الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أحكام مس القرآن الكريم
دراسة فقهية مقارنة
د. عمر بن محمد السبيل رحمه الله *
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى
ملخص البحث
هذا البحث استكمال لبحث سابق أوضحت فيه حكم الطهارة لمس القرآن الكريم، وفي هذا البحث أوضحت بقية الأحكام المتعلقة بالمس، ببيان ما يصدق عليه اسم المصحف فيحرم مسُّه على غير طهارة، وما لا يدخل في مسمى المصحف فيجوز مسُّه، ثم أوضح البحث أن المس المحرم للمصحف على المحدث إنما هو المس المباشر من غير حائل سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسم، ثم يبين البحث حكم مس ما كتب فيه قرآن من كتب العلم، وغيرها كالدراهم ونحوها، وحكم مس ما نسخت تلاوته من آيات القرآن ونحوها كالأحاديث القدسية، وحكم مس الكتب السماوية الأخرى غير القرآن، وحكم مس الأشرطة التي سجل فيها قرآن، ثم بيان حكم كتابة القرآن بغير اللغة العربية، وحكم كتابته للمحدث والكافر، ثم بيان جواز مس القرآن الكريم على المحدث عند الضرورة، وانتهى البحث ببيان أهم النتائج المستخلصة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(*) توفي –رحمه الله – يوم الجمعة غرة شهر الله الحرام من عام 1423هـ، وصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر من يوم السبت، وقد تبع جنازته خلق من طلاب العلم ومحبي الشيخ –رحمه الله – وقد كان معروفاً بالتواضع، ولين الجانب، وحسن الخلق، وأمّ المصلين في المسجد الحرام لسنواتٍ.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد سبق وأن كتبت بحثًا بعنوان (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم) وقد توصلت من خلاله إلى أن الراجح من قولي العلماء تحريم مس المصحف على البالغ (1)
_________
(1)
لحواشي والتعليقات
() أما الصغير فقد توصلت من خلال ذلك البحث إلى أن الراجح من أقوال أهل العلم جواز مسه للمصحف لضرورة التعلم فقط وهو مذهب الأئمة الأربعة إلا الحنابلة في الصحيح من مذهبهم فإنهم يرون جواز مسه للوح المكتوب فيه شيء من القرآن فقط.
المحدث حدثًا أصغر إذ هو المنقول عن الصحابة وجل التابعين، وبه قال جمهور الأئمة المجتهدين، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهو الذي عليه العمل والفتوى في مختلف العصور والأمصار، كما قال ابن عبد البر:(أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر)(1) ، ثم رأيت إتمامًا للفائدة بحث بقية ما يتعلق بمس القرآن الكريم من أحكام ومسائل، لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل في ذلك، فتم إعداد هذا البحث بعنوان (من أحكام مس القرآن الكريم دراسة فقهية مقارنة) وقد انتظم في مقدمة وثمانية مطالب وخاتمة.
وقد سلكت فيه المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا، بذكر آراء العلماء في كل مسألة من مسائله وأدلتها، مع بيان الراجح من تلك الآراء، مبينًا وجه الترجيح.
فأسأل الله عز وجل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المطلب الأول: في بيان ما يشمله اسم المصحف
أولاً: نص فقهاء المذاهب الأربعة على أن اسم المصحف يشمل المكتوب منه، وما بين سطوره، وحواشيه، وغلافه المتصل به؛ لأنه يتبعه في البيع. وعلى هذا فقد صرحوا: بأنه لا يجوز للمحدث أن يمس شيئًا من ذلك كله في الصحيح من مذاهبهم، وأن حكم البعض من المصحف، والجزء منه كحكمه كله في تحريم مس شيء منه على البالغ (2) ودونك أقوالهم المصرحة بذلك:
(1) الاستذكار، 8/10.
(2)
وكذا الصغير على القول بأن حكمه حكم الكبير في تحريم مس المصحف عليه، أما على القول بجواز مسه للمصحف لحاجة التعليم، فالحكم ظاهر.
قال في الهداية شرح البداية: (وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه
…
وغلافه ما يكون متجافيًا عنه، دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح) (1) .
وقال في البحر الرائق: (لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره)(2) .
وقال في الذخيرة: (ومس المصحف، أو جلده، أو حواشيه، أو بقضيب، لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفًا للاتصال)(3) .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (عن ابن حبيب سواء كان مصحفًا جامعًا أو جزءً، أو ورقة فيها بعض سورة، أو لوحًا، أو كتفًا مكتوبة اهـ ولجلد المصحف قبل انفصاله منه حكمه، وأحرى طرف المكتوب، وما بين الأسطر)(4) .
وقال في المجموع: (وسواء مس نفس الأسطر، أو ما بينها، أو الحواشي، أو الجلد، فكل ذلك حرام، وفي مس الجلد وجه ضعيف: أنه يجوز، وحكى الدارمي وجهًا شاذًا بعيدًا: أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي، ولا ما بين الأسطر، ولا يحرم إلا نفس المكتوب. والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع)(5) .
وقال في معونة أولي النهى: (ويحرم بالحدث أيضًا مس مصحف أو بعضه
…
والحكم شامل لما يسمى مصحفًا من الكتاب، والجلد، والحواشي، والورق الأبيض، فلهذا قلت:(حتى جلده وحواشيه، بدليل: البيع)(6) .
(1) 1/31 وقال ابن عابدين في حاشيته، 1/315:(فالمراد بالغلاف ما كان منفصلاً كالخريطة، وهي الكيس ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف منه حتى يدخل في بيعه بلا ذكر) .
(2)
1/211 وانظر أيضًا: بدائع الصنائع، 1/33-34؛ فتح القدير، 1/169.
(3)
1/237.
(4)
1/125 وكذا نحوه في حاشية الصاوي على الشرح الصغير، 1/222.
(5)
1/74، وانظر: المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/190، مغني المحتاج، 1/37.
(6)
1/374-375 وانظر: الإنصاف، 1/223، كشاف القناع، 1/134.
وذهب بعض الحنفية (1) ، وبعض الشافعية (2)، وبعض الحنابلة (3) : إلى أن المحرم إنما هو مس المكتوب منه فقط، فلا يدخل في التحريم مس مواضع البياض منه معللين لذلك: بأن الماس له لم يمس القرآن.
قال بعض الحنفية: وهذا مقتضى القياس، وإن كان القول بالتحريم أقرب إلى إجلال القرآن وتعظيمه (4) .
قال في بدائع الصنائع: (وقال بعض مشايخنا: إنما يكره (5) له مس الموضع
المكتوب دون الحواشي؛ لأنه لم يمس القرآن حقيقة، والصحيح أنه يكره مس كله؛ لأن الحواشي تابعة للمكتوب، فكان مسها مسًا للمكتوب) (6) .
وقال ابن مفلح في الفروع: (وقيل- يعني إنما يحرم – كتابته، واختاره في الفنون – يعني ابن عقيل – لشمول اسم المصحف له فقط، لجواز جلوسه على بساط على حواشيه كتابة)(7) .
ورجحان القول الأول وهو تحريم المس لكل ما يشمله اسم المصحف أمر ظاهر لقوة دليله، ووجاهة تعليله.
ثانيًا: واختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس غلاف المصحف المنفصل عنه كالخريطة والعلاقة التي يحفظ بها المصحف سواء كانت من ثوب أو جلد، وكذا الصندوق الخاص بحفظ المصحف فيه هل يحرم مس شيء من ذلك في حالة كون المصحف فيها أم لا يحرم؟ في ذلك قولان مشهوران للفقهاء:
القول الأول: أنه لا يحرم مس شيء من ذلك.
(1) انظر: بدائع الصنائع، 1/34، البحر الرائق، 1/211، حاشية ابن عابدين، 1/488.
(2)
انظر: المجموع، 1/74.
(3)
انظر: الفروع، 1/188، الإنصاف، 1/223، معونة أولي النهى، 1/375.
(4)
انظر: البحر الرائق، 1/211، حاشية ابن عابدين، 1/488 وقال:(والصحيح المنع) .
(5)
قوله: (يكره) أي كراهة تحريم كما نص عليه كثير من فقهاء الحنفية، وانظر: فتح القدير 1/169.
(6)
1/34.
(7)
1/188.
وبه قال الحنفية (1) ، والشافعية في قول (2) ، والحنابلة في الصحيح من المذهب (3) .
وروي القول به عن الحسن البصري، وعطاء، وطاووس، والشعبي، والقاسم بن محمد، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان وغيرهم (4) مستدلين لذلك بما يأتي:
1 -
أن الماس لغلاف المصحف المنفصل ونحوه لم يباشر مس المصحف والنهي إنما يتناول مس المصحف مباشرة من غير حائل (5) .
2 -
أن انفصال الغلاف ونحوه عن المصحف، وعدم اتصاله به دليل على عدم شمول اسم المصحف له فلا يأخذ حكمه في تحريم المس، بدليل: أنه لا يأخذ حكمه في البيع، فلا يتبع المصحف في البيع إلا بشرط (6) .
القول الثاني: أنه يحرم مس شيء من ذلك.
وبه قال المالكية (7) ، والشافعية في أصح الوجهين (8) ، والحنابلة في قول (9) ، وبه قال الأوزاعي (10) .
وعللوا لذلك: بأن الغلاف ونحوه متخذ للمصحف، ومقصود له، فيكون كجلد المصحف المتصل به في التحريم (11) ، تكرمة للقرآن وتعظيمًا له (12) .
(1) انظر: الهداية، 1/31؛ الجوهرة، 1/35؛ البحر الرائق، 1/211.
(2)
انظر: روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/37.
(3)
انظر: الإنصاف، 1/224، الإقناع، 1/41.
(4)
انظر: المصاحف لأبي داود، ص، 215؛ شرح السنة، 2/48؛ المغني، 1/147.
(5)
انظر: المغني، 1/148، مغني المحتاج، 1/37.
(6)
انظر: المغني، 1/148، بدائع الصنائع، 1/34، البناية شرح الهداية، 1/649.
(7)
انظر: الذخيرة، 1/237؛ الشرح الصغير، 1/223.
(8)
انظر: روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/37.
(9)
انظر: الفروع، 1/189، الإنصاف، 1/224.
(10)
انظر: المغني، 1/147.
(11)
انظر: المجموع، 1/74، مغني المحتاج، 1/37.
(12)
انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
والذي يظهر لي أن الراجح من هذين القولين: هو القول بعدم التحريم، لقوة ما استدل به أصحابه، ووجاهة ما عللوا به، وللفرق الظاهر بين الغلاف المنفصل والمتصل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ترجيحه لهذا القول:(والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه إنما تراد لتعليقه وهو مقصود زائد على مقصود المصحف، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه)(1) .
المطلب الثاني: في بيان المراد بالمس المحرم
أولاً: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم على أن مس المصحف للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر باليد، أو بغيرها، من أعضاء الوضوء، أو سائر أجزاء البدن، كتقبيله أو مسه بصدر أو ظهر ونحوها مباشرة من غير حائل يعتبر محرمًا، وذلك لصدق اسم المس عليه، فيدخل في عموم النهي عن مس القرآن على غير طهارة؛ لأن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه (2) ؛ ولأن من اللائق بتعظيم المصحف وتكريمه تحريم المس في أعضاء البدن وأجزائه كلها (3) .
وذهب الحكم بن عتبة، وحماد بن أبي سليمان إلى جواز مس القرآن بظاهر الكف وسائر أجزاء البدن، وأنه لا يحرم إلا المس بباطن اليد فقط.
معللين لذلك: بأن آلة المس هي باطن الكف، فينصرف إليها النهي دون غيرها من أعضاء البدن وأجزائه.
وقد ضعف ابن قدامة هذا القول، ورده بقوله:(وقولهم إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح، فإن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه)(4) .
(1) شرح العمدة، ص، 385.
(2)
انظر: المغني، 1/147، الشرح الكبير، 1/95.
(3)
انظر: مطالب أولي النهى، 1/154.
(4)
انظر: المغني، 1/147، الشرح الكبير، 1/95، معونة أولي النهى، 1/375.
وذهب الحنفية والحنابلة في قول في كلا المذهبين: إلى أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف بغير أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث لا يحل فيها، وإلى جواز مس المصحف بما غسل من أعضاء الوضوء، قبل إكماله، لارتفاع الحدث عنها (1) .
ولا شك في رجحان القول الأول وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم لقوة ما استدلوا به، ووجاهة ما عللوا به، ودونك أقوالهم المصرحة بذلك:
قال في حاشية البحر الرائق: (قال العلامة الزيلعي: ولا يجوز له مس المصحف بالثياب التي يلبسها؛ لأنها بمنزلة البدن
…
وهذا يفيد: أنه لا يجوز حمله في جيبه، ولا وضعه على رأسه مثلاً بدون غلاف متجاف، وهذا مما يغفل عنه كثير، فتنبه) (2) .
وقال الدردير في الشرح الكبير: (ومَنَعَ حدثٌ أصغر، وكذا أكبر
…
صلاة، وطوافًا، ومس مصحف كتب بالعربي، لا بالعجمى إن مسه بعضو، بل وإن مسه بقضيب أي عود) (3) .
وقال في مغني المحتاج: (ويحرم بالحدث
…
وحملُ المصحف، ومسُّ ورقه المكتوب فيه، وغيره بأعضاء الوضوء، أو بغيرها، ولو كان فاقدًا للطهورين، أو مسه من وراء حائل، كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه) (4) .
(1) انظر: الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/316، الفتاوى الهندية، 1/39، الإنصاف، 1/225.
(2)
1/212، وانظر: فتح القدير، 1/169.
(3)
1/125، وانظر: جواهر الإكليل، 1/21.
(4)
1/36-37، وانظر: المهذب حيث قال: (لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهره وإن كانت الطهارة تجب في غيره
…
) ؛ حاشية البيجوري 1/221، وقال:(والمراد مسه بأي جزء لا بباطن الكف فقط، كما توهمه بعضهم) .
وقال في مطالب أولي النهى: (ويحرم أيضًا مس مصحف وبعضه
…
بيد وغيرها كصدر، إذ كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه، ويتجه: أنه يحرم مسه حتى بظفر، وشعر، وسن قبل انفصالها عن محلها، تعظيمًا له واحترامًا، وهو متجه) (1) .
ثانيًا: اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس أو حمل المحدث للمصحف من وراء حائل، وكذا تقليب أوراقه بعود ونحوه، أو حمله ضمن أمتعة، وبيان أقوال كل مذهب في هذه المسائل بالتفصيل على النحو التالي:
مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية في الصحيح من المذهب إلى أنه يكره كراهة تحريم أن يمس المصحف بكم أو غيره من ثيابه المتصلة ببدنه، دون ما انفصل عنه، معللين لذلك: بأن الكم تابع ليد الماس، فكما يحرم المس باليد، يحرم بالكم بحكم التبعية، وكذا سائر الثوب المتصل به.
(1) 1/154، وانظر: الإقناع، 1/40؛ منتهى الإرادات، 1/27، والشرح الكبير، 1/95، حيث قال:(لا يجوز مسه بشيء من جسده، قياسًا على اليد) ، وقال الزركشي في شرح الخرقي، 1/211:(وقول الخرقي رحمه الله: لا يمس، يشمل مسه بيده، وسائر جسده) .
والقول الآخر في المذهب: أن ذلك لا يكره، لعدم مباشرة اليد ونحوها للمس؛ لأن التحريم خاص بالمس مباشرة من غير حائل، وبهذا قال محمد بن الحسن واختاره صاحب الكافي، وغيره (1)، قال في البناية شرح الهداية: (ويكره مسه بالكم أي مس المصحف بكم الماس هو الصحيح؛ لأنه تابع له أي كون مسه بالكم مكروهًا هو الصحيح، وفي المحيط: لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد؛ لأن المحرم هو المس، وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل
…
وفي الذخيرة عن محمد: أنه لا بأس بالمس بالكم، وقيل عنه روايتان) (2) .
ويجوز للمحدث عندهم تقليب أوراق المصحف بقلم، أو عود، أو سكين، ونحوها لعدم صدق المس عليه (3) .
مذهب المالكية:
نص المالكية على أنه لا يجوز للمحدث حمل المصحف الكامل من وراء حائل، كثوب، أو وسادة، أو حمله بخريطة، أو علاقة، أو بصندوق مقصود لحفظ المصحف به تعظيمًا للمصحف وتكريمًا، لكن لا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره كأن يحمله ضمن أمتعة قصدت بالحمل، فإن قصد حمل المصحف والأمتعة معًا، فإنه يحرم، وكذا يحرم حمل المصحف في الكرسي الخاص به، لكن لا يُمنع المحدث من مس الكرسي فقط، حالة كون المصحف عليه، لكن من غير حمل له، لانفصال الكرسي عن المصحف.
(1) انظر: الهداية شرح البداية، 1/31، فتح القدير، 1/169؛ البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/315، وقال:(وفي الهداية: أنه يكره، هو الصحيح؛ لأنه تابع له، وعزاه في الخلاصة إلى عامة المشايخ، فهو معارض لما في المحيط، فكان هو أولى) .
(2)
1/649.
(3)
انظر: البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/316.
كما يحرم عندهم مس المصحف بعود، أو قضيب، ونحوه، معللين لذلك: بأنه بمنزلة اللمس باليد عرفًا، لاتصال العود ونحوه باليد فيأخذ حكم اليد ذاتها (1) .
واشتد نكير المالكية على تقليب أوراق المصحف الكامل، أو بعضه بأطراف الأصابع المبللة بالريق والبصاق، حتى قال ابن العربي عن ذلك:(إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر)(2) .
والذي يظهر لي أن هذا محل نظر؛ لأن المقلب لأوراق المصحف بشيء من ريقه إنما قصد الاستعانة بالريق على سهولة التقليب لا إهانة المصحف بتلطيخه بالبصاق والريق، فإن قصد ذلك فهو محل التحريم الذي قد يبلغ بصاحبه الكفر عياذًا بالله.
ولذا نص فقهاء الحنفية والشافعية على جواز محو كتاب القرآن من المصحف أو اللوح بالريق إن لم يقصد الإهانة. فقال في الدر المختار: (ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز)(3) .
وقال القليوبي: (ويجوز ما لا يشعر بالإهانة كالبصاق على اللوح لمحوه؛ لأنه إعانة)(4) .
مذهب الشافعية:
ذهب الشافعية إلى أنه يحرم تقليب أوراق المصحف بعود، أو خشبة ونحوها على الأصح معللين بأنه نقل للورقة فهو كحملها.
والقول الآخر: أنه يصح. وبه قطع العراقيون، ورجحه النووي في الروضة وذلك لأنه غير مباشر للمس، ولا حامل للمصحف (5) .
(1) انظر: عقد الجواهر الثمينة، 1/62، الذخيرة، 1/237، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ الشرح الصغير، 1/223، أسهل المدارك، 1/100.
(2)
حاشية البناني على الزرقاني على خليل، 1/93، حاشية العدوي على الخرشي، 1/160.
(3)
الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/322.
(4)
حاشية قليوبي وعميرة على شرح منهاج الطالبين، 1/36؛ تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/327.
(5)
انظر: المجموع، 1/74؛ روضة الطالبين، 1/190؛ مغني المحتاج، 1/38.
قال في المهذب: (ويجوز أن يتركه بين يديه، ويتصفح أوراقه بخشبة؛ لأنه غير مباشر له، ولا حامل له)(1) .
قال الأذرعي: والقياس أنه إن كانت الورقة قائمة فصفحها بعود جاز، وإن احتاج في صفحها إلى رفعها حرم، لأنه حامل لها (2) .
كما ذهب الشافعية إلى أنه يحرم مس المصحف، وتقليب أوراقه من وراء حائل ككم يده، ونحوه، وذلك لأن الكم متصل به، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه، ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، بخلاف تقليب الأوراق بالعود على القول بجوازه.
لكن لو قلب أوراق المصحف بكمه فقط، دون يده، كأن يفتل الكم ويقلب به الورق، فهو كالعود في الحكم (3) .
وقال في المهذب: (ويحرم عليه حمله في كمه؛ لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله – وهو في الهتك أبلغ - أولى)(4) .
وأما حمل المصحف ضمن متاع، ففيه وجهان: أصحهما، وبه قطع صاحب المهذب، وهو قول جمهور فقهاء المذهب، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي: أنه يجوز؛ لأنه غير مقصود بالحمل لذاته، فعفي عما فيه من القرآن، كما لو كتب كتابًا إلى كافر، وفيه آيات من القرآن.
والثاني: أنه يحرم؛ لأنه حامل للمصحف حقيقة، ولا أثر لكون غيره معه، فهو كما لو حمل متاعًا فيه نجاسة، فإن صلاته تبطل.
قال الماوردي: وصورة المسألة: أن يكون المتاع مقصودًا بالحمل، فإن كان غير مقصود بالحمل لم يجز (5) .
مذهب الحنابلة:
ذهب الحنابلة في الصحيح من المذهب: إلى أنه لا يحرم على المحدث حمل المصحف ضمن أمتعة، أو في كيس، أو حمله بعلاقته، أو غلافه، أو في كمه.
(1) 1/32.
(2)
انظر: مغني المحتاج، 1/38.
(3)
انظر: المجموع، 1/74؛ مغني المحتاج، 1/38.
(4)
1/32، وانظر: حاشية البيجوري، 1/221.
(5)
انظر: المهذب، 1/32، المجموع، 1/74، مغني المحتاج، 1/37.
معللين: بأن النهي عن مس المصحف إنما يتناول المس، والحمل ليس بمس فيبقى الحكم على أصل الإباحة.
كما لا يحرم في الصحيح من المذهب تصفح أوراق المصحف بكمه، أو تقليب أوراقه بعود، أو خشبة، أو خرقة، وذلك لأن النهي إنما يتناول المس من غير حائل، ومع وجود الحائل يكون المس للحائل، فلا يحرم لعدم مباشرة المس باليد، بدليل: عدم انتقاض الوضوء بالمس من وراء حائل، بخلاف مباشرة المس، فإنه ينقض الوضوء.
والقول الآخر في المذهب: وهو رواية عن الإمام أحمد، أن ذلك كله يحرم على المحدث، تعظيمًا للقرآن، وتكرمة له.
وقيل: إنما يحرم ما تقدم على غير ورَّاق، لحاجته المتكررة للمس. فيباح له ذلك دفعًا للحرج والمشقة (1) .
قال في الإنصاف: (وعنه – أي الإمام أحمد- المنع من تصفحه بكمه، وخرجه القاضي، والمجد، وغيرهما إلى بقية الحوائل. وأبى ذلك طائفة من الأصحاب منهم المصنف في المغني، وفرق بأن كمه وعباءته متصل به، أشبهت أعضاءه، وأطلق الروايتين في حمله بعلاقته، أو في غلافه، وتصفحه بكمه، أو عود ونحوه، في المستوعب، والمحرر، وابن تميم، والرعايتين، والحاويين، ومجمع البحرين، والفائق)(2) .
المطلب الثالث: مس ما فيه شيء من القرآن
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: مس كتب العلم المشتملة على شيء من القرآن، ككتب التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
وقد اختلف العلماء في حكم مس المحدث لشيء من هذه الكتب على الأقوال التالية:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث مس كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن، سواء أكانت كتب تفسير، أو غيرها.
(1) انظر: المغني، 1/147-148؛ شرح العمدة، ص، 385، معونة أولي النهى، 1/375، كشاف القناع، 1/135.
(2)
1/224.
وبهذا قال بعض الحنفية (1)، وهو الصحيح في المذاهب الثلاثة: المالكية (2) ، والشافعية (3)، والحنابلة (4) . واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 -
ما ثبت في الصحيحين (5) أن النبي (بعث إلى هرقل عظيم الروم بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وفيه قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ((6) .
وكان (يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آية من كتاب الله تعالى (7) .
فإذا جاز للكافر أن يمس كتابًا فيه آيات من القرآن، فإنه يدل على جواز ذلك للمحدث من باب أولى (8) .
2 -
أن النهي عن المس على غير طهارة إنما ورد في المصحف خاصة، وكتب العلم لا يصدق عليها اسم المصحف، فلا تثبت لها حرمته (9) ، لعدم قصد القرآن بالمس، وإنما المقصود غيره (10) .
القول الثاني:
(1) حاشية ابن عابدين، 1/320.
(2)
الذخيرة، 1/237؛ الزرقاني على خليل، 1/94؛ الشرح الصغير، 1/225.
(3)
غير أن الشافعية قيدوا الجواز في كتب التفسير خاصة في الأصح من مذهبهم: بأن لا يكون القرآن أكثر من التفسير، فإن كان أكثر من التفسير حرم مسه؛ لأنه في معنى المصحف.
انظر: المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191، مغني المحتاج، 1/37.
(4)
الإقناع، 1/41، منتهى الإرادات، 1/27؛ الروض المربع، 1/126.
(5)
صحيح البخاري، 1/9، صحيح مسلم، 5/165.
(6)
آل عمران، آية، 64.
(7)
انظر: شرح العمدة، ص، 386.
(8)
انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(9)
انظر: المجموع، 1/75-76؛ مغني المحتاج، 1/37، المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(10)
انظر: الذخيرة، 1/237، الشرح الصغير، 1/225، المهذب، 1/32، الكافي، 1/48.
أنه يحرم مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن سواء أكانت كتب تفسير أو غيرها.
وهو قول في مذهب الشافعية (1) ، وفي مذهب الحنابلة (2) ، وذلك صيانة لما في هذه الكتب من القرآن، وتكرمة له وإجلالاً (3) .
القول الثالث:
أنه يكره مس شيء من كتب العلم المشتملة على آيات من القرآن تكرمة للقرآن وتعظيمًا.
وبهذا قال الحنفية (4) ، وبعض الشافعية (5) .
القول الرابع:
تحريم مس كتب التفسير (6) ، دون غيرها من كتب العلم.
وهو قول في المذاهب الأربعة: الحنفية (7) ،والمالكية (8) ، والشافعية (9)
(1) المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191.
(2)
الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/376.
(3)
انظر: المهذب، 1/32.
(4)
غير أن بعض الحنفية قصر الكراهة على كتب التفسير خاصة لكثرة ما فيها من القرآن، بخلاف غيرها من كتب العلم. انظر: فتح القدير، 1/169؛ البناية شرح الهداية، 1/650، البحر الرائق، 1/212، حاشية ابن عابدين، 1/320.
(5)
المجموع، 1/75.
(6)
ومثله فيما يظهر وإن لم ينص عليه الفقهاء كتب القراءات، بل ربما تكون أولى بالتحريم من كتب التفسير على هذا القول؛ لكثرة ما فيها من القرآن.
(7)
وقيد بعض الحنفية التحريم بمس مواضع الآيات منها فقط.
انظر: بدائع الصنائع، 1/33؛ الجوهرة، 1/36؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/319-320.
(8)
إلا أن المالكية قيدوا التحريم على القول به فيما إذا كان التفسير مشتملاً على آيات كثيرة وقصدت بالمس.
انظر: الزرقاني على خليل، 1/94، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125؛ جواهر الإكليل، 1/21.
(9)
…
إلا أن الأصح عند الشافعية أنه إذا كان القرآن أكثر من التفسير، فإنه يحرم قطعًا، بل حكاه بعضهم وجهًا واحدًا، وما عدا ذلك فالتحريم على قول في المذهب.
انظر: المجموع، 1/76؛ روضة الطالبين، 1/191، مغني المحتاج، 1/37.
، والحنابلة (1) .
معللين لذلك: بأن ما في كتب التفسير من القرآن كثير، فتكون في معنى المصحف، فيحرم مسها على المحدث، تعظيمًا للقرآن وإجلالاً، بخلاف غيرها من كتب العلم، فإن ما فيها من القرآن يسير غير مقصود بالمس (2) .
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح من هذه الأقوال هو القول بجواز مس كتب العلم كلها، تفسيرًا كانت أو غيرها، لقوة أدلته، ورجحانها على استدلالات القولين الآخرين، ولما في اشتراط الطهارة لذلك مع عدم النص الموجب، من مشقة وحرج.
ومع هذا فإن الأولى والمستحب للمحدث أن لا يمس كتب العلم المتضمنة لآيات من القرآن إلا على طهارة، كما نص على ذلك كثير من العلماء (3) .
الفرع الثاني: مس ما كُتِبَ فيه شيء من القرآن مما لا يقصد للقراءة كالدرهم، والدينار، والخاتم، والثوب، والحائط، ونحو ذلك.
وقد اختلف العلماء في حكم مس المحدث لشيء من هذه الأشياء المذكورة إذا اشتملت على آية من القرآن فأكثر، على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث مس الدرهم ونحوه مما ذكر، إذا كتب فيه شيء من القرآن.
وبهذا قال: المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) في الصحيح من مذاهبهم (7)
(1) الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/376.
(2)
انظر: فتح الجواد، 1/56، مغني المحتاج، 1/33.
(3)
انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/344، شرح السنة، 2/50، بدائع الصنائع، 1/34؛ البحر الرائق، 1/212، المجموع، 1/76، مغني المحتاج، 1/37.
(4)
ويجوز مس هذه الأشياء عندهم حتى للجنب والحائض.
انظر: الذخيرة، 1/237، عقد الجواهر، 1/62؛ الشرح الكبير للدردير، 1/125؛ أسهل المدارك، 1/100.
(5)
روضة الطالبين، 1/191؛ مغني المحتاج، 1/38؛ فتح الجواد، 1/56.
(6)
الكافي، 1/48؛ الإنصاف، 1/224، الإقناع، 1/41.
(7)
وبه قال من التابعين الحسن البصري، والقاسم بن محمد، وقتادة.
انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/343، مصنف ابن أبي شيبة، 1/113.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1 -
أن الدرهم ونحوه إذا تضمن شيئًا من القرآن فإنه لا يسمى مصحفًا، ولا هو في معنى المصحف، والنهي عن المس للمحدث إنما يتناول المصحف خاصة (1) .
2 -
أن القرآن المكتوب في الدرهم ونحوه لا يقصد بالمس، وإنما المقصود بالمس غيره، فلذا جاز مسه وحمله (2) .
3 -
أنه كما يجوز للمحدث مس كتب العلم، والرسائل المشتملة على شيء من القرآن، فإنه يجوز له مس الدرهم ونحوه، قياسًا عليها، بل هي أولى بجواز المس (3) .
4 -
أن في منع المحدث من مس ذلك حرجًا ومشقة، وقد جاء الشرع برفع الحرج والمشقة، كما جاز للصبيان مس الألواح التي فيها قرآن دفعًا للحرج والمشقة عنهم (4) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس الدرهم ونحوه إذا تضمن آية من القرآن فأكثر.
وبهذا قال الحنفية (5)، وهو قول في المذاهب الثلاثة: المالكية (6) ، والشافعية (7) ، والحنابلة (8) .
(1) انظر: المغني، 1/148؛ المجموع، 1/75؛ مغني المحتاج، 1/38.
(2)
انظر: المهذب، 1/32؛ مغني المحتاج، 1/38.
(3)
انظر: الكافي، 1/48، المغني، 1/148.
(4)
انظر: المغني، 1/148، الشرح الكبير، 1/95.
(5)
بدائع الصنائع، 1/33، مجمع الأنهر، 1/26؛ الجوهرة، 1/36.
(6)
الذخيرة، 1/237.
(7)
المهذب، 1/32، روضة الطالبين، 1/191؛ مغني المحتاج، 1/38.
(8)
الكافي، 1/48، الإنصاف، 1/224، معونة أولي النهى، 1/377.
وقال بهذا من التابعين إبراهيم النخعي، وابن سيرين.
انظر: مصنف عبد الرزاق، 1/344، مصنف ابن أبي شيبة، 1/113.
واستدلوا على ذلك: بأن مس الدرهم ونحوه مما فيه آية من القرآن فيه إخلال بتعظيم كلام الله، فيحرم مسه تعظيمًا لكلام الله تعالى، كما حرم مس المصحف. وكما حرم أيضًا مس الورقة واللوح إذا تضمنا شيئًا من القرآن (1) .
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح - والله أعلم- هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث للدرهم ونحوه إذا اشتمل على شيء من كلام الله تعالى، وذلك لقوة أدلة هذا القول، ورجحانها.
ويمكن الإجابة عن دليل المانعين: بأن جواز مس المحدث للدرهم ونحوه، ليس فيه إخلال بتعظيم كلام الله تعالى؛ لأن القرآن المكتوب في هذه الأشياء غير مقصود بالمس والحمل فجاز مس هذه الأشياء، ويدل على الجواز ويرجحه أنه (ضمَّن الكتاب الذي أرسله إلى هرقل آيتين من كتاب الله تعالى مع علمه قطعًا بمس الكافر له، كما أنه لم يأمر حامله بالطهارة لمسه، فدل ذلك على جواز مس الكتاب والورقة المتضمنة لشيء من كلام الله، ومن باب أولى بالجواز مس الدرهم والدينار والخاتم، والثوب، والحائط، ونحوها (2) والعلم عند الله.
المطلب الرابع: حكم مس المحدث للقرآن المنسوخ تلاوته والكتب السماوية الأخرى
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس المحدث للقرآن الذي نسخت تلاوته (3)
(1) انظر: الذخيرة، 1/237؛ بدائع الصنائع، 1/33، مغني المحتاج، 1/38، المغني، 1/148.
(2)
انظر: مغني المحتاج، 1/37.
(3)
مثال ما نسخت تلاوته وبقي حكمه قوله عز وجل: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج (فنسخ قوله سبحانه: (في مواسم الحج (رواه البخاري في صحيحه 3/105. قال ابن حجر في فتح الباري، 3/594: وأخرج الحاكم في مستدركه عن عبيد ابن عمير، أنه كان يقرؤها في المصحف.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكر الزركشي في البرهان، 2/35 بقوله:((روي أنه كان يقال في سورة النور: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالاً من الله)) ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي. رواه البخاري في صحيحه معلقًا)) وانظر أيضًا: النواسخ لابن الجوزي، ص، 115.
ومن أمثلته أيضًا: ما روى البخاري في صحيحه، 3/215 أن رسول الله (كان يقرأ ((والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى)) قال أبو الدرداء: وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ: ((وما خلق الذكر والأنثى)) والله لا أتابعهم)) .
قال في فتح الباري، 8/707:((ولعل هذا مما نسخت تلاوته ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه)) .
والأحاديث القدسية، ومس الكتب السماوية الأخرى: كالتوراة والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث أن يمس ما نسخت تلاوته من القرآن الكريم والأحاديث القدسية، وكذا يجوز له مس الكتب السماوية الأخرى، وإن علم أنها غير مبدلة.
وبهذا قال بعض الحنفية (1) ، وهو مذهب المالكية (2) ، وبه قال الشافعية في الصحيح من مذهبهم (3) ، وكذا الحنابلة في الصحيح أيضًا (4) .
ووجه هذا القول: أن المنسوخ لفظه، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى ليست قرآنًا، والنهي إنما ورد عن مس المحدث للقرآن فيختص الحكم به (5) .
ومن وجه آخر: أن ما نسخ لفظه من القرآن قد زالت حرمته بالنسخ، والأحاديث القدسية، وأما الكتب السماوية الأخرى، فمع كونها منسوخة، فإن الغالب عليها التبديل والتحريف، فلا يقطع بكونها كلام الله تعالى (6) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن المنسوخ التلاوة والأحاديث القدسية، ولا شيئًا من الكتب السماوية.
وبهذا قال الحنفية (7)
(1) الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/315؛ منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211.
(2)
شرح الزرقاني، 1/93؛ حاشية العدوي على الخرشي، 1/160؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(3)
روضة الطالبين، 1/191، المجموع، 1/76.
(4)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212، الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى، 1/377، كشاف القناع، 1/135.
(5)
انظر: منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211، المبدع شرح المقنع، 1/174؛ كشاف القناع، 1/135.
(6)
انظر: المجموع، 1/76؛ مغني المحتاج، 1/37.
(7)
لكن قال ابن عابدين: ينبغي أن يخص الحكم بما لم يبدل.
انظر: حاشية ابن عابدين، 1/314-315، 488، منحة الخالق على البحر الرائق، 1/211-212.
، والشافعية في وجه (1) ،والحنابلة في قول ضعيف (2) .
ووجه هذا القول: إلحاق ما نسخت تلاوته، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى بالقرآن في تحريم المس، بجامع الاشتراك في وجوب التعظيم والتكريم في كلٍّ.
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث لما نسخت تلاوته من القرآن، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى، لوجاهة ما علل به القائلون بالجواز، ورجحانه على ما علل به أصحاب القول الثاني، والعلم عند الله تعالى.
المطلب الخامس: حكم مس الأشرطة التي سجل عليها قرآن
إذا سجل القرآن الكريم على أشرطة بمختلف أنواعها كأشرطة الكاسيت أو الفيديو، أو أقراص الدسك التي تستخدم في الكمبيوتر، أو نحوها، فإنه يجوز مسها للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر فيما يظهر، وذلك لأن هذه الأشرطة ونحوها لا تسمى مصحفًا، لأنه لا يمكن قراءة القرآن منها مباشرة، وإنما يستمع للقرآن منها، أو يقرأ بواسطة آلاتها الخاصة بتشغيلها، لذا فإن هذه الأشرطة لا تأخذ حكم القرآن الكريم في تحريم مسه على غير طهارة، وبهذا أفتى أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز دون أن يعللوا للحكم، ونص الفتوى:(لا حرج في حمل أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن عليه جنابة ونحوها وبالله التوفيق)(3) .
(1) روضة الطالبين، 1/191، المجموع، 1/76.
(2)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي؛ 1/212،الإنصاف، 1/225؛ معونة أولي النهى،1/377.
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 4/73.
كما أرى أن يلحق بهذا في الحكم أيضًا ما لو كتب القرآن الكريم بطريقة برايل للمكفوفين، فإنه لا يأخذ حكم المصحف، فيجوز مسه مع الحدث، لأن المصحف إنما هو لما كتب باللغة التي نزل بها، وهي اللغة العربية التي يقرؤها كل متعلم لها كما قال سبحانه:(وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ((1) . أما طريقة برايل فليست حروفًا وإنما هي طريقة يتعرف من خلالها على الحروف من خلال اللمس، فلذا فإنه إذا كتب بها المصحف إن قيل بجوازه (2) ، فإنه يجوز مسه للمحدث وإن كان حدثه أكبر، هذا ما يظهر لي والعلم عند الله تعالى.
المطلب السادس: حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية وحكم مسه إذا كتب بغير اللغة العربية
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية:
اختلف العلماء – رحمهم الله – في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية، قال الزركشي في البرهان: ((هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربي؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلامًا. ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب
…
)) (3) ونقله السيوطي في الإتقان (4) ولم يزد عليه، وللفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول:
أنه يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، كأن يكتب بالفارسية، أو الهندية، أو التركية، ونحوها.
(1) سورة الشعراء، آية رقم (192-195) .
(2)
يمكن أن يخرج حكم كتابة المصحف بطريقة (برايل) على حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك في المطلب السادس، والعلم عند الله.
(3)
البرهان في علوم القرآن، 1/380.
(4)
الإتقان في علوم القرآن، 2/376.
وبهذا قال الحنفية (1) والشافعية (2) وبعض الحنابلة (3) .
معللين للحكم: بأنه قد يحسن كتابته بغير اللغة العربية من يقرؤه باللغة العربية، فيكون في ذلك تيسير وتسهيل على غير العرب، لكن لا يجوز لهم أن يقرؤوه بغير اللغة العربية وإن كتب بغيرها؛ لحرمة قراءة القرآن بغير لسانه المنزل به (4) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، وبهذا قال المالكية.
مستدلين للحكم: بأن الكتابة أحد اللسانين، فكما لا تجوز قراءته بغير العربية بدليل قوله تعالى:(بلسان عربي مبين ((5) فإنه لا يجوز كتابته بغيرها؛ لأن الكتابة أحد اللسانين، فلا يجوز تغييره عن اللسان المنزل به (6) .
والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح لقوة دليلهم، وظهور حجتهم، وهو المناسب لصيانة القرآن والحفاظ عليه عن التغيير والتبديل، والعلم عند الله.
الفرع الثاني: حكم مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية:
ذهب الحنفية والشافعية إلى المنع من مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، فيمنع المحدث من مسه وحمله حتى يتطهر من الحدثين، كمنعه من مس المصحف المكتوب باللغة العربية؛ لعموم الأدلة الدالة على ذلك (7) .
(1) البحر الرائق، 1/212؛ الفتاوى الهندية، 1/39.
(2)
حاشية قليوبي على منهاج الطالبين، 1/36، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329.
(3)
البرهان في علوم القرآن، 1/380.
(4)
انظر: البرهان في علوم القرآن، 1/380؛ الإتقان في علوم القرآن، 2/376، الفتاوى الهندية، 1/39، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329.
(5)
سورة الشعراء، آية رقم (195) .
(6)
انظر: الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ حاشية البناني على الزرقاني، 1/93.
(7)
انظر: البحر الرائق، 1/212، الفتاوى الهندية، 1/39؛ حاشية قليوبي على منهاج الطالبين، 1/36، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/329، الموسوعة الفقهية، 38/10.
وذهب المالكية إلى جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية.
معللين: بأن المصحف المكتوب بغير اللغة العربية ليس بقرآن، وإنما هو في الحقيقة تفسير للقرآن، وكتب التفسير وغيرها من كتب العلم المتضمنة للقرآن أو لشيء منه لا يشترط لمسها الطهارة (1) .
والذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه المالكية من جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، لوجاهة ما عللوا به، والعلم عند الله.
المطلب السابع: حكم كتابة المحدث والكافر للقرآن
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: حكم كتابة المحدث للقرآن:
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم كتابة المسلم للقرآن، من غير مس المكتوب إذا كان عليه حدث على الأقوال التالية:
القول الأول:
أنه يجوز لمن عليه حدث أصغر أو أكبر أن يكتب القرآن، لكن من غير مس للمكتوب فيه.
وبهذا قال الحنفية (2) ، والشافعية (3)، والحنابلة (4) في الراجح من مذاهبهم. مستدلين على ذلك بما يأتي:
1 -
أن النهي إنما ورد عن مس المصحف، والكتابة لا تعد مسًا له (5) .
2 -
أن المباشر للمس هو القلم، وليست يد الكاتب، فهو بمنزلة مس المصحف من وراء حائل (6) .
3 -
أن الكاتب للقرآن إنما يكتب حرفًا حرفًا، والحرف الواحد لا يعد قرآنًا (7) .
(1) انظر: الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، 1/125؛ حاشية البناني على الزرقاني، 1/93.
(2)
فتح القدير، 1/169، البناية شرح الهداية، 1/647؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين، 1/317.
(3)
روضة الطالبين، 1/191؛ المجموع، 1/77.
(4)
انظر: الإنصاف، 1/226، الإقناع، 1/41، معونة أولي النهى، 1/383.
(5)
انظر: كشاف القناع، 1/135، مطالب أولي النهى، 1/155.
(6)
انظر: فتح القدير، 1/169؛ حاشية ابن عابدين، 1/317.
(7)
انظر: البناية شرح الهداية، 1/648.
4 -
أن الصحابة رضوان الله عليهم استكتبوا أهل الحيرة المصاحف وهم نصارى، فدل ذلك على الجواز (1) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يكتب القرآن.
وبهذا قال المالكية في الصحيح من مذهبهم (2)، وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
ووجه هذا القول: أن كتابة القرآن في حكم المس له، فتحرم، كما يحرم المس؛ لاتصال القلم بيد الكاتب (6) .
القول الثالث:
جواز كتابة القرآن لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر.
وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: المالكية (7) ، والشافعية (8) ، والحنابلة (9) .
ووجه هذا القول ما يأتي:
1 -
رفع الحرج والمشقة عن صاحب الحدث الأصغر لتكرره، بخلاف الحدث الأكبر لقلته (10) .
2 -
قياس كتابة القرآن على تلاوته، فإنها تجوز لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر (11) .
الترجيح:
(1) روي ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وعن عدد من التابعين.
انظر: مصنف ابن أبي شيبة، 6/66، المصاحف لأبي داود، ص، 148، شرح العمدة، ص، 385، شرح الزركشي، 1/212.
(2)
إلا أنهم أجازوا للمحدث وإن كان جنبًا كتابة الآيات ضمن رسائل ونحوها.
انظر: شرح الزرقاني، 1/94؛ الشرح الكبير للدردير، 1/125، الشرح الصغير، 1/223.
(3)
وبه قال محمد بن الحسن الشيباني وغيره من علماء الحنفية.
انظر: فتح القدير، 1/169؛ البناية شرح الهداية، 1/648، رد المحتار مع حاشيته لابن عابدين، 1/317.
(4)
روضة الطالبين، 1/191؛ المجموع، 1/77.
(5)
الإنصاف، 1/226، معونة أولي النهى، 1/383.
(6)
انظر: فتح القدير، 1/169.
(7)
شرح الزرقاني، 1/94، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(8)
المجموع، 1/77.
(9)
الإنصاف، 1/226.
(10)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/125.
(11)
شرح العمدة، ص، 385.
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بجواز كتابة المحدث مطلقًا للقرآن لوجاهة ما استدل به القائلون بالجواز ورجحانه على ما علل به أصحاب القولين الآخرين والعلم عند الله.
الفرع الثاني: حكم كتابة الكافر للقرآن:
والمراد هنا حكم كتابة الكافر للقرآن من غير مس للمكتوب؛ لأنه يحرم عليه مس القرآن (1) .
ولم أر من نص على هذه المسألة من أصحاب المذاهب الأربعة سوى الحنابلة، ولهم فيها قولان:
القول الأول:
أنه يجوز للكافر أن يكتب القرآن.
وهو الصحيح في المذهب (2) . قال في الإنصاف: ((له نسخه على الصحيح من المذهب، وقال ابن عقيل: بدون حمل ولا مس. قال القاضي في التعليق وغيره: قال ابن عقيل في التذكرة: يجوز استئجار الكافر على كتابة المصحف إذا لم يحمله. قال أبو بكر: لا يختلف قول أحمد: أن المصاحف يجوز أن يكتبها النصارى..)) (3) .
والقول بهذا هو مقتضى مذهب الظاهرية؛ لإجازتهم للكافر أن يمس القرآن (4)
(1) حيث ذهب فقهاء المذاهب الأربعة إلى تحريم مس المصحف على الكافر؛ لأن ذلك يحرم على المسلم إذا كان محدثًا، أو جنبًا، فالكافر من باب أولى بالتحريم، والمقصود هنا: أنه يحرم على المسلم أن يمكن الكافر من مس المصحف؛ لأن الكافر لا يتوجه إليه الخطاب.
انظر: البناية شرح الهداية، 1/650؛ البحر الرائق، 1/212؛ حاشية العدوي على الخرشي، 1/161؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/126؛ المجموع شرح المهذب، 2/78؛ أسنى المطالب، 1/62؛ شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212؛ الإنصاف، 1/227.
(2)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/212، الإقناع، 1/41، غاية المنتهى، 1/44.
(3)
1/226.
(4)
المحلى، 1/83.
وبه قال محمد بن الحسن الشيباني أيضًا إذا اغتسل الكافر كما في البحر الرائق، 1/212
واحتج ابن حزم على جواز مس الكافر للمصحف بتضمين النبي (الكتاب الذي كتبه لقيصر آيات من القرآن، وهي قوله سبحانه: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.. (الخ الآيات. رواه البخاري في صحيحه، 1/9، ومسلم في صحيحه، 5/165.
قال ابن حزم: ((فهذا رسول الله (قد بعث كتابًا، وفيه هذه الآية إلى النصارى، وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب)) .
وأجاب الجمهور عن استدلال ابن حزم بما ذكره ابن حجر في فتح الباري، 1/408، بقوله:((إن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد: أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل، كالآية والآيتين)) .
، فكتابته من باب أولى. وقد استدل الحنابلة على ذلك بما يأتي:
1 -
ما روي عن بعض الصحابة والتابعين: أنهم استكتبوا النصارى المصاحف، حيث روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ((أنه استكتب رجلاً نصرانيًا مصحفًا، فأعطاه ستين درهمًا)) (1) . وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ((أنه كتب له نصراني مصحفًا من أهل الحيرة بتسعين درهمًا)) (2) . وروي نحو ذلك عن علقمة، وعن غيرهما من التابعين (3) .
2 -
أن النهي إنما ورد عن مس القرآن، لا عن كتابته (4) .
3 -
أن مس القلم للحرف كمس العود للحرف، وذلك جائز، فدل على جواز كتابة الكافر للمصحف إذا لم يمسه بيده (5) .
القول الثاني:
أنه لا يجوز للكافر أن يكتب القرآن.
قال في الإنصاف: ((قيل لأحمد: يعجبك أن تكتب النصارى المصاحف، قال: لا يعجبني. قال الزركشي: فأخذ من ذلك رواية بالمنع
…
)) (6) .
ولعل وجه هذا القول: صيانة القرآن، وإجلاله عن أن يمسه الكافر؛ لأن الكاتب لا يسلم غالبًا من مس المكتوب، فلا يؤمن الكافر أن يمس القرآن أثناء كتابته له، وذلك محرم عليه.
الترجيح:
(1) رواه أبو داود في كتاب المصاحف، ص، 148.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، 6/66، وأبو داود في كتاب المصاحف نحوه، ص، 149.
(3)
رواه أبو داود في كتاب المصاحف، ص، 149.
(4)
انظر: كشاف القناع، 1/135؛ مطالب أولي النهى، 1/155.
(5)
انظر: الإنصاف، 1/226، معونة أول النهى، 1/360.
(6)
1/226.