الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلاف بين سيبويهِ والخليل
في الصَّوْت والبِنْية
د. أحمد بن محمد بن أحمد القرشيّ
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية - كلية المعلمين بالمدينة المنورة
ملخص البحث
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبيّ بعده، وبعد:
فالكتاب لإمام النّحاة، وحجة العرب سيبويه، هو المَعِين الذي لا ينْضُب على مرّ العصور، وتعاقب الدهور، سمّاه النّحاة "قرآن النّحو"، ولقّبوه بالبحر استعظاماً له واستصعاباً لما فيه.
عَقَد سيبويه أبواب الكتاب بلفظه ولفظ الخليل بن أحمد، ووافقه في معظم مسائل البِنْية، وخالفه في بعضٍ منها، إذِ الأصل بينهما هو الاتفاق، والخلاف فرعٌ.
فقد خالف سيبويه شيخه الخليل في: النّسب إلى "ظَبيةٍ ونحوها"؛ وفي النّسب إلى "رايةٍ وأمثالها". وفي باب الهمز خالفه في تخفيف إحدى الهمزتين المجتمعتين في كلمتين، و – أيضاً – خالفه في أنّ الهمز والنّبر شيءٌ واحدٌ ولا فرق بينهما.
وفي باب القلب المكانيّ ذهب سيبويه إلى أنّه لا قلب في الجمع الأقصى نحو "خطايا"؛ ولا قلب في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز الّلام، نحو "جاءٍ"؛ وكذلك: لاقلب في جمعه، نحو "جواءٍ"، أمّا الخليل فيرى القلب فيها.
وفي باب تداخُل اللُّغات أثبت الخليل التداخُل، وخالفه سيبويه فحكم على ما جاء من الأفعال بأنّها شاذّة.
وفي باب الوقف اختلفا في حقيقة ألف المقصور المنّون الموقوف عليه، وكذلك اختلفا في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن.
وفي باب الزّوائد ذهب الخليل إلى أنّ الزائد هو الأول في كلّ مضاعف، وخالفه سيبويه فذهب إلى أنّه الثاني، ثم قال سيبويه: وكلا القولين صوابٌ ومذهبٌ.
أمّا باب مخارج الحروف فقد خالف شيخه في عدد مخارج الحروف؛ وفي ترتيب المخارج؛ وفي ترتيب حروف بعض المخارج.
هذا ما تيسّر لي ووقفت عليه من أوجه الخلاف بينهما، والله الموفق.
***
مقدمة:
أحمد الله سبحانه وتعالى حمداً لاتدرك غايته، ولا تعلم نهايته، وأشكره على نعمه التي لاتحصى، وأستعينه وأستغفره.
وأصلّي وأسلّم على سيدنا محمد صفوة الله من خلقه، أما بعد:
فالكتاب لسيبويه إمام النّحو، وحجة العرب، هو المنبع الصّافي، والمَعِين الذي لا يَنْضُب على مر العصور، وتعاقب الدهور.
استوعب فيه سيبويه أبواب النّحو والصرف، ومسائل التمارين، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل بن أحمد، وهو أعلمُ النّاس بالنّحو بعد الخليل، وأثْبتُ من حمل عنه.
مات عنه سيبويه وهو في حداثة سِنّه، وريعان شبابه، وربيع عمره، فأقبل العلماء – بعد موته – على (الكتاب) بالدراسة، والرواية، والشرح، والحفظ، جيلاً بعد جيل، وطبقةً بعد طبقة، فشرّق (الكتاب) وغرّب، وتلقفه القاصي والدّاني، وشُغف العلماء به على اختلاف مشاربهم، وتعدُّدِ مواردهم.
وبلغت العناية ب (الكتاب) أنّ الفرّاء من النحويين الكوفيين وُجد بعضُ الكتابِ تحت وسادته التي كان يجلس عليها.
قال ثعلبٌ: مات الفرّاءُ وتحت رأسه كتاب سيبويهِ.
جمع فيه سيبويه ماتفرّق من أقوال من تقدمه من العلماء، كأمثال: عبد الله بن أبي إسحاق، وأبي عمروٍ بن العلاء.
و– أيضاً – جمع فيه أقوال وآراء شيوخه، كأمثال: عيسى بن عمر، وأبي الخطاب الأخفش الكبير، والخليل بن أحمد، ويُونُس بن حبيب، وأبي زيدٍ الأنصاريّ، وغيرهم.
فأبدع كتابَه على مثالٍ لم يُسبق إليه، ولم يَدَعْ للمتأخرين استدراكاً عليه.
لم يك سيبويه في كتابه جمّاعاً لآراء السابقين آو لآراء شيوخه فحسب، بل كان ذا شخصيةٍ قويةٍ، تظهر في ضمّ ما استخرجه بنفسه من القواعد، اعتماداً على سماعه من العرب الخُلّص.
وكان – رحمه الله – يُناقش شيوخه في مسائل النّحو والصرف، فما يُقرّه الدليل أو القياس أخذ به، وما يخالفهما اطّرحه وخالف صاحبه، وإن رأى أنّ القول الآخر قويٌّ أخذ به إلى جانب مايراه.
وممّن خالفهم: شيخه الخليل بن أحمد الفراهيديّ الذي لازمه وأخذ النّحو عنه فبرع، وكان سيبويه أكثرَ نقلاً في (الكتاب) عنه، فكان الكتاب سجلاًّ حافلاً بآراء الخليل في النّحو والصرف، وكان سيبويه كثيراً مايحكى عن الخليل بقوله:"وسألته" أو "قال"، ورُغم ذلك خالفه في بعض ماحكاه، إلاّ أنّ الخلاف بينهما فرعٌ، والاتفاق هو الأصل في معظم المسائل.
ومما أودُّ التّنبيه إليه في هذه المسائل أنّي لم أقصر الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل على معناه المعروف وهو المخالفة بينهما في الرأي، بل إنّني وسّعت مفهوم الخلافِ ليشمل مطلق التعدّد في الرأي، فإنّ انفراد سيبويه برأيٍ لم يقل به الخليل في المسألة الواحدة عددته من قبيل الخلاف الضمني بينهما، فإنّ سيبويه قد يعرض رأي الخليل، ثم يعرض رأي غيره ويميل إليه وقد يذكر رأيه بعد رأي الخليل ثم يستحسنهما، وذلك كما في مسألة النسب إلى "راية، وغاية، وآية"، وكذلك في مسألة اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز اللام، نحو "جاءٍ، وساءٍ"، وكذلك في مسألة تحقيق أو تخفيف إحدى الهمزتين المجتمعتين في كلمتين، نحو "جاء أشرطها"، وكذلك اختلافهما في مسألة أيّهما الزائد الأول أو الثاني في المضاعف نحو "سُلّم".
فمثل ذلك عددته من قبيل المسائل الخلافية بينهما؛ لأنّ مجرد ذكر رأي الخليل، ثم التعقيب عليه بإبداء رأيه هو أو رأي غيره، يفهم منه ضمناً أنّ سيبويه ينتحي منتحىً آخر في الاستقلال بشخصيته، وعدم ميله إلى متابعة شيخه في كل آرائه.
والله يعلم أنّ جمع الخلافات بينهما لم أقف عليها بالهيّن الليّن، أو وافتني محض الصُّدفة، وإنّما كان ذلك ثمرةَ اطّلاعٍ واستقراءٍ للكتاب، ولكثيرٍ من كُتب النّحو والصرف، ثمّ عارضت ماجمعته على ماقاله سيبويه في (الكتاب) ، وعلى ما أورده النَّحويون في مصنّفاتهم.
وبعد أن جمعتُ المادة العلميّة وفق ماتيسر لي، سميّت البحث:
(الخلاف بين سيبويهِ والخليل في الصوت والبِنْية) .
أمّا المنهج الذي سلكته في هذه الدراسة فيتلخّص فيما يلي:
أولاً: أُقدّمُ بين يدي المسألة مدخلاً وتمهيداً، يتضح منه أبعاد المسألة.
ثانياً: أُوردُ الخلافَ بين سيبويه وشيخه الخليل، مؤيّداً ذلك بنصوص (الكتاب) أو من غيره، موضحاً وجهَ الخلاف بينهما.
ثالثاً: أَذكرُ آراءَ العلماء وموقفَهم من الخلاف، مؤكّداً ذلك بأقوالهم ونصوصِهم.
رابعاً: أُرجّحُ بينهما في ضوء أقوال العلماء، وعللِهم، وحججِهم، قارناً ذلك بالنّصوص الواردة عنهم.
خامساً: سلكت في ترتيب مباحث الخلاف بينهما وفق ورودها في (الكتاب) لسيبويه.
وقد اقتضت خُطة البحث بعد جمع الخلافات بين سيبويه والخليل في الصّوت والبِنْية، أن تكون وفق مايلي:
قسّمت الدّراسة إلى سبعة مباحث؛ يسبقها مقدمةٌ، وتمهيدٌ.
أمّا المباحث السبعة، فهي:
المبحث الأول: اختلافهما في باب النّسب، وفيه مطلبان.
المبحث الثاني: اختلافهما في باب الهمز، وفيه مطلبان.
المبحث الثالث: اختلافهما في باب القلب المكانيّ، وفيه مطلبان.
المبحث الرابع: اختلافهما في باب تداخُل اللُّغات، وفيه مطلبٌ.
المبحث الخامس: اختلافهما في باب الوقْف، وفيه مطلبان.
المبحث السادس: اختلافهما في باب الزوئد، وفي مطلبٌ.
المبحث السابع: اختلافهما في باب مخارج الحروف، وفيه ثلاثة مطالبٍ.
ثُمّ جاءت الخاتمة في نهاية الدراسة، لخّصت فيها أهم نتائج البحث، ثُمّ فِهْرس المصادر والمراجع، ثُمّ فِهْرس الموضوعات.
وختاماً أقول: الله أَسْألُ أنْ يجعلَ هذا العملَ في ميزان حسناتي يوم لاينفع مالٌ ولا بنون، وأنْ ينفع به قارئه وجميع المسلمين، إنّه على ذلك قدير، وعلى إجابة الدّعاء جدير، هو مولانا نِعْمَ المولى ونِعْمَ النّصير.
تمهيد:
علم النّحو من أسمى علوم العربية قدراً، وأعظمها أثراً، وأجلها نفعاً، به يستبين سبيل العلوم على تنوع مقاصدها، واختلاف أنواعها.
نشأ علم النّحو أوّل أمره صغيراً، شأن كلّ علمٍ وكلّ فنٍّ، وكانت نشأته في الصّدر الأول للإسلام، فنشأ نشأةً عربيةً محضةً على مقتضى الفطرة، ثم تدرج في وضعه، وتكوينه، ونموّه، ونضجه، واكتماله، شيئاً فشيئاً تمشياً مع سُنّة التّرقّي حتى كَمُلت أبوابه، غير مقتبس من أيّ لغةٍ، لافي نشأته ولافي تطوره وتدرجه، حتى وصل إلى طور الترجيح والبسط في التصنيف.
وكان من أسباب نشأة النّحو فُشُوّ الفساد في اللغة العربية، وأوّل مااختلّ من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعرابُ؛ لأنّ اللحنّ ظهر في كلام الموالي والمتعرِّبين من عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمّا سطع نور الإسلام، وأظهر الله دينه على سائر الأديان، وانتشرت الفتوحات الإسلاميّة، ودخل النّاس في دين الله أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللّغات المختلفة، واختلط العرب بغيرهم اختلاطاً مستمراً في البيوت والأسواق، والمناسك والحج، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم بعضاً، ونتيجةً لهذا الامتزاج والاختلاط تسرب اللحن والضعف إلى سليقة العربيّ، الذي كان ينطق على سجيته في صدر إسلامه، وماضي جاهليته، فاستبان منه الإعراب الذي هو حلية كلامه، والموضّح لمعانيه الدقيقة التي تتميّز بها اللُّغة العربية.
وانتشر اللحن فشمل الخاصة، حتى صاروا يَعُدّون من لايلحن.
لذلك خشي أهل العلم وعظم الإشفاق منهم من فُشُوّ اللّحن وغلبته على اللّغة العربيّة، فخافوا أن يُؤدي ذلك إلى فساد الملكة، وبطول العهد ينغلق فهم القرآن والحديث؛ فدعاهم الحذرُ من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم أن يستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويُلحقون الأشباه بالأشباه.
فكان أوّلَ من رسم للنّاس النّحو، وأصّلَه، وأعملَ فكره فيه، أبو الأسود ظالم بن عمرو الدُّؤليّ، وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ؛ لأنّه سمع لحناً، فقال لأبي الأسود: اجعل للنّاس حروفاً، وأشار له إلى الرفع، والنّصب، والجرّ، فكان لأمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه فضْلُ الهداية إلى الأساس، ولأبي الأسود الدُّؤليّ فضْلُ القيام بوضعه على ضوء هدي وتوجيه أمير المؤمنين.
ثم اختلف النّاس إلى أبي الأسود يتعلمون العربيّة، ففرّع لهم ماكان أصَّلَه، فأخذ ذلك عنه جماعةٌ، كان من أفذاذهم: عَنْبَسةُ بن مَعْدان الفيل، ويحي بن يَعْمَر العَدْوانيّ، وميمونُ الأقرن، ونصرُ بن عاصم الليثيّ؛ وكان عَنْبسةُ الفيل أبرعَ أصحاب أبي الأسود، وعن عنبسة – أيضاً – أخذ ميمون الأقرن، فكان البارعَ من أصحابه.
وهؤلاء شاركوا في استنباط كثيرٍ من قواعد وأحكام النّحو، وساهموا في نشره وإذاعته بين النّاس.
ثم جاء من بعدهم جيلٌ كان أكثرَ عدداً، من أشهرهم: عبد الله بن أبي إسحاقَ الحضرميّ، رَأَسَ النّاسَ بعد موت شيخه ميمون الأقرن، ولم يكن في أصحاب ميمون أحدٌ مثله، وهو أعلمُ أهلِ البصرة، وأعقَلُهم، ففرّع النّحو وقاسه، وتكلّم في الهمز، وكان رئيسَ الناس وواحدَهم.
وكان في عصره وزمانه أبو عمرو بن العلاء المازنيّ، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وقد كان أبو عمروٍ أخذ عن ابن أبي إسحاقَ.
فكان ابن أبي إسحاقَ يُقدّم على أبي عمروٍ في النّحو، وكان أبو عمروٍ يُقدّم عليه في اللّغة.
و– أيضاً – أخذ أبو عمروٍ عمّن أخذ عنه ابن أبي سحاقّ، وأخذ العلم عن ابن أبي إسحاقَ وأبي عمروٍ جماعةٌ، منهم: أبو الخطاب الأخفش الكبير، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وكان عيسى أفصح النّاس، وصاحبَ تقعيرٍ في كلامه، واستعمال الغريب فيه.
وعن هؤلاء وغيرهم أخذ جماعة من العلماء، منهم: يُونُس بن حبيب، أخذ عن أبي عمروٍ، والأخفش الكبير.
وكان في زمانه أذكى النّاس وأعلمهم، وأفضل النّاس وأتقاهم، إنّه الخليل بن أحمد الفراهيديّ، إمام أهل البصرة ورئيس طبقته، أخذ عن عيسى بن عمر، وأبي عمروٍ.
وفي عصر الخليل تلاقت فيه طبقته برئاسته مع الطبقة الأولى الكوفية بزعامة أبي جعفر الرُّؤاسيّ الذي أخذ – أيضاً – عن أبي عمروٍ، وهو عالم أهل الكوفة.
فنهض النّحو نهضةً قويةً، واشتد التنافس بين البصريين والكوفيين، والخلاف بينهما في إعمال الفكر واستخراج القواعد نتيجةً للتقصّي والاستقراء للمأثور من كلام العرب.
كان للخليل بن أحمد الفضل الأكبر على علم النّحو بل على كثيرٍ من علوم اللغة العربية، فكان هو عمادها الذي نهض بها في شتى النّواحي، فمن عهده انتظم شتات النّحو، والتأم عقده، واتخذ تعليمه دوره الفنيّ، وهو الذي بسط النّحو، ومدَّ أطنابه، وسَبّب علله، وفتَقَ معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ به أقصى حدوده، وانتهى به إلى أبعد غاياته، ثم لم يرض أن يُؤلّف فيه حرفاً، أو يرسم منه رسماً ترفعاً بنفسه، وترفعاً بقدره؛ واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقّنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده، وألّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده.
فكان سيبويه أعلم الناس بالنّحو بعد الخليل، ولم يكن في أصحاب الخليل ولا في غيرهم من الناس مثلُه.
لَزِم أستاذه الخليلَ وأخذ عنه النّحو وغيره فبرع، ووافقه في معظم المسائل التي حَكاها عنه في الكتاب، أو سأله عنها؛ وخالفه في بعضِ مسائل البِنْية، وهي موضوع هذا البحث، إذِ الخلاف بينهما فرعٌ، والأصل هو الاتفاق (1) .
(1)
الحواشي والتعليقات
()
…
بنيت هذا التمهيد في نشأة النّحو وتطوره وتدرجه على: مراتب النّحويين، وأخبار النّحويين البصريين، وطبقات النّحويين واللُّغويين، والفهرست، ونزهة الألباء، ونشأة النّحو للطنطاويّ.
وقبل الخوض في الخلاف بينهما، يطيب لي أن أُعرّف بهما بصورةٍ موجزةٍ.
أولاً: تعريفٌ موجزٌ بالخليل بن أحمد.
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيديّ، الأزديّ، البصريّ، النّحويّ، اللُّغويّ. وفراهيد حَيٌّ من أَزْد عُمان.
يقال: إنّ أباه أوّلُ من سُميّ بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وُلد الخليل في البصرة سنة (100هـ) ، ونشأ فيها، غلب على حياته الفقر، كان يقيم في خُصٍّ له بالبصرة، لايقدر على فَلْسَين، والنّاس يقتاتون بعلمه الأموال، وهو يقتات من بستانٍ له خلفه عليه أبوه بالخُريْبة.
تلقى علومه على علماء عصره، فأخذ النّحو عن عيسى بن عمر الثقفيّ (149هـ) ، وأبي عمرو بن العلاء التيميّ المازنيّ (154هـ) .
وروى الحروف عن عاصم بن أبي النُّجود، وعبد الله بن كثير، وهو من المقلّين عنهما.
وحدّث عن أيوب بن أبي تميمة السَّخْتِياني، وعاصم الأحول، والعوَّام بن حَوْشب، وغالب القَطَّان.
كان الخليل في أوّل أمره إباضيًّا، فتحوّل عنه إلى مذهب أهل السُّنَّة، قال الأصمعيّ: كادت الإباضيّة تغلب على الخليل، حتى مَنَّ الله عليه بمجالسة أيوب.
كان سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده، وغايةً في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النّحو وتعليله، وهو أوّل من استخرج العروض، وحصر أشعار العرب بها.
وكان أعلمَ النّاس وأذكاهم، وأفضلَ النّاس وأتقاهم، وكان من الزّهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم.
وكان آيةً في الذكاء، وكان الناس يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى منه ولا أجْمعَ، وهو مفتاح العلوم ومصرِّفها.
وكان – رحمه الله – يَحُجّ سنةً، ويغزو سنةً، حتى جاءه الموت.
ومن كلامه: أنّه قال: إن لم تكن هذه الطائفة – يعني أهل العلم – أولياء الله، فليس لله وليٌّ.
وقال: تربع الجهل بين الحياء والكِبْر في العلم.
وقال: نوازع العلم بدائع، وبدائع العلم مسارح العقل، ومن استغنى بما عنده جهل، ومن ضمّ إلى علمه علمَ غيره، كان من الموصوفين بنعت الرّبانيّين.
وقال: ثلاثة تُنسيني المصائب: مَرّ الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثات الرجال.
وقال: لايعرف الرّجلُ خطأَ معلمه حتى يُجالس غيرَه.
وقال: زلَّةُ العَالِم مضروبٌ بها الطَّبل.
وقال لرجلٍ، قال له: أحسبُني قد ضيّقت عليك، فقال الخليل له: فإنّ شبراً من الأرض لايَضيق على المتحابَّين، والأرضُ برُحْبِها لاتسعُ متباغِضَيْن.
وقال: أكمل مايكون الإنسان عقلاً وذهناً عند الأربعين. وغيرها.
أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ، من أشهرهم: عمرو بن عثمان سيبويه، والنّضْر بن شُميل، وأبو فيد مؤرّج بن عمرو السُّدوسيّ العجليّ، وعلي بن نصر الجهضميّ، والأصمعيّ، وهارون بن موسى النّحويّ، ووهْب بن جرير، وحماد بن سلمة بن دينار، وأبو سليمان كيسان بن معرّف، وبكار بن عبد الله العوديّ، وآخرون.
وللخليل مصنفات منها: كتاب العين وقد اختُلف في نسبته إليه، وكتاب النّغم، والجُمل، والعروض، والشّواهد، والنَّقْط والشّكل، والإيقاع.
توفي الخليل – رحمه الله – سنة سبعين ومائة، وقيل: سنة خمس وسبعين، وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ستين.
والأظهر والأغلب أنّها سنة خمس وسبعين ومائة، وله أربع وسبعون سنةً (1) .
ثانياً: تعريفٌ موجزٌ بسيبويه.
(1)
…
اعتمدت في التعريف بالخليل على المصادر والمراجع التالية: المعارف 541، ومراتب النّحويين 54 - 72، وأخبار النّحويين البصريين 54-56، وطبقات النّحويين 47-51، والفهرست 65، ونزهة الألباء 45-47، وإنباه الرواة 1/341-347، ومعجم الأدباء 11/72-77، وإشارة التعيين 114، وسير أعلام النبلاء 7/429-431، وغاية النهاية 1/275، وبغية الوعاة 1/557-560، وشذرات الذهب 1/275-277، وتاريخ الأدب العربيّ لفروخ 2/111-116.
هو أبو بِشْر عمرو بن عثمان بن قَنْبر، إمام النّحويين والبصريين، وحجة العرب، مولى بني الحارث بن كعب بن عمروٍ، ثمّ مولى آل الرَّبيع بن زيادٍ الحارثيّ؛ وسيبويه لقبٌ، ومعناه: رائحةُ التّفاح.
ولد سيبويه بقريةٍ من قرى شِيراز، يقال لها: البيضاء من أرض فارس، نحو سنة (140هـ) .
ثم قدم إلى البصرة ونشأ فيها، ورغب في طلب الفقه والحديث، فالتحق بحلقة حمّاد بن سلمه، فبينا هو يستملي على حمادٍ لحن، فعاتبه حمادٌ على لحنه، فقال سيبويه: لاجرم لأطلبنّ علماً لا تُلحِّنُنِي فيه أبداً، ثمّ مضى ولزم الخليل فبرع، وهو أثْبتُ من أخذ عنه.
وأخذ – أيضاً – النّحو واللغة والأدب عن يُونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش الكبير، وعيسى بن عمر الثقفيّ، وأبي زيدٍ الأنصاريّ، وغيرهم.
كان أعلم النّاس بالنّحو بعد الخليل، ولم يكن في البصرة ولا في غيرها مثلُه، ساد أهل عصره وفاقهم، فهو إِمامُ أهل البصرة بلا مدافع، ورئيس طبقته بلا منازع.
كان فيه مع فَرْط ذكائه حُبسةٌ في لسانه، وانطلاقٌ في قلمه.
كان شاباًّ نظيفاً جميلاً، قد تعلّق من كلّ علمٍ بسببٍ، وضرب بسهمٍ في كلِّ أدبٍ، مع حداثة سِنّه، وبراعته في النّحو.
كان الخليل يُحبّه ويُجلُّه، ولا يَملُّ من لقائه، فكان يقول له إذا أَقْبل عليه سيبويه: مرحباً بزائرٍ لايُملّ، وما سُمع الخليل يقولُها لغيره.
أمّا كتابه الذي صنّفه فلم يسبقه أحدٌ إلى مثله، ولا لحقه أحدٌ من بعده، سمّاه النّاس "قرآن النّحو"، ولقّبه المبرد بالبحر استعظاماً له، واستصعاباً لما فيه.
وكان المازنيّ يقول: من أراد أن يعمل كتاباً في النّحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.
ونجم من أصحاب سيبويه ممّن أخذ عنه أبو الحسن الأخفش سعيد بن مَسْعدة، وأبو عليّ محمد بن المستنير قُطْرب.
قدم سيبويه إلى بغداد، وناظر الكسائيَّ وأصحابه فلم يظهر عليهم، وتعصّبُوا عليه، وجعلوا للعرب جُعْلاً ليوافقوهم، فتابع الأعراب الكسائيَّ، والمناظرة مشهورة، فظهر عليهم سيبويه بالصّواب، وظهر الكسائيُّ عليه بتركيب الحجة والتّعصب.
فاستُزِلّ سيبويه فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس، ولم يعد إلى البصرة، وأقام هناك إلى أنْ مات غمّاً بالذَّرِبِ، ولم يلبث إلاّ يسيراً.
وكانت وفاته في سنة ثمانين ومائة بفارس، في أيّام الرشيد، وقبره في شِيراز.
وقيل: غير ذلك في سنة ومكان وفاته، والصحيح ما أثبته وهو قول الأغلب.
عاش سيبويه – رحمه الله – كما قيل: اثنتين وثلاثين سنةً، ويُقال: إنّه نيّف على الأربعين سنةً، وهو الصحيح.
ولمّا مات سيبويه، قيل ليُونُس: إنّه صنّف كتاباً في ألف ورقةٍ من عِلْم الخليل، فقال: ومتى سمع سيبويه هذا كلَّه من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلمّا نظر فيه رأى كلّ ماحكى، فقال: يجب أن يكون هذا الرّجلُ قد صدق عن الخليل في جميع ماحكاه، كما صدق فيما حكاه عنّي (1) .
المبحث الأول: اختلافهما في باب النّسب، وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل: الخلاف بينهما في النّسب إلى: (ظَبْيةٍ، أو دُمْيةٍ، أو فِتْيةٍ) .
الاسم الثلاثي: الذي يُنسب إليه إذا كان آخرُه ياءً، أو واواً، وكان الحرف الذي قبل الياء أو الواو حرفاً صحيحاً ساكناً، إمّا أن يكون مختوماً بهاء التأنيث، أو لايكون.
(1)
…
اعتمدت في التعريف بسيبويه على المصادر والمراجع التالية: المعارف 544، ومراتب النّحويين 106، وأخبار النّحويين البصريين 63 - 65، وطبقات النّحويين 66-72، والفهرست 74، ونزهة الألباء 54 - 58، وإنباه الرواة2/346-360، ومعجم الأدباء 16/114-127، وإشارة التعيين 242-245، وسير أعلام النبلاء 8/351، 352 وغاية النهاية 1/602، وبغية الوعاة 2/229، 230، وشذرات الذهب 1/252-255، وتاريخ الأدب العربيّ لفروخ 2/120، 121.
فإن كان مجرداً من هاء التأنيث، فإنّه يُنسب إليه دون تغييرٍ، وذلك نحو:"ظَبْيٍ، وغَزْوٍ"، فتقول في النّسب إليهما:"ظَبْيِيّ، وغَزْوِيّ".
وهذا مذهب سيبويه، والخليل، ويونس، وجمهور النّحويين باتفاقٍ (1) .
أمّا إذا خُتم بهاء التأنيث بعد الياء، فإنّ فيه اختلافاً بين سيبويه، والخليل، ويونس، فمذهب سيبويه والخليل في أحد قوليه وهو الأقيس، أنّه يُنسب إليه على لفظه بلا تغييرٍ، سوى حذف هاء التأنيث، فتقول في النّسب إلى "ظَبْيةٍ، أو دُمْيةٍ، أو فِتْيةٍ": "ظَبْييّ، ودُمْييّ، وفِتْييّ"، كأنّك نَسبت إلى الاسم الذي ليس فيه هاء التأنيث، وأجريته مجراه؛ ومِثْلُ اليائيِّ الواويُّ، فتقول في النّسب إلى "غَزْوة، أو عُرْوة، أو رِشْوة": "غَزْويّ، وعُرْوِيّ، ورِشْويّ"، بلا تغييرٍ سوى حذف هاء التأنيث، كاليائيّ سواء، قال سيبويه: (فإذا كانت هاء التأنيث بعد هذه الياءات، فإنّ فيه اختلافاً: فمن النّاس من يقول في رَمْيةٍ: رَمْييٌّ، وفي ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، وفي دُمْيةٍ: دُمْييٌّ، وفي فِتْيةٍ: فِتْييٌّ، وهو القياس
…
، كأنّك أضفت إلى شيءٍ ليس فيه ياءٌ.
فإذا جعلت هذه الأشياء بمنزلة مالا ياء فيه، فأجره في الهاء مجراه وليست فيه هاء؛ لأنّ القياس أن يكون هذا النّحوُ من غير المعتل في الهاء بمنزلته إذا لم تكن فيه الهاء،
…
وحدثنا يُونُس أنّ أبا عمروٍ كان يقول في ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، ولاينبغي أن يكون في القياس إلاّ هذا) (2) .
(1)
…
ينظر الكتاب 3/346، والمقتضب 3/137، والأصول 3/65، والتكملة 245، وابن يعيش 5/153، وشرح الجُمل 2/317، والمقرب 2/60.
(2)
…
ينظر الكتاب 3/346-347.
أمّا مذهب يُونُس فإنّه يَنسب إليهما كما ينسب إلى الاسم الثلاثيّ المنقوص، أي: أنّه يُحرك الحرف الساكن الذي قبل الياء أو الواو بالفتحة، ثم بالنسبة للياء يَقلبها ألفاً وفق القاعدة، ثم واواً عند النّسب، فيقول في النّسب إلى ما آخره ياءً:"ظَبَوِيّ، ودُمَوِيّ، وفِتَويّ"، ومثله الواويّ فيقول:"غَزَوِيّ، وعُرَوِيّ، ورِشَويّ" وذلك بتحريك الساكن الذي قبل الواو فقط، وهو اختيار الزجاج (1) .
وما ذهب إليه يُونُس في النّسب إلى "ظَبْية" وكذا: "غَزْوة" حكم عليه سيبويه بأنّه شاذٌ ومخالفٌ للقياس، ومذهبه ألاّ يُغيّر منه في النّسب إلاّ ماورد تغييره عن العرب، وذلك مثل قولهم في حيٍّ من العرب يُقال لهم: بنو زِنْية: زِنَوِيّ، وفيِ البِطْية: بِطَوِيّ (2) .
أمّا الخليل فقد عَذَرَ يُونُس واحتج له في ذوات الياء دون ذوات الواو؛ لأنّ السماع يُعضّد ويقوّي مذهبه في ذوات الياء، بخلاف ذوات الواو؛ لعدم السماع.
وكلام الخليل عن مذهب يُونُس واحتجاجه له في ذوات الياء دون ذوات الواو، يبيّن لنا أنّه يذهب إلى مذهب يُونُس في اليائيّ دون الواويّ؛ لأنّه لم يوافقه في الواويّ، ونَقْلُ سيبويه عن الخليل يحتمل ذلك، وكذا شُرّاح الكتاب، قال سيبويه: (وأمّا يُونُس فكان يقول في ظَبْيةٍ: ظَبَوِيٌّ، وفي دُمْيةٍ: دُمَويٌّ، وفي فِتْيةٍ: فِتَويٌّ.
فقال الخليل: كأنّهم شبهوها حيث دخلتها الهاء بفَعِلةٍ؛ لأنّ اللفظ بفَعِلةٍ إذا أسكنت العين وفَعْلةٍ من بنات الواو سواءٌ.
(1)
…
ينظر شرح الكافية الشافية 1950، والارتشاف 2/626، وابن يعيش 5/153، وشرح الشافية 2/48، والمساعد 3/376، وشفاء العليل 3/1023، والهمع 2/197، وحاشية الصبان 4/181.
(2)
ينظر الكتاب 3/347، والارتشاف 2/626، والوافي 77، والقول الفصل 111.
يقول: لو بنيت فَعِلةً من بنات الواو لصارت ياءً، فلو أسكنت العين على ذلك المعنى لثبتت ياء ولم ترجع إلى الواو، فلمّا رأوها آخرُها يشبه آخرَها، جعلوا إضافتها كإضافتها، وجعلوا دُمْيةً كفُعِلةٍ، وجعلوا فِتْيةً بمنزلة فِعِلةٍ.
هذا قول الخليل. وزعم أنّ الأول أقيسهما وأعربهما
…
وقال: لا أقول في غَزْوة إلاّ: غَزْويٌّ؛ لأنّ ذا لايشبه آخرُه آخر فَعِلةٍ إذا أُسكنتْ عينها
…
، ولا تقول في عُرْوة إلاّ عُرْويّ
…
وأمّا يُونُس فجعل بنات الياء في ذا وبنات الواو سواءً، ويقول في عُرْوة: عُرَوِيّ، وقولنا: عُرْويٌّ) (1) .
وخلاصة كلام سيبويه أنّ في النّسب إلى اليائيّ أو الواويّ المختوم بهاء التأنيث مذهبين، وأنّ الخليل يجيز الوجهين في ذوات الياء دون الواو، ويختار الإقرار على الأصل.
والمذهبان هما:
الأول: مذهب سيبويه والخليل في أحد قوليه أن يُنسب إليهما بلا تغييرٍ سوى حذف هاء التأنيث، وبقاء سكون ماقبل الياء أو الواو، فيقال: ظَبْيِيّ، وغَزْوِيّ.
الثاني: مذهب يُونُس وهو قول الخليل في اليائيّ دون الواويّ، أنّه يُنسب إليهما بإبدال سكون ماقبل الياء أو الواو فتحة، وقلب الياء ألفاً ثم واواً، فيقال: ظَبَويّ، وغَزَويّ.
وقد حكم عليه سيبويه بأنّه مخالفٌ للقياس، وهو قول المبرد، إذْ قال:(فأمّا قولُ يُونُسَ في النّسب إلى ظَبْيةٍ: ظَبَويٌّ، فليس بشيءٍ، إنّما القول ماذكرت لك)(2) .
والرّاجح هو ماذهب إليه الخليل بن أحمد من جواز الوجهين في النّسب إلى ذوات الياء؛ إذْ جوّز فيه أن يُنسب إليه على لفظه بلا تغييرٍ، فتقول في النّسب إلى ظَبْيةٍ: ظَبْييٌّ، وهو مذهب سيبويه.
(1) ينظر الكتاب 3/347، 348، وانظر التعليقة 3/170، والنكت على الكتاب 2/889، وابن يعيش 5/153، وشرح الشافية 2/48، والارتشاف 2/626.
(2)
ينظر المقتضب 3/137.
وأجاز الخليل – أيضاً - أن يُنسب إليه على مذهب يُونُس، فتقول: ظَبَويٌّ؛ قال ابن مالك: (وإنْ أُنّث بالتاء، عُومل معاملةَ منقوصٍ ثلاثيّ، إن كان ياءً وفاقاً ليونس)(1) .
ومذهب الخليل هو مذهب جمهور النّحويين كالسيرافيّ، والفارسيّ، والأعلم الشنتمريّ، والزمخشريّ، وابن يعيش، وابن عصفور، وابن مالك، وابن عقيل، وغيرهم (2) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في النّسب إلى (رايَةٍ، وغايَةٍ، وآيَةٍ) .
اختلف سيبويه والخليل والنّحويّون في النّسب إلى الاسم الثلاثيّ الذي آخره ياء متحركة، قبلها ألف، وخُتم الاسم بهاء التأنيث، نحو:"رايَةٍ، وغايَةٍ، وآيَةٍ"، فقد اختلفوا في النّسب إليه على ثلاثة أوجهٍ (3) :
الوجه الأول: قلب الياء همزةً، فتقول:"رائِيٌّ، وغائِيٌّ، وآئِيٌّ".
وعلّة قلب الياء همزةً: أنّها اتصلت بياء النّسب، فثقل النطق بها، فأُبدلت الياء همزة لوقوعها طرفاً بعد الألف المبدلة من أصلٍ، تشبيهاً لها بالألف الزائدة في "سقاية".
(1) ينظر التسهيل 264، والمساعد 3/376، وشفاء العليل 3/1023.
(2)
ينظر التعليقة 3/170، والنكت على الكتاب 2/889، والمفصل 209، وابن يعيش 5/153، 154، والمقرب 2/61، والتسهيل 264، وشرح الكافية الشافية 1950، والمساعد 3/376.
(3)
ينظر الكتاب 3/350، 351، والمقتضب 1/284، والأصول 3/66، والتكملة 246، والتبصرة والتذكرة 2/596، وابن يعيش 5/157، وشرح الكافية الشافية 1952، والارتشاف 2/625، والمقرب 2/60، وشرح الشافية 2/51، والمساعد 3/375، والهمع 2/196.
وهذا الوجه هو مذهب الخليل، قال سيبويه:(وسألته عن الإضافة إلى: "رايَةٍ، وطايَةٍ، وثايَةٍ، وآيَةٍ" ونحو ذلك، فقال: أقول: "رائِيٌّ، وطائِيٌّ، وثائِيٌّ، وآئِيٌّ"، وإنّما همزوا لاجتماع الياءات مع الألف، والألف تُشبّه بالياء، فصارت قريباً مما تجتمع فيه أربع ياءات، فهمزوها استثقالاً، وأبدلوا مكانها همزة؛ لأنّهم جعلوها بمنزلة الياء التي تُبدل بعد الألف الزائدة؛ لأنّهم كرهوها ههنا كما كُرهت ثّمَّ، وهي هنا بعد ألف كما كانت ثَمَّ، وذلك نحو ياء "رداءٍ")(1) .
وقد نصّ المبرد على أنّ هذا الوجه اختاره سيبويه، وهو مخالفٌ لما ذكره سيبويه في (الكتاب) ، على ماهو مبيّن في الوجهين اللاحقين (2) .
الوجه الثاني: بقاء الياء على حالها، فتقول:"رايِيٌّ، وغَايِيٌّ، وآيِيٌّ".
وهذا الوجه جعله سيبويه أولى وأقوى، فقال:(ومن قال: "أُميّيٌّ"، قال: "آيِيٌّ، ورايِيٌّ" بغير همزٍ؛ لأنّ هذه لامٌ غير معتلة، وهي أولى بذلك؛ لأنّه ليس فيها أربع ياءاتٍ؛ ولأنّها أقوى)(3) .
والسبب في كونه أولى وأقوى: أنّه أقيس، إذْ فيه ترك الياء على حالها دون قلبٍ، كما في "ظَبْييّ"، ولأنّك لو أفردته بعد طرح الهاء لأثبت الياء، وقلت:"رايٌ، وغايٌ، وآيٌ" ولا تلزم الهمزة؛ لأنّ الألف قبل الياء أصلٌ غير زائدٍ، والياء إنّما تُهمز إذا كان قبلها ألفٌ زائدةٌ (4) .
وممّن ذهب إلى هذا الوجه ابن السراج، والزمخشريّ، وابن يعيش، والرضيّ (5) .
الوجه الثالث: قلب الياء واواً، فتقول:"راويٌّ، وغاوِيٌّ، وآوِيٌّ".
(1) ينظر الكتاب 3/350.
(2)
ينظر المقتضب 1/285، وانظر الكتاب 3/350 – 351.
(3)
ينظر الكتاب 3/350-351.
(4)
ينظر ابن يعيش 5/157، وشرح الشافية 2/51.
(5)
ينظر الأصول 3/66، والمفصل 209، وابن يعيش 5/157، وشرح الشافية 2/51.
وعلّة قلب الياء واواً: أنّها وقعت ثالثة متطرفة، فاستُثقلت لأجل ياء النّسب بعدها، فقُلبت واواً، كما في "عَموِيّ، وشَجوِيّ" أي: تعامل معاملة النّسب إلى المنقوص الثلاثيّ (1) .
وهذا الوجه أجازه سيبويه، فقال:(ولو أَبدلتَ مكان الياء الواوَ، فقلت: "ثاوِيٌّ، وآوِيٌّ، وطاوِيٌّ، وراويٌّ" جاز ذلك، كما قالوا: "شاوِيٌّ"، فجعلوا الواوَ مكان الهمزة)(2) .
وممّن ذهب إلى هذا الوجه المبرد، وهو أجود الأقاويل عنده (3) .
وحاصل ماسبق ذكره أنّ في المسألة ثلاثة أوجهٍ، لخّصها الصيمريُّ بقوله: (وما كانت لامه ياءً وقبلها ألف، نحو: راية، وآية، فالنّسب إليه على ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: ترك الياء على حالها، كقولك: رايِيٌّ، وآيِيٌّ.
والثاني: قلبُ الياء همزةً، كقولك: رائِيٌّ، وآئِيٌّ.
والثالث: قلبها واواً، كقولك: راوِيٌّ، وآوِيٌّ) (4) .
أمّا اختلاف سيبويه مع الخليل في المسألة فيتلخص فيما يلي:
بيّنت – آنفاً – في الوجه الأوّل أنّ الخليل يذهب إلى قلب الياء همزة، موضحاً علّة ذلك، أما سيبويه فقد نصّ المبرد على أنّه اختار مذهب الخليل.
قلت: - أيضاً – ذهب في (الكتاب) إلى تقوية عدم قلب الياء وبقائها على حالها وجعَله أَوْلى، وهو مذهب جماعة من النّحوييّن، وقد بيّنت ذلك في الوجه الثاني.
- أيضاً – ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى جواز قلب الياء واواً؛ وهو أجود الأقاويل عند المبرد، وهو موضَّح في الوجه الثالث.
إذاً: سيبويه يذهب إلى جواز الأوجه الثلاثة في النّسب إلى "رايةٍ، وغايةٍ، وآيةٍ، وثايةٍ، وطايةٍ".
وأمّا الخليل فيذهب إلى جواز وجهٍ واحدٍ، هو قلب الياء همزةً.
(1) ينظر شرح الشافية 2/52، وشذا العرف 133، والقول الفصل 108، 111.
(2)
ينظر الكتاب 3/351.
(3)
ينظر المقتضب 1/285.
(4)
ينظر التبصرة والتذكرة 2/596.
والأجود: هو ماذهب إليه الخليل بن أحمد، وهو قلب الياء همزةً؛ لأنّه مذهب جمهور النّحويين كالسيرافيّ، وابن مالك، وأبي حيّان، وابن عقيل، والسّلْسيليّ، وابن جماعة، والسيوطيّ، والصّبان، وغيرهم (1) .
قال السيرافيّ معلّلاً مذهب الخليل: (فأمّا من همز؛ فلأنّ الياء وقعت بعد ألفٍ، وكان حقُّها أن تُهمز قبل النّسبة وتُعلّ، ولكنّهم صحّحوها وهي شاذّةٌ، فلمّا نُسب إليها وزِيدت ياءُ النسبة ثقلت، فردّوها إلى ماكان يوجبه القياس من الهمز)(2) .
وقال ابن مالك: (وفي نحو: "غايَةٍ" ثلاثة أوجهٍ: أجودها الهمز)(3) .
قال ابن عقيل موضّحاً جودة الهمز: (وذلك لسلامته من ثقل الياءات، مع الكسر الموجود، ذلك في الوجه الأول – أي: غايِيّ -؛ ومن الإبدال بعد الإبدال، كما في الوجه الثالث – أي: غاوِيّ -)(4) .
وقال السيوطيّ: (والهمز أجود؛ لأنّ فيه سلامةً من استثقال الياءات، وإبدالٌ أخفُّ من إبدالين)(5) .
المبحث الثاني: اختلافهما في باب الهمز، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في تخفيف الهمزتين المجتمعتين في كلمتين.
اعلم أنّ الهمزتين المتحركتين إذا التقتا في كلمتين منفصلتين، فهما على ضربين:
الأول: أن تكونا متفقتي الحركة. والثاني: أن تكونا مختلفتي الحركة.
فإن اتفقتا في الحركة فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: اتفاقهما في الكسر، كقوله:(هؤلاءِ إِنْ كنتم) [البقرة: 31) .
الثاني: اتفاقهما في الفتح، كقوله: 0جاءَ أَشراطها) [محمد: 18] .
الثالث: اتفاقهما في الضم، كقوله:(أولياءُ أُولئك)[الأحقاف: 32] .
(1) ينظر هامش الكتاب3/350، والتسهيل 264، والارتشاف 2/626، والمساعد 3/375،وشفاء العليل 3/1023، وحاشية ابن جماعة 117، والهمع 2/196، وحاشية الصبان 4/181، والنّحو الوافي 4/722.
(2)
ينظر هامش التعليقة 3/174، وانظر هامش الكتاب 3/350.
(3)
ينظر التسهيل 264.
(4)
ينظر المساعد 3/357.
(5)
ينظر الهمع 2/196.
أمّا إذا اختلفتا في الحركة – وهو الضرب الثاني - فعلى خمسة أقسام، وكانت القسمة تقتضي ستةً:
الأول: مضمومة ومفتوحة، كقوله:(السُّفهاءُ أَلا)[البقرة: 13] .
الثاني: مفتوحة ومضمومة، عكس الأول، كقوله:(جاءَ أُمّة)[المؤمنون: 44] .
الثالث: مكسورة ومفتوحة، كقوله:(وِعاءِ أَخيه)[يوسف: 76] .
الرابع: مفتوحة ومكسورة، عكس الثالث، كقوله:(شُهداءَ إِذْ حضر)[البقرة: 133] .
الخامس: مضمومة ومكسورة، كقوله:(مَن يشآءُ إِلى)[البقرة: 142] .
السادس: مكسورة ومضمومة، عكس الخامس، ولم يرد له شاهد في القرآن.
هذه أقسام التقاء الهمزتين المتحركتين في كلمتين منفصلتين (1) .
واعلم أنّ القُرّاء والنّحويين اختلفوا في تحقيق الهمزتين معاً، أو تخفيفهما، أو تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإسقاطها، أو العكس، أو تسهيل إحداهما في الأقسام السابقة.
قال ابن الحاجب: (وفي كلمتين يجوز تحقيقهما، وتخفيفهما، وتخفيف إحداهما على القياس)(2) .
وقال سيبويه: (واعلم أنّ الهمزتين إذا التقتا وكانت كلُّ واحدة منهما من كلمة، فإنّ أهل التحقيق يخفّفون إحداهما، ويستثقلون تحقيقهما لما ذكرت لك، كما استثقل أهل الحجاز تحقيق الواحدة، فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحقَّقا)(3) .
وحاصل الخلاف بين القُرّاء والنّحويين في المسألة يتلخص في أربعة مذاهب (4) :
(1) ينظر السبعة 138، والتبصرة في القراءات 75، والكشف 1/74، وشرح الهداية 1/46، والتيسير 33، والتذكرة 1/157، والإقناع 1/377، وكشف المشكل 2/404، والنشر 1/382، والإتحاف 1/193.
(2)
ينظر الشافية 92، وانظر شرح الشافية 3/65.
(3)
ينظر الكتاب 3/548، وانظر المقتضب 1/295، والأصول 2/404.
(4)
ينظر الخلاف في مصادر هامش "27" السابق، وأيضاً- الكتاب 3/548، والمقتضب 1/295، والأصول 2/404، والتكملة 220، وهامش التعليقة 4/48، وابن يعيش 9/118، والمقرب 2/36، وشرح الشافية 3/65، والارتشاف 2/729، والجاربردي 265.
الأول: تحقيق الهمزتين جميعاً، سواء اتفقتا في الحركة أم اختلفتا؟
وهو مذهب ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وخلف، ورُوح عن يعقوب؛ وهو قول عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ من النّحويين.
وقد ذهب سيبويه إلى عدم تجويزه وحكم على تحقيق الهمزتين بالرداءة، فقال: (وأمّا الهمزتان فليس فيهما إدغام في مثل قولك: "قرأ أبوك"، و"أقْرِئْ أباك"؛ لأنّك لايجوز لك أن تقول:"قرأ أبوك" فتُحققهما
…
، وزعموا أنّ ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأُناسٌ معه، وقد تكلم ببعضه العربُ، وهو رديءٌ) ، وما ذهب إليه سيبويه من عدم التجويز والحكم على تحقيق الهمزتين بالرداءة، هو مذهب المبرد، وابن السراج (1) .
والصحيح: هو خلاف ماذهبوا إليه، فإنّه قد سُمع التحقيق فيهما، وقُرئ بهما (2) .
الثاني: تخفيف الأولى (أي إسقاطها) وتحقيق الثانية، وهو مذهب أبي عمروٍ من القُرّاء والنّحويين في الهمزتين المتفقتين في الحركة، - أي الأقسام الثلاثة من الضرب الأول - ووافقه ابن شنبوذ عن قُنبل، ووافقهم على ذلك في المفتوحتين خاصةً قالون عن نافع، والبَزّيّ عن ابن كثير، وسهّلا الأولى من المكسورتين، ومن المضمومتين بين بين مع تحقيق الثانية.
قال سيبويه: (فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحقَّقا، ومن كلام العرب تخفيف الأولى وتحقيق الآخرة، وهو قول أبي عمروٍ، وذلك كقولك: "فقد جا أَشراطها"، و"يازكريّا إِنّا نُبشرك")(3) .
(1) ينظر الكتاب 4/443، والمقتضب 1/295، والأصول 2/404.
(2)
ممن ذهب إلى جواز تحقيقهما الرمانيّ؛ ينظر هامش التعليقة 4/49، وانظر الارتشاف 730.
(3)
ينظر الكتاب 3/549، وانظر المقتضب 1/295، والأصول 2/404، والتكملة 220.
الثالث: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بإسقاطها، وهو مذهب الخليل بن أحمد من النّحويين، وبه قرأ ابن كثيرٍ في رواية قُنبل قوله:(هؤلاءِ انْ) ، بهمز الأولى وتخفيف الثانية؛ وهو قول نافعٍ في رواية وَرْش، نصّ على ذلك ابن مجاهد (1) ، وهو مخالفٌ لما أثبته جمهور القُرّاء؛ إذْ أثبتوا عنهما تحقيق الهمزة الأولى كالخليل، وتسهيل الهمزة الثانية لاتخفيفها، واختلفوا في صور التسهيل عنهما، على ماهو مبيّن في كتب القراءات.
وما ذهب إليه الخليل هي قراءة نافعٍ، وابن كثيرٍ، وأبي عمروٍ، وأبي جعفرٍ، ورُويس عن يعقوب، في الهمزتين المختلفتين في الحركة – أي الأقسام الخمسة من الضرب الثاني -، فوافقوا الخليل في تحقيق الهمزة الأولى، وخالفوه في عدم حذف الثانية، بل سهّلوها على ماتقتضيه مقاييسُ العربية من وجوه التسهيل (2) .
وإلى مذهب الخليل أشار سيبويه بقوله: (ومنهم من يُحقّق الأولى ويخفّف الآخرة، سمعنا ذلك من العرب، وهو قولك: "فقد جاءَ اشْراطها"، و"يازكريّاءُ انّا"، وكان الخليل يستحبُّ هذا القول)(3) .
الرابع: تخفيف الهمزتين جميعاً، وهذا المذهب لم يقرأ به أحدٌ من القُرّاء، وإنّما هو لغة أهل الحجاز، قال سيبويه:(وأمّا أهل الحجاز فيخفّفون الهمزتين؛ لأنّه لو لم تكن إلاّ واحدة لخُففّت) .
وقال: (وأمّا أهل الحجاز فيقولون: "اقرا آيةً"؛ لأنّ أهل الحجاز يخفّفونهما جميعاً، يجعلون همزة "اقْرأْ" ألفاً ساكنة، ويخفّفون همزة "آية"، ألا ترى أنْ لو لم تكن إلاّ همزة واحدة خفّفوها، فكأنّه قال: "اقرا" ثم جاء "بآية"، ونحوها)(4) .
(1) ينظر السبعة 140.
(2)
مفهوم التسهيل وضّحه الدّاني في التيسير 34؛ ووجوه التسهيل بيّنها ابن الجزري في النشر 1/388.
(3)
ينظر مصادر هامش "33" السابق.
(4)
ينظر الكتاب 3/550.
ولكلِّ مذهبٍ من المذاهب الأربعة السابقة حجّتُه وعلّته (1) .
واعلم أنّ ماسبق ذكره يختصّ بالخلاف بين القُرّاء والنّحويين عامّة، أمّا الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل في المسألة، فيتلخص فيما يلي:
أولاً: مذهب أبي عمروٍ في التقاء الهمزتين في كلمتين، هو حذف الأولى وتحقيق الثانية.
ثانياً: مذهب الخليل هو تحقيق الأولى وحذف الهمزة الثانية.
ثالثاً: مذهب سيبويه جواز الوجهين، فقال – بعد ذكره لمذهب أبي عمروٍ والخليل -:(وكلٌّ عربيٌّ) .
وأكّد مذهبه بقوله: (وتقول: "اقْرا آيةً" في قول من خفّف الأولى؛ لأنّ الهمزة الساكنة أبداً إذا خُفّفت أُبدل مكانَها الحرفُ الذي منه حركةُ ماقبلها.
ومن حقّق الأُولى، قال:"اقْرَ آيةً"؛ لأنّك خفّفتَ همزةً متحركة قبلها حرفٌ ساكنٌ، فحذفتها وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها) (2) .
إذاً: خلاصة الخلاف بينهما أن الخليل يرى تخفيف الثانية على كلّ حالٍ، وأمّا سيبويه فيرى جواز الوجهين، أعني: تخفيف الأولى وتحقيق الهمزة الثانية، ويرى العكس، وهو ماعبّر عنه بقوله:(وكلٌّ عربيٌّ)، وبقوله: (واعلم أنّ الهمزتين إذا التقتا في كلمةٍ واحدةٍ لم يكن بُدُّ من بدل الآخرِة، ولا تُخفّف؛ لأنّهما إذا كانتا في حرف واحد لزم التقاءُ الهمزتين الحرفَ.
وإذا كانت الهمزتان في كلمتين، فإنّ كلّ واحدة منهما قد تجرى في الكلام، ولا تَلزَق بهمزتها همزةٌ، فلما كانتا لا تُفارِقان الكلمة كانتا أثقل، فأبدلوا من إحداهما، ولم يجعلوهما في الاسم الواحد والكلمة الواحدة بمنزلتهما في كلمتين) (3) .
(1) ينظر الكتاب 3/549، والمقتضب 1/295، والكشف 1/74، وشرح الهداية 1/46، وشرح الشافية 3/65.
(2)
ينظر الكتاب 3/549، 550.
(3)
ينظر الكتاب 3/552.
وقد رجّح المبرد مذهب الخليل، فقال:(وكان الخليل يرى تخفيف الثانية على كلّ حالٍ، ويقول: لأنّ البدل لايلزم إلاّ الثانية، وذلك لأنّ الأُولى يُلفظ بها، ولا مانع لها، والثانية تمتنع من التحقيق من أجل الأُولى التي قد ثبتت في اللفظ، وقولُ الخليل أقيسُ، وأكثر النّحويّين عليه)(1) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في الهمز والنّبر، أهما شيءٌ واحدٌ، أم بينهما فرقٌ؟
اختلف سيبويه مع الخليل في الهمز والنّبر، أهما شيءٌ واحدٌ، أم بينهما فرقٌ؟
فذهب الخليل إلى أنَّ النّبر دون الهمز، وذّلك أنّ الهمزة إذا خُفّفت ذهب بذلك معظم صوتها، وخفّ النّطق بها، فتصير نبْرةً، أي: همزة غير محققة؛ وهو قول بعض القراء والنّحويّين.
قال الخليل: (وأمّا الهمزة فمخرجُها من أقصى الحلق مهتوتةً مضغوطةً، فإذا رُفِّه عنها لانت)(2) .
وقد وضّح أبو عمروٍ الدانيّ الفرق بين الهمز والنبر، وكذا مذهب الخليل وغيره من القُرّاء، فقال: (وقال – أي الخزاعي فيما رواه عن ابن كثيرٍ – وكان يقرأ "شعائر الله" بنبرة، قال: والنبرة عندهم دون الهمز، قال: وكذلك" خزائن، وبصائر" ونحوها، وقال ابن مجاهدٍ عن الأصبهانيّ عن أصحابه عن ورْشٍ عن نافعٍ في حروفٍ من الهمز منبورة، قال: والنّبرةُ عندهم همزةٌ ضعيفةٌ، كأنّها همزةٌ بين بين وليست بهمزةٍ ثابتةٍ، فوافق الخزاعيَّ فيما حكاه من كونها كذلك.
وقال الخليل بن أحمد: النبرة ألطفُ وألينُ وأحسنُ من الهمزة، وهذا أيضاً موافق لما حكيناه) (3) .
(1) ينظر المقتضب 1/295، 296.
(2)
ينظر العين 1/52، ومقدمة تهذيب اللغة 59.
(3)
ينظر جامع البيان في القراءات السبع 1/113/أ، والتبيان في شرح مورد الظمآن 46/ب.
أي: أنّ الهمز عند الخليل هو الصوت المحقَّقُ للهمزة الذي يخرج من أقصى الحلق؛ والنّبر: هو الهمزة المخففة بوجهٍ من وجوه التسهيل. وهذا مذهب الزمخشري، وابن يعيش، فقال:(اعلم أنّ الهمزة حرفٌ شديدٌ مستثقلٌ، يخرج من أقصى الحلق؛ إذْ كان أدْخلَ الحروف في الحلق، فاستثقل النطق به، إذْ كان إخراجُه كالتهوّع، فلذلك الاستثقال ساغ فيها التخفيف، وهو لغة قريش وأكثر أهل الحجاز، وهو نوعُ استحسانٍ لثقل الهمزة، والتحقيق لغة تميم وقيس، قالوا: لأنّ الهمزة حرف فوجب الإتيان به كغيره من الحروف. وتخفيفها كما ذَكر: يكون بالإبدال، والحذف، وأن تُجعل بين بين؛ فالإبدال: بأن تُزيل نبْرتها فتَلين، فحينئذٍ تصير إلى الألف والواو والياء على حسب حركتها وحركة ماقبلها، وأمّا الحذف فأنْ تُسقطها من اللفظ البتة؛ وأمّا جعلُها بين بين، أي: بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها، فإذا كانت مفتوحةً تجعلها بين الهمزة والألف، وإذا كانت مضمومةً بين الهمزة والواو، وإذا كانت مكسورةً بين الياء والهمزة)(1) . وأما سيبويه فإنّه لايرى فرقاً بين الهمز والنّبر، بل هما اسمان لمسمّى واحدٍ، فالهمزة المحققة عنده تسمّى نَبْرة، والعكس، أي: أنّ اختلاف الاسم – عنده – لايوجب اختلاف المسمّى، فقال:(واعلم أنّ الهمزة إنّما فَعَلَ بها هذا من لم يخفّفها؛ لأنّه بَعُد مخرجُها؛ ولأنّها نبْرةٌ تخرج باجتهاد، وهي أبعد الحروف مخرجا، فثقل عليهم ذلك؛ لأنّه كالتهوُّع)(2) ، فنلحظ من كلامه أنّه سوّى بين الهمزة والنّبرة.
والرّاجح هو قول سيبويه؛ لأنّه مذهب جمهور اللُّغويين، والنّحويين، والقُرّاء؛ إِذْ ذهبوا إلى أنّ الهمز والنّبر مترادفان على معنى واحدٍ.
(1) ينظر المفصل 349، وابن يعيش 9/107.
(2)
ينظر الكتاب 3/548، وانظر الإقناع 1/358، وشرح الشافية 3/31.
قال ابن السكيت: (والنّبْرُ: مصدرُ نبرت الحرف نبْراً، إذا همزتَه)(1) . وقال ابن فارس: (النّبْر في الكلام: الهمز، وكلُّ شيء رَفَع شيئاً فقد نَبَره، ولذلك سُمّي المنبر) ؛ وهو قول الجوهريّ، وابن منظور (2) . وإليه ذهب العكبريّ، والرضيّ وغيرهما من النّحويّين، قال العكبريّ:(اعلم أنّ الهمزة نبْرة تخرج من أقصى الحلق يشبه صوتها التهوّع)(3) .
وقد رجّح مذهب سيبويه من القُرّاء أبو عمرو الدّانيّ، فقال:(4)
والهمزُ فيه كُلْفةٌ وتعْبُ
لأنّه حرفٌ شديدٌ صعْبُ
يُخرجُهُ الناطقُ باجتهادِ
من صدْره وقُوّة اعتمادِ
يُعيبه الكُلفةُ والتّنطعْ
إذْ هو كالسَّعلةِ والتهوّعْ
لذاك فيه النقلُ والتسهيلُ
بالجعْلِ بينَ بينَ والتّبديلُ
والهمزُ والنّبْرُ هما لقبانِ
لواحدٍ بذاك يُعلمانِ
وقال أهلُ العلمِ بالحروفِ
النّبرُ تعبيرٌ عن التّخفيفِ.
المبحث الثالث: اختلافهما في باب القلب المكانيّ، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في الجمع الأقصى لمفردٍ لامه همزة قبلها حرف مدّ، كخطايا.
اعلم أنّ القلب هو: (تقديم بعض حروف الكلمة على بعضٍ)(5) .
وعرَّفه أبو حيّان – أيضاً – فقال هو: (تصيير حرفٍ مكان حرفٍ بالتقديم والتأخير)(6) .
وأكثر مايكون القلب في المعتل والمهموز، وقد جاء في غيرهما قليلاً، نحو: رعملي في لَعمْري؛ وامضحلَّ في اضْمَحلَّ؛ واكرَهفَّ في اكفَهرَّ (7) .
(1) ينظر إصلاح المنطق 16.
(2)
ينظر مجمل اللغة "نبر" 852، والصحاح 2/822، ولسان العرب 5/189.
(3)
ينظر اللباب في علل البناء والإعراب 2/443، وانظر إملاء مامَنّ به الرحمن 1/14، وشرح الشافية 3/31.
(4)
ينظر الأُرجوزة المنبهة 235، 236.
(5)
ينظر شرح الشافية 1/21، وانظر حاشية ابن جماعة 21، والمغني 33، وتصريف الأفعال 52.
(6)
ينظر الارتشاف 1/334، وانظر الهمع 2/224.
(7)
ينظر التسهيل 315، وشرح الشافية 1/21، والارتشاف 1/334، والهمع 2/224.
والقلب المكانيّ له إماراتٌ وأنواعٌ يكثر فيها، أمّا إماراته التي يُعرف بها، فقد ذكر ابن الحاجب أنّ القلب يعرف بستة أوجهٍ، فقال:(ويُعرف القلب بأصله: كنَاءَ يناءُ مع النأْي؛ وبأمثلة اشتقاقه: كالجاهِ والحادي والقِسِيّ؛ وبصحّته: كأَيس؛ وبقلّة استعماله: كآرامٍ وآدُرٍ، وبأداء تركه إلى همزتين عند الخليل: نحو: جاءٍ؛ أو إلى منع الصرف بغير علّةٍ على الأصحّ: نحو: أشياءَ)(1) .
وقد ذهب ابن عصفورٍ إلى أنّ القلب يعرف بأربعة أشياء (2) ، وذهب ابن مالك إلى أنّه يُعرف بدليل واحدٍ، فقال:(وعلامة صحّة القلب: كونُ أحدِ التأليفين فائقاً للآخرِ ببعضٍِ التصريف، فإن لم يثبتْ ذلك فهما أصلان)(3) .
وأمّا أنواعه التي يكثر فيها، فهي:(4)
تقديم اللام على العين، وهو أكثرها، نحو: راء في رأى، وناء في نأى.
تقديم العين على الفاء، نحو: أَيس في يئس، وجاه في وجه.
تقديم اللام على الفاء، نحو: أشياء في شَيْئاء.
تأخير الفاء عن اللام، نحو: حادي في واحد.
تقديم اللاّم الأولى على العين، وهو أقلّها، نحو: طأمن في طمْأَن.
واعلم أنّ سيبويه والخليلَ اختلفا في نحو: (خَطَايا، وبَرايا، ودَنَايا) جمع: (خَطِيئة، وبَرِيئة، ودَنيئة) أي: أنّهما اختلفا في الجمع الأقصى الذي على وزن (فَعَائِل) إذا وقعت الهمزة بعد ألف الجمع، وكانت تلك الهمزة عارضةً فيه، وكانت لام مفرده أصلها همزة، فذهب سيبويه إلى قلب الهمزة العارضة ياءً، أمّا الخليل فإنّه يذهب إلى القلب المكاني، فيجعل الياءَ موضع الهمزة، والهمزةَ موضع الياء.
(1) ينظر الشافية 8، وانظر شرح الشافية 1/21، والجاربردي وحاشية ابن جماعة 21، والهمع 2/225، وشذا العرف 23.
(2)
ينظر المقرب 2/197.
(3)
ينظر التسهيل 316، وانظر المساعد 4/212، وشفاء العليل 3/1110.
(4)
ينظر الخصائص 2/73، والتسهيل 315، والارتشاف 1/335، والهمع 2/224، والمغني 34، وتصريف الأفعال 52.
ومُؤدَّى الخلاف بينهما: هو أنّ عدم القلب المكانيّ – عند الخليل – يؤدى إلى اجتماع همزتين، لذا أوجب الفرار ممّا يؤدي إليهما، وإنّما دعا الخليلَ إلى ارتكاب وجوب القلب في مثله، أداء ترك القلب إلى اجتماع إعلالين في الكلمة الواحدة، كما هو مذهب سيبويه، والقولُ بالقلب دَفْعٌ لاجتماعهما.
وأمّا سيبويه فإنّه لايقول به، وإن أدّى تركه إلى اجتماع همزتين، ومن ثمّ اجتماع إعلالين؛ لأنّ اجتماع الهمزتين يزول – عنده – بقلب الهمزة العارضة ياءً، فيتخلص مما يجتنبه الخليل مع عدم ارتكاب القلب الذي هو خلاف الأصل.
فأصل "خطايا" عندهما: "خطايئ" بياءٍ مكسورة هي ياءُ "خطيئةٍ"، وهمزة بعدها هي لامها، ثم أُبدلت الياءُ المكسورة همزة لوقوعها بعد ألف الجمع على حد إبدالها في (صحائف)، فصارت "خطائِئ" بهمزتين: الأُولى مبدلة من الياء، والثانية هي لام الكلمة؛ ثمّ أُبدلت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة ياءً؛ لأنّ الهمزة المتطرفة بعد همزة تقلب ياءً مطلقاً، فبعد المكسورة أولى، فصارت "خطائِي" وما سبق ذكره من خطوات هو مذهب سيبويه.
أمّا الخليل فيختصر الخطوات السابقة بتقديم الهمزة على الياء، فتصير "خطائِي".
ثمّ بعد ذلك اتفق الخليل وسيبويه في باقي الخطوات، وهي: قلب كسرة الهمزة الأولى فتحةً وذلك للتخفيف، فصارت "خطائَي"؛ ثم قُلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ماقبلها، فصارت "خطاءا" بألفين بينهما همزة، والهمزة تُشْبُه الألف، فاجتمع شبه ثلاث ألفات، وذلك مستكرهٌ، فأُبدلت الهمزة ياءً ولم تُبْدل واواً؛ لأنّ الياء أخفُّ منها، فصارت "خطايا" وذلك بعد خمس خطوات في مذهب سيبويه، وأربعٍ في مذهب الخليل بن أحمد (1) .
قال سيبويه: (وأمّا "خطايا" فكأنّهم قلبوا ياءً أُبدلت من آخر "خطايا" ألفاً؛ لأنّ ماقبل آخرها مكسور،
…
وأبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخر ياءً، وفُتحت للألف،
…
فلمّأ أبدلوا من الحرفِ الآخر ألفاً، استثقلوا همزةً بين ألفين، لقرب الألفين من الهمزة،
…
أبدلوا مكان الهمزة التي قبل الآخرة ياءً) (2) .
والرّاجح: مذهب سيبويه، وهو قول الجمهور؛ لأنّ الخليل اُعترض عليه بأنّهم قد نطقوا باجتماع الهمزتين، مما يدلّ على صحة مذهب سيبويه، إذْ قال بعض العرب:"اللهمّ اغفر لي خطائِئ" – بهمزتين – على الأصل، وهو شاذٌٌّ (3) .
قال ابن جني: (ومذهب مَنْ لم يقُل بالقلب في "خطايا" عندي أقوى من قول الخليل)(4) .
قلت: ثمرة الخلاف بينهما هو أنّ وزن "خطايا" عند الخليل (فَعَالِي) ، ووزنها عند سيبويه (فَعَايِل) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثي المهموز اللاّم.
(1) ينظر التكملة 597، والمنصف 2/54، وابن يعيش 9/117، وشرح الشافية 3/59، وأوضح المسالك 3/321، والمساعد 4/214، وتوضيح المقاصد 6/19، والإنصاف 2/806، وإملاء مامنّ به الرحمن 1/38، والتصريح 2/371، وشذا العرف 154، والقواعد والتطبيقات 37، ومنجد الطالبين 54.
(2)
ينظر الكتاب 3/553.
(3)
ينظر المنصف 2/57، وابن يعيش 9/116، وتوضيح المقاصد 6/19، والتصريح 2/371.
(4)
ينظر المنصف 2/57.
اختلف سيبويه والخليل في الاسم الثلاثي المهموز اللام، إذا كانت عينه واواً أو ياءً، وذلك نحو: سَاءَ يسُوءُ، وناءَ ينُوءُ، وجاءَ يجيئ، وشاءَ يشاءُ، إذا بنيت منها اسم الفاعل فإنّك تقول: سَاءٍ، ونَاءٍ، وجَاءٍ، وشاءٍ.
فهو كاسم الفاعل من "قام" وأمثاله، في أنّك إذا أُبدلت من العين همزة، قلت "قائم"، إلاّ أنّ اسم الفاعل من "جاء" يخالف اسم الفاعل من "قام" في أنّه إذا أبدلت عينُه همزةً، التقت همزتان، الأُولى: بدلٌ من عين الكلمة، والثانية: هي لام الفعل، فأُبدلت الهمزة الثانية ياءً، لكسر ماقبلها؛ لأنّه لايلتقي همزتان في كلمةٍ إلاّ لزم الآخرةَ منهما البدلُ، فتصير:"جائِيٌ"، ثم صارت: جاءٍ، عُوملت معاملة: قاضٍ؛ ومثلها: ساءٍ، وناءٍ، وشاءٍ؛ وهذا مذهب سيبويه في أنّه غير مقلوبٍ، ووزنه "فاعل".
أمّا مذهب الخليل فإنّه يقلب اللاّم في موضع العين، فلم تلتق همزتان، فأصل "جاءٍ" في مذهبه: جايئٌ، ثم قَلب فصار: جائيٌ، فالهمزة التي تلي الألفَ، إنّما هي لام الفعل التي لم تزل همزةً قُدّمت على عين الفعل التي كانت تُهمز للاعتلال إذا كانت إلى جانب الألف، ثم صارت: جاءٍ، بمنزلة: قاضٍ، ووزنه – عنده – "فالع، ثم فَالٍ"(1) .
قال سيبويه: (وأمّا الخليل فكان يزعم أنّ قولك: "جاءٍ وشاءٍ" ونحوهما، اللاّم فيهنّ مقلوبةٌ، وقال: أَلزمُوا ذلك هذا واطّرد فيه، إذْ كانوا يقلبون كراهية الهمزة الواحدة) .
(1) ينظر المقتضب 1/253، والتكملة 595، والمنصف 2/52، وابن يعيش 9/117، وشرح الشافية 1/25، والممتع 2/509، والمساعد 4/213، والارتشاف 1/335.
وقبل ذلك بيّن سيبويه مذهبه، فقال:(فهذه الحروف تجري مجرى: قال يقول، وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، إلاّ أنّك تحوّل اللام ياءً إذا همزت العين، وذلك قولك: جاءٍ، كما ترى همزت العين التي همزت في "بائع" واللام مهموزه، فالتقت همزتان، ولم تكن لتجعل اللام بين بين من قِبل أنّهما في كلمة واحدةٍ، وأنّهما لايفترقان، فصار بمنزلة مايلزمه الإدغام؛ لأنّه في كلمة واحدة، وأنّ التضعيف لايفارقه) .
وفي نهاية المسألة أكّد مذهبه، فقال:(فهذا تقويةٌ لمن زعم أنّ الهمزة في "جاءٍ" هي الهمزة التي تُبدل من العين) ثم قال: (وكلا القولين حسنٌ جميلٌ)(1) .
قال ابن عقيل: (وهذا يقتضي إجازته كُلاًّ منهما، لكنّ الأوّلَ هو الأرجح؛ لأنّ من قاعدته أن كثرة العمل مع الجري على القواعد، أولى من قلبه مع المخالفة)(2) .
وقد اختلف النّحاة في الأخذ بأحد المذهبين، فذهب ابن مالك، والرضيّ إلى ترجيح مذهب سيبويه في عدم القلب، قال ابن مالك:(وليس "جاءٍ" و"خطايا" مقلوبين خلافاً للخليل)(3) .
وذهب أبو عليّ الفارسيّ، وابن يعيش، وابن عقيل إلى ترجيح مذهب الخليل، وهو القول بالقلب المكانيّ (4) .
وذهب بعض النّحويين – وهو الراجح - إلى أنّ كلا القولين حسنٌ جميلٌ، كما ذكر سيبويه في نهاية كلامه، ومن هؤلاء: المبرد، وابن جنى، وابن عصفور، وأبو حيّان، وغيرهم (5) .
المطلب الثالث: الخلاف بينهما في جمع اسم الفاعل ك"جائية" على "فواعل".
(1) ينظر الكتاب 4/376، 377، 378.
(2)
ينظر المساعد 4/213.
(3)
ينظر التسهيل 316، وانظر شرح الشافية 1/25.
(4)
ينظر التكملة 596، وابن يعيش 9/117، والمساعد 4/213.
(5)
ينظر المقتضب 2/254، والمنصف 2/53، والممتع 2/510، والارتشاف 1/335.
اعلم أنّ سيبويه اختلف مع شيخه الخليل في اسم الفاعل من الأجوف الثلاثيّ المهموز اللام – كما بيّنته سابقاً – كما أنّهما اختلفا – أيضاً – في جمعه، أي: اسم الفاعل على "فَواعل"، نحو: جَواءٍ، وسَواءٍ، جَمْعي: جائية، وسائية.
فمذهب الخليل أنّ أصل "جواءٍ": "جوايئٌ"، ثمّ قَلب اللام في موضع العين؛ لئلاّ تلتقي همزتان، فصار "جوائيٌ"، على وزن (فوالع) ، فالهمزة التي تلي الألف إنّما هي لام الجمع، قُدّمت على العين التي كانت تُهمز إذا كانت إلى جانب الألف، ثمّ عُومل الجمع معاملة "قاضٍ"، فصار: جواءٍ، على وزن (فوالٍ) .
أمّا سيبويه فلا يرى القلب وإن أدّى ذلك إلى اجتماع همزتين في الطرف، وهو ما احترز منه الخليل، وحَمَلَه على ارتكاب وجوب القلب؛ لأنّ ترْكَه يُؤدّي إلى اجتماع إعلالين كما هو مذهب سيبويه، هما: قلب العين همزةً، وقلب الهمزة التي هي لامٌ ياءً، ولا يلزم ذلك في قول الخليل.
فأصل "جواءٍ" في مذهب سيبويه: "جوايئٌ"، فأُبدلت الياء التي هي عين الجمع همزة؛ لوقوعها بعد الألف، فصارت "جوائئ"، فاجتمعت همزتان فأُبدلت الهمزة الثانية ياءً؛ لانكسار ماقبلها، فصارت "جوائي"، على وزن (فواعل) ، ثمّ عُومل الجمع معاملة "قاضٍ"، فصار: جواءٍ، على وزن (فواعٍ) ، ولا قلب فيه، قال سيبويه:(وإذا قلت: (فواعل) من "جئت" قلت: "جَواءٍ"، كما تقول من:"شأوت: شَواءٍ"، فتجريها في الجمع على حدّ ما كانت عليه في الواحد؛ لأنّك أَجريتَ واحدها مجرى الواحد من "شأوت") (1) .
(1) ينظر الكتاب 4/377.
والرّاجح هو ما ذهب إليه سيبويه، وهو مذهب جماعة من النّحويّين كالمازنيّ، وأبي عليّ الفارسيّ، وابن جنّيّ، والرضيّ، والجاربرديّ وغيرهم، قال المازنيّ:(وإذا كانت الهمزة ثابتة في الواحد، ثمّ كَسّرت ذلك الواحد على هذا المثال لم تُغيّر الهمزة؛ لأنّها لم تَعرِض في جمعٍ، وذلك أنّك إذا جمعت "جائية" على "فواعل"، قلت: "جواءٍ" مثل "جواعٍ"؛ لأنّ الهمزة لم تَعرِض في جمعٍ فيُفعل بها ما فُعل ب"خطايا، ومطايا، وحيايا، وسوايا")(1) .
وفي القلب المكانيّ أربع وقفات:
الوقفة الأولى: ذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ القلب المكانيّ يكون قياسيًّا في كلّ ما يؤدي ترك القلب فيه إلى اجتماع همزتين في الطرف، وذلك في ثلاث صور:
الصورة الأولى: كلّ جمعٍ أقصى لمفردٍ لامه همزة، قبلها حرف مدٍّ، نحو:"خطايا" في جمع "خطيئة".
الصورة الثانية: اسم الفاعل من الأجوف الثلاثيّ المهموز اللام، نحو: جاءٍ، وساءٍ.
الصورة الثالثة: جمع اسم الفاعل – السابق – على "فواعل"، نحو: جواءٍ، وسواءٍ، جَمْعي: جائية، وسائية.
فإنّ هذه الصور عند الخليل قياسيّة، أمّا سيبويه ومن تبعه من جمهور النحويّين فلا يحكمون بقياسيّتها، وإن أدّى ترْكه إلى اجتماع همزتين.
(1) ينظر المنصف 2/63، وانظر التكملة 596، وشرح الشافية 1/25، والممتع 2/511، والارتشاف 1/336، والجاربرديّ 311.
قال الرضيّ: (وليس شيءٌ من القلب قياسيّاً إلاّ ما ادعى الخليل فيما أدّى ترْك القلب إلى اجتماع همزتين
…
، فإنّه عنده قياسيٌّ
…
، وليس ما ذهب إليه الخليل بمتينٍ، وذلك لأنّه إنّما يُحترز عن مكروهٍ إذا خيف ثباتُه وبقاؤه، أمّا إذا أدّى الأمر إلى مكروهٍ وهناك سببٌ لزواله، فلا يجب الاحتراز من الأداء إليه،
…
وإنّما دعا الخليلَ إلى ارتكاب وجوب القلب في مثله، أداء ترْك القلب إلى إعلالين كما هو مذهب سيبويه، وكثرةُ القلب في الأجوف الصحيح اللام، نحو: شاكٍ وشواعٍ، في: شائك وشوائع، فلمّا رأى فرارَهم من الأداء إلى همزةٍ في بعض المواضع، أوجب الفرار ممّا يؤدي إلى همزتين) (1) .
الوقفة الثانية: توسّع الكوفيّون في إطلاق القلب على كلّ كلمتين اتحد معناهما، ووُجد بينهما خلافٌ في تقديم بعض الحروف على بعضٍ، مع وجود المصدرين لكلٍّ من الفعلين، نحو: جَبَذ، وجذب.
أمّا البصريّون فلا يرون القلب إن وُجد المصدران لكلّ واحدٍ من الفعلين، بل هما أصلان، وليس أحدهما مقلوباً من الآخر (2) .
قال سيبويه: (وأمّا جَذَبت وجَبَذت ونحوه فليس فيه قلبٌ، وكلّ واحدٍ منهما على حِدَته؛ لأنّ ذلك يطّرد فيهما في كلّ معنىً، ويتصرّف الفعل فيه، وليس هذا بمنزلة مالا يطّرد ممّا إذا قلبتَ حروفه عمّا تكلّموا به، وجدتَ لفظه لفظَ ماهو في معناه من فعلٍ، أو واحدٍ هو الأصل الذي ينبغي أن يكون ذلك داخلاً عليه كدخول الزوائد)(3) .
(1) ينظر شرح الشافية 1/24، 25، وانظر الجاربردي وحاشية ابن جماعة 24، 310، والمغنى 39، وتصريف الأفعال 60.
(2)
ينظر الارتشاف 1/336، والمزهر 1/481، والمغني 33.
(3)
ينظر الكتاب 4/381.
وقد عقد ابن جنّي في كتاب الخصائص باباً لهذه المسألة، سمّاه:"بابٌ في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير"، قال فيه: (اعلم أنّ كلّ لفظين وُجد فيهما تقديمٌ وتأخيرٌ فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه فهو القياس الذي لا يجوز غيره، وإن لم يمكن ذلك حكمت بأنّ أحدهما مقلوبٌ عن صاحبه، ثم أريتَ أيّهما الأصل، وأيّهما الفرع، وسنذكر وجوه ذلك: فمّما تركيباه أصلان لا قلب فيهما، قولهم: جَذَب، وجَبَذ، ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه، وذلك أنّهما جميعاً يتصرّفان تصرّفاً واحداً، نحو: جذَب يَجْذِب جَذْباً فهو جاذب، والمفعول مجذوب؛ وجَبَذ يَجْبِذ جبذاً فهو جابذ، والمفعول مجبوذ.
فإنَ جعلت مع هذا أحدهما أصلاً لصاحبه فسد ذلك؛ لأنّك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعدَ بهذه الحال من الآخر، فإذا وُقفتِ الحالُ بينهما ولم يُؤثَر بالمزيّة أحدهما وجب أن يتوازيا وأن يمثُلا بصفحتيهما معاً، وكذلك ما هذه سبيله) (1) .
الوقفة الثالثة: أنكر ابن دُرُستويه القلب المكانيّ، وذهب إلى أنّه لغةٌ أُخرى، قال السيوطيّ:(ذهب ابن دُرُستويه إلى إنكار القلب، فقال في شرح الفصيح: في البطّيخ لغةٌ أُخرى: طبّيخ بتقديم الطاء، وليست عندنا على القلب كما يزعم اللُّغويُّون، وقد بيّنا الحجّة في ذلك في كتاب إبطال القلب)(2) .
ولم يوافقه العلماء على ذلك، قال ابن دُريد: (باب الحروف التي قُلبت، وزعم قومٌ من النحويين أنّها لغاتٌ، وهذا القول خلافٌ على أهل اللغة، يقال: جبذ وجذب، وما أطيبه وأيْطبه، وربض ورضب
…
) (3) .
(1) ينظر الخصائص 2/69، وانظر المزهر 1/481.
(2)
ينظر المزهر 1/481.
(3)
ينظر المزهر 1/476.
الوقفة الرابعة: ذهب أحمد بن فارس إلى أنّ القرآن الكريم ليس فيه شيءٌ من القلب المكانيّ فيما يظنّ، وهو نحْويٌّ على مذهب الكوفيين، وهم توسعوا في إثبات القلب المكانيّ، كما بيّنته سابقاً، قال ابن فارس: (ومن سُنن العرب القلب، وذلك يكون في الكلمة، ويكون في القصّة، فأمّا الكلمة فقولهم: جَذَب وجَبَذ، وبَكَل ولَبَك، وهو كثيرٌ، وقد صنّفه علماء اللّغة.
وليس من هذا فيما أظنّ من كتاب الله – جلّ ثناؤه – شيءٌ) (1) .
قال عضيمة معلّقاً على قول ابن فارس: (وقد رجعت لما أحصيته من قراءاتٍ للقرآن الكريم، فوجدت قراءاتٍ سبعيّة متواترة يتعيّن فيها القلب المكانيّ، وأُخرى تحتمل القلب المكانيّ وغيره، أو يكون فيها قلبٌ عند بعض الصرفيين ولا يكون عند الآخرين، كما وجدت قراءاتٍ أُخرى غير سبعيّة تجرى هذا المجرى)(2) .
المبحث الرابع: اختلافهما في باب تداخل اللُّغات.
وفيه مطلبٌ هو: الخلاف بينهما في حكم تداخل اللُّغات.
من الظواهر اللُّغويّة والصرفية ظاهرة تداخل اللّغات، وذلك بأن يُؤخذ الماضي من لغةٍ، والمضارع أو الوصف من أُخرى لا تنطق بالماضي كذلك، فيحصل التَّداخُل والجمعُ بين اللغتين (3) .
قال ابن يعيش: (والمراد بتداخل اللّغات أنّ قوماً يقولون: "فَضَل" بالفتح "يَفضُل" بالضّمّ، وقوماً يقولون: "فَضِل" بالكسر "يَفضَل" بالفتح، ثم كَثُر ذلك حتى استُعمِل مضارع هذه اللغة مع ماضي اللغة الأُخرى، لا أنّ ذلك أصلٌ في اللُّغة)(4) .
إذاً: فما مفهوم التّداخُل في اللُّغة والاصطلاح؟
(1) ينظر الصاحبي 329، وانظر المزهر 1/476.
(2)
ينظر المغني في تصريف الأفعال 41، 42.
(3)
ينظر الخصائص 1/374، والمنصف 1/208، 256، والاقتراح 67، والمزهر 1/262، والإصباح 115، والمغني 155.
(4)
ينظر ابن يعيش 7/154.
التّداخُل لغة: قال ابن منظور: (تداخُلُ الأمور: تشابُهها والتباسُها، ودخولُ بعضها في بعض. والدَّخْلةُ في اللّون: تخليطُ ألوانٍ في لونٍ)(1) .
أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه ابن الحاجب، فقال:(ومعنى تداخل اللغتين: أنْ يَثبتَ للماضي بناءانِ، والمضارعُ لكلّ واحدٍ منهما بناءٌ واحدٌ، ثمّ يتكلّم العربيّ بأحد بناءي الماضي مع بناءِ المضارع الذي ليس له، فيتوهم أنّه جارٍ عليه، وليس كذلك)(2) .
وقريبٌ منه قولُ ابن جنِّي، إذْ قال (
…
، ثم تلاقى أصحاب اللغتين، فسمع هذا لغةَ هذا، وهذا لغة هذا، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما من صاحبه ماضمّه إلى لغته، فتركبت هناك لغةٌ ثالثة) (3) .
وقد وضّح ابن جنّي أسباب تداخُل اللّغات، وهو أن يَتلَقّى الواحد لغة غيره فيُسرع إلى قبولها، أو رفضها والاستعصام بلغته؛ أو أنّ طول تكرر سماعه للغة غيره تلصق به وتُوجد في كلامه، فقال:(واعلم أنّ العرب تختلف أحوالُها في تلقِّي الواحد منها لغةَ غيره؛ فمنهم: من يخفّ ويسرع قبولَ مايسمعه؛ ومنهم: من يستعصم فيقيم على لغته البتّة؛ ومنهم: من إذا طال تكرر لغةِ غيره لصِقت به، ووُجدت في كلامه)(4) .
واعلم أنّ النّحويّين واللّغويّين قد اختلفوا في إثبات أو نفي التّداخُل في اللّغات على مذهبين: (5)
الأول: ذهب إلى إثبات التّداخُل، وهم على فريقين:
فريق أجازه مطلقاً، وفريق أجازه بشرط ألاّ يؤدي إلى استعمال لفظٍ مهملٍ.
ومن المجوزين: الخليل بن أحمد.
الثاني: ذهب إلى عدم إثباته، وحكم على ماجاء منه بالشّذوذ، أو النّدور، أو القلّة، أو الضّعف، أو أنّها لُغيّة. ومن هؤلاء: سيبويه.
(1) ينظر اللسان "دخل" 11/243.
(2)
ينظر الإيضاح في شرح المفصل 2/115.
(3)
ينظر الخصائص 1/376.
(4)
ينظر الخصائص 1/383.
(5)
ينظر الاقتراح 69، والإصباح 119.
والحديث عن موضوع التّداخُل في اللّغات مطلقاً، يحتاج إلى بحثٍ مستقلٍ، إلاّ أنّني سأقتصر في هذا المبحث على الأفعال التي اختلف فيها سيبويه والخليل، هل هي من باب تداخل اللُّغات أو أنّها شاذّةٌ؟ مبيّنا موقف العلماء من الخلاف بينهما، فأقول: قال سيبويه: (وقد بنوا "فَعِل" على "يَفْعِلُ" في أحرفٍ، كما قالوا:"فَعُل يَفعُلُ"، فلزموا الضمّة، وكذلك فعلوا بالكسرة فشُبّه به، وذلك: حَسِب يَحْسِبُ، ويَئِس يَيْئسُ، ويَبِس يَيْبِسُ، ونَعِم يَنْعِمُ
…
، والفتح في هذه الأفعال جيّدٌ، وهو أقيس.
وقد جاء في الكلام "فَعِل يَفْعُلُ" في حرفين، بنوه على ذلك كما بنوا "فَعِل" على "يَفْعِلُ"؛ لأنّهم قد قالوا:"يَفْعِلُ" في "فَعِل"، كما قالوا في "فَعَل"، فأدخلوا الضمة كما تدخل في "فَعَل"، وذلك: فَضِل يَفْضُلُ، ومِتَّ تَمُوتُ؛ وفَضَل يَفْضُل، ومُتَّ تَمُوتُ أقيسُ.
وقد قال بعض العرب: كُدتَ تكادُ، فقال:"فَعُلْتَ تَفْعَلُ"، كما قال:"فَعِلْتُ أَفْعَلُ"، وكما ترك الكسرة كذلك ترك الضمّة.
وهذا قول الخليل، وهو شاذٌٌّّ من بابه، كما أنّ "فَضِل يَفْضُل" شاذٌّ من بابه.
فكما شَرِكَتْ "يَفْعِل يَفْعُل"، كذلك شَرِكَتْ "يَفْعَل يَفْعُل". وهذه الحروف من "فَعِلَ يَفْعِلُ" إلى منتهى الفصل شواذٌّ) (1) .
وقال في موضعٍ آخرَ: (وأما "مِتَّ تَمُوت" فإنّما اعتَّلت من "فَعِل يفْعُل"، ولم تحوّل كما يحوّل "قُلت، وزُدت"؛ ونظيرها من الصحيح "فَضِل يَفْضُل".
وكذلك: "كُدتَ تكاد"، اعتلَّت من "فَعُل يَفْعَل"، وهي نظيرة "مِتَّ" في أنّها شاذّةٌ، ولم يجيئا على ماكثُر واطّرد من "فَعُلَ" و"فَعِلَ") (2) .
وخلاصة كلام سيبويه: هو أنّ الخلاف بينه وبين الخليل يتركّز في ثلاثة محاور:
(1) ينظر الكتاب 4/38 – 41.
(2)
ينظر الكتاب 4/343.
الأول: الخلاف بينهما فيما جاء من الأفعال على (فَعِل يَفْعِل)، نحو: حَسِب يَحْسِب، ويَئِس يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس، ونَعِم يَنْعِم.
الثاني: ماجاء على (فَعِل يَفْعُل) من الصحيح، نحو: فَضِل يَفْضُل؛ ومن المعتلّ، نحو: مِتَّ تَمُوت.
الثالث: ماجاء على (فَعُل يَفْعِل)، نحو: كُدتَ تكاد.
فقد حكم عليها سيبويه بأنّها شواذٌّ، وحكم عليها الخليلُ بأنّها من تداخُلِ اللُّغات.
هذا موقف الإمامين من التداخُل فيما سبق ذكره، وأمّا موقف النّحاة واللُّغويين منهما، فقد اختلفوا في ذلك – أيضاً – على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب بعض النّحاة واللُّغويين إلى القول بما قاله سيبويه، وحكموا على ماجاء من الأفعال مخالفاً للقياس والاطّراد بأنّه شاذٌّ، وممّن ذهب إلى ذلك: المازنيّ، وابن قتيبة، والسيرافيّ، والجوهريّ، والصّيمريّ، واللَّبليّ، وابن عصفور، وابن منظور، والسيوطيّ، وغيرهم (1) .
ووافقهم ابن مالك في (حَسِب يَحْسِب) وأمثالها؛ والرضيّ في (كُدتَ تكاد) ؛ وأبو زيد، وأبو الحسن الأخفش، وابن الشجريّ في (فَضِل يَفْضُل) وأمثالها (2) .
(1) ينظر المنصف 1/206، 256، وأدب الكاتب 483، 484، وشرح الكتاب 122 – 125، والتذكرة والتبصرة 2/747 – 749، وبغية الآمال 77 – 80، والممتع 1/176، 177، والهمع 2/164،والصحاح واللّسان (حَسِب، فَضَل) .
(2)
ينظر شرح التسهيل 3/438، وانظر شرح الشافية 1/138، وانظر آمالي ابن الشجريّ 1/210،وانظر شرح الملوكي 43، وابن يعيش 7/154.
المذهب الثاني: أجازوا التَّداخُل فيها وفي غيرها، وهم: أبوعمرو، وابن السكيت، والفراء، وثعلب، والزجاجيّ، وابن خالويه، وابن جنّى، والزمخشريّ، وابن يعيش، وابن الحاجب، وابن مالك، والرضيّ، وأبو حيّان، وابن عقيل، والسّلْسيليّ، والجاربرديّ، وغيرهم (1) .
والصّواب هو ماذهب إليه الخليل، وغيره - وهو المختار عندي - أنّ التَّداخُل يوجد في اللُّغات، وهو ضرْبٌ من ضروب التوسع في اللغة العربية، ولا يصح إطلاق الشذوذ دون رويةٍ وإمعانٍ؛ كما أنّه لايجوز تضييق واسعٍ؛ لأنّ العربيّ له لغة يرثها ويتكلم بها، وله أُذْنٌ يتلقى بها، فيسمع لغة غيرهِ، وغيُره يسمع لغته، فينشأ عن ذلك الاستماع تركُّبُ لغة ثالثة.
وما أحسن قولَ ابن جنّي: (اعلم أنّ هذا موضعٌ قد دعا أقواماً ضَعُفَ نظرهم، وخفّت إلى تلقّى ظاهر هذه اللغة أفهامُهم، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم، وادّعوا أنّها موضوعة في أصل اللغة على ماسمعوه بأَخَرةٍ من أصحابها، وأُنْسُوا ماكان ينبغي أن يذكروه، وأضاعوا ماكان واجباً أن يحفظوه.
ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ماجاء على (فَعِل يفعُل)، نحو: نَعِم ينعُم، ودِمْتَ تدوم، ومِتَّ تمُوت
…
واعلم أنّ أكثر ذلك وعامّته إنّما هو لغاتٌ تداخلت فتركّبت،.... هكذا ينبغي أن يُعتقد، وهو أشبه بحكمة العرب) (2) .
المبحث الخامس: اختلافهما في باب الوقف، وفيه مطلبان:
(1) ينظر إصلاح المنطق 212، والجُمل 397، وإعراب ثلاثين سورة 181، والخصائص 1/378 – 380، والمنصف 1/208، 256، 257، والمفصل 277، وابن يعيش 7/154، 157، وشرح الملوكي 42، 43، والإيضاح في شرح المفصل 2/115، والشافية 24، والتسهيل 195، وشرح التسهيل 3/437، وشرح الشافية 1/125، 135، 136، والارتشاف 1/155، 156، والمساعد 2/587 – 589، وشفاء العليل 2/841، 842، والجاربردي 57، والمزهر 1/264، 265.
(2)
ينظر الخصائص 1/374 – 375.
المطلب الأول: الخلاف بينهما في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه.
ذهب ابن الحاجب إلىأنَّ الوقف في الاصطلاح، هو:(قطع الكلمة عمّا بعدها)(1) .
وعرّفه أبو حيّان، فقال:(الوقف: قطع النطق عند إخراج آخر اللفظة)(2) .
والعلّة في الوقف: هو أن يكون للاستراحة، أو تمام المقصود من الكلام، أو النظم في الشعر، أو تمام السجع في النثرِ (3) .
قال ابن الباذش: (الحرف الذي يوقف عليه لايكون إلاّ ساكناً؛ لأنَّ الوقف أولُ السكوت الذي ينقطع فيه عملُ اللسان ويسْكُن، كما كان الذي يُبتدأ به لايكون إلاّ متحركاً؛ لأنّ الابتداءَ أولُ الكلام الذي هو بحركة اللسان وتصرُّفه، فأجرَوْا أول الطرفين مُجرى سائرهما)(4) .
والوقف له أنواعٌ، ومحالٌّ (5)، منها: الوقف على الاسم المقصور المنوّن، نحو:"فتىً"، فقد اتفق الجمهور على أنهّ يوقف عليه بالألف في جميع أحواله الثلاث، أي: إن كان مرفوعاً، أو مجروراً، أو منصوباً، فيقال:"هذا فتى، سلّمت على فتى، وأكرمت فتى"، فيوقف عليه بالألف في الأحوال الثلاث.
(1) ينظر الشافية 63، وانظر شرح الشافية 2/271، والجاربردي 168.
(2)
ينظر الارتشاف 2/798، وانظر كشف المشكل 2/204، وتوضيح المقاصد 5/155، والتصريح 2/338، والأشموني 4/203، والمساعد 4/301، والمكودي 218، وشذا العرف 188.
(3)
ينظر كشف المشكل 2/206 والمساعد 4/301، والتصريح 2/338، وشذا العرف 188.
(4)
ينظر الإقناع 1/504.
(5)
ينظر أنواع الوقف ومحالّه في: كشف المشكل 2/207، والتبيين 186، والتسهيل 328، والارتشاف 2/798، وأوضح المسالك 3/286، وتوضيح المقاصد 5/155، وابن الناظم 807، وابن عقيل 4/170، وشرح الشافية 2/271، وابن يعيش 9/66، وشفاء العليل 3/1129، والمساعد 4/301، والتصريح 2/338، والهمع 2/204، والأشموني 4/203، والقول الفصل 156، والوافي 113.
وقد اختلف النّحويّون في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه، على ثلاثة مذاهب:(1)
المذهب الأول: أنّ الألف بدلٌ من التنوين المحذوف مطلقاً في الأحوال الثلاث: رفعاً وجراً ونصباً. وهو مذهب المازنيّ، والأخفش، والفراء، واختاره الفارسيّ.
وعلّة القائلين بهذا المذهب: أنّ التنوين في الأحوال كلّها قبله فتحة، فأشبه التنوين في "رأيت زيداً"؛ لأنّهم إنّما وقفوا على "رأيت زيدا" بالإبدال ألفا؛ لأنّ الألف لاثِقلَ فيها، بخلاف الواو والياء، وهذه العلة موجودة في المقصور المنوّن (2) .
وهو الظاهر من كلام ابن مالك في الألفية، فقال:(3)
تنويناً اثْرَ فتْحٍ اجْعَلْ أَلِفَا
…
... وقْفاً، وتِلْوَ غَيْرِ فتْحٍ احْذِفَا
إذْ كلامه في النظم يحتمل موافقة المازنيّ؛ لأنّ الألف وقعت بعد فتح.
المذهب الثاني: هو أنّ الألفَ هي الألفُ المنقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث.
وعلتهم: أنّ التنوين حُذف بسبب الوقف، فلّما حُذف عادت الألف في الأحوال كلّها؛ لأنّ الألف إنّما حُذفت لسكونها وسكون التنوين، فلمّا حُذف التنوين للوقف لم يبق سببٌ لحذفها فعادت.
وهذا المذهب مرويٌّ عن أبي عمرو، والخليل بن أحمد، والكسائيّ، ونسبه السيرافي وابن الباذش لسيبويه (4) .
(1) ينظر المذاهب الثلاثة في المصادر السابقة في هامش "94".
(2)
ينظر التسهيل 328،والارتشاف 2/800، وتوضيح المقاصد 5/156،والمساعد 4/304، وشرح الشافية 2/282، 284، وابن يعيش 9/77، وشرح الجُمل 2/429، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والأشموني 4/204.
(3)
ينظر الألفية 77، وانظر توضيح المقاصد 5/155، وابن عقيل 4/170، والمكودي 218.
(4)
ينظر التسهيل 328، والارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/156، وشرح الشافية 2/284، وشرح الجُمل 2/430، والمساعد 4/304، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والوافي 116.
المذهب الثالث: أنّ الألف في النّصب بدلٌ من التنوين، وفي الرفع والجرّ بدلٌ من لام الكلمة. أي: عُومل المقصور المنوّن في الوقف عليه معاملة الاسم الصحيح.
وعلّتهم: أنّ الألف في "فتى" في حالتيّ الرفع والجر، عند الوقف عليها هي الألف الأصليّة (أي: لام الكلمة) ، وهي نظيرة الدّال من "زيد"، وأمّا في حالة النصب فإنّها مبدلةٌ من التنوين، نظير الألف في "رأيت زيدا"، حُذفت الألف الأصلية لاجتماع الساكنين.
وهذا مذهب سيبويه فيما نقله أكثر النّحويّين؛ وقيل: ومعظم النّحويين عليه (1) .
وهو مذهب ابن السّراج، وأبي عليّ الفارسيّ في أحد قوليه (2) ؛ وابن مالك في (التسهيل)، فقال:(وكالصحيح في ذلك المقصور، خلافاً للمازنيّ في إبدال الألف من تنوينه مطلقاً، ولأبي عمروٍ والكسائيّ في عدم الإبدال منه مطلقاً)(3) .
تلك أقوال العلماء في حقيقة ألف المقصور المنوّن إذا وُقف عليه، وبقي أنْ أُبيّن وجه الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل في المسألة، فأقول:
إنّ الخليل يذهب إلى مذهب أبي عمروٍ، وتبعهما الكسائي وغيره، وهو أنّ الألف هي المنقلبة في الأحوال الثلاث، ولمّا حذف التنوين للوقف عادت الألف مطلقاً.
أمّا سيبويه فله في حقيقة الألف رأيان:
أولهما: أنّه يُعامل المقصور المنوّن في الوقف معاملة الصحيح، وقد بيّنته في المذهب الثالث، وهو أشهر رأييه، إذْ نسبه أكثر النّحويين إليه.
وثانيهما: أنّه يذهب إلى مذهب أبي عمروٍ، والكسائيّ كشيخه الخليل.
(1) ينظر التبيين 186، وشرح الكافية الشافية 1983، والارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/158، وابن يعيش 9/76 وشرح الشافية 2/280، والمساعد 4/304، 305، وشرح الجُمل2/430، والتصريح 2/338، والهمع 2/205، والأشموني 4/205.
(2)
ينظر الأصول 2/378، والتعليقة 4/266.
(3)
ينظر التسهيل 328.
ولم يَنسب له هذا المذهب إلاّ السيرافيّ، ثم تبعه الأعلم الشنتمريّ، وابن الباذش، وذهب إليه الرضيُّ (1) ؛ لأنّ سيبويه قال:(وأمّا الألفات التي تذهب في الوصل فإنّها لاتُحذف في الوقف؛ لأنّ الفتحة والألف أخفُّ عليهم، ألا تراهم يفرّون إلى الألف من الياء والواو إذا كانت العين قبل واحدة منهما مفتوحة، وفرّوا إليها في قولهم: قد رُضَا، ونُهَا)(2) .
قال السيرافي: (ومُؤدّى كلام سيبويه: أنّ الألفات التي تذهب في الوصل لاتُحذف في الوقف، نحو ألف "رَحَا، وقَفَا، ومُثَنَّى، وموْلَى" وما أشبه ذلك، فهي تذهب عند الوصل لاجتماع الساكنين: الألف، والتنوين، وعند الوقف يذهب التنوين فتعود الألف: فتقول: "عَصَا، ورَحَا، ومَوْلَى"، وليس كقولك:"هذا قاضٍْ"؛ لخفة الألف؛ وهذا الموضع يدلّ على مذهب سيبويه، وهو أنّ الألف التي تثبت في الوقف هي الألف التي كانت في الحذف
…
) (3) .
قلت: ماعزاه السيرافيّ، والشنتمريّ، وابن الباذش، والرضيّ لسيبويه، هومخالفٌ لما نسبه معظم النّحويين له.
وربما قال سيبويه بهما، إلاّ أنّه اُشتُهر عنه رأيُه الذي بيّنته في المذهب الثالث آنفاً، وقد رجّحه ابن عصفور، وابن مالك في (التسهيل)(4) .
والصّواب: هو ما نُسب للخليل بن أحمد، وهو مذهب أبي عمروٍ، والكسائي، وهو أنّ الألف منقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث، ولمّا حُذف التنوين للوقف عادت الألف.
(1) ينظر هامش التعليقة 4/266، والنكت 2/1111، وابن يعيش 9/76، وشرح الشافية 2/281، 283.
(2)
ينظر الكتاب 4/187.
(3)
ينظر كلام السيرافيّ في هامش التعليقة 4/226، وشرح الشافية 2/281.
(4)
ينظر شرح الجُمل 2/430، والمقرب 2/28، والتسهيل 328.
وعُزي هذا المذهب إلى الكوفيين، وقال به ابن كيسان، والسيرافيّ، والأعلم، وابن برهان، والجزوليّ، وأبو عليّ الشلوبين، والرضيّ، ورجّحه أبو حيّان، وقوّاه ابن عقيل (1) ، ومال إليه ابن مالك في (الكافية الشافية، وشرحها) وقوّاه، فقال: (وهذا المذهب أقوى من غيره، وهذا موافقٌ لمذهب ربيعة في حذفهم تنوين الصحيح دون بدلٍ، والوقف عليه بالسكون مطلقاً.
وتُقوي هذا المذهبَ الروايةُ بإمالة الألف وقفاً، والاعتداد بها رويّا، وبدلُ التنوين غيرُ صالحٍ لذلك،
…
وهو اختيار السيرافيّ، وبه أقول) (2) .
قال الصّبّان: (ثمرة هذا الخلاف تظهر في الإعراب: فعلى أنّها بدلُ التنوين يُعرب بحركاتٍ مقدرةٍ على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ وعلى أنّها المنقلبة عن الياء يُعرب بحركاتٍ مقدرةٍ على الموجودة؛ لأنّها حينئذٍ محل الإعراب، فاحفظه)(3) .
المطلب الثاني: الخلاف بينهما في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن.
اعلم أنّ المنقوص على نوعين: منقوص منوّن؛ ومنقوص غير منوّنٍ.
وكلّ نوعٍ منهما له أحكام تخصّه في الوقف عليه، هذا بيانها:(4)
(1) ينظر الارتشاف 2/801، وتوضيح المقاصد 5/156، وشرح الشافية 2/280، 284، وابن يعيش 9/76، والمساعد 4/304، 305، والنكت 2/1112، والمقدمة الجزولية 281، وشرح المقدمة 1069، والتصريح 2/338، 339، والهمع 2/205، والوافي 116، والقول الفصل 158
(2)
ينظر شرح الكافية الشافية 4/1983.
(3)
ينظر حاشية الصّبّان على الأشموني 4/204.
(4)
ينظر أنواع الوقف على المنقوص وأحكامه في الكتاب 4/183، والأصول 2/374، والتبصرة والتذكرة 2/719، والمفصل 340، وشرح الجُمل 2/431، وابن يعيش 9/74، والتسهيل 328، والارتشاف 803، وابن الناظم 808، وشرح الشافية 2/300، وتوضيح المقاصد5/160، والمساعد 4/308، والمكودي 218، والهمع 2/205.
أولاً: إذا وُقف على المنقوص المنوّن، إمّا أن يكون منصوباً، وإمّا أن يكون مرفوعاً أو مجروراً؛ فإن كان منصوباً، نحو:"رأيت قاضياً"، وجب إثبات يائه، وأُبدل من تنوينه ألفا.
وإن كان مرفوعاً أو مجروراً، فالأفصح والأجود والأكثر حذْفُ التنوين والياء، فتقول "هذا قاضْ، ومررت بقاضْ"، ويجوز إثبات الياء، لكنّ الأرجح هو الحذف.
وقد جاء الوقف بالياء عن ابن كثير، وورش في مواضع من القرآن، كقوله تعالى:(ولِكُلِّ قَوْمٍ هَادِى)[الرعد: 7]، وكقوله:(وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالِى)[الرعد: 11](1) .
قال ابن مالك: (والمنقوصُ غَيرُ المنصوب، إن كان منوّناً فاستصحابُ حذف يائه أجود)(2) .
ثانياً: إذا وُقف على المنقوص غير المنوّن، جاز فيه الوجهان: بقاء الياء وحذفها، والأكثر والأجود بقاء الياء، قال ابن مالك:(وإن لم يكن منوّناً فالإثباتُ أجود)(3) .
وحُكْم ابن مالك على إثبات ياء المنقوص غير المنوّن يقع في أربعة أنواع:
الأول: ما سقط تنوينه لأجل "أل": فإن كان منصوباً وقف عليه بإثبات الياء قولاً واحداً، نحو:"رأيت القاضي"؛ وإن كان مرفوعاً أو مجروراً فإقرار الياء أقيس وأكثر من حذفها، فتقول:"هذا القاضِي، ومررت بالقاضِي) بالإثبات، ويجوز الحذف فتقول: "هذا القاضْ، ومررت بالقاضْ".
الثاني: ماسقط تنوينه لمنع الصرف: فيُوقف عليه بإثبات الياء، نحو:"رأيت جواري" نصباً.
الثالث: ماسقط تنوينه للإضافة: فيجوز فيه الوجهان إذا وُقف عليه كالمنوّن، نحو:"قاضِي مكة".
الرابع: ماسقط تنوينه للنداء، نحو:"ياقاضِي أَقْبِلْ"، فيجوز الوقف عليه بإثبات الياء، ويجوز حذفها.
(1) ينظر التيسير 69، والإقناع 1/520، والنشر 2/137، والإتحاف 1/324.
(2)
ينظر التسهيل 328، وانظر التبيين 184، والمساعد 4/308.
(3)
ينظر التسهيل 328.
وهذا الموضع هو محلّ الخلاف بين سيبويه وشيخه الخليل، فالخليل يختار أن يُوقف عليه بالياء، وسيبويه اختار مذهب يُونُس ورجّحه، وهو حذف الياء، فتقول:"ياقاضْ"؛ لأنّ المنادى محلُّ حذْفٍ وتخفيفٍ، قال سيبويه: (وسألت الخليل عن "القاضِي" في الندّاء، فقال: أختار "ياقاضِي"؛ لأنّه ليس بمنوّنٍ، كما أختار "هذا القاضي".
وأمّا يُونُس فقال: "ياقاضْ"؛ وقولُ يُونُس أقوى؛ لأنّه لمّا كان من كلامهم أن يحذفوا في غير النّداء كانوا في النّداء أجدرَ؛ لأنّ الندّاء موضعُ حذْفٍ، يحذفون التنوين ويقولون: ياحَارِ، وياصَاحِ، وياغُلامُ أَقْبلْ) (1) .
وقد انقسم النّحويوّن في اختيارهم أحد المذهبين – أعني: مذهب الخليل وهو إثبات الياء، أو مذهب سيبويه ويونس وهو حذف الياء – على فريقين:
الفريق الأول: ذهب إلى جواز الوجهين، دون تحديدٍ للمختار منهما، وهو الظاهر والمفهوم من كلامه، وهو قول ابن السراج، والأعلم الشنتمريّ، وابن عصفور، والرضيّ، وأبي حيّان، والمراديّ، وابن عقيل، والأزهريّ، وغيرهم (2) .
الفريق الثاني: اختار مذهب الخليل بن أحمد، وصرّح بأنّ إثبات الياء هو الأجود والأقيس؛ ومن القائلين بهذا المذهب المبرد، والصَيمريّ، والزمخشريّ، وابن يعيش، والجزوليّ، وابن الحاجب، وأبو عليّ الشلوبين، وابن مالك، والجاربرديّ، والسيوطيّ، والأشموني، وغيرهم (3) .
(1) ينظر الكتاب 4/184، وانظر القول الفصل 165.
(2)
ينظر الأصول 2/375، والنكت 1109، وشرح الجُمل 2/432، وشرح الشافية 2/301، والارتشاف 804، وتوضيح المقاصد 5/162، والمساعد 4/309، والتصريح 2/340، والوافي 123.
(3)
ينظر التبصرة والتذكرة 2/720، والمفصل 340، وابن يعيش 9/75، والمقدمة الجزولية 282، والشافية 65، والإيضاح في شرح المفصل 2/308، وشرح المقدمة الجزولية 1071، والتسهيل 328، والجاربردي 182، والهمع 2/205، والأشمونيّ 4/207؛ وانظر رأي المبرد في شرح الشافية 2/301.
إذاً: المذهب المختار مذهب الخليل، وهو إثبات الياء في الوقف على المنادى المنقوص غير المنوّن، وهو قول معظم النّحويّين؛ لأنّه الأقيس، والأكثر، والأجود.
وقد بيّن الأعلم الشنتمريّ حجّة الخليل وعلّته في إثبات الياء، فقال:(وحُجّته: أنّ المنادى المعرفة لايدخلُه تنوينٌ في وقفٍ ولا وصلٍ، والذي يُسْقطُ الياءَ هو التنوين، فوجب أن تَثبُتَ الياءُ؛ لأنّها لام الفعل، كما تَثبُتُ غيرُها من سائر الحروف)(1) .
- أيضا – بيّن المراديّ حجة كلٍّ منهما، فقال:(ورجّح سيبويه مذهب يُونُس؛ لأنّ النّداء محلُّ حذْفٍ، ورجّح غيره مذهب الخليل، لأنّ الحذف مجازٌ، ولم يكثُر فيُرجّح بالكثرة)(2) .
المبحث السادس: اختلافهما في باب الزوائد.
وفيه مطلبٌ: الخلاف بينهما في المضاعف أيّهما الزائد الأوّل أو الثاني؟
اعلم أنّ تضعيف حرفٍ وتكريره من حروف الكلمة، وهو من الحروف غير الزوائد، لا يخلو أن يكون التضعيف في العين، نحو:(سُلَّمٍ، وقِنَّبٍ، وتُبَّعٍ، وقَطَّعَ، وعَلَّمَ) ، وإمّا أن يكون في اللام، نحو:(مَهْدَدٍ، وجَلْبَبَ، وخِدَبٍّ، وبَلِزٍّ) .
وقد اختلف الخليل، ويُونُس، وسيبويه، في أيّ الحرفين هو الزّائد في المضعّف؟ أهو الحرف الأول أم الثاني؟ (3) .
فذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ الزّائد هو الأوّل في كلّ مضاعف، نحو:(سُلّم، وقَطّع، وجَلْبَب، وخِدَبّ) ، فالأول في هذه ونحوها هو الزائد عنده.
(1) ينظر النكت 1109، وانظر ابن يعيش 9/75، والجاربرديّ 182.
(2)
ينظر توضيح المقاصد 5/162، وانظر التصريح 2/340، والأشموني 4/207.
(3)
ينظر تفصيل المسألة في الكتاب 4/329، والأصول 3/211، والخصائص 2/61-69، والمنصف 1/164، والممتع 1/303، والتسهيل 297، وشرح الشافية 2/365، والارتشاف 1/59، والمساعد 4/62، والهمع 2/216.
وحجّتُه: أنّ الأوّل قد وقع موقعاً تكثر فيه أمّهات الزّوائد، وهو أنّ الواو والياء والألف قد وقعْن ثانيةً زائدةً في (فَوْعَل، وفَيْعَل، وفاعل)، نحو:(حَوْقل، وصَيْقل، وكاهل) .
وكذلك – أيضاً – قد وقعْن هذه الحروف ثالثةً زائدة، نحو:(جَهُور، وقَضِيب، وكِتَاب) ، فجعل الخليل الحرف الأول من مضعّف العين، نحو (سُلّم، وقَطّع) ، ومضعّف اللام، نحو (جَلْبَب، وخِدَبّ) واقعةً موقع هذه الزوائد وساكنةً مثلها، وقد بيّن سيبويه رأي الخليل، فقال:(سألت الخليل فقلتُ: "سُلّمٌ" أيّتهما الزائدة؟ فقال: الأُولى هي الزائدة؛ لأنّ الواو والياء والألف يقعْن ثوانيَ في (فَوْعل، وفاعل، وفَيْعل) .
وقال في (فَعْلَلٍ وفِعَلّ ونحوهما) : الأُولى هي الزائدة؛ لأنّ الواو والياء والألف يقعْن ثوالثَ، نحو:(جَدْولٍ، وعِثْيرٍ، وشَمَالٍ) .
وكذلك: (عَدَبَّسٌ) ونحوه، جعل الأُولى بمنزلة واو (فَدَوْكَسٍ) ، وياء (عَميْثلٍ)، وكذلك:(قَفَعْددٌ) ، جعل الأُولى بمنزلة واو "كَنَهْورٍ") .
أمّا يُونُس وسيبويه فيريان أنّ الزائد هو الثاني في نحو: (سُلّم، وقَطّع، وجَلْبَب، وخِدَبّ، ونحوها) .
وقد بيّن سيبويه حجتهم في كون الأواخر هي الزوائد، فقال:(وأمّا غيره فجعل الزوائد هي الأواخر، وجعل الثالثة في (سُلّم) وأخواتها، هي الزائدة؛ لأنّ الواو تقع ثالثةً في (جَدْولٍ) ، والياء في (عِثْيرٍ) ، وجعل الآخرة في (مَهْدَدَ) ونحوه، بمنزلة الألف في (مِعْزىً، وتَتْرىً) ، وجعل الآخرة في (خِدَبٍّ) بمنزلة النون في (خِلْفَنةٍ) ، وجعل الآخرة في (عِدَبَّسٍ) بمنزلة الواو في (كَنَهْورٍ، وبَلَهْورٍ) ، وجعل الآخرة في (قِرْشَبٍّ) بمنزلة الواو في (قِنْدَأوٍ)، وجعل الخليل الأولى بمنزلة الواو في "فِرْدَوْسٍ) . ثم قال سيبويه:(وكلا الوجهين صوابٌ ومذهبٌ)(1) .
(1) ينظر الكتاب 4/329.
قال السيوطي (واختُلف في المِثْلينِ في نحو: "اقْعَنْسَسَ وعَلَّمَ" أيّهما الزائد؟ فذهب الخليل إلى أنّ الزّائد هو الأوّل، وذهب يونس إلى أنّ الزّائد هو الثّاني، وأمّا سيبويه فإنّه حكم بأنّ الثاني هو الزّائد، ثمّ قال بعد ذلك: وكلا الوجهين صوابٌ ومذهبٌ)(1) .
وقد اختلف النحويّون في اتباع أحد المذهبين، فذهب ابن السرّاج، وأبو عليّ الفارسيّ إلى اتباع مذهب سيبويه وتصحيحه، وذهب ابن عصفور إلى مذهب الخليل ورجّحه بدليلين (2) .
أمّا ابن جنّي فقد ذهب إلى تصويب المذهبين بعد الاستدلال لكلٍّ منهما، فقال:(فليس واحدٌ من المذهبين إلاّ وله داعٍ إليه، وحامل عليه، وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلاّ بعد تأمّله، وإنعام الفحص عنه، والتوفيق بالله عز وجل (3) .
وأمّا ابن مالك فقد فصّل في اختياره، فذهب إلى أنّ الثاني هو الزائد في مضعّف اللام، نحو:(اقْعَنْسَسَ، ومَهْدَدَ) ، والأوّل هو الأَوْلى بالزيادة في مضعّف العين، نحو:(عَلّم، وسُلّم) ، فحصل من هذا التفصيل مذهبٌ ثالثٌ له، فقال:(وثاني المثلين أَوْلى بالزيادة في نحو: (اقْعَنْسَسَ) ؛ لوقوعه موقع ألف (احْرَنْبَى) ؛ وأوّلهما أَوْلى في نحو: (عَلّم) ؛ لوقوعه موقع ألف فاعل، وياء فَيْعل، وواو فَوْعل) (4) .
المبحث السابع: اختلافهما في باب مخارج الحروف، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الخلاف بينهما في عدد مخارج الحروف.
اختلف سيبويه مع الخليل في عدد مخارج الحروف، وانقسم العلماء من القُرّاء والنّحويّين إلى مذهبين: مذهبٌ يُؤيّد الخليل، وهم قلّة؛ ومذهبٌ يؤيّد سيبويه، وهم الجمهور.
(1) ينظر الهمع 2/216.
(2)
ينظر المنصف 1/164، والخصائص 2/61، والممتع 1/306، والهمع 2/216.
(3)
ينظر الخصائص 2/69.
(4)
ينظر التسهيل 297، وانظر المساعد 4/62، وشفاء العليل 3/1076.
والخلاف بين سيبويه والخليل يدور حول مخرج الحروف الجوفيّة، أو الهوائية، التي تُسمّى حروف المدّ واللّين، وهي: الألف، والواو الساكنة المضموم ماقبلها، والياء الساكنة المكسور ماقبلها.
فالخليل بن أحمد يرى أنّ لها مخرجاً مستقلاً بها، وبذلك يكون عدد مخارج الحروف – عنده – ومن تبعه، سبعة عشر مخرجاً.
قال الخليل: (في العربية تسعة وعشرون حرفاً: منها خمسة وعشرون حرفاً صحاحاً، لها أحيازٌ ومدارج، وأربعة أحرف جُوفٌ، وهي: الواو، والياء، والألف اللينة، والهمزة، وسُمّيت جُوفاً؛ لأنّها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدْرجةٍ من مدارج اللسان، ولامن مدارج الحلق، ولا من مدارج اللهاة، إنّما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيّزٌ تُنسب إليه إلاّ الجوف)(1) .
وقد تابعه على ذلك الأزهريّ، ومكيُّ بن أبي طالب، وابنُ حيدرة، وأبو القاسم الهذليّ، وأبو الحسن شريح، وأبو علي ابن سينا، وابن الجزريّ، وغيرهم (2) .
وأمّا سيبويه فيرى أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، وذلك بإسقاط مخرج الحروف الجوفية، التي هي حروف المدّ واللين، إذْ جعل مخرج "الألف" من أقصى الحلق، وجعل "الواو المدية" من مخرج الواو المتحركة من الشفتين، وجعل "الياء المدية" من مخرج الياء المتحركة من وسط اللسان (3) .
(1) ينظر العين 57.
(2)
ينظر مقدمة تهذيب اللغة 63، والكشف 1/139، وكشف المشكل 2/279، والنشر 1/198، والتمهيد في علم التجويد 113.
(3)
ينظر النشر 1/198، ومخارج الحروف لابن الطحان 113.
والرّاجح هو ماذهب إليه سيبويه؛ لأنّه مذهب الجمهور من القُرّاء والنّحويين، فقد قال به: المبرد، وابن السراج، وابن جني، والزّجاجيّ، والصّيمريّ، والزمخشريّ، وابن الباذش، وابن أبي مريم، وأبو البركات ابن الأنباريّ، والشاطبيّ، وابن الحاجب، وابن يعيش، وابن عصفور، وابن مالك، وابن عقيل، والسلسيليّ، والرضيّ، وأبو حيّان الأندلسيّ، والجاربردي، والسيوطيّ، وغيرهم (1) .
فهؤلاء – جميعاً – يرون أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، وهو ماذهب إليه سيبويه، فقال: (ولحروف العربية ستةَ عشرَ مخرجاً:
فللحلق منها ثلاثة:
فأقصاها مخرجا: الهمزة، والهاء، والألف.
ومن أوسط الحلق مخرج: العين، والحاء.
وأدناها مخرجا من الفم: الغين، والخاء.
ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى، مخرج: القاف.
ومن أسفلَ من موضع القاف من اللسان قليلا، ومما يليه من الحنك الأعلى، مخرج: الكاف.
ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى، مخرج: الجيم، والشين، والياء.
ومن بين أوّل حافة اللسان ومايليها من الأضراس، مخرج: الضاد.
[ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، مابينها وبين مايليها من الحنك الأعلى، وما فويق الضّاحك والنّاب والرُّباعيّة والثّنية، مخرج: اللام](2) .
(1) ينظر المقتضب 1/328، والأصول 3/400، وسر الصناعة 1/46، والجمل 410، والتبصرة والتذكرة 2/926، والمفصل 393، والإقناع 1/139، والموضح في وجوه القراءات 1/163، وأسرار العربية 419، وحرز الأماني 91، والشافية 121، وابن يعيش 10/123، والمقرب 2/5، والممتع 2/668، والتسهيل 319، والمساعد 4/239، وشفاء العليل 3/1115، وشرح الشافية 3/250، والارتشاف 1/5، والجاربردي 335، والهمع 2/228.
(2)
سقط مخرج اللام من نسخة هارون، ينظر الكتاب 2/405 (بولاق) ، وانظر سر الصناعة 1/47، والممتع 2/669، وشرح الشافية 3/253، والنشر 1/200.
ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، مابينها وبين مايليها من الحنك الأعلى، وما فُويق الثّنايا، مخرج: النون.
ومن مخرج النون غير أنّه أَدْخلُ في ظهر اللسان قليلا، لانحرافه إلى اللام، مخرج: الراء.
وممّا بين طرف اللسان وأُصول الثنايا، مخرج: الطاء، والدال، والتاء.
وممّا بين طرف اللسان وفُويق الثنايا، مخرج: الزاي، والسين، والصاد.
وممّا بين طرف اللسان وأطراف الثنايا، مخرج: الظاء، والذال، والثاء.
ومن باطن الشّفة السُّفلى وأطراف الثنايا العُلَى، مخرج الفاء.
وممّا بين الشفتين، مخرج: الباء، والميم، والواو.
ومن الخياشيم، مخرج: النون الخفيفة) (1)، أي: النون الساكنة.
انتهى كلام سيبويه في تبيين مخارج حروف العربية الأصول، وهي ستة عشر مخرجاً.
وقد أقره على ذلك جمهور العلماء من القُرّاء والنّحويين، كما بيّنت ذلك سابقاً، قال الرضيّ:(وأحسن الأقوال ماذكره سيبويه، وعليه العلماء بعده)(2) .
وفي عدد مخارج الحروف ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: ذهب قطرب، والجرميّ، والفراء، وابن دريد، وابن كيسان إلى أنّ مخارج الحروف أربعة عشر مخرجاً، وموضع الخلاف بينهم وبين سيبويه، هومخرج اللام، والنون، والراء، فهو عندهم مخرج واحد، وعند سيبويه والجمهور ثلاثة مخارج، وهو الصحيح (3) .
قال الإمام الشاطبيّ بعد ذكره مخارج الحروف الثلاثة: (4)
…
...
…
...
…
وكم حاذقٍ معْ سيبويه بهِ اجْتلَى
…
ومن طرفٍ هُنّ الثّلاثُ لقُطْرُبٍ
…
ويحْيي معَ الجَرْميّ معْنَاهُ قُوِّلا
الوقفة الثانية: ذهب أبو العباس المهدويّ إلى أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، لكنّه أسقط مخرج الخيشوم، وقسّم الحروف الشفويّة على ثلاثة مخارج:
(1) ينظر الكتاب 4/433 – 434.
(2)
ينظر شرح الشافية 3/254.
(3)
ينظر الارتشاف 1/5، والنشر 1/198، والهمع 2/228.
(4)
ينظر حرز الأماني 92.
الأول: مخرج الفاء؛ والثاني: مخرج الباء، والميم؛ وجعل مخرجيهما وفق مذهب الجمهور.
أما الثالث فجعله مخرج الواو، وهو من بين الشفتين – أيضاً – غير أنّها تهوي حتى تنقطع إلى مخرج الألف. والصحيح مذهب سيبويه والجمهور (1) .
الوقفة الثالثة: ماذهب إليه سيبويه والجمهور من أنّ مخارج الحروف ستة عشر مخرجاً، إِنّما هو على سبيل التقريب، وإلحاقِ مااشتد تقاربُه بمقارِبِه، وجعْلِه معه من مخرجٍ واحدٍ، وإلاّ فالتحقيق أنّ لكلِّ حرفٍ مخرجاً على حِدَةٍ يخصّه، يخالف مخرج الحرف الآخر، وإلاّ لكان إيّاه، قال ابن الحاجب:(والتحقيق أنّ كلّ حرف له مخرجٌ يخالف الآخر، وإلاّ لكان إيّاه)(2) .
وفي هذا المعنى يقول العلامة إبراهيم بن عبد الرزاق: (3)
والحصر تقريبٌ، وبالحقيقهْ
لكلِّ حرفٍ بُقْعةٌ دقيقهْ
إذْ قال جمهور الورَى مانصُّهْ
لكلِّ حرفٍ مخرجٌ يُخصّهْ.
لمطلب الثاني: الخلاف بينهما في ترتيب مخارج الحروف.
ذكرت في المطلب السابق أنّ مخارج الحروف عند الخليل سبعة عشر مخرجاً، وعند سيبويه والجمهور ستة عشر مخرجاً؛ لأنّهم أسقطوا مخرج الجوف.
وقد اختلف سيبويه والخليل – أيضاً – في ترتيب مخارج الحروف، فرتبها الخليل وفق مايلي:
بدأ بمخارج حروف الحلق الثلاثة، وحروفها: العين، والحاء؛ والهاء؛ والخاء، والغين.
ثمّ أتبعها بمخرجيّ أقصى اللسان، فما فوقه من الحنك الأعلى: القاف، وهو المخرج الرابع.
ومن أسفله قليلاً: الكاف، وهو المخرج الخامس.
ثم من وسط اللسان والحنك الأعلى للحروف الشجْرية: الجيم، والشين، وهو المخرج السادس.
ثم من إحدى حافتيه وما يحاذيها من الأضراس: الضاد، وهو المخرج السابع.
ثم أردفه بمخرج الحروف الأسلية أو الصفيرية: الصاد، والسين، والزاي، وهو الثامن.
ثم مخرج الحروف النطعيّة: الطاء، والدال، والتاء، وهو التاسع.
(1) ينظر شرح الهداية 1/77.
(2)
ينظر الإيضاح في شرح المفصل 2/480.
(3)
ينظر هداية القاري 1/64.
ثم مخرج الحروف اللثويّة: الظاء، والذال، والثاء، وهو العاشر.
ثم مخارج الحروف الذلقيّة: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وحروفها وفق ترتيبه لها مايلي: الراء؛ ثم اللام؛ ثم النون.
ثم أردفها بمخرجيّ الحروف الشفويّة: الفاء، ومخرجه من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، وهو المخرج الرابع عشر.
ثم من بين الشفتين مخرج: الباء، والميم، وهو الخامس عشر.
ثم مخرج الحروف الجوفية أو الهوائية: الواو، والألف، والياء، وهو السادس عشر.
ثم مخرج الخيشوم: وهو للغنّة، وهو السابع عشر (1) .
وخلاصة مذهب الخليل في ترتيب حروف العربية الأصول وفق مخارجها، هو:(ع، ح* هـ*خ، غ*ق*ك*ج، ش*ض*ص، س،ز*ط، د،ت*ظ، ذ،ث*ر*ل*ن*ف*ب، م*و، ا،ي*الهمزة)(2) .
وأمّا مذهب سيبويه في ترتيب مخارج الحروف، فقد وافق شيخه الخليل بن أحمد في بداية المخارج، وفي نهايتها، وخالفه في الترتيب فيما بين ذلك، وفي أوّل وثاني مخارج الحلق.
أمّا الموافقة فكانت من المخرج الثالث للحلق، وهو أدنى الحلق مما يلي الفم، وحتى المخرج السابع، وهو مخرج الضاد.
ثمّ وافقه في المخارج الثلاثة الأخيرة، وهما مخرجا الحروف الشفويّة؛ ومخرج الخيشوم للغنّة.
وأمّا المخارج التي خالف فيها سيبويه الخليل، فهي:
أولاً: بدأ سيبويه بأوّل مخرج للحلق من أقصاه، وحروفه: ء، هـ، ا.
ثم أردفه بالمخرج الثاني لوسط الحلق، وحروفه: ع، ح.
وهو مخالفٌ لما بدأ به الخليل، إذْ بدأ بالحروف: ع، ح،هـ.
ثانياً: ذهب سيبويه إلى أنّ مخارج الحروف الذلقيّة تأتي بعد مخرج الضاد، وقبل مخرج الحروف النطعية، وترتيبها حسب مخارجها، هو مخرج اللام؛ ثم مخرج النون؛ ثم مخرج الراء.
(1) ينظر العين 1/57، 58، ومقدمة تهذيب اللغة 63، 64، وكشف المشكل 2/278.
(2)
ينظر العين 1/48، ومقدمة تهذيب اللغة 57، وكشف المشكل 2/277.
وهذا مخالفٌ لمذهب الخليل، إذْ جعل بعد مخرج الضاد، مخرج الحروف الأسليّة، ثم النطعيّة، ثم اللّثويّة، ثم بعدها مخارج الحروف الذلقيّة، ورتبها كما يلي: مخرج الراء، ثم مخرج اللام، ثم مخرج النون.
ثالثاً: ذهب سيبويه إلى أنّ ترتيب مخارج طرف اللسان الثلاثة، تأتي بعد مخارج الحروف الذلقيّة، وأنّ ترتيبها حسب مخارجها، هو: مخرج الحروف النطعية، ثمّ مخرج الحروف الأسليّة أو الصفيريّة، ثم مخرج الحروف اللثويّة.
وهذا مخالفٌ لمذهب الخليل، إذْ جعلها بعد مخرج الضاد، ورتّبها خلاف ترتيب سيبويه، وقد وضّحت ذلك في ثانياً (1) .
والرّاجح في ترتيب مخارج الحروف هو قول سيبويه، وهو مذهب جمهور القُرّاء والنّحويين، وبه قال ابن الجزريّ (2) .
المطلب الثالث: الخلاف بينهما في ترتيب حروف بعض المخارج أو زيادتها.
اعلم أنّ الاختلاف بين سيبويه والخليل لم يقتصر على الخلاف في عدد مخارج الحروف، أو في ترتيب المخارج، بل تعداه إلى الخلاف بينهما في الترتيب الداخلي لحروف بعض المخارج، أو زيادتها، وإليك بيان ذلك:
أولاً: اختلفا في ترتيب حروف أدنى الحلق مما يلي الفم، فذهب الخليل إلى أنّ ترتيبها:(خ، غ)، وذهب سيبويه إلى أنّ ترتيبها:(غ، خ) .
ثانياً: اختلفا في حروف وسط اللسان ووسط الحنك الأعلى، فذهب الخليل إلى أنّها:(ج، ش)، وذهب سيبويه إلى أنّها:(ج، ش،ي) ، وهي ماتُسمّى بالحروف الشجْريّة.
ثالثاً: اختلفا في ترتيب الحروف التي تخرج مابين طرف اللسان وفُويق الثنايا السُّفلى، وهي ماتُسمّى بالحروف الأسليّة، أو الصفيريّة، فذهب الخليل إلى أنّ ترتيبها:(ص، س، ز)، وذهب سيبويه إلى أن ترتيبها:(ز، س،ص)، وفي سرده لحروف العربية وفق مخارجها رتبها هكذا:(ص، ز، س) ، وكلا الترتيبين مخالفٌ لترتيب الخليل.
(1) ينظر العين 1/57، 58، والكتاب 4/433، 434.
(2)
ينظر مصادر هامش "127"، وانظر النشر 1/198.
رابعاً: اختلفا في الحروف التي تخرج من بين الشفتين، فذهب الخليل إلى أنّها:(ب، م)، وذهب سيبويه إلى أنّها:(ب، م،و)(1) .
هذا وقد بيّنت في المطلب السابق ترتيب الخليل لحروف العربية الأصول وفق مخارجها، وأمّا ترتيبها على مذهب سيبويه وفق المخارج – أيضاً – فهو:
(ء، ا،هـ*ع، ح*غ، خ*ق*ك*ج، ش،ي*ض*ل*ن*ر*ط، د،ت*ز، س،ص*ظ، ذ،ث*ف*ب، م،و)(2) .
والصّواب هو ماذهب إليه سيبويه، وهو مذهب أصحابه من جمهور القُرّاء والنّحويين (3) .
قال ابن جنيّ بعد ترتيبه للحروف وفق منهج سيبويه: (فهذا هو ترتيب الحروف على مذاقها وتصعُّدها، وهو الصحيح، [فأمّا] ترتيبها في كتاب العين ففيه خَطَلٌ، واضطرابٌ، ومخالفةٌ لما قدمناه آنفاً ممّا رتبه سيبويه، وتلاه أصحابه عليه، وهو الصّواب الذي يشهد التأمّل له بصحته)(4)
(1) ينظر العين 1/57، 58، والكتاب 4/433، ومقدمة تهذيب اللغة 63.
(2)
ينظر الكتاب 4/433، وانظر سر الصناعة 1/45.
(3)
ينظر مصادر هامش "127".
(4)
ينظر سر الصناعة 1/45، 46.
المصادر والمراجع
إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للبنّا، تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، ط1، 1407هـ، عالم الكتب، بيروت.
أخبار النّحويين البصريين للسيرافي، تحقيق د. محمد إبراهيم البنّا، ط1، 1405هـ، دار الاعتصام، القاهرة.
أدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محمد الدّالي، ط1، 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلس، تحقيق ودراسة رجب عثمان محمد، ط1، 1418هـ، مكتب الخانجي، القاهرة.
الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الدانيّ، تحقيق محمد بمجقان الجزائري، ط1، 1420هـ، دار المغني، الرياض.
أسرار العربية لأبي البركات الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، 1377هـ، مطبعة الترقي، دمشق.
إشارة التعيين في تراجم النّحاة واللغويين لعبد الباقي اليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، ط1، 1406هـ، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض.
الإصباح في شرح الاقتراح، تأليف د. محمود فجال، ط1، 1409هـ، دار القلم، دمشق.
إصلاح المنطق لابن السكيت، شرح وتحقيق أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، ط4، دار المعارف، القاهرة.
الأصول في النّحو لابن السراج، تحقيق عبد الحسين الفتلي، ط1، 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم لابن خالوية، 1985م، دار ومكتبة الهلال، بيروت.
الاقتراح في علم أصول النّحو للسيوطي، تحقيق وتعليق د. أحمد محمد قاسم، القاهرة.
الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، ط1، 1403هـ، دار الفكر، دمشق.
ألفية ابن مالك في النّحو والصرف، 1410هـ، مكتبة طيبة للنشر والتوزيع، المدينة المنورة.
أمالي ابن الشجري لهبة الله بن علي الشجريّ، تحقيق ودراسة د. محمود محمد الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة.
إملاء مامنّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن لأبي البقاء العكبري، ط1، 1399هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
إنباه الرواة على أنباه النّحاة للوزير القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1406هـ، دار الفكر، القاهرة.
الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات ابن الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 1407هـ، المكتبة العصرية، بيروت.
أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط6، 1966م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، تحقيق د. موسى العليلي، مطبعة العاني، بغداد.
بغية الآمال في معرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال لأبي جعفر اللبليّ، تحقيق د. سليمان العايد، 1411هـ، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
بغية الوعاة في طبقات اللُّغويّين والنحاة للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت.
البلغة في تاريخ أئمة اللغة للفيروز آباديّ، تحقيق محمد المصري، 1972م، دمشق.
تاريخ الأدب العربي، تأليف د. عمر فروخ، ط1، 1983م، دار العلم للملايين، بيروت.
التبصرة في القراءات لمكي القيسي، تحقيق د. محيي الدين رمضان، ط1، 1405هـ، معهد المخطوطات العربية، الكويت.
التبصرة والتذكرة لأبي محمد الصيمري، تحقيق د. فتحي أحمد مصطفى علي الدين، ط1، 1402هـ، دار الفكر، دمشق.
التبيان في شرح مورد الظمآن لابن آجطا، (مخطوط) معهد اللغات الشرقية بفرنسا، رسالة ماجستير مسجلة بالجامعة الإسلامية، كلية القرآن.
التبيين عن مذاهب النّحويين البصريين والكوفيين لأبي البقاء العكبري، تحقيق ودراسة د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، ط1، 1406هـ، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
التذكرة في القراءات لابن غلبون، تحقيق د. عبد الفتاح بحيري إبراهيم، ط2، 1411هـ، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة.
تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك، حققه محمد كامل بركات، 1387هـ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.
التصريح على التوضيح لخالد الأزهري، دار الفكر، دمشق.
تصريف الأفعال ومقدمة الصرف، تأليف الشيخ عبد الحميد عنتر، ط2، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
التعليقة على كتاب سيبويه لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. عوض القوزي، ط1، 1412هـ، جامعة الملك سعود، الرياض.
التكملة لأبي عليّ الفارسي، تحقيق ودراسة د. كاظم بحر المرجان، 1401هـ، مطابع مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل.
التمهيد في علم التجويد لابن الجزري، تحقيق غانم قدوري حمد، ط1، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك للمرادي، تحقيق د. عبد الرحمن علي سليمان، ط1، 1396هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، عني بتصحيحه أوتوبرتزل، مكتبة الجعفري التبريزي، طهران.
جامع البيان في القراءات السبع المشهورة لأبي عمرو الداني، (مخطوط) محفوظ بدار الكتب الوطنية بالقاهرة برقم 7266، قراءات م/3.
الجُمل في النّحو للزجاجي، تحقيق علي توفيق الحمد، ط3، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
حاشية ابن جماعة على الجاربردي "مجموعة الشافية"، ط3، 1404هـ، عالم الكتب، بيروت.
حاشية الصّبّان على شرح الأشموني للصّبان، مطبعة الحلبي، القاهرة.
حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع للشاطبيّ، ضبطه وصححه وراجعه محمد تميم الزعبي، ط2، 1410هـ، دار المطبوعات الحديثة، المدينة المنورة.
الخصائص لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، ط3، 1403هـ، عالم الكتب، بيروت.
السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، ط2، دار المعارف، القاهرة.
سر صناعة الإعراب لابن جني، دراسة وتحقيق د. حسن هنداوي، ط1، 1405هـ، دار القلم، دمشق.
سير أعلام النبلاء للذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط6، 1409هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
السيرافيّ النّحويّ في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، دراسة وتحقيق د. عبد المنعم فائز، ط1، 1403هـ، دار الفكر، دمشق.
الشافية في علم التصريف لابن الحاجب، تحقيق حسن أحمد العثمان، ط1، 1415هـ، المكتبة المكية، مكة المكرمة.
شذا العرف، تأليف أحمد الحملاوي، المكتبة العلمية، بيروت.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط20، 1400هـ، دار التراث، القاهرة.
شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، تحقيق د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.
شرح الألفية للمكوديّ، ط3، 1374هـ، مطبعة الحلبي، مصر.
شرح ألفية ابن مالك للأشموني، مطبعة الحلبي، القاهرة.
شرح التسهيل لابن مالك تحقيق عبد الرحمن السيد، ومحمد بدوي المختون، ط1، 1410هـ، هجر للطباعة والنشر.
شرح جُمل الزجاجي لابن عصفور، تحقيق صاحب أبو جناح.
شرح الشافية للجاربرديّ (مجموعة الشافية) ، ط3، 1404هـ، عالم الكتب، بيروت.
شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاستراباذي، تحقيق محمد نور الحسن وآخرين، 1402هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
شرح الشافية لركن الدين الاستراباذي، دراسة وتحقيق د. عبد الله محمد العتيبي، رسالة ماجستير، 1413هـ - 1414هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
شرح الكافية الشافية لابن مالك الأندلسي، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث.
شرح المفصل لابن يعيش النّحوي، عالم الكتب، بيروت.
شرح المقدمة الجزولية الكبير لأبي علي الشلوبين، تحقيق د. تركي بن سهو العتيبي، ط1، 1413هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
شرح الملوكي في التصريف لابن يعيش، تحقيق د. فخر الدين قباوه، ط1، 1393هـ، حلب.
شرح الهداية لأبي العباس المهدوي، تحقيق د. حازم سعيد حيدر، ط1، 1416هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
شفاء العليل في إيضاح التسهيل لأبي عبد الله السلسيلي، تحقيق د. الشريف عبد الله البركاتي، ط1، 1406هـ، دار الندوة، بيروت.
الصاحبي في فقه اللغة لأبي حسين ابن فارس، تحقيق السيد أحمد صقر، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.
الصحاح للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط3، 1404هـ، دار العلم للملايين، بيروت.
طبقات النّحويين واللغويين لأبي بكر الزُّبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعارف، القاهرة.
العين للفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، ط1، 1408هـ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
غاية النهاية في طبقات القُرّاء لابن الجزري، ط3، 1402هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
الفهرست لابن النديم، اعتنى بها وعلّق عليها الشيخ إبراهيم رمضان، ط2، 1417هـ، دار المعرفة، بيروت.
القواعد والتطبيقات في الإبدال والإعلال تأليف الشيخ عبد السميع شبانه، ط5، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
القول الفصل تأليف عبد الحميد عنتر، ط2، 1409هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
الكتاب لسيبويه، طبعة بولاق، ط1، 1316هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة.
الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، 1403هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكيّ القيسيّ، تحقيق د. محيي الدين رمضان، ط2، 1404هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
كشف المشكل في النّحو لعلي بن سليمان الحيدرة اليمني، تحقيق د. هادي عطية مطر، ط1، 1404هـ، مطبعة الإرشاد، بغداد.
اللُّباب في علل البناء والإعراب لأبي البقاء العكبري، تحقيق غازي مختار طليمات، ط1، 1995م، دار الفكر، دمشق.
لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت.
مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، المجلد 12، العدد 19، 1420هـ، مطابع جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
مجمل اللغة لأبي الحسين ابن فارس، دراسة وتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1404هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
مخارج الحروف وصفاتها لابن الطحان، تحقيق د. محمد يعقوب تركستاني، ط2، 1412هـ.
مراتب النّحويين لأبي الطيب اللغوي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت.
المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي، شَرْح وضَبْط مجموعة من العلماء، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق محمد كامل بركات، 1400هـ، دار الفكر، دمشق.
المعارف لابن قتيبة، تحقيق د. ثروت عكاشة، ط2، دار المعارف، القاهرة.
معجم الأدباء لياقوت الحمويّ، ط3، 1400هـ، دار الفكر، بيروت.
المغني في تصريف الأفعال تأليف محمد عبد الخالق عضيمة، ط3، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
المفصل لأبي قاسم الزمخشريّ، ط2، دار الجيل، بيروت.
المقتضب لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، ط2، 1399هـ، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة.
مقدمة تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، ط1، 1405هـ، دار البصائر، دمشق.
المقدمة الجزولية في النّحو لأبي موسى الجزولي، تحقيق د. شعبان عبد الوهاب، مطبعة أم القرى، القاهرة.
المقرب لابن عصفور، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، ط1، 1391هـ، مطبعة العاني، بغداد.
الممتع في التصريف لابن عصفور، تحقق د. فخر الدين قباوه، ط1، 1407هـ، دار المعرفة، بيروت.
منجد الطالبين في الإبدال والإعلال والإدغام والتقاء الساكنين تأليف أحمد إبراهيم عمارة، ط4، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
المنصف على التصريف لابن جنيّ، تحقيق إبراهيم مصطفى، وعبد الله أمين، ط1، 1373هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
الموضح في وجوه القراءات وعللها لابن أبي مريم، تحقيق ودراسة د. عمر حمدان الكبيسي، ط1، 1414هـ، الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، جدة.
النّحو الوافي تأليف عباس حسن، ط8، دار المعارف، القاهرة.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري، تحقيق د. إبراهيم السامرائي، ط3، 1405هـ، مكتبة المنار، الأردن.
نشأة النّحو وتاريخ أشهر النّحاة لمحمد الطنطاويّ، تعليق عبد العظيم الشناويّ، ومحمد عبد الرحمن الكرديّ، ط2.
النشر في القراءات العشر لابن الجزري، تصحيح ومراجعة علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت.
النكت في تفسير كتاب سيبويه للأعلم الشنتمريّ، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1407هـ، الكويت.
هداية القاري إلى تجويد كلام الباري لعبد الفتاح المرصفي، ط2، مكتبة طيبة، المدينة.
همع الهوامع شرح جمع الجوامع للسيوطي، عُني بتصحيحه محمد بدر الدين النعساني، ط1، 1327، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
الوافي تأليف أحمد إبراهيم عمارة، ط4، 1408هـ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
الخاتمة
أَحْمدُ الله حمد الشاكرين، وأصلّي وأسلّم على سيّدنا محمد سيّد الأولين والآخرين، وبعد:
فهذه خلاصةٌ موجزةٌ أُورد فيها خلاصة البحث وأهم نتائجه، فأقول:
أولاً: (الكتاب) لسيبويه أعظم كتاب أُلّف في فنّه، اشتمل على علميّ النّحو والصرف، وأحاط بجميع أجزائهما، ولم يشِذّ عنه من أصول فنّه إلاّ مالا خَطر له، سمّاه النّاس "قرآن النّحو"، ولقّبوه بالبحر استعظاماً له، واستصعاباً لما فيه.
جَمَع فيه سيبويه ماتفرّق من أقوال من تقدمه من العلماء، فكان كما قيل: لم يسبقه أحدٌ إلى مثله، ولا لحقه أحدٌ من بعده.
ثانياً: عقد سيبويه أبواب (الكتاب) بلفظه ولفظ الخليل، وكان كثيراً ما يحكي عنه بقوله:"وسألته" أو: "قال".
فكان (الكتاب) سجلاًّ حافلاً لآراء الخليل في النّحو والصرف؛ وافقه سيبويه في معظم ماحكاه، أو سأله عنه، وخالفه في بعضٍ منها، إلاّ أنّ الخلاف بينهما فرعٌ، والاتفاق هو الأصل في معظم المسائل.
ثالثاً: اختلف الخليل مع سيبويه في النّسب إلى (ظَبْيةٍ، ودُمْيةٍ، وفِتْيةٍ) ، فسيبويه ينسب إليها بدون تغييرٍ، والخليل يجيز الوجهين: ماذهب إليه سيبويه، ويجيز مذهب يُونُس وهو إبدال الياء واواً، وهو مذهب الجمهور.
رابعاً: أجاز سيبويه في النّسب إلى "رَايةٍ" ثلاثة أوجهٍ، وأجاز الخليل فيها قلب الياء همزة، وهو الأجود، وعليه الجمهور.
خامساً: اختلف الخليل مع أبي عمروٍ وسيبويه في الهمزتين المتحركتين إذا اجتمعتا في كلمتين، فالخليل يرى تحقيق الأولى وحذف الثانية، أما أبو عمروٍ فيرى عكس الخليل، وذهب سيبويه إلى جواز الوجهين، ورجّح المبرد مذهب الخليل.
سادساً: ذهب الخليل إلى أنّ النّبر دون الهمز، وذهب سيبويه إلى أنّهما مترادفان أي: كلاهما بمعنى واحدٍ، وهو الراجح، وهو قول الجمهور.
سابعاً: اختلف سيبويه مع الخليل في "خطايا" ونحوها، فذهب الخليل إلى القول بالقلب المكانيّ فيها؛ لأنّ تركه يؤدي إلى اجتماع همزتين.
وذهب سيبويه – وهو قول الجمهور – إلى عدم ارتكاب القلب الذي هو خلاف الأصل.
ثامناً: اختلف سيبويه مع الخليل في اسم الفاعل من الفعل الثلاثي الأجوف المهموز اللام، فذهب سيبويه إلى الحذف وعدم القلب، وذهب الخليل إلى تقديم اللام على العين.
تاسعاً: اختلف الخليل وسيبويه في جمع اسم الفاعل، نحو "جائية" على "فواعل"، فذهب الخليل إلى القلب المكانيّ فيها، والراجح وهو مذهب سيبويه عدم القلب.
عاشراً: ذهب الخليل إلى أنّ القلب المكانيّ قياسيٌّ في ثلاث صورٍ، وخالفه سيبويه ومن تابعه؛ كما أن الكوفيين توسّعوا في القلب، وردَّ البصريون عليهم؛ كما أنّ ابن دُرستويه أنكر القلب المكانيّ وجعله لغة أخرى ولم يوافقه العلماء على ذلك؛ كما أنّ ابن فارس نفى وجود القلب في القرآن الكريم، وأثبته غيره.
حادي عشر: ذهب سيبويه، وأيّده جماعة من النّحويين واللُّغويين إلى أنّه لايوجد تداخُلٌ في اللّغات، وماورد من الأفعال يخالف القياس فهو شاذٌّ.
أما الخليل ومن تبعه – وهو الصّواب – فيرون ماجاء على خلاف القياس، إنّما هو لغاتٌ تداخلت فتركّبت.
ثاني عشر: اختلف سيبويه والخليل في حقيقة ألف المقصور المنوّن الموقوف عليه، فذهب سيبويه إلى أنّها في النصب بدلٌ من التنوين وفي غيره بدلٌ من لام الكلمة، وهو المشهور عنه، أما الخليل فيرى أنّها الألف المنقلبة عن لام الكلمة في الأحوال الثلاث وهو الراجح؛ لأنّه قول جمهور العلماء.
ثالث عشر: ذهب يُونُس وسيبويه إلى أنّه يوقف بحذف الياء على المنادى المنقوص غير المنوّن، وذهب الخليل إلى أنّه يوقف عليه بإثبات الياء، وهو اختيار جماعة من النّحويين؛ لأنّه أقيس وأجود.
رابع عشر: اختلف الخليل ويونس وسيبويه في الحرف الزائد في مضعف العين، نحو "قطّع"، ومضعف اللام، نحو "جلبب"، فذهب الخليل إلى أنّه الأول، وذهب يونس وسيبويه إلى أنّه الثاني، قال سيبويه وكلا: القولين صوابٌ ومذهبٌ.
خامس عشر: ذهب الخليل إلى أنّ مخارج الحروف سبعة عشر مخرجاً وذلك بإثبات مخرج الحروف الجوفية، وذهب سيبويه – وهو الراجح – إلى أنّها ستة عشر مخرجاً، وذلك بإسقاط مخرج الحروف الجوفية، وتوزيعها على مخارجها.
سادس عشر: اختلف الخليل وسيبويه في ترتيب مخارج الحروف، والرّاجح هو مذهب سيبويه، وبه قال الجمهور من القُرّاء والنّحويين.
سابع عشر: اختلف سيبويه مع الخليل في الترتيب الداخلي لحروف بعض المخارج، والصّواب ماذهب إليه سيبويه، وهو مذهب جمهور القُرّاء والنّحويين.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين