الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية
د. أحمد شيخ عبد السلام
الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية - الجامعة الإسلامية - ماليزيا
ملخص البحث
المعرفة اللغوية العربية من أهم الأدوات التي استند إليها العلماء في تأسيس العلوم الشرعية وتطويرها. ولم تزل الأسس اللغوية معتمدة فيها، ومن المتوقع أن يسهم تخصيص المنهجية والموضوعات اللغوية بعلم لغة خاص في تطوير هذه العلوم. ويدرس المقال هذه الفكرة، ويهدف بصفة خاصة إلى تقديم مقترحات في إيجاد هذا النوع من العلوم اللغوية الذي يتخذ الدراسة الشرعية مجالا تطبيقيا له، وينظر في القضايا الشرعية اللغوية، والأسس اللغوية النظرية المتعلقة باستنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها. وحاول المقال مناقشة دواعي تأسيس هذا العلم، وملامح تأصيله، وخصائصه، وموضوعاته، وأساليب تنفيذ محتوياته، وبعض فروعه، وضرورة تخصيصه بمساق علمي، وقدم مقترحات في تنفيذ هذا المساق.
• • •
تمهيد:
إن المعرفة اللغوية العربية من أهم الأدوات التي استعان بها العلماء في فهم النصوص القرآنية والحديثية واستنباط الأحكام الشرعية منها، وقد جُعل العلم بأسرار العربية شرطا أساسا من شروط الاجتهاد. وتحتلّ المباحث اللغوية حيّزا ملحوظا في مباحث العلوم الشرعية، وتتألف هذه المباحث من موضوعات واسعة ومهمة تكفي لتؤلّف تخصصا علميا مستقلا تتناسق مفرداته. ويؤيد هذا التوجه اهتمام العلماء بالمسائل اللغوية الشرعية وتأليف كثير منهم أو تطرقهم إلى جوانب منها، ولكن ما قدموه بحاجة إلى جمع وتصنيف وترتيب، ولهذا يقترح الكاتب إيجاد علم خاص بهذه المباحث يقدم في الأقسام الشرعية واللغوية، وقد يتفرع هذا العلم إلى فروع داخلية يتم فيها التركيز على بعض المستويات أو الخصائص اللغوية.
ويهدف هذا المقال إلى تقديم مقترحات يرجى أن تكون مفيدة في الإعداد لمساق علمي لنوع من العلوم اللغوية يتخذ الدراسة الشرعية مجالا تطبيقيا، ويهتم بالمسائل النظرية الضرورية لتقديم هذا المساق، كما يعتني بتطوير المسائل اللغوية الشرعية، والقضايا الشرعية المبنية على الأسس اللغوية، فيسهم في خدمة التراث الإسلامي السخي. وينظر المقال في دواعي تأسيس هذا العلم، وملامح تأصيله، ويقدم نماذج شرعية لغوية، ويناقش أهمية تطوير الأسس اللغوية للعلوم الشرعية، وضرورة تخصيصها بالدرس، وخصائص العلم المقترح، وفروعه، وموضوعاته، وأساليب تنفيذ محتوياته. ويتحدد هذا البحث بإبراز ملامح هذا العلم لما قد يسهم به في تطوير المنهجية اللغوية في العلوم الشرعية، وتحقيق الترابط بين مباحثها، وتوثيق نواحي التكامل بين العلوم الشرعية واللغوية، تقوية لهدف خدمة القرآن الكريم التي نشأت الدراسات اللغوية العربية من أجلها. ومن المؤمّل أن تسفر محاولات ترجمة هذه المقترحات إلى واقع عملي، بإذن الله، عن وجهات نظر أخرى عملية تعين في استقرار هذا الفرع العلمي التخصصي.
وتعني "الشريعة" ما شرعه الله تعالى من العقائد والأحكام العملية. ويشمل هذا المصطلح جانبين مهمين هما: الجانب العقدي المتمثل في القضايا المتعلقة بأصول الدين والمعتقدات التي تؤثر في التطبيقات العملية، والجانب التطبيقي العملي المتمثل في القضايا المتعلقة بالمصالح الفردية والاجتماعية الدنيوية والأخروية. ولا ينحصر هذا المفهومُ "الشريعة" في الفقه، وأصوله، وقواعد الفقه الكلية، وما يتصل بهما بشكل مباشر (1) . ويقصد ب "العلوم الشرعية" في هذا المقال تلك العلوم والمعارف التي وضعت لفهم الخطاب القرآني والنبوي، واتخذت الكتاب والسنة أصلين للدراسة وفق مناهج عقلية وعلمية محددة، وتتناول الأصول والفروع والمفاهيم المستفادة من هذين المصدرين وأوجه تطبيقها في القضايا المتعلقة بالوقائع المعيشة والمصالح الدنيوية الفردية والاجتماعية، والمسائل الأخلاقية والتعبدية (2) .
أولا: دواعي تأسيس هذا العلم
يناقش المقال الأساس النظري للأسس والمباحث اللغوية التي تختص بها العلوم الشرعية، ويقترح بناء هذا العلم على الإسهامات الموجودة في العلوم الشرعية واللغوية، ليكون علما مستقلا يمكن التوسع فيه بما يخدم أغراض العلوم الشرعية. ويقدم في الفقرات التالية دواعي تأسيس العلم المقترح بالنظر في الحاجة إلى التطوير في العلوم الشرعية بشكل عام، وتطوير الأسس اللغوية الشرعية، وبيان أهمية بناء منهجية لغوية مستقلة للمباحث اللغوية في العلوم الشرعية.
- التطوير في العلوم الشرعية
من محاولات تطوير العلوم الشرعية (1) إبراز أهمية توسيع مباحث العلوم الشرعية ليندرج فيها فقه المجتمع الإنساني، وفقه الحضارات الإنسانية، والمعطيات المفيدة من العلوم الإنسانية، وأدوات البحث فيها وما سواها من القضايا التي لها صلة بفهم الخطاب القرآني والنبوي وتطبيقاتهما، والتركيز على الوظيفة الحضارية للعلوم الشرعية التي منها تحقيق غاية الاستعمار في الأرض والاستخلاف عليها، ومثلها المباحث المتعلقة بفهم النصوص وربطها بالواقع، وتصحيح التصنيف التقليدي للعلوم إلى شرعية وغير شرعية، أو عقلية ودينية، أو عقلية محضة لا يحث الشرع عليها، ونقلية محضة، ونقلية عقلية (2) ؛ لأن الشريعة تشمل المصالح الدنيوية والأخروية. وقد حظي الفقه، وأصوله بنصيب وافر من محاولات تطوير العلوم الشرعية (3) .
ونظرًا لعدم مواكبة بعض المؤلفات في هذه العلوم للتطورات المستجدة في مجالات الحياة من حيث مصطلحاتها، وأساليبها، والقضايا العلمية، والنماذج التطبيقية، فقد ناقش المجالي (4) الحاجة إلى تطوير محتوى مادة الفقه الإسلامي، وناقش القضايا المتعلقة بالمسافات الزمانية، والمقاييس، والموازين، والمقادير، والأنصبة، والعملات، ونادى بإعادة كتابة بعض الأبواب مثل أبوب الطهارة، والاستنجاء، والزكاة باستخدام المصطلحات المعاصرة تقريبا لهذه الأبواب من متعلمي الفقه الإسلامي.
وتوجد محاولات قديمة في تطوير القواعد المعتمدة في هذه العلوم. فبعد أن كانت محاور علم الأصول هي علوم اللغة، والكتاب والسنة وعلومهما، والأحكام الشرعية، أضيف إليها القواعد المنطقية لدى المتكلمين الأصوليين. وأعاد الإمام الغزالي ترتيب أبوابه ومسائله، وأبرز المسائل غير الأصيلة في علم أصول الفقه (1) . وحاول الإمام الشاطبي توجيه مباحثه نحو المقاصد الشرعية (2) . ولعل الاستفادة من مبادئ العلوم الإنسانية المتعلقة بربط النصوص بالواقع، وفهم الخصائص النفسية والاجتماعية للمجتمع الذي يطبق فيه النص يفيد في تطوير منهجية استنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها.
وبما أن المسائل اللغوية أساسية في كثير من العلوم الشرعية الفقهية والعقدية، فإن الحاجة ماسة إلى تطوير منهجية البحث اللغوي فيها، وتجديد الأداة اللغوية لها. ولعل ما وضع من كتب حديثة في تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، وسبل الاستنباط من الكتاب والسنة (3) يشهد لأهمية توسيع آليات فهم نصوص القرآن والحديث لتشمل مباحث مفيدة من العلوم الاجتماعية، والتشريعية، واللغوية الحديثة، وغيرها. ويعدّ السعي إلى تطوير المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية لتصبح علم لغة خاصا بالدراسات الشرعية تطويرا لآليات قراءة التراث الإسلامي، وإعادة تقديمه لأهله وفقا لظروفهم التي يعيشونها، والمستجدات الفكرية التي وصلوا إليها.
- تطوير الأسس اللغوية الشرعية
ليس غريبا على هذا التراث السعي نحو تجديد منهجية دراسته (1) ؛ إذ تعبر العلوم الإسلامية عن تراكم الخبرات، واستفادة المتأخرين عن أسلافهم، وبنائهم على جهودهم، وهذا واضح في صنيع المفسرين، وأصحاب المعاجم، وغيرهم من علماء المسلمين الأجلاّء. وقد اهتمت الحضارة الإسلامية بقراءة النصوص الدينية وإعادة قراءتها، وبالتجديد في منهجية القراءة بهدف ربط النصوص بوقائع حياة الناس، وتطبيق الأحكام الشرعية عليها. ويؤكد اهتمام العلماء المسلمين بتفسير القرآن الكريم وتجديد تفسيره على مرّ الأزمان مناسبة الرسالة القرآنية لكل زمان ومكان. قال أبو السعود:"ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته (أي القرآن الكريم) أساطين أئمة التفسير في كل عصر من الأعصار، وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير في كل قطر من الأقطار فغاصوا في لججه وخاضوا في ثبجه، فنظموا فرائده في سلك التحرير وأبرزوا فوائده في معرض التقرير، وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار"(2) .
أما عن مبلغ المباحث اللغوية في العلوم الشرعية فإننا نلحظ أن المحتويات الأساسية لعلم أصول الفقه تتألف من علم الكلام، والمنطق، وعلم العربية، والعلم بالمقاصد والأحكام الشرعية. وأما عن تألفه من علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة، والمجاز، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والحذف، والإضمار، والمنطوق، والمفهوم، والاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والإيماء، وغيره، مما لا يعرف في غير العربية (1) . وفي ضوء اهتمام بعض المتخصصين في علم أصول الفقه بالمقاصد الشرعية في استنباط الأحكام من النصوص والنظر في وسائل تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإن على القائم بالتحليل اللغوي أن يسعى إلى بيان المقاصد من النصوص الشرعية، ولا يقتصر على تحليل الخصائص اللفظية للتراكيب الواردة فيها.
وتتضح أهمية تطوير الأسس اللغوية في العلوم الشرعية في الآراء المتعلقة بالقياس، والمعهود، والسياق، والمجاز، وغيرها، وما يؤدي إليه اختلاف المواقف منها في فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام والمفاهيم منها. فلقضية إنكار القياس في أصول الفقه صلة بالمنهجية اللغوية للتعامل مع النصوص الشرعية عند "الظاهرية"، إذ ترد أهمية القياس من أن النصوص، والأفعال، والإقرارت الشرعية متناهية في ألفاظها، على الرغم من عدم تناهيها في مفاهيمها، وعدم تناهي الوقائع الحيوية مع تناهي العقل البشري. وقد انطلقت المذاهب الفقهية من فكرة تناهي النصوص لاتخاذ القياس دليلا شرعيا رابعا بعد الكتاب، والسنة، والإجماع (2) .
بيد أن الظاهرية ترى أن مقابلة غير المتناهي بالمتناهي محال (1) ، وتتخذ هي من هذه الخاصية نفسها مندوحة لإثبات بطلان القياس، والاعتداد بدليل العقل، وشهادته، والأخذ بالمعنى المنطوق للألفاظ. وتتبنى الظاهرية منهجا يذهب إلى أن النص قادر على شمول الوقائع -مهما تعددت، وكثرت- بأحكامه دون حاجة إلى القياس، وتسلك مسلك تجريد النص وتحويله إلى قاعدة كلية يمكن أن تشتمل على ما لا يتناهى من الوقائع، بحجة أن لغة النص الشرعي ليست كأية لغة أخرى. فإن لغة المتكلم من البشر تحيط بها قرائن كثيرة، أما لغة النص الشرعي فينبغي أن تكتشف معانيها من خلال قوانين، وعلاقات لغة هذا النص ذاتها (2) . ويؤدي التعامل الظاهري مع النصوص إلى استثمار المجالات الدلالية للألفاظ لكي يتم إدراج المفاهيم التي تستند إليها الأحكام الشرعية.
وسيؤدي ترك الأخذ بالقياس في فهم معاني الألفاظ في النصوص الشرعية إلى العودة إلى وقائع استخدام الألفاظ، والفحص في مدى انطباق دلالة الألفاظ على هذه الوقائع، دون البناء على القياسات الافتراضية في توسيع دلالات الألفاظ، أو فهم الدلالات المستجدة، ودون ربط فهم الواقع باللفظ بل يربط اللفظ بالواقع الذي يرد فيه، ودون اللجوء إلى القول بالتضمين في تحديد معاني الألفاظ العامة، أو الوظيفية. وباستبعاد القول بالتضمين تزداد الدقة في تحديد دلالة الألفاظ ويزيد التمسك بما ورد به السماع عن العرب.
أكد الشافعي، ومن بعده الشاطبي، وغيرهما من العلماء أهمية الالتزام بمعهود العرب في تلقي الخطاب الديني عند محاولة الوقوف على معانيه أو بيانها (1) . ويقتضي ذلك أن يحمل النص على معهود المتكلم به: قرآنا وسنة، وهو معهود يستفاد من النصوص الشرعية مجتمعة طبقا لعرف العرب الذين تلقوا هذه النصوص. والمعلوم أن هناك معهودين في التعامل مع الخطاب الشرعي: معهود شرعي، وآخر عرفي لغوي عام (2) . فإذا لم يكن لهذا النص معهود شرعي محدد، أو تمّ صرفه عن هذا المعهود وفقا للقرائن يحمل على المعهود العرفي العام للمخاطبين الذين نزل فيهم الكتاب ووردت لهم السنة. ولكن ابن حزم يذهب إلى أن الأولى حمل الخطابات على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص، أو إجماع، أو ضرورة، وإذا وجد مانع من هذه الموانع الثلاثة حمل معنى اللفظ على المعهود الشرعي. ويقترح ابن مضاء الاعتداد بمعهود الخطاب لدى العرب في توضيح الظواهر اللغوية، أخذا باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم بالقاعدة دون محاولة استنباط علة لنقل حكمها إلى ما يشبهها من التراكيب اللغوية (3) .
ونشير إلى عدم لزوم ربط المصطلحات الشرعية بالمعاني اللغوية كما جرت به العادة في العلوم الشرعية حيث يقدم المؤلف المعنى اللغوي، ثم يعقبه بالمعنى الاصطلاحي الشرعي؛ إذ إن نصوص القرآن والحديث تتضمن إعادة تحديد لبعض المعاني اللغوية، مما لم تكن معهودة في العرف اللغوي العام قبل التنزيل، على الرغم من ارتباطها بالمعهود اللغوي العام. ويلحظ أن المعاني اللغوية التي تذكر للمصطلحات الشرعية لا تعكس في بعض المواضع صورة مكتملة لما يمكن أن يرد لها المصطلح لغويا؛ لأن المؤلفين يهتمون في الغالب بالمعاني المعينة على استيعاب المفهوم الشرعي للمصطلح. وتفيد هذه الملحوظة أن معرفة المعهود الشرعي تكفي في فهم المصطلحات الشرعية، أما إذا كان فهم المعهود الشرعي متعلقا بالمعهود اللغوي العام فيكون إيراد المعهودين معا ضروريا، كما قد يحدث في ألفاظ العقود مما يفهم في ضوء أعراف الناس القائمة في تخاطبهم.
سيساعد اتخاذ معهود العرب في تلقي الخطاب القرآني في عصر التنزيل مرجعية في فهم النصوص على الوصول إلى المعنى المراد من الشارع في النص الشرعي، وهو معنى يؤخذ إما من ظاهر النص، وإما من تأويل النص حسب الشروط التي تحمي من تحريف معنى النص. ويقتضي الرجوع إلى هذا النوع من المعهود انتفاء استمرار احتمالية دلالة النصوص القرآنية، كما يقتضي عدم قياس الدلالات المبنية على ما يزعم من الاحتمال في دلالة هذه النصوص بخصائص هذا المعهود، ورفض الاحتكام في فهم النصوص الشرعية إلى معهود العرب في التخاطب في العصر الحديث. وتقتصر أهمية المعهود اللغوي الحديث على التعرف على أوجه التعامل اللغوي بين مستخدمي اللغة العربية حديثا ولا يؤخذ به في استنباط الأحكام الفقهية والمفاهيم العقدية من النصوص الشرعية.
وينتج عن اعتبار السياق أو عدمه في فهم النصوص القرآنية والحديثية اختلافٌ في الأحكام الفقهية والمفاهيم العقدية أيضا. ونجد استغلالا واسعا للسياق الموقفي في الأحكام الشرعية المتعلقة باستخدام اللغة في المعاملات والعقود حيث يؤخذ بما يجري في عرف التخاطب اللغوي ومقاماته عند إصدار الأحكام الفقهية وتطبيقها، ومن ثم يعتمد مقصد المتكلم من خطابه، وليس ظاهر هذا الخطاب (1) . ومن مراعاة السياق اللفظي في الترجيح الفقهي موافقة ابن تيمية للحنفية والظاهرية (2) في جواز قصر الصلاة والفطر في رمضان في كل سفر سواء كان سفرا مباحا أو غير مباح (3) ؛ نظرا لتعليق الحكم في النص على مطلق السفر. قال تعالى:"فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر"(البقرة: 184) وقال عزّ من قائل: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"(النساء: 101) ، وهذا على خلاف الشافعية والحنابلة الذين لا يجيزون القصر والفطر في السفر المحرم، بحجة أن السفر المحرّم معصية. والرخصة للمسافر في معصية إعانة على ذلك، ولا تجوز الإعانة على المعصية، فتمّ تقييد القصر والفطر بحكم آخر خارج النص (4) .
وهناك أسس نظرية أخرى يؤدي اختلاف المواقف منها إلى اختلاف فهم النصوص أو تطبيقها، ومنها القول بالمجاز أو عدمه، أو بالاستعمال اللغوي في تحديد دلالة ألفاظ النصوص الشرعية، وكذلك مبدأ الاستناد في استنباط الحكم إلى مقاصد النصوص أو إلى معانيها المأخوذة من النصوص مباشرة أو غير مباشرة. ومن المتوقع أن يؤدي تطوير هذه الأسس إلى نتائج جديدة مفيدة في التعامل مع النصوص الشرعية، إذا تضمنت النظر في أسس استثمار أدلة الأحكام الإجمالية والتفصيلية، وتحديد ضوابط مراعاة معهود العرب في الخطاب بما يتناسب مع النصوص الشرعية ببيان أنواع المعهود، وشروط مراعاته، وعلاقته بالمقصد من الخطاب، وكذلك النظر في تقنين ربط النص بمواقف وروده وسياقاته، مع توضيح نقطة الانطلاق في فهم العلاقة بين النص والواقع في التعامل مع الخطاب الشرعي، ومثلها النظر في تطوير أساليب بيان المقاصد في النصوص الشرعية، وتوضيح مدى تأثرها بالتطور اللغوي والتطور الاجتماعي والفكري.
وينبغي أن نحذر مما سبق أن أشار إليه الغزالي (1) من أن إقامة الدليل على منكري العلم والنظر، مع حب صناعة الكلام قد جرّ المتكلمين من الأصوليين إلى خلط مسائل كثيرة من علم الكلام بعلم أصول الفقه، كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول، فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة. ولعل الغزالي كان يحذر من إدراج الموضوعات التي لا يتعلق بها غرض في علم أصول الفقه. وهذا شيء ينبغي أن ننتبه له في محاولة تحديد معالم علم لغة خاص بالعلوم الشرعية، ولا ينبغي تقليد بعض العلماء الذين يقحمون جلّ القضايا المعرفية في تخصصاتهم في العلوم الشرعية (2) .
والمؤمل أن يؤدي البحث في المنهجية اللغوية الشرعية بشكل مستقل إلى مستوى علمي أعمق يجاوز مستوى التوفيق بين موضوعات متفرقة من مختلف العلوم الشرعية إلى تأسيس علم لغة خاص بالعلوم الشرعية.
نحو منهجية لغوية مستقلة:
يجد المطالع في العلوم الشرعية اهتماما بالغا بالمسائل اللغوية، ويلحظ أن الأساس اللغوي كان موجِّها لمسائل كثيرة من هذه العلوم، سواء أكان ذلك مباشرا أم غير مباشر؛ وذلك لارتباط هذه المسائل بتحليل النصوص الشرعية ومعرفة وجوه دلالاتها. ويدور كثير من المداولات حول المفاهيم الفقهية والعقدية، والدلالات العرفية للألفاظ والتراكيب المستنبطة من الخطاب القرآني والنبوي. وتجدر الإشارة إلى أن المباحث والقواعد اللغوية كانت مستفادة من إنتاج اللغويين والبيانيين، إضافة إلى معطيات أبحاث علماء الشريعة الذين كان الكثير منهم علماء نابغين في اللغة العربية وآدابها (1) .
لقد نشأ الدرس النحوي والبياني في خدمة القرآن الكريم إسهاما في إبراز مفاهيمه، فكان تطبيقيا ووصفيا معا، ثم غلب عليه الجانب النظري والاهتمام بوصف اللغة العربية بشكل عام في المراحل التي عقبت مراحلها الأولى. ويقدم علم التفسير ونقد متن الحديث أمثلة رائعة للغويات النص التطبيقية في تحليل النصوص وربطها بوقائع حياة المتعاملين بها، كما تمثل بعض مباحث علم أصول الفقه علم الدلالة الإسلامي التطبيقي. ويبدو لي أن المحافظة على اللغة العربية تجاه حملات الشعوبية قديما، والمحافظة على الفصحى والتراث الإسلامي في مواجهة هجوم أعداء الفصحى ودعاة العامية حديثا، والمحافظة على التراث الديني واللغوي تجاه الماسونية والصهيونية والمبادئ الهدامة، واعتزاز المسلمين بتراثهم، والنظرة القدسية إليه، لم تسعف في إنجاح محاولات تطوير مناهج دراسة اللغة العربية، وتحليل تراكيبها، وخصائصها الدلالية، أو تحديثها، أو تيسير تعليم قواعدها النحوية والبلاغية. فأصبح كثير من المتخصصين في اللغة العربية يتخذون موقفا سلبيا من الجهود الرامية إلى تحديث تخصصهم أو تطويره.
ولكن علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية سينطلق من توجيه المقاصد الشرعية في تخير المفيد من الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة محاولة تطوير المنهجية اللغوية الشرعية، ومن المؤمّل أن يفيد تطوير هذه المنهجية في إغناء الدراسات الشرعية بالدلالات العامة والمفاهيم الخاصة التي تفيد في التعامل مع المصطلحات الشرعية. فعلى الرغم من أن كتب العلوم الشرعية تكتفي بالإشارة إلى أوجه الاستخدام الواردة في النصوص الشرعية التي تعد موضوعا لها، نظرا لتعلق استنباط الأحكام بالأوجه المذكورة، ولا تعتمد أوجه الاستخدام المستجدة، أي الاستخدامات اللغوية كانت قد تطورت في اللغة التي يتعامل الناس بها، إلا في فهم أحاديث الناس الذين تطبق فيهم الأحكام الشرعية، وبخاصة في المعاملات. فإن الدلالات اللغوية العامة قد توسّع مدارك المتعاملين مع النصوص الشرعية. فلا يكتفى مثلا بالقول بأن معنى لفظة (الصلاة) في اللغة الدعاء، بل يشار إلى معان لغوية أخرى للفظة مثل الترحم أو الرحمة، أو التبريك، أو التسبيح، بغض النظر عن قربها من معنى الدعاء. ويشار إلى أن لفظة (الزكاة) تدل على الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح، والصلاح، وصفوة الشيء، ولا تنحصر دلالتها في اللغة على التطهير والتزكية (1) .
ولذا يحسن أن يهتم المتخصصون في العلوم الشرعية بمراجعة مصادر العلوم اللغوية لدى تناولهم للجوانب اللغوية في تخصصهم، وألا يقتصروا على ما ورد عنها في كتب الدراسات الشرعية لدى معالجتها للقضايا اللغوية المتعلقة بالدرس الشرعي؛ إذ في العودة إلى المراجع اللغوية توثيق لصلة العلوم الشرعية بالمصادر اللغوية الأساسية للمسائل المتداولة في هذا التخصص، وتمكين للمتخصصين من متابعة التطورات العلمية التي قد تفيدهم في تطوير المسائل المشابهة في مجالهم العلمي.
وقد نتصور مدى تأثير تحديث المباحث اللغوية في العلوم الشرعية، إذا علمنا مدى حاجة المتخصص للعلوم الشرعية إلى العلوم اللغوية، وحجم البحث اللغوي في مختلف العلوم الشرعية، ووقفنا على المبادئ والمباحث اللغوية والموضوعات المبنية على أسس لغوية. ولقد ذكر الغزالي أن أعظم علوم الاجتهاد تشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه (1) . وقرر الشاطبي أهمية المعرفة اللغوية في هذه العلوم بأنه لا غنى لمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب (2) .
ولعل نظرة في تفاعل العلوم اللغوية مع العلوم الشرعية من حيث المصطلحات، والأسس، والمناهج، والموضوعات التي تعالج في سياق الفهم اللغوي للنص تنبئ بهذا التأثير المحتمل. فكثير من القضايا والمعاملات بين الأفراد، بل المعاهدات والاتفاقات بين الدول تتوقف على تحديد معاني الألفاظ، كما يتوقف عليه كثير من التفسيرات التشريعية والفكرية. وللقواعد اللغوية صلة ببناء الأحكام الشرعية واستنباط أدلتها مما يستفاد من التحليل التركيبي، وتحديد معاني حروف المعاني، والمسائل اللغوية الدلالية والمسائل اللغوية العرفية العامة، والقضايا المتعلقة بالقياس والعلة (3) .
ثانيا: تأصيل علم لغة شرعي:
يتطلب تأصيل علم اللغة الشرعي المقترح تأسيسه تقديم تحديدات يرجى أن تفيد في بناء مساق علمي خاص به. وترد هذه التحديدات في بيان خصائص هذا العلم، وبعض فروعه، وموضوعاته، وتنفيذ محتوياته.
خصائصه:
إن المنطلق الأساسي لهذا النوع من الدرس اللغوي رصد القواعد والأسس والموضوعات اللغوية المستخدمة في العلوم الشرعية، وجمعها، والربط بينها، ومناقشة الجوانب النظرية والتطبيقية المفيدة في فهم النصوص الشرعية وتنزيلها في الواقع. وهدفه تقديم صياغة موحدة لهذه القواعد والأسس بالإفادة بالتراثين الشرعي واللغوي، وبالمعطيات المفيدة من الدرسين اللغوي والتشريعي الحديثين، مع السعي إلى تطوير هذه المحتويات اللغوية. وطبيعته أنه علم لغة تطبيقي (1) خاص بالعلوم الشرعية بجانبيه النظري والعملي، ويفيد من النظريات اللغوية العامة وتطبيقاتها في فهم النصوص، وربطها بالمواقف الخطابية المتعددة المتجددة، ويفيد أيضا من مجالات الأبحاث اللغوية الأخرى. وتمتزج في المواد التي يقدمها القضايا النظرية والمجالات التطبيقية، والمناهج التراثية والحديثة. وتتعلق محتوياته بمختلف فروع العلوم الشرعية. ونؤكد أن هذا التخصص يختلف عن الدرس اللغوي العام في الموضوعات، والمحاور، والمفردات العلمية.
ونظرا لتميّز أهداف هذا التخصص ومحاوره، فقد نحتاج، مثلا، في علم النحو الشرعي إلى إعادة تنظيم الأبواب النحوية، وإعادة تنسيق موضوعاتها لكي تتفق مع أهداف المتخصصين في العلوم الشرعية، فيقتصر من النحو العام على ما يعين على استنباط معاني النصوص الشرعية، وتضم إليه القضايا الأسلوبية من علم المعاني. فالنحو المتعلَّم هنا نحو خاص لهدف محدد، وهو نحوٌ تطبيقي خاص بالعلوم الشرعية يسعى إلى فهم النصوص، ولا يقف عند التحليلات التركيبية الجزئية. وبعبارة أخرى، إنه لا يكون نحوا للجملة، بل يكون نحوا للنص الشرعي يقدم القواعد النحوية المساعدة في فهمه، ويستبعد المبادئ والأسس النظرية الافتراضية التي لا تفيد في تحقيق أهداف المادة. وهو نحوٌ يهتم بالقواعد المستخدمة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكتب التراث الموضوعة في فهمها عرضا، وتوضيحا، وتطبيقا، ويجعلها أسسا لتحليل المكونات التركيبية للنص الشرعي.
سيعطي هذا التخصص نظرة موضوعية شاملة للأساس اللغوي لاختلاف المذاهب العقدية؛ إذ إن من أسس تصنيف هذه المذاهب اختلاف مواقفها من التعامل مع النص الشرعي، فمنها طوائف تنزع إلى التمسك بالنص، وأخرى تميل نحو العقل. فالموقف السلفي يتمثل في التوسط بين العقل والنقل، وإعطاء الكلمة العليا للوحي دون إغفال للعقل؛ إذ النصوص تتضمن الحجج العقلية وهي لا تتناقض معها، ولا يسرف في تأويل النصوص إلا بقدر ما توجبه قواعد اللغة واستعمالات الشرع، مع نفي المعاني المستلزمة للتشبيه والكيفيات الحسية. أما الحشوية فتتعصب للنصوص والفهم الحرفي لها مما يؤدي بهم إلى سوء فهم للنصوص الدينية نفسها. ويجعل الحنابلة المرجع الأخير في أمر الحكم الشرعي عقديا أو عمليا هو النص الصحيح دون حرفية الفهم لها، مع مقاومة النزعات الباطنية في فهم النصوص، والاحتكام إلى النص بدءا أو نهاية دون إهمال لدور العقل في كلتا الحالتين. وتعادي الظاهرية الإسراف في استخدام الرأي والعقل في أمور الشرع، وتنكر القياس في التفكير الديني فقها أو اعتقادا، وترفض استمداد الحكم الشرعي من استحسان العقل وحده، أما استخدام العقل في فهم النص، أو دعم الحكم المأخوذ من النص بدليل عقلي يضاف إلى دليل النص فلا شيء فيه، بل هو الواجب. ويتراوح موقف الأشعرية والماتريدية بين الميل إلى مزيد من الالتزام بالنص والنزوع إلى شيء من التأويل العقلي. أما المعتزلة فيؤكدون دور العقل في مقابلة النص من حيث المنهج (1) .
فروع علمية مقترحة:
إن التصور المبدئي لعلم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية أن يكون فرعا من فروع علم اللغة التطبيقي، وأن يحتوي نظرات ومداخل لغوية نظرية، ومناهج تحليل، وتطبيقات تتكامل فيها نتائج أبحاث الدرس اللغوي مع نتائج البحث في مختلف فروع العلوم الشرعية من أجل تحقيق تعامل أفضل مع النصوص الشرعية، أو الخطاب الشرعي في المجالات الفقهية، والعقدية، والخلقية. وتكمن أهمية مثل هذا العلم في الإفادة من التراثين الشرعي واللغوي ومن بعض أوجه التطوير في الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة في المجالات النظرية والتطبيقية (1) . ويقترح أن ينظر هذا العلم في مختلف المستويات اللغوية المتعلقة بأدلة الأحكام في النصوص الشرعية، محققا للتكامل بين الأهداف الشكلية والمقصدية في التحليل اللغوي. وليس كثيرا على النصوص الشرعية تخصيصها بعلم لغة خاص على الرغم من كونها محصورة في مواطنها المعروفة، وذلك لسعة معانيها وأهمية المفاهيم المستفادة منها، ولأن القضايا التي تتناولها غير محدودة بزمن، أو مكان، بل هي موجهة للإنسانية بأسرها في جميع الوقائع الحيوية، ولها تأثير غير متناه في حياة المخاطبين بها. وتتفادى طبيعة هذا العلم كونها تكرارا للمعلومات القديمة المتداولة، أو أن تنحصر فيها دون أن يطورها أو يبني عليها؛ لأنه علم يعكس حقيقة الاستخدام اللغوي حيث تتكامل المستويات اللغوية، ويعكس قوة علاقة اللغة بالظواهر الإنسانية الأخرى.
من الشعب الفرعية المتضمنة في علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية:
- علم المصطلحات الشرعي: الذي يمكن أن ينظر في أسس تحديد مفاهيم المصطلحات الشرعية، وأهميتها في استنباط الأحكام الشرعية، وتصنيفها (1) ، والأسس المنطقية لهذا التحديد، والعلاقة بين المفاهيم اللغوية والشرعية لهذه المصطلحات، وتطور دلالات الألفاظ الإسلامية. ولنا نموذج في منهج كتاب التعريفات للجرجاني، وكتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، وغيرهما، وستصادفنا أمثلة عديدة في كتب الدراسات الشرعية في تحديد المصطلحات. وتسهم المعاجم الفقهية في هذا الفرع بتوضيح معاني المصطلحات والعبارات الشائعة في الفقه، ويقول زكريا الأنصاري في مقدمة "الحدود لأنيقة""أما بعد، فلما كانت الألفاظ المتداولة في أصول الفقه والدين مفتقرة إلى التحديد تعين تحديدها لتوقف معرفة المحدود على معرفة الحد."(2) ثم شرع في تقديم التعريفات والحدود للمصطلحات التي اختارها.
- علم الدلالة الشرعي: الذي يمكن أن يتناول وظيفة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية من خلال دراسة الدلالات المفردة، والمركبة، والمترادفة، والمشتركة، والمطلقة، والمقيدة، والمجازية، وغيرها، وكذلك ربط الدلالات والأحكام بالوقائع العملية. وتلقانا مادة غزيرة لهذا الفرع في علم أصول الفقه، حيث يندرج ما يقارب ثلث مباحثه في دراسة الدلالة الشرعية، وكتب الوجوه والنظائر في القرآن الكريم. ومن المصادر المفيدة هنا: الرسالة للشافعي، والموافقات للشاطبي، والمحصول للرازي، والقواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي، والمستصفى للغزالي، وغيرها من كتب علم الأصول.
ومما يندرج في هذا الفرع ما أشار إليه ابن تيمية من أسباب الاختلاف في فهم النصوص القرآنية والحديثية، فقال:"وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين.. إحداهما قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام، ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق."(1)
ويدخل فيه ما وصف ابن السيد البطليوسي للخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة: "هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام، أحدها اشتراك في موضوع اللفظة المفردة، والثاني اشتراك في أحوالها التي تعرض لها من إعراب وغيره، والثالث اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض. فأما الاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة فنوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة."(2)
- علم تحليل النص الشرعي (أو علم تحليل الخطاب الشرعي) : ويدرس الروابط بين الكلمات والعبارات في النص، والعلاقات بينها وبين النصوص التي ترد فيها، ويهتم بعناصر الاتساق في النص، من إحالة، أو استبدال، أو وصل، والعلاقات الدلالية، من ترابط، وانسجام، وترتيب لمكونات بنية الخطاب. وهي عناصر اهتم بها المفسرون، والدارسون لعلوم القرآن، ويعتني بالخصائص البيانية للقرآن الكريم والحديث الشريف (1) . وتجدر الإشارة إلى أن ما يقارب الخمسين في المائة من التفسير، وعلومه قضايا لغوية (2) . ومن مصادر هذا الفرع: البرهان في علم القرآن للزركشي، والإتقان في علم القرآن للسيوطي، ودلائل الإعجاز للجرجاني، وغيرها من كتب علوم القرآن، والتفاسير.
ومن قضايا هذا العلم قول الزركشي في معرفة المناسبات بين الآيات: "واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر القائل فيما يقول،.. ومرجعها والله أعلم إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين، والضدين، ونحوه، أو التلازم الخارجي، كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر، وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. وقد قلّ اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي وقال في تفسيره أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط."(3)
- علم الأسلوب الشرعي: حيث تدرس الخصائص الأسلوبية للنصوص الشرعية، وأسس الإعجاز النظمي، وأثره في استنباط الأحكام، وفهم الخطاب الإسلامي. وتسهم الاتجاهات المذهبية في التفسير، فضلا عن الدراسات النصية، في توفير المواد العلمية لهذا الفرع من العلم. ومن مصادره دلائل الإعجاز للجرجاني، والكشاف للزمخشري، وأسرار ترتيب القرآن للسيوطي، وتناسق الدرر في تناسب السور له أيضا، وما سواها من المصادر.
ومما يمكن أن يناقش فيه ما أورده الشاطبي في تحديد الخاصية الأسلوبية اللغوية للقرآن الكريم، قال:"فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لاختلاف الأوضاع والأساليب.."(1)
- علم النحو الشرعي: الذي يعتني بأهم القواعد النحوية الشائعة في تحديد الأحكام الفقهية، وأثر الخلاف النحوي في تقرير الحكم الشرعي، وفي الترجيح والتعارض، وأثر الخصائص النحوية للألفاظ والأدوات والتراكيب في تحديد الأحكام وتطبيقها، وأوجه التفاعل بين أصول النحو وأصول الفقه، ومدى تأثر التحليل النحوي بالعقيدة، والفقه، وأصوله. وقد قدم الاسنوي وغيره نماذج تطبيقية رائعة لذلك في كتابه الكوكب الدري. ومن المصادر أيضا كتاب إعراب مشكل القرآن لابن قتيبة.
ومن المسائل التي تدرس في هذا الفرع ما ذهب إليه الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي في مسألة اشتراط الطهارة في "مس" المصحف من أن الطهارة شرط في مس المصحف، وذهبت الظاهرية إلى أنها ليست بشرط في ذلك. والسبب في اختلافهم في تحديد مفهوم (المطهرون) وتحديد النوع النحوي للجملة المنفية في قوله تعالى:"لا يمسه إلا المطهرون"(1) فالمالكية والشافعية والحنفية تفهم أن المقصود بلفظ (المطهرون) بنو آدم، وأن الجملة الخبرية المنفية تفيد النهي، فكان معنى الآية: لا يجوز أن يمسن المصحف إلا آدمي طاهر. أما الظاهرية فتفهم من لفظ (المطهرون) الملائكة، ومن الجملة الإخبار المنفي، فرأت أنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، فبقي الأمر على الإباحة. وقد احتج جمهور الفقهاء لمذهبهم في اشتراط الطهارة بأدلة أخرى من الآثار المنقولة (2) .
موضوعاته:
يقصد من الدرس اللغوي الخاص بالعلوم الشرعية أن يكون منطلقا لدراسة القواعد اللغوية في مختلف فروع العلوم الشرعية مجتمعة ومتكاملة، فتتنوع مفرداته لتشمل القصايا الدلالية، والصوتية، والنظمية، والأسلوبية، والاصطلاحية، والفكرية التي تتعلق باللغة وأوجه استخدامها، والنص وأساليب تأليفه، واستيعابه، وتحليله، وتطبيق مضامينه في الوقائع المعيشة للذين وجه إليهم هذا النص. إن الموضوعات التي يمكن أن تدرس في هذا التخصص واسعة ترتبط بمختلف العلوم الشرعية، وينبغي أن يكون التركيز فيها على البحث عن القواعد اللغوية المؤثرة في دراسة موضوعات هذه العلوم، على الرغم من إمكان تخصيص بعض الموضوعات لفرع بعينه، أو التعمق في جانب من هذه الموضوعات في مرحلة من مراحل التخصص في العلوم الشرعية. ولكننا نقترح في الفقرات التالية موضوعات عامة شاملة يمكن أن تدرس فيه:
يشمل التمهيد لهذا العلم مقدمة نظرية تبين أهمية تجديد المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية، لكي تنبني على القواعد اللغوية التراثية لهذه العلوم، وتفيد من الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة. وتدرس أوجه التكامل والتشابه بين العلوم الشرعية واللغوية من حيث المصطلحات، والأسس، والمناهج.
وتعتمد النصوص المتداولة في العلوم الشرعية أمثلة في تأسيس القضايا المطروحة للبحث، ويوجه الدارسون نحو تطبيق الأسس والمبادئ والقواعد التي تختار للدراسة على أمثلة أخرى من النصوص الشرعية العقدية والفقهية في ظروف تطبيق محتوياتها في مختلف وقائع الحياة ومناحيها. ويحرص على إبراز الوحدة الموضوعية والفكرية بين الموضوعات والقضايا المقررة، كما يهدف نحو تحقيق التكامل بين القضايا اللغوية وبين المسائل العقدية، والشرعية. وتخصص مواد قرائية إضافية للدارسين من مصادر الدراسات الشرعية واللغوية التراثية والحديثة، من أجل توسيع مداركهم وتوثيق صلتهم بالمجال التطبيقي للمادة العلمية التي يدرسونها.
ينظر في الأصول والمبادئ النظرية التي كَلِف بها علماء أصول الفقه من أجل فهم الخطاب القرآني والنبوي، مثل أسس بناء النص، والوحدة الموضوعية والمنطقية له، ويتم تطويع المبادئ والقواعد التي يمكن أن يستفاد من النظريات اللغوية الحديثة في التعامل مع القرآن، والسنة؛ لكي تتناسب مع طبيعة نصوصهما، ووظيفتها في حياة المخاطبين بها، وتكون مستكملة لمباحث الدراسات اللغوية التراثية، ومن ثم لا تدرس النصوص لذاتها، بل تدرس لأهداف تطبيقية تسهم في تحقيق الرسالة الربانية التي تحملها هذه النصوص، وتنتقى المبادئ والمناهج المتوافقة مع تقديم هذه الرسالة، وتربط التفسيرات الفقهية والعقدية للنصوص بالأحداث الواقعية، وتبنى الأحكام على أدلة مستفادة من التطبيقات اللغوية التحليلية.
تدرس ظاهرة التجانس الصوتي في القرآن الكريم، وسبل تطوير التلقي الشفهي، وأثر المتنوعات الصوتية في فهم المقروء، وأساليب ربط التلاوة والحفظ بالفهم والاستيعاب، وتأثير هذا الربط في الجوانب النفسية والاجتماعية للقارئ والمستمع، كما تبرز آثار الاختلاف في الخصائص النحوية، والمعجمية، والصوتية في فهم نصوص القرآن، والحديث، وتدرس أوجه القراءات التي تخالف القواعد النحوية الشائعة والمقررة في متون الكتب النحوية إذا تعلق بها اختلاف في المفاهيم، ومسألة الوظيفة اللغوية للقرآن الكريم (1) .
تدرس أهمية المعرفة اللغوية العربية في تفسير القرآن الكريم، وصلتها بأسس التفسير بصفة عامة، والمبادئ اللغوية في تفسير النصوص في مناهج التفسير، وسبل توجيه التفسير اللغوي البياني للقرآن ليدرج المواقف الخطابية له، ومعرفة معهود الخطاب لدى العرب، وأنواع المعهود وتأثره بالخبرات التاريخية، وسياقات ورود النصوص الشرعية، ومعرفة التناسب بين الآيات والسور، والانسجام بين تراكيبها، وأجزائها، وأثرها في التعرف على الوحدة الموضوعية القرآنية، وأوجه استخدام وسائل الربط فيما يتعلق بقرائن الكلام وعناصره في فهم النصوص، وأنواع دلالات الألفاظ القرآنية، وأساليب التعامل مع مفردات القرآن في ضوء الجهود التي قدمت في التراث الشرعي في تحقيق الترادف، والمجاز وما سواهما في القرآن الكريم، وأثر التطور الدلالي في فهم آياته، وصلة مراعاة نظمه باستيعاب رسالته، والتفكير في تطبيقها على الواقع. وتناقش أهمية ترجمة القرآن، ومواقع استخدامها، وآراء العلماء في اعتمادها، وأثرها في التطبيقات العملية للرسالة القرآنية. تتناول المادة أسس وضع مصطلحات الأسانيد ودقة الفروق بينها، والقضايا المبنية على الربط بين محتوى المتن وظروف الراوي، وقواعد معرفة لغة الحديث، وفقه مضامينه، وأنواع دلالات ألفاظه، والربط بين هذه الأنواع وبين ما ورد في دلالات الألفاظ القرآنية، والمباحث اللغوية المتعلقة بنقد متن الحديث والعلاقة بين متن الحديث وسنده وقائله.
تندرج في هذا الدرس أيضا المسائل الفقهية والعقدية المبنية على القضايا النحوية، والدلالات اللغوية المستفادة من دلالة المفردات، والتراكيب، والأدوات، والصيغ، وأثر أساليب الكلام، وأوجه الاستخدام اللغوي في الأحكام الفقهية (1) ، والأحكام المتعلقة باستخدام الكلام (2) ، وتدرس ماهية الكلام من حيث المعنى القائم بالنفس، وأثره في تحديد دلالة الألفاظ المسموعة المتداولة، وكيفية حمل الألفاظ الشرعية لدلالاتها، وصلة الحديث في مبدأ اللغات بتحديد دلالات الألفاظ الحقيقية، والمجازية، والاستعمالية، وغيرها، وتأثير القول بالوضع، أو الاستعمال، أو الحمل، أو الترميز الدلالي في التعامل بالنصوص، وأثر تحديد الدلالات على الموقف من تطور المصطلحات، والمفردات، والمقولات الشرعية. وتدرس أهمية معرفة أنواع هذه الدلالات في تقرير الأحكام الشرعية، وأثر المعرفة اللغوية العربية في الاجتهاد في استنباط الأحكام، ومزاولة الإفتاء. وأهمية الاستنتاج، وتفسير قصد المتكلم في إنجاز عملية التخاطب، وقواعد الاستنباط والاستدلال من الخطاب (3) .
يتم تناول الجانب الأخلاقي لاستخدام اللغة، والمصطلحات اللغوية الأخلاقية الأساسية والثانوية، وآثارها الفكرية، والشرعية، والعقدية، والحضارية، والتوجيهات الأخلاقية اللغوية، وأثر الكلام على العقيدة قولا، وسماعا، وانعكاس اللغة للعقيدة، وصلة العقيدة بالصياغة اللفظية للواقع، ودور الحرية، والإرادة في استخدام الكلام، والمسألة العقدية المتصلة بالكلام النفسي، وقضية الاستدلال على المذاهب العقدية من خلال المسائل اللغوية، وصلة العقيدة بقضايا اللفظ والمعنى. وتدرس أسس اختيار لغة الدعوة، وأثر نوع اللغة في الإقناع بالاتجاه العقدي، والفكري، والآثار النفسية، والاجتماعية، والفكرية للتعامل اللغوي في القيام بالدعوة إلى الله، وأهمية المعرفة والثقافة اللغوية للداعية.
أما مصادر العلوم الشرعية التي تتضمن القضايا اللغوية فمنها كتب أصول الفقه، وقد عالج أصحابها المشكل اللغوي في سنهم لقواعد التشريع واستنباط الأحكام، ومن الاتجاهات البارزة فيها: الاتجاه السني الذي يمثله الشافعي في كتاب (الرسالة) ، والاتجاه الظاهري الذي يمثله ابن حزم الأندلسي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ، والاتجاه الأشعري الذي يمثله أبو حامد الغزالي في كتابه (المستصفى في علم الأصول) . ومنها كتب التفسير حيث يعتني المفسرون عادة في تقديرات لغوية عامة، وفي تحاليل نظرية متنوعة عندما يواجهون بعض الآيات المتصلة بنشأة الكلام، أو بخلق الإنسان، فضلا عن بيان معاني المفردات والتراكيب، والأساليب البيانية، ومن الاتجاهات السائدة فيها: الاتجاه السني الذي يتمثل في تفسير الطبري (الجامع لأصول الأحكام) ، والاتجاه الاعتزالي المتمثل في تفسير الزمخشري (الكشاف) ، وتعليقات ابن المنير السني على تفسير الرازي الكبير "الاعتزالي". وترد في علم الكلام تساؤلات عن قضايا عقدية محورها الظاهرة اللغوية، وبالذات في نشأتها، واتصاف الخالق والمخلوق بها، وكذلك المصطلحات اللغوية العقدية، ثم التراث الفلسفي حيث تبرز القضية اللغوية في تفكير الفلاسفة في المقولات، والقياس، والبرهان، والخطابة (1) .
ونعتقد أن تحديد المصادر المعتمدة في تقديم هذا العلم لا يمثل صعوبة كبيرة؛ إذ إن الاطلاع في محتويات أمهات الكتب الشرعية التي تطرقت إليها سيثمر دون عناء كبير عن اختيار المراجع المتضمنة لموضوعات متفرقة عن بعض أجزاء هذا العلم، أو فروعه. ونقترح أن ينفذ مشروع بحث في تحديد هذه المصادر قبل الشروع في تنفيذ المساق الخاص بهذا العلم، وتقترح الاستعانة بطلبة الدراسات العليا في إعدادها تحت الأستاذ الذي سيتولى تدريس هذا المساق.
تنفيذ محتوياته:
أما النصوص التي تبنى عليها القواعد أو التي يؤتى بها لتوضيح القواعد موجها، فيقترح أن يتم اختيارها في ضوء احتياجات التخصص، وتربط المسائل الشرعية بالخصائص الدلالية والنحوية والأسلوبية للنصوص، وتدرج هذه المسائل في تحليل التراكيب اللغوية في ضوء سياقات ورودها. وقد يقتصر في التوضيح والتحليل على الآيات والأحاديث التي تفيد القضايا الشرعية، أو تخصص بعض الأبواب النحوية والبلاغية والدلالية بالنصوص التي تندرج في باب معين، أو مسألة محددة من العلوم الشرعية، ويشار من خلال الشرح إلى المقاصد الشرعية للنصوص، وتعتمد الآيات والأحاديث الصحيحة في الاستشهاد دون إخضاعها للنمط العام لكلام العرب، بل تحافظ على خصائصها. وبذلك يحقق الدارس لمثل هذا العلم هدفين: أحدهما لغوي عام، وآخر شرعي خاص.
وتجدر الإشارة إلى ضرورة تطويع أي منهج لغوي يختار للتحليل ليتناسب مع الطبيعة العربية المتميزة لتراكيب النصوص الشرعية المدروسة. ولا ينتظر في المرحلة الأولية لهذا النوع من التخصص اقتراح بدائل للمناهج اللغوية الموروثة، أو التطوير عليها، إذ يمكن أن يكتفى في البدء بإعداد مواد تعليمية مساعدة في تأسيس هذا التخصص، وإعداد مقدمة نظرية له توجه إلى مجالات البحث المهمة في الدرس اللغوي المتعلق بالدراسات الشرعية.
ويحسن أن يتم التركيز على الجوانب التطبيقية من القضايا اللغوية التراثية والحديثة المهمة التي تفيد في فهم الخطاب الشرعي، وفي استنباط الأحكام منه، وعلى الأسس النظرية التي ترشد المخاطبين بهذا الخطاب إلى حسن التعامل معه. ومن تلك الجوانب الاستغناء في تدريس النحو المعين في العلوم الشرعية عن التمرينات النحوية والأبواب النظرية البحتة، وعن مسائل الصنعة النحوية التي يغلب ألا يتعلق بها غرض خطابي، وكذلك اعتماد جميع الأوجه اللغوية الواردة في النصوص الشرعية أساسا للتعامل اللغوي من غير لجوء إلى تصنيف أو تقويم لهذه الاستعمالات التي قد ترد بقواعد يختص بها القرآن أو الحديث. ويلزم البحث عن أساس نظري عام موحد للموضوعات التي تقدم في مفردات التخصص، وهو أساس يساعد في المضي قدما في الأبحاث العلمية اللغوية المفيدة في تخصص الدراسات الشرعية. ومن أمثلة ذلك أن ينتهي التحليل اللغوي إلى بيان المقصد من النص الشرعي، ولا يقف عند تحليل الخصائص اللفظية.
ثالثا: نماذج شرعية لغوية:
يعتقد الباحث إمكان تنفيذ المقترحات السابقة في تأسيس علم لغة خاص بالعلوم الشرعية، وفيما يلي نماذج من المسائل والقضايا الشرعية اللغوية التي تتضمنها العلوم الشرعية.
مسائل شرعية لغوية:
الدراسات الشرعية مجال تطبيقي للدرس اللغوي العربي، لأنها مستندة إلى دراسة الخطاب الشرعي واستنباط الأحكام من أدلته الإجمالية والتفصيلية. ويقترح أن يتجه البحث نحو مراجعة المسائل اللغوية في هذه العلوم، لإبراز الخيط المشترك بينها، وبيان أساليب العلماء في ربط المسائل اللغوية بالمسائل الشرعية، والمنهج المتبع في عرض هذه المسائل، وإمكان تطوير هذا المنهج، ومراجعة المسائل التي أسست عليها.
وبالنظر في كتب علوم القرآن نجد أن السيوطي (1) يتعرض لمعرفة إعراب القرآن، ومعرفة سبب النزول، والوقف والابتداء، والإمالة، والفتح، والإدغام، والإظهار، وغيرها من التنوعات الصوتية، وكيفية تحمل القرآن، وكيفية قراءته، وتجويده، ومعاني الألفاظ والآيات القرآنية، والإيجاز، والإطناب، والخبر والإنشاء، وغيرها من المباحث اللغوية والبيانية. ويدرس الزركشي (2) ، فضلا عن ذلك ما يراه ضروريا لمفسر القرآن الكريم من علاقات اللفظ بالمعنى، ومعرفة التصريف، والأحكام من جهة إفرادها وتراكيبها، وفصاحة اللفظ والتركيب، وأوجه التناسب بين الألفاظ والآيات والسور، والحقيقة والمجاز، والأساليب الخبرية والإنشائية، والأساليب القرآنية النحوية والصرفية والبلاغية بصفة عامة.
ودرس محمد أديب صالح (3) تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ورأى أن وظيفة المفسر أن يعمل بالبحث والاجتهاد على إزالة الغموض من النص إن كان المعنى المقصود غير متبادر، وأن من أنواع التفسير معرفة مرامي الألفاظ التي منها الواضح والمبهم، ومعرفة دلالات الألفاظ على الأحكام من حيث تعدد وجوهها ومناحيها، وإدراك معاني الألفاظ في حالات عمومها واشتراكها، وغير ذلك من الموضوعات. وأشار إلى أن الحقيقة الراسخة عند العلماء أن البعد عن التفسير ضمن حدود اللغة والشريعة عدول عما تعبدنا الله من الكتاب بفهم آياته واستنباط أحكامه. وتعرض لأنواع الدلالات.
وعني محمود توفيق محمد سعد (1) بالخصائص التي امتاز بها بيان الكتاب والسنة والتي تقتضي أن يكون منهج استنباط المعاني منه وحركته مضبوطين بضوابط تضمن الإيفاء بحق هذه المعاني، وتحفظ الاستنباط من الزيغ إفراطا وتفريطا. ومنها ضابط الوعي بخصائص اللغة ودلالاتها الإفرادية والتركيبية، بحيث تستنبط الدلائل وفق قواعد اللسان العربي ومواضعاته الدلالية عند نزول النصوص وورودها، وليس عن طريق الإسقاط الدلالي التأويلي للغة عصر الوحي، وكذلك ضابط الوعي بالسياق المقامي لبيان الكتاب والسنة، وواقع البيان التطبيقي له، وضابط الوعي بالتكامل الدلالي لنصوص الوحي قرآنا وسنة، وضابط الوعي بمقاصد الوحي الكلية والجزئية.
لا تنحصر المسائل اللغوية في علوم الحديث في دراسة المتن، بل يمتد إلى الإسناد وعلاقته بالمتن وبقائله (2) ، وذلك من حيث التمييز بين الحديث المرفوع، والموقوف، والمقطوع، والمباحث المتصلة بمعنى الحديث من حيث فقهه، ويشمل ذلك معرفة مختلف الحديث، وناسخه ومنسوخه، ومشكله، وغريبه، وأسباب وروده، والمباحث المتعلقة باختلاف رواياته، كمعرفة زيادات الثقات، والشاذ، والمضطرب، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمعلل. ومثلها المسائل المتعلقة برواية الحديث بلفظه والترخيص في روايته بالمعنى بقيود، والعلاقة بين السند والمتن.
تتضح أهمية الدرس اللغوي في دراسة علوم الحديث، في معرفة المصطلحات وتطور مفاهيمها، وربط الحديث بوسائل نقله في نقد الحديث الذي يعني: الحكم على الرواة تجريحا أو تعديلا بألفاظ خاصة ذات دلائل معلومة عند أهله، والنظر في متون الأحاديث التي صح سندها لتصحيحها، أو تضعيفها، ولرفع الإشكال عما بدا مشكلا من صحيحها، ودفع التعارض بينها، بتطبيق مقاييس دقيقة. وتبرز هذه الأهمية أيضا في مراحل نقد الحديث التي منها الاحتياط في الرواية تحملا وأداء، ونقد معنى الحديث، ودفع التعارض بين المتون ولرفع الإشكال عنها، ومن أهداف هذه المراحل التأكد من سلامة معنى الحديث بنقد معنى المتن، والكلام في الرجال من جانب حفظهم، وصيانة مبنى المتن بالجرح في الضبط، وبيان تخالف دلالات الأحاديث وأسباب ورود الحديث. وهي مباحث مهمة في نقد المتون، والمقارنة بين النصوص، قام بها رجال مختصون في الحديث، والأصول، والفقه، والعقيدة، واللغة، فاستطاعوا أن يوضحوا معناها بدقة. ومن أكثر مراحل نقد الحديث التصاقا بالدرس اللغوي نقد لغة الحديث، أي تفسير غريبه، وتصويب تصحيفاته، وبيان فقه الحديث، أي فهمه، واستخراج معناه. وقد قال الحاكم النيسابوري (1) بأن معرفة فقه الحديث ثمرة علوم الحديث، وبه قوام الشريعة، وأن علوم الحديث كلها تتعاضد لتثمر بيان المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم للعمل به.
ويتركز التشابه بين علم أصول الفقه وعلم النحو بصورة خاصة في مبحث القياس، فضلا عن التشابه في مصطلحات تقسيم الحكمين الشرعي والنحوي، وأدلة الفقه والنحو الرئيسة. وتجدر الإشارة إلى أن صلة النحو بالفقه وأصوله صلة ذات شقين (1) : شق تظهر فيه مقولات النحاة في أصول النحو محمولة على أصول الفقه، ولعل ابن جني أول من أشار إلى الصلة القوية بين أصول الفقه وأصول الكلام وبين أصول النحو في كتابه " الخصائص"(2) ، وقدم السيوطي نموذجا واضحا له في كتاب "الاقتراح"(3) . وشق يظهر فيه أثر النحو الكبير في مباحث الفقه، وجاء كتاب الإسنوي تطبيقا عمليا لهذا الشق الثاني.
قضايا شرعية مبنية على أسس لغوية:
درس جمال الدين عطية (4) القواعد اللغوية وأشار إلى مكانها البارز في كتب أصول الفقه بسبب أهميتها في تفسير نصوص الكتاب والسنة واستخراج الأحكام منها، وإلى أن ابن السبكي قد أفرد لها قسما خاصا في كتابه " القواعد والأشباه والنظائر"، فبحث في حروف المعاني، والمركبات، وما ينبني على العربية من الفروع الفقهية، وأثر هذه القواعد في تفسير النصوص المختلفة. ويعتبر جمال الدين الإسنوي أول من خصص كتابا مستقلا عنوانه:" الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية" لدراسة القواعد النحوية التي بني عليها عدد من المسائل الفقهية. واهتم القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" بإبراز الأسس اللغوية للقضايا الفقهية التي عرضها. وتوجد جهود أخرى قديمة وحديثة في هذا الاتجاه. ونشير إلى جهود عبد القادر عبد الرحمن السعدي في مؤلفه الذي عنوانه: "أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية".
ونعرض فيما يلي لبعض القضايا الشرعية اللغوية:
حصر ابن رشد القرطبي (1)، الأسباب المؤدية إلى الاختلاف بين الفقهاء في تحديد معاني الألفاظ التي تبنى عليها الأحكام في ستة: تردد الألفاظ بين العموم والخصوص ودلالة الخطاب، والاشتراك الحاصل في الألفاظ المفردة والمركبة، والاختلاف في الإعراب لأهميته في التمييز بين المعاني التركيبية، وتردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو على المجاز، من حذف، أو زيادة، أو تقديم، أو تأخير، أو تردده على الحقيقة أو الاستعارة، وإطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة أخرى، والتعارض بين الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي تؤخذ منها الأحكام، ومثله التعارض الحاصل في الأفعال، أو الإقرارات، أو القياسات، أو بينها جميعا. ويتضح من محاولة رجع الألفاظ إلى هذه الأسباب الستة أن معظم أسباب الاختلاف في أحكام الفروع الفقهية قائمة على أساس لغوي مما يدعو للرجوع إلى اللغة رجوعا كليا في توجيه قصد الإنسان لإصدار الحكم الشرعي على تصرفه. وترجع أسباب الاختلاف الباقية إلى أمور أخرى من غير اللغة، كالقياس، أو الإجماع، أو العرف، أو الاستحسان. وقد تأتي بعض الفروع الفقهية مخالفة لما تقتضيه قواعد اللغة العربية، أو مخالفة للأرجح من قواعدها، مع موافقتها للمرجوح (2) .
وقد ذكر ابن السيد البطليوسي ثمانية أوجه للخلاف بين المسلمين بعضها متعلق ببعض، وهي: اشتراك الألفاظ والمعاني، والحقيقة والمجاز، والإفراد والتركيب، والخصوص والعموم، والرواية والنقل، والاجتهاد فيما لا نص فيه، والناسخ والمنسوخ، والإباحة والتوسع (3) . ومن الواضح أن أربعة أوجه منها لها صلة مباشرة بالمسائل اللغوية، وفيها أغلب أوجه الخلاف.
ومما أورده الإسنوي (1) من القضايا الفقهية المؤسسة على القواعد اللغوية أن مقتضى اسم الفاعل صدور الفعل منه، ومقتضى اسم المفعول صدوره عليه. وإذا تقرر هذا فيتفرع عليه إذا حلف لا يأكل مستلذا، فإنه يحنث بما يستلذه هو أو غيره، بخلاف ما إذا قال (شيئا لذيذا) فإن العبرة فيه بالحالف فقط. ومسألة أخرى أن (إذا) ظرف للمستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط غالبا، وقد يقع للماضي..، وقد ينتفي فيها معنى الشرط
…
وإذا دلت على الشرط فلا تدل على التكرار.. . إذا علمت ذلك فينبني على المسألة الأيمان والتعاليق والنذور. فإذا قال لزوجته مثلا: إذا قمت فأنت طالق، فقامت، ثم قامت أيضا في العدة ثانيا وثالثا، فإنه لا يقع بهما شيء..كما لا تدل (إذا) على التكرار لا تدل أيضا على العموم،.. وقيل تدل عليه. ومن فروع المسألة أن تكون له عبيد ونساء، فيقول: إذا طلقت امرأة فعبد من عبيدي حرّ، فطلق أربعا بالتوالي، أو المعية، فلا يعتق إلا عبد واحد، وتنحل اليمين.
هذا، ويقترح أن يتطرق البحث في دراسة القضايا الشرعية المبنية على الأسس اللغوية إلى طبيعة هذه القضايا، والدافع إلى الاحتجاج باللغة فيها مع توفر الدليل الشرعي، أو عدم توفره، ودرجة هذا الاحتجاج، وأساليب اعتماد الأسس اللغوية أو استغلالها، ومنهج عرض هذه القضايا، وإمكان الربط بينها، وتجديد هذا المنهج، والعلاقة بين المسائل والقضايا اللغوية الشرعية.
• • •
خاتمة:
ينبغي أن نؤكد أن اقتراح تخصيص المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية بالدراسة لا يعني محاولة لإقحام المسائل اللغوية في المسائل الشرعية، أو الإكثار من القضايا اللغوية في غير موضعها مما حذّر منه الغزالي (1) ، وإنما القصد هو تأكيد المزاوجة بين المعرفة اللغوية والمعرفة الشرعية، وتوجيه الدرس اللغوي العربي إلى مواصلة السعي في تحقيق الهدف الذي نشأ من أجله، ألا وهو خدمة القرآن الكريم، وخدمة بيانه، والإسهام في فهم النصوص الشرعية، وفي استثمار المبادئ العقدية والأحكام الشرعية العملية منها ومن ثمَّ تطوير المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية.
إن المحتويات العلمية التعليمية لهذا الدرس متوفرة بكثرة في التراث الإسلامي الشرعي، ولها تشعبات متنوعة، وستفيد الأبحاث التي تجرى في هذا المجال اللغوي التطبيقي الشرعي في إثراء التراث الإنساني بالآراء النيرة التي قدمها المسلمون في دراسة الظاهرة الكلامية، وعلاقتها بالعقيدة، والفكر، والثقافة، والكيان الإنساني بوجه عام. ولا ريب في أن الإفادة من الدراسات اللغوية التركيبية، والأسلوبية الحديثة في الجوانب النفسية، والاجتماعية، والأخلاقية، والإعلامية، والتشريعية، طبقا لطبيعة النصوص الشرعية تساعد في فهم الخطاب الشرعي الذي وضعت هذه العلوم لدراسته.
ويقترح الكاتب أن يقرر مساق خاص لهذا العلم في البدء في المرحلة الجامعية العليا للدراسات الإسلامية والشرعية، والدراسات اللغوية، قبل أن يقرر في المرحلة الجامعية الأولى، ويقترح أن تحدد ساعاته المعتمدة بثلاث ساعات إذا تقرر تدريسه بشكل عام، أما إذا قصد تدريس فروعه الداخلية فتحدد لكل فرع ساعة واحدة معتمدة. ويقترح أن يبدأ تقديمه لطلبة الدراسات العليا بشكل ندوات علمية يمكن أن يشترك فيها المتخصصون في العلوم اللغوية، والشرعية، أو أن يتولى تدريسه متخصصون في الدراسات اللغوية لهم خلفية كافية في الدراسات الإسلامية، وذلك من أجل تحقيق نوع من الانسجام بين المفردات التي تقدم للدارسين، والربط بين القضايا اللغوية، وبين المسائل الشرعية على أمل أن يفضي تطور الأبحاث المستقبلية إلى تحقيق هدف هذا المساق. أما عن المقررات والمراجع فتوفر في البدء بانتقاء الموضوعات المتصلة بمفردات هذا المساق من أمهات الكتب التي تتناول فروع العلوم الشرعية التي أشرنا إلى بعض موضوعاتها، وتؤخذ النماذج التطبيقية الأولية منها ريثما يتم تأليف كتاب مخصص له. ومن الممكن استغلال أبحاث طلبة الدراسات العليا في تحقيق هذا الهدف النبيل، وفق أهداف مرسومة ومفردات محددة، ومناهج تعليمية تتفق مع أهداف المؤسسة الجامعية التي تحتضن هذا المساق.
الحواشي والتعليقات
انظر: سعدي أبو حبيب، القاموس الفقهي: لغة واصطلاحا، دار الفكر، دمشق، 1402هـ (الشريعة) .
توجد تقسيمات متعددة للعلوم في التراث الإسلامي، كما يوجد تداخل في تصنيف العلوم وفقا لتباين المعايير المعتمدة في هذا التصنيف. انظر نوعا من مناقشة تصنيف للعلوم الإسلامية في: محمد عمارة، إسلامية المعرفة، دار الشرق الأوسط، القاهرة، 1991م. ص 14- 17، وانظر في تحديد العلوم الشرعية: أبو حامد محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت.، ج3، ص18.
تجدر الإشارة إلى أن أي تطوير أو تجديد في العلوم الشرعية، إن اقتضته الضرورة، ينبغي أن يتم في حدود مقاصد الشرع، وألا يخالف الغايات العليا للرسالة الإسلامية كما حددها سلف هذه الأمة. ولا ينبغي من جانب آخر أن يصرف أي مقترح في التطوير إلى الاحتكام إلى العقل وإهمال النقل؛ ذلك لأن الفيصل في قبول التطوير أو التجديد في منهجية الدراسة والفهم صدورُه عن العقيدة الصحيحة واتفاقه مع المقاصد الشرعية.
انظر: أبو حامد محمد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ، ج1، ص3-5.
من المحاولات العلمية في تطوير الدراسات الشرعية وتحديثها صنيع الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه المعنون ب (الزكاة) ، وهناك محاولات أخرى له ولغيره، وهي كثيرة.
انظر: عبد الحميد إبراهيم المجالي، مدى الحاجة إلى تطوير محتوى مادة الفقه، في: فتحي حسن ملكاوي، ومحمد عبد الكريم أبو سل، بحوث مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، 1416هـ، ص 49 – 65.
انظر: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص4-10، ومحتويات الجزأين.
انظر: إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الفكر العربي، بيروت، د. ت.، ج2، 5- 40، وج2، ص5-40.
انظر مثلا: محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، مصر، 1413هـ. ومحمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ.
نشير في هذا الصدد إلى أن تجديد منهجية الدراسة في أي علم من العلوم لا يقتضي بالضرورة أن تكون المناهج السابقة ناقصة، أو غير وافية بالغرض؛ إذ إن المنهجية الجديدة قد تفضي إلى إضافة محمودة إلى نتائج البحث في المجال العلمي المعنيّ، وقد تفتح مجال اهتمام آخر تتلاقح فيه الخبرات، ويعالج فيه بعض القضايا التخصصية المستجدة في هذا المجال.
أبو السعود محمد العمادي، تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص4.
جمال الدين الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، تحقيق محمد حسن عواد، دار عمار، الأردن، 1405هـ، ص43 (مقدمة المحقق) .
راجع في الاحتجاج لإثبات القياس والرد على هذه الشبه: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج2، ص256-278.
وانظر في نقد الاعتماد على القياس في الاستدلال والاحتجاج في الفقه وفي التعامل مع نصوص الكتاب والسنة: علي بن أحمد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400هـ، مج2، ج8، ص2-76.
محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، ط2، 1370هـ، ج1، ص2-3.
راجع: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، مج2، ج7، ص 57- 58 و 62- 63.
وانظر: أنور خالد الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي: نظرية المعرفة ومناهج البحث، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب عمان، الأردن، 1417هـ، ص 3-6 (تقديم طه جابر العلواني للكتاب.)
انظر: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1979م، ص51- 52، فقرة 173. والشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65- 70.
محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، مصر، 1413هـ، ص38-41.
راجع: ابن مضاء القرطبي، كتاب الرد على النحاة، ط3، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1988م، ص 71- 141.
حاول شوقي ضيف تقديم نموذج متكامل لتصوره لتيسير النحو العربي مستفيدا من آراء ابن مضاء، وذلك في كتابه (تجديد النحو) ، وقد قدم تحليلا أسس نظريا لهذا التجديد في كتابه (تيسير النحو التعليمي قديما وحديثا مع نهج تجديده) .
ابن القيم محمد بن أبي بكر الجوزي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد بن محيي الدين عبد الحميد،، ج3، 107- 111.
علي بن أحمد بن حزم، المحلى بالآثار، تحقيق عبد الغفار البندراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج3، ص187- 188
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية،، مجموعة الرسائل والمسائل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، ص294.
عبد الرحمن الحريري، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الفكر، بيروت، ج2، ص474.
أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص10.
من النماذج الشائعة في هذا، صنيع الرازي في تفسيره، حيث أطلق لنفسه العنان في إقحام المسائل العقلية في تفسير القرآن الكريم.
ولعل الإمام الشافعي يعد خير دليل على النبوغ في المجالين الشرعي واللغوي. اقرأ نبذة عن الإمام الشافعي في تقديم المحقق للرسالة: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث، القاهرة، 1399هـ ص 5-8
راجع: جمال الدين بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1990م، مادة (صلا) ومادة (زكا) .
أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج2، ص353.
الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة ج4، ص114-118 وج4، ص 62.
انظر: عبد القادر عبد الرحمن السعدي، أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بغداد، 1406هـ، ص 31- 74.
وردت تحديدات متنوعة لعلم اللغة التطبيقي، ولكنه علم يمثل تكاملا بين مختلف المعارف الإنسانية في دراسة القضايا اللغوية التطبيقية مما يتعلق بفهم الظاهرة اللغوية، واستخدام اللغة، وتوظيفها في العلاقات الاجتماعية، ومجالات الخبرات الإنسانية، وتقديم الحلول العملية لمشكلات استخدام اللغة في مجالات الاتصال الإنساني المعرفي، أو المهني، أو الاجتماعي، أو غيرها.
انظر: حسن محمود الشافعي، المدخل إلى دراسة علم الكلام، ط2، مكتبة وهبة، القاهرة، 1411هـ، ص 72- 98.
تشمل الدراسات اللغوية الحديثة توجهات متعددة، ويمكن الاستفادة منها في بناء علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية، وبصفة خاصة ما يتعلق من موضوعاته بربط النصوص بالخصائص المقامية لها، وربط التراكيب والنصوص بالجوانب المعرفية والثقافية والنفسية، وتحديد مفاهيم المصطلحات.
قدم أبو حامد الغزالي مثالا للغلط في تمييز المشترك من الألفاظ، محللا لمفاهيم لفظة "مختار" في التعليل لحكم المكره على القتل لدى كل من الشافعية والحنفية. (أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص 33) .
زكريا الأنصاري، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، تحقيق مازن المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411هـ، ص65.
أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة ابن تيمية، ط2، د. ت.، مج13، ص 355 – 358.
عبد الله بن السيد البطليوسي، الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الخلاف، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ، ص 36- 37.
انظر: محمد خطابي، لسانيات النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991م، ص11-87 (وقد أبرز المؤلف إسهام المسلمين في دراسة النصوص وبيان أوجه الانسجام فيها، في التفسير، وعلوم القرآن، والبلاغة العربية، ص95- 204)
انظر: بدر الدين محمد الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، عيسى البابي الحلبي، 1390هـ، (قائمة المحتويات) . وعبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت، 1973م، (قائمة المحتويات) .
الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج1، ص35 – 36.
الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65 –66.
الواقعة: 79.
ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1، ص 41- 42.
يمكن أن يدرس إمكان وجود نحو قرآني خاص، وما يدعو إليه بعض الكتاب من ضرورة اتباع الأساليب التركيبية والبيانية للقرآن الكريم، ونظرتهم إلى القواعد اللغوية القرآنية بأنها ملزمة، وينبغي هجر غيرها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النظرة لا تراعي حقيقة أن الأسلوب القرآني أسلوب نموذجي رفيع، وأنه معجز بنظمه، ومضمونه، وأن تقليد الشيء الخارج عن الطوق البشري لا طائل من دونه، كما أن الأسلوب القرآني لا يمثل كل الأساليب العربية التي منها الرفيع، والوضيع.
من ذلك الاستحلاف، وأساليب إيقاع الطلاق، والطلب والقبول في النكاح، وصيغ العقود، والاعتراف بالجريمة، وغيرها.
فمثلا: أوقات وساعات منع أنواع من الكلام في بعض الظروف أو الشعائر الدينية، ومواقف السكوت، والحديث مع الوالدين، وإساءة استخدام الكلام.
انظر مثلا: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص 337 (طريق فهم المراد) .
عبد السلام المسدي، التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، تونس، ط2، 1986م، ص 35- 36.
عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن.
بدر الدين محمد الزركشي، البرهان في علوم القرآن.
انظر: محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، المكتب الإسلامي، دمشق، ط3، 1404هـ 1/ 60-61 و 69 و 109 و 139.
محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة، ص 18-25.
انظر: محمد طاهر الجوابي، جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي الشريف، مؤسسات ع. الكريم بن عبد الله، تونس، 1991م، ص84- 128 و 284- 291، وغيرها.
الحاكم محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري، كتاب معرفة علوم الحديث، مكتبة المتنبي، القاهرة، د. ت.، ص63
الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، ص146: مقدمة المحقق.
انظر: أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1952م 1/163 حيث قال:"وكذلك كتب محمد بن الحسن رحمه الله إنما ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق." وانظر: ج1، ص115- 200 وج1، ص49- 96، 115- 164 في: نوع علل العربية، وجواز القياس، وتعارض السماع والقياس، والاستحسان، وتخصيص العلل.
عبد الرحمن السيوطي، كتاب الاقتراح في علم أصول النحو. (قسم السيوطي هذا الكتاب إلى أجزاء، هي: المقدمات، ثم الكتاب الأول في السماع، والثاني في الإجماع، والثالث في القياس والرابع في الاستصحاب، والخامس في الاستدلال، والسادس في التعارض والترجيح.)
جمال الدين عطية، التنظير الفقهي، ص109- 111
ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص15-6.
جمال الدين عطية، التنظير الفقهي، 110- 111.
ابن السيد البطليوسي، الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الخلاف، ص34.
الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، ص 243 و 266- 267.
أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول ج1، ص 10.