المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تصوف الحافظ ابن رجب - مجموع رسائل ابن رجب - مقدمة جـ ١

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌عملي في الكتاب وما تمتاز به طبعتنا

- ‌شكر وتقدير

- ‌ترجمة الحافظ ابن رجب الحنبلي

- ‌اسمه ولقبه وكنيته:

- ‌مولده:

- ‌أسرته:

- ‌أبوه:

- ‌نشأته ورحلته في طلب العلم:

- ‌وفي سن الخامسة بدأ يميز السماعات:

- ‌عقيدة ابن رجب:

- ‌مكانته فقهيًا:

- ‌مكانته في علم الحديث وثناء العلماء عليه:

- ‌شيوخ ابن رجب

- ‌تلاميذ ابن رجب

- ‌وفاة الحافظ ابن رجب:

- ‌تصوف الحافظ ابن رجب

- ‌أشهر شروح ابن رجب الحديثية التي تدل على نبوغه وبراعته في هذا الفن

- ‌أ- شرح جامع الترمذي:

- ‌منهج ابن رجب في شرح الترمذي:

- ‌ب- شرح صحيح البخاري المسمى " فتح الباري

- ‌منهج ابن رجب في كتابه فتح الباري

- ‌مقارنة بين كتاب ابن رجب وكتاب ابن حجر:

- ‌ج- جامع العلوم والحكم

- ‌د- شرح علل الترمذي

- ‌هـ- رسائل ابن رجب التي تضمنت شرح حديث واحد

- ‌مصنفات ابن رجب الفقهية

- ‌مؤلفات ابن رجب الأخرى المتنوعة

- ‌أولاً في التفسير وعلوم القرآن

- ‌ثانيًا: في المواعظ والرقائق والفضائل والتوحيد والسير والتاريخ:

- ‌وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

- ‌ملحوظة:

الفصل: ‌تصوف الحافظ ابن رجب

‌تصوف الحافظ ابن رجب

قال علي الشبل في كتابه منهج ابن رجب في العقيدة ص 79:

في البدء لابد من العطف على معنى التصوف، إذ هو في الأصل من مفردات الزهد والورع، ولهذا تنوعت عبارات العلماء فيه، ثم ما طرأ في أصله وهو الزهد من المحدثات والبدع، بل والزندقة أضفى على التصوف معنى شرعيًا خاصًا يعكس ذم العلماء له وتحذيرهم منه، ومن أهله.

وإذا نظرنا إلى ابن رجب الحنبلي رحمه الله وعرضنا على حاله مصطلح التصوف، نجده يتناقض معه قولاً وفعلاً وحالاً.

وقد وصف بعض الناس الحافظ ابن رجب بالمتصوف، حتى إنه عرف به في بعض الجهات. وسبب هذا الوصف ما أشرت إليه آنفًا من العلاقة المتصورة بين التصوف والزهد.

ولكن ها هنا لابد من تقييد تلك الدعوى لأنّ هذا الإطلاق في حق الحافظ ابن رجب وأمثاله فيه شبهة كبيرة.

ولهذا أقول: إن اتهام الحافظ، ووصفه بالتصوف -والحالة هذه- لا يخرج عن أمرين.

أحدهما: أنّه عن جهل وقلة علم في الحافظ، وفي التصوف المذموم؛ لأنّه على أحسن الحالين لدل على الفهم السطحي لكلام الحافظ، ونقوله عن بعض متقدمي الزهاد من معظمي الصوفية كأبي سليمان الداراني وابن أدهم والجنيد وأحزابهم. وهذا هو وجهة الأكثر من واصفي الحافظ بالتصوف.

والثاني: أنّه صدر عن غرض وهوى مودَّاه القدح فيه وفي عقيدته ومنهجه، حيث حاولوا عسف بعض عبارات الحافظ إلى هذا المنحى، وهؤلاء والحمد لله قلة، وغرضهم مكشوف، وأمرهم إلى الله، فهو

ص: 23

حسيبهم وكافيهم.

هذا والواقف على كلام الحافظ ابن رجب في موضوع البحث في كتبه يراه يدور على أمر هام هو التزهيد بالدنيا والترغيب عنها بدار الآخرة وبرضوان الله، باتخاذ أسلوب مخاطبة القلوب لا الشهوات والجوارح. وهذا في حدّ ذاته مقصد شرعي من مقاصد الشريعة العامة.

لهذا كثر كلامه عن أحوال القلوب، ووجوب تزكية النفوس وترقيقها، لترقى إلى منزلة الصديقين وأولياء الله المقربين، وليبلغ العبد أعلى مراتب الإيمان وهي: الإحسان بدرجته الأولى، أن يعبد الله كأنّه هو يرى الله.

وهو اليقين التام بهذا الموقف مع قلة الواصلين إليه.

فكان رحمه الله يسوغ ذلك بإسلوب لطيف روحاني مجرب، أتى إليه عن طريق تجربة واقعية وممارسة عملية لهذا الأسلوب، وعظة، ودروسه العامة، وفي رسائله، وقبل ذلك في أحواله وحياته.

فجاءت أكثر مصنفاته الوعظية على هذا النهج، حتى مصنفات المسائل الاجتهادية في الفقه وغيره، والتي فيها تحقيق وسبر للأدلة والأقوال، لم تخلُ من هذا المنهج، فكان غالبًا ما يذيلها بتلك اللفتات الزكية، والعبارات الندية في الوعظ ومخاطبة القلوب.

وفي هذه المناسبات تراه ينقل أقوال وأحوال كبار الزهاد من صالحي القرون الثلاثة المفضلة وقصصهم ونوادرهم من أمثال: أيوب السختياني (131) هـ، ومالك بن دينار (130) هـ، وإبراهيم بن أدهم (162) والحسن البصري (110) هـ، والفضيل بن عياض (187) هـ، وابن المبارك (181) هـ، والجنيد (298) هـ، والإمام أحمد (241) هـ وأمثالهم.

لأنّ كلام هؤلاء وأحوالهم أبلغ -في الحقيقة- في التأثير لأنّه صدر عن تجربة وعن اختصاص، وقبل ذلك عن صدق مع الله وإخلاص وتجرد.

ص: 24

ولعل مما سبب مثل هذه الدعوى للحافظ استخدامه للمصطلحات الشائعة عند متأخري الزهاد -أو قل المتصوفة- في القرون الأربعة المفضلة الذين وجد في آخرهم أنواع مذمومة ومنكرة من الشطحات وهذه العبارات نحو: أصحاب الحقائق، والمكاشفات، وخواص المحبين والعاشقين، والمنامات النورانية، وأهل المعرفة الحقيقة.

مما هو محل احتمال ومورد إجمال يتطرق إليه مجال تلك الدعوى، ولكن هذا على أبعد أحواله خطأ من الحافظ وتجوز في القول لا يراد منه المعنى المتبادر عند أولئك، يدل عليه سياق كلامه الذي ترد فيه تلك المصطلحات، وقواعد منهجه الرادة للجنوح البعيد في تلك المجاهل، التي يسلكها مدعو الحقائق والمحبة وعشق الإله.

ومنهج آخر من منهاج الحافظ في هذه المسألة، هو أنّه إذا نقل عن بعض الزهاد ممن غلبوا جانب العبادة والذوق على العلم، حتى وقعوا في أخطاء وبدع سلوكية أو انحرافات أدت بهم إلى نوع من الشطحات، نتيجة للجهل بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أورثه أمته، كما وقع لذي النون المصري، والبسطامي، وبشر الحافي، ورابعة العدوية ومن هو أشد منهم، فالحافظ ينقل عنهم بعد أن ينتقي من كلامهم الحق والصواب، وتؤيده النصوص، ولا يسترسل معهم في نقل كل أقوالهم، وجميع ما عندهم مما يتضمنه الخطأ والبدع والضلال، ومثال ذلك على النوع الأول الذي ينقله الحافظ، ما نقله عن ذي النون المصري في كتابه " لطائف المعارف " مسألة الشوق إلى لقاء الله وتمني الموت لذلك قال: قال ذو النون: كل مطيع مستأنس وكل عاصي مستوحش " (1) اهـ.

وعلى ذلك يجب مراعاة هذه الضوابط.

1 -

نقل الحافظ لتلك الجمل من أقوالهم لا يعني بالضرورة تزكيتهم مطلقاً وتسويغ أخذ جميع ما جاء عنهم، إذ الميزان موافقة ما صدر عنهم

(1) لطائف المعارف ص 512.

ص: 25

لقواعد الشرع وحيثياته مما جاء في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قبله جماهير السلف الصالح من المسكوت عنه فيهما، ومما لا يخالف القواعد العامة المقررة.

2 -

إنصافه- وحمه الله- لأولئك " العارفين " حيث لم يرد كل ما جاء عنهم، لما آثر عنهم من بدع ومخالفات في السلوك أو القول. بل أخذ ما لديهم من الحق، وطرح ضده. وهذا هو العدل لأنّ الحكمة التي هي ضالته أنى وجدها أخذها. ولا يجب أن يسلك هذا المنحى الدقيق إلا أولوا العلم الراسخ في الدين من أمثال الحافظ ابن رجب وابن القيم .. لأنّه مسلك وعر ودحض مزلة، ربما يُجلب فيه من الشر الذي لا يعرفه المنتقي من كلامهم أشد من الخير المنشود، وعلى مثل هذا تنزل قاعدة:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ".

3 -

أمر ثالث هو ملاحظة تعقب الحافظ ابن رجب لأغاليط المنحرفين من الزهاد، وغلاة المتصوفة، أو متصوفة أهل البدع والزندقة (1) كنحو المفرقين بين الحقيقة والشريعة، والرافعين التكاليف الشرعية عنهم أو عن غيرهم.

قال رحمه الله: "ومما أحدث من العلوم، والكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب، وتوابع ذلك بمجرد الرأي، والذوق، أو الكشف وفيه خطر عظيم.

وقد أنكره أعيان الأئمة كالإِمام أحمد وغيره.

وكان أبو سليمان يقول: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.

وقال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا.

وقد اتسع الخرق في هذا الباب، ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة

(1) كما جاء في كتابه فضل علم السلف على الخلف ص 67 فانظره لزامًا.

ص: 26

والنفاق، ودعوى أنّ أولياء الله أفضل من الأنبياء، أو أنّهم مستغنون عنهم، وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع (1)، وإلى دعوى الحلول والاتحاد، أو القول بوحدة الوجود، وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان، كدعوى الإباحة، وحل محظورات الشرائع.

وأدخلوا في هذا الطريق أشياءً كثيرة ليست من الدين في شيء، فبعضها زعموا أنّه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص.

وبعضها زعموا أنّه يراد لرياضة النفوس كعشق الصور المحرمة، ونظرها.

وبعضها زعموا أنّه لكسر النفوس أو التواضع، كشهوة اللباس، وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة، وبعضها يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كالغناء والنظر المحرم، وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعبًا .. " أ. هـ (2).

هذا ومن نماذج أقواله رحمه الله التي ترسم لنا منهجه الحقيقي في الزهد الذي ربما يسمى "تصوفاً معتدلاً" على سبيل التجوز:

قوله في كتابه البشارة العظمى للمؤمن-: " .. فأما ما يجدونه من آثار الجنة فمما يتجلى لقلوب المؤمنين من آثار نور الإِيمان، وتجلي الغيب لقلوب المؤمنين، كالشهادة لقلوبهم في مقام الإحسان؛ فربما تجلت الجنة، أو بعضها، أو بعض ما فيها لقلوبهم أحياناً. حتى يرونها كالعيان.

وربما استنشقوا من روائحها، كما قال أنس بن النضر يوم أحد: "والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد

" أ. هـ (3).

وقال في شرح وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو

(1) كما يقوله غلاتهم مثل الحلاج وابن عربي الطائي وابن الفارض، وصوفية الفلاسفة كابن سبعين.

(2)

من فضل علم السلف على الخلف ص 44 - 45.

(3)

من كتابه البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى (مخطوط) ص 181.

ص: 27

غلام رديفه على الدابة: "

ومتى حصل هذا التعرف الخاص للعبد، حصل للعبد معرفة خاصة بربه توجب له الأنس به والحياء منه".

وهذه معرفة خاصة، غير معرفة المؤمنين العامة.

ومدار العارفين كلهم على هذه المعرفة، وهذا التعرف، وإشاراتهم تومئ إلى هذا.

سمع أبو سليمان -هو عبد الرحمن الداراني (215) هـ- رجلاً يقول: سهرت البارحة في ذكر النساء فقال: ويحك! أما تستحي منه يراك ساهراً في ذكر غيره؟ ولكن كيف تستحي مما لا تعرف؟! " أ. هـ (1).

وقال أيضاً في كتابه " استنشاق نسيم الأنس " في مقدمته: "الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، فلا عما هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذكره قوت القلوب وقرة العيون وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح .. "(2).

هذا المنهج يقارب في الحقيقة منهج ابن القيم رحمه الله في بعض مصنفاته كالفوائد، والجواب الكافي، وحادي الأرواح، وروضة المحبين في مواضع فيه. ومن هذا وغيره (3) أستطيع القول إن تصوف الحافظ ابن رجب -إن صحت تسميته كذلك- من التصوف المعتدل، والزهد المقبول عند السلف الصالح، وهو الخلي عن البدع والشطحات أو الانحرافات في الأقوال والأعمال.

(1) من كتابة نور الاقتباس من مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ص 24.

(2)

من كتابه استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس (مخطوط) ص 84.

(3)

النماذج على ذلك كثيرة مبثوثة في كتبه: جامع العلوم والحكم، ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. والتخويف من النار ص 8 وشرح حديث عمار بن ياسر 43 - 47، ونور الاقتباس 42، 45، 78 واختيار الأولى 115، 121، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ص 3 وما بعدها، وكشف الكربة 28، 29، والمحجة ص 78 وما بعدها وفي أواخر رسائله عامة فإنها لا تخلو من تلك الإِشارات اللطيفة.

ص: 28