المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي - مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤ - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي

‌ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي

(دراسة أسلوبية)

د. زهير أحمد المنصور

أستاذ مشارك بقسم النقد والبلاغة - كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى

ملخص البحث

يهدف هذا البحث إلى الكشف عن ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي، تلك الظاهرة التي ظهرت بوضوح في شعره، التي ترتبط – إلى حد ما – ارتباطاً وثيقاً بنفسية الشاعر وبناء حياته، إذ يقوم التكرار على جملة من الاختيارات الأسلوبية لمادة دون أخرى ولصياغة لغوية دون أخرى، مما يكشف في النهاية عن سر ميل الشاعر لهذا النمط الأسلوبي دون غيره.

كما يهدف البحث إلى محاولة التعرف على طبيعة هذه الظاهرة وكيفية بنائها وصياغتها وتركيبها وإلى أي مدى استطاع الشاعر أن يوفق في بنائها ليجعل منها أداة فاعلة داخل النص الشعري وأن يوظفها توظيفاً دقيقاً لتصبح أداة جمالية تحرك فضاء النص الشعري وتنقله من السكون إلى الحركة والموسيقية.

كما يحاول البحث التعرف على محاور التكرار وأنماطه عند الشابي التي تمثلت في تكرار الكلمة وتكرار اللازمة وتكرار البداية، ودور هذه المحاور في بناء الجملة على اختلاف أشكالها عند الشاعر، وإلى أي مدى كانت هذه المحاور قادرة على تكوين سياقات شعرية جديدة ذات دلالات قوية ومثيرة لدى المتلقي تعمل على جذب انتباهه وشده ليعيش داخل الحدث الشعري الذي يصوره الشاعر.

كما يكشف عن البناء الفني الدقيق للتكرار الذي أنتجته عبقرية الشابي في النص الشعري حيث ورد عنده في اتجاهين: الأول الاتجاه الرأسي، والثاني الاتجاه الأفقي، كل ذلك ليجعل منه أداة جمالية تخدم النص الشعري فتمنحه القوة والفاعلية والتأثير.

• • •

ص: 432

يعد التكرار من الظواهر الأسلوبية التي تستخدم لفهم النص الأدبي وقد درسها البلاغيون العرب وتنبهوا إليها عند دراستهم لكثير من الشواهد الشعرية والنثرية وبينوا فوائدها ووظائفها (1) كما أن دراستهم للنص القرآني والبحث في إعجازه قد دفعتهم إلى البحث في مثل هذه الظواهر، خصوصاً أنه قد وردت في القرآن الكريم بعض نماذج من التكرار في القرآن الكريم، قام على دراستها وتفسيرها بعض البلاغيين فحاولوا تفسير هذه الظواهر وبيان دلالتها ضمن السياق القرآني (2) . من هنا جاءت هذه الدراسة لشعر الشابي لمحاولة الكشف والاستكناه لهذه القوالب الفنية لبيان أبعادها ودلالاتها على اختلاف مواقعها سواء أكان في الكلمة أو العبارة أو الجملة أو الحرف.

إن مصطلح التكرار مصطلح عربي كان له حضوره عند البلاغيين العرب القدامى فهو في اللغة من الكر بمعنى الرجوع. ويأتي بمعنى الإعادة والعطف يقول ابن منظور: الكرّ: الرجوع يقال كرّه وكرّ بنفسه

والكر مصدر كرّ عليه يكرُّ كراً وكروراً وتكراراً: عطف عليه وكرّ عنه: رجع

وكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. فالرجوع إلى شيء وإعادته وعطفه هو تكرار، وقد يأتي تصريف آخر بمعنى التكرار وهو التكرير يقول الجوهري (393هـ) الكرّ الرجوع، يقال: كرّه وكرَّ بنفسه يتعدى ولا يتعدى وكررت الشيء تكريراً وتكراراً (3) . أما في الاصطلاح فهو تكرار الكلمة أو اللفظة أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة إما للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر (4) .

ص: 433

والتكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق الشعري، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي، وبذلك فإنه يعكس جانباً من الموقف النفسي والانفعالي، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة التكرار داخل النص الشعري الذي ورد فيه، فكل تكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها طبيعة السياق الشعري، ولو لم يكن له ذلك لكان تكراراً لجملة من الأشياء التي لا تؤدي إلى معنى أو وظيفة في البناء الشعري، لأن التكرار إحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره ولابد أن يعتمد التكرار بعد الكلمة المتكررة حتى لا يصبح التكرار مجرد حشو، فالشاعر إذا كرر عكس أهمية ما يكرره مع الاهتمام بما يعده حتى تتجدد العلاقات وتثرى الدلالات وينمو البناء الشعري (1) . وهذا ما دفع بعض البلاغيين إلى النظر لظاهرة التكرار من زاوية أخرى، إذ رأوا أن التكرار قد يقع في المعنى دون اللفظ، فيري ابن الأثير الحلبي أن التكرار قسمان: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى والآخر في المعنى دون اللفظ، فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع. وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك: أطعني ولا تعصني فإن الأمر بالطاعة هو النهي عن المعصية (2) . فمثل هذه الملاحظة ترصد دقة الكشف عن حركة الملحظ البلاغي في السياق، فهي إشارة إلى أن التكرار يتشكل في مستويين: الأول: مستوى لفظي ومعنوي والثاني معنوي (3) .

ص: 434

ولم يغفل الباحثون المعاصرون هذه الظاهرة في دراساتهم، فكلمة Repetition كلمة لاتنية ومعناها يحاول مرة أخرى ومأخوذة من Petere ومعناها يبحث، والتكرار إحدى الأدوات الفنية الأساسية للنص وهو يستعمل في التأليف الموسيقي والرسم والشعر والنثر. والتكرار يحدث تيار التوقع ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفني ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر: اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلالي، التجانس الصوتي، والأنماط العروضية (1) .

ص: 435

وتتشكل ظاهرة التكرار في الشعر العربي بأشكال مختلفة متنوعة فهي تبدأ من الحرف وتمتد إلى الكلمة وإلى العبارة وإلى بيت الشعر وكل شكل من هذه الأشكال يعمل على إبراز جانب تأثيري خاص للتكرار، وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الإيقاعي في الشعر قائم على التكرار، فبحور الشعر العربي تتكون من مقاطع متساوية والسر في ذلك يعود إلى أن التفعيلات العروضية متكررة في الأبيات فمثلاً في بحر الرجز: مستفعلن مستفعلن، مستفعلن. هذا بالإضافة إلى أن التفعيلة نفسها تقوم على تكرار مقاطع متساوية. إن هذا التكرار المتماثل أو المتساوي يخلق جواً موسيقياً متناسقاً، فالإيقاع ما هو إلا أصوات مكررة وهذه الأصوات المكررة تثير في النفس انفعالاً ما "وللشعر نواح عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام توالي المقاطع وتردد بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر (1) . وقد أشار إلى هذا الناقد ريتشاردز بقوله "فالإيقاع يعتمد كما يعتمد على الوزن الذي هو صورته الخاصة على التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه يحدث أو لا يحدث (2) . وتشير نازك الملائكة إلى هذه الظاهرة في الشعر العربي وبينت أن التكرار في ذاته ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة (3) . كما أشارت إلى أنواع التكرار وحصرتها في تكرار الكلمة والعبارة والمقطع والحرف وترى أن أبسط أنواع التكرار تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات

ص: 436

متتالية في قصيدة، وهو لون شائع في شعرنا المعاصر، يلجأ إليه صغار الشعراء ولا يعطيه الأصالة والجمال إلا شاعر موهوب حاذق يدرك المعول لا على التكرار نفسه وإنما ما بعد الكلمة المكررة (1) .

أما التكرار عند الشابي فهو صورة لافتة للنظر، تشكلت في ديوانه ضمن محاور متنوعة وقعت في الكلمة وتكرار البداية وتكرار اللازمة. وقد ظهرت في شعره بشكل واضح وشكل منها إيقاعات موسيقية متنوعة تجعل القاريء والمستمع يعيش الحدث الشعري المكرر وتنقله إلى أجواء الشاعر النفسية، إذ كان يضفي على بعض هذه التكرارات مشاعره الخاصة فهي بمثابة لوحات إسقاطية يتخذها وسيلة للتخفيف من حدة الصراع الذي كان يعيشه أو حدة الإرهاصات التي واجهها في حياته سواء ما تعلق بمحيطه الأسري أو محيطه الخارجي أو قد تكون ناتجة عن تأثير الثقافات العربية التي اطلع عليها كجبران أو الغربية كتأثيره بالشاعر الفرنسي لامارتيه، إضافة إلى إحساس الشابي المرهف التي جعلته يعيش غربة روحية وفكرية، فحاول التخلص منها برحلته الخيالية إلى الفردوس المفقود الذي ينشد فيه الكمال والسعادة. فأصيب بخيبة أمل من هذا الواقع، مما جعله يلح ويؤكد على التغيير والتبديل للارتحال إلى عالم آخر، فوجد في التكرار غايته وطموحه، فثار على الحياة لتفاؤله بما بعد الحياة وثار على إنسان عصره لإحساسه بوجود كوني آخر يتمثل فيه الإنسان المثال أو النموذج، لذلك حاول أن يخلق من خلال التكرار واقعاً سياسياً واجتماعياً جديداً، فوظف هذه الصور التكرارية لرفض النمط التقليدي على مستوى الإنسان وعلى مستوى المجتمع، وهذا التجديد لايختلف عن محاولات الشاعر التجديدية التي ظهرت في شعره، فكان يكتب من فيض الروح ويستنطقها، لذلك كان شعره قريب الفهم والإدراك، لأن لغة الروح لغة كل زمان ومكان، وهذه اللغة تمثلت في عباراته البسيطة، لكنها كالسيف القاطع تهوي في خط مستقيم غلب عليها أنها عبارات موسيقية راقصة (2) .

ص: 437

إن التكرار يعتمد في طبيعته على الإعادة لقوالب لغوية متنوعة ومختلفة في إيقاعها وطاقاتها الإيحائية التي تعتمد على اللغة الشعرية ذات الدلالات والطاقات المميزة عن لغة النثر وقد أدرك بالي – أهمية هذا الجانب في اللغة عندما فهم الأسلوبية على أنها بحث – أو علم الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها الانفعالية والتأثيرية (1) . واللغة الشعرية تعتمد على الإثارة والانفعال فاللغة الشعرية هي لغة انفعالية، تتوجه إلى القلب وتعتمد بشكل رئيسي على اللغة الموسيقية التي يمكنها هي الأخرى أن تثير انفعالات وإحساسات لا تحصى" (2) . وقد ظهرت هذه الموسيقية عند الشابي في اتجاهين: الأول التكرار الأفقي (ما بداخل البيت الواحد) والثاني: التكرار الرأسي (ما بداخل القصيدة) ولذلك سيحاول البحث دراسة هذه الظاهرة التكرارية من خلال أنماط التكرار عند الشابي وربط ذلك بجانبها التأثيري.

تكرار الكلمة:

ص: 438

وتشكل الكلمة المصدر الأول من مصادر الشابي التكرارية، والتي تتشكل من صوت معزول أو من جملة من الأصوات المركبة الموزعة داخل البيت الشعري أو القصيدة بشكل أفقي أو رأسي، وهذه الأصوات تتوحد في بنائها وتأثيرها سواء أكانت حرفاً أو كلمة ذات صفة ثابتة كالأسماء أو ذات طبيعة متغيرة تفرضها طبيعة السياق كالفعل، فهي تسعى جميعها لتؤدي وظيفة سياقية تفرضها طبيعة اللغة المستخدمة، وإلا أصبح التكرار مجرد إعادة ونمطي لا يثير في السامع أو القاريء أي انفعال أو إثارة، ولكن الشابي كان حريصاً أن يجعل من هذه الأصوات أو الكلمات قوة فاعلة – أحياناً – لإيقاظ الحسي القومي والثقافي في أبناء عصره، وبعث الهمة والتبصير بالواقع وكشف زيفه على طريقة الرومانسيين لذلك نراه يركز على الجملة الفعلية أكثر من الجملة الاسمية فالأولى قادرة على التأثير والتغيير وأكثر قدرة على استيعاب الأحداث التي يعيشها الشاعر بينما الجملة الاسمية ذات طبيعة ساكنة هادئة) . وغير ممتدة داخل النص الشعري بينما الفعلية نمائية متغيرة ومتطورة وقادرة على استيعاب هموم الشاعر وآلامه فيتفق التكرار في غالبه عند الشابي مع طبيعته النفسية، لأنه يسعى إلى استخدام التكرار وسيلة للإعادة والإلحاح والتأكيد على ما في ذهنه لإصلاح الواقع، ولهذا فهو لم يكرر ولم يكن معنياَ بتكرار اسم بعينه فهو لا يبحث عن فرد وإنما يبحث عن قيم ومباديء تتمثل في الأشخاص من هنا جاء اهتمامه بصورة الاسم أو هذا الجزء من الكلمة – قليلاً، فالأسماء الواردة عنده هي أسماء معان وليس أسماء ذوات فالحب قيمة ومعنى يسعى أن يكون هذا الاسم هو محرك الشعوب ومعيار علاقتها على مختلف المجالات فهو رمز الصفاء والنقاء ورمز الطهر والعفة يقول:

الحب جدول خمر من تذوقه

خاض الجحيم ولم يشفق من الحرق

الحب غاية آمال الحياة فما

خوفي إذا ضمني قبري وما فرقي؟ (1)

ص: 439

فهو يعلي من شأن الحب ويؤكد على قيمته، لأنه ذات فضيلة تطهر النفوس كما أنه وسيلة تجعل الإنسان يخوض غمار الحياة بكل ما فيها من مرارة وعذاب وهذا ما يسعى إليه الرومانسيون في التأكيد على حب الإنسان للإنسان فكانت ثورتهم على مجتمعاتهم لخلق مجتمع مثالي ينشدونه في فردوسهم المفقود يقوم على دعائم من أهمها الحب الصافي فهو غاية كل البشر، ولهذا اتخذ التكرار الشكل الرأسي الذي يحرص فيه على خلق صورة شعرية جديدة لكل صورة تكرار. ولكنه قد يخضع للتداعي ويستسلم لصورة من التكرار للأسماء لا داعي لها يمكن أن يستعاض عنها وعندئذ يستقيم الإيقاع الشعري يقول:

الكون كون شقاء

الكون كون التباس

الكون كون اختلاف

وضجة واختلاس

سيان عندي فيه السرور

والابتئاس (1)

فتكراره لكلمة الكون في صدر البيت وعجزه حاول أن يخلق منه ما سماه البلاغيون برد العجز على الصدر للتأكيد على أهمية الكون وتناقضاته، كي يحاول خلق إيحاءات وإيقاعات موسيقية جديدة ففرّع وقسّم في أنواع الكون لأنه يبحث عن كون آخر أكثر طهر وعفة، فكونه شفي ومختلف عن كون الآخرين مما جعل بعض الدارسين يصفون هذا التكرار بأنه ساذج فلو قال:

الكون كون شقاء والتباس

واختلاق واختلاس

لم تتغير الدلالة، بل لأراحنا من هذا الملل والرتابة اللذين نجدهما عند سماعنا لهذا المقطع (2) . كما وظف الشابي بعض صور تكرار أسماء المعاني للكشف عن لحظة الغربة والاغتراب التي يعيشها فهي ملازمة له ثابتة بل إنها غربة تختلف عن غربة غيره من البشر ويؤكد على ذلك من خلال صورة التكرار الرأسية التي جاءت لتعمق إحساس الشاعر بهذه الغربة والحيرة، حتى أن مسميات بعض القصائد قد أطلق عليها أسماء توحي بهذا الإحساس مثل "الأشواق التائة" و"إلى قلبي التائه" يقول في قصيدته (الكآبة المجهولة) :

كآبتي خالفت نظائرها

غريبة في عوالم الحزن

كآبتي فكرة مفردة

مجهولة من مسامع الزمن (3)

ص: 440

فكرر كلمة كآبتي وبعض مشتقاتها في القصيدة (كئب – يكتئب – اكتئابي) وقد كرر هذه الصفة بشكل يعكس إلحاح الشاعر للتأكيد على تفرده وتميزه حتى في عالم لحزن، لأن كآبته ثابتة لا تتغير بينما كآبة الناس عابرة متغيرة: كآبة الناس شعلة ومتى مرّت ليال خبت مع الأمد)

أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي وتبقى بها إلى الأبد ولذلك فهو يسعى من خلال هذا التكرار أن يقدم وصفاً دقيقاً لواقعه الحزين الذي يعيشه ويسعى فيه إلى التغيير أو التخلص من عذاباته وهمومه، كي يسمعها الناس يتعاطفوا معه ويشفقوا عليه، ولكنه لم يجد من يسمعها، فهو غريب عن كل شيء، غريب في مشاعره وإحساسه حتى جعل هذه الكآبة غريبة غربة صاحبها. وكأن الشاعر بذلك يستغيث بالسامعين ليأخذوا بيده نحو بناء مجتمع أفضل، ويندب حظه الذي عاش الكآبة منذ ولادته، ففقد الأمل بإنسان عصره ولكنه يعود فيجعل من كآبته طاقة متفجرة فهي كالسكون الذي يسبق العاصفة، فيحاول إعطاء الكآبة صورة جديدة يطرح من خلالها موقفه من الحزن الذي غطى معظم حياته فيقول:

تحت رماد الكون تستعر

كآبتي شعلة مؤججة

ويطلع الفجر يوم تنفجر (1)

سيعلم الكون ما حقيقتها

فهو وإن عمق من تكراره الرأسي لكلمة "كآبة" إلا أنه كان يمكن أن يكتفي بما قاله في بداية القصيدة للتأكيد على تفرده وتميزه في كل شيء، فهي إضافات كمية أثقل بها المعنى الشعري وأثقل بها بناء القصيدة.

أما تكرار "الفعل" فقد كان له حضور فاعل عند الشاعر، لتزاحم الأحداث التي مرت في حياته، وكثرة المصائب والهموم التي واجهته منذ الولادة حتى الموت، فكان الفعل أكثر قدرة على التعبير عن هذه التحولات الزمانية بأشكالها المختلفة لنقل تجربته الخاصة به لتثير إحساساً لدى المتلقي وتكسب الشاعر جمهوراً متعاطفاً "فالشاعر بشر يتحدث إلى بشر ويعمل جاهداً ليعثر على أجود الألفاظ في أجود نسق لكي يجعل تجربته تعيش مرة أخرى لدى الآخرين"(2) .

ص: 441

لقد سعى الشابي من تكرار الفعل إلى أن يجعل منه حدثاً فاعلاً سواء أكان ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً، ليستوعب جزئيات حياته وهمومه وآلامه بتراتب وتناسق في شكل الكلمة وحروفها، فتلاحم أجزائها ومخارجها تعنى توحد الرسالة التي يحملها الشاعر، فيلغي دور الفاعل والمفعول الظاهرين ويغيبهما في ذاته فتتماهى هذه الفاعليات وتنصهر في ذات الشاعر ليؤكد قوته وتصميمه على إحداث التغيير يقول:

بمهجتي في شبابي الثمل

لكنني سمعت رنتها

أشدو بحزني كطائر الجبل

سمعتها فانصرفت مكتئباً

صوت الليالي ومهجة الأزل

سمعتها أنةً يرجعها

كجدول في مضايق السبل

سمعتها صرخة مضعضعة

شوق إلى عالم يضحضحها (1)

سمعتها رنة يعانقها

ص: 442

فكرر الفعل (سمعتها) مرات متتالية بنغمة موسيقية واحدة وتشكيل أسلوبي موحد (فعل+ فاعل+ مفعول به) وعمل على ربط هذا المكوّن الأسلوبي بمميز يستوعب ذات الشاعر وهمومه (أنةً، صرخة، رنةً) بشكل يتفق مع آلام الشاعر وصرخاته التي يسعى للبحث لها عن مخرج وتنفيس، لأنه الوحيد الذي يسمع شكوى نفسه وعذاباتها منذ الولادة ولذلك جعل من كل فعل من هذه الأفعال وسيلة للتأكيد على هذا المعنى لإظهار التجبر والإرادة القوية ليحول هذه الصرخات والأنات إلى أشواق وآمال تسمو فوق الجسد والروح، لتنقل وعي الناس من الجهل إلى النور عبر هذه التناغمات الموسيقية المتشابهة التي تستوعب غربته واغترابه، لم يكن ليتحقق له ذلك لو اختلفت الكلمات وتنوعت لأن التعبيرات إذا اختلفت شكلاً فإنها تختلف معنى كما يقول بلومفيلد (1) . وقد ساعده على ذلك أيضاً اعتماده على الطبيعة ولجوئه إليها ليجعل من هذه الصور أكثر فاعلية وقدرة على إحداث التغيير (طائر الجبل، صوت الليالي، كجدول

) . وهذا اللجؤ إلى الطبيعة وانعتاقه إلى أسرارها وجمالها جعله يتخذ بعض صور التكرار للتعبير عن رؤيته الخاصة تجاه عالم الغاب بعيداً عن الوصف والرصف بحثاً عن الحرية والفرح والمثال الذي يسعى إليه، لذلك نراه يصر على أداء هذه الرؤية بأسلوب معين وبكلمات تثري هذه التجربة وتنمي التفاعل بينه وبين المتلقي، فيختار الكلمات التي تستطيع أن تستوعب هذا الحب والانعتاق للطبيعة والتماهي في جوهرها بحيث يصبح جزءاً منها يقول:

في فتنة الدلال الملول

كبليني بهاته الخضل المرخاة

وسحر مقدسي مجهول

كبلي بكل ما فيك من عطر

ري وأحلام قلبي الضليل

كبليني يا سلاسل الحب أفكا

حراً في مثل هذي الكبول (2)

كبليني فإنما يصبح الفنان

ص: 443

(فكبليني) تفيد الانعتاق في عالم الطبيعة، لذلك نراه يشكل هذا التوحد الأسلوبي توحداً في المشاعر والأحداث، لتشكل صوتاً قوياً يدوي في أعماق هذا الغاب الساحر، لا يستطيع أي فعل آخر أن يقوم مقامه وأن يعطي هذه القوة المؤثرة في نفس المتلقي، وهكذا يقوم التكرار الصوتي والتوتر الإيقاعي بمهمة الكشف عن القوة الخفية في الكلمة (1) .

ويتشكل تكرار الفعل عند الشابي بأنماط أسلوبية متنوعة تبعاً لتنوع أنماط حياته وهمومها، وقد استوحى مظاهر هذا التكرار في غالبه من الطبيعة بمظاهرها المختلفة، فيصور من خلالها مراحل حياته وكأنه يكتب ويرسم صفحات حياته من خلال الطبيعة التي يتوحد معها فتتماهى ذات الشاعر الفاعلة لتبرز بوضوح حدثية الفعل والمفعولية عبر منظومة زمنية واحدة تحمل في ثناياها مفاجآت عديدة واحتمالات كثيرة جاءت عبر حرف الفاء والواو التي وقعت بعد المنظومة الزمنية:

ويرى الآفاق فيبصرها

زمراً في النور تراصده

ويرى الاطيار فيحسبها

أحلام الحب تغرده

ويرى الأزهار فيحسبها

بسمات الحب توادده

ويرى الينبوع ونضرته

ونسيم الصبح يجعده

ويرى الأعشاب وقد سمقت

بين الأشجار تشاهده (2)

ص: 444

فكرر الفعل (يرى) في بداية كل سطر شعري وأخذ حيزه المكاني والزماني في ذاكرة الشاعر لأنه يقوم على اليقين فيؤكد الحضور للذات الغائبة في عالم الطبيعة، ليظهر الصدق في نقل تجربته وتصوير مراحل حياته وأفكاره. وتتعدد لوحات الرؤيا والآمال التي يبحث عنها الشاعر (الأطيار، الأزهار، الينبوع، الأعشاب) وهي من جزئيات الطبيعة ملازمة لها متوحدة معها، فجسد في هذا التتابع والتعاقب عبر حرفي الفاء في (فيحسبها) والواو في (ونضرته وقد) التي تشير إلى نسق زمني مختلف عن نسق البداية من حيث التشكيل، لكنها تتفق معها في المعنى (فيحسبها أحلام) وبذلك يكشف التكرار عن دلالات وإيحاءات تعكس لهفة الشاعر لاستغلال كل لحظات حياته لاحداث التغير النوعي في المجتمع الذي سبب له صدمة اجتماعية وسياسية جعلته ينسحب من حلبة الحياة والتحلل من قيودها الذي منحه بعض العزاء في العودة إلى الحياة الأولى إلى نوع من البكارة البدائية في تلمس حقائق الوجود، عاد إلى طفولة الإنسان وبذلك عثر على شيء من فردوسه الضائع فماتت فيه حياة الجماعة وبقيت حياته الخاصة القائمة على النشوة الصوفية في معانقة الكون (1) . فكان تكرار الفعل (يرى) بمثابة البؤرة المركزية لهذه النشوة الكونية. وكأنه بذلك يتعبد في محراب الطبيعة ليكشف سر نفسه وسر الطبيعة بفعل يقيني لأن عزلته كانت عزلة تأمل ومعرفة.

لقد وظف الشابي تكرار الفعل فجعل منه أداة للتعبير عن الأمة وهمومه سواء منها الخاصة أو العامة، وجاء ذلك بشكل رأسي يعمق إحساسه بهذه الهموم ويحفر في عمق النص بشكل متوال عبر طرائق أسلوبية منها:

ص: 445

1 – فعل ماضي + ضمير الفاعل المتوحد مع الفعل فتتماهى فيه ذات الشاعر لتشكل بذلك قوة فاعلة في إثراء التجربة الشعرية والتنفيس عن المكفوتات الداخلية فيسمو فوق هذه الآلام فيحيا حياة سامية كما في قوله (ظمئت إلى)(1) الذي كرره أربع مرات في بداية كل سطر شعري، فاستطاع أن يولد من الفعل ظمئت صوراً شعرية ذات أبعاد نفسية مختلفة ودلالات متنوعة معتمداً في ذلك على الترديد (إن العنصر الذي يتردد أقوى من العنصر المفرد)(2) وبذلك يكسب همومه حضوراً وتأثيراً في نفس المتلقي وهو بهذا يحاول أن يجعل من التكرار وظيفة جمالية لأنها تقوم بمثابة المولد للصورة الشعرية وفي نفس الوقت الجزء الثابت أو العامل المشترك بين مجموعة من الصور الشعرية مما يحمل الكلمة دلالات وإيحاءات جديدة في كل مرة، وتعكس في نفس الوقت الحاح الشاعر على دلالة معينة تختزل موقفه الجمالي" (3) وبذلك يعد الفعل طريقة للتعبير عن الرفض والتمرد على الواقع ورغبة جامحة في التحول.

ص: 446

2 – فعل الأمر + فاعل محذوف + مفعول به ضمير متصل (خذني إليك)(1) الذي كررها ثلاث مرات في بداية السطر الشعري للتعبير عن عمق المأساة لفقده والده وحجم المسؤولية التي تركها له فتحمل أعباء حياتية جديدة، وبذلك فقد شكل من هذا الفعل وحدة صوتية وموسيقية ذات إيحاءات ثابتة باتجاه الموت الذي يرى فيه المخلص من هذه الحياة وآلامها وهمومها ومسؤولياتها، ليبعث من جديد فيعيش فجراً جديداً وحياة أفضل (فقد أصبحت أرقب في فضاك الجون فجري) وبذلك يتخلص من عبثية الحياة وجهل أبنائها ورجعيتهم ويعيش في عالم مثالي تسوده المحبة والإخاء وصفاء العلاقات الاجتماعية. من هنا يمكن القول أن أنماط الأفعال الثلاثة (الماضي والمضارع والأمر) جعل منها بؤرة مركزية لمبدأ الثورة والتمرد والرفض لهذا الواقع الذي يسعى للخلاص منه، فلا يعنيه الماضي المؤلم ولا الحاضر الرجعي وإنما يبحث عن زمن جديد يحقق فيه ذاته لذلك بدأت دوائر الزمن عنده من (ظمئت إلى كبليني إلى خذني) لتعلو في آخر أنفاسها وتنطلق دون قيود ولا حدود وهو بذلك يعكس ذاته التي تسعى للإنفلات والتحرر من قيود الزمن القاسية وقيود المجتمع الزائفة لإيجاد طريقة مثلى يعيش بها إنسانيته في عالم اللا نهاية فيخفف بذلك من حدة الصراع والتشاؤم الذي يعلو أفكاره أحياناً. ولهذا فقد وقعت هذه الأفعال على اختلاف أشكالها في بداية الأبيات الشعرية، لتعكس هذه الانطلاقة القوية عند الشاعر بتجاوزه حدود الزمن والانفلات من إساره.

أما تكرار الحرف وهو أقرب ما يكون بالصوت المعزول فيرى بالي أن المادة الصوتية تكمن فيها إمكانيات تعبيرية هائلة، فالأصوات وتوافقها وألعاب النغم والإيقاع والكثافة والاستمرار والتكرار والفواصل الصامتة كل هذا يتضمن بمادته طاقة تعبيرية (2) .

ص: 447

إن ظاهرة تكرار الحرف موجودة في الشعر العربي، ولها أثرها الخاص في إحداث التأثيرات النفسية للمتلقي فهي قد تمثل الصوت الأخير في نفس الشاعر أو الصوت الذي يمكن أن يصب فيه أحاسيسه ومشاعره عند اختيار القافية مثلاً، أو قد يرتبط ذلك بتكرار حرف داخل القصيدة الشعرية يكون له نغمته التي تطغى على النص لأن الشيء الذي لا يختلف عليه إثنان أن لا وجود لشعر موسيقي دون شيء من الإدراك العام لمعناه أو على الأقل لنغمته الانفعالية (1) .

لقد كان شعر الشابي في معظمه، شعراً يعتمد على موسيقى راقصة، فكل حرف يوحي لك بموسيقية مميزة لا تستطيع أن تفلت من أسارها ولهذا فإن الحكم الذي يمكن أن نصدره على قصيدة يمكن أن نعممه على معظم قصائده لاعتمادها على الموسيقى الداخلية والخارجية، فشعره يفيض بهذا النوع الموسيقي الخاص، فتقرأ في كل حرف وكل نغمة ملامح تكوينه النفسي، وتشكيلاً متدرجاً لمراحل حياته التي تبدأ بالحرف ثم تنتهي إلى الكل وهو الكلمة التي تتشكل منها العبارة أو الجملة ثم إلى بيت الشعر.

ص: 448

لقد وقع تكرار الحرف عند الشابي في نمطين أولهما: الصوت الداخلي الذي يشيع في داخل القصيدة سواء أكان تكراره بشكل رأسي أم أفقي، وثانيهما: الصوت الخارجي المنظم (القافية) الذي بنى عليه الشاعر قصائده، لأن للقافية دوراً أساسياً في خلق جو من التماثل الموسيقي المتراتب الذي يقع في آخر البيت الشعري. لقد سار الشابي في نظم القوافي على ما عرفه العرب من بحور الشعر، فلم يضف شيئاً إلى البناء العروضي إلا أنه استطاع أن يحرك هذا الشعر خارج الحس وأن يمنحه لغة راقصة ذات همسات مؤثرة، فنراه نوّع في قوافيه فنظم على حرف الباء واللام والنون والسين والميم والقاف والباء والدال والثاء والراء والفاء والهاء والعين والتاء، ولكن بعض القوافي قد تكرر عنده أكثر من غيره كقافية (الدال والميم والباء والهاء) فجعل منها تراتيل موسيقية فرضتها طبيعة السياق، وذلك واضح من خلال تكراره لبعض القوافي، فالدال في قصيدة "قلت للشعر" تختلف عن الدال في قصيدة أغاني التائه (1) لاختلاف طبيعة الموقفين على أن النغمتين متساويتين في الروي. ومثل هذا يعمم على بقية القوافي التي تقع في نهاية السطر الشعري (2) .

لكنه كان يلجأ أحياناً إلى التلاعب بالقوافي محاولة منه أن يأتي بشكل جديد من القوافي أو بنمط أسلوبي مغاير للمألوف رغبة منه في الخروج من أسار التقليد والجمود، فهو من دعاة الثورة وليس السكون، فرسم من بعض صور تكرار الحروف أشكالاً هندسية بعد أن كانت ذات خط مستقيم أخذت تتجه إلى بؤرة مركزية جاذبة لكل الحروف وباعثه ومفجرة لطاقات الشاعر الإبداعية يقول:

ليت شعري

أي طير

بين أعماق القلوب

برنات النحيب

يسمع الأحزان تبكي

ثم لا يهتف في الفجر

بخشوع واكتئاب

لست أدري

أي أمر

أترى مات الشعور

في خشاشات الطيور

أخرس العصفور عني

في جميع الكون حتى

أم بكى خلف السحاب (3)

ص: 449

فكرر الباء وشكل منها بؤرة مركزية متوحدة الإيقاع كسعي الشاعر للتوحد مع ذاته ومع الآخرين ليصبح قوة فاعلة في مواجهة الظلم والجهل، ومثل هذا النوع من التوزيع الموسيقي قد يعكس حياة الشاعر التي بدأت صغيرة ثم تدرجت في السعي نحو التوحد. كما لجأ إلى رد العجز على الصدر في القوافي المقيدة المحدودة كما في قوله من قصيدة " أغاني التائه " التي جعل صدرها وعجزها يقوم على تكرار حرف الميم في كل بيتين ثم حرف الهاء في بيتين آخرين ثم يعود للميم بأنصاف الأبيات ضمن التوزيع الموسيقي للشاعر يقول:

كان في قلبي فجر ونجوم

وأناشيد وأطيار تحوم

وبحار لا تغشيها الغيوم

وربيع مشرق حلو جميل

كان في قلبي فجر ونجوم

فإذا الكل ظلام وسديم

كان في قلبي فجر ونجوم (1)

ص: 450

ومن الصور تكرار الحرف ما نراه في قصيدته (الصباح الجديد) مايسمى بالقافلة أو القرار وهي تلك المقطوعة الثلاثية التي تتكرر في عدة مرات ولم يكن هذا التكرار نتيجة ترتيب وافتعال بل مجاراة لضرورة نفسية وهي الإيحاء بالصبر والتجلد داعياً شجونه وجراحه إلى السكون، لإحساسه بأن فجر الصباح قريب، ثم يعمل على الربط بين هذه الوحدات الشعرية بقافية مكررة، فآخر بيت في المقطوعة الرباعية الثانية تقفية اللفظة الأخيرة من الرباعية التالية كما هو في لفظتي (الزمان والحنان) وكذلك الأمر في الرباعيتين الثالثة والرابعة حيث نجد وحدة القافية في البيتين الأخيرين في لفظي (الشموع، ربيع) فضلاً عن البناء الموسيقي الرائع في هذه القصيدة التي تتكون من القرار الثلاثي الذي تردد في القصيدة ثلاث مرات ثم من ست رباعيات، تفصل كل اثنتين فيها بين القرار الثلاثي المتكرر، وقد اهتدى بفطرته السليمة إلى ضرورة توحيد القافية في القرار الثلاثي وفي الأبيات الثلاثة الأولى من كل رباعية، وذلك لأن هذا التوحيد يشبع نفسه ويرضي إحساسه ويوحي بقوة الحاح تلك الأحاسيس التي يتابع موجها في روحه المعذبة بين الشك واليقين وبين الحياة والموت" (1) وما هذا التنويع التقليدي في بناء القصيدة – الذي سار فيه على مناهج الأقدميين إلا محاولة من الشاعر لإثبات نزعة التجديد في شعره وليتمكن من تنفيس همومه وآلامه التي صبغت حياته بالسوداوية (2) .

ص: 451

أما تكرار الحرف (الصوت المعزول) فلم يكثر منه في شعره ومرد ذلك كما اعتقد – أن الحرف لا يستطيع أن يستوعب هذه المصائب والهموم ولا يستطيع أن ينقل صوته الثائر وروحه المتمردة إلا عبر كل متكامل وهو الكلمة، كما أن الحرف يعبر عن أحادية الكلمة التي لا تؤدي وظيفة وحدها والشاعر نزّاع إلى الثنائية أو التوحد مع الآخر، ولكن هذا لا يمنع من تكرار الشاعر لبعض الحروف كحرف الواو بشكل خضع لبعض التداعيات الرأسية المعمقة كما في قصيدته "ياموت" حيث كرر هذا الحرف أربع وعشرين مرة يقول:

يا موت قد مزقت صدري

ورميتني من حالق

وقسوت إذا أبقيتني

وفجحتي فيمن أحب

وقسمت بالأرزاء ظهري

وسخرت مني أيَّ سخر

في الكون أذرع كل وعر

ومن إليه ابث سري (1)

فيوصل تكرار الواو في بداية السطر الشعري بشكل مكثف وكأنه بذلك يعرض ما آلت إليه حاله بعد وفاة والده بشكل مفصل متصل بتتابع أسلوبي يرتبط كل واو "بحدث معين يعكس من خلاله صورة من صور حياته (ورمتيني، وسخرت، وقسوت، وفقدت

) ، مما يجعلنا نجزم أن لهذا التكرار علاقة مع الموقف الحزين المؤلم الذي يقفه الشاعر فتكرار هذا الحرف يجسد حالة الشاعر النفسية وما آلت إليه بعد فقد عزيز عليه وطبيعة الموقف تستدعي هذا التكرار حتى أن الأفعال التي تلاحمت مع الواو جاءت متلاحقة متعاقبة وكأنه بذلك يشرح المراحل النفسية التي عانى منها الشاعر لأن والده كان بمثابة الفجر الجميل والمزمار الذي يعزف على أوتاره، وكأس خمره وغايته وكل ما في الوجود، فحمّل الواو دلالات متنوعة وطرائق أسلوبية متعددة تراوحت بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها أزمان متشابهة بعد وفاة والده ومن هنا جاء توسيعه وتعداده لدلالات الواو التي امتدت بشكل رأسي معمق مترابط متوالي، يخضع للتداعي وتعداد صور الأشياء (2) .

ص: 452

كما جعل من تكرار الحرف نغمة موسيقية تنقل القاريء إلى جو النص وإلى طبيعة الموقف الذي عاشه الشاعر فجسّد من خلال الكاف كشفاً واضحاً لتجربة الشاعر الانفعالية كما في قوله من قصيدة (صلوات في هيكل الحب) :

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام

كالسماء الضحوك كالليلة القمراء

كاللحن كالصباح الجديد

كالورد كابتسام الوليد (1)

فكانت الكاف تكشف عن حلقات متتابعة متصلة لمرحلة عاطفية خاصة عاشها الشاعر وهذه المراحل متلاحقة مترابطة، لكنها تشكل في بنائها وحدة موسيقية وإيقاعية مستقلة (كالطفولة أو كالصباح الجديد،

) هذا الإيقاع هو إيقاع نبضات قلب الشاعر وزفراته التي كان ينفثها تجاه محبوبته لأن الصوت يجسد الإحساس ويجعل السامع يستشعر المعنى بطريقة مباشرة (2) ، ولذلك يمكن القول أن بعض صور تكرار الحروف عند الشاعر ترتبط بهيكل القصيدة فتعكس الموضوع الشعري داخل التجربة أو يكشف عن الموقف الحقيقي للشاعر فنجد من هذه الأشياء الطبيعية التي صورها مسكناً لروحه ومشاعره التي تأذت وتألمت وهو يلجأ إليها كرهاً للإنسان وبغضاً لسلوكاته" (3) .

إن تكرار الحرف لايمكن أن يخضع لقواعد نقدية ثابتة يمكن تعميمها على النصوص الشعرية للشاعر لاختلاف طبيعة الأسلوب والدلالة التي يحدثها كل حرف ضمن السياق في النص الواحد، وإن كان تأثير الحرف الموسيقي لا يرقى في قوته إلى تأثير الكلمة ولكن مع هذا فإن لتكرار الحرف أثر واضح وبيين في ذهن المتلقي يجعله متهيئاً للدخول إلى عمق النص الشعري.

تكرار اللازمة:

ص: 453

وتعني بالإنجليزية Refreindre أو ما يسمى بالألمانية Rehrrier فإن معناها بالفرنسية الصدى وهي مأخوذة من الفرنسية القديمة Refreindre ومن اللاتينية Refirgere وتعني يكرثانية وهي عبارة عن مجموعة من الأصوات أو الكلمات التي تعاد في الفقرات أو المقاطع الشعرية بصورة منظمة. واللازمة على نوعين: اللازمة الثابتة وهي التي يتكرر فيها بيت شعري بشكل حرفي، واللازمة المائعة: وهي التي يطرأ فيها تغير خفيف على البيت المكرر (1) .

يعمل تكرار اللازمة على ربط أجزاء القصيدة وتماسكها ضمن دائرة إيقاعية واحدة، وكأنها قالب فني متكامل في نسق شعري متناسق، تجعل القاريء لها يحس بأنها وحدة بنائية واحدة ووحدة موسيقية ذات إيقاع واحد، يكشف هذا التكرار عن إمكانيات تعبيرية وطاقات فنية تغني المعنى وتجعله أصيلاً إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه وأن يجيء في موضعه، بحيث يؤدي خدمة فنية ثابتة على مستوى النص تعتمد بشكل أساسي على الصدى أو الترديد لما يريد الشاعر أن يؤكد عليه أو يكشف عنه بشكل يبتعد به عن النمطية الأسلوبية، ولذلك فإن أضمن سبيل إلى إنجاحه أن يعمد الشاعر إلى إدخال تغير طفيف على المقطع المكرر، والتفسير السيكولوجي لهذا التغير أن القاريء وقد مرّ به هذا القطع يتذكره حين يعود إليه مكرراً في مكان آخر من القصيدة وهو بطبيعة الحال يتوقع توقعاً غير واع أن يجده كما مر به تماماً، ولذلك يحس برعشة من السرور حين يلاحظ فجأة أن الطريق قد اختلف وأن الشاعر يقدم له في حدود ما سبق أن قرأه لوناً جديداً" (2) .

ويحتاج تكرار اللازمة إلى مهارة ودقة بحيث يعرف الشاعر أين يضعه فيجيء في مكانه اللائق وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة، فهو بسهولته وقدرته على ملء البيت وإحداث موسيقى ظاهرية، يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري (3) .

ص: 454

لقد استخدم الشابي تكرار اللازمة في شعره بشكل غير ثابت ولا مستقر شأنه في ذلك شأن حالته النفسية المضطربة فتراوحت اللازمة عنده بين تكرار العبارة وتكرار البيت الشعري، متفاوتة في عدد مرات التكرار، مع إحداث تغيير طفيف في هذه القوالب، ليجسد من خلالها آهاته وعذاباته فيرددها ويلح عليها لتجد صداها في أهل زمانه وأبناء عصره ليعملوا على التغيير في بنية المجتمع الاجتماعية والثقافية والسياسية نحو مجتمع أفضل، خصوصاً أن معظم الصور التكرارية ملازمة عنده قد وقعت في هذا الإطار.

لقد أخذ تكرار اللازمة عند الشاعر شكلين الأول: تكرار اللازمة غير الممتدة أو القصيدة فتتكون من كلمتين وتتكرر داخل القصيدة بشكل رأسي وثانيهما: اللازمة الطويلة التي تتشكل من سياقات لغوية ممتدة ذات صدى أوسع وانتشار أكثر لكثرة ألفاظها وإيقاعاتها ولكنها أيضاً – لم تأخذ شكلاً ثابتاً في عدد مرات التكرار أو عدد الكلمات فهي قلقة متغيرة.

أما النمط الأول فقد غلب عليه التشكيل الاسمي البسيط جاءت في دوائر الاستغاثة بالليل والرفقاء والحب متضجراً أو مستنجداً، مما يكشف عن حاجة الشاعر للهروب من الواقع بحثاً عن التغيير للانطلاق إلى فضاء رحب تحلم به نفسه، ويحقق فيه ذاته وتسمو روحه فوق العذاب، وإن كانت الجملة الاسمية لا تستطيع أن تستوعب هذه الأحداث فهي ذات فضاءات أقل تأثير وانتشار من الجملة الفعلية وتتميز بالسكون لكنه استطاع أن يمنح هذا النمط الأسلوبي شيئاً من الفاعلية والسلطة يقول:

يا رفيقي وأين أنت

قد أعمت جفوني عواصف الأيام (1)

فنراه يكرر اللازمة (يارفيقي) مرة أخرى بعد اثنى عشرة بيتاً يشرح فيها عذاباته وآلامه كي ينفس عما في نفسه لهذا الرفيق الذي وجد فيه المنقذ الأعظم فيقول:

يا رفيقي ما أحسب المنبع المنشود الأوراء ليل الرجام

ثم يكرر هذه اللازمة بعد بيتين مرة وبعد أربعة عشرة بيتاً مرة أخرى فيقول:

ص: 455

يا رفيقي لقد ضللت طريقي وتخطت محجتي أقدامي

فيجعل من هذه المسافات بين صور التكرار دائرة يتحرك فيها ليشرح لرفيقه ما أصاب الكون من فساد فأصبح جحيماً، لذلك جعل من هذه اللازمة وسائل وشرائح دفاعية ضد المجتمع والإنسان والكون رابطاً بين هذه المسافات بوحدة شعورية تنساب بين ثنايا السطور الشعرية وبوحدة لغوية مع حرف الواو أحياناً وأحياناً بأنماط أسلوبية متنوعة بين الجملة الفعلية والاسمية والإنشائية والخبرية ولكنها تتمحور وتدور حول نقطة الارتكاز (يارفيقي) وكأنه بذلك يكرر هذه اللازمة نفسياً في بداية كل سطر شعري.

أما اللازمة الطويلة فتكونت من وحدات متداخلة متلاحمة تلاحماً يحدث بها تأثيراً قوياً وفاعلية في نفس المتلقي، لأنها تمتد عبر سطر شعري متكامل وذات بناء لغوي متعدد ليتمكن من خلالها من التعبير والتنفيس عما يجول في خاطره من حسرات وآهات، فنوّع في مواقعها فكانت على شكل افتتاحيات وأقفال على طريقة نظم الموشحات فهو لا يخرج عن الإطار التقليدي لبناء القصيدة العربية، ومع هذا لا يستطيع إغفال هذه الظاهرة في شعره لأنها داخلة في صميم تركيب النص الشعري للشابي وتشكل محطات منتظمة في خلق إيقاعات شعرية متساوية "فاللازمة الرنانة المنتظمة عنصر مهم في بناء القصيدة، كما أن البناء الخلفي الذي أحدثته اللازمة استطاع أن يكوّن بنية متلاحمة متصلة"(1) فعمل على الربط بين أجزاء القصيدة من خلال هذه اللازمة يقول في قصيدة (الكآبة المجهولة) :

أنا كئيب، أنا غريب

كآبتي خالفت نظائرها

كآبتي فكرة مغردة

لكنني قد سمعت رنتها

سمعتها فانصرفت مكتئباً

سمعتها أنة يرجعها

غريبة في عالم الحزن

مجهولة من مسامع الزمن

بمهجتي في شبابي الثمل

أشدو بحزني كطائر الجبل

صوت الليالي ومهجة الأزل

إلى أن يقول:

مرت ليال خبت مع الأمد

روحي وتبقى بها إلى الأبد

كآبة الناس شعلة ومتى

أما اكتئابي فلوعة سكنت

أنا كئيب أنا غريب (2)

ص: 456

فكرر الشاعر اللازمة (أنا كئيب، أنا غريب) مرتين، شكل منها مساحات واسعة، وفضاءات ممتدة داخل النص الشعري، حتى أننا نلمح معاني هذه الكلمات ودلالالتها في كل سطر شعري مع اختلاف في الأنماط الأسلوبية المستخدمة والاشتقاقات اللغوية المتعددة، فكلمة (كئيب) ذكر مرادفات لها كآبتي، كآبة، اكتئاب) حتى أنه جعل من بعضها لوازم أخرى مساندة للازمة الرئيسية مثل قوله (أما اكتئابي فلوعة سكنت) فكررها مرتين، لأن إحساس الشاعر بالغربة والاغتراب جعله يوزع دوائر الإيقاع المكاني، حتى لا يدع مجالاً للشك بأنه غريب، بل إن غربته تختلف عن غربة غيره من البشر، فهي لا تفارقه سكنت روحه وتبقى معه إلى الأبد وأنها غربة قاسية (لم يسمع الدهر مثل قسوتها في يقظة ولا حلم) بينما كآبة الناس شعلة تتقد وتخفو ثم تزول، ولم يشاركه أحد هذه الهموم في هذه الغربة ولم يحس بها أحد أيضاً لأنه يعيش غربة روحية وفكرية لم يستطع التكيف مع واقعه الاجتماعي، فجنح إلى الهجرة الروحية فتعلقت همته ببيئة أخرى مثالية يحيا بها بروحه ويحلق فيها بخياله. ولكن هذا الإحساس لم يجعله يهرب من الواقع ليعشق ذاته وإنما كان هذا الإحساس دافعاً له للبحث عن عالم آخر، وبديل للعالم الذي تصفو فيه روحه ويتخلص من آثام الدنيا وشرورها وجهل الناس ولؤمهم (1) .

ولم يكتف بأن يجعل من اللازمة افتتاحية وانطلاقة لثورته وتمرده، بل جعل منها رابطاً قوياً بين مطلع النص ومركزيته فكثف هذه اللازمة في بؤرة النص يقول:

وبحار لا تغشيها الغيوم

وربيع مشرق حلو جميل

وابتسامات ولكن واساه

آه ما أشقى قلوب الناس آه

كان في قلبي فجر ونجوم

وأناشيد وأطيار تحوم

كان في قلبي صياح وإياه

آه ما أهول اعصار الحياة

كان في قلبي فجر ونجوم

فإذا الكل ظلام وسديم

كان في قلبي فجر ونجوم (2)

ص: 457

فجاءت اللازمة (كان في قلبي فجر ونجوم) قوية لها صداها منذ بداية تكرارها في كل سطر شعري جسد فيها ماضيه المشرق الجميل الذي فقده لعظم المصائب التي لحقت به، حيث كانت حياته صافية، وربيع حياته حلو جميل، لذلك نراه يؤكد على هذه اللحظات الحلوة التي مرت سريعاً عبر هذه الأساليب التكرارية المتلاحقة حيث وقعت في مسافات التوتر المختلفة بين اللازمة الأولى وكل من الثانية والثالثة، لأن اللازمة الأولى كانت أكثر قدرة على تجسيد الماضي بكل أحداثه وإشراقاته بينما الثانية والثالثة جاءت تؤكد وتردد ما آلت إليه حال الشاعر لينطلق بعد ذلك باحثاً عن صباح مشرق جميل فنراه في النص نفسه يلجأ إلى لازمة أخرى تجسّد ثورة الانطلاق والانعتاق من الماضي المظلم الذي تعيشه أمته وبني جنسه للبحث عن فجر وصفه بالبعيد متخذاً الطريقة نفسها التي كررها في المقطع الأول فيقول:

قد تقضي العمر والفجر بعيد

وانقضت أنشودة الفصل السعيد

أين غابي؟ أين محراب السجود؟

كيف طارت نشوة العيش الحميد؟

يا بني أمي ترى أين الصباح؟

وطغى الوادي بمشبوب النواح

أين نايي؟ هل ترامته الرياح

خبروا قلبي فما أقسى الجراح

يا بني أمي ترى أين الصباح؟

أوراء البحر! أم خلف الوجود

يا بني أمي ترى أين الصباح؟ (1)

فجسد من خلال هذه اللازمة الحلم الجميل الذي لازال يفكر به ويراوده في كل لحظات حياته، عبر عالم الطبيعة الذي اتخذه محراباً له يجد فيه نشوته وذاته لكثرة أسرارها وجمالها، كما يرى فيها الأنيس والرفيق الذي يشعر معه ويحس بآلامه وهمومه.

ص: 458

لقد حرص الشاعر على تجسيد لحظة الصراع بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال تكرار اللازمة أو بين الموت والحياة، ولكن ليس الموت النهائي إنما الموت الذي يبشر بحياة أخرى حافلة بالعطاء، لأن اللازمة تتكون من جملة من الأساليب اللغوية تبدأ بمقطع ثم تنتهي بالبيت الشعري الكامل، فهي أكثر قدرة على استيعاب هذا الزمن الممتد والفضائي الواسع الذي يبدأ بالماضي ليتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، لأن الماضي بالنسبة له هو فناء وموت وسكون والحاضر هو الحياة والانطلاقة التي تستشرف المستقبل، فالماضي هو الأمس والحاضر هو اليوم يقول من قصيدته جدول الحب بين الأمس واليوم التي تقع في ستين بيتاً يقول:

بالأمس قد كانت حياتي كالسماء الباسمة

واليوم قد أمست كأعماق الكهوف الواجمة (1)

ثم يكرر هذا المقطع بعد أربع وثلاثين بيتاً، فجعل عنوان القصيدة في تكرار لازمته وجسّد خلالها لحظة التجلي الشاعرية الماضية التي عاشها ضاحكاً حالماً، لحظة الحب للذات والآخر التي كانت (كبسمة القلب الثمل) فكان الحب ملاذه من الاغتراب والغربة التي عاشها فهو يطهر النفوس ويخلص الإنسان من شقائه ومحنته الكونية وهذا هو شأن الرومانسيين الذين يمجدون الحب ويعدونه أساساً من الأسس التي يجب أن يقوم عليها المجتمع إضافة إلى التقدم العلمي والمساواة والإخاء (2) ولذلك فإنه قد جسّد في هذه اللازمة التي تمثل انطلاقته وتحرره من عالم الأمس فرحة ونشوته في الحب الذي رآه في الطبيعة والمرأة (حيث العذارى الخالدات يمسن ما بين النجوم) ولكنه يلح على ثنائية الأمس واليوم أو الماضي والحاضر في ثنايا النص ليبقى النص مشدوداً يتحرك في إطار هذا الزمن المحدود الذي أراد من خلالها أن يصور حياته وما آلت إليه فنراه يكرر ويقول بين حين وآخر:

قد كان ذلك كله بالأمس بالأمس البعيد

والأمس قد جرفته مقهوراً يد الموت العتيد

قد كان ذلك تحت ظل الأمس والماضي الجميل

ص: 459

قد كان ذلك في شعاع البدر من قبل الأفول

واليوم إذ زالت ظلال الأمس عن زهري البديع (1) .

ثم يستمر في تجسيد ذاته في كل حرف وكلمة إلى أن بدأ الماضي يتلاشى (فذبلت مراشفه فأصبح ذاوياً نضو الكلوم وهوى لأن الليل اسمعه أناشيد الوجوم) فيعود مرة أخرى إلى اللازمة ويكررها كما هي بعد أن بان ليله، لأن الليل عند الرومانسيين يوحي بالانطلاق والتحرر فهو مليء بالأسرار وهو معبر إلى اللا نهاية المظلمة مثل مستقبل الشاعر المظلم لذلك فإن المعاني الشعرية التي طرحها بعد اللازمة الثانية جاءت تجسّد لحظة المستقبل وما آلت إليه حالة من جفاف الدموع، والغيوم الحزينة التي تغطي سماءه، حيث المرارة والآسى والكآبة، كما أنه عمل على اختيار صيغ نحوية تدور في فلك المستقبل فجاءت الأفعال مضارعة (تهتز، فتسير، يسيل، ينحن، يهرقن، فتدفقت) رابطاً ذلك بعالم الطبيعة الذي كان يمثل عنده مصدراً للحقائق الوجودية والإنسانية.

لقد حاول الشاعر أن يجعل من تكرار اللازمة نمطاً أسلوبياً ثابتاً مع اختلاف في بنائها اللغوي، فيجعلها أول القصيدة التي تشكل فاتحة لصرخته وآهاته ثم يكررها داخل النص مرتين أو ثلاثة بشيء من التساوي تقريباً في إعداد الأبيات بين كل لازمة إلا أنه يجسّد في كل بيت يأتي بعد اللازمة معاني وصور هذه اللازمة ليشكل منها بؤرة مركزية ويجعلها مصدراً لتوتره بل إنه أحياناً يجعل من عنوان بعض القصائد – كما ذكرنا سابقاً – مادة لتكرار اللازمة كما هو الحال في قصيدته (ياموت) فجاءت اللازمة في هذه القصيدة ضمن هذا التوجيه الأسلوبي يقول:

يا موت! قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري

ص: 460

فجسّد معاناته وعذاباته من هذا الموت الذي لا تفارقه صورته وهو لحظة الإحساس بالنهاية، فسيطر هذا الشعور على كل الأبيات التي وقعت بعد هذه اللازمة وحتى يؤكد ذلك فقد اتخذ من حرف الواو رابطاً بين اطراف هذه اللازمة ليعدد مآسي الموت ومصائبه وصوره البشعة التي تصيب البشرية (ورميتني، وقسوت، وفجعتني، ورزأتني، وهدمت، وفقدت) مع التأكيد على الفعل (فقد) الذي قضّ مضاجعه لفقده والده. ويبقى الموت في ذاكرة الشاعر هاجساً مؤلماً ومصيراً محتوماً، لكنه يدخله في دائرة السؤال والاستفهام الإنكاري الذي يقترب من حد الفلسفة، فالحياة ليس فيها إلا ألوان من العذاب خاتمته الموت يقول:

يا موت قد مزقت صدري

وقصمت بالأرزاء ظهري

يا موت ماذا تبتغي مني

وقد مزّقت صدري (1)

وتبدأ دائرة السؤال الفلسفي ليشرّح الموت ويكشف عن أسراره الخفية (بماذا تود) وبذلك يكشف عن حيرة الشاعر وقلقه من هذا المصير وخوفه من المجهول الذي ينتظره، ولكنه يستسلم لتداعيات الموت وعذاباته اليائسة ب (خذني) ليتخلص من شروره وشرور الإنسانية عامة. فقد أصبح ينتظر دوره في الفناء، ولذلك يجسد في اللازمة الثالثة قمة الاستسلام واليأس التي غطت معظم وجوه حياته، فيقرع الموت ويطلبه فيقول:

يا موت قد مزقت صدري

يا موت قد شاع الفؤاد

وغدوت أمشي مطرقاً

يا موت! نفسي ملّت الدنيا

وقصمت بالأرزاء ظهري

وأقفرت عرصات صدري

من طول ما أثقلت فكري

فهل لم يأت دوري

فجسّد في هذه اللازمة مشاعر الأسى والحزن واليأس وفقدان الأمل الذي يعتور حياته، ولذلك نراه يتعامل مع الموت كأنه شخص يناديه ويتمنى مجيئه لأن أجله كما يعتقد أصبح قريباً. من هنا يمكن القول أن الشابي يتخذ من هذه اللازمة وسيلة لإعادة ما في ذهنه وجوهر حياته يسقط عليها أو من خلالها همومه وآلامه وثورته.

ص: 461

وتتجلى الرتابة في تكرار اللازمة عند الشابي في قصيدته (الصباح الجديد) فيوسّع من حدودها الزمانية والمكانية فتقع في ثلاثة أبيات، ثم تتكرر بشكل منتظم دقيق بعد كل ثمانية أبيات، وكأنه بذلك يبحث عن صباح جديد منظم صباح يخلو من الألم والحزن يقول:

اسكني يا جراح

مات عهد النواح

وأطلّ الصباح

واسكتي يا شجون

وزمان الجنون

من وراء القرون (1)

فتمثل هذه اللازمة لحظة الانطلاقة الفعلية والتحرر المطلق من تبعات الماضي وجراحه، للسعي نحو مجتمع مثالي يجد فيه ذاته وحلمه، بصبر وحزم وقد جسّد ذلك في أفعال الأمر (اسكني) الذي يوحي بالشدة والحزم فقد مات عهد النواح وأطل الصباح من وراء القرون، فيطمئن نفسه وأساريره بهذا الحلم الجميل الذي يراوده، لذلك نرى حتمية هذا السكوت والسكون ومستوياته قد تمثلت في الأبيات التي جاءت بعد هذه اللازمة الأولى فهو قد دفن الألم، وأذاب الأسى، ساعياً نحو صباح جديد وفجر جديد يعطيه الحياة والأمل، لأن هذا السعي المستمر الدؤوب جعله مشدوداً لا يتحرك إلا في دائرة الفعل (اسكتي) وكذلك عمل على ربطه بقافية رباعية تنتهي بالنون (الزمان، الحنان) :

اتغنى عليه برحاب الزمان

والهوى والشباب والمنى والحنان

كما سعى إلى ربط الرباعيتين الثالثة والرابعة باللازمة الأساسية ثم عمل على ربطهما بقافية موحدة هي العين (الشموع، وربيع) يقول:

اسكني يا جراح

مات عهد النواح

وأطلّ الصباح

واسكتي يا شجون

وزمان الجنون

من وراء القرون (2)

ثم يربط بين هذه الرباعية والرباعيتين التي جاءت بعدها بحرف العين فكانت الأولى:

وحرقت البخور وأضأت الشموع

ثم:

سوف يأتي ربيع إن تقضى ربيع

ص: 462

ولازال الأمل قوياً لدى الشاعر فهو مصمم على البحث والسعي لإيجاد مجتمع مثالي مميز فإن ذهب ربيع سوف يأتي ربيع. كما عمل على الربط بين اللازمة الثالثة والرباعيتين اللتين جاءت بعدها بحرف العين أيضاً بكلمتي (البقاع – الوداع) ليستمر تجسيد الوعي بهذا الإحساس القوي وليؤكد على تصميمه وعزمه على توديع الأشجان والهموم وذلك عبر سكون الجراح وسكوت الشجون فيقول:

اسكني يا جراح

مات عهد النواح

وأطلّ الصباح

واسكتي يا شجون

وزمان الجنون

من وراء القرون

ثم يربط بين الرباعيتين بعد هذه اللازمة بوحدة شعورية منسقة ومتناسقة مع معاني اللازمة فربط بينهما بحرف العين:

لم يعد لي بقاء فوق هذي البقاع

ثم في الرباعية الثانية:

ونشرت القلاع فالوداع الوداع

وهذا التوحد بين هذه الرباعيات يشبع نفسه ويرضي إحساسه ويوحي بقوة تلك الأحاسيس التي يتابع موجها في روحه المعذبة المترددة بين الشك واليقين وبين الحياة والموت (1) .

تكرار البداية:

ويشكل هذا النوع من التكرار مساحة أكبر مما شكلته أنواع التكرار الأخرى، ويبدو أن ذلك يعود إلى نفسية الشابي المضطربة المتوترة التي تعتقد أن تكرار البداية، هي البداية القوية المكثفة للانطلاق والتحرر والقوة والتمرد وهي صرخته القوية أمام الجهل والتخلف والفساد، وبذلك تكون أكثر فاعلية خصوصاً إذا عرفنا أن تكرار البداية قد تكثفت عند الشاعر بشكل رأسي يعمق صرخاته وآهاته ويرددها ليسمع الآخرون صداها وأوجاعها عبر إيقاعات موسيقية متوالية وبناءات لغوية مختلفة تراوحت بين الكلمة والعبارة التي يحتويها صدر البيت الشعري لا تتجاوزه فهي غير ممتدة عبر النص الشعري حتى لا تستنفد طاقاته الشعرية وآهاته النفسية، فكلما امتدت داخل السطر الشعري كلما فقدت من بهرجها وفاعليتها.

ص: 463

لجأ الشابي إلى أنماط أسلوبية متنوعة وأنماط لغوية متعددة، جسّد في كل نمط نوعاً خاصاً من المعاناة وشرح من خلالها ما يدور في نفسه من حيرة وقلق واضطراب فكانت بمثابة وسائل لاستيعاب وتخفيف هذه الهموم، لذلك نراه ركز على أسلوبي النداء والاستفهام كما ركز على الجملة بأشكالها المختلفة. فشكل من أسلوب النداء جملة مركزية ثابتة ينطلق ليكشف عما في أعماقه من خلال حرف النداء (يا) الذي تكرر في قصائده الأشواق التائه (1) ومناجاة عصفور (2) والنبي المجهول (3) ونشيد الأسى (4) يقول من قصيدته (ياشعر) :

يا شعر أنت فن الشعور وصرخة الروح الكئيب

يا شعر أنت صدى نحيب القلب والصب الغريب

يا شعر أنت مدامع علقت بأهداب الحياة

يا شعر أنت دم تفجر من كلوم الكائنات

يا شعر قلبي – مثلما تدري – شقي مظلم

فيه الجراح البخل يقطر من مغاورها الدم (5)

ص: 464

فكرر أسلوب النداء (يا شعر) واتخذه بداية وفاتحة لانطلاقته ليجعل مع كل بداية صورة مستقلة تكشف عن هم الشاعر نحو مفهوم الشعر وأبعاده وما أصابه من غربة في عالم لا يفهم معناه، فيعزز من قيمته ويعلي من شأنه، فلم يبق له سوى الشعر يبوح له بأسراره وهمومه وآلامه، فيسكن وجدانه، لذلك فقد جسّد كل هذا في تتابع الصفات التي وقعت بعد اسلوب النداء (فم الشعور وصرخة الروح، صدى نحيب القلب، مدامع، دم تفجر

) . ولإدراكه بأن هذا الشعر يعاني كما يعاني فهو كمعادل موضوعي للشاعر. ثم نراه يعود إلى هذه البداية الأسلوبية مرة أخرى فيكرر هذه البداية سبع مرات متوالية، ليعلن صرخته ودعوته الأكيدة لإنقاذ الشعر الذي أصابه ما أصاب الشاعر من غربة فكرية وروحية فيحاول أن يعطيه بعداً ومفهوماً أوسع وأشمل فيجعله وسيلة محاكاة للنفس البشرية ووسيلة للتعبير عن خيال الشاعر فلم تعد رسالة الشاعر ألفاظاً منمقة وعبارات مرصعة وكلام مرصوص (1) وكأنه بذلك يثور ويتهكم على القصيدة العربية الكلاسيكية، لذلك نراه يلح على اتخاذ هذا الأسلوب دون غيره لأنه – كما يعتقد – الأقدر على إثراء تجربته ومنحها أبعاداً تستطيع أن تخلق جواً من التفاعل بين المبدع والمتلقي مما أدى ببعض الباحثين إلى تعريف الأسلوب على أنه اختيار يقوم به المنشئى لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معين ويدل هذا الاختيار أو الانتقاء على إيثار المنشء لسمات لغويةعلى سمات أخرى بديلة (2) ، إضافة إلى ذلك يمكن أن يفسر هذا التكرار في أسلوب النداء عند الشاعر بتداعي المعاني للصور المرئية في ذهن الشاعر (3) .

ص: 465

إن لجؤ الشاعر إلى هذه السمة اللغوية أو إلى هذا الأسلوب يجعلنا نتساءل عن سبب ذلك الاختبار الأسلوبي، ولكن إذا أنعمنا النظر في القصائد التي وقعت ضمن دائرة تكرار البداية سواء أكانت بأسلوب النداء أو الاستفهام أو غير ذلك وجدنا الشاعر يجسّد عبر هذه الشرائح حالاته النفسية ومشاعره الخاصة وهمومه وآلامه التي يعانيها فهي تتوزع ضمن محور الغربة والاغتراب الفكري والروحي التي تمثلت في قصيدته التي أشرنا إليها سابقاً (يا شعر) أو ضمن آلامه الخاصة وأوجاعه الذاتية سواء أكانت جسدية أو نفسية، وتتمثل في بعض قصائده التي بدأت بأسلوب نداء أو استفهام أما المحور الثالث فهو الصدمة الاجتماعية التي واجهته في أبناء شعبه لما فيهم من جهل وتخلف وفساد فيجعل من نفسه مصلحاً مثالياً في تأسيس مجتمع تسوده المحبة والأمان والعدل والمساواة. لذلك نراه مثلاً عندما يود الحديث عن معاناته الذاتية جسدية أو غير جسدية يجسّد ذلك عبر أسلوب النداء والاستفهام ليعلن الرفض والخضوع والاستسلام لهذا الداء أو الوجع، فهو دائم البحث عن مخرج من هذا المأزق يقول:

يا قلب كم فيك من دنيا محجبة

يا قلب كم فيك من كون قد اتقدت

يا قلب كم فيك من أفق تنمقه

يا قلب كم فيك من قبر قد انطفأت

يا قلب كم فيك من غاب ومن جبل

يا قلب كم فيك من كهف قد انبجست

كأنها حين يبدو فجرها إرم

فيه الشموس وعاشت فوقه الأمم

كواكب تتجلى ثم تنعدم

فيه الحياة وضجت تحته الرحم

تدوي به الريح أو تسمو به القمم

منه الجداول تجري ما لها لجم (1)

ص: 466

فكرر (يا قلب كم فيك) في بداية كل سطر شعري وألح على هذا النمط الأسلوبي بشكل رأسي متعاقب ليؤكد على أهمية القلب الذي يشكل مصدراً لوجعه وآلامه، فهو مصدر حياة الإنسان وسر شقائه وسعادته ومستودع الأسرار أو كما يقول عنه الشاعر كون مدهش عجيب، ويجعل كل بداية مرتبطة بصورة من الطبيعة لتسري عنه الهموم فهي مصدر حلمه وأنيسه الذي يشعر معه، ويجعلها على نقيض وصراع مع الحياة التي يفرَّ منها فحرمته ملذاتها وزينتها وجعلته غريباً يشقى بغربته ففر منها إلى عالمه الخاص وهاجمها عبر شريحة أسلوب النداء كما هاجم أناسها الذين لم يفهموه ولم يشاركوه حزنه يقول:

يا صميم الحياة كم أنا في الدنيا

بين قوم لا يفهمون أناشيد فؤادي

في وجود مكبل بقيود

غريب أشقى بغربة نفسي

ولا معاني بؤسي

تائه في ظلام شك ونحس (1)

فجعل من تكرار (يا صميم الحياة) نقطة مركزية يعود إليها كل حين ليبدأ موقفاً جديداً يعكس بعضاً من ملامحه النفسية ورؤيته التي يسعى جاهداً للتأكيد عليها. كما استطاع أن يحدث نغمة موسيقية عبر أسلوب النداء الذي يعبر عن صرخات الشاعر وآهاته وعذاباته.

أما تكرار البداية الذي وقع في أسلوب الاستفهام فلا يكاد يختلف أو يخرج من حيث الدلالة عما لاحظناه في تكرار النداء، إلا إن اختلاف الصيغ والسمات اللغوية قد يكشف عن أوجاع أخرى لدى الشاعر سواء أكانت ذاتية أم فكرية أم اجتماعية، وإن كان الشابي في معظم صور التكرار يحاول أن يؤكد على رومانسيته في هروبه من الواقع وذم الحياة والهروب من المدينة واللجؤ إلى الطبيعة أو لنقل عشق الطبيعة. وما أسلوب الاستفهام إلا حلقة متصلة من حلقات التصوير النفسي والحيرة والقلق الذي يسكن نفس الشاعر أو أنه يسعى من خلال هذا الأسلوب إلى أن يكون له تميز خاص واستقلالية ذاتية في بحثه عن المفقود وحضور فاعل في الوجود عبر ثنائية الحضور والغياب يقول:

ما للحياة نقية حولي

ما للصباح يعود للدنيا

ص: 467

ما لي يضيق بي الوجود

ما لي وجمت وكل

ما لي شقيت وكل

وينبوعي مشوب؟

وصبحي لا يؤوب

وكل ما حولي رحيب

ما في الغاب مغترد طروب

ما في الكون آخاذ عجيب (1)

فشكل من هذا التكرار رابطاً بحرف الاستفهام (ما) لتكون نسقاً بنائياً قوياً مؤثراً، وبذلك يمنح التكرار قوة فاعلة في إيجاد وحدة شعورية متلاحقة كما أنه يعكس رؤية الشاعر وهدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، وهو الخروج من هذه الحياة الصاخبة إلى حياة دافئة وما هذه التساؤلات إلا انعكاس لما يدور في ذهن الشاعر من أمور تتعلق بذاتيته وتكوينه النفسي الذي تبدو عليه ملامح التشاؤم والسوداوية من خلال أسلوب التضاد الذي يجمع بين الحاضر والغائب، فالحاضر هو الواقع السيء لحال الشاعر والمتفرد في حزنه والغائب هو الغد المنتظر والفضاء الرحب الذي يسعى إليه (وهكذا يستخدم الشابي التضاد أداة جمالية، يصور بها مواقف متعددة وصفات متعارضة

ويكشف بها عن الأمل ويستشرف من خلالها آفاقاً جديدة وأداة للمفاضلة بينه وبين الآخرين) (2) .

كما لجأ إلى أدوات استفهامية أخرى (ماذا، أين) لتكشف هي الأخرى عن حيرة الشاعر وقلقه على هذا الوجود أو المصير أو رغبته في البحث عن عالم آخر غير المدينة أو شعب آخر غير هذا الشعب على عادة الرومانسيين، فالمدينة رمز الشرور وبؤرة للمفاسد، والطبيعة رمز الصفاء والطهارة والعفة، يجد فيها ذاته وتسمو فيها روحه على كل القيم يقول:

ماذا أود من المدينة وهي غارقة

ماذا أود من المدينة وهي لا

ماذا أود من المدينة وهي لا

ماذا أود من المدينة وهي مرتاد

بموّار الدم المهدور

ترثى لصوت تفجع الموتور

تعنو لغير الظالم الشرير

لكل دعارة وفجور (3)

ص: 468

فاستخدم أسلوب تكرار البداية عبر نمط أسلوبي متلاحق (ماذا أود من المدينة وهي لا) لينفي عن المدينة صفات الخير والمحبة بشكل متواصل عميق لا يجعل للقاريء أدنى شك للتصديق فيما يسعى إليه، لأن كل صيغة من هذه الصيغ تحمل في ثناياها الرفض والتمرد على هذا الواقع، فجردها من كل الصفات الطيبة ليجعل المتلقي يعيش معه ثورته وتمرده فيشاركه هذه الروح التي تمثلت في ذات الشاعر صاحب الرسالة الذي يسعى بمفهوم شامل للإصلاح والتغيير برغبة جامحة قوية (أودَّ) وقد ألح عليها في كل بداية ليعمق من دلالتها.

ويكشف تكرار البداية عن نزعة التحسر والأسى والاشفاق الكامنة في نفس الشاعر من خلال أداة الاستفهام (أين) على أبناء عصره الذين يعانون الجهل والفساد وهم أصحاب رسالة لهم ماض مجيد وقد تحقق له ذلك بتكرار هذه الأداة في صدر الأبيات وعجزها بما يمكن أن يسمى رد العجز على الصدر ثم ربطها بصفات مفقودة عند أبناء شعبه (الطموح، الأحلام، الحساس، الخافق

) .

أين يا شعب قلبك الخافق الحساس؟

أين يا شعب روحك الشاعر الفنان؟

أين يا شعب فنك الساحر الخلاق؟

أين عزم الحياة لا شيء إلا

أين الطموح والأحلام؟

أين الخيال والإلهام؟

أين الرسوم والأنغام؟

الموت والصمت والأسى والظلام (1)

فتكشف هذه التساؤلات عن التوتر الانفعالي بشكل مكثف متعاقب، كما تكشف عن طبيعة البنية المكوّنة لهذا التساؤل، وكأن الشاعر يصور ما في ذهنه من أمور تتعلق بمصير هذا الشعب وخوفه على مستقبله لهذا جاءت البنية متعمقة في نمط رأسي وأفقي ممتد داخل القصيدة إلا في البيت الأخير جاءت رأسية لأنه أراد أن يعكس واقع الشعب الذي وصفه بالموت والصمت والأسى والظلام وكأنه يأسى من توالي النداءات والتساؤلات التي لم تلق صدى في تونس الثورة.

ص: 469

أما تكرار البداية الذي وقع في بناء الجملة على اختلاف أنواعها، فكانت أكثر حضوراً في ذهن الشاعر، وأكثر قدرة على استيعاب ما في ذهنه وأكثره قدرة على عرض حاله ونفسيته، فجاءت بدايات الأفعال متحركة ثائرة تصور ما آلت إليه حالة من غربة روحية واغتراب فكري ونفسي بينما الجملة الاسمية تميزت بالسكون والهدوء والثبات ولهذا نراه قد أكثر من هذا النمط الأسلوبي من خلال الضمير أنت فكرره كثيراً في بداياته. ففي تكرار بداية الفعل يركز على الفعل الماضي الذي يعكس ما أصابه في حياته يقول:

شردت عن وطني السماوي الذي

شردت عن وطني الجميل أنا الشقي

في غربة روحية ملعونة

شردت للدنيا وكل تائه

ما كان يوماً واجماً مغموماً

فعشت مشطور الفؤاد متيما

أشواقها تفضي عطاشا هيما

فيها يروع راحلاً ومقيما (1)

فيجسد عبر الأفعال (شردت) معاناته التي وقعت له قهراً عنه بفعل قوى خارجية فرضت عليه فتقبلها وحاول الخروج عليها، وهذا الفعل يحمل في ثناياه الحزن والتعذيب والأسى الذي كرره بشكل متعاقب متوالٍ وكان تشريده عن وطنه وعن الدنيا بكل ما فيها، ولذلك وصفها بأنها (غربة روحية ملعونة) فخلق مع كل فعل صورة من صور العذاب والتشريد.

أما الجملة الاسمية التي شكل منها تكرارات بداية متنوعة تميزت بالسكون والانعتاق من الماضي، عبر الضمير (أنت) الذي كرره في معظم بداياته والضمير (نحن) وشكل منهما أبنية متناسقة قوية، تعكس رغبة الشاعر وحبه لهذه الأشياء وتعلقه بها مثل (شعر، القلب، الحب) تلك التي تمنحه الهدوء وتشعره بوجوده وإنسانيته لكنه عندما كان يتحدث عن (الشعر والحب) يصفهما بأنهما قطعة من فؤاده، وقصة حياته، ومعبده ومحرابه وأحلامه بينما كان يصور لحظة العذاب والألم من خلال حديثه عن القلب، فالقلب (حقل مجدب وليل معتم) ولذلك كان يكرر الضمير أنت بشكل متتابع يجعل المرء يحس بغنائية متسارعة متعمقة في الذات يقول من قصيدته (قلت للشعر) :

ص: 470

أنت يا شعر فلذة من فؤادي

أنت يا شعر قصة عن حياتي

تتغنى وقطعة من وجودي

أنت يا شعر صورة من وجودي (1)

فيكرر هذه البداية أربع مرات متوالية يجسّد من خلالها حبه للشعر فهو الأنيس وليس له في الوجود إلا هذا الصديق الذي يستوعب زفراته وآهاته، كما جاء تجسيده عبر إيقاع العلامات المتراتب في تنوين الضم (قصة، فلذة، قطعة) . وتبدو هذه النزعة العلاماتية المتراتبة أكثر وضوحاً من خلال تكرار الضمير وإيقاع العلامات في قصيدته (إلى قلبي التائه) فجعل عنوان القصيدة هو موضوعها بإلحاح شديد على هذا الضمير مما يجعل القاريء لا يفلت من هذا الاسار القسري لسلطة النص يقول:

أنت ليل معتم تندب فيه الباكيات

أنت كهف مظلم تأوي إليه البائسات

أنت صرح شاده الحب على نهر الحياة (2)

فكرر الضمير (أنت) عشر مرات متعاقبة وبذلك يعطيه قوة وفاعلية استمدها من الصفات المتعاقبة – أيضاً – تعاقباً مستمراً متصلاً عبر تنوين الضم المتلاحق، فجعل من الضمير ولازمته مرتكزاً يبنى عليه في كل مرة معنى جديداً وصفة جديدة، وبهذا يصبح التكرار وسيلة إلى إثراء الموقف وشحذ الشعور إلى حد الامتلاء (3) .

ويحاول الشاعر أن يجعل من تكرار البداية بالضمير (أنت) قوة فاعلة وسلطة قوية في نفس المتلقي للتأثير عليه وجعله يعيش جو النص ليؤكد على قيمة الحب بكل أنواعه لأنه يطهر النفوس، وقد تجسد الحب في محبوبته وتقديسها والاشادة بها والخضوع لسلطانها وقد جاء ذلك عبر تكراره للضمير أنت بشكل أفقي ورأسي للتأكيد على قيمة هذا المفهوم وإعلاء شأنه يقول:

أنت أنت الحياة في قدسها السامي

أنت أنت الحياة في رقة الفجر

أنت أنت كل أوان

أنت أنت الحياة فيك وفي عينيك

وفي سحرها الشجي الفريد

وفي رونق الربيع الوليد

في رداء من الشباب جديد

آيات سحرها المحدود (4)

ص: 471

فعمق من هذا التكرار بالتأكيد على الضمير أنت بتكراره مرة أخرى ملازمة للأولى بنغمة موسيقية هادئة تخلو من العنف والقسوة الذي يتمثل في التنوين لذلك جاءت النغمة العلاماتية بعد الضمير هادئة تكشف عن تماسك وتلاحم أوصال الشاعر عند حديثه عن محبوبته التي نعتها بنعوت متعددة حتى جعلها كل ما في الوجود، لا سبيل إلى سعادته إلا بتواصلها معه، وقد التفت القدماء إلى ظاهرة تكرار صدور الأبيات فتحدثوا عن فائدته وجعله مختلفاً بما يقرره (1) ومنهم من علل هذا التكرار بأنه (لما كانت الحاجة إلى تكرارها ماسة والضرورة إليها داعية لعظم الخطب وشدة موقع الفجيعة. فهذا يدلك على أن الإطناب عندهم مستحن كما أن الإيجاز في مكانه مستحب" (2) .

إن يأس الشاعر من الواقع بكل صوره جعله يعطي الضمير (أنت) روح الثورة والتمرد على الذات والغير، فيكرره في قصيدته عتاب (إلى الله) التي تكشف عن حسرته وحزنه لما آلت إليه حاله من أزمات نفسية تأثره، يعصف فيها الألم والقنوط بكل حقائق الحياة وتتزعزع معها كل قواعد الإيمان، فيصبح غريباً في هذه الدنيا وتصبح الحياة لديه صورة من اللهو والعبث يقول:

يا إله الوجود هذي جراح

أنت أنزلتني إلىظلمة الأرض

أنت أوصلتني إلى سبل الدنيا

في فؤادي تشكو إليك الدواهي

وقد كنت في صباح زاه

وهذي كثيرة الاشتباه (3)

ص: 472

ثم يواصل تكرار أنت بشكل رأسي معمق، يحفر بشدة ليكشف عن يأس الشاعر وقنوطه (أنت أوقفتني على لجة الحزن، أنت أنشأتني غريباً بنفسي، أنت كرهتني الحياة، أنت جبّلت بين جنبي قلباً، أنت عذبتني بدقة حسي

فكرر الضمير (أنت) بقوة حيث جعله النقطة المركزية التي تدور حولها الأبيات الأخرى وحتى يعطيه أكثر قوة وسلطة تكشف عن تحديه وتمرده فقد ربط هذا الضمير بأفعال تنبيء عن حس الشاعر الحزين وثورة انفعالاته وتمرده على الوجود (أنزلتني، أوصلتني، عذبتني، كرّهتني) فهي افعال تدور في دائرة القسرية والإلزام الذي ظهر عبر حركة التضعيف الظاهرة عليها، وكأن الضمير (أنت) حال فيها متوحد معها متكرر مرة أخرى، فيخلق بذلك تراكيب وأبنية إيقاعية ذات صدى وفعالية فتصبح الجملة ذات بعد أوسع وأقدر على استيعاب هذه الثورة وهذه النفس الثائرة فبدأت من (أنزلتني لحظة الولادة) إلى لحظة التكوين والتشكيل للذات عبر السياقات اللغوية الأخرى التي تتوحد في تراتب علاماتي وصوتي فعّال، وانطلاقاً من هذا الفهم فإن عملية الالتفات إلى الجانب النفسي في أسلوب التكرار عملية مهمة، فلو اختلف الموقف الشعري لاختلف الأسلوب "فالشاعر قد يستعمل كل حيل اللغة من البساطة الكاملة إلى البلاغة المعقدة فيذكي حرارة العاطفة من خلال الإيجاز آناً ومن خلال الإطناب آناً آخر وطوراً عن طريق التفضيلات وطوراً عن طريق التكرار (1) .

أما الضمير (نحن) الذي شكل منه تكرار بداية في قصيدته (ألحاني السكرى) يقول:

نحن نحيا كالطير في الأفق الساجي

نحن نلهو تحت الظلال كطفلين

وكالنحل فوق غصن الدهور

سعيدين في غرور الطفولة

ص: 473

ثم يكرر هذا الضمير ثماني مرات في قوالب لغوية مختلفة (نحن نغدو بين المروج ونمشي، نحن مثل الربيع نمشي، نحن نحيا في جنة من جنات السحر، نحن في عشنا المورد نتلو

) (1) . فيكشف تكرار ضمير (نحن) عن أهمية الذات الشاعر وتفخيمها، مما جعل الشاعر يكرر هذا الضمير. فقد بدأ كل بيت بالضمير (نحن) وهذه البدايات المتساوية تبعها فعل مختلف عن الآخر (نحيا، نلهو، نغدو، نمشي

) وبذلك يعكس كل بيت جانباً من إحساس الشاعر بالذات وتميزها التي تسعى للعيش الهاديء في اللحظة الحاضرة، فجسّد هذا الإحساس بمنظومة الأفعال التي جاءت تكشف عن لحظة الزمن الراهنة من خلال حرف النون الذي يعد جزءاً من الضمير (نحن) وكأنه بذلك يجعل السامع أو القاريء واقعاً تحت سلطان التنبؤ والتوقع لما يحدث لأن الشاعر قد أورد من خلال الضمير تصوراً جديداً في إطار الجو العام الذي يتحدث عنه وهو حب الذات.

أما تكرار البداية الذي وقع في شبه الجملة فقد عكس رؤية الشاعر الذي جاء من خلال البناء الأسلوبي الذي خلق تلاحماً بين الأبيات، هذا التلاحم يعكس نفسية الشاعر ويصورها في ذهنه حيث يسعى إلى التوحد والتماهي مع الآخر، ليتخلص من الهموم والأوجاع، وملاذه في ذلك الشعر أو الموت أو الأم التي جعل منها عنواناً لبعض قصائده (قلت للشعر) و (إلى الموت)، (قلب الأم) يقول من قصيدته قلت للشعر:

فيك ما في جوانحي من حنين

فيك ما في خواطري من بكاء

فيك ما في مشاعري من وجوم

فيك ما في عوالمي من ظلام

فيك ما في عوالمي من نجوم

فيك ما في عوالمي من ضباب

فيك ما في طفولتي من سلام

فيك ما في شيبتي من حنين

فيك – إن عانق الربيع فؤادي

أبدي إلى صميم الوجود

فيك ما في عواطفي من نشيد

لا يغنّي ومن سرور عهيد

سرمدي ومن صباح وليد

ضاحكات خلف الغمام الشرود

وسراب ويقظة وهجود

وابتسام وغبطة وسعود

وشجون وبهجة وجمود

تتثنى سنابلي وورودي (2)

ص: 474

فكرر (فيك ما في

) هذا التكرار الذي عمق إحساس الشاعر بأهمية الشعر ودوره في الحياة العامة، ولهذا فقد جاء التكرار بشكل رأسي متوال ليحدث نغمة إيقاعية وموسيقية في كل بيت، ومثل هذا التكرار المتساوي في نسقه يجعل الأبيات تكون وحدة بنائية متكاملة تشكلت من تكرار البداية المتساوي المتوحد إضافة إلى إيقاعية حرف الجر (من) في كل بيت شعري وما أعقبه بتراتب علاماتي يقوم على تنوين الكسر (من بكاء، من وجوم، من ظلام

) هذا الإيقاع التراتيبي الشديد الذي يعكس حرص الشاعر على استحضار كل ما في ذهنه من الصور والمعاني التي تساعده على التماهي أو التوحد مع الشعر، فجعل لتنوين الكسر صدى في عجز الأبيات (ومن صباح، ضاحكات، وسراب

) ليحصل على دوائر إيقاعية متكاملة قوية ظهرت واضحة في الأبيات إلا في البيت الأخير الذي بدأ بحرف الجر (فيك) ليشكل خاتمة ونهاية لإيقاعاته الموسيقية كي يبدأ من جديد في القصيدة ففيها بداية أخرى بنسق متشابه متماثل في خمسة أبيات يقول:

فيك ما في الوجود من خلل داج

فيك ما في الوجود من نغم

وما فيه من ضياء بعيد

حلو وما فيه من ضجيج شديد

فكرر البداية القوية (فيك ما في الوجود) مع حرف الجر (من) معتمداً على إيقاع علاماتي شديد (تنوين الكسر) . كما اعتمد على حرف الجر (في) على استكناه دواخله عبر إيقاع علاماتي خفيف سهل يتناسب والموضوع الشعري الذي تحدث عنه وهو (القلب) بشكل عام وقلب الأم بشكل خاص فهو رمز الحنان والعطف والتوحد، هذا هو مصدر أوجاعه وآلامه وأوجاع الأمة كلها لأن صلاح الجسم مرهون بصلاح القلب، لذلك نراه لم يدع صورة من عالم الطبيعة إلا قد وظفها في نصه الشعري وجسّد فيها الإحساس المرهف الرقيق الذي ينطوي تحت الضلوع بنغمة حزينة يقول من قصيدته قلب الأم:

في رنة المزمار في لغو الطيور الشادية

في ضجة البحر المجلجل في هدير العاصفة

في نغية الحمل الوديع وفي أناشيد الرعاة

ص: 475

في آهة الشاكي وضوضاء الجموع الصاخبة

ويكرر حرف الجر (في) ست وعشرين مرة إلى أن يقول:

في ظلمة الليل الحزين وفي الكهوف العارية

أعرفت هذا القلب في ظلماء هاتيك اللحود

هو قلب أمك أمك السكرى بأحزان الوجود

هو ذلك القلب الذي سيعيش كالشادي الضرير

يشدو بشكوى حزنه الداجي إلى النفس الأخير (1) .

فجسّد أوجاعه وآلامه عبر قلب الأم الصادق ليدلك هو أيضاً على صدق حزنه فيحدث تأثيراً في المتلقي، هذا التأثير يمتد ويسير عبر حركة الكسر التي تظهر في معظم الكلمات منذ البداية إلى النهاية (في ظلمة

وفي الكهوف العارية..) فجعل منها إيقاعات موسيقية متناسقة ذات نغمة حزينة تنسحب داخل الأبيات بشكل متعاقب ومتلاحق ومكثف ليعبر عن تصميمه وتأكيده على استنفاد كل طاقاته كي يكون فاعلاً وحاضراً في كل الميادين حتى النفس الأخير من حياته فيقدم ويعطي من خلال حرف الجر (في) الذي يشير إلى التضحية والعطاء تجاه خصوصية معينة فتتماهى عندئذ ذاته مع الآخر وتشكل منهما قوة خلاقة ذات طاقة مميزة، كقوة القلب المتدفق كما جعل من هذا الحرف بؤرة مركزية تنطلق منها الأبيات وبذلك فإن ما يثيره التكرار من احساس في نفس السامع هو تجسيد لقيمته ووظيفته.

ومن أمثلة تكرار البداية تكرار (إلى) بشكل متعاقب ورأسي متوال يخلق وحدة بنائية تعكس تصور الشاعر للوجود الذي يسعى للخلاص منه بطلب الموت بإلحاح شديد، لذلك يصور الموت بصور جميلة (روح جميل) كما يجعل منه بداية ثابتة قوية يتردد صداها في كل سطر شعري واحد، بل قد جعل الموت عنواناً للقصيدة يقول:

إلى الموت أن شئت هون الحياة

إلى الموت يابن الحياة التعيس

إلى الموت إن عذبتك الدهور

إلى الموت فالموت روح جميل

إلى الموت فالموت جام روي

إلى الموت فالموت مهد وثير

إلى الموت إن حاصرتك الخطوب

إلى الموت لا تخش أعماقه

هو الموت طيف الخلود الجميل

فخلف ظلام الردى ما تريد

ففي الموت صوت الحياة الرخيم

ص: 476

ففي الموت قلب الدهور الرحيم

يرفرف فوق تلك الغيوم

لمن أظمأته سموم الغلاة

تنام بأحضانه الكائنات

وسدت عليك سبيل السلام

ففيها ضياء السماء الوديع

ونصف الحياة الذي لا ينوح (1)

فجسّد عذاباته وسآمته من الحية عبر علاقات لغوية ممتدة تبدأ بحرف الجر (إلى) الذي يفيد الانتهاء الزماني والمكاني، فليس هناك بديل ناجح يخلصه من عبث الحياة إلا الموت. ولذلك يحبب الموت إلى نفسه كما يحببه إلى المتلقي عبر علاقات لغوية، فالموت روح جميل، والموت مع الجام الروي والموت مع المهد الوثير، فجعل من الموت طرفاً وقوة فاعلة ثابتة ولكنه غير في دلالته كي يتمكن من إقناع السامعين بهذه الفكرة وتنبيههم إلى هذا المفهوم، مع ملاحظة أن التكرار في هذا النص يظهر فيه شيء من النمطية في تكراره لكلمة الموت، وإن كان ذلك يعلل بأن انشغال الشابي بالموت وقلقه الوجودي هو الذي أوحي إليه ذلك، فهو يرى أن الحياة ليست سوى ألوان من العذاب خاتمته الموت، لذلك نلاحظ أن تكرار البداية لم يكن متعاقباً، بل كان يستغل مابين البدايات في شرح أفكاره وما في ذهنه عن الموت حتى يكشف عن جوهره وأسراره، فجاءت القصيدة على شكل رباعيات، تكررت البداية في كل رباعية مرة أو مرتين حسب طبيعة الموقف الشعري.

لقد كشف هذا البحث عن الجانب الوظيفي للتكرار ضمن السياق الذي يرد فيه إذ يعد ظاهرة من الظواهر اللغوية الواضحة في الشعر العربي، ولذلك لابد له من إحداث وظيفة إما بنائية أو إيقاعية خصوصاً إذا استطاع الشاعر استخدامه بدقة وبراعة، فهو ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة بحيث يحسن الشاعر صنعاً بمجرد استعماله، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة أو أن تلمسه يد الشاعر اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات.

ص: 477

لذلك يختار الشاعر الأسلوب الذي يناسبه ويتفق مع رؤيته الحياتية الخاصة، كي يتمكن من استيعاب أفكاره ومعتقداته وفلسفته، وهذا ما حرص عليه الشابي في شعره، فكان يسعى إلى أن يجعل من هذا الأسلوب التكراري على اختلاف أشكاله وألوانه، أداة قادرة على التعبير عما في ذهنه وتصوير مشاعره واحساسيه وآلامه وهمومه التي أصابته في حياته الاجتماعية.

كما تبين أن التكرار عند الشابي كان يخضع لرؤية الشاعر النفسية التي كانت تلح على بعض المرتكزات الحياتية لتغييرها أو استبدالها لهذا نراه كان يستسلم لتداعيات بعض صور التكرار بشكل لافت للنظر في مختلف أشكال التكرار وخاصة تكرار البداية، فيجعل من هذه البداية نقطة مركزية تجتمع فيها صور التكرار الأخرى، أو أن يجعل موضوع القصيدة عنواناً لتكرار البداية ويبني عليه إيقاعات موسيقية متنوعة يعتقد فيها قوة التأثير والفاعلية على المتلقي.

ومما يلاحظ أيضاً أن التكرار جاء عند الشابي بشكل أفقي أو رأسي أخضعها لإيقاعات وإيحاءات موسيقية تعكس ملامح رؤيته النفسية والفلسفية التي تكشف عن موقفه الحقيقي من الحياة والكون والطبيعة من خلال سياقات وبناءات أسلوبية متنوعة على مستوى الكلمة أو الجملة.

لقد حاول الشابي أن يجعل من صور التكرار أداة جمالية تخدم الموضوع الشعري وتؤدي وظيفة أسلوبية تكشف عن الإلحاح أو التأكيد الذي يسعى إليه الشاعر، ولكن التكرار عنده قد تأثر ببعض جوانب حياة الشاعر الخاصة، فغلب عليه التداعي والتماثل في معظم صوره لذلك ما كان التكرار ليكون عند الشابي لولا حاجته الملحة للكشف عما يدور في ذهنه وإبراز أفكاره التي قد أصبحت هي الأخرى صورة من صور التكرار، فالمعاناة والألم تبدو واضحة في كل أنفاسه الشعرية وكأنه بذلك يكرر هذه المعاناة في كل نمط تكراري على اختلاف أشكاله.

الحواشي والتعليقات

ص: 478

العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني (456هـ) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981م، ج2/73، وانظر الصناعتين للعسكري (395هـ) ص212، والمثل السائر لابن الأثير (637هـ) 2/345، والطراز، للعلوي 2/176.

تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة ص 232-241.

كتاب العين، الخليل بن أحمد، ج5، ص277، وانظر تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري (مادة كرر) ، وقاموس المحيط للفيروزآبادي (مادة كرر) .

أنوار الربيع في أنواع البديع، لابن معصوم، ج5/34-35.

الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت سعيد الجيار، الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، ليبيا، 1984م، ص47.

جوهر الكنز، ابن الأثير الحلبي، تحقيق د. محمد زغلول سلام، ص257.

التكوين التكراري في شعر جميل بن معمر، د. فايز القرعان (مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، م1، ع6، 1996م.

التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعة (بحث مقدم لمؤتمر النقد الأدبي الثاني 1988م، جامعة اليرموك، إربد. وانظر دراسات أخرى، بناء الاسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، القاهرة، 1988م، ص390، وأسلوب التكرار بين البلاغيين وإبداع الشعراء، شفيع السيد، مجلة إبداع القاهرة، ع6، سنة 2، 1984م، ص7، وظاهرة التكرار في شعر أمل دنقل، مجلة إبداع، القاهرة، سنة 30، ع5، 1985م، ص70.

موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس، ص8.

مباديء النقد الأدبي، أ. ريتشارز، ترجمة: د. مصطفى بدوي، ص 188.

قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص 263 ومابعدها.

المصدر السابق، ص 278.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص52 ومابعدها.

التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص 5.

الصورة الشعرية في الكتابة الفنية، د. صبحي البستاني، ص49.

أغاني الحياة، ص 45.

المصدر السابق، ص 15.

الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 54.

أغاني الحياة، ص 22.

ص: 479

المصدر السابق، ص 24، وانظر نماذج أخرى، ص 14.

الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، ص 29.

أغاني الحياة، ص 22.

الأسلوبية والأسلوب، كراهام هاف، ص 21.

أغاني الحياة، ص 162.

الأفكار والأسلوب، أ. ف. تشترين، ترجمة د. حياة شرارة، ص50.

أغاني الحياة، ص 106، وانظر ص 109، 44.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 258.

أغاني الحياة، ص 169،وانظر نماذج أخرى، ص 42.

النص الأدبي وقضاياه عند ميشال ريفاتير من خلال كتابه صناعة النص، وجون كوهين من خلال كتابه (الكلام السامي) ، مجلة فصول، ص28، المجلد الخامس، العدد الأول، 1984م نقلاً عن التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص22.

الصورة الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص47.

أغاني الحياة، ص 96.

علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، د. صلاح فضل، ص27.

نظرية الأدب، رينيه ويليك، ترجمة حسام الخطيب، ص165.

انظر نماذج من الديوان، ص 86، 109، 114، 121، 134، 155، 183.

أغاني الحياة، ص43، 73، 78، 81، 93، 175، 156، 151، 115، 188.

أغاني الحياة، ص 20،وانظر ص 22.

أغاني الحياة، ص 89.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 160.

انظر نماذج من ذلك في ديوانه، ص 35، 18، 19، 129، 119، 159.

أغاني الحياة، ص 95، وانظر نماذج أخرى، ص 134، 152.

الصورة الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص68.

أغاني الحياة، ص 121، وانظر ص171 تكرار حرف اللام في بداية الأسطر الشعرية.

التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى الربابعه، ص9.

الصور الشعرية عند الشابي، مدحت الجبار، ص68.

التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص 4.

قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص 270.

المصدر السابق، ص 290.

أغاني الحياة، ص 73، وانظر نماذج أخرى ص 25، 35، 45، 55، 125.

التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص 37.

أغاني الحياة، ص 55.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 99.

ص: 480

أغاني الحياة، ص 89.

أغاني الحياة، ص 89.

المصدر السابق، ص 69.

الرومانتيكية، د. محمد غنيمي هلال، ص 172.

أغاني الحياة، ص 70.

أغاني الحياة، ص 96.

أغاني الحياة، ص 159.

أغاني الحياة، ص 160.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، ص 160.

أغاني الحياة، ص 112.

المصدر السابق، ص 55.

المصدر السابق، ص 105.

المصدر السابق، ص 83.

المصدر السابق، ص 135.

مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ديفيد دتيش، ترجمة محمد نجم، ص 172.

الأسلوب دراسة لغوية، سعد مصلوح، ص 10.

الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 125.

أغاني الحياة، ص 56، وانظر نماذج أخرى، ص 105، 83.

أغاني الحياة، ص 112.

أغاني الحياة، ص 85.

الصورة الشعرية عند ابي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 124.

أغاني الحياة، ص 56.

المصدر السابق، ص 175، وانظر ص 157.

المصدر السابق، ص 81، وانظر ص 96.

المصدر السابق، ص 86.

المصدر السابق، ص 92، وانظر ص 122.

أسلوب التكرار بين تنظير البلاغيين وإبداع الشعراء، د. شفيع السيد، ص 15 نقلاً عن التكرار في الشعر الجاهلي، د. موسى ربابعه، ص32.

أغاني الحياة، ص 122.

أمالي السيد المرتضى، الشريف الرضي 140/123.

الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ص 144.

أغاني الحياة، ص 99.

الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، ص 87.

أغاني الحياة، ص 165.

أغاني الحياة، ص 86 وانظر ص 87.

المصدر السابق، ص 131، وانظر ص 183.

المصدر السابق، ص 76.

المصادر والمراجع

اسلوب التكرار بين تنظير البلاغيين وإبداع الشعراء، شفيع السيد (دكتور) مجلة إبداع، السنة الثانية، العدد السادس، عام 1984م.

الأسلوب دراسة لغوية، سعد مصلوح (دكتور) دار البحوث العلمية، القاهرة، ط1، 1980م.

ص: 481

الأسلوبية والأسلوب، كراهم هاف، ترجمة كاظم سعد الدين، دار آفاق عربية، العدد الأول، بغداد، سنة 1985م.

أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي (ديوان) دار الكتب الشرقية، دار مصر للطباعة، القاهرة، ط1، 1955م.

الأفكار والأسلوب، ا. ن. تشيتثرين. ترجمة د. حياة شرارة، آفاق عربية، بغداد، د. ت.

أمالي السيد المرتضى، الشريف الرضي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب العربي، ط2، 1967م.

أنوار الربيع في أنواع البديع، لابن معصوم، تحقيق شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان، النجف، ط1، 1969م.

بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب (دكتور) ، القاهرة، 1988م.

تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفار عطار، الشركة اللبنانية للموسوعات العربية، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م.

تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، شرح ونشر السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1981م.

التكرار في الشعر الجاهلي، موسى ربايعه (دكتور) مجلة مؤته للبحوث والدراسات، جامعة مؤته (الأردن) ، المجلد الخامس، العدد الأول، 1990م.

التكوين التكراري في شعر جميل بن معمر، فايز القرعان (دكتور) مجلة مؤته للبحوث والدراسات، جامعة مؤتة (الأردن) ، المجلد الحادي عشر، العدد السادس، 1996م.

جوهر الكنز، لابن الأثير الحلبي، تحقيق د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، 1980م.

دراسات عن الشابي، أبو القاسم محمد كرو، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1984م.

الرومانتيكية، د. محمد غنيمي هلال، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت.

الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابيث درو، مكتبة منيمنه، بيروت، 1961م.

الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، الدار العربية للكتاب، طرابلس، 1984م.

الصورة الشعرية في الكتابة الفنية، د. صبحي البستاني، دار الفكر اللبناني، ط1، 1986م.

ص: 482

الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1981م.

ظاهرة التكرار في شعر أمل دنقل، حسين عيد، مجلة إبداع، القاهرة، السنة الثالثة، العدد الخامس، 1985م.

الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإيجاز، العلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ.

علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل (دكتور) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1985م.

العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، د. ت.

كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي وآخرون، دار الرشيد للنشر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1982م.

القاموس المحيط، الفيروزآبادي، دار صادر، بيروت.

قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1983م.

مباديء النقد الأدبي، أ. ريتشاردز، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة د. لويس عوض، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة العامة للطباعة والنشر، القاهرة، 1961م.

المثل السائر، لابن الأثير، تحقيق د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانه، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الفجالة، القاهرة، د. ت.

موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس (دكتور) ، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط5، 1978م.

مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ديفيد ديتش، ترجمة د. يوسف نجم، مراجعة د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1967م.

النص الأدبي وقضاياه عند ميشال ريفاتير من خلال كتابه "صناعة النص"، وجون كوهين من خلال كتابه "الكلام السامي"، مجلة فصول، 28، المجلد الخامس، العدد الأول، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 1984م.

نظرية الأدب، رينيه ويليك، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1985م.

ص: 483