المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أفخر بيت في الشعر:

قبل أن تكون ثقتها في مستقبل ابنها بهذه الصورة، هي كانت في ثقة وحسن تقدير لحسن تربيتها، لم تكن تحلم، بل كانت تعلم كيف تربيه وتنشؤه على هذا الأمر.

وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه يقول: «إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي وذنبٌ لا يسعه عفوي وحاجة لا يسعها جودي» .

‌أفخر بيت في الشعر:

وقال الأخمص في الفخر:

مَا مِنْ مُصِيْبَةٍ نَكْبَةٍ أُرْمَى بِهَا

إَلاّ تُشَرِّفُنِيْ وَتَرْفَعُ شَانِي

وإَذَا سَأَلْتَ عَنِ الكِرَامِ وَجَدْتَنِيْ

كَالشَّمْسِ لَا تَخْفَى بِكُلِّ مَكَان

فبعض المؤلفين، صاحب العقد الفريد، ادعى أن هذا أفخر بيت قالته العرب.

أعظم بيت في الفخر.

مَا مِنْ مُصِيْبَةٍ نَكْبَةٍ أُرْمَى بِهَا

إَلاّ تُشَرِّفُنِيْ وَتَرْفَعُ شَانِي

وإَذَا سَأَلْتَ عَنِ الكِرَامِ وَجَدْتَنِيْ

كَالشَّمْسِ لَا تَخْفَى بِكُلِّ مَكَان

ما رأيكم؟

هل هذا أفخر بيت قالته العرب ..

أحسنت، أحسنت ..

بالعكس ..

الصحيح:

يوجد بيت فيه من الفخر ما لا يمكن أن يصل إليه إنسان على الإطلاق.

وهو بيت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، في قوله وهو يفتخر بانتمائه إلى الأنصار، فماذا يقول؟ وَيَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوْهَهُمْ جِبْرِيْلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ .. صلى الله عليه وسلم.

ص: 11

هل هناك فخر أكثر من هذا ..

وَيَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوْهَهُمْ جِبْرِيْلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ .. صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو أفخر بيت قالته العرب.

هذا أعرابي يسكن البادية، وكان أعرابي معتزا بانتسابه للعروبة، وكان يصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان لأحد أولاده.

وطبعا كان الخلفاء بدأوا يتزوجون من نساء غير عربيات، فهذا الرجل الأعرابي لما خطب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده قال له: جنبني هجناء ولدك

يعني الذين أمهم غير عربية.

فعال نفسه في غير كبر ولا عجب ولا غرور.

وإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها فتبقى نفسه في حصن حصين وعز منيع، لا تعط الدنية ولا ترضى بالنقص ولا تقنع بالدون.

ألم تر إلى شرف نفس الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، نبي الله يوسف بن يعقوب بن اسحاق ابن إبراهيم، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

حين دعا ربه فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (1) فهذا هو شرف النفس، ومعرفة قدر النفس.

وذلك حينما قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} .

(1) يوسف: 33.

ص: 12

حتى حينما جاءه رسول الملك فرد عليه وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}

ولا عجب فإن من لا يصبر فيما له ألا يصبر فيه.

وهو الخروج من السجن.

مع توفر الدواعي على الخروج منه، فأولى به أن يصبر فيما يجب عليه أن يصبر فيه من الهم بامرأة العزيز.

قيل لرجل: لي حويجة.

تصغير حاجة، حاجة بسيطة.

كما أن كثيرا من الناس يأتي بدون فقه وبدون أدب مع العلماء الأفاضل الكبار، فيقول له: عند سؤال صغير.

ليس من الأدب أن تقول له هذا، يعني أنا انتقيت لك الحاجة التافهة لاسألك فيها.

قال له: لي حويجة.

فقال له: اطلب لها رجيلا.

على مقاسها.

وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك.

يعني لن تصيبك في مالك ولا بشيء كثير يعني.

فقال لهم: هلا طلبتم لها سفاسف الناس.

وقيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير.

فقال: اطلب له رجلا صغيرا.

(1) يوسف: 50.

ص: 13

ومن علو الهمة وشرف النفس ما روي عن قطب السخاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقد سألته امرأة فأعطاها مالا عظيما، فقيل له: إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير، فقال: إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا ارضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.

وسأله سائل بينا يهم لركوب ناقته، فنزل له عنها وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

وعن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، سمع رجلا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف فبعث بها إليه ..

وعن أبي سعيد عن شيخ له قال: رأيت ابن المبارك يعض يد خادم له.

-الإمام الكبير عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، يحكي هذا الشيخ أنه رآه يعاقب هذا الخادم ويعض يديه.

فقلت له: تعض يد خادمك؟!

قال: كم آمره ألا يعد الدراهم على السؤَّال؟ أقول له: احث لهم حثوا.

-كثير جدا ما أمرته ألا يعد الدراهم لهم واحد اثنين ثلاثة .. وهكذا ..

ولكن احث لهم حثوا.

بيديه الاثنين يجمع المال ويعطي.

فهو يعاتبه على ذلك، أو يعاقبه على ذلك بالعض يعني.

يقول: رأيت ابن المبارك يعض يد خادم له.

فقلت له: تعض يد خادمك؟!

قال: كم آمره ألا يعد الدراهم على السؤَّال؟ -طالبي الصدقة- أقول له: احث لهم حثوا.

من شرف النفس ومعرفة قدرها قول الأبي وردي:

ص: 14

رأت أميمة أقماري وناظرها يعوم في الدمع منهلا نوادره

وما درت أن في أثنائها رجل ترخى على الأسد الضاري غدائره

في ملتقى أولاده صيد حمر مناصله بيض عشائره

إن رق بردي فليس السيف محت .. ابالغمد وهو موا .. الغرب ماكره

وهمتي في ضمير الدهر كاملة وسوف يظهر ما تخفي ضمائره

يقول الشافعي:

علَيَّ ثياب لو يُباع جميعها

بِفَلْسٍ لكان الفَلْس منهن أكثرا

وفيهن نَفْسٌ لو يُقاس بمثلها

نفوس الوَرَى كانت أجَلّ وأخطرا

وما ضَرّ نَصْل السّيف إخلاق غِمده

إذا كان عَضْبا حيث أنفذته بَرى

يعني لو سيف حاد القطع، لكن موجود في غمد خلق قديم وبال، هل هذا يضر السيف؟

فنفس الشيء بالنسبة لملابس الإنسان، فالمهم ما هو بداخلها.

هكذا يقول الشافعي ..

هذا من الشافعي قطعا هو معرفة قدر النفس.

ولذلك الشافعي له تعبيرات عجيبة جدا في هذه النواحي.

مرة قال للشافعي: «ما رفعت أحد فوق قدره إلا نقص من قدري بمقدار ما رفعت من قدره» .

-الإنسان لابد أن يراعي منزلة كل إنسان وينزل كل إنسان منزلته.

ما رفعت أحد فوق قدره إلا نقص من قدري بمقدار ما رفعت من قدره.

يقول الشافعي رحمه الله:

إذا المشكلات تصدين لي

كشفت حقائقها بالنظر

لسان كشقشقة الأرحمي

أو كالحسام اليماني الذكر

ص: 15

ولست بإمعة في الرجال

أسائل هذا وذا ما الخبر

ولكنن مدره الأصغرين

جلاب خير وفراج شر

وقال رحمه الله تعالى: وفضيلة البنان يظهر سرها من حكه لا من ملاحة نقشه، ومن الغباوة أن تعظم جاهل لثقال ملبسه ورونق رقشه، أو أن تهين مهذبا في نفسه لدروس بذته ورثة فرشه.

وقال أبو هلال العسكري رحمه الله:

جلوسي في سوق أبيع وأشتري

دليل على أن الأنام رقود

ولا خير في قوم تذل كرامهم

ويعظم فيهم نذلهم ويسود

ويهجوهم عني رثاثة كسوتي

هجاء قبيحا ما عليه مزيد

مثلا بعض العلماء كره أن يتحول عن بلده مع إنه لا يحب الشهرة، كان يؤثر الخمول والانقباض عن الناس، لكن خشي أن يتحول عن بلده خشية أن يعامله من لا يعرف قدره بما لا يليق به.

كان الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى شديد التواضع.

يعني حتى إنه كان يقول –وقد كثر الناس حوله في مكة- فقال مرة: ضاعت الأمة حين احتيج إلي. -من شدة تواضعه-

كان يقول أيضا: لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم.

وكان يقول: لو أني أعلم أن أحدا يطلب الحديث بنية لأتيته في بيته حتى أحدثه.

وكان لا يتصدر المجالس ولكنه كان يجلس بين عامة الناس، حتى قال علي بن ثابت: ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط.

كان يقعد من الحائط إلى جنب الحائط ويجمع بين ركبتيه.

-فهذا الشخص الذي هو قمة في التواضع، يعني الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فكان شديد التواضع لكن في غير ذل، ولا استصغار.

ص: 16

كان يقول رحمه الله: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل.

يعني هم لأنهم بسبب أنهم لا يعرفونه ممكن أن يعامل بما لا يليق بقدره.

وقال ابن مهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: وددت أني أخذت نعلي هذه ثم جلست حيث شئت لا يعرفني أحد، ثم قال: بعد أن لا أستذل.

يعني بشرط: ألا أستذل

ولشدة حذره من الذلة كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، قال رحمه الله: لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني.

ولما قدم المدينة الخليفة المهدي أقبل الناس عليه مسلمين، فلما أخذوا مجالسهم جاء مالك –بعدما جلس الناس في المقاعد أو في الأماكن- فقالوا: اليوم يجلس مالك آخر الناس-الإمام مالك جاء متأخرا عن باقي الناس- فلما دنا ورأى زحام الناس وقف.

فأبى الإمام مالك أن يجلس فيما لا يليق بقدره.

فهذا ليس غرورا معرفة قدر النفس.

فلما رأى ازدحام الناس وقف وقال: يا أمير المؤمنين، أين يجلس شيخك مالك؟

فناداه المهدي: عندي يا أبا عبد الله.

فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى وأجلسه بجانبه.

بهذه العزة أجاب العالم الضرير المحدث معاوية محمد بن هارون الرشيد لما صب الماء على يديه.

-يعني الخليفة هارون الرشيد صب الماء على يدي معاوية.

وبعدما فرغ أخبره بأنه هو الذي صب الماء على يديه، فبماذا رد هذا الإمام؟

قال: إنما أكرمت العلم يا أمير المؤمنين.

ص: 17

الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى عزل نفسه عن القضاء بعض المرات ثم طلب ليولى، وقام السلطان الملك المنصور .. له واقفا لم أقبل.

فيترك لهم القضاء ويعتزل، فكان السلطان يترجاه أن يعود ثانية للقضاء.

فكان قادما ليولى من جديد فالسلطان بمجرد أن رآه من بعيد قام واقفا احتراما للإمام ..

السلطان المنصور .. وقف لما أقبل فصار يمشي قليلا قليلا

-تعمد ابن دقيق العيد أن يمشي بماذا؟

ببطء حتى يطيل وقوف الملك.

فصار يمشي قليلا قليلا ..

وهم يقولون له: السلطان واقف.

وهو يقول: أديني بمشي.

لأنه مصري، الإمام .. مصري، فكان يقول: أديني بمشي.

وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، يعني جلس بجواره حتى لا يجلس دونه، وقبل السلطان يده فقال: ابن دقيق العيد: تنتفع بهذا.

أيضا من أعظم ما يحمد لمكارم الأخلاق، يعني يقول ابن حزم: التي لم نسمع لها أختا.

أن أبي غالب تمام ابن غالب التيمي، ألف كتابا في اللغة يسمى تلقيح العين

فوجه إليه أبو الجيش ..

صاحب ..

أندلسية ومركوبا وأكسية، على أن يزيد في ترجمة الكتاب.

يعني يكتب اسم الكتاب وهو (تنقيح العين) ويضيف هكذا على الغلاف أنه مما ألفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد.

ص: 18

مما ألفه المؤلف نفسه لأبي الجيش مجاهد.

فرد الدنانير وغيرها ..

رجع له كل الهدايا التي أرسلها، وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له، والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب.

لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب.

يقول ابن حزم: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.

الحقيقة النماذج كثيرة جدا، من هذه النماذج مثلا: الإمام البخاري رحمه الله تعالى لما ترك البلد وكان سر ذلك أن خالد بن أحمد خليفة ابن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ والجامع على أولاده، فامتنع الإمام البخاري من ذلك، وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم آخرين.

فاستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى، حتى تكلموا في مذهبه فنفاه عن البلد فدعا عليه.

من ذلك أيضا ما جاء في ترجمة الخطيب البغدادي: أنه دخل علي بعض العلوية، وفي كمي الدنانير –في جيبه دنانير- وقال للخطيب: فلان يسلم عليك ويقول لك: اصرف هذا في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه وقطب وجهه، فقال العلوي: كأنك تستقله؟

ونفض الجيب أو الكم.

ونفض كمه على سجادة الخطيب، وطرح وكأنه يقول له: أتحسب أن ما أعطيه لك قليل.

وأخرج له الدنانير الذهبية على الحصيرة التي يجلس عليها، وقال له: هذه ثلاثمائة دينار.

فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.

فقال أحد تلامذة الخطيب: ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي.

وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها.

ص: 19

يقول القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجورجاني: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجم أرى الناس من داماهمو هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرم، ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع، صيرته لي سلما، وما زلت منحازا بعرضي جانبا من الذل أعتد الصيانة مغنما وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من في الأرض أرباب منعم.

إذا قيلَ: هذا مَنهلٌ قلتُ: قد أَرى

ولكنَّ نَفْسَ الحُرِّ تحتملُ الظَّما

ولم أبتذِل في خدمةِ العلم مُهجَتي

لأَخدِمَ من لاقيتُ لكن لأُخدما

أَأَشقى به غَرْساً وأجنيهِ ذِلَّة؟!

إذاً فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أحزَما

ولو أنَّ أهلَ العِلمِ صانوه صانَهم

ولو عظَّموهُ في النُّفوسِ تَعَظَّما

ولكن أذلوه فهانَ ودنّسوا

مُحيّاهُ بالأطماعِ حتى تَجهَّما

وكان عطاء بن أبي رباح عبدا أسودا لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء.

-نبات كالبازلاء أو شيء كهذا.

وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه

وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم.

-هم يسألون وهو يجيبهم وقد أعطاهم يعني ظهره.

ثم قال سليمان لابنيه بعدما أخذا الفتاوى: قوما، فقاما.

فقال: يا ابني لا تنيا –لا تكسلا- بالعلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

الإمام العز الدين بن عبد السلام كان إذ قرأ القارئ عليه كتاب وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده، ولو سطرا.

ويقول: لا أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب.

ص: 20

عالم آخر يشمت على الفقر والسؤال حتى لو فيه نيل العمياء، فينهى عن السؤال ومد اليد ولو للعمياء.

فمد اليد من العالم ذلة وانكسار نفس.

والعالم داعية الحق، فكسر نفسه بالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه.

يقول ذلك الفقير الشامخ الأبي: لا تمدن للعلياء منك يدا، حتى تقول لك العلياء: هات يدك.

وأنفذ الخليفة بمائة دينار إلى عالم، وقال لغلامه: إن قبل منك ذلك فأنت حر.

فحمل إليه فلم يقبل، فقال: اقبل ففيه عتقي.

فقال: إن كان فيه عتقك ففيه رقي.

تلا الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، كان في درسه مادا رجليه، فدخل عليه .. الشام إبراهيم باشا بن محمد علي صاحب مصر فلم يتحرك له ولم يقبض رجليه ولم يبدل قعدته فتألم الباشا، ولكنه كتم ألمه ولما خرج بعث إليه بصرة فيها ألف ليرة، فردها الشيخ وقال للرسول الذي جاءه بها: قل للباشا: إن الذي يمد رجليه لا يمد يده.

أما في الصغار: علامات شرف النفس ومعرفة قدرها، حتى في الصغار.

فقال وهو يجود بنفسه لابنه عبيد الله: ألا أوصي بك الأمير زيادا؟

يقول لابنه وهو يموت، وابنه صغير، يقول له: ألا أوصي بك الأمير زيادا؟

فقال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت.

إذا كان الحي من غير الميت ليس له أي قيمة فكأنه ميت هو أيضا.

إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت.

وقال الشاعر في نحوه:

إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي وهو ميت

ص: 21

وقال معاوية لعمرو بن سعيد وهو صبي: إلى من أوصى بك أبوك؟

-يعني قبل أن يموت.

قال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي.

قال: وبما أوصى إليك؟

قال: ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.

-يعني يحسن إلى إخوان أبيه كما كان أبوه يحسن إليهم.

وكان الشيخ عبد الوهاب الفارسي رحمه الله يسير يوما برفقة صديقه الشيخ محمد الجراح فصدمتهما سيارة، فسقط في حفرة وجرح.

ولما علم أن السائق كان سكرانا صفح عنه وامتنع من مقاضاته.

أنفة من أن يقف في موقف واحد مع سكران.

لأنه لو قاضوه سيقتضي الأمر أن يقف في صف واحد مع هذا الرجل، فأنفة من أن يستوي في مثل هذا الموقف مع واحد سكران، تنازل عن حقه.

إذاً هذه إشارة لنجدد العهد بهذا المعنى، معرفة قدر النفس.

الشاهد هنا من قول أمير المؤمنين لابن عباس: ..

لما قال: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين.

قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. فأجابه.

على هذا السنن صار ابن عباس منذ طفولته غير مبال بتثبيط من هو أقصر منه همة.

قال رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: ..

-يعني هو صبي وهذا رجل كبير.

فقال: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير.

ص: 22

-إن سكتنا كما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصحابة أيضا سيموتون أو يتفرقون في البلاد، فيقول له: تعالى نلحق الصحابة موجودين كثير ..

هيا نسألهم ونتعلم منهم الحديث أو العلم.

فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس أصحاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم.

-الناس تنتظرك أنت من أجل أن تتعلم؟!

فتركت ذاك.

-أعرض عن هذا المثبط.

قال: فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل –وقت القيلولة نائم- فأتوسد ردائي على بابه، يسف الريح علي من التراب.

فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟

هلا أرسلت إلي فآتيك؟

فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.

فأسأله عن الحديث.

فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني.

فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.

فحيا هلا إن كنت ذا همة فقد

حذا بك حاذ الشوق فاطو المراحل.

ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه

فإن العزم يكفيك حاملا

ص: 23

كان ابن شهاب رحمه الله تعالى يشجع الأولاد الصغار، ويقول لهم: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم.

فإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا بدا به الأمر دعا الفتيان –الشباب- فاستشارهم يتبع حدة عقلهم.

من أسباب معالجة الهمة، دائما من يكبر في السن تضعف همته.

فهو كان يعلي هذا بأن يكثر الجلوس إلى الشباب واستشارتهم حتى تنتقل العدوى، ينتقل حماس الشباب إلى الشيوخ بالعدوى.

هناك عدوى نفسية.

كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان يتبع حدة عقولهم.

- ليعالج الهدوء الذي يحصل عند الشيوخ.

وكان الخليفة هارون الرشيد رحمه الله تعالى، يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء حتى قال ابن المبارك: فما رأيت عالما ولا قارئا للقرآن ولا سابقا للخيرات ولا حافظا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه.

-بسبب تشجيعه لأهل العلم.

لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين ..

–يحفظ القرآن كله وابن ثمان سنين.

ولقد كان الغلام يستبحر العلم والفقه ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشر سنة.

ولقد بلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة.

من هؤلاء الأمراء المعز بن .. أحد أمراء دولة الصنهجيين في المغرب الإسلامي.

ص: 24

كان لا يسمع بعالم جليل، إلا أحضره إلى حضرته.

وجعله من خاصته وبالغ في إكرامه وعول على أعرائه ومنحه أسمى الرواتب.

كذلك فعل الخليفة الموحلي الثالث .. المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي أنشأ بيت الطلبة وأشرف عليه بنفسه.

وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده، فزع منهم وخاطبهم قائلا: يا معشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم إلي فزعهم وإلي ينسبون.

بلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر، حدا عجيبا، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مددا طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله.

حتى قال شعرا في شوقه إلى ولده الصغير.

فلما سمع المنصور هذا الشعر.

أرسل المهندسين إلى أشبيلية -في الأندلس- وأمرهم ..

- هذا الأمير كان في مراقش، فأرسل المهندسين إلى وطن هذا الطبيب العالم أبي بكر بدون أن يشعر، بعث المهندسين إلى أشبيلية.

وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم.

-بنوا له المكان مثل المكان بالضبط ويبدو أنهم بنوا له أيضا الحارة على نفس النمط.

ونقلوا عيال أبي بكر إليه.

-فكانت نفس الحارة، المهندسين عملوا مثلها، والبيت الذي يسكن فيه بالضبط مثله، وأحضروا أهله وأولاده ووضعوهم في البيت.

فلما رآها أبو زهر اندهش وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عنه ولا يستطيع التعبير عنه.

ص: 25

فهل سمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟

وفي القرن، قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتشجيع النابغين من جميع الأمصار والقرى وتوفير الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من علم وفن.

مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضاريا وعسكريا حتى باتت تهدد بغزو أوروبا.

-فعملية .. بالذات النابهين الذين هم المتفوقين والنوابغ والعباقرة.

هذا كانت في القرن السادس عشر الدولة العثمانية.

رعاية النابغين أهملت في أوروبا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين.

لأن هذه المجتمعات في الغرب كانت تسيء فهم النابغين، لأن كان هناك كتاب لواحد اسمه نمروزوا، ألف كتابا اسمه ( Genius men) يعني الرجل العبقري.

فكان يتكلم عن العباقرة الذين هم مجانين.

وهناك كتاب ثاني اسمه ( Mad genius) يعني جنون العبقرية، لواحد اسمه ليسوار.

نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، وأثبتا فيهم العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدما البراهين على أن النابغين مجانين.

-هم العباقرة لهم بعض المشاكل النفسية، يكون لهم حاجات غريبة هكذا ..

لكن التعميم هنا خطأ، ليس كل عبقري، هناك ملامح هكذا يعني ..

ثم بدأت الفكرة العامة للنابغين تتحسن بعدما نُشر كتاب ( instructs the child genius) يعني الطفل النابغة يرشد، سنة 1947.

أراد أن يمحو الفكرة القديمة على جنون العبقرية وقدم البرهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسيا وجسميا واجتماعيا.

فبدأ يتكون رأي عام يحترم النابغين، ولا يصفهم بالجنون.

ص: 26

حتى منتصف القرن العشرين، كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفا تربويا ولم يبذلوا جهودا جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضائية سنة 1957م.

فطبعا الأمريكان ذهلوا من هذه المفاجأة وشعروا بتخلفهم بالنسبة للروس في هذا الموضوع، فشعروا بالخطر من تفوق الروس عليهم، فاتجهوا إلى رعاية النابغين واعتبروها مسألة حياة أو موت، وجندوا علماء التربية وعلم النفس والاجتماع وعقدوا المؤتمرات والندوات لتخطيط وتنظيم رعاية فئات النابغين وتشجيعها على إظهار نبوغها في جميع المجالات وأنشأت كل ولاية العديد من المعاهد والفصول

المتخصصة في رعاية النابغين في جميع المجالات، حتى بلغ عدد المعاهد حوالي سبعمائة معهد تشرف عليها حوالي ثلاثمائة جامعة في أمريكا.

كما أسهمت المؤسسات التجارية والصناعية والعلمية في تمويل برامج الكشف عن النابغين ورعايتهم.

-طبعا الآن موضوع النابغين ورعاية النابغين علم مستقل وفيه مؤلفات مصنفة فقط لرعاية النابغين، لأنهم أيضا يكون لهم معاناة اجتماعية من نوع خاص، يشعرون بالإحباط دائما لأن البعد شاسع بينهم وبين الناس دونهم.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: قرأت مرة أن مجلة انكليزية كبيرة سألت الأدباء على الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب.

وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة، قالت: إنه التشجيع.

-التشجيع، السؤال كان ماذا؟

ما هو الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب؟

فكانت أحسن إجابة قالتها هذه الأديبة، قالت: إنها التشجيع.

ص: 27

وقالت: إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.

ذكر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى أثر التثبيط في خنق المواهب وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم.

-طبعا قبل أن نبعد عن موضوع أمريكا، طبعا الذهاب إلى أمريكا التي تعتبر أصعب بلد أو من البلاد التي يصعب جدا الحصول على تأشيرة دخول فيها، لكن إذا كان القادمين إليها نوابغ فالأمريكان هم الذين يلحون عليهم ويسهلون لهم جميع الأمور، خاصة لو واحد متخصص في العلوم النووية أو الطبية أو أي نوع من العلوم الحديثة المؤثرة فطبعا يهتمون جدا بالنوابغ.

وهناك لو واحد مثلا أنهى دراسته ويريد أن يرجع، يظلوا يغرونه إغراءات شديدة جدا حتى يبقى، كل أنواع الامتيازات ببذخ شديد ينفقون عليهم حتى يرضوا بالبقاء هناك.

فهي قائمة على استنزاف أو سرقة العقول المهاجرة وبالذات من العالم الإسلامي.

لماذا؟

لأنهم قدروا قيمة هذا الأمر، وهو التشجيع ورعاية هؤلاء المتميزين.

الشيخ علي الطنطاوي يقول ..

هو كان هناك عائلات معينة في الشام تحتكر الوظائف العلمية.

وكان أعضاء هذه العائلات يخافون جدا من أن يتفوق أي أحد في العلوم الشرعية فيتحول احتكار المناصب العلمية إلى غيرهم.

فيقول الشيخ: إن الشيخ محمد أمين بن عابدين، لما نشأ وعجز المثبطون منه الميل إلى العلم.

-المثبطون الذين ينتمون لهذه العائلات التي تحتكر المناصب العلمية، فشعروا أن هذا الفتى نابغة ويحب العلم جدا ومتفوق.

ص: 28

أعداء النجاح.

وعرفوا فيه الذكاء المتوقد والعقل الراجح، خافوا منه.

-خافوا منه في المستقبل أنه هو الذي ينبغ يعني.

فذهبوا يقنعون أباه وكان أبوه امرء تاجرا ..

- فقالوا له: ابنك هذا سيضيع مستقبله في العلم، فليكن امتدادا لك في التجارة ويكسب أموالا وهكذا ..

حتى يبعدونه عن طريق المزاحمة في العلم.

فكان أبوه امرء تاجرا ليسلك به طريق التجارة، .. في العلم.

فجعلوا يراسلونه ويرسلون إليه الرسل ويكتبون إليه الكتب.

ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيرا، فثبت الوالد فكان من هذا، الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية.

-أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.

يقول: بل أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلامة محمد بن كرد علي ..

-العلامة الكبير رحمه الله تعالى.

عن العلم فبعثوا إليه بشقيقين من آل ( .. ) ..

-والشيخ يضع نقاط حتى لا يسمهم.

يقول: .. بشقيقين قد ماتا، فلست أسميهما على الرغم من أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالبا.

-نجحوا في تثبيط أكثر من أربعين طالبا من طلاب العلم حتى ينصرفوا عن طلب العلم حتى لا يزاحموهم في المناصب العلمية.

ص: 29

فما زالا بأبيه -والد محمد كرد علي- ولم يكن أبوه من أهل العلم، فلم يزالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم ويعلمه مهنة يتكسب بها، فما في العلم نفع ولا منه فائدة.

ويلحان عليه و ..

حتى ضجر فصرفهما، فكان من ولده هذا الأستاذ كرد علي أبو النهضة الفكرية في الشام وقائده ووزير معارف سورية الأسبق ومفخرتها، والذي من مصنفاته خطط الشام وغرائب الغرب والقديم والحديث والمحاضرات وغائب الأندلس وحاضرها والإدارة الإسلامية والإسلام والحضارة العربية والمقتبس.

ومن مصنفاته المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن مصنفاته الشعراء والكتاب من الشباب.

ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الإحتكار والتثبيط كابن عابدين وكردي علي، وهذا هو العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى فما له مصنف رسالة فما فوقها، على جلالة قدره وكثرة علمه وقوة قلمه وشدة بيانه.

-لم يترك رسالة واحدة ولا أي مؤلف.

وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة وصعوبة الفهم وعرضها على شيخه فسخر منه وأنبه، وقال له: أيها المغرور، أبلغ من قدرك أن تصنف وأنت .. وأنت .. وأنت .. ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة.

-حرقها في المدفأة.

فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها.

-وقصة الشيخ الألباني معروفة جدا في سبب تأليف كتاب (تحذير الساجد) لما الشيخ احتقره جدا، ولكن الشيخ تفاعل بطريقة إيجابية جدا وتحدى، وظل يضيف إلى الكتاب حتى خرج كتابه الرائع:(تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد).

ص: 30

يقول العلامة علي الطنطاوي، العلامة الأديب رحمه الله: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مرب الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى، الفيلسوف المؤرخ الجدلي الذي من آثاره:(المدارس الابتدائية النظامية في الشام).

-طالب كان له شخصية مميزة جدا، تكلمنا عنه من قبل؟، جئنا بسيرته في أثناء دروس (رجل لكل العصور).

فما كانت علاقته بابن تميمة؟ ماذا فعل مع شيخ الإسلام؟

ماذا كان يفعل من أجل أن ينشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية؟

يشتريها غالية جدا، ثم يعطيها لمحلات الكتب بسعر رخيص جدا حتى يسهل انتشارها بين الناس.

فكان له دورا كبيرا جدا في نشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

يقول: كان هذا أول من سن سنة التشجيع في بلدنا.

-وهو العلامة طاهر الجزائري رحمه الله.

ما هي آثار طاهر الجزائري؟

هو الذي عمل المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية.

والأستاذ محمد علي كرد علي بك من تلامذته، وخالي الشيخ محب الدين الخطيب -خال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

هذا أيضا من آثار وبركات الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله.

مما كتب في ذم التثبيط ..

-طاهر الجزائري يذم عملية التثبيط أعداء النجاح.

ص: 31

يقول: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل.

وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولا يرى أحد من المثبطين قديما أو حديثا أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على خطر هذه العادة والتحذير منها ليخلص منها من لم .. وينتبه الناس لأربابها، ليخلصوا من ضررهم.

كان الشيخ في حياته يشجع كل عامل ولا يثني أحد عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له ..

-الشيخ طاهر الجزائري قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له أن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته وتكسر همته، ولكن أقبله وحبب إليه النحو فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.

فهنا نرى يعني هذا النموذج الرائع من الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى.

يقول للمربي أو للمعلم: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام ..

فلو واحد لا يفهم في التربية ماذا سيقول له؟

أي ثلاثة ايام، إن أقل شيء ثلاث سنوات.

إلى آخره.

هو يقول: لا، بمجرد أن لديه روح المبادرة والحرص على التعلم فلا تقل له: لا، لا يكفي، ولكن ابتدأ في تعليمه.

إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له أن هذا غير ممكن، فتفل عزيمته وتكسر همته، ولكن أقبله وحبب إليه النحو فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.

ص: 32

-هكذا يكون التشجيع، بخلاف طبعا سلوك بعض المربين أو المدرسين، مثلا: إن الطفل يأتي للمدرس وقد رسم شيئا معينا أو كتب شيئا معينا، أحدهم يفعل أي شيء ويقول: شعر.

فإذا به يرمي له به، ويقول له: ما هذا الكذا الذي عملته؟

ويرمي الكراسة أو يمزقها أو يسخر منه.

فطبعا هذا يدرج في أعداء النجاح، لكن الصحيح إننا لابد من التشجيع والتقبل على ما في انجازه من عيوب، لأن البدايات دائما تكون ضعيفة لكنه ينمو مع الوقت.

يقول: أيضا التشجيع هو كما لو أنك تمشي في طريق مظلم أو في مكان مظلم وتريد أن تكتشف معالمه، فالتشجيع مثل الضوء أو المصباح الذي نستعمله لتكتشف المواهب المخبوءة.

المواهب المكنوزة المخبوءة.

فالتشجيع يفتح الطريق للعبقرية المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها وتؤتي أكلها.

ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالما من أساتذة العلماء أو أديبا من أعاظم الأدباء.

في علماء القرن الماضي في الشام، من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة إلى منصب الأستاذ وكرسي التدريس تحت القبة ..

هذا يذكرنا باثنين من الأقباط في مصر، كانا في تاريخ الحملة الفرنسية تقريبا، الاثنين أسلما وأحدهما صار مفتيا ثم شيخا للأزهر، والآخر صار شيخا للأزهر.

اثنان من الأقباط.

-والشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله تعالى العلامة الفقيه الكبير المحدث الشافعي، صاحب تكملة المجموع، أيضا رأس .. كان قبطيا وأسلم، وسبب هدايته للإسلام مكتبة أبيه، لأن أباه كان عنده

ص: 33

مكتبة ضخمة جدا، وكان مما تحتويه الكتب الإسلامية، فهو اهتدى على يد هذه الكتب التي كانت في بيت أبيه.

ورغم أن أباه كان من أهل الثراء والجاه من أهل الصعيد، لكنه ووجه بحرب شديدة جدا لما أسلم وطرد من البيت، ورجل عصامي بمعنى الكلمة.

ومن يذكر الشيخ المطيعي رحمه الله تعالى كان مميزا جدا ..

أولا كان في لغته قمة في الفصاحة، قمة في الفصاحة، وكان له دروس كثيرة وله تلامذة كثر يعني في العالم كله، رحمه الله تعالى.

فالشاهد إن الإسلام المفروض أنه يعطي كل الناس الفرصة، فتخيل اثنان من الأقباط يرتقيان في العلم بالإسلام إلى الحد الذي يجعل كلا منهما شيخا للأزهر في الوقعت الذي كانت مشيخة الأزهر هذه، يعني حاجة، قمة القمم في العلم.

رحم الله هذه الأيام.

يحكي هنا عن واحد كان خياطا، اسمه محمد إسماعيل.

يقول: نشأ هذا الشيخ الحائك عاميا لكنه محب للعلم ..

محب للعلماء فكان يحضر مجالسهم ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، لا يفوته الجلوس في الصف الأول.

فجعل الشيخ يؤنسه ..

-العالم الكبير الذي كان يعطي الدرس كان يتلطف به ويؤنسه.

يؤنسه ويلطف به، لمايرى من دوامه وتبكيره ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، واشترى الكتب يحيي ليله باستعادة الدرس واستعان على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهرا حتى أتقن علوم الآلة ..

ص: 34

- (اللغة والنحو الصرف والبيان وأصول الفقه ومصطلح الحديث .. إلى غير ذلك، كل علوم الآلة).

وصار واحد زمنه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي.

-الناس بدأت تترك المفتي الرسمي وتذهب لهذا الشيخ، فساء ذلك العماديين وآلمهم

فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا له سبيلا، فقد كان يحيا من عمله ويحيا الناس من علمه.

كان يمر كل يوم بدار العماديين بقيمورية، وهو على إتان -حمارة- له بيضاء.

فيسلم .. السلام .. فمر يوما كما كان يمر، فوجد على الباب أخا للمفتي فرد عليه السلام، وقال له ساخرا: إلى أين يا شيخ، أذاهب أن إلى استانبول لتأتي بولاية الإفتاء، وضحك وضحك من حوله.

-يسخرون منه، أين تذهب يا شيخ؟ أتذهب إلى استانبول عاصمة الخلافة، أتذهب لتجيء من هناك منشورا بأن تكون أنت المفتي في البلد، وهذا كان أخو المفتي العمادي.

يقول: إلى أين يا شيخ؟ أذاهب أنت إلى استانبول لتجيء

أما الشيخ فلم يزد على أن قال له: إن شاء الله.

وصار في طريقه، حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله وأعطاهم نفقاتهم، وسافر، وما زال يفارق بلدا ويستقبل بلدا حتى دخل القسطنطينية فنزل في دار قريب من دار المشيخة -وهو شيخ الإسلام العثماني- وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلونه ولم يكن الترك قد جنوا الجنة الكبرى بعد.

-القوميات، وهذا الكلام الذي يضيع كثيرا.

ص: 35

فكانوا يعظمون العربي لأنه من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي اهتدوا به وصاروا به وبقومه ناسا.

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون معه يحدثونه، فقال رجل منهم: إن السلطان سأل المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يجدوا لها جوابا، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟

فقال: نعم.

فقال: سر معي إلى المشيخة.

قال: باسم الله

ودخلوا على ناموس المشيخة (السكرتير).

فسأله الشيخ اسماعيل عن المسألة، فرفع بصره فقلب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخذ الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته -هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس- فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل.

حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب.

ودفعها إلى الناموس ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضي أن يموت دهشة وسرورا، وقال له: ويحك، من كتب هذا الجواب؟

قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت.

قال: علي به.

فدعوه، وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام.

ص: 36

-الأتراك إذاً في الاهتمام بهذه المظاهر وإقامة الرسول والصور وكيف يسلم وينحني ويعمل، يعني كانوا يشغلون أنفسهم جدا بهذه الأشياء.

فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعا يده على صدره منحنيا ثم يمشي متباطئا حتى يقوم بين يديه إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة، التي نسيها الشيخ ولم يحفظ منها شيئا.

ودخل على شيخ الإسلام فقال له: السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، لكن شيخ الإسلام سر بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله: حتى قال له: سلني حاجتك؟

فقال: إفتاء الشام وتدريس القبة.

-أي يدرس في مسجد القبة ويكون مفتيا للشام.

وهو الشيء الذي كان العماديين يسخرون منه.

قال: إفتاء الشام وتدريس القبة.

قال: هما لك، فاغد علي غدا.

فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيسا فيه ألف دينار.

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه ودار حتى مر بدار العماديين ..

-وهو راجع بالحمارة البيضاء -الإتان- فمر على نفس مكان العماديين ..

فإذا صاحبنا على الباب فسخر منه كما سخر، وقال: من أين يا شيخ؟

فقال الشيخ: من هنا، من استانبول، أتيت بتولية الافتاء كما أمرتني.

ثم ذهب إلى القصر الوالي بالفرمان وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة.

همم الرجال إذا مضت لم يثنها خ ..

ص: 37

من .. الشيخ علي كسبر، وقد كان خياطا في سوق الاسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه فيشجعه ويحثه على القراءة.

فقرأ ودأب على المطالعة حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدا، وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله حتى صار مقدما في كافة العلوم فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد، فافتقدوا المع .. فلم يجدوه، ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به، فقرأ الدرس وشرحه شرحا أعجب به الحاضرون وطربوا له، فعين مدرسا ولبث خمسة عشر عاما يدرس تحت قبة ال .. وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم.

-من العلماء في الحقيقة من كان يحرص حرصا شديدا على التفتيش عن النابغين ورعايتهم ولعل أشهر شخص ..

تعرفون من؟

-أحد الطلبة: ..

-فضيلة الشيخ: الإمام أبو حنيفة أحسنت.

المتنبي شاعر العرب الفحل الذي نشأ في أسرة فقيرة غير متعلمة، لكن الله عز وجل قيض له فرصة التعليم المجاني في كتاب خاص بأبناء أشراف الكوفة، وشجعه أصحاب المكتبات على قراءة الكتب دون مقابل.

يروى أن وراقا كان يلازمه، قال: كان اليوم عندي -يعني المتنبي- وقد أحضر رجلا كتابا في ثلاثين ورقة لبيعه فنظر أبو الطيب فيه طويلا، فقلت له: ما هذا؟

أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك.

-يعني هو ماذا فعل؟

ص: 38

الرجل جاء بكتاب من ثلاثين ورقة وسيبيعه لصاحب المكتبة، فهو داخل فأخذ المتنبي منه الكتاب من الشغف يعني، وهو كان جالسا فأخذ منه الكتاب الذي يريد بيعه وأخذ يتصفحه، فالرجل الذي جاء بالكتاب قال له: عطلتني أنا جئت بالكتاب لأبيعه، أنت أخذته مني هذه المدة وعطلتني.

فقال له: ما هذا؟ أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله.

-تريد أن تحفظه، فتحتاج إلى شهر إن شاء الله، أستقعدني شهر أنتظرك؟

فقال المتنبي: إن كنت حفظته.

-هذه الدقائق التي نظر فيها في الكتاب يتصفحه.

قال الرجل: أهب لك الكتاب.

قال: اسمعها مني.

يقول: فأخذت الدفتر من يده وأقبل يتلوه حتى انتهى إلى آخره.

-سمع له الكتاب كله.

من أشهر من كان يعنى بالتفتيش عن النابهين ويستن .. من ظروفهم القاسية، ويأخذ بأيديهم في طلب العلم الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقد حرص الإمام أبو حنيفة عندما تولى حلقة الدرس بعد شيخه حماد على رعاية تلاميذه النابغين، فقد كان يواسيهم من ماله الخاص ويعينهم على نوائب الدهر.

حتى أنه كان يزوج من كان في حاجة إلى الزواج وليس عنده مؤنته.

ويرسل لكل تلميذ حاجته، فقال شريك لأحد تلامذته: كان يغني من يعلمه وينفق عليه وعلى عياله، فإذا تعلم قال له: لقد وصلت إلى الغنى الأكبر، بمعرفة الحلال من الحرام.

ص: 39

وكان ينظر إلى نفوس تلاميذه ويتعاهدها بالرعاية والنصحية، فإذا وجد من أحدهم إحساسا بالعلم يمازجه الغرور أزال عنه الغرور ببعض الاختبارات التي تثبت له أنه ما زال في حاجة إلى مزيد من العلم.

ذكر الكرداني في مناقبه بسنده إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال.

-الإمام الكبير صاحب أبي حنيفة، أبو يوسف.

يقول: كنت أطلب الحديث وأنا مقل المال، فجاء إلي أبي وأنا عند الإمام.

فقال لي: يا بني لا تمدن رجلك معه.

-سيضيعك أبو حنيفة فلا تجلس هنا معه، سيضيع مستقبلك، باللغة الحديثة يعني.

فقال له: يا بني لا تمدن رجلك معه فإن خبزه مشوي، وأنت محتاج.

فقعدت عن كثير من الطلب ..

- فأبوه تسبب في أن أخل بطلب العلم وكسبه.

يقول: واخترت طاعة والدي، فسأل عني الإمام وتفقدني وقال حين رآني: ما خلفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الإنصراف دفع لي صرة فيها مائة درهم. فقال: فقال أنفق هذا، فإذا تم فأعلمني.

-بعدما تستنفد هذه النفقة.

فأعلمني والزم الحلقة.

فلما مضت مدة دفع إلي مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام كأنه كان يخبر بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم، أحسن الله مكافأته وغفر له.

-انتهى كلام الإمام أبي يوسف رحمه الله تعالى.

ص: 40

وذكر الكردني أيضا أن الحسن بن زياد كان فقيرا، وكان يلازم الإمام أبا حنيفة، وكان أبوه يقول له: لنا بنات وليس لنا ابن غيرك فاشتغل بهن.

فلما بلغ الخبر الإمام أجرى عليه رزقا، وقال: الزم الفقه، فإني ما رأيت فقيها معسرا قط.

وربما لمح أبو حنيفة شخصا عال الهمة تلوح من محياه النبوغ، فضن بموهبته أن تنفق في طلب الدنيا وشجعه على طلب العلم.

قال أبو حنيفة رحمه الله: مررت يوما على الشعبي وهو جالس فدعاني، فقال: إلام تختلف؟

فقلت: أختلف إلى فلان.

-يقصد واحدا تاجرا في السوق أو شيئا من هذا.

فقال: لم أعن من السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء؟

-لمن تحضر من العلماء؟

فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم.

فقال: لا تفعل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وحركة.

قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف ..

-يعني إلى السوق.

وأخذت من العلم، فنفعني الله تعالى بقوله.

-فهذا موقف الإمام أبي حنيفة نفسه، انظر إلى هذه النصحية كيف أثرت فيه.

وعن .. أحد شيوخ الإمام البخاري رحمه الله.

قال: كنت أتجر فقدمت على أبي حنيفة، فقال: يا مكي، أراك تتجر، التجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير، فلما لا تتعلم العلم ولما لا تكتب؟

فلم يزل بي حتى أخذت في العلم وكتابته وتعلمه.

ص: 41

فرزقني الله منه شيئا كثيرا.

فلا أزال أدعو لأبي حنيفة في دبر كل صلاة وعندما ذكرته، لأن الله ببركته فتح لي باب العلم.

ربما كان لتجربة الإمام أبي حنيفة مع شيخه الإمام حماد أثر عظيم في مسلكه هذا.

لأن الإمام حمادا اكتشف نبوغ أبي حنيفة وعلو همته فخصه برعايته، وقربه من مجلسه مؤملا أن يكون حسنة من حسناته يهديها إلى الأمة.

انخرط أبو حنيفة النعمان في التعليم على يد شيخه حماد بالمسجد الجامع بالكوفة، وعندما لمس فيه النجابة وسرعة الحفظ وسلامة التفكير أجلسه بإزائه، واحترم رأيه، وشجعه على الاستقلال بالرأي والاجتهاد ولم يتبرم من كثرة أسئلته واستفساراته، لما فيها من عمق ودقة.

فمما يروى أن أبا حنيفة انصرف من مجلس حماد، بعد أن سأله عدة أسئلة، وألح في الجدل حتى احمر وجه حماد.

-احمر وجه الشيخ الذي قال لجاره واصفا صلاح تلميذه: هذا على ما ترى منه ..

-انظر إلى كثرة الأسئلة التي يسألها.

هذا على ما ترى منه -من كثرة انشغاله بالعلم- يقوم الليل كله ويحيه.

واستمر أبو حنيفة مع أستاذه ثمانية عشر سنة ولم يستقل بالدرس والتمحيص إلا بعد وفاة حماد.

ربما كانت نصيحة عابرة فيها تشجيع من عالم مخلص بداية نقطة تحول في حياة أحد النابغين إلى انتفاع عموم الأمة به.

فذلك الإمام الذي لقي نابغة كبير الهمة وقد جاور في الحرم المكي الشريف وخلى مكانه في التعليم والدعوة في بلده، فأرشده إلى تصحيح مساره بقوله: ليس هذا مكانك.

-لأن الذي يجاور في الحرم الشريف هذا يكون نفعه لازما، أما إذا كان شخص ينتفع به كل الناس، فهذا يجب أن يكون نفعه متعديا يعود إلى بلده ويشتغل بالتعليم والدعوة أولى.

ص: 42

فقال له: ليس هذا مكانك.

وكان سبب أخذ الإمام الشافعي في العلم، ما حكاه مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: كان الشافعي رحمه الله تعالى في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم أخذ في الفقه بعده، وكان سبب أخذه في العلم: أنه كان يوما يسير على دابة له، وخلفه كاتب لأبي .. تمثل الشافعي ..

-وهو أبوه الذي هو عبد الله بن الزبيري.

تمثل الشافعي ببيت شعر فقرعه كاتب أبي بصوته ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟

-يعني أتضيع عمرك في الشعر وأنت رجل شريف من قريش؟

لأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يعتبر ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى وهو طالبي من قريش، شريف من قريش.

فقرعه بالصوت، فقال: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا؟

مع كون الشافعي كان حجة في اللغة العربية رحمه الله، وهو القائل:

ولولا أن الشعر بالفضلاء يزري به لقال الناس أشعر من لبيب

يعني الشافعي لو استمر في الشعر لكان تفوق جدا على أصحاب المعلقات السبع، لكنه ترك الإكثار من الشعر مروءة.

قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا؟!

أين أنت من الفقه؟

فهزه ذلك.

اهتز لذلك.

اهتز الشافعي بهذا الموقف.

ص: 43

فقصد مجالسة الزنجي مسلم بن خالد، وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس.

رحمه الله.

وقال الشافعي: كنت أنظر في الشعر، فارتقيت عقبة بمنة، فإذا صوت من خلفي: عليك بالفقه.

-لا يبعد أن يكون هذا من التحديث أو الإلهام يعني.

قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال: يا فتى من أين أنت؟

قلت: من أهل مكة.

قال: من أين.

قلت: شعب بالخيف

قال: من أي قبيلة أنت؟

قلت: من عبد مناف.

قال: بخ بخ، لقد شرفك الدنيا والآخرة.

ألا فعلت فهمك في هذا الفقه، فكان أحسن بك؟

ثم رحل الشافعي من مكة إلى المدينة قاصدا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وفي رحلته مصنف مشهور مسموع.

-ما هو؟ ما اسمه؟

رحلة الشافعي.

فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظا، فأعجبته قراءته ولازمه، وقال له مالك: اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن.

ص: 44

وفي رواية أخرى أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفه بالمعاصي.

وكان للشافعي رحمه الله حين أتى مالكا ثلاث عشرة سنة، ثم ولي باليمن.

وقد أمره بالإفتاء شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي إمام أهل مكة ومفتيها، وقال له: أفتِ.

-كم كان عمر الشافعي.

خمس عشرة سنة.

قال له مسلم بن خالد شيخه: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي.

وكان للشافعي إذاك خمس عشرة سنة.

وأقاويل أهل عصره في هذا كثيرة مشهورة، وأخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة مع توفر العلماء في ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة لعظم .. وعلو مكانته، وهذا كله من المشهور المعروف في كتب مناقبه وغيرها.

فحكى ابن العلامة القرآني الإمام محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: أن أمارات النبوغ وعلو الهمة، لما لاحت على والده في طفولته قال له شيخه: يا بني إن العلماء يقولون: إن من وجد من نفسه استعدادا وموهبة تؤهله للإمامة تعين عليه طلبها.

-تصير واجبا في حقه، وتعين عليه.

وإن طلب الإمامة في الدين متعين عليك، فلا تضيع نفسك.

*ومن عجيب النماذج الناجحة لزراعة النجم عن طريق التشجيع، أن هناك كلمة مشهورة عن نيلسون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا المعروف، كان يتكلم عن كلمة التشجيع كيف يكون لها مفعول السحر في نفس الإنسان، وكان يقول: إن أفضل طريقة لإحداث الشخص الذي تريد أن تزرع فيه الثقة أن تقول له: إن المهمة الفلانية أنت أهل لها، وأنا واثق من إنك قادر على إنجازها.

فهذه صورة للتشجيع، يعني لا تجعله يستصعب شيئا ..

ص: 45

وسوف ينجح.

طيب إذا فشل، قل له: إن الفشل خطوة في طريق النجاح.

اي استمر.

مثل ما واحد يقطع مثلا مسافة جري حول مكان معين مسافة مستديرة، وبدأ الجري.

هو أخذ التراك، كما يقولون.

لكن لو تعثر في الطريق، بعدما قطع مثلا نصف كيلو أو شيئا من هذا، أخلاص هكذا، كل حاجة أحبطت؟ أم يكمل؟

فالتعثر خطوة في طريق النجاح.

لابد إن .. مرة واحد قال ماذا؟

من الناس الناجحين جدا.

قال: لقد فشلت وفشلت وفشلت، ولذلك نجحت أخيرا، لأن الفشل يعطي الناس دروسا وعبرا.

من الفشل فيما يأتي.

وليس الناس الذين يبحثون عن شيء يتكئ عليه ليبرر الفشل والاستسلام.

فلابد عند التعامل مع ..

والذين يربيهم الإنسان أن يزرع فيه الثقة أنه سيكون منه شيئا كبيرا، بدون أن يصيبه الغرور يعني، لكن الشرارة التي يحتاجها في البداية حتى ينطلق.

-من أعظم الأمثلة على ذلك بجانب ما ذكرنا من قبل، الشيخ: آق شمس الدين.

آق شمس الدين، أيعرفه أحد؟

هذا مرب السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله تعالى.

ص: 46

هذا الشيخ نفسه، .. قبل أن يولد تشرشل يعني، لكن نفس الوصية.

هذا ابن السلطان، وفي يوم من الأيام سيكون السلطان، فماذا فعل كي يحدث تغييرا كبيرا في الأمة، ركز على هذا الطفل، وكان هو الذي يربيه، فكان بين وقت وآخر يأخذ هذا الطفل ويمشي به، يمر به على الساحل، الذي هو جزء من استانبول الذي يقع في قارة آسيا، ويشير إلى الجهة الأخرى من القسطنطينية.

يشير إلى أسواره، وكانت القسطنطينية طبعا محصنة تحصينا شديدا جدا، فيشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعد شامخة .. ثم يقول له: أترى إلى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟ إنها القسطنطينية. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلا من أمتي سيفتحها بجيشه. ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ» (1) ..

ومازال يكرر هذه الإشارة على مسمع الأمير الصبي إلى أن نبت شجرة الهمة في نفسه، وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي يبشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

فقد كان والده السلطان مراد الثاني العثماني منذ صغره يستصحبه معه، بين حين وآخر إلى بعض المعارك، ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم واستعداداتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عمليا، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة.

ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة .. القسطنطين ليسلمه القسطنطينية فلما بلغه رفض الامبراطور تسليم المدينة، قال رحمه الله:«حسنا عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر» .

-انظر إلى الهمة.

(1) مسند أحمد من حديث بشر الخثعمي عن أبيه، قال الألباني: ضعيف.

ص: 47

مثل الملك عبد العزيز رحمه الله لما بعث ابنه فيصل لفتح منطقة عسير في الجنوب، قال له: اذهب إلى عسير فإما أن تعود منتصرا وإما ألا تعود.

انظر إلى الخيارات.

وهذا له نظائر كثيرة في التاريخ يكون لها أثر على نفوس الناس.

الإمبراطور رفض أن يسلم المدينة، قال:«حسنا عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر» .

وقد كان له الإثنان، أولا العرش لما فتحها، ثم إن قبره موجود للأسف الشديد في مسجد محمد الفاتح لما حصلت الصلاة على الشهداء في داخل مسجد السلطان محمد.

لأن هؤلاء الأتراك والصوفية فيهم منتشرة، ونحن نأخذ القصة هكذا على بعضها يعني بدون تشريح، حتى تحصل العبرة.

حاصر السلطان محمد الفاتح أنعم به من فاتح القسطنطينية واحد وخمسين يوما تعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله على يد بطل شاب له من العمر ثلاث وعشرون سنة.

-حينما فتح القسطنطينية كان له ثلاثة وعشرين سنة، وحقق هذا الفاتح البطل للمسلمين أملا غاليا ظل يراودهم ثمانية قرون حاولوا تحقيقه مرارا فلم يفلحوا وكأن القدر كان قد ادخر هذا الشرف لهذا البطل المغوار.

على أي الأحوال هذه كانت بعض النبذ تتعلق بالتشجيع وأثره في التربية أو في تغيير السلوك إلى أحسن، وكذلك أثر التثبيط في خنق المواهب.

فلنكن جميعا من أهل التشجيع لهؤلاء البراعم، ولنحذر أن نكون من أعداء النجاح ..

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ..

ص: 48