى ذلك.

ونحن نقول: إن هذا في الإمكان إذا كانت فرنسة تترك غرور الضباط وإغواء

الأب فوكول وأمثاله من الآباء في سياستها الصليبية، كما تركته في إدارتها

وسياستها الداخلية، وتتبع سياسة الحق والعدل والإنسانية، أو ما جعلته شعارها رياءً

وخداعًا وهو (العدل والمساواة والحرية) ، بأن تترك لهم حريتهم الدينية والأدبية

والاجتماعية، وتساعدهم على عمران البلاد بترقية الزراعة والصناعة والتجارة

بنظام يكفل لها الربح العظيم والثروة الواسعة، وتعقد معهم محالفة عسكرية توجب

عليهم إمدادها بالجند والمال إذا هي اصطلت نار حرب لم تكن فيها معتدية كما

يوجبه عهد عصبة الأمم، والمسلمون أشد أهل الملل وفاءً وصدقًا، وإذا كانوا قد

استبسلوا في دفاعهم عنها في الحرب الأخيرة على شدة إساءتها إليهم في دينهم

ودنياهم فكيف يكون شأنهم معها إذا هي أحسنت إليهم إحسانًا حقيقيًّا لا يرتابون

فيه؟ ! وأما الذين يضربون لها المثل بخروج الهنديين والمصريين على إنجلترة

مع إحسانها في معاملتهم فهم خادعون؛ فإن إنجلترة لم تكن محسنة لهؤلاء بل مسيئة،

وقصارى الأمر أن إساءتها إليهم دون إساءة فرنسة لمسلمي إفريقية، وأما الإحسان

الحقيقي فلا يكفره المسلم وهو يؤمن بقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَاّ

الإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) .

ثم نذكِّره بأن أهل أمريكة قد أخرجوا الإنجليز من بلادهم بالقوة الحربية وهم

متحدون معهم في اللغة والدين والمذهب وكذا في الجنس الغالب.

إن هذا الضابط يهدد مسلمي المغرب بقوة دولته العسكرية القاهرة التي لا

يعقل في العالم غيرها، ولكن الأمم إذا عرفت نفسها وشعرت بوحدتها تعذرت

سياستها وإدارتها بالقوة العسكرية، وما القوة إلا تهاويل وأراجيف من الوهم تزول

بأول ثورة (تبدأ) بها الأمة على المقاومة كما وقع في بلاد كثيرة وظهرت بوادره

في المغرب الأقصى وكذلك إخضاع المستعمرين للشعوب بالتماثيل الآلية التي

ينصبونها لها باسم سلطان أو ملك أو أمير أو باي أو رئيس، ومن يستخدمونه بأسمائها

من وزير ومدير ومفتٍ وغير ذلك، قد آن لزمنه أن يولي مشيَّعًا باللعن

ولرجاله أن يُنبذوا مَوسومين بالخيانة.

_________

(1)

ينبه هذا الفرنسي قومه إلى اجتناب كل ما يقوي شوكة المسلمين من علوم إسلامية أو أوربية، ويقول: إننا إذا اضطهدنا المغرب لا نخشى أن تعارضنا دولة أخرى كالإنجليز؛ لأننا لم يسبق لنا في التاريخ محاربة الإنكليز عندما يهدمون مستعمراتهم اهـ والمنار يذكِّره بأن إنكلترة طردت فرنسة من الهند ثم من مصر وحاربتها لأجل الاستعمار وأذلتها باعتقال أعظم إمبراطور سياسي حربي تولى أمرها وهو نابليون الأول، ثم يذكره بتحرش ألمانية بفرنسة في أغادير، ويذكره أخيرًا بأن الحرب العامة لم يكن سببها إلا التنازع على الاستعمار، وبأن فرنسة إذا هوجمت مرة أخرى فلن تجد من أسباب الدفاع عنها بعض ما وجدته فيها من مستعمراتها ومن أمم الأرض حتى الولايات المتحدة! ! .

(2)

يريد الجيل الذي كان يعرف ذكريات جهاد الأمير عبد القادر، وكان في قلوبه رجاء باستئناف الجهاد اهـ. ويستدرك المنار على هذا بأن الجيل الآتي في جميع إفريقية سيحارب فرنسة بنظام علمي أوربي يكون أقوى من حرب ذلك الجيل بالسلاح إذا هي أصرت على ظلمها وسياستها الحاضرة، فهل تطمع في سوق مليون جندي منه إلى أوربة لقتال ألمانية أو إيطالية؟ ! كلا ثم كلا.

(3)

المنار: نشكر له هذا التصريح ونصارحه بأن فرنسة تعجز عن إبادة المسلمين من المغرب، إن فرضنا أنها تجد من يعمره لها من غيرهم، وهي عن إخراجهم من الإسلام أعجز، وإن إخراجهم منه - إن أمكن؛ ولو إلى النصرانية - يكون أشد خطرًا عليها ما دامت مصرة على أثرتها وظلمها؛ لأنهم يجدون من مساعدة دول النصرانية حينئذ عليها ما لا يجدون اليوم ولا سيما أمثال الأب فوكول خليفة الأب بطرس الناسك.

(4)

يتساءل هذا السياسي الفرنسي: كيف يجوز أن تتبع فرنسة سياسة صليبية مع تركيا في القرون الماضية كلها لأنها كانت دولة مسلمة، ثم يعترفون للجزائريين بحقوق ولأهل المغرب الأقصى بحماية مع أن الجميع أبناء دين واحد؟ ! .

(5)

المنار: والمسلمون يصارحونه بأنه لا جنسية لهم في غير دينهم، فهم لا يقبلون الجنسية الفرنسية لأنها تخرجهم منه فيخسرون الآخرة مع الدنيا؛ لأن فرنسة لا تساويهم بأبناء جلدتها الأوروبيين في كل شيء وإن تجنسوا بجنسيتها كما عُلم بالتجربة.

ص: 219

الكاتب: الطلبة المغاربة بباريس

‌كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلام

في المغرب الأقصى

؟!

(جاءتنا هذه الرسالة الممتعة من جماعة شبان المغرب في باريس وكان قد

تم تحرير هذا الجزء من المنار وجمع حروفه فأخرنا طبع آخره وتصديره ونشرناها

فيه لجمعها للحقائق في المسألة التي نحن بصددها، ولا سيما بيان هؤلاء الشبان

لمطالب مسلمي المغرب من حكومة بلادهم التي لا يرضون بدونها. وهذا نصها) :

استغربنا ما كتبته جريدة (الأهرام) في أحد أعدادها من تكذيبها ما تسعى إليه

فرنسة من هدم الديانة الإسلامية في المغرب الأقصى. وحجة الأهرام في ذلك أن

علماء المغرب الأقصى أكبر علماء الإسلام، ولا ندري أتريد بذلك تهكمًا مقصودًا؟

أم هي تنطق بلسان الحق؟

ثم حجتها الأخرى هي كون فرنسة الدولة اللادينية الوحيدة في أوربة، كأنها

تجهل كلمة غامبتا: (إن اللادينية بِضاعة لا تصدر إلى خارج فرنسة) . وكأنه

غاب عن الأهرام أن فرنسة سمحت منذ ثلاثة أشهر للمؤتمر الأفخارستي الذي ينظر

في مسائل التبشير بأن يعقد في تونس، واشتركت في المؤتمر رسميًّا يمثلها مندوبها

السامي في تونس الذي حضر في جلسات ذلك المؤتمر، ومنحت مليونين من أموال

المسلمين لأعضائه، وسمحت لأبناء المدارس الفرنسيين في تونس أن يتجولوا في

الشوارع مُرْتدين لباس الصليبيين الذين أتوا فيما مضى لفتح تونس مع القديس

لويس! ! فهل تستطيع الأهرام أن تصف فرنسة بأنها (لا دينية) ؟ ! [1] .

أما قضية المغرب الكبرى التي تقيم اليوم العالم الإسلامي وتقعده - نعني

القضية البربرية - فهي ليست بنت اليوم، بل خاض فيها من قبل كثير من الساسة

والكتاب الفرنسيين، بل الموظفين في الحكومة المغربية، نخص بالذكر منهم

لوجلي في كتابه (فرنسا وتعليم البربر) ومارتجافي في كتابه (مغرب البربر)

وسيكار في كتابه (الإسلام في الممتلكات الفرنسية) وأزار في مقالاته العديدة،

وسوردون في كتبه عن (عوائد البربر) ولويس برينو في أبحاثه عن (مسألة

التعليم في المغرب) ونزيد عليهم عضو الأكاديمية الفرنسية الكبرى لويس برطران

في كثير من كتبه وعلى رأسها كتابه (أمام الإسلام) الذي نال فيه من كرامة مصر

وسب فيه إخواننا المصريين سبًّا بذيئًا.

اتفق رأي هؤلاء كلهم - ووراءهم جيش عظيم من القسيسين والمبشرين -

على أن إسلام البربر المغاربة إنما هو إسلام سطحي، وأنه لا سلطة له على

أرواحهم، وأنهم أعداء ألداء للعرب والشريعة الإسلامية، وأن ذكريات النصرانية

لا تزال حية في نفوسهم، وأنهم لا يزالون يذكرون الحكم الروماني وسيادة القياصرة،

وأن عصيان البربر في العصر الأخير لملوك المغرب ليس له من سبب إلا

تخوُّفهم من سلطة الشريعة الإسلامية.

ولا يخفى ما في هذه النظرية السيئة السريرة من كذب وبهتان وتحامل بعثته

أهواء دينية تتعصب للمسيحية تعصبًا شنيعًا. كأن أصحابها يرون أن تاريخ

المغرب ينحصر في ولاية السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحفيظ، التي كانت

مضطربة أشد الاضطراب [2] . وينسون أو يتناسون أيام المغرب الزاهرة تحت

دول البربر، كالمرابطين والموحدين. فهاتان الدولتان العظيمتان لم تكتفيا بتعضيد

الإسلام ونشر شريعته في المغرب فقط، بل ذهبتا لنشره وتعضيده في إسبانية

والسنغال وإفريقية الشمالية كلها، ويتناسون أيضًا أن الدولة المرينية هي التي

شيدت أجمل مدارس العلم وأفخمها في فاس ومكناس ومراكش وغيرها، وكذلك

القصور البديعة التي يندهش السياح أمامها اليوم، فلماذا لم تقضِ هذه الدول

البربرية - بما كان لها من السلطة والحرية - على الشريعة الإسلامية إذا كان

البربر يبغضونها ويخشون سلطتها؟ . بل إن أولئك الفرنسيين المتبعين للهوى

المتعبدين للغرض تناسوا ولاية المولى إسماعيل إذ كان المغرب موحدًا توحيدًا تامًّا،

وتناسوا ولاية المولى الحسن على قرب عهد الناس بها، ولكن هي الأغراض تعمي

وتصم، ولو أردنا أن نقيم الأدلة التاريخية على إسلام البربر وإخلاصهم للشريعة

المحمدية لما وسعها المقام في هذا الرد الموجز.

وقد اقترح أصحاب هذه النظرية الموظفون في الحكومة المغربية عدة

اقتراحات عملية - بناءً على نظريتهم الفاسدة - من شأنها أن تبعد البربر من

العرب والإسلام، وتبعثهم على الإخلاص لفرنسة والاندماج فيها وترجعهم إلى

المسيحية (دين أجدادهم قبل الإسلام! !)[3] وهنا نلخص مقترحاتهم فيما يلي:

(1)

يجب على فرنسة أن تبعد العربي عن البربري ما أمكن.

(2)

يجب أن تُفتح مدارس فرنسية بربرية يحظر فيها تعليم الإسلام

والعربية.

(3)

تُغلق الكتاتيب القرآنية في القبائل البربرية وتُعرقل على رؤساء

الطرق الصوفية والوعاظ المسلمين وسائل الوصول إلى هذه القبائل.

(4)

تشجيع التبشير في القبائل ومنح إعانات مهمة للجمعيات التبشيرية

والسعي في تسهيل أعمالها.

وآخر ما وصل إليه تفكير هؤلاء المقترحين اقتراح تأسيس محاكم عرفية لا

يحكم فيها قضاة الإسلام ولا تطبق فيها الشريعة الإسلامية وإنما تعتمد على عادات

تكونت عند البربر مدة ثورتهم على السلطان وخروجهم عن أحكامه، مع قوانين

فرنسية أحدثت في المغرب لمصلحة الاستعمار، ولهذا تتكون إدارة تسمى (إدارة

العدلية البربرية) تقابل (وزارة الحقانية الإسلامية) وبهذا تستطيع فرنسة أن تبعد

الإسلام من قبائل البربر الإبعاد الأخير.

ماذا كان موقف الحكومة الفرنسية إزاء هذه المقترحات؟ !

الواقع أنها في أول الأمر لم يكن لها موقف واضح، بل إن المارشال ليوطي -

المقيم العام سابقًا - كان يحبذ في كثير من الأحيان تعريب البربر، ثم جاء بعده

(ستيغ) فاستغوته النظرية البربرية ففتح مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها البربر كل

شيء - كما قال (لوجلي) - إلا اللغة العربية والإسلام، وصارت لغة البربر تُكتب

فيها بالحروف اللاتينية بعد ما كانت تكتب بالحروف العربية، ومن المعلوم أن

المسيو (ستيغ) بروتستنتي متعصب لمذهبه، فأجاب طلبات المبشرين

البروتستانتيين، واضطر أن يعين معهم الجمعيات الكاثوليكية، ودخل بهذا العمل

برنامج البربر في طور التنفيذ، وصار المراقبون الفرنسيون في القبائل البربرية

يمنعون تأسيس المساجد، ويعينون على إقامة الكنائس في عقر تلك القبائل التي

لا يوجد فيها مسيحي واحد، ومنع فعلاً تجول رؤساء الطرق الصوفية في تلك

النواحي، وأبعد منها أصحاب الكتاتيب القرآنية، وجُعلت للعرب - سكان المدن

وبعض القبائل - جوازات خاصة لا يتمكنون من السفر إلى القبائل البربرية إلا بعد

الحصول عليها بعد جهد جهيد ومشقة عظيمة، وظلت حكومة فرنسة جادة في عملها

وتنفيذ خطتها ضد الإسلام مجردة من كل عاطفة سامية أو شعور شريف.

وكان المغاربة يعلمون نيتها ويلاحظون أعمالها متألمين من ذلك أشد الألم،

غير أن عقلاءهم مطمئنون لاعتقادهم أن البربر سيظلون معتصمين بدينهم، وأن

علاقاتهم بإخوانهم العرب لا يمكن انفصامها، بل ستجعلهم يستعربون حتمًا؛ لأن

البربري لا يرى في العربي عدوًّا مبينًا - كما يدعي الفرنسيون - بل يرى فيه أخًا

مخلصًا في الوطنية والدين. يعيش كما يعيش ويفكر كما يفكر. ويُضطهد كما

يضطهد. ويشتركان في عداوة عدو واحد. وهؤلاء العقلاء لا يسلِّمون أن فرنسة

ستعزل البربر بنوع من العزل بل يرون أن البرابرة لا يمكنهم الإخلاص لفرنسة

ما دامت لا بد من أن تفقرهم وتجردهم من كل ما يملكونه من ثروة وأرض ومال،

وأن تعاملهم بأشد أنواع القساوة والطغيان.

عندما رأت الحكومة الفرنسية أنها أمكنها تنفيذ الفكرة السابقة بدون أن تلقى

معارضة قوية من المغاربة ظنت أن الوقت مناسب لتنفيذ آخر اقتراح وصل إليه

المشتغلون بالقضية البربرية من الفرنسيين ليكون (مسك الختام) في هذه القضية،

فأعلنت باسم السلطان المعظم أمرًا عاليًا (ظهير شريف) يقال إنه وُقع بطرق غير

مشروعة، يقضي منطوقًا ومفهومًا بعزل البربر - أكثرية البلاد الساحقة - عن بقية

إخوانهم المسلمين، وتجريدهم رسميًّا من شريعة القرآن. وبذلك يهدم في هذه البلاد

أعظم شطر من الإسلام وهو الشطر التشريعي الاجتماعي على حين يكفل سعي

المبشرين هدم الشطر الآخر (وهو الروحي الاعتقادي) ولا يخفى ما في هذا

(الظهير) من العدوان على الشعب المغربي المسلم، والمس بسيادة السلطان التي

تحميها العهود الدولية، وعهد الحماية الذي عقده المولى عبد الحفيظ بنفسه،

وأصدرت الإقامة العامة (دار المندوب السامي) بهذه المناسبة قرارًا للصحف

الاستعمارية في المغرب تهنئ فيه نفسها بهذا النجاح العظيم ووصولها إلى إنقاذ

البربر من قانون الإسلام!

هياج المغاربة على فرنسة

لأجل البربر ومقاومتهم بالقوة

شاع هذا الخبر السيئ في طول البلاد وعرضها وعم الاستياء في جميع

نواحي المغرب، لا فرق بين المدن والقبائل، أما في المدن فأخذ الناس يتجمهرون

في المساجد يتلون صيغة مخصوصة يرددونها جماعات بأصوات مرتفعة: أنهم لا

يرضون أبدًا (أن يفرق بينهم وبين إخوانهم البربر) واتخذ الناس من أوقات صلاة

الجماعة فرصة للقيام بإعلان الاحتجاج والسخط العظيم ضد مشروع التمسيح

(التنصير) الفرنسي الذي يريد أن يكتسح الإسلام من قلوب المغاربة المسلمين [4]

فأمر ولاة الأمور الفرنسيون أن تُقفل تلك المساجد التي {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ

فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) وفعلاً أقفلت في مراكش وألقي القبض على ثلاثين

شخصًا في مدينة الدار البيضاء وزجوا في السجون، وعزل مؤذن وإمام مسجد في

مدينة تطوان لسماحهما للمسلمين بالاجتماع في المسجد وقراءة صيغة الاحتجاج.

والحركة في الرباط وفاس وسلا كانت أقوى وأهم، فقد وقع اجتماع كبير احتشد

فيه ما ينيف على 7000 شخص وألقيت فيه خطب تبين خطر الموقف الحاضر،

ولم يمض وقت يسير حتى زجّ من كان يخطب في السجن مع المجرمين.

ووقع في فاس أعظم اجتماع من أجل هذه القضية، انعقد في كلية القرويين

(الجامعة الإسلامية الوحيدة في المغرب) وخطب في ذلك الجمع الحاشد خطيب بيّن

المصيبة الكبرى ونتائجها الوخيمة على مستقبل الإسلام. وبعد ذلك خرجت تلك

الجموع متجمهرة تتضرع إلى الله تعالى وتوجهت إلى المشهد الإدريسي ضريح

مولاي إدريس، حيث ألقيت الخطب الحماسية على الشعب وتليت آي الذكر الحكيم،

ومن هنالك خرج الجمهور متوجهًا لبيت شيخ الإسلام يطلب رأيه وموقفه في هذه

المسألة الكبرى. وكانوا في طريقهم يرفعون أصواتهم هاتفين: (تحيا شريعة

الإسلام تحت راية الإمام) وعندما وصلوا إلى دار الشيخ رجعوا متوجهين إلى بيت

حاكم المدينة (باشا فاس) وبلغهم وهم في الطريق أن أحد الخطباء ألقي القبض

عليه، ولما انتهوا إلى بيت هذا الحاكم ومحكمته أمرهم أن يعينوا من بينهم وفدًا

خاصًّا يتقدم إليه، وأمر المتظاهرين أن يتفرقوا فأبوا، فأمر عساكره أن يستعملوا

العصي في تفريقهم، وأما الوفد فقد قابله الحاكم بالسب والإهانة، وأمر بجلد أفراده

مئات من الأسواط، وكل ذلك بمحضر المندوب الفرنسي في المحكمة وبأمره

الخاص، مع أن أعضاء هذا الوفد كلهم من الأشراف والأعيان والتجار والمفكرين.

ثم أمر بإلقاء القبض على آخرين حتى بلغ عدد المقبوض عليهم ما فوق الخمسين

ودون المائة، ألقوا جميعهم في غيابات السجون، وكان هذا التصرف المرهق من

أهم الأسباب لاشتداد الحركة وارتفاع مقياس الحرارة، وصار الناس يعلنون أن

السلطان - الذي باسمه صدر هذا الأمر - قد خالف شروط البيعة التي كان على

رأسها: (احترام الكتاب والسنة ومناصرة الإسلام) وأصبح مسؤولاً عن هذه

المخالفة (وقالوا) إن البيعة التي قُدمت للسلطان هي باسم الشعب المغربي كله لا

فرق بين العرب والبربر، فمن الواجب على السلطان إذن أن يطبق شريعة الإسلام

في القبائل البربرية كما يجب أن يطبقها على الآخرين ولو بالجبر ما داموا يعترفون

بالإسلام دينًا، على أن البربر يطالبون أن يحكم بينهم بالشريعة الإسلامية دون

غيرها، ولم يعلنوا في يوم من الأيام نفورهم من أحكام الإسلام.

وقد أثارت هذه الحادثة في نفوس المغاربة ذكرى مصيبة الأندلس، فإن عدو

الإسلام عندما دخل غرناطة تعهد أن يحترم الإسلام والمسلمين، ولما استقر له

الأمر كان أول ما قام به هو القضاء على الإسلام. وأصبحوا يحدثون أنفسهم بأنه

إذا كانت أغلبية سكان المغاربة من البربر الذين يراد إجبارهم على مفارقة إخوانهم

المسلمين فسيصبح العرب أقلية ضئيلة في هذه البلاد، ولا يبعد أن تجبرهم فرنسة

يومًا ما على اتباع هذه القوانين التي وضعتها للبربر، والتي تجبر المغاربة جميعًا

على قبولها اليوم.

مخاطبة الوفود للسلطان

في مسألة البربر

وأما جلالة السلطان فقد كان مصطافًا في فرنسة عندما كانت هذه الحوادث

الكبرى تمثل في المغرب، وكان للبلاد أمل عظيم في أوبته، وبمجرد قدومه أعدت

وفود عظيمة فيها أكابر العلماء والأشراف والأعيان تألفت في فاس والرباط وسلا،

واتفقت جميع الوفود على مطالب واحدة تقدم باسم (الشعب المغربي المسلم) وكل

مادة منها هي سعي إلى استرجاع حقوق ضيعها على المغاربة ولاة فرنسة في

المغرب، وقد كان على رأس الوفد الفاسي أحد علماء المغرب المشاهير وأحد كبار

الهيئة العلمية في كلية القرويين الشريف السيد عبد الرحمن بن القرشي وزير

الحقانية سابقًا. وعندما تشرف بمقابلة جلالة السلطان خطب خطبة ضافية بصفته

رئيسًا للوفد، وبيَّن فيها ما كان للبربر من سوابق عظيمة في إعلاء كلمة الإسلام،

والتضحية في سبيل إعزازه، وبين أن الحكم بينهم كان بالشريعة الإسلامية في كل

أدوار التاريخ، مستندًا في ذلك إلى حجج تاريخية مقنعة. فأجابه جلالة السلطان:

(إنه سيتأمل في الأمر وينظر في المسألة) وبمجرد ما شاع هذا الرد ورجع الوفد

إلى فاس من غير نتيجة معينة - هاج الشعب هيجانًا عظيمًا، وأقفلت الأسواق،

ووقعت مظاهرات كبرى، واصطدم البوليس مع الجمهور، وسقط كثير في الطرقات

والشوارع.

وعلى إثر ذلك ألقي القبض على رئيس الوفد (ابن القرشي) وزير الحقانية

فيما قيل. وعلى رئيس الغرفة التجارية (ابن عبد السلام الحلو) أحد أعضاء الوفد

الكبار، وظلت الحكومة تقبض وتسجن إلى أن بلغ عدد المسجونين بهذه المناسبة

نحو مائة وخمسين شخصًا، كلهم من خاصة الأمة وأعيانها. وبعد أن أودعتهم في

سجن فاس رأت أنهم يستحقون أن يكونوا في سجن آخر فيه من أنواع العذاب ما

ليس في سجن فاس! فنقلتهم إلى سجن تازة العسكري وحكمت عليهم بالسجن إلى

أجل غير مسمى. وقد أشارت حتى الجرائد الفرنسية في باريس إلى هذه الحادثة

الأخيرة وذكرت بعض أسماء المسجونين.

هياج البربر وإعلانهم

الاعتصام بالإسلام

أما القبائل البربرية نفسها فلا تسأل عما قامت به من الهيجان العظيم، بل قد

أقامت المناحات في كل جهة إظهارًا لاستيائها العظيم مما يراد بها، وتجمعت قبائل

كثيرة حول المحاكم التي أقامتها فرنسة هناك وأعلنت للولاة الفرنسيين أنها على

الإسلام تحيا وعليه تموت، ولم تكتفِ بذلك بل أرسلت وفودًا إلى جلالة السلطان

تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين،

وبينما جلالته يعدهم بإرسال القضاة الشرعيين إذا بولاة فرنسة يسجنون جميع

الأفراد التي جاءت موفدة، ولا يكتفون بذلك بل يجبرون المديرين لتلك القبائل من

المسلمين (العمال) على توقيع رسائل مضمومها شكر فرنسة والامتنان لها من هذا

العمل المجيد، ونحن نعرف أفرادًا من هؤلاء امتنعوا من التوقيع على مثل هذه

الرسائل فكان عقابهم أن يسجنوا في بيوت الأدب (الكنف) وأن تسلَّط الأيدي

الفرنسية على وجوههم بالضرب واللطم حتى دميت تلك الوجوه.

وهنا نجد الفرصة سانحة لعرض مطالب الشعب المغربي التي قدمتها وفود

البلاد بصيغة واحدة وهي وحدها كافية في إطلاع إخواننا من أبنا الشرق على مظالم

فرنسة وعدوانها على الإسلام في المغرب، ففي كل مطلب احتجاج صارخ على

عمل قامت به فرنسة ضد ذلك المطلب، ولا يعقل أن يتجه شعب كامل إلى مطالب

بعينها وهو حاصل عليها، وإنما يطلب ما كان مفقودًا ولا نتيجة رغبة شعب بأسره

إلى هذه الناحية بخصوصها إلا بعد ما رأى أن كيانه ضائع، وأن حياته آيلة إلى

الفناء وهي هذه:

مطالب الشعب المغربي المسلم

1-

احترام نفوذ جلالة السلطان بالإيالة الشريفة وتثبيت سلطته الدينية

والدنيوية، وذلك بجعْل سائر الولاة المخزنيين (ولاة الدولة) من قضاة وقواد

وباشاوات ومحتسبين ونظار وأمناء الأملاك مسئولين أمام الحكومة الشريفة (لا أمام

غيرها من الموظفين الأجانب) .

2-

إصدار ظهير شريف بجعل سكان سائر الحواضر والبوادي خاضعين

لحكم الشريعة الإسلامية.

3-

تنظيم المحاكم الشريفية وإصلاحها وتولية الأَكْفَاء فيها، سواء محاكم

القضاة أو محاكم الباشاوات والقواد والمحتسبين وتعميمها في سائر القطر المغربي لا

فرق في ذلك بين حواضره وبواديه.

4-

توحيد برامج التعليم في جميع المدارس والتي تؤسس لتعليم الوطنيين في

المدن أو في القبائل، وتعميم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وتعميم التعليم

الديني الإسلامي في كل هذه المدارس.

5-

احترام اللغة العربية - لغة البلاد الدينية والرسمية - في جميع

الإدارات بالإيالة الشريفة، وكذلك في سائر المحاكم وعدم إعطاء أي لهجة من

اللهجات البربرية أي صبغة رسمية، ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية.

6-

إيقاف حركة المبشرين على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، ومنعهم من

التجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها، وعدم السماح لهم بنشر أي

شيء يمس كرامة الإسلام وكرامة النبي صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع

النشر.

7-

عدم منح أي إعانة من ميزانية الدولة الشريفية أو إعطاء أي ملك من

أملاك المخزن الشريف للجمعيات التبشيرية، وللساعين في تشييد الكنائس وأندية

التبشير في أطراف البلاد المغربية.

8-

عدم السماح للمبشرين بإحداث ملاجئ للأيتام وللقطاء المسلمين وإحداث

مدارس صناعية وعلمية (كما يسمونها) للبنين والبنات، والإنفاق على ذلك من

المال المعد للمصالح العامة من أموال جماعة المسلمين (كما هو مقرر في الشريعة

الإسلامية) أما ما سبق تأسيسه من هذا النوع فإما أن تقوم به الحكومة الشريفية وإما

أن يُقفل، وعلى كل حال لا ينبغي أن يبقى تحت نفوذ المبشرين.

9-

لا يعيَّن الرهبان والمبشرون مدرسين في مدارس الحكومة الشريفية أو

قائمين بإدارتها.

10-

عدم التعرض لفقهاء المكاتب والمشارطين لتعليم (اللغة العربية والقرآن

الكريم بالقبائل) وإعطاء الحرية للوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية للتجول

في الأنحاء المغربية بقصد تعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره.

11-

إسقاط جوازات التنقل بداخل الإيالة المغربية (وخصوصًا فيما بين

المدن والقبائل البربرية) والاكتفاء بورقة التعريف الشخصية حتى لا يظل

الحضري بعيدًا عن أخيه البدوي، ويتعذر بذلك التفقه في الدين.

12-

اعتبار جميع السكان الموجودين بالبلاد المغربية - ما عدا الأجانب -

تحت رعاية مولانا السلطان وسلطته، خاضعين للمحاكم الشرعية والمخزنية التي

تؤسس باسمه الشريف، وكذلك اعتبار جميع المغاربة مسلمين، ما عدا يهود

المغرب؛ بمعنى أنه لا توجد ملة ثالثة معترف بها للمغاربة الوطنيين.

13-

منح العفو العام عن جميع المسجونين والمنفيين في هذه القضية البربرية

وعدم التعرض بسوء لكل من خاض فيها.

وبعد: فهذه هي مطالب الشعب المغربي التي يتعذب من أجلها عدد كبير من

عظمائه وشيوخه وشبانه في غيابات السجون. وهذا هو الملخص البسيط الذي

نقدمه لإخواننا الشرقيين عن حركة المغرب الكبرى التي تثير شعور العالم الإسلامي

أجمع، وعلى رأسه الأمة المصرية الكريمة، وجامعة الأزهر الشريف معقل

الإسلام وحصنه الحصين، والجمعيات الإسلامية المخلصة في مصر.

فهل لمفوضية فرنسة في مصر أن تكذب هذه الحوادث التي ذكرناها تكذيبًا

صريحًا؟ !

وهل لها أن تقول: إن فرنسة لا تأخذ من مالية المسلمين المغاربة ومن أحباسهم

(أوقافهم) الإسلامية إعانة مهمة للجمعيات التبشيرية التي تنشرها في كل أنحاء

المغرب؟

وهل تستطيع أن تنفي أنَّ عددًا من المراقبين الفرنسيين على رأسهم المراقب

المدني في قبيلة زمور منع البربر من بناء مسجدهم الإسلامي وأعان المبشرين على

إقامة الكنيسة هنالك بدل المسجد؟

وهل لها أن تكذِّب أن هذا المراقب نفسه ومراقب قبيلة بني نطير (إحدى

القبائل البربرية) خطبا في دائرتي نفوذهما قائلين: (إن العرب إنما هم غزاة

غرباء، وإن فرنسة إنما أتت للمغرب رغبة في إنقاذ الشعب البربري من العرب

وشريعتهم وسلطتهم؟)

وهل لها أن تقول: إنه لا يوجد في القبائل البربرية مدارس فرنسية تجبر

البرابرة على تسليم أولادهم إليها جبرًا وهي خالية من الإسلام ومن العربية؛ بل فيها

تبغيض الإسلام للبربر والتنفير من العرب؟

فما قول جريدة الأهرام المحترمة ومِن ورائها مفوضية فرنسة؟

هل تقول بعد هذا: إن ما يُنسب إلى فرنسة لا يمكن يعتقده إلا البسطاء

السذج؛ في معرض ردّها على جمعية الشبان المسلمين التي تعرف الحقيقة

وتساعد على نشرها لا تبغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا؟ اللهم إن الحقائق

واضحة لا يمكن أن ينكرها إلا مَن في قلبه مرض، أو في صدره غرض.

وأخيرًا نتقدم باسم الشعب المغربي إلى الأمة المصرية الكريمة وعلى رأسها

رجال الأزهر الشريف والمشتغلون بمسائل التدين والإسلام وقادة التفكير في مصر

شاكرين مغتبطين على مشاركتنا الفعلية لنا في أحزاننا واحتجاجاتنا ضد الحكومة

الفرنسية العاتية.

ونود أن يظل الرأي العام المصري واقفًا على الحقيقة الواقعة في المغرب

اليوم، وأن يناصر الأمة المغربية المسكينة في موقفها الجدي ضد فرنسة التي

اعتدت على دينها ووحدتها، كما اعتدت على جميع حرياتها، فليس هنالك أكذب

من ظالم ولا أصدق من مظلوم.

ونتقدم إلى إخواننا من أبناء الشرق الإسلامي وأممه راجين منهم أن يعينونا

على نشر هذه الحقائق بين أممهم وأن يساعدونا على رفع احتجاجاتنا الصارخة إلى

العالم شرقيه وغربيه وأن يناصرونا ضد طغيان فرنسة، ويعرفوا جميع الشرقيين

بالموقف الحاضر في المغرب الأقصى.

ولنا أقوى الأمل في إجاباتهم هذا الرجاء الصادر من أعماق قلوب شعب

مظلوم، وقيامهم بالواجب معنا جنبًا لجنب. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

...

...

...

... الطلبة المغاربة بباريس

_________

(1)

المنار: لتعلمْ جماعة شبان المغاربة وسائر المسلمين أن رئيس تحرير الأهرام يعلم كل ما ذكروه من محاربة فرنسا للإسلام ويعلم أكثر منه ولكنه مغرور وبجهل جمهور قراء الأهرام المسلمين، فهو يحارب دينهم بقلمه مساعدةً لفرنسة ولغير فرنسة، ويخدع أغرارهم بنشر مديح بعض منافقيهم له جزاءَ مدحه لهم، ولكن سريرته قد ظهرت في هذا العهد.

(2)

المنار: كان لفرنسة تأثير عظيم في هذا الاضطراب.

(3)

أي بزعم هؤلاء المضلين والحق أنه لم يتنصّر منهم في ذلك العهد إلا الأقلون.

(4)

المنار: هذه الأخبار إجمال للرسائل التي جاءت من عدة بلاد من المغرب وكانت سبب إصدار البيان الإسلامي العام الذي نشرناه في هذا الجزء وفيها أن الصيغة التي أعلنوا بها الخير هي ما اعتادوه في أوقات الشدائد كالأوبئة والحروب من قولهم: يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير، وتكرارها برفع الأصوات ألوفًا من المرار.

ص: 225

الكاتب: مصطفى بن شعبان

‌تهنئة للمنار ونقد واقتراح

من الأستاذ الفاضل وأحد دعاة الإصلاح بتونس صاحب الإمضاء:

حضرة صاحب الفضيلة مولانا الإمام العلامة المصلح الكبير الأستاذ الجليل

السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي الزاهر، دام فضلكم وأبقاكم الله

بدرًا منيرًا، وكوكبًا ساطعًا، ونجمًا للمسلمين، ورجمًا للملحدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عدد ما يشكركم شاكر، ويذكر فضلكم

ذاكر، وبعد:

يسرني أن أتقدم لحضرتكم بغرر التهاني بمناسبة دخول المنار المحبوب عامه

الجديد، جعله الله سعيدًا عليه وعليكم وعلى الجامعة الإسلامية بالتوفيق والهداية

وبلوغ الآمال، ونجاح الأعمال.

نراكم - يا سيدي العزيز - تقومون بواجب عظيم في محاربة الملحدين

الطائشين، وتقفون لهم في كل سبيل، فشكرًا لكم وألف شكر على هذه العناية

والجهاد في سبيل الله، وإن الملحدين لجديرون بأن تصوَّب إليهم الأقلام، وتنزل

على رؤوسهم الصواعق. فعندنا جريدة تدعو للإلحاد، وملحدون يقول أحدهم:

(إن محمدًا كان رجلاً استعماريًّا!) ويندم آخر على ما فرط منه في صغره من أداء

الصلوات وحفظ القرآن. ويقول آخر: إن الدين يلزم أن لا يتعدى المسجد كما فعل

م

لعنه الله.

والذي ألفت إليه نظركم السديد هو - وإن عددتموه من باب (الانتقاد على

المنار) - الاهتمام بحركات الجامدين وجماعات الطرق الذين اتخذهم الغاصب آلة

بيده يديرهم كيف شاء ومتى شاء لتشتيت شمل المسلمين، ونشر دعايات المحتلين،

وما خيانتهم للأمير محمد بن عبد الكريم إلا أكبر مثال على ما لهؤلاء من اليد

الطولى في التفريق وتأييد الظالمين.

نعم - سيدي - أولئك جماعات الطرق الذين ينشرون الجهل، ويبثون فساد

الأخلاق، ويعملون مع النصارى ضد المسلمين، وأكاد أستغرب سكوت المنار على

المؤتمر الأفخاريستي الذي انعقد بتونس. وكان جديرًا بأمثال المنار أن يؤازر

تونس المقهورة ويضم صوته إليها في الاستغاثة من الذين يسعون في تصيير تونس

الإسلامية كنيسة مسيحية، ويؤازر أعمالهم الصادرة من أعماق الكنيسة رجال

السياسة عندنا ورجال الدين أيضًا، إذ هم قبلوا العضوية وكانوا مع الزمان علينا

بدل أن يصيحوا معنا، ولكن ابتلينا بهم ولا رادّ لقضاء الله. ولولا ضيق وقتكم

وكثرة أشغالكم وسعيي في عدم تفويت ثمين أوقاتكم عليكم - لحدثتكم كثيرًا عما

يختلج بضميري من الحوادث التي تقع عندنا. ورغمًا عن منافاتها للدين الحنيف فإن

رجالاً يقرونها بسكوتهم. وكذلك المصائب السياسية التي أمطرنا بها الاستعمار

الظالم فإنها لا تُحصى، ويكفي أن تلقي نظرة على أحوالنا فترى ما آل إليه أمرنا

و (كبراؤنا) ينظرون ويطربون! وسيأتي يوم

وأختم كلمتي هذه باقتراح نراه مع بساطته نافعًا إن شاء الله، وهو أن تصدروا

صحيفة أسبوعية مثل الفتح فإننا في حاجة إليها. وقد تزداد الحاجة يومًا فيومًا.

وعسى أن تعملوا بهذا الاقتراح ومثلكم لا يحتاج إلى تأكيد.

سيدي، قد وصلني السلام والثناء من حضرتكم مع الأستاذ طفيش، فشكرًا

لكم على عواطفكم وهديتكم المستمرة وأدام فضلكم وكتب لكم الإعانة والسلام.

...

...

...

... من ابنكم المخلص

...

...

...

... مصطفى بن شعبان

(المنار)

نشكر لأخينا في الله تهنئته وحسن ظنه، ونعجب لحضّه إيانا على بيان مفاسد

الجامدين، ومشايخ الطريق الدجالين، ومَن ذا الذي سبقنا في العالم الإسلامي إلى

هذا أو لحقنا في ميدانه، ولكن لا يمكن أن نحصي في كل جزء ولا في كل مجلد

من المنار كل ما في العالم الإسلامي من فساد وإلحاد، وكل ما يرهقه به أعداؤه من

ظلم واضطهاد، ولعله لم يطلع إلا على المجلدات الأخيرة التي أكثرنا فيها الكلام في

ملاحدة المسلمين لكثرتهم وإظهار دعايتهم في هذه السنين، وهم أضر علينا من

الخرافيين والمبشرين. وأما المؤتمر الأفخارستي فلم يكتب لنا شيء في موضوعه

إلا في هذا الشهر، وأما اقتراحه علينا إنشاء جريدة أسبوعية فقد اقترحه علينا غيره

من قبله ولكن أوقاتنا لا تتسع له وليس لنا مساعد على أعمالنا الكثيرة.

وأكثر محبي الإصلاح من علماء المسلمين وعقلائهم يقترحون علينا ترك كل

عمل يعوقنا عن إتمام تفسير كتاب الله تعالى الذي يتضمن كل ما يحتاجون إليه من

بيان لحقيقة الدين ودفاع عنه، ولعلنا نفضل هذا الاقتراح على غيره قريبًا، والله

الموفق.

_________

ص: 236

الكاتب: عن جريدة أم القرى الغراء

‌الشيخ سليمان بن سحمان

وفاته وترجمته

من جريدة أم القرى الغراء

نَعَتْ إلينا أنباءُ نجد وفاة العالم العلامة المِفضال الشيخ سليمان بن سحمان، وهو

من أكابر علماء نجد الأعلام، توفاه الله في هذا الشهر عن عمر ناهز الثمانين عامًا

قضاها في الدرس والتأليف. وقد كان لنعيه رنة أسى وحزن في نجد جميعًا ولدى

كل مَن عرف فضل الأستاذ وما آتاه الله من علم وفصل في الخطاب.

وُلد المرحوم في قرية (السقا) من أعمال أبها في عسير في الثلث الأخير من

القرن الثالث عشر الهجري، وإلى ذلك يشير في إحدى قصائده:

وأرض بها علي نيطت تمائمي

تسمى (السقا) دار الهداة أولي الأمر

بلاد بني تمام حيث توطنوا

وآل يزيد من صميم ذوي الفخر

وقد نشأ في قريته حتى راهق البلوغ ثم انتقل مع والده إلى بلد الرياض أيام

الإمام فيصل بن تركي رحمه الله، وقد كانت حينذاك آهلة بالعلماء الأكابر فأخذ

العلم عنهم لا سيما عن الإمامين الجليلين: الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن

ابن حسن، والشيخ حمد بن عتيق. فبرع في كثير من العلوم وعلى الخصوص في

علم التوحيد والفقه واللغة.

ثم تولى الكتابة للإمام عبد الله بن فيصل برهة من الزمن، ثم استقال وتفرغ

للعلم فدرس على علماء وقته أمثال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وأخيه الشيخ

إبراهيم، وعمهما الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن.

وكان جميل الخط فاشتغل في نسخ كثير من الكتب الجليلة، وقد كان هذا

وابتعاده عن الناس أكبر مساعد له على الدرس والمطالعة.

وكانت عنده كناشة كبيرة يجمع فيها ما يجده أثناء النسخ والمطالعة من

المسائل الدقيقة والقضايا العويصة وكان يرجع إليها عند الحاجة. وكان ضليعًا في

اللغة العربية، واقفًا على أسرارها.

وقد كان رحمه الله يميل إلى السكون والابتعاد عن الشهرة، فكان زاهدًا تقيًّا

صادعًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقد صنف المصنفات العديدة من نثر

ونظم، أكثرها في الرد على أهل الزيغ والإلحاد، منها:

(1)

الأسنة الحداد في الرد على الحدّاد.

(2)

الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق. ويريد به داعية

التعطيل في هذا العصر: جميل صدقي الزهاوي.

(3)

تنبيه ذوي الألباب السليمة.

(4)

الهدية السنية.

(5)

إقامة الحجة والدليل.

(6)

تبرئة الشيخين.

(7)

الصواعق المرسلة.

(8)

إرشاد الطالب.

(9)

رسالة في الرد على أناس من الإحساء.

(10)

رسالة في الرد على العلجي.

(11)

كشف غياهب الظلام.

(12)

فتاوى.

وغيرها من الكتب والردود.

وقد جمع ورتب رسائل أستاذه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

آل الشيخ فبلغت نحو عشرين كراسة سماها (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل)

وكان المرحوم شاعرًا بليغًا جمع قسمًا من قصائده وأشعاره في ديوانه المسمى

(بعقود الجواهر المنضدة الحسان) وقد طبعت جميع كتبه على نفقة حضرة صاحب

الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود المعظم ووزعت على طلاب العلم مجانًا.

هذا ما اتصل بنا من ترجمة المرحوم الأستاذ رحمه الله تعالى.

وفي الجملة فقد كان رحمه الله من سيوف الله المسلولة على أهل الزندقة

والإلحاد، وصاحب الحجة الدامغة في دفع الشبه والريب التي يذيعها أهل المروق من

الدين، والذين كان يغريهم شياطين السياسة من المرتزقة المرذولين. وكان

شديد الصراحة فيما يعتقد من الرأي، لم يعرف المحاباة في رأيه مدة حياته وهو في

كل مجالسه حفيًّا بالسؤال عن كل ما يطبع من الكتب النافعة كما يحرص

على اقتنائها. وقد كفّ بصره في آخر حياته ولكن ذلك لم يمنعه عن المطالعة

والتأليف وتفقد الذين يطعنون في الإسلام وفي دين التوحيد الخالص لرد كيدهم إلى

نحورهم.

وبهذا كان رحمه الله ركنًا من أركان الدعوة إلى الله، والسيف القاطع لمن

يريد أن يصد الناس عن سبيل الله.

فنسأل الله أن يُنزل عليه غيث رحمته، وأن يوفق للعمل كي ينشأ كثيرون من

طلبة العلم على منوال الشيخ المرحوم؛ فلا تفقد نجد بهجة علمها وعلمائها.

_________

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

الشيخ أبو بكر خوقير

وفاته وملخص ترجمته

(1)

فاجأتنا أنباء الحجاز في الشهر الماضي بوفاة صديقنا العالم العامل المصلح

الشيخ أبو بكر خوقير، تغمده الله تعالى برحمته، فننشر للقراء موجزًا من ترجمته

كما علمناه من أصدق إخواننا وإخوانه. فنقول:

هو أبو بكر بن محمد عارف بن عبد القادر بن محمد علي خوقير. من بيت

علم بمكة، ولد فيها وتفقه أولاً على مذهب الحنفية تبعًا لآبائه، ثم إن أستاذه مفتي مكة

الشيخ عبد الرحمن سراج الحنفي أشار عليه وعلى آخرين من طلبة العلم بأن

يتفقهوا في المذهب الحنبلي؛ ليكون في علماء الحجاز مَن يتولى منصب الفتوى في

هذا المذهب بدلاً من علماء نجد؛ الذين كانوا يتولونه لعدم وجود أحد من علماء

الحنابلة في الحجاز، ولم يكن هذا مما ترتاح إليه الحكومة العثمانية ولا أمراء الحجاز،

فدرس الفقيه المذهب، وتمكن فيه وفي مذهب السلف في العقائد. وقد عُين مفتيًا

للحنابلة في أول إمارة الشريف حسين بن علي، ولم يلبث أن غضب عليه فعزله

وعين بدله أحد الشافعية، فكان لا يُفتي للحنابلة إلا بعد مراجعته والأخذ بما يرشده

إليه، وجعله الشريف حسين عضوًا في مجلس الشيوخ ثم عزله بعد سنة لاعتراضه

على خوض محرر جريدة القبلة في تفسير القرآن بغير علم، وكان الشريف نفسه هو الذي يفسر بعض الآيات برأيه في بعض المقالات التي ينشرها في تلك الجريدة وفي

بعض بلاغاته الرسمية أيضًا.

وقد امتحن وأُوذي إيذاءً شديدًا جزاءً له على إنكار البدع والخرافات ولا سيما

بدع القبوريين والمتصوفين، حُبس أولاً ثمانية عشر شهرًا، ثم حبس ثانيًا نحوًا من

سبعين شهرًا في عهد الشريف حسين، وحبس ولده الشيخ عبد القادر في سجن القبو

الذي هو شر من سجن الحجاج بن يوسف، وقد سبق وصفه في المنار، فمات فيه

صبرًا، وكان له ابن صغير فمات كمدًا وقهرًا، وخرج الشيخ من سجنه لا مال له،

وإنما كان يصيبه قليل من أوقاف الحرمين التي تأتي من الآستانة ومصر والشام

والعراق. وكان قد اعتاد الاتِّجار بالكتب منذ عزله الشريف عون الرفيق من وظائف

الحرم الشريف؛ إذ كان غضب على الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة ورئيس

العلماء فيها فعزله وعزل جميع رجاله من المفتين والمدرسين. وكان للفقيد منها

إفتاء الحنابلة وإمامة الصلاة في مقام الحنابلة كما كان مدرسًا.

وكان يدعو للشريف عون بالرحمة لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على

العلم، فكان يذهب إلى الهند يحمل إليها من مطبوعات مصر ومكة ويعود منها

ببعض مطبوعاتها إلى مكة، وقد جلست إليه في مكتبته في باب السلام غير مرة،

وكان مهذبًا رقيق الطبع حسن المعاشرة على شدته في دينه وأمره بالمعروف ونهيه

عن المنكر، حتى أن مجلسه لا يخلو من دعابة ما في المفاكهة، ونكت أدبية

وتاريخية وكان يحب سماع الأصوات الشجية ولا يرى بها بأسًا.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 240

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة من قبودان الصين لأحد العلماء وأصحاب الصحف

(27-32)

من أحقر الأنام، عثمان بن حسين الصيني إلى الأستاذ العلامة محمد رشيد

يا سيدي سلام عليكم ورحمة الله (وبعد) :

فقد وصل إلى الفقير الجزء الأول من المنار الشريف وأحاط بما فيه وسُرّ

سرورًا شديدًا، جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء.

فالمرفوع آنفًا أن علماء الصين تنازعوا في بضع مسائل:

(1)

أن بعضهم قالوا بأن أرض الصين دار إسلام فإن المسلمين تولدوا في

الصين ونشئوا وتمكنوا على التدين والعمل بالشرائع فهي دار إسلام فأحكام دار

الإسلام كعدم جواز بيع الخمر ووجوب العشر ونحو ذلك جارية فيها، وبعضهم قالوا

بكونها دار حرب فإن المسلمين داخلون تحت الحكام والقضاة للكفار وليس لهم قاضٍ

ولا حاكم مستقل.

(2)

أن مسلمي الصين يَدْعُون الإمام والمؤذن والقراء إلى بيوتهم لقراءة

القرآن لأجل موتاهم، وعادتهم إن دعوا مثلاً عشرة قراء إلى بيوتهم فقرأ كلٌّ ثلاثة

أجزاء من القرآن معًا أو قرؤوا كل جزء إلى نصفه أو أقل أو أكثر باختيارهم

فأطبقوا القرآن فإن الداعي يُخرج لهم أنواع الطعام ويعطي كل واحد منهم أربعة

دراهم أو أقل أو أكثر بعد الأكل وهذا ديدنهم.

فقال بعض العلماء إن هذا مخالف للكتب الفقهية لا يجوز وغيروا هذه العادة

ثم صار أمرهم إلى أنهم إن قرؤوا عن الغير لم يأكلوا ولم يقبلوا الهديات وإن أكلوا

من طعام الداعي لم يقرؤوا، لكن نهض بعض أهل العلم والقوم لمعارضتهم وهم الذين

قراءة القرآن عند القبر مناط معاشهم ولم يرضوا بتغيير عادة السلف وأخذوا في

القيل والقال، فالمرجو من كرمكم - يا سيدي - إعطاء الجواب الحسن القاطع

للنزاع بينهم المفيد على مذهبنا الحنفي؛ لأنهم وقعوا في ورطة للتفرق والشقاق بهذا

السبب.

(3)

إن بعض الناس إذا وجع ضرسه أو داد سنه وفسد وضع ضرسًا من

الذهب أو غيره في موضعه وإذا فسد بعض ضرس رصعه بالذهب وسده به

وأصلحه. هل هذا جائز أم لا؟ هل هو مانع لصحة الغسل أو لا؟ هل وجود

الضرورة شرط لجواز الوضع؟ وهل إخراج هذا الضرس الوضعي بعد الموت

واجب أم لا؟

(4)

إن بعض نساء المسلمين قطعن ذوائبهن؛ لاقتفاء النساء الإفرنج

والمشركات ويمضين في الأسواق بغير قناع هل هذا حرام غليظ أم خفيف كيف

حكمه على مذهبنا الحنفي؟

(5)

بعض مسلمي الهند لم يتمذهبوا بمذهب من مذاهب الأئمة رضي الله

عنهم وقالوا إن أهل المذاهب خالف بعضهم بعضًا بل خالف رأي بعض الأئمة

الحديث الشريف وهذا يؤدي إلى التشاجر والتقاطع ونحن محمديون نقتدي بالقرآن

وبمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ونعمل بالقرآن والحديث، لا نقتدي بهذا ولا

بذاك هل رأيهم هذا صواب أم لا؟

فالمرجو من كرمكم الفتوى وإعطاء الجواب على التفصيل على مذهبنا الحنفي

سراعًا.

جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء فإنا كالضفادع في غَيَابة الجُبّ.

(6)

ثم بقية المرام أنهم تنازعوا في مسألة الهلال، ودخول شهر رمضان

وخروجه وقبول أخبار الآفاق بالرؤية وعدمه وتخالفوا، فالإرشاد الإرشاد، فلله

دركم والسلام.

...

...

...

الداعي تلميذكم

...

... عثمان بن حسين بن نور الحق الحنفي الصيني

أجوبة المنار على ترتيب عدد باب الفتاوى

(27)

دار الإسلام ودار الحرب:

إن دار الإسلام هي البلاد التي تنفذ فيها شريعة الإسلام بالسيادة والحكم من

قِبَل أولي الأمر من المسلمين. لا كل بلاد يمكن للمسلم فيها أن يصلي ويصوم؛

فإننا إن قلنا بهذا حكمنا بأن جميع ممالك أوربة وأميركة دار إسلام، إذ لا يُمنع أحد

فيها من صلاة ولا صيام، وإن المسلمين يصلون الجمعة والعيدين في باريس

عاصمة فرنسة ولندن عاصمة الإنكليز فهل هما من دار الإسلام؟ . كلا. ولا كل

بلاد فتحها المسلمون وإن زال حكمهم منها دار إسلام، فإننا إن قلنا بهذا نكون قد

حكمنا بأن بلاد الأندلس وجنوب فرنسة دار إسلام. وإننا ننقل لهؤلاء المختلفين في

هذه المسألة بعض أقوال فقهاء الحنفية الذين ينتمون إلى مذهبهم:

قال في الكافي: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من

البلاد، ودار الحرب ما يجري فيه أمر رئيس الكفار من البلاد. وفي الزاهدي أن

دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من

الكافرين. ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار الإسلام بإجراء بعض أحكام

الإسلام فيها. وأما صيرورتها دار الحرب نعوذ بالله تعالى فعنده [1] بشروط:

(أحدها) إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم بحكمهم ولا يرجعون

إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من الإسلام كما في الحرة.

(وثانيها) الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام

يلحقهم المدد منها.

(وثالثها) زوال الأمان أي لم يبق مسلم ولا ذِمّيّ آمنًا بأمان الإسلام، ولم

يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة كما كان قبل استيلاء الكفرة،

وعندهما [2] لا يشترط إلا الشرط الأول. اهـ.

هذا، وإن الصين لم تكن دولة إسلامية تابعة لخليفة من أئمة المسلمين ولا

لسلطان من سلاطينهم تنفذ فيها أحكام شريعتهم ويكون مسلمو أهلها آمنين فيها

بإسلامهم وغير المسلمين آمنين بعقد الذمة مع أولي الأمر من المسلمين فتكون دار

إسلام، فلا أدري من أين جاءت الشبهة لبعض متفقهة إخواننا من مسلميها بأنها دار

إسلام؟ !

نعم، إن بعض فقهاء الحنفية تساهلوا في شروط إبقاء حكم دار الإسلام في

البلاد التي تنفصل من سلطنة إمام المسلمين بتغلب الكفار أو البغاة عليها فلا

يشترطون في صيرورتها دار حرب الشروط الثلاثة التي اشترطها إمام المذهب

الأعظم، بل قال بعضهم: إنها تعد دار الإسلام والمسلمين ببقاء بعض أحكام الإسلام

فيها ولو حكمًا واحدًا (كما في العمادي وفتاوى عالم كير وفتاوى قاضي خان

وغيرها) ولكنهم جعلوا هذا من قبيل الاحتياط كما في جامع الرموز، والذي نفهمه

من الاحتياط أنه يجب على أهل هذه البلاد أن يعدوها تابعة لحكومة خليفة الإسلام،

ويجتهدوا في إزالة ما عرض لهم فيها من العدوان، كما فعلت بعض البلاد التي

استولت عليها جيوش الدول الأوربية وأبطلوا فيها بعض أحكام الإسلام دون بعض.

وهذا الاحتياط لا يمنع الإمام في دار الإسلام والعدل من التصدي لإعادتها إلى حكمه

ولو بالقتال عند الإمكان، ومن هذا القبيل ما ذكرناه من البحث في دار الإسلام

الأصلية مما تغلَّب عليه أهل الحرب من الكفار وقلنا بوجوب سعي المسلمين إلى

إعادة حكم الإسلام فيها (راجع ص 576 و580 من مجلد المنار 30) .

ولكن هذا الاحتياط لا يأتي في بلاد الصين فهي دار كفر وحرب من الأصل

فيباح لأهلها المسلمين في مذهبهم الحنفي أكل أموال غير المسلمين فيها بالعقود

المعروفة فيها كالربا وغيره وبكل وسيلة من وسائل التعامل والتراضي أو ما عدا

الغدر والخيانة فإن الإسلام لا يبيح هذه الرذيلة. ولا ينبغي لمسلم أن يبيع فيها

الخمر لشاربيها بفتح حانة لها؛ لأن هذا إعانة على الفحشاء والمنكر والشرور،

ولكن له أن يأخذ ثمن الخمر في دَيْن له، وكذا الخمر نفسها وبيعها لهم لا للمسلمين،

ولهذا الباب فروع كثيرة لا محل لذكر شيء منها هنا.

ولكنني أزيد على هذا الجواب تنبيه قرائه من علماء مسلمي الصين وعقلائهم

ما أعتقده من أنهم لو أقاموا دينهم كما يجب، ونموا ثروتهم بالطرق العصرية

المباحة في مذهبهم، ونشروا المعارف الإسلامية والاقتصادية بينهم، وعنوا مع ذلك

بنشر دعوة الإسلام في الصين كما يعنى دعاة النصرانية - لغلب الإسلام في الصين

جميع الأديان، وصار دولة إسلامية عزيزة السلطان، باذخة البنيان، قوية الأركان.

وقد كان كثير من ساسة أوربة وعلمائها في القرن الماضي وأوائل هذا القرن

يحسبون لهذا الأمر كل حساب. وقد صرح به بعضهم ونقلنا بعض أقوالهم في

مجلدات المنار الأولى وأولها ما نشرناه في المجلد الأول بتاريخ ربيع الآخر سنة

1317 وسنعيد نشره كله أو بعضه في جزء آخر ليعتبر مسلمو الصين بتقصيرهم.

***

(28)

قراءة القرآن للموتى وأخذ الأجرة عليها

قراءة القرآن عبادة كالدعاء والذكر لا يجوز أخذ الأجرة عليها بوجه من

الوجوه. وإذا كان فقهاء الحنفية منعوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنه عبادة

فمنع أخذها على قراءته أولى بالحظر، لأن للأخذ على التعليم وجهًا وقد قال

الجمهور بجوازه. وقد بينا هذه المسألة في الفتوى العاشرة من فتاوى مجلد المنار

الثلاثين (ص108) .

وأما أصل مسألة القراءة على الموتى فقد فصلنا القول فيها في 16 صفحة من

جزء التفسير الثامن (صفحة 255-270) وبينا أن التحقيق أن قراءة القرآن

للموتى بدعة غير جائزة وذكرنا أدلة مجوزيها مع بيان ضعفها فليراجعها السائل.

ولكن هنا مسألة أخرى وهي أن قراءة القرآن في البيوت من الأمور التي

تقوي إيمان أهل البيت وتزيد أنس أرواحهم وشرح صدورهم بالإسلام سواء فهموا

القرآن أو لم يفهموه، فإن سماعهم له مع اعتقادهم أنه كلام الله تعالى يؤثر في

قلوبهم بقدر إيمانهم، وفائدة من يفهم منهم تكون أعظم. وقد جرت عادة الموسرين

في بلاد مصر أن يجعلوا في كل بيت من بيوتهم حافظًا من حفاظ القرآن يتلوه في

ليالي رمضان من بعد صلاة العشاء والتراويح إلى وقت السحور، ومنهم من يقرأ

القرآن في داره كل يوم، ويعطون لهؤلاء القراء شيئًا معينًا في الشهر من باب الهبة

والتبرع، لا الأجرة التي تثبت بالتعاقد، وقد فرقت الشريعة بين التعاقد والتبرع

الاختياري فثبت في الأحاديث الصحاح استحباب قضاء الدين بزيادة وفضل عن

أصله، وأخذ بهذا من لا يبيح التعاقد على هذه الزيادة بل يعدها من الربا، والمتفقه

من هؤلاء القراء يستبيح أخذ ما يُعطاه من هذا الباب، وكذلك المعطي له يعد ذلك

قربة من باب الصدقة لا الأجرة على التلاوة.

وقد ذكرت هذه المسألة في الفتوى العاشرة من المجلد الماضي التي أشرت

إليها آنفًا، وقلت فيها:

فإذا قصد القارئ ذلك (أي فائدة السامعين للقرآن) مع التعبد والاتعاظ بنفسه

أرجو أن يباح له أخذ ما يُعطَى في كل شهر وهو يكون بغير عقد، وهو غير

خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا بهذه

الوسيلة، وهو هجر للقرآن وناهيك به من مصيبة.

فالذي أراه أن يجتمع إخواننا المختلفون في هذه المسألة في بلاد الصين

ويتذاكروا فيما كتبناه لعلهم يتفقون على أن يكرموا قراء القرآن بشيء من المال

يدفعه لهم الموسرون في كل شهر، ويرغِّبون إليهم أن يختلفوا إلى بيوتهم في أوقات

معينة لتلاوة القرآن فيها، وأن يكون من هذه الأوقات ما تحدث فيه المصائب

لتعزية أهلها وصرفهم عن البكاء بسماع القرآن على أن لا يعطوهم شيئًا في هذا

الوقت بنفسه كالسابق.

وأما أكل الطعام في هذه البيوت فيحسن أن يكون في الأوقات التي يأكل فيها

غيرهم من الأصدقاء أو الفقراء وأن لا يقرؤوا فيها.

***

(29)

الأضراس الصناعية وإصلاح الطبيعية بالحشو والذهب:

صرح بعض الفقهاء في كتاب الخلاف بجواز ما ذكر في السؤال كله وباتخاذ

مَن جدع أنفه أنفًا من ذهب وقد أمر به النبي بعض أصحابه. رواه الترمذي وهو

حديث حسن، والسن والضرس أولى بالجواز ولم يذكروا فيها خلافًا، قال النووي

في المجموع: وقول المصنف إن اضطر إلى الذهب جاز استعماله فمتفق عليه وقال

أصحابنا فيباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة وكذا شد السن العليلة بذهب

وفضة جائز ويباح أيضًا الأنملة منهما.. إلخ ولم يذكر فيه خلافًا للمذاهب كعادته.

والأصل في التداوي وإزالة الضرر والفساد الإباحة بمعناها الأعم المقابل

للحظر، فيدخل فيها الواجب، والتداوي وإزالة الآلام العارضة والآفات المفسدة

للأعضاء بما هو معروف مجرب واجب. والتحقيق أن الحرام لا يثبت إلا بنص

قطعي من الشارع كما صرح به الإمام أبو يوسف نقلاً عن مشايخه وعن السلف

الصالح وهو رواية عن الإمام أحمد، وصرح شيخ الإسلام ابن تيمية من كبار حفاظ

الحديث والآثار أن السلف لم يكونوا يحرمون شيئًا إلا بدليل قطعي، كما بينا ذلك

في المجلد الثلاثين من المنار.

وقد اختلف الأئمة في استعمال الذهب والفضة ولم يصح النهي عن النبي

صلى الله عليه وسلم إلا عن الأكل والشرب في أوانيهما وعن خاتم الذهب وإن صح

عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لبسه، وكذا لبس الذهب إلا مقطعاً وبهذا

يقول فقهاء الحديث المستقلون. ومذهب الشافعي القديم أن النهي عنهما للكرامة.

قال القرطبي: وشذت طائفة فأباحتهما مطلقاً ونقله عنه الحافظ ابن حجر في

شرح البخاري. وأما جمهور فقهاء المذاهب فيحرمون جميع أنواع الاستعمال إلا ما

ورد النص به كخاتم الفضة والضبة في الإناء على تفصيل معروف، أما الأكل

في صحافهما والشرب من آنيتهما فبالنص وأما ما في معناهما من الاستعمال

فبالقياس، على أنهم مختلفون في علة التحريم.

ويرد عليهم من لا يثبت من القياس إلا المنصوص على علته أو المعلومة

علته بالقطع كالإسكار في الخمر. ويرد عليهم أهل الحديث بقوله: صلى الله عليه

وسلم: (

وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ - رحمة بكم غير نسيان -

فلا تسألوا عنها) وهو من حديث رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين.

وروى معناه البزار والحاكم وصححه وغيرهما.

ويُستثنى من المحرم - ولو بالنص - ما احتيج إليه لدفع ضرر، وقد صح

في الحديث الإذن بلبس الحرير لدفع ضرر القُمَّل ومثله ما هو مثله في الضرر،

وما هو أشد بالأولى ومنه مداواة الأضراس وحفظها من السقوط بتلبيسها بالذهب

وهو ليس لبساً ولا زينة. وينبغي نزع الأضراس الصناعية عند غسل الجنابة ليعم

الماء الفم كله بالمضمضة وواجبة فيه عند الحنفية وسنة عند الجمهور. ولكن لا

يجب نزع لباس الضرس الملبس بالذهب ولا من الميت لما فيه من المشقة بل يتعذر

على غير الطبيب. ويزال من الميت كل شيء صناعي زائد لا يترتب على نزعه

منه تشويه شيء من جسمه.

***

(30)

تفرنج النساء بالتبرج وقص الشعور

إلخ:

إن ما ذكره عن النساء فيه مخالفة لأحكام الشرع الإسلامي من عدة وجوه

ومفاسده تختلف باختلاف أحوال البلاد العامة. والاعتصام بالدين والتهاون به وغلظ

التحريم وخفته منوطان بدرجة ما في العمل من الفساد:

فمنه أنه من ذرائع الزنا ومسهلاته، ومن أسباب ترك الصلاة، ومن أسباب

قلة إقبال الرجال على الزواج الشرعي لعدم الثقة بعفة النساء الحافظة للنسل.

ومن مفاسده الاجتماعية السياسية التي يغفل عنها أكثر الناس أنه مقطع لروابط

الأمة، مضعف لتماسكها ووحدتها، ومعد لها لقبول عادات الكفار الذي قد ينتهي

بقبول الدخول في دينهم.

ومن الثابت بالاختبار أن ارتكاب الصغائر يجرِّئ على الكبائر وأن الاستهانة

بالكبائر يفضي إلى الكفر كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر.

ومن المجمع عليه أن استحلال مخالفة القطعي من الأوامر والنواهي الإلهية

كفر وردة عن الإسلام.

فيعلم من هذا أن بعض ما ذكر عن النساء مكروه وبعضه محرم خفيف أو

غليظ وبعضه يخشى أن يكون كفراً أو يفضي إلى الكفر باستحلال مخالفة الأمر

والنهي.

***

(31)

التمذهب وأهل الحديث في الهند:

إذا أردتم أن تعرفوا الحق في هذه المسألة بأدلته الشرعية التي جرى عليها

الأئمة الأربعة وغيرهم رضي الله عنهم فطالعوا ما أرسلناه إليكم من كتاب الوحدة

الإسلامية مع مقالات المصلح والمقلد ورسالة (القول السديد في بعض مسائل

الاجتهاد والتقليد) لأحد علماء الحنفية؛ إذ لا يمكن تفصيل القول في ذلك في فتوى

مختصرة مستعجلة، وقد سبق لنا بسطه في المنار، فإعادته تكرار لا حاجة إليه.

ومنه تعلمون أن أهل الحديث في الهند وغيرها على صواب وأنهم أولى باتباع

الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف الذين صرحوا بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم

ووجوب اتباع الكتاب والسنة دون ما خالفهما. فإن بقي عندكم شبهة في المسألة بعد

مطالعة ما ذكرنا فاكتبوا إلينا به لنجيبكم عنه بما يدفع الشبهة ويجلِّي الحجة إن شاء

الله تعالى.

***

(32)

مسألة هلال رمضان:

إن الشارع ناط مسألة رمضان وغيره برؤية الهلال بالأعين كما ناط مواقيت

الصلاة بأمور مشهودة بالحس حتى لا يختلف المسلمون ولا يكونوا محتاجين في

مواقيت دينهم إلى الرؤساء والعلماء. ولكن المسلمين ضيقوا على أنفسهم باختلافهم

في الكتاب الذي سدّ أبواب الخلاف في الدين وزادته السنة بياناً بالعمل وقد نهوا أن

يشددوا على أنفسهم كما فعل بنو إسرائيل والنصارى من قبلهم.

قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم

فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) . وهو متفق عليه ومشهور يذكره فقهاء جميع المذاهب

في كتبهم وخطباء المنابر في خطبهم، ولكن المسلمين قلما يعملون به كما يجب،

فإذا استهل جماعة من أهل البلد بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من

شعبان ولم يروا الهلال ولم يكن هنالك مانع من رؤيته كسحاب أو قتر وجب عليهم

إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً وليس لهم أن يقبلوا قول مخبر برؤيته، وأما إن كان

هنالك مانع من الرؤية وشهد غيرهم بأنه رآه وجب أن يقبلوا شهادته. وفي المسألة

فروع كثيرة يُبنى بعضها على اختلاف الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه،

فينبغي للسائل أن يبين لنا بالتفصيل اختلاف أهل بلده في المسألة وما يستدل به كل

فريق لعلنا نوفَّق إلى إفتائهم بما يرفع الخلاف والله الموفق.

_________

(1)

يعني الإمام أبا حنيفة رحمه الله .

(2)

يعني الإمام أبا يوسف والإمام محمد بن الحسن.

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تلبُّس الجن بالإنس

(س33) من صاحب الإمضاء في المحمودية (بحيرة)

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :

فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي:

كيف يتلبس الجن بالإنس؟ وهل يجوز ذلك؟

فأرجو من فضيلتكم الجواب على ذلك مع الدليل، ولحضرتكم الشكر.

...

...

...

... عبد العزيز الصاوي الخولي

(ج) لم نفهم مراد السائل من قوله تلبس الجن بالإنس؟ هل هو دخول

روح الجني في جسم الإنسي، أم تمثل الجني بصورة الإنسي؟ ومهما يكن مراده

فجوابي أنني لا أدري كيف يكون ذلك؛ لأنه من علاقة شيء من عالم الغيب بشيء

من عالم الحس، وأما كوْن ذلك جائزاً عقلاً فلا شك فيه ولا فائدة منه، وإنما العبرة

بوقوعه، وللناس فيه خرافات كثيرة مضارها معروفة، وإن لنا مباحث طويلة في

أمثال هذه المسائل في الكلام على الجن والشياطين وتمثُّلهم وتمثل الملائكة في

الصور المادية وفي الصَّرْع، يحسن من السائل أن يراجعها في أجزاء التفسير

السابع والثامن والتاسع فلعلها تكفيه، وهي تطلب من حرفي الجيم والشين من

الفهرس أي من لفظي الجن والشياطين.

***

حديث مَن قال لا إله إلا الله ومدها

(س34) من صاحب الإمضاء ب البلينا في الصعيد

حضرة صاحب الفضيلة مفتي الأنام وخليفة الأستاذ الإمام، السيد محمد رشيد

رضا متعنا الله بعلومه

بعد تقديم أوفر التحية، وغالي التمنيات القلبية

نتمنى أن تكون فضيلتكم في أعلى مراتب الصحة

قرأت في بعض كتب الحديث حديثاً نصه قال عليه الصلاة والسلام: (مَن

قال لا إله إلا الله ومدها هدمت له أربعة آلاف ذنب من الكبائر - قالوا: وإن لم

يكن له كبائر؟ قال: هدمت لأهله وجيرانه) ، فلم أعلم مبلغ صحة هذا الحديث ولم

يمكني التوفيق بينه وبين قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء:

123) وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وقوله

تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، فرفعت قولي هذا

راجيًا نشر ما ترتاح إليه النفوس وتطمئن إليه الأفئدة بصدد هذا على صفحات

مجلتكم (المنار) الغراء في العدد القادم.

أدامكم الله لكشف الشبهات، وتقرير البينات، إنه مجيب، والسلام.

...

...

...

... المخلص لفضيلتكم

...

...

...

... توفيق عبد الجليل

...

...

... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا

(ج) الحديث ذكره الحافظ محمد بن طاهر في (تذكرة الموضوعات) وقال:

فيه عباد بن كثير الكاهلي متروك الحديث، فهذا سنده لا يعتد به، ومتنه أبطل

من سنده لمخالفته لأصول الشريعة وهي من علامة الحديث الموضوع. فلا حاجة

إلى إطالة القول فيه.

***

حكم نَسْخ كتب الكفر والإضلال بالأجرة

(س35) من صاحب الإمضاء في الجزائر

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

حضرة الفاضل العلامة المحقق الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، حياك الله

ومتع الإسلام بحياتك. آمين.

بعد واجب السلام والاحترام ألتمس الجواب من فضيلتكم في مجلة المنار على

السؤال الآتي:

إنه لا يخفى عن جنابكم أمر الأموال التي ينفقها المبشرون في سبيل رواج

دينهم وتضليل المسلمين ما استطاعوا إليه سبيلاً، والحمد لله لم ينالوا مرغوبهم في

البلاد العربية. وقد رأيت مسلماً صَنعته خطَّاط بالعربية فيخط كتب المبشرين

ويؤدون إليه بأجرة يتفق عليها، فهل يجوز له أن يخط كتب المبشرين وهو يعلم

بأنهم يريدون بها تضليل المسلمين؟ وهل يحل له قبض هذه الأجرة أم حرام عليه؟

فأفيدونا ولكم الأجر من الملك العلام.

...

...

...

...

عبد القادر الجزائري

(ج) إن هذه الكتب التي يؤلفها وينشرها دعاة النصرانية (المبشرون)

مشتملة على أقبح الكفر بالله والشرك به والطعن على القرآن المجيد وعلى خاتم

النبيين صلى الله عليه وسلم؛ فمساعدتهم على ذلك بنسخها لهم مشاركة في نشر

الكفر وهو كفر ظاهر لا يقترفه مسلم يؤمن بالله ورسالة أفضل رسله وأكملهم، ويعد

صاحبها فاسقاً لا كافراً، فإن كان هذا المسلم الجغرافي يجهل هذا فيجب إعلامه به

ودعوته إلى التوبة وترك الكسب بما هو كفر وعداوة لله ورسوله، فإن أصر على

ذلك بعد العلم وقيام الحجة عليه فيجب أن يُعامَل معاملة المرتدين بما يقدر عليه

المسلمون في وطنه منها، فلا يزوجونه امرأة مؤمنة، وإذا مات فلا يصلينَّ عليه

أحد ولا يدفننَّه في مقابر المسلمين. وإذا كان في بلده محكمة شرعية فيجب أن ترفع

عليه فيها دعوى الردة من قِبَل زوجته إن كان له زوجة مسلمة فتطلب فسخ عقد

الزوجية والتفريق بينها وبينه، ولكن يجب أن يُدعَى أولاً إلى التوبة باللطف والسر

لئلا يكون عمله عن جهل فتأخذه العزة بالإثم ويلتحق بالكفار.

_________

ص: 278

الكاتب: أحمد بن تيمية

‌جمع كلمة المسلمين

قاعدة أهل السنة والجماعة

في رحمة أهل البدع والمعاصي

ومشاركتهم في صلاة الجماعة واتقاء تكفيرهم

للإمام شيخ الإسلام وعلم الأعلام

تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ

إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ

عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ

مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ

يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 102-106)

قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة

والفرقة {.. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ

تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل

عمران: 106-107) .

وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في

الخوارج: (إنهم كلاب أهل النار) وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ

وَجُوهٌ} (آل عمران: 106) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من

عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع

صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من

الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة) ، وفي رواية: (يقتلون أهل الإسلام ويدَعون

أهل الأوثان) .

والخوارج هم أول مَن كَفَّر المسلمين بالذنوب. ويكفرون مَن خالفهم في

بدعتهم ويستحلون دمه وماله وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون مَنْ

خالفهم في بدعتهم، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله

ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق.

وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين.

أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار وطلب قتل عبد

الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد مَن يُفضِّله على أبي بكر وعمر. ورُوي عنه

من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه

البخاري في صحيحه.

***

فصل

ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلُّون الجُمع والأعياد والجماعات، لا

يَدَعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام

مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة

الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا

خلف مَن علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم

المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم

أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره - فأكثر أهل العلم يصححون

صلاة المأموم ، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك

وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها

مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلَّى خلف المبتدع والفاجر عند

عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل

وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.

وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه

على سبيل الاستحباب، كما نُقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمَن سأله. ولم يقل

أحد: إنه لا تصح إلا خلف مَن عرف حاله.

ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك

الزمن مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع

وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف مَن يعرفونه لأجل

ذلك [1] ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت كلمة السنة

المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.

فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة

محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى

عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان

يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعًا وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد

الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة

والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهمًا بالإلحاد وداعيًا إلى الضلال.

***

فصل

ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع

فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ

وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا

سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285) وقد ثبت في

الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير

المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين

من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي

وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي

حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم،

لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم

الحق في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟ !

فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى وأن تستحل دمها ومالها، وإن

كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة

هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على

بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم

في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا

في بلدكم هذا في شهركم هذا وقال صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم

حرام: دمه وماله وعرضه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى صلاتنا

واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله) وقال: (إذا التقى

المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله: هذا القاتل، فما

بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه) وقال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب

بعضكم رقاب بعض) وقال: (إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)

وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن

الخطاب لحاطب [2] بن أبي بَلْتَعَة: (يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطَّلع

على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ !) وهذا في الصحيحين.

وفيهما أيضًا من حديث الإفك: أن أُسيد بن الحُضير قال لسعد بن عبادة: إنك

منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم

بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم مَن قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي

صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله

إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: (يا أسامة، أقتلته

بعدما قال لا إله إلا الله؟ ! وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن

أسلمتُ إلا يومئذ) . ومع هذا لم يوجب عليه قودًا ولا كفارة؛ لأنه كان متأولاً ظن

جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا.

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضًا من أهل الجمل وصِفِّين ونحوهم وكلهم

مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا

بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن

فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)

فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر

بالإصلاح بينهم بالعدل؛ ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضًا موالاة

الدين لا يُعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم

من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض،

مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: (أن لا يهلك

أمته بسَنَة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأعطاه ذلك،

وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك) وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوًّا

من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضًا وبعضهم يسبي بعضًا.

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ

عَذَاباً مِّن فَوْقِكُم} (الأنعام: 65)، قال:(أعوذ بوجهك) {أَوْ مِن تَحْتِ

أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام: 65)، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) قال: (هاتان أهون) !

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة) وقال:

(الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) وقال: (الشيطان ذئب الإنسان

كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم) .

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم

الجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالًّا أو غاويًا وأمكن أن

يهديه ويرشده - فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإذا كان قادرًا على

أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يُظهر البدع

والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه

الأسبق إلى طاعة الله ورسوله - أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في

الصحيح: (يؤم القومَ أقرؤُهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة.

فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا)

وإن كان في هجْره لمُظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر

النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي

غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة

والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعة ببدعة.

حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها

أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: مَن أعادها فهو مبتدع. وهذا

أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور

والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدًا إذا صلى كما أمر - بحسب استطاعته - أن

يعيد الصلاة. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا

يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله،

والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد

منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.

وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة

عِقدها ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن مَن كان

يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم

يصلِّ وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب

ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة

منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها القضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين

لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في

معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ

الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} (البقرة: 187) هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم

يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة

والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة

حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم

لتمسكهم بشرع منسوخ.

وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل

الإبلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت، وقيل لا يثبت،

وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى:

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقوله: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ

عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وفي الصحيح: (ما أحد أحب إليه

العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين) .

فالمتأول والجاهل والمعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل {قَدْ جَعَلَ

اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .

***

فصل

أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن

ذلك حق يجزم به المسلمون ويقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علم المسلمون

وجزم به فهو يقطع به وإن كان الله قادرًا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه

ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء وإذا قال المسلم: أنا أقطع بذلك فليس

مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال: إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق

وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب

فإن تاب وإلا قُتل.

والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق قوم أحدثوا

ذلك من عندهم ولم يكن هذا الشيخ ينكر هذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون

في الإيمان كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله،

ويستثنون في أعمال البر، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. ومراد السلف من

ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمر الله ورسوله، فيشك في قبول

الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثني لأن الأمور جميعها إنما

تكون بمشيئة الله كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ} (الفتح:

27) مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه.

وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور، ثم جاء بعدهم قوم جهال

فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى

عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو واحد من علماء المسلمين أنه كره

لفظ القطع في الأمور المجزوم بها فقد كذب عليه. وصار الواحد من هؤلاء يظن

أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء

الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن

مرزوق ولا أصحابه في حياته ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ

مطلقًا، بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم.

كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سبّ الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب،

ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سب أصحابي ذنب لا يُغفر)

وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروِهِ أحد من أهل العلم

ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ

اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) هذا في

حق مَن لم يتب. وقال في حق التائبين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ

لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) فثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب

تاب الله عليه.

ومعلوم أن من سبَّ الرسول من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر

أو مجنون أو معلَّم أو مفترٍ، وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي

صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى

الله عليه وسلم منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي

صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتد وكان يكذب

على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا كنت أعلِّمه القرآن، ثم تاب وأسلم

وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وإذا قيل: سب الصحابة حق لآدمي قيل: المستحل لسبهم كالرافض يعتقد

ذلك دينًا، كما يعتقد الكافر سب النبي صلى الله عليه وسلم دينًا. فإذا تاب وصار

يحبهم ويثني عليهم ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات.

ومن ظلم إنسانًا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قَبِل الله توبته. لكن إن

عرف المظلوم مكَّنه من أخذ حقه وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء

وهما روايتان عن أحمد أصحهما: أنه لا يُعْلمه أني اغتبتك. وقد قيل بل يحسن

إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته. كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن

تستغفر لمَن اغتبته. فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب فإنه

يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم. والحسنات يذهبن

السيئات. كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إنه كذاب

إذا تاب وشهد أن محمدًا رسول الله الصادق الصدوق وصار يحبه ويثني عليه

ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته والله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ

وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (الشورى: 25) وقد قال تعالى: {حم *

تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي

الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ} (غافر: 1-3) .

هذا آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونفعنا والمسلمين بعلومه.

(المنار)

هذه الرسالة من أنفس ما كتبه شيخ الإسلام وأنفعه في التأليف بين أهل القبلة

الذين فرق الشيطان بينهم بأهواء البدع وعصبيات المذاهب، على كونه أقوى

أنصار السنة برهانًا، وأبلغ المفندين للبدع قلمًا ولسانًا، ومنهاجه في الرد على

المبتدعة: بيان الحق بالأدلة، وحكم ما خالفه من شرك وكفر وبدعة، مع عدم

الجزم بتكفير شخص معين له شبهة تأويل، فضلاً عن تكفير فرقة تقيم أركان الدين.

فجزاه الله أفضل الجزاء على إرشاده ونصحه للمسلمين.

_________

(1)

أي لأجل كون ملوكهم الفاطميين ودعاتهم ملاحدة لا شيعة مبتدعة فقط.

(2)

أي في شأن حاطب.

ص: 281

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

بلغنا عن بعض إخواننا من مسلمي بيروت أنهم غير راضين عن رد المنار

على الشيعة في هذا العهد الذي اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى الاتفاق والاتحاد ولا

سيما مسلمي سورية ولبنان والعراق الذين اشتد عليهم ضغط المستعمرين في دينهم

ودنياهم. وإنني أقسم بالله وآياته لَشديد الحرص على هذا الاتفاق وقد جاهدت في

سبيله أكثر من ثلث قرن، ولا أعرف أحدًا في المسلمين أعتقد أو أظن أنه أشد مني

رغبةً وحرصًا على ذلك، وقد ظهر لي باختباري الطويل وبما اطَّلعت عليه من

اختيار العقلاء وأهل الرأي أن أكثر علماء الشيعة يأبون هذا الاتفاق أشد الإباء؛ إذ

يعتقدون أنه ينافي منافعهم الشخصية من مال وجاه.

وأول مَن كلَّمتهم في هذا الموضوع شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1315 هـ

وآخرهم الأستاذ الثعالبي السياسي الرحالة الشهير في هذا الشهر مع أستاذ ذكي من

شبان الشيعة العراقيين، وفيما بين هذين الزمنين تكلمت مع كثيرين من الفريقين في

مصر وسورية والهند والعراق، وأعلاهم مقامًا جلالة الملك فيصل تكلمنا في هذه

المسألة في دمشق سنة 1320 ثم في مصر عند إلمامه بها في عودته من أوربة في

خريف سنة 1345هـ 1926م.

ومما علمته بالخبر والخبر أن الشيعة أشد تعصبًا وشقاقًا لأهل السنة فيما عدا

الهند من البلاد الجامعة بين الطائفتين؛ فالفريقان فيها قرنان متكافئان، وقد اجتهدت

أنا وإخواني من محبي الإصلاح في الهند بالتأليف وجمع الكلمة وخطبت في مدينة

بُمبي خطبة فيَّاضة في ذلك. وبدأت بزيارة رئيس الشيعة الديني في لكنهؤ دون

غيره من أمراء الهند وزعمائها؛ فإنهم كانوا هم الذين يبدؤونني بالزيارة، وكنت

سبب دخول الكاتب الحماسي الشعبي (الديمقراطي) المؤثر ظفر علي خان صاحب

جريدة زميندار الوطنية المؤثرة دار (النواب فتح علي خان) لأول مرة ولم يدخلها

قبل ذلك قط ولا دخل دور غيره من سلائل الأمراء من الشيعة ولا غيرهم، وقد

رأيت لسعيي تأثيرًا حسنًا في الهند وفي إيران، ولما ألممت ببغداد منصرفي من

الهند جاءني وفد من النجف للزيارة والدعوة إلى النجف وأخبرني رئيسه صديقي

العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني أنه يوجد هنالك كثيرون من طلبة العلم على

رأيي في الإصلاح الإسلامي يتمنون لقائي، وما منعني من زيارة النجف إلا

المرض وإنما كان داعية الإصلاح فيهم المُلا كاظم الخُراساني وقد توفي قبل زيارتي

للعراق رحمه الله تعالى، ولكن جمهور شيعة العراق شديدو التعصب باعتراف

السيد هبة الدين وبعض المنصفين منهم. وكان يوجد في شيعة سورية من يُظهر

الميل إلى الاتفاق في عهد الدولة العثمانية أكثر مما يوجد في العراق، وكان للمنار

رواج عند بعض العصريين المستنيرين منهم. ولذلك قام أشهر علمائهم يطعن عليَّ

ويتهمني بالتعصب والتفريق؛ لأنهم يكرهون الاتفاق لما ذكرته آنفًا. وقد صبرت

عدة سنين على طعنه عليَّ قولاً وكتابةً حتى صار السكوت عنه إقرارًا لهم على ما

قصدوا له في هذا العهد عهد الاستعمار الفرنسي المسمى بالانتداب من مناهضة

النهضة العربية الحاضرة من مدنية ودينية بما هو أكبر خدمة للأجانب السالبين

لاستقلال هذه البلاد، سورية والعراق.

ذلك أنهم نشطوا في هذا العهد لتأليف الكتب والرسائل في الطعن في السنة

السنية والخلفاء الراشدين الذين فتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام في الأقطار،

وأسسوا ملكه بالعدل والقوة، وتم بهم وعد الله عز وجل:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) والطعن في حياة السنة وأئمتها، وفي الأمة العربية بجملتها،

وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين

وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه

بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم

بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على

أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة

الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا

للاتفاق التام بين الفريقين بالتبع للاتفاق بين الدولتين.

والذي بدأ هذا الشقاق وتولى كِبْره منهم هو صاحب ذلك الكتاب البذيء الجاهلي

(السيد محسن الأمين العاملي) الذي لم يكتفِ فيه بإخراج ملك العرب الجديد وقومه

النجديين من حظيرة الإسلام، وهو يعلم أنه لا قوة له ولا للعرب بغيرهم في هذا

الزمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا ذلت العرب ذل الإسلام)

(رواه أبو يعلى بسند صحيح) ولكن الإسلام عنده هو الرفض الذي هو الغلو في

التشيع وعداوة السنة. ولم يكتفِ بذلك حتى زعم أن منشأ ضلال هؤلاء الوهابية

وخروجهم عن الإسلام وعليه هو كتب شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، مؤيد

الكتاب والسنة بأقوى البراهين النقلية والعقلية، وناقض أركان الشرك والكفر والبدع

بتشييد صرح السنة المحمدية، الشيخ تقي الدين ابن تيمية، الذي نشرنا في هذا

الجزء بعض رسائله في جمع كلمة الأمة الإسلامية، والأدلة على أن أهل السنة لا

يكفرون أحدًا من أهل القبلة، ولا يأبون صلاة الجماعة مع المبتدعة منهم.

وزعم أيضًا أن صاحب المنار قد انفرد دون المسلمين بموافقة ابن تيمية

والوهابية، وزاد على ذلك الطعن في شخصه وسيرته العملية، بما هو محض

الزور والبهتان، ليخدع الجاهلين من أهل السنة بما بيناه في الرد عليه.

وقام في أثره من علماء شيعة العراق مَنْ ألف كتابًا خاصًا في الرد على كتاب

(منهاج السنة) لشيخ الإسلام، وآخرون ألفوا كتبًا ورسائل أخرى في الطعن على

السنة وأهلها، دعْ ما قالوه في مؤتمرهم المشهور من تكفير الوهابية والتحريض

على قتالهم، على ضعفهم وعجزهم.

كذلك قام بعده زعيمهم الثاني في سورية السيد عبد الحسين فألف كتابًا آخر في

الطعن على الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار وفي الأمة العربية سلفها وخلفها

وفي أصحاب دواوين السنة ولا سيما الحافظ البخاري رضي الله عنهم فوجب علينا

الرد عليه، ولم نفرغ إلا للقليل منه.

فصاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عداوتهم وبهتانهم

لبطلانه ولكون هذا الطعن في الصحابة وأئمة السنة وحفاظها وفي الأمة العربية

وملكها في هذا الوقت لا فائدة منه إلا لأعداء المسلمين والعرب السالبين لاستقلالهم،

وأكبر قوة للأجانب عليهم تعاديهم وتفرقهم.

فلا أدري ماذا يريد الذي استنكر هذا الرد عليهم من استنكاره، وكيف تصور

إمكان الاتفاق مع قوم يتبعون أمثال هؤلاء الزعماء، وتنشر دعايتهم هذه مجلة

العرفان بالتنويه بكتبهم هذه والعناية بنشرها، عدا ما تبعثه هي من دعاية التشيع

التي كنا نعذرها فيها بتنزُّهها عن الطعن الصريح في السنة وأهلها؛ ولذلك كنا

نرجو أن تنكر هذه الدعاية وتأبى نشر هذه الكتب الضارة بصرف النظر عن مسألة

موضوعها، فقد يقول أو قال صاحب مجلة العرفان: إنه يعتقد حقيقة ما كتبه هذان

المؤلفان، وإن كنا نشرنا عنه من قبل ما يدل على عدم اعتقاد ما افتراه الأول على

الوهَّابية، ولا نعقل أن يكون معتقدًا ما افتراه الثاني على المهاجرين والأنصار من

وصفهم بالجبن، ونكثهم لما بايعهم الله عليه. ومن زعمه الذي أقسم عليه يمينًا

مغلظة أنه لولا علي بن أبي طالب لقتل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولم يقم للإسلام قائمة في الأرض، بالرغم من وعد الله تعالى بنصره، وإظهار دينه

على الدين كله.. إلخ، فهل يريد المستنكر من إخواننا أن نسكت لهؤلاء على كل

هذا الطعن فيكون سكوتنا حجة على أهل السنة كافة، ومعصية يأثمون بها كلهم،

ولا يزيد الشيعة إلا يقينًا بضلالهم، وبُعدًا عن الاتفاق معهم؟ !

وقد أخبرني مَن بلَّغني ما تقدم من الاستنكار أن بعض مسلمي بيروت

استفتاني في تزوج كل من أهل السنة والشيعة في الآخرين ولم أفتِهِ بشيء. وأقول:

إن هذا الاستفتاء لم يصل إليَّ، وإنني كنت استُفتيت في مثله من قبل؛ إذ خطب

أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين فأرسل الحريم

يستفتوني في ذلك سرًّا فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة

الإمامية وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع

تزويج هؤلاء، والتزوج فيهم.

وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مرارًا وهي:

(أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ، فأهل

السنة متفقون مع الشيعة على أركان الإسلام الخمسة، وعلى تحريم الفواحش ما

ظهر منها وما بطن، وعلى محبة آل البيت عليهم السلام وتعظيمهم، وعلى جميع

المصالح الوطنية من سياسية واقتصادية، وفي البلاد العربية على إعلاء شأن الأمة

العربية ولغتها.. إلخ واستقلال بلادها وعمرانها، فيجب أن يتعاونوا على ذلك كله،

وهم يختلفون في مسألة الإمامة (وقد مضى وانقضى الزمن الذي كان فيه هذا

الخلاف عمليًّا) وفي المفاضلة بين الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وفي عصمة

الأئمة الاثني عشر، مع مسائل أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وفيما دون ذلك من

الفروع العملية، فلكلٍّ من الفريقين أن يعتقد ما يطمئن إليه قلبه، ويعمل بما يقوم

عنده الدليل على ترجيحه أو يقلد فيه من يثق بهم من العلماء، وأن يبين ذلك قولاً

وكتابةً من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في الصحابة وأئمة العلماء المجتهدين

والمحدثين. كما فعل بعض أدبائهم في قصائد نظمها في مدح الأئمة وشرحها وجعل

مقدمتها في بيان العقيدة الإسلامية عندهم، وفيها ما لا يوافقهم عليه أهل السنة، ولا

يكفرونهم به. ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم. فيجب على محبي الاتفاق أن يقنعوهم

بقاعدتنا ويؤلفوا جمعية أو حزبًا من الطائفتين للعمل بمقتضاها، بالرغم من زعم

مجلة المشرق اليسوعية أن الاتفاق متعذر، واستدلالها عليه بالمناظرة التي دارت

بين المنار والعرفان، وما كان صاحباها إلا أخوان، ولا يتعذر عليهما العودة إلى ما

كانا عليه بمقتضى هذه القاعدة.

هذا، وإننا لا نعرف أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين

يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في

الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة

كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام

ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم

موافقتهم لجهلة الروافض على ما يفترونه من الغلو في مناقب آل البيت، وقد

أغناهم الله عن اختلاق المناقب لهم بكثرة مناقبهم الصحيحة الثابتة بالنقل الصحيح.

وحفاظ السنة ومدونوها هم المرجع في هذا. وكل مَن خالفهم من المبتدعة فهم

جاهلون بنقد الروايات، والروافض منهم أجهلهم بهذا العلم، وأكذبهم في النقل، كما

هو مشهور عنهم في التاريخ، وقد ذكره أحد علماء ألمانية المستشرقين في كتاب له،

وإنما النواصب أولئك الخوارج الذين يتبرؤون من علي كرم الله وجهه، وكذلك

مَن يتولون مَن بغوا عليه ومَن قتلوا سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يصوبون

أعمالهم، لا أئمة السنة الذين محّصوا رواياتها، وبينوا درجاتها.

ونذكر على سبيل النموذج لجهلهم بالحديث ما انتقدته مجلة العرفان على مجلة

الشبان المسلمين المصرية من الثناء على معز الإسلام أمير المؤمنين عمر بن

الخطاب رضي الله عنه وما أوردته فيه من هذه النقول وكنت قد كتبته للجزء

الماضي فلم يتسع له وهو:

علم عمر وعلي رضي الله عنهما بالدين والقضاء

بين مجلة الشبان المسلمين ومجلة العرفان

لا يطيق أحد من الشيعة المتعصبين أن يرى في كتاب أو مجلة ثناءًا عظيمًا

على أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما ولا سيما إذا كان فيه صيغة اسم التفضيل،

مع العلم بأن اسم التفضيل كثيرًا ما يستعمل في التفضيل الإضافي أو بتقدير من

التبعيضية.

وقد كتب الأستاذ الدكتور يحيى أحمد الدرديري مقالة في مجلة جمعية الشبان

المسلمين في الثناء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيها: كان عمر

رضي الله عنه أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه. فنقل عنه الأستاذ صاحب مجلة

العرفان نبذة منها وعلق على هذه الجملة ردًّا عليها لعله لم ينقلها إلا لذلك قال: هذا

منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم

وعليٌّ بابها) وقول عمر نفسه: (لولا عليٌّ لهلك عمر، ولا كنت لقضية ليس لها

أبو الحسن) اهـ.

ونقول في الرد على الأستاذ صاحب مجلة العرفان: إن الحديثين اللذين ذكرهما

وهما مما يحفظه كل شيعي وكثير من غير الشيعة ليس لهما رواية صحيحة ولا

حسنة، ولو فرضنا صحتهما لما كانا معارضين لقول مَن قال: كان عمر أعلم

الصحابة.

أما العلم والقضاء فإنه يجوز عقلاً أن يكون عمر أعلم بأصول الدين ومقاصده

وحكمه وسياسته، ولا يكون مع ذلك أقضى الصحابة، وأن يكون علي أقضاهم أي

أعلم بالفصل بين الخصوم وتطبيق قضاياهم على أحكام الشرع، ولا يكون مع ذلك

أعلم من عمر به، وقد كان أبو يوسف أقضى من أستاذه أبي حنيفة وزميله محمد

بن الحسن ولم يكن أعلم منهما، ومثل هذا كثير مشاهَد في كل زمان. كان الشيخ

محمود نشابة في طرابُلس الشام أعلم من أحمد أفندي سلطان بكل علوم الشرع وكان

أحمد أفندي أقضى منه، بل لم يكن الشيخ محمود نشابة علامة سورية في زمنه

الذي أدركناه في آخره مستعدًّا لأن يكون قاضيًا.

وأما حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) فليس بينه - على تقدير صحته -

وبين ما قاله الكاتب في تفضيل عمر أدنى تعارض ولا منافاة؛ إذ المتبادر من معناه

أن عليًّا رضي الله عنه موصل إلى علم النبي صلى الله عليه وسلم بالرواية للسنة

والتفسير للقرآن والعمل بهما، وهذا المعنى صحيح في نفسه، معلوم من جملة

سيرته كرم الله وجهه، وإن كان الحديث المذكور غير صحيح، ليس في لفظه ما

يدل على أنه أعلم بما كان في هذه المدينة من كل مَن كان فيها، ولا برواية ذلك

العلم وتفسيره أيضًا. وإلا لحكمنا بأن كل ما رُوي عن غيره كرم الله وجهه من

الحديث والتفسير والأحكام فليس من علم النبوة. ولم يقل بهذا رافضي ولا غيره.

والحديث رواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي الصلت بن عبد السلام بن

صالح عن ابن عباس وتتمته (.. فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب) وقال الحاكم: هذا

حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون. ونقل توثيقه عن

يحيى بن معين، وتعقبه الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك فقال ردًّا على قوله

(صحيح) : بل موضوع. قال: (أبو الصلت ثقة مأمون) قلت: لا والله لا ثقة

ولا مأمون اهـ. وتصحيح الحاكم للأحاديث لا يعتمد عليه أحد من المحدثين؛ فقد

صحح كثيرًا من الضعاف والمنكرات وكذا الموضوعات وتعقبه الذهبي وغيره فيها.

وأخرج الترمذي من طريق شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن

الصنابحي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا دار الحكمة

وعلي بابها) هذا حديث غريب منكر، روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم

يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك،

وفي الباب عن ابن عباس. اهـ. كلام الترمذي.

وأقول: أبو الصلت راوي الحديث الأول وثقه ابن معين كما قال الحاكم ولكن

طعن فيه الأكثرون والجرح مقدم على التعديل. قال مسلمة عن العقيلي: كذاب،

وكذا محمد بن طاهر قال: إنه كذاب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا

انفرد. وكلهم أنكروا حديثه هذا، وكأنهم يتهمونه بوضْعه على أبي معاوية، ولكن

ابن معين يقول: إنه ليس ممن يكذب، وذكر أن محمد بن جعفر الغيدي حدث به عن

أبي معاوية وقال: أخبرني ابن نمير قال: حدث به أبو معاوية قديمًا ثم كف عنه

اهـ ومراد ابن معين أن أبا الصلت لم يكن هو الذي افتراه بل كان حدث به أبو

معاوية ثم كف عنه فلعل أبا الصلت رواه عنه ولم يبلغه كفه عن التحديث به لعدم

الثقة بصحته.

وقال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث) :

حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) رواه الحاكم في المناقب من مستدركه عن

ابن عباس مرفوعًا والترمذي من جامعه عن علي بمعناه وقال: إنه منكر، وكذا قال

البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين: إنه كذب لا أصل له،

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك، وقال ابن

دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه وقيل: إنه باطل. اهـ.

وقد أورده الأستاذ الشيخ محمد الحوت الكبير علامة بيروت في (أسنى

المطالب) وذكر بعض ما نقله الديبع عن أستاذه الحافظ السخاوي من قول الحفاظ

بوضعه حتى ابن معين، ثم قال: قد ولع به العلماء، وذكره من دون بيان رتبته

خطأ، ومثله:(أنا دار الحكمة وعلي بابها) وزاد بعضهم: (

وأبو بكر

أساسها وعمر حيطانها) ، وذلك لا ينبغي ذكره في كتب أهل العلم لا سيما مثل ابن

حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيد من مثله. اهـ.

وأقول: إن ابن حجر الهيتمي هذا قد أتقن فقه الشافعية التقليدي على طريقة

أهل زمنه، وهو ليس بحافظ للحديث ولا من نقاده، وإنما ينقله من الكتب، فإن لم

تكن له عناية خاصة بالاحتجاج به فلا يبالي أكان صحيحًا أم ضعيفًا أم موضوعًا.

فكيف إذا كان له هوى يوافق معناه كالغلو في المدح؟ ! وأخطأ مَن حَسَّنَه بكثرة

طرقه.

وأما حديث: (أقضاكم عليّ) فقد قال الحافظ السخاوي: ما علمته بهذا اللفظ

مرفوعًا بل في مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل

المدينة علي، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. اهـ.

وأقول إن الحافظ الذهبي أقر الحاكم على روايته له عن ابن مسعود من قوله،

ولو ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو من طريق منكر - لأورده

الحاكم، ولعمري إنه لَحقٌّ في نفسه سواء كان اسم التفضيل على بابه أم لا، ولكن

لا ندري متى قال ابن مسعود هذا؟ هل قاله في زمن عمر أو بعده.

وأما ما ذكره صاحب مجلة العرفان من قول عمر فهو لم يروَ بسند صحيح

وإنما ذكره بعضهم فيما يتساهلون فيه من رواية المناقب. وقال شيخ الإسلام ابن

تيمية: إنه لم يذكر عنه إلا في قضية إن صح، وكان عمر يقول مثل هذا لمن دون

علي كما قال للمرأة التي عارضته في الصداق: امرأة أصابت وأخطأ عمر. وبيَّن

في (منهاج السنة) بالشواهد أنه كرم الله وجهه لم يكن أقضى الصحابة رضي الله

عنهم، وفيه نظر.

وأما الأحاديث الدالة على علم عمر في الصحاح والسنن فهي كثيرة: منها

موافقات رأيه للقرآن وكونه من المحدَثين (بفتح الدالة المهملة) أي الملهَمين،

وغير ذلك، ولسنا بصدد تفصيل هذه المسألة، وكذلك ما رُوي في قضائه باجتهاده

وفي اتباع الصحابة له في مسائل متعددة، وكذلك المسائل التي كان يستشير فيها

الصحابة.

هذا، وإن العلم الذي يتعلق به القضاء هو الأحكام العملية من شخصية ومدنية

وعقوبة، وهو أدنى علوم الدين الإسلامي، وأما أعلاها فهو العلم بالله تعالى

وصفاته وبسننه في خلقه من نظام العالم، ويليه العلم بتهذيب النفس وتزكيتها

بالعبادات الصحيحة، والعلم بسياسة الأمم وإقامة الحق والعدل فيها، والذين

يفضلون عمر على غيره في علوم الإسلام - ولا سيما بعد أبي بكر - يفضلونه بهذه

العلوم التي هي في الذروة العليا، وهي ما تثبتها له أعماله وأقواله وأحواله وسياسته

وإدارته، ولم يغمطْه أحد حقه في علم الأحكام العملية القضائية أيضًا، وما روي

من تفضيل علي لعمر أصح مما روي من قول عمر في علي، وما هما إلا أخوان،

ومن مصائب التعصب جعْلهما خصمين يتضادان.

فإن كان قد روي عن عبد الله بن مسعود أنهم كانوا يتحدثون بأن عليًّا كرم الله

وجهه كان أقضى أهل المدينة، فقد روي عنه أنه قال لما مات عمر: إني لأحسب

أنه ذهب بتسعة أعشار العلم. رواه أبو خيثمة في كتاب العلم عن جرير عن

الأعمش عن إبراهيم بن عبد الله. وقد أورده أبو طالب المكي في قوت القلوب

والغزالي في الإحياء. قالا: فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة -وفي القوت-

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟ ! فقال: إني لست أعني

العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجل. اهـ. وجرير الراوي لهذا

الأثر هو ابن حازم وهو ثقة فيما يرويه إلا عن قتادة. وأما إبراهيم بن عبد الله فلا

نعرفه في شيوخ الأعمش وإنما يروي الأعمش عن إبراهيم النخعي فلعله هو

وناهيك به في رواة حديث ابن مسعود وآثاره.

هذا وإن علماء السنة الذين طعنوا في رواية الحديثين المذكورين قد أثبتوا من

الروايات في مناقب علي رضي الله عنه أكثر مما أثبتوه من مناقب غيره من

الصحابة رضي الله عنهم وصرح بذلك إمامهم الأعظم أحمد بن حنبل وأقروه عليه،

فهل يعدون من النواصب؟ !

وأختم هذا البحث بالتذكير بأنني كنت نوهت بشيعة العراق في أول العهد

باستيلاء الإنكليز عليها؛ لأنهم كانوا أشد من أهل السنة في الثورة عليهم، ولما

بلغنا عنهم من احتقار الدسيسة التي عرضها عليهم الإنكليز للتفرقة بينهم وبين أهل

السنة؛ إذ عرضوا عليهم أن يكون القضاء في الجهات التي يكثرون فيها بمذهبهم

الجعفري، فأجابوهم بأن الشريعة واحدة لا فرق فيها بين مذهب جعفر ومذاهب أهل

السنة، وإنما الخلاف في كل مذهب يشبه ما في غيره وهو في مسائل اجتهادية،

يعذَر فيها كل مجتهد. ثم نُكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى خدمة الأجانب بالتفريق

والتعادي من حيث لا يشعرون، ولم يعتبروا باعتدال شيعة إيران وميلهم إلى الوحدة

والاتفاق، وإنما كان أسلافهم من أمراء الفرس وموابذتهم هم الذين أسسوا قواعد

الغلو في الرفض ونظموا جمعياته ونشروه في العالم لإزالة ملك العرب وإعادة دين

المجوس وملكهم كما شرحناه مرارًا، فقد أخبرني الأستاذ الثعالبي الذي زار بلادهم

في العام الماضي بمثل ما أخبرني به الأستاذ الكردي الذي ذكرت خبره من قبل وهو

ناشئ في بلادهم، قالا: إن الميل فيهم إلى الوحدة الإسلامية والاتفاق مع أهل

السنة قوي جدًّا، وهذا ما نشاهده في جاليتهم بمصر، فهم كأهل السنة هنا في

كراهتهم للخلاف، وحبهم للائتلاف، إلا بما شذ به صديق لنا منهم طعن علينا

وافترى، فكان قدوة للعاملي فيما امترى ثم تصافحنا وتصالحنا.

ونسأله تعالى أن يصلح الجميع، فالشقاق شر للجميع.

أفليس من أعجب العجائب أن نرى أخلاف أولئك الفرس يرجعون عن ذلك

الغلو ويجنحون إلى الاتفاق مع أهل السنة من العرب وتقوية الرابطة الإسلامية ثم

نرى مع هذا أخلاف العرب - حتى المنتسبين إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه

وسلم - يزدادون غلوًّا في الشقاق المذهبي والسياسي الذي كان أكبر عيوب سلفها

وخلفها، وهو الذي أضعف دولها، وأزال ملكها، واللهِ إن هذا لشيء عُجاب،

وعسى أن يزول قريبًا بسعي أُولي الألباب.

_________

ص: 290

الكاتب: عن بعض المغاربة المسلمين

‌بيان إلى العالم الإسلامي

عن قضية البربر في المغرب الأقصى

(جاءنا بالبريد من بعض مدائن المغرب)

أيها المسلمون:

نحن إخوانكم المغاربة الذين اعتدي علينا، وسُلبنا - أو كدنا - نُسلب أقدس

حق يملكه الإنسان، نحن إخوانكم الذين أراد الفرنسيون أن يقضوا على ديننا

ويمزقوا وحدتنا، ويقتلوا لغتنا، لغة الكتاب المنزل من السماء، نحن إخوانكم الذين

أيسنا أن نقر الذل فينا، وأبينا أن نضام في أعز شيء علينا، (الدين، والوحدة،

واللغة) جاهدنا وضحينا في ذلك جهد المستطاع، فمنا من جُلد، ومنا من سُجن،

ومنا من نفي، ومنا آخرون يُضطهَدون ما بين عشية وضحاها، ولو بلغ الأمر بنا

إلى حد القتل ما كنا نبخل على ديننا بدمائنا الزكية، نحن الذين كنا ولا نزال من

أخلص الناس للعروبة والإسلام، ومن أشد الناس شكيمةً وأقواها تمسكًا بأحكام السنة

والكتاب، نحن الذين حلت بنا هذه المصيبة العظمى والرزية الكبرى، نريد أن

نبين لكم - أيها المسلمون - الحقائق وندلي لكم بالحجج والبراهين التي لا تُبقي شكًّا

لمرتاب، ولا يحتاج معها المتبصرون في فهم قضيتنا هذه إلى شيء آخر، ولئلا

تنطلي على بعض الناس خدع السياسة؛ لأنه أبعد عنا دارًا، وأنأى مزارًا:

* وما راءٍ كمَن سمعا *

نناشدكم الله والروح الإسلامي - يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن

تتبصروا في هذه القضية المغربية. ولا تغتروا بما ينشره الفرنسيون من الأضاليل

والتمويهات الكاذبة؛ فإن هذه القضية لها ما بعدها، وإذا نجح الفرنسيون في

تجربتهم هذه فينا فسيحذو حذوهم جميع دول الاستعمار ويتقلص كل الإسلام من

الأرض (لا قدر الله) . واذكروا إذا خرج المغرب من حوزة الإسلام كما خرجت

الأندلس وصقلّية ماذا يكون عذرنا أمام الله، وموقفنا إزاء العالم أجمع؟

إن هذه القضية - يا أمة رسول الله - ليست إلا إعادة لتمثيل رواية الأندلس

الحزينة في المغرب الأقصى، أو ابتداء حرب صليبية من جديد.

يا أمة رسول الله: ها نحن أولاء ندلي لكم بالحجج والبراهين لتعلموا ما يتهدد

ديننا من الأخطار، وأنتم اليوم أقوياء إن اتحدتم وتناصرتم، والعاقبة لكم ما جادلتم

عن الإسلام وجاهدتم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

الحال في المغرب قبل الحماية

عندما ضعف نفوذ الملوك المتأخرين كان المغرب كله في ثورة [1] عامة،

سواء حواضره وبواديه، عربه وبربره، فما سكنت قبيلة أو مدينة إلا وتثور أخرى،

وكان أشد القبائل شقًّا للعصا القبائل النائية عن عاصمة الملك، حيث توجد القوات

والسلطات، ومن هذه القبائل العرب والبربر، وكانت القبيلة إذا ثارت إما أن

يساعدها قائدها وقاضيها على الثورة فتتركهما يحكمان فيها ويكونان معها من

الثائرين، وإما أن لا يساعداها فتقتل غير المساعد أو تجليه عن أرضها، وفي هذه

الحالة تضطر بحكم الضرورة إلى نصب محكمين من قبلها لفصل المنازعات

والمشاكل التي تقع بين الأفراد والجماعات، وكانت تختار لفصل القضايا الجنائية

والمنازعات التي تحدث بينها وبين مَن جاورها من القبائل على الحدود وغيرها

جماعة من كبرائها، ويجعلون على رأس هذه الجماعة مَن كان أكبرهم سنًّا

وأرشدهم رأيًا.

وإذا نظرنا إلى أن المغرب أكثره كان قد انهدَّ ركنه الأخلاقي والعلمي - نعلم

أن هذه الجماعة التي كانت تحكمها بعض القبائل إنما كانت تحكم بأهوائها غير مقيدة

بدين ولا قانون؛ لأنها كانت تجهل ذلك، هذا في القضايا الجنائية كما ذكرنا، وأما

القضايا المدنية والأحوال الشخصية فكانت تختار لها عالمًا من العلماء الذين كانت لا

تخلو منهم قبيلة، ويكون هذا العالِم بمنزلة القاضي غير أنه ولي من طرف القبيلة،

ولا ننكر أنه كان يوجد بإزاء هذا بعض اللصوص المتشردين فيعملون على وفق

أهوائهم، معتمدين على بأسهم وقوتهم.

أما الملوك فلم يقروا أحدًا من هذه القبائل الثائرة على حالته، بل كان كل ملك

يعمل جهده كله ليردهم إلى طاعته، والتحاكم إلى القضاة والقواد الذين يوليهم عليهم

هو بصفة رسمية.

هذه هي الحالة الحق التي كان عليها المغرب في أعوامه الأخيرة سواء من

جانب الملوك أو من جانب القبائل، وقد ظهر من ذلك أن القبائل البربرية لم تنبذ

الشرع الإسلامي أو التحاكم إليه يومًا ما، وأن نصبها للجماعة وتحكيمها إنما كان

لضرورة الثورة، وأن أحدًا من الملوك لم يقرهم على شيء من ذلك، وإنما كان إذا

أعجزه كبح جماحهم وخضد شوكتهم سكت عنهم اضطرارًا وإن هذه الحالة كانت

عند العرب والبربر على السواء.

الحال بعد الحماية

عندما بسط الفرنسيون الحماية على المغرب فكروا في شيء يضمن لهم

بقاءهم فيه واستيلاءهم عليه نهائيًّا حتى يصير قطعة من الجمهورية كالجزائر

والسنغال، فرأوا أن ذلك يمكنهم بمصادرة ثلاثة أشياء: الأحكام الشرعية، والقرآن

واللغة العربية؛ لأنها ثلاثتها كحلقة مفرغة يرتبط طرفاها بعضها ببعض وتجمعها

كلمة واحدة (الإسلام) والإسلام هو العقبة الكأداء عندهم في طريق استعباد

الشعوب، ووجدوا أن الأمر يواتيهم في البربر أكثر مما يواتيهم في العرب،

فرسموا لتنفيذ ذلك فيهم خطة ابتدأوا العمل بها عام 1914م. وصاروا يقطعون

مراحلها في طي الخفاء إلى أن ظنوا أن الوقت قد حان للعمل النهائي وأنه لم يبقَ

في المغرب مَن يرفع رأسه أو ينبس بكلمة، فاستصدروا ظهير 17 الحجة عام

1348 هـ وفيه القضاء الأخير على الإسلام والمسلمين بالمغرب الأقصى.

الوثائق الرسمية

في محاولة فرنسة إخراج البربر من الإسلام

وها هي أقوال ساستهم الرسمية وغيرها ندلي بها حجة على ما نقول، فمن

ذلك:

1-

منشور أصدره المرشال ليوتي عندما كان مقيمًا عامًّا بالمغرب إلى رؤساء

الاستعلامات، ونقله الكمندان مارتي في كتابه (مغرب الغد) صحيفة 228 هذا

تعريبه ملخصًا:

(إن رئيس مكتب الاستعلامات (ج) لما تخابر مع ءايت مسروح الذين لا

يفهمون إلا البربرية أمر رؤساء هذه الجماعات بتعيين طالب معهم ليحرر لهم

رسائلهم الإدارية مع مكتبة باللغة العربية، لقد غلط هذا الضابط غلطًا فاحشًا، ولكن

لا يستحق توبيخًا على تفكيره - وإن كان هذا التفكير يشتمل على شيء لا أردأ منه -

لأنه لما لم يجد موظفين يحسنون البربرية اقتضى نظره ذلك حتى لا تنقطع

الصلة بينه وبين ءايت مسروح. وإني لا أجد أفظع من هذه الكلمات التي أدرجها

هذا الضابط في تقريره وهي (إن هؤلاء الطلبة الذين سيكلفون بتحرير الرسائل

سيتكفلون بتعليم الصبيان إقامة الصلاة التي أصبحت متروكة عند الرجال منهم

بسبب جهلهم) إن في هذه السياسة البربرية لعكسًا. لا حاجة لنا في تعليم العربية

إلى المستغنين عنها، والعربية رائد الإسلام، ومصلحتنا تأمرنا بأن نمدن البربر

خارج سور الإسلام. ويجب علينا أن نمر من البربرية إلى الفرنسية بدون واسطة.

ولابد لنا من فتح مدارس فرنسية بربرية تتعلم فيها الشبيبة البربرية الفرنسية.

ويجب علينا أن نأخذ الاحتياط من الذاكرة معهم في شأن الدين؛ لأن الإسلام ما

وَضَعَ على البرابر - أعني البرابر الذين ظلوا مستقلين - إلا صبغة سطحية..

اهـ) .

2-

ما قاله الكمندان مارتي [2] في كتابه المشار إليه (مغرب الغد) صفحة

241 وهذه ترجمته بالعربية:

(.. وهذه المدرسة الفرنسية البربرية هي فرنسية باعتبار ما يقرأ فيها،

وبربرية باعتبار تلاميذها، وإذًا فلا حاجة بنا إلى واسطة أجنبي حيث إن التعليم

العربي وتدخل الفقهاء وكل المظاهر الإسلامية ستبعد عنها إبعادًا، وإننا سنجذب

إلينا بواسطة هذا التعليم الصبيان الشلوح، وبذلك نبعدهم قسرًا عن كل ما يطلق

عليه لفظ الإسلام) .

3-

ما جاء في خاتمة الكتاب (الشعب [3] المغربي أو العنصر البربري)

لفكتور بيكيه، من ص 287-301 وتلخيصه:

(لما دخل العرب إفريقية الشمالية عرَّبوا السهول وانتشرت لغتهم فيها وحلت

محل البربرية ولم يبقَ من البربر محافظًا على لغته إلا الجبليون، فهل يبقون

كذلك؟ ! الجواب نعم؛ لأننا لما حفظنا للقبائليين في الجزائر حالهم اتخذوا اللغة

الفرنسية بدلاً من العرب، ولا بد لبربر المغرب أن تتبع تلك الخطة، ومن الواجب

علينا إعانتهم على ذلك.. إلى أن قال: وقانونهم الخاص (يزور) لا علاقة له

بالقرآن، فيجب أن نثبته ونتممه ونرقيه بكيفية بربرية إن لم تكن فرنسية، ولا

نترك القرآن يثبت في أذهانهم ولقد ساعدنا على نشر اللغة العربية من غير قصد

حيث استعملنا ضباطًا وموظفين مدنيين عسكريين لا يحسنون العربية، فاحتجنا إلى

مَن يعرف العربية، وعليه فلنتجنب الفقهاء الذين تحتاج إليهم الجماعة. والكتاب

والمدرسون يجب أن يكونوا برابر؛ لأن من استعملناه من الجزائريين العرب في

التدريس نشروا العربية والقرآن، لكنا في عام 1923 جعلنا برنامجًا للتعليم

البربري في فكرة إفرنسية وجل المدرسين من القبائليين وهي أحسن وسيلة لمصادرة

اللغة العربية) .

4-

ما ذكره السوردون [4] في محاضراته (محاولة وضع القانون البربري)

التي كان يلقيها في معهد الدروس العليا بالرباط سنة 1928 - المقدمة ص22:

(.. سيتم فتح أرض البربر عما قريب، وقد آن الوقت لنفي بوعدنا الذي

وعدنا به كل قبيلة.. ص23 ولتتم مهمتنا يلزم السلطان أن يكلف الفرنسيين بإدارة

شئون البلاد البربرية؛ لأنه يظهر من الصعب أن نطلب من السلطان الديني

الشريف أن يضع للبربر قانونًا

وقد آن الوقت أيضا لجمع العوائد؛ لا بالعربية بل بالبربرية، فنحن الذين بنينا الدار، ولنا الحق في ترتيبها بالاستعمار..) .

وفي الخاتمة (ص209) يتعين علينا معرفة الشرع البربري لا للمحافظة

عليه لأنه محكوم عليه بالاندثار أمام شرع أعلى منه.. (وفي ص213) توجد

بالمغرب اليوم شريعتان مدونتان، الشرع الإسلامي والشرع الفرنسي، ويلوح أن

الأولى لنا هو أن تندمج العوائد البربرية تحت الفرنسي (أولاً) لأن بيننا وبين

الشرع الإسلامي هوة (ثانيًا) لأن أسلحتنا هي التي أدخلت الأمن إلى بلاد البربر،

وهذا يعطينا الحق لأن نختار الشريعة التي يجب أن تطبق فيهم - ص224.. ولنا

الحظ السعيد بوجودنا مع مسلمين لا يطالبوننا بإقامة الشرع فيهم، فلماذا نوجده نحن

بيدنا ويكون حائلاً بيننا وبينهم؟ ، طاعة البربر كلفتنا مجهودات كبيرة، والسلطان

يعترف لنا بأننا وحدنا فتحناهم. وعليه فيظهر أنه لا يرى بأسًا في أن نتحكم فيهم

كيف نشاء - (وفي ص 229) .. إن البربر مسلمون ولكن الإسلام عندهم مجرد

اعتقاد، فلماذا لا نفكر في أنه يمكنهم يومًا ما أن يختاروا قوانينها؟ وعلى كل حال

يكفي أن تفتح لنا هذه النظرة الهائلة الباب لنبدأ في العمل بلا تأخر) .

تنفيذ سياستهم في البربر

وقد أتبعوا هذه الأقوال بالأعمال فأنشأوا المدارس الفرنسية البربرية ولا عربية

فيها، وجعلوا اللهجة البربرية لغة رسمية تُكتب بها التقارير والأحكام، وأخرجوا

الفقهاء، وأقفلوا كتاتيب التعليم، وصادروا الشرع بهذا الظهير الذي سننشر المهم

منه في هذا البيان، وصاروا ينشرون المسيحية بمختلف الوسائل وهنا نشير إلى

بعض القبائل البربرية التي جاء عهد الحماية وقضاتها فيها حتى ألغى الفرنسيون

وظائفهم وجُلّهم لا يزال حيًّا يرزق، ففي قبيلة زيان حوالي عام 1332 و1333

كان متوليًا القضاء فيها مولاي بو عزة بن محمد الإدريسي، وفي قبيلة تالشوت

السيد عبد الله ولد الحاج السوسي وولي بعده السيد حمودة المباركي طرد من وظيفته

ولا يزال حيًّا، وفي آيت هودي سيدي مبارك السرغيني، وفي قصبة ممع وسعيد

البراوي سيدي محمد الغرواوي، وفي آيت يعقوب وعيسى وآيت أحمد وعيسى

وآيت إسحاق وبعض آيت شخمان سيدي محمد بن الكليب الهواري، وفي بقية آيت

شخمان وآيت يحيى وما جاورهما سيدي علي بن المكي المهاوشي، وفي آيت بو

زيد سيدي الحنصالي، وفي آيت عباس وآيت حماد السيد أحمد ولعباس التنغمالتي،

وفي آيت أجناد سيدي أحمد بن كواه، وفي قصبة أشفيرة الفقيه ابن الغازي، وفي

خنيفرة مولاي علي الإدريسي، وفي أحوازها سيدي أحمد النوخي الزياتي وفي آيت

سكوكو السيد عبد الكريم بن العربي، وفي آيت مغي سيدي محمد العتابي، وفي

بني مكيلد مولاي الصالح بابران (وكذلك غير هذه القبائل المذكورة كان لها القضاة

الشرعيون، فطرد الجميع وألغيت وظيفة القضاء الشرعي من قبائل البربر كلها.

أهم نصوص الظهير السلطاني

أما الظهير السلطاني فهذا نص المهم منه ونترك الحكم فيه إليكم - أيها

المسلمون -:

(الفصل الأول) إن المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات

العوائد البربرية والتي ينظر فيها القواد في بقية نواحي مملكتنا السعيدة يقع زجرها

هناك من طرف رؤساء القبائل، وأما بقية المخالفات فينظر فيها ويقع زجرها طبق

ما هو مقرر في الفصلين الرابع والسادس.

(الفصل الثاني) إنه مع مراعاة القواعد المتعلقة باختصاصات المحاكم

الفرنسوية بإيالتنا الشريفة فإن الدعاوي المدنية أو التجارية والدعاوي المختصة

بالعقارات أو المنقولات تنظر فيها محاكم خصوصية تعرف (بالمحاكم العرفية)

ابتدائيًّا أو نهائيًّا بحسب الحدود (المقدار) التي يجري تعيينها بقرار وزيري، كما

تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور

الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية.

(الفصل الرابع) إن المحاكم الاستئنافية المشار إليها (يعني في الفصل

الثالث) تنظر أيضًا في الأمور الجنائية ابتدائيًّا ونهائيًّا بفصل زجر المخالفات

المشار إليها في الفقرة الثانية من الفصل الأول أعلاه وكذلك زجر جميع المخالفات

التي يرتكبها أعضاء المحاكم العرفية التي يطوق باختصاصاتها الاعتيادية رئيس

القبيلة.

(الفصل الخامس) يجعل لدى كل محكمة عرفية ابتدائية أو استئنافية مندوب

مخزني مفوض من طرف حكومة المراقبة للناحية التي يرجع إليها أمره ويجعل

أيضًا لدى كل واحدة من المحاكم المذكورة كاتب مسجل يكون مكلفًا أيضًا بوظيفة

موثق.

(الفصل السادس) إن المحاكم الفرنسوية التي تحكم في الأمور الجنائية

حسب القواعد الخاصة بها لها النظر في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في

النواحي البربرية مهما كانت حالة مرتكب الجناية ويجري العمل في هذه الأحوال

بالظهير الشريف المؤرخ سنة 12 أغست سنة 1913 المتعلق بالمرافعات الجنائية.

(الفصل السابع) إن الدعاوي المتعلقة بالعقارات إذا كان الطالب أو

المطلوب فيها من الأشخاص الراجع أمرهم للمحاكم الفرنسوية فتكون من اختصاص

المحاكم الفرنسوية المذكورة..) .

إخواننا المسلمين، هذه هي الحالة قبل الحماية وبعدها، وهذه هي أقوالهم

وأفعالهم ونياتهم نحونا، وهذا هو الظهير الذي يؤيد لهم خطتهم بصفة رسمية، فهل

بعد هذا يقال: إن الفرنسيين يحترمون الدين؟ ! وهل بعد هذا نطالب على ما نقول

بدليل؟

إننا - أيها المسلمون - بسطنا حالتنا إليكم، ورجاؤنا في الله ثم فيكم فانصرونا

ينصركم الله، وأعينونا بقلوبكم الطاهرة وأدعيتكم الصالحة، واحتجاجاتكم التي

تزيدنا قوةً ورجاءً.

أيها المسلمون: هل ترضون أن يُمحى دينكم من أرض المغرب، الأرض

التي أنجبت رجالاً عظامًا، وعلماءَ وقوادًا، وملوكًا مخلصين، الأرض التي سار

أبناؤها مع طارق بن زياد وعبد الرحمن الغافقي وأسد بن الفرات فافتتحوا الأمصار

ونشروا دعوة الإسلام، والأرض التي انتصر أبناؤها للأندلس في أبلغ محنتها،

وأزمان بلائها.

أيها المسلمون، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ

يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف: 20) ويقول: {وَلَا يَزَالُونَ

يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217) وإذا نجح

الفرنسيون في هذه التجربة فسيفتح العالم الإسلامي فتحًا دينيًا لهم، وهو أقبح وأنكى

من فتحهم الاقتصادي والسياسي، وإذا سدوا علينا طريق الدنيا بهذا الفتح فسيسدون

علينا طريق الآخرة بذلك، وماذا بقي للمسلمين في هذه الحياة غير إيمانهم بالله

ورجائهم.

فخذوا حذركم - أيها المسلمون - وتبصروا، واغضبوا لله ولدينكم وانصروا

الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والسلام عليكم أجمعين.

...

...

...

من إخوانكم المغاربة المسلمين

تلبية المنار للدعوة

وكشفه لما عليها من الشبهة

لبيكم - أيها الإخوة - لبيكم لبيكم، ولعنة الله على كل مَن يدعي الإسلام ولا

يهتم بأمركم، وقد ورد الحديث:(مَن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)[5]

فكيف يقال فيمن لا يهتم بدينهم - وهو دينه - إنه منهم إذا كان لا يهمه إخراج

الملايين منهم عن الإسلام؟ وقد بلغنا أن بعض أدعياء الفقه المنافقين قال: إن البربر

أعرق في الكفر من الإفرنج يعني أنهم يجهلون ما كتبه السنوسي في عقائده الثلاث،

ويفعل بعضهم من المعاصي ما يخل بالإسلام، وقد يقول بمثل هذا بعض

المغرورين بدينهم. ونقول: إن البربر كلهم يؤمنون بأن الله واحد، وأن محمدًا

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كتابه، وأن كل ما قاله الله وبلغه

رسوله عنه حق. وما خالف بعضهم فيه من الأصل والفروع فهو عن جهل هم فيه

معذورون لا عن جحود ولا عن عناد، وإنما ذنب جهلهم بدينهم على حكامهم

وعلمائهم؛ فهم إذا تعلموه وقبلوه، وفرنسة تقطع طريق العلم عليهم، وتتخذ ذلك

وسيلة لمحو الإسلام من تلك البلاد كلها، وفيها ما لا يُحصى من العارفين بدينهم

على مذهب السلف والخلف، ممن رضي بعملها فقد رضي ملايين من المسلمين

المؤمنين العارفين ومن الجاهلين المعذورين.

وسنفصل هذا في مقال آخر إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

ينبغي أن يعلم أن أسباب هذه الثورة هو ما كان شائعًا عن مولاي عبد العزيز من أنه باع المغرب للأجانب وعن مولاي عبد الحفيظ من عدم اكتراثه بالدين، ونحن نرى أن هذه الدعاية إنما كانت من ذوي الأغراض السيئة صنائع الدول التي كانت تتكالب على المغرب لتستعمره وعلى كلٍّ فسببها الغيرة على الدين لا الثورة عليه كما يزعم الفرنسيون اهـ من حاشية الأصل.

(2)

الكمندان مارتي هو مدير المدرسة الثانوية بفاس سابقًا، والمستشار بوزارتي العدلية والصدارة وما يتبعهما من الإدارات الآن وكتابه طبع سنة 1925 بباريز على نفقة لجنة إفريقية الإفرنسية.

(3)

طبع هذا الكتاب بباريز سنة 1925 وأخذ عليه مؤلفه جائزة مالية من الإقامة العامة بالمغرب وله تأليف آخر اسمه (مراكش) ظهر سنة 1918 ونقل مثل هذا الأمير شكيب أرسلان في شرح كتاب (حاضر العالم الإسلامي) ، ص87، ج1.

(4)

السردون هو مدرس الشرع البربري بالمدرسة العليا بالرباط سابقًا ورئيس العدلية البربرية الآن.

(5)

وفي رواية بلفظ: (مَن لم) رواه الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة مرفوعًا والثاني من حديث أبي ذر أيضًا.

ص: 300

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إصرار فرنسة

على إخراج البربر من الإسلام

نشرت بعض الجرائد المصرية كتابين في شأن قضية البربر أحدهما لسلطان

المغرب والآخر لوزير فرنسة فيه يدلان على إصرار فرنسة على خطتها في إخراج

شعب البربر من الإسلام وعلى أن كل ما تحاوله الآن هو استخدام ما بقي من

احترام السلطان ونفوذه لإلزام المسلمين الرضاء بذلك وإخماد نار الاضطراب الذي

وقع وتهوين الخطْب الفظيع الذي أوقدها. وإنَّا ننشر الكتابين ونبين في تعليقنا على

كل منهما ما يثبت كل ما يشكو منه المسلمون في المغرب وغيره من هذا العدوان،

وينقض ما ادعاه الوزير المفوض بمصر في بيانه الذي نشرناه في الجزء الماضي

من أساسه.

كتاب السلطان

(في إقرار فرنسة على جنايتها ودعوة حكومته ورعيته لقبولها)

الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا

إلى خدامنا الباشاوات وكافة الأهالي نخص منهم الشرفاء والعلماء والأعيان

وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد:

فغير خفي أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام،

ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون من أسلافنا ومن

قبلهم، فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة، وسنين عديدة، وكان آخر مَن أقرهم

على ذلك مولانا الوالد، قدس الله روحه في أعلى المشاهد، اقتداءً بمن تقدمه من

الملوك، وإجابة لآمالهم، ورغبة في إصلاح حالهم، وحيث إن ذلك من جملة

الأنظمة المحترمة اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور؛ لأن تجديده

ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين

يكادون لم يبلغوا الحُلُم وأشاعوا - ولبئس ما صنعوا - أن البرابرة بموجب الظهير

الشريف تنصَّروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على

العامة وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله

تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دور التضرع والتعبد، إلى دور التحزب

والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ

اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) الآية - محلات اجتماعية سياسية

تروج فيها الأغراض والشهوات. ومعلوم لدى الخاص والعام أن مولانا السلف

الصالح كان أحرص الناس على إيصال الخير لأمته، فكيف يعقل أن يسعى في

تكفير جزء عظيم من قبائل رعيته، ونحن - والحمد لله - سائرون على أثره في

ذلك، ساهرون على دفع كل ضرر يلحق برعايانا السعيدة، فليس إبقاء تقرير

البرابر على عوائدهم إلا مساعدة من جنابنا الشريف على محض طلبهم، وإجراء

لهم على ما كانوا عليه منذ أزمان طويلة، على أننا قررنا أن كل قبيلة بربرية

تطلب إجراء الأحكام الشرعية عندها تساعَد على ذلك فورًا، أو يعين لها القاضي

من لدن جنابنا الشريف حرصًا على صيانة دينها، وبرهانًا على ما لنا من الذود عن

حرمة الإسلام في بلادهم، فآمركم أن تلزموا السكينة والوقار، وأن ترجعوا إلى

سلوك الجادة والاعتبار.

أصلح الله بمنّه ودائم لطفه أحوالكم، وهداكم لما فيه الخير من حالكم ومآلكم

والسلام.

في 13 ربيع النبوي الأنور عام 1349.

***

الرد على كتاب السلطان

وكونه حجة عليه لا له

(1)

قوله: إن أسلافه من الملوك أقروا عوائد البربر القديمة غير مسلَّم

على إطلاقه كما عُلم من البيان السابق، ولئن صح لم يكن حجة شرعية على جواز

إقراره هو ما خالف الشرع منها، فإن أسلافه لم يكونوا معصومين، ولا يقول مسلم

يعرف دينه: إن إقرارهم أو قولهم أو فعلهم حجة في دين الإسلام بل هو معصية فيما

ذكر، واستحلال ما خالف الشرع منها مخالفة قطعية كفر وارتداد عن الإسلام،

ومنه يعلم حكم الظهير الذي أصدره أبوه والظهير الذي أصدره هو.

(2)

قوله في الذين أثاروا هذا المعارضة الإسلامية من الشبان - إنهم

شرذمة من الصبيان الذين يكادون لم يبلغوا الحلم - ليس في مصلحة جلالته؛ فإن

أكثر الذين يعنيهم أكبر منه سنًّا وعلمًا، وقد رأينا فيهم الكُتاب والبلغاء ونرى كتابه

هذا في غاية الركاكة والضعف، فكيف يصح أن يكون هو سلطانًا وشارعًا ينسخ

شرع الله وهو شاب مثلهم وأصغر من كثير منهم، ولا يصح أن ينكروا هم ما هو مخالف لدينهم، وخطر على بلادهم؟ وكيف أمكنهم أن يثيروا البلاد كلها لو لم يكن فعلهم دفاعًا عن الإسلام؟!

(3)

قوله إنه ساءه من اجتماعات الأمة في المساجد لذكر اسم الله اللطيف

أن تصير المساجد محلات اجتماعية سياسية وقد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ

اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) - يدل على أن الذي كتب له هذا

الكتاب لا يعقل معناه ولا أنه مخالف لدين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم،

(أما الأول) فلأن عملهم موافق للآية الكريمة؛ لأنه ذكر لاسمه (اللطيف)

والإنكار عليه هو المخالف لها، (وأما الثاني) فلأن مسجد النبي صلى الله عليه

وسلم كان في عصره وعصر خلفائه الراشدين محلاًّ للاجتماعات السياسية

والاجتماعية المتعلقة بمصلحة الملة ولم يكن هنالك (مخزن) لذلك ويظهر أن الذي

وضع له هذا الكتاب من رجال فرنسة لا من منافقي المخزن عنده؛ لأن الإفرنج

ودعاتهم من النصارى هم الذين يفرقون هذه التفرقة بين الدين والسياسة.

(4)

ما ذكره من حرص سلفه على إيصال الخير لأمته وسيره هو على

أثره واستدلاله على ذلك بأنه لا يُعقل أن يسعى لتنصير جزء عظيم من قبائل رعيته

يجاب عنه:

(أولاً) بأن المسألة ليست بالدعوى والنظريات العقلية وإنما هي نازلة واقعة

وقضية عملية مشاهَدة.

(وثانيًا) بأن أمره ليس بيده وإنما هو مسخر للقوة الفرنسية التي يستند إليها

في منصبه.

(5)

قوله: إن إقرار البربر على عاداتهم ليس إلا مساعدة من جنابه

الشريف على طلبهم - إذا سلمناه كان حجة عليه؛ إذ لا يبيحه له الإسلام كما تقدم،

وإنما تحتج به فرنسة على من ينكرون عليها إكراه الناس على ترك دينهم وهو

مخالف للتقاليد المدنية، وللقوانين الدولية. وهذا دليل على أنها هي الواضعة له هذا

الكتاب.

(6)

قوله: إننا قررنا أن كل قبيلة بربرية تطلب إجراء الأحكام الشرعية -

إلى قوله - حرصًا على صيانة دينها - هو نص رسمي منه على أن النظام الذي

جرى عليه العمل في ظهيره وظهير والده هو خروج بالبربر عن حكم الشريعة

وعن دينهم وأنه هو لا يأمر برجوعهم إليها إلا إذا طلبوا ذلك. وهذا ينقض أقواله

السابقة مع العلم بأن قوله بمساعدة الذين يطلبون ذلك فورًا ليس بيده وقد اشترط فيه

صاحب السلطان الفعلي الوزير الفرنسي ما يجعله مُحالاً كما يعلم من كتاب هذا

الوزير. وهذا نصه:

كتاب الوزير الفرنسي الجديد

في معنى كتاب السلطان

بلغني أن الظهير الشريف المؤرخ بالسادس عشر من شهر مايو سنة 1930

المتعلق بتنظيم المحاكم البربرية فهم منه ما ليس بمقصود حتى من قِبَل الولاة

المحليين.

وفي الحقيقة أن ما أصدره جلالة السلطان ليس فيه ما يُحدث شيئًا جديدًا، بل

المراد منه هو تنظيم الجماعات البربرية المكلفة بالأحكام، وإعطاؤها صبغة قانونية

بحيث تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البرابرة وغيرهم، وأن الظهير المشار

له قد أقر حالة كان يتمشى عليها من قديم الزمان، فلا فائدة حينئذ في استعماله لغاية

دون الغاية التي قصدها، وإحداث أمور جديدة يتمسك بها ذوو الشهوات الذين لا

يعتمدون على أدنى شيء في أقوالهم.

فلا ينبغي - والحالة هذه - السعي في جعل الجماعات البربرية المعبر عنها

بنزرف تقف في وجه الشرع، بل الذي يحسن سلوكه هو إجراء الظهير

المذكور برفق ولين لتطمين النفوس وتسكين الخواطر.

أما الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع وإن كانوا

قاطنين في بلاد البربر فالأولى هو إبقاؤهم على ما كانوا عليه، ولا يمكن الآن

إجبارهم على الانقياد إلى المحاكم البربرية، لما ينشأ عن ذلك من حوادث متعددة.

وكذلك إذا رغبت بعض الأفخاذ المستعربة في البقاء على إجراء دعاويهم لدى

الشرع مثل ما كانت تفعله قبل فلا مانع من إجابة مرغوبها، بل إذا صرحت بعض

القبائل أو الأفخاذ ممن كانوا منقادين إلى الجماعات البربرية واتفقوا بأجمعهم على

سلوك منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم.

هذا وإن الطلبة والفقهاء الذين كانوا قائمين بمهمتهم بالقبائل البربرية إلى الآن

بلا مانع فلا يُمنَعون من الدخول إليها. ومثلهم مشايخ الطرق الذين يتجولون بالقبائل

المذكورة لأجل جمع الصدقات حتى تبقى مسألة الترخيص لهم في الدخول منوطة

بالإدارة العليا كما كان العمل به جاريًا قبل.

وبالجملة فإنه من المصلحة البينة أن يعلم كل واحد بأن الظهير الشريف المؤرخ

بالسابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 1348 لم يصدر ليكون آلة جبر، بل ليجري

العمل به بلين ورفق. اهـ.

***

تفسير كتاب الوزير الفرنسي

المقيم بالمغرب وكونه حجة عليهم

(1)

قال: إن ما أصدره السلطان هو إعطاء تنظيم البربر صيغة قانونية

به (تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البربر) ونقول هذا نص صريح بأن ما

ينفذونه الآن بمقتضى الظهير المذكور في البربر يراد جعْله أساسًا لأجل تنفيذه في

العرب! وهو تصريح بعزم فرنسة على إلغاء الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب

كلها (فليتأمل المسلمون) ولكنه أمر المنفذين له الآن بالرفق واللين لتسكين

الخواطر الثائرة.

(2)

قال: إن الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع

وإن كانوا قاطنين في بلاد البربر فالأولى عدم إجبارهم (الآن) على الانقياد إلى

المحاكم البربرية لما ينشأ عن ذلك من الحوادث المتعددة.

ونقول: هذا نص صريح أن البربر ممنوعون من رفع دعاويهم إلى الشرع،

وفي أن غيرهم - وهم العرب - لا يُجبرون الآن على ذلك اتقاءً للحوادث أي

الثورة، وتقييد ذلك بقوله (الآن) دليل على أنهم سيجبرونهم على ذلك بعد أن

تسكن ثورة الأمة ويزول هذا الهياج بنصائح السلطان ورجاله، ورشوة رئيس

الجمهورية لمن رشاه منهم.

(3)

قال: إذا رغبت بعض القبائل أو الأفخاذ واتفقوا بأجمعهم على سلوك

منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم. ونقول: إن

هذا هو القيد الذي قيد به قول السلطان في المسألة السادسة من تعليقنا على كتاب

جلالته، وهو أنه لا يقبل طلب أحد من البربر ولا من الأفخاذ المستعربة المشار

إليها أن يسلكوا منهج الشريعة إلا إذا أجمعوا على ذلك، ومعلوم أن هذا الشرط لا

يمكن تحقيقه في قبائل أكثرهم أميون جاهلون وهو طلبهم جميعهم لما ذكر، وإن

حكامهم الفرنسيين يمكنهم أن يمنعوهم منه إذا أرادوه، أو يمنعوا بعضهم على الأقل

فلا يتحقق الشرط الذي قيد به الطلب وهو أن يتفقوا عليه ويطلبوه بأجمعهم. وهو

دليل رسمي على قطع هذا الطريق عليهم.

(4)

ما ذكره الوزير في مسألة طلبة العلم والفقهاء الذين كانوا قائمين

بمهمتهم في قبائل البربر ومشايخ الطرق الذين يجمعون الصدقات من حيث عدم

طروء مانع يمنع من دخولهم إليها، ومن حيث إبقاء مسألة الترخيص لهم في

الدخول إلى بلاد تلك القبائل - هو دليل على صحة ما يشكو منه المسلمون من

الحيلولة بين قبائل البربر وأهل العلم الديني وطرق الصوفية، وعلى أن كل ما

تجدد من المعاملة لتسكين الهياج هو أنه يجوز دخول من لا ترى السلطة الفرنسية

هنالك مانعًا من دخولهم برخصة من إدارتها العليا، فالحجر على الدخول باقٍ،

والرخصة المنوطة برجال فرنسة لمن يثقون به لم يرفع الحجر بالطبع، ولا يعتقد

أحد أنهم ينفذونه بالفعل، إذ يستحيل أن يمنحوا هذه الرخصة لمن يعلمون أو

يخشون أن يعلم البربر شيئًا من أمر دينهم. فهو محاولة لتسكين الاضطراب في

مدن المغرب وفي غيرها بألفاظ مبهمة ككلمة الوزير التي ختم بها كتابه وهو أنه

يجب تنفيذ المشروع باللين والرفق.

فالكتابان الرئيسيان حجة على مُصدِريهما، وناقضان لما كانت أذاعته

المفوضية الفرنسية هنا من بقاء البربر مسلمين حالاً واستقبالاً.

***

نصيحة علنية لفرنسة أو أحرارها

(1)

إننا لا نجهل تاريخ فرنسة الحربي وما تفوق به غيرها من دول أوربة

اليوم من قوتها العسكرية، ولكننا نعتقد أن هذه القوة يخشى أن تقتلها كما جرى

لعدوتها ألمانية عند ما فاقت أوربة كلها بالقوة. ونعتقد أن فرنسة غير غافلة عن هذا

الخطر عليها، وأن رجلها ووزيرها ملير إن لم يقترح المحال من توحيد أوربة حبًّا

في السلم بل لتأمين فرنسة من خطر الحرب المنتظرة، فإذا كانت كل من فرنسة

وإنكلترة لا تحارب الأخرى لإخراجها من إحدى مستعمراتها كما قال أحد ضباطها

في المغرب الأقصى واهمًا أو موهمًا، فقد تحاربها ألمانية لاسترجاع حقوقها

ومجدها، أو إيطالية لإرضاء مطامح وزيرها وشعبها، ومشاركة فرنسة في

مستعمراتها. ولولا التنازع على الاستعمار لما وقعت الحرب الكبرى الأخيرة، وإن

الحرب المنتظرة لأجل الاستعمار والثأر معًا لأكبر هولاً وأعظم خطرًا.

(2)

إننا لا نجهل ضعف شعوبنا الإسلامية أو الشرقية تجاه فرنسة وغيرها

من الدول القاهرة لهم بالقوة العسكرية - ولكننا نعلم أن هذا الضعف قد بدأ يتحول

إلى قوة، كما ينتظر أن تنقلب قوتهم إلى ضعف، وإنما يستحيل الضعف قوة

بمعرفة الشعوب لأنفسها، وشعورها بالحاجة إلى تنظيم وحدتها، واعتقادها بصحة

قاعدة موقظي الشرق (الحكيم الأفغاني والإمام المصري) :

إن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها الغلب على الكثرة العددية إذا اتفقت

آحادها. وقاعدتهما في استحالة إبادة أمة لأمة كبيرة تماثلها أو تزيد عليها في العدد،

وقاعدتهما (العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟!) ، فإبادة فرنسة لمسلمي إفريقية أو

تنصيرهم ضرب من المحال، واستمرار استعبادها واستذلالها لهم بالقوة ضرب من

المُحال.

(3)

إن الإسلام حيّ لا يموت، والقرآن كلام الله الحي الذي لا يموت، بل

هو العلاج الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوربة من الهلاك الذي تنذرها إياه مفاسد الحياة

المادية، فتنصير شعب إسلامي من المطامع التي لا تنال، والغايات التي لا تُدرك،

وما كان ما يرونه من ضعف المسلمين ووجود أعوان لهم منهم إلا بجهلهم بالقرآن،

الذي ردى بعضهم في الإلحاد والبدع والفسق وضعف الإيمان، فبهذا وجد

المستعمرون في المغرب والمشرق من أمراء المسلمين ورؤسائهم - ومن حملة

العمائم والطيالس والبرانس أيضًا - مَنْ هم أقوى على إخضاع المسلمين لها من

قواد جيشها، وأقدر على هدم دينهم من أساقفة النصرانية ودعاتها، ولولاهم لما

تمكنوا في شيء من بلادها، كما تبين من شواهد الجزء الماضي في مقالة (آفة

الشرق) .

(4)

يقول (الكابتن أدينو) لمسلمي المغرب في كتابه الحديث (السياسة

الصريحة) : إنكم تعتقدون أن استيلاءنا عليكم وقهرنا لكم هو حكم قضاه الله وقدره

بحسب عقيدتكم، فيجب عليكم أن ترضوا به ولا تعارضونا فيه. ونرد عليه بأن

مسألة الرضاء بالمقضيّ والمقدر من جهالات بعض الصوفية مخالفة لأصول الإسلام

وإنما الواجب على المؤمن أن يؤمن بأن كل شيء بقدر الله وقضائه ولا يجوز له أن

يعترض على الله فيه. ولكن لا يجب عليه أن يرضى بكل ما قدره الله تعالى بل لا

يجوز له أن يرضى بالكفر، ولا بالفسق ولا بالفحشاء والمنكر؛ لأن الله تعالى لا

يرضى بذلك أيضًا كما قال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7) ولا أن

نرضى بالظلم والضرر وقد أمرنا أن ننكر المنكر ونغيره بما نستطيع وهو مقدر،

وأن نفر من الوباء والأمراض ونقاومها بالأدوية وهي مقدرة. كما قيل لسيدنا عمر

أمير المؤمنين لما امتنع من دخول الشام لوجود الوباء فيها: أتفر من قدر الله؟! قال

: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وقال إمام الصوفية وقطبهم الأكبر في عصره الشيخ

عبد القادر الجيلاني ما معناه: إننا نغالب الأقدار بالأقدار، ولكن بدعة الصوفية

نشرت هذه الأفكار التي استخدمتها فرنسة لإخضاع جهلة المسلمين بها، وإخماد

الشعور الإسلامي بوجوب مقاومة الكفر والإلحاد والبدع والسلطة الأجنبية، ولو

بالقوة الحربية، كوجوب مقاومة الأوبئة والأمراض بالأدوية المجربة والوقاية

الصحية ولماذا لا تقولون للمسلمين يجب عليكم أن ترضوا بهذه الأمراض لأنها

مقدرة؟!

(5)

إن الشعوب الإسلامية قد تنبهت لمفاسد هؤلاء الرؤساء الذين

يستخدمهم المستعمرون لاستعباد المسلمين، وسنراهم - بعد قليل من السنين -

يجاهدون هؤلاء الرؤساء المنافقين، كما يجاهدون سادتهم الذين يجاهدون بهم

الإسلام والمسلمين، فلا يخضعون لظهير ولا لمرسوم ولا لأمر عالٍ، ولا لفتوى

يصدرها مفتٍ موظف في حكومة استعمارية أو إلحادية يراها مصدر رزقه وجاهه

في هذه الدنيا. ثم يتلوه زمان قريب لا يقبلون سلطانًا ولا أميرًا ولا مفتيًا ولا قاضيًا

ولا صاحب منصب آخر في أمتهم، إلا إذا كان مجلس الأمة هو الذي يختاره

ويرضاه، بشرط تقييده باتباع شرع الله، والتزامه مصلحة الأمة التي تقررها

جماعة أولي الأمر وأهل الحل والعقد من نوابها.

وإذا كان الله تعالى قد أرشدهم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى

أن الطاعة لا تكون إلا في المعروف، وأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)

كما رواه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم و (لا

طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) كما رواه البخاري ومسلم

وغيرهما من حديث علي مرفوعًا أيضًا. وجعل لهم القدوة في ذلك الرسول

المعصوم فقال في آية المبايعة: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12)

مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، فهل يطيعون من ينصبه لهم المستعبِدون من

ملك أو سلطان أو باي أو أمير أو وزير؟ أو موظفيهم السياسيين أو الشرعيين في

ترك الشريعة وإباحة الكفر والمعاصي؟ أو يعملون بقول مثل شيخ جامع أو مفتٍ

في بلاد مستعمَرة أو يقتدون بفعلها أو إقرارها لما يخالف الشرع كما جرى في

مؤتمر دعاة النصرانية (الأفخارستي) في تونس؟ كلا، ثم كلا، ثم كلا.

(6)

لقد أسرفت فرنسة أكثر مما أسرف غيرها في احتقار الأمة الإسلامية

فلم تبالِ بما علمت به من اضطراب جميع شعوبها لجرأتها على الشروع في تحويل

شعب البربر عن الإسلام تمهيدًا لتنصير سائر المسلمين العرب في جميع

مستعمراتها، حتى أن رئيس جمهوريتها قد سافر إلى بلاد المغرب ليشد عزم

السلطان وحكومته الصورية على الثبات والاستمرار على تنفيذ الجريمة التي تنافي

إسلام كل مَن يرضى بها وتقتضي ردته - أي كفره - كما صرح به البيان

الإسلامي العام، الذي أمضاه كثير من العلماء الأعلام، ونشرته جمعية الشبان

المسلمين في العالم كله، وكنا نظن أنه إنما ذهب ليتلافى الفتنة ويقف تنفيذها،

فخاب الظن بالحكومة الفرنسية.

وسبب هذا أنها تظن أن العالم الإسلامي قوّال غير فعّال، ولا سيما مسلمي

مصر، فلا يمكنه أن ينفذ ما أنذرها إياه في البيان العام المشار إليه من مقاطعة تجارتها

وإعلان عداوتها؛ لأنه لا بد من وضع نظام لذلك قبل الشروع فيه والمسلمون - في

رأيها - لا يثبتون على نظام. وتظن أيضًا أن أهل المغرب الفرنسي - من تونس

إلى مراكش - لا يمكنهم بث الدعوة إلى الاستفادة من الحرب الأوربية المنتظرة

بالثورة على فرنسة وإخراج جميع رجالها من بلادهم، أو بعدم إعطائها أحدًا من

الرجال للقتال معها، وهي تعلم أنها لا يمكنها أن تقهرهم على هذا مهما يكن عدد

جندها في بلادهم، وتعلم أنه قد ثبت عندهم أن عصيانها في ذلك لا يمكن أن يفضي

إلى قتل عشر العشر مما يقتل فيهم في الدفاع عنها، كما أنهم يعلمون أن الحرب

القابلة ستكون أشد فتكًا وإبادة من الحرب التي قبلها، التي قتل منهم مئات الألوف

فيها، فإذا علمت أن هذه الظنون في المسلمين في غير محلها فإنها ترجع عن

غيها لمصلحتها، فهل يمكنهم إعلامهم بهذا؟!

_________

ص: 309

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خان

على عرش الأفغان

قد تم حولٌ كامل لاستواء محمد نادر خان على عرش الأفغان فاحتفل في تلك

البلاد وفي الوكالات السياسية التابعة لها بذكرى جلوسه الميمون الذي قضى على

سياسة الإلحاد والفساد التي جرى عليها سلفه الطالح أمان الله خان.

وقد شهدنا حفلة المفوضية الأفغانية في دار السفارة في هذه العاصمة، في 24

من هذا الشهر (16 أكتوبر) وقد أجاب دعوة وزيرها العالم المرشد الشهير

(جلالة مآب السيد محمد صادق المجددي) جمهور من العلماء والكبراء الرسميين

وغير الرسميين من الوطنيين والأجانب، وبعد أن شربوا الشاي وتناولوا معه أنواع

الحلوى نهض صاحب السعادة الوزير الجليل فارتقى سُلَّم الدار ووقف بأعلى السقيفة

التي أمامه فاستقبل الجمهور الجالسين في الحديقة وألقى خطابه مفتتحًا إياه بتلاوة

آيات من خواتيم سورة آل عمران في مناجاة الله عز وجل {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً

يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (آل عمران: 193) الآيات وكان الخطاب

بعدها بالفارسية لغة الأفغان الرسمية ولكنه قفَّى عليه بآخر في معناه باللغة العربية

التي يجيدها علماء الدين في بلاده وهو من كبارهم، فنوه بمآثر جلالة الملك المعظم

والاغتباط بالموالاة الودية بين حكومته وحكومة جلالة الملك المعظم، فصفق له

الحاضرون مرارًا. وختم خطابه بتكبير العيد.

وبعد انتهاء الحفلة أذَّن المؤذن لصلاة المغرب وفُرشت الطنافس الشيرازية في

خص (كشك) خشبي في جهة القبلة وفي جوانبه فنهض المصلون واصطفّوا

مؤتمّين بالوزير. وبعد الفراغ من الصلاة ودع الجمهور سعادة الوزير مهنئين له

بهذا العيد السياسي السعيد، وقد سر مَن حضر من علماء المسلمين وسائر طبقاتهم

وانشرحت صدورهم بهذا الاحتفال؛ لأنه لم يسبق له نظير في بلادهم، فهذه أول

مرة شاهدوا فيها وزيرًا معمَّمًا يفتتح خطابًا رسميًّا بكتاب الله ويختمه بذكر الله

وتكبيره. فنهنئ سعادته ودولة جلالة ملكهم المسلم المصلح بهذه الذكرى الحميدة.

ونسأله تعالى أن يوفقه للمضي في الصراط السوي من إصلاح بلاده وأمته في

أمور دينهم ودنياهم بما تقتضيه هداية الإسلام ومصالح المسلمين في هذا العصر.

_________

ص: 318

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا

نشرنا في الجزء الثاني من المنار مقالاً بَيَّنَّا فيه رأينا في هذه المعاهدة ونشرته

جريدة المؤيد الجديد بمصر وجريدة الجامعة العربية في القدس مع اختصار،

وإحدى جرائد العراق فغاظ ذلك نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية فلقن

جريدة العراق لسان حاله مقالاً في الطعن على شخص صاحب المنار والافتراء عليه،

لم يكن مثله يليق بمنصب الوزير وأدبه ولا بما كان له من التردد على صاحب

المنار والتودد له والممالحة.

أما المعاهدة فقد زعم أنه لم ينطق أحد باستنكارها وبيان مضارها إلا الغراب

الذي نعب بمصر وغراب آخر رجع صداه في العراق، فإن كان لهذا القول مكان

من الصدق فالشرف فيه لصاحب المنار أنه كان الأول المقدم لهذه الحملة الصادقة

التي حملها أعظم زعماء العراق على المعاهدة ولكن بعد نفوذ السهم وزعم أنه لم

يكن له شأن في المسألة العربية. كأنه يجهل أنه أحد مؤسسي الحركة العربية

وخطباء (المنتدى الأدبي) العربي في الآستانة وحزب الاتحاد السوري بمصر

ومكانه من حزب الاستقلال العربي وأنه المؤسس الأول لجمعية الجامعة العربية،

وكأنه نسي تردده هو وغيره من الضباط عليه عندما يجيئون مصر وعندما

يسافرون منها، وقوله له عندما ودعه هو بداره - آخر مرة في أيام الحرب -: يا

نوري، إنني حجة الله عليكم قد أخبرتكم أن الإنكليز يستخدمون شرفاء مكة والثورة

العربية في القضاء على الأتراك والاستيلاء على العرب، فلا تكونوا آلة في يدهم

لاستعباد أمتكم وإضاعة مستقبل بلادكم، بل اتخذوا فرصة احتياج الإنكليز إلى

العرب لجمع ما تقدرون عليه من المال والسلاح وادِّخاره، مع السعي لجمع كلمة

أمراء العرب وزعمائهم.. إلخ.

وزعم أيضًا أن صاحب المنار كان اتحاديًّا مع الاتحاديين، وائتلافيًّا مع

الائتلافيين وهاشميًّا مع الهاشميين يتملق للحسين وأولاده ونوري باشا يعلم كغيره أن

كل هذا افتراء وبهتان، فصاحب المنار لم ينتظم في حزب من هذه الأحزاب، وأنه

كان نصح للشريف حسين من قبل بمثل ما نصح به له ولجعفر باشا من بعد؛ أي

بأن يبادر إلى عقد حلف بينه وبين الإمام يحيى والإمام عبد العزيز بن سعود والسيد

الإدريسي، فأظهر له القبول فوعده بالمساعدة على هذا الأساس؛ لأنه أساس

الجامعة العربية التي أقسم نجله الأمير عبد الله لصاحب المنار اليمين على العمل

بقانونها، ولكن الملك حسينًا نكص ونكث فحمل عليه صاحب المنار تلك الحملات

المعروفة.

وأما جلالة الملك فيصل فلا يجهل نوري باشا موقف صاحب المنار معه في

دمشق وتلك الكلمات المشهورة له التي سماها مؤرخ الشام الأستاذ محمد كرد علي

(الكلمات التاريخية) كما أنه لا ينسى أنه كان رئيس المؤتمر السوري العام في

دمشق الذي جعل فيصلاً ملكًا - وأنه واقف على أخباره هو في الوساطة بين الملك

فيصل والجنرال غورو حتى في عهد ذلك الإنذار الشائن المهين. ولا ما قاله له

عندما عاد بجلالته ليلاً إلى دمشق بعد احتلال الجنرال غورو إياها. وأنه أنكر أنه

هو الذي أشار برجوع الملك إلى الشام، ولطخ بذلك غيره من حاشيته.

صاحب المنار يكتب في المسألة العربية للنصيحة والإرشاد وإقامة الحجة على

الجناة على أمتهم كما صرح بذلك النوري وجعفر وغيرهما في أيام الحرب العامة

وقد صدق رأيه بعدها، وسيظهر للأمة العربية كلها صدقه في معاهدة العراق وإن

كان لا يود ذلك.

_________

ص: 319

الكاتب: محمد رشيد رضا

الشيخ أبو بكر خوقير

تتمة ترجمته

وله مصنَّفات نافعة منها:

(1)

فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال، طبع في مطبعة

المنار بمصر. و (2) مسامرة الضيف في رحلة الشتاء والصيف، طبع في

بيروت. و (3) ما لا بد منه في أمور الدين، طبع في مصر. و (4) حسن

الاتصال بفصل المقال في الرد على با بُصيل وكمال. و (5) السجن

والمسجونون. (6) ما لا غنى عنه شرح ما لا بد منه. (7) التحقيق في الطريق

في نقد الطرق المتصوفة. وهذه المصنفات لم تطبع وهي جديرة بالطبع.

وكان يقرأ لطائفة من الطلاب دروسًا في العلوم الدينية والتاريخية وغيرها في

بيته بعضها بالنهار وبعضها بالليل، وهو لم يتعرّف إلى الملك عبد العزيز آل سعود

إمام السلفيين ولم يطلب منه مساعدة ولا وظيفة على كونه أكبر علماء السلفيين

وفقهاء الحنابلة في الحجاز، ولكن دلَّه عليه بعض العارفين بقدره فجعله مدرسًا في

الحرم الشريف قبل وفاته بسنة.

توفاه الله تعالى في بلدة الطائف مصطاف الحجاز في يوم الجمعة غرة ربيع

الأول من هذا العام بمرض الزحار عن عمر ناهز السبعين رحمه الله تعالى رحمة

واسعة، وجمعنا به في دار القرار مع المقربين والأبرار.

استدراك على ما نشر

من الترجمة في الجزء الثالث

في عام 1324 و1325 كان الشريف علي باشا أمير مكة وهو الآن مقيم

بمصر وفي إمارته كان الشيخ أحمد فتة الشافعي مفتيًا للحنابلة وكان الذي يكتب له

الفتوى ويستشار فيها الشيخ أبو بكر خوقير.

لما صار الشريف حسين أمير مكة في سنة 1327 عين الشيخ أبا بكر خوقير

مفتيًا للحنابلة ثم عزله، وعين الشيخ عبد الله بن حميد النجدي مفتيًا للحنابلة بمكة

وحفيد الشيخ محمد بن حميد مفتي الحنابلة بمكة سنة 1290 وهو مؤلف (السحب

الوابلة في تراجم الحنابلة) ذيل الطبقات للحافظ ابن رجب.

ثم عزل عبد الله بن حميد وعيّن الشيخ عمر باجُنيد الشافعي مفتيًا للحنابلة

وهو من علماء مكة القبوريين - والآن دخل الوكر - وهو تلميذ با بصيل تلميذ

دحلان. وقد استدركت بهذا على عبارة الترجمة لئلا يقول الناس ليس بين خوقير

وبا جنيد اتفاق حتى يكتب له الفتوى.

_________

ص: 320