الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقَدّمَة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن من تأمل دين الإِسلام في تقريراته وتشريعاته، يعلم أن هذا الدين لم يدع أمراً فيه صلاح للأمة، إلا وأمرها به، ولا شيئاً فيه ضرر لها، إلا وحذّرها
(1) الآية (102) من سورة آل عمران.
(2)
الآية (1) من سورة النساء.
(3)
الآيتان (70 و 71) من سورة الأحزاب.
منه، "وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة"(1).
يدل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء، إلا وهو يذكرنا منه علماً، قال: فقال صلى الله عليه وسلم: "مابقي شيء يقرّب من الجنة، ويباعد من النار، إلا وقد بين لكم"(2).
ومن هنا نعلم أن هذا الدين قد نظم حياة الأمة في جميع العصور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو دين شامل لجميع نواحي الحياة، في السياسة، والاقتصاد، والتعليم
…
، وغير ذلك من مستلزمات الحياة، لا يمكن أن يقال: إن هناك ما لا دخل للدين فيه، ولا يسوغ بحال تجزئة الدين بأخذ بعضه، ونبذ بعضه الآخر:
لكن كيف للأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة ما أُمرت به من أوامر، وما نهيت عنه من نواهي؟.
لا شك بأن كتاب الله جل وعلا فيه الهدى والنور، بيد أنه أجمل أموراً لابدّ من تفصيلها وتوضيحها، وسكت عن أشياء لابد من بيانها والحديث عنها، لا عن قصور في هذا الكتاب، لكن لتتمّ البلوى والامتحان، ويتمحّص الناس، ويظهر مدلول قوله تعالى:
(1) الاعتصام للشاطبي (ص 49).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 166 رقم 1647)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 264):"رجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة".
(3)
الآية (85) من سورة البقرة.
ولو أن أحداً من الناس رام الاقتصار على ما نص عليه كتاب الله تعالى من أحكام، لكان للصواب مجانباً، وعن الحق متباعداً، فمن أين له معرفة عدد الصلوات التي افترضها الله في كتابه؟ وعدد ركعات كل صلاة منها؟ ومن أين له معرفة أنصبة الزكاة، وأحكام الحج والصيام، وغير ذلك من الأحكام؟
وقد أدرك رسول الهدى -صلوات الله وسلامه عليه- خطورة هذه المقالة، فقال:"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".
وفي رواية: "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكيء على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله"(2).
وعن شبيب بن أبي فضالة المكّي أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكروا عنده الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا النّجيد، إنكم لتحدّثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن؟ فغضب عمران، وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت صلاة العشاء أربعاً، ووجدت
(1) الآية (80) من سورة النساء.
(2)
أخرج الرواية الأولى أبو داود في سننه (5/ 10 رقم 4604) في السنة، باب في لزوم السنة، والِإمام أحمد في المسند (4/ 130 - 131)، كلاهما من طريق حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، به، واللفظ لأبي داود. وأخرج الرواية الأخرى الترمذي في سننه (7/ 426 رقم 2801) في العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإِمام أحمد في المسند (4/ 132)، وابن ماجه (1/ 6 رقم 12) في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثتهم من طريق معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر، عن المقدام، به، واللفظ للترمذي.
المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعمّن أخذتم هذا الشأن؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ ووجدتم فِى كل أربعين درهماً درهماً، وفي كل كذا شاة، وفي كل كذا بعير كذا؟ أوجدتم في القرآن هذا؟ قال: لا، قال: فعمّن أخذتم هذا؟ أخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذتموه عنا.
قال: وجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 29) أوجدتم: فطوفوا سبعاً، واركعوا ركعتين من خلف المقام؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ فعمّن أخذتموه؟ ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى. قال: أوجدتم في القرآن: "لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام؟ (1) أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا، قال عمران: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا جلب ولا جنب ولا شغار في الِإسلام". قال: سمعتم الله تعالى قال في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)
(1) الجَلَبُ في الصدقة: أن يقدم المصدق فينزل موضعاً، ثم يرسل إلى المياه من يجلب إليه أموال الناس، فيأخذ زكاتها، فنهي عن ذلك، وأمر أن يأخذ زكاتها على مياهها.
والجَلَبُ في السباق: أن يضع من يجلب على الفرس عند السباق، ويصيح به ليحتد في الجري، فَنُهوا عن ذلك.
والجَنَبُ في الصدقة: أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تُجْنَبَ إليه: أي تحضر، فنَهوا عن ذلك. وقيل: هو أن يَجْنُب رب المال بماله: أي يبعده عن موضعه حتى يحتاج العامل إلى الِإبعاد في اتباعه وطلبه.
والجَنَبُ في السباق: أن يَجْنُب فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحوّل إلى المجنوب.
والشغار في النكاح: أن يقول الِإنسان: زوّجني ابنتك أوأختك، لأزوجك ابنتي أو أختي، وصداق كل واحدة منهما بُضع الأخرى، ولا صداق بينهما. وقيل له شغار: لارتفاع المهر بينهما، من شَغَر الكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول./ انظر النهاية في غريب الحديث (1/ 281 و 303) و (2/ 482)، وجامع الأصول (4/ 606 - 607).
قال عمران: فقد أخذنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم (1).
هذا مع أن من وفّقه الله، وألهمه رشده لا يشك في أن كتاب الله اشتمل على كثير من الآيات الدّالة على وجوب الأخذ بالسنة، بل جعل ذلك من مستلزمات الِإيمان، فقال تعالى:
أما الآيات الدالة على وجوب الأخذ بالسنة، فكثيرة، منها قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3)، ومنها قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)، ومنها قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5)، وغير ذلك من الآيات كثير.
وكان الصحابة رضي الله عنهم على غاية من الحرص في نشر المفهوم الصحيح لآيات القرآن .. فعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن، المغيرات خلق الله. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك؛ أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن،
(1) أخرجه البيهقي في المدخل إلى دلائل النبوة (1/ 25/ 26)، وروى نحوه مختصراً السمعاني في "أدب الإِملاء والاستملاء"(ص 4).
(2)
الآية (65) من سورة النساء.
(3)
الآية (32) من سورة آل عمران.
(4)
الآية (63) من سورة النور.
(5)
الآية (7) من سورة الحشر.
المغيرات خلق الله. فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه: قال الله عز وجل: {وَمَاءَاتَكُمُ الرَّسُوُل فَخُذُوه وَمَا نَهَاكم عَنه فانتَهُوا}
…
الحديث (1).
ولست أريد الاستطراد في ذكر الأدلة على وجوب الأخذ بالسنة، فقد كفانا مؤنة ذلك فحول العلماء، كالشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة (2) وغيره.
ويكفي في ذلك إجماع أهل السنة من السلف، فمن بعدهم، إلى عصرنا هذا، علي وجوب الأخذ بالسنة كمصدر ثان للتشريع الإِسلامي، وأنها هي المبينة للقرآن كما قال تعالى:
ونظراً لاستقرار هذا المفهوم لدى سلف الأمة، فقد صرفوا جُلّ اهتمامهم للعناية بالسنة، حفظاً وتدويناً، ونشراً لها، انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم:"بلّغوا عني ولو آية"(4)، وقوله:"نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً، فبلّغه كما سمعه، فرُبّ مُبَلّغ أوعى من سامع"(5).
بدأ ذلك منذ وقت مبكّر، في عهده صلى الله عليه وسلم. فقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يكتب كل شيء سمعه من
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 620 رقم 4886) في التفسير، باب:{وما آتاكم الرسول فخذوه} .
ومسلم (2/ 1678 رقم 120) في اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة ....
(2)
ص 72 فما بعد.
(3)
الآية (44) من سورة النحل.
(4)
أخرجه البخاري (6/ 496 رقم 2461) في الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
(5)
أخرجه الترمذي (7/ 417 رقم 2795) في العلم، باب في الحث على تبليغ السماع، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد حفظه، فنهته قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضى؟ قال: فأمسكت عن الكتاب، حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال:"اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق"(1).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب، ولا أكتب (2).
وكان التثّبت في تلقي الأحاديث معمولًا به لدى صحابته صلى الله عليه وسلم. ففي حديث أبي موسى الأشعري أنه جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال: ردوا علي، ردوا علي، فجاء، فقال: يا أبا موسى، ما ردك؟ كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع"، قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت، وفعلت، فذهب أبو موسى. قال عمر إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة، فلم تجدوه، فلما أن جاء بالعشيّ، وجدوه، قال: يا أبا موسى، ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم، أبيّ بن كعب، قال: عَدْلٌ، قال: يا أبا الطفيل، ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئاً، فأحببت أن أتثبت (3).
(1) أخرجه أبو داود (4/ 60 رقم 3646) في العلم، باب كتاب العلم.
(2)
أخرجه البخاري (1/ 206 رقم 112) في العلم، باب كتابة العلم.
(3)
أخرجه البخاري (4/ 298 رقم 2062) في البيوع، باب الخروج في التجارة. ومسلم (2/ 1696 رقم 37) في الآداب، باب الاستئذان، واللفظ لمسلم.
ثم لم تزل العناية بجمع السنة وحفظها موضع اهتمام الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يرحل من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.
قال عطاء بن أبي رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، وغير عقبة. فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلَّد الأنصاري، وهو أمير مصر، فأخبر به، فعجّل، فخرج إليه، فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وغير عقبة، فابعث من يدلّني على منزله، قال: فبعث معه من يدلّه على منزل عقبة، فأخبر عقبة به، فعجّل، فخرج إليه، فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه غيري، وغيرك، في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ستر مؤمناً في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة"، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد، إلا بعريش مصر (1).
وزاد من حرص الصحابة رضي الله عنهم ظهور تلك الفرق في عصرهم، وقد اتّخذت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مطيّة لتحقيق أهدافها، ومآربها، فتأصل لديهم مبدأ التثبّت في تلقّي السنة.
قال مجاهد: جاء بُشَيْر العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول:
ـ
(1)
أخرجه الحميدي في مسنده (1/ 89 - 190 رقم 384)، وأحمد في مسنده (4/ 153
و159)، والخطيب في "الرحلة في طلب الحديث" (ص 118 - 124 رقم 34 و 35
و36 و 37 و 38).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابْتَدَرَتْه أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب، والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف (1).
ثم تأثر بهذا المبدأ التابعون، ونشأ علم الجرح والتعديل، وهكذا لم يزل السلف من الصحابة فمن بعدهم يولون السنة هذا الاهتمام، فحفظ الله بهم الدين، وميّزوا بين الغث والسمين، فانطلق جهابذة العلماء، ونقّاد الحديث إلى تبيين صحيح الأحاديث من سقيمها، ونقد أسانيدها ومتونها، وهم جمع لا يحصون كثرة، ومن أشهرهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري -رحمهما الله-، فسارعا إلى تدوين بعض ما صح لديهما من الأحاديث، ولم يستوعبا جميع الصحيح.
قال البخاري رحمه الله: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر"، وفي رواية:"ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول"(2).
وسأل أبو بكر ابن أخت أبي النّضْر الِإمام مسلماً عن حديث
أبي هريرة: "وإذا قرأ (يعني الِإمام) فأنصتوا"، فقال: هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لَمْ تضعه ههنا؟ (يعني في الصحيح)، قال:"ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"(3).
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 13)، وابن ماجه (1/ 12 رقم 27) في المقدمة، باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللفظ لمسلم.
(2)
هدي الساري (ص 7).
(3)
صحيح مسلم (1/ 304 رقم 63) في الصلاة، باب التشهد في الصلاة.
ثم بعد أن ألّف هذان الجهبذان صحيحيهما بدأ التفكير يراود غيرهما من العلماء في محاولة التأليف في الصحيح كما فعل الشيخان.
فألّف ابن خزيمة، وابن حبان، وابن السكن، وغيرهم في الصحيح، لكن لم يبلغ شيء من هذه الكتب رتبة الصحيحين، ولا يقاربهما، فإن الأمة تلقّت أحاديث هذين الكتابين بالقبول، وقد عرض البخاري كتابه الصحيح على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن الديني، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة (1).
وبعد أن حظي هذان الكتابان بهذه المكانة في نفوس المسلمين، صرف العلماء جهودهم لخدمتهما، فألّفت المستخرجات عليهما، وترجم لرجالهما، وعملت لهما الشروح
…
، إلى غير ذلك من تنوع الجهود.
ونظراً لاختلاف الاجتهاد، فقد وجّه بعض العلماء شيئاً من الانتقاد للصحيحين، فألّف الدارقطني كتابه "التتبع"؛ لنقد ما تجلّت له علته من أحاديث هذين الكتابين.
وقد استغل بعض المبتدعة شهرة الصحيحين، ومكانتهما في نفوس السلمين للطعن في السنة، بدعوى حصر ما صح منها في عدد لا يتجاوز عشرة آلاف حديث، وهي التي أخرجت في الصحيحين، وما عدا ذلك في سائر المصنفات فسقيمة غير صحيحة.
وكان هذا هو السبب الباعث للحاكم رحمه الله في تأليف كتابه "المستدرك" فإنه استشعر ما تنطوي عليه هذه المقالة من القدح في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فبادر إلى إخراج أحاديث استدركها على
(1) الموضع السابق من هدي الساري.
الشيخين رأى أنهما لم يخرجاها، مع أنها على شرطهما أو تقاربه، فقال في المقدمة:
"ثم قيّض الله لكل عصر جماعة من علماء الدين، وأئمة المسلمين، يزكّون رواة الأخبار، ونقلة الآثار؛ ليذبّوا به الكذب عن وحي الملك الجبار، فمن هؤلاء الأئمة: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رضي الله عنهما، صنّفا في صحيح الأخبار كتابين مهذّبين انتشر ذكرهما في الأقطار، ولم يحكما، ولا واحد منهما: أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه. وقد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة، يشمّتون برواة الآثار؛ بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء، أو أقل، أو أكثر منه، كلها سقيمة غير صحيحة.
وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة [يعني نيسابور]، وغيرها: أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المرويّة بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج بمثلها
…
، وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما، أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء الِإسلام
…
" (1).
وقد نسب الحاكم إلى التساهل في الحكم على أحاديث بالصحة على شرط الشيخين أوأحدهما، أو بالصحة فقط وليست كذلك.
واختلفت الآراء في تقييمه، وتعددت المؤلفات حوله، فأول من ألّف: ابن عبد الهادي، واسم كتابه:"الكلام على أحاديث كثيرة فيها ضعف من المستدرك للحاكم"، ثم الذهبي، وكتابه هو التلخيص، ثم تلاه ابن الملقن
(1) المستدرك (1/ 2 - 3).
فاختصر التلخيص للذهبي، ثم العراقي، واسم كتابه:"المستخرج على مستدرك الحاكم"، وسبط ابن العجمي، واسم كتابه:"تلخيص المستدرك"، وللحافظ ابن حجر تعليق على المستدرك بدأ به ولم يتمه، ثم الحافظ السيوطي، واسم كتابه:"توضيح المدرك في تصحيح المستدرك"(1). وهذا الكتاب الذي نقدمه بين يدي القراء عبارة عن أطروحة قدمت لكلية أصول الدين بجامعة الِإمام محمد بن سعود الِإسلامية بالرياض لنيل درجة الماجستير، وهو مكون من قسمين: القسم الأول يبدأ من أول الكتاب حتى نهاية الحديث رقم (483) بالإِضافة لدراسة عن الحاكم وكتابه المستدرك، وابن الملقن ومختصره. والقسم الثاني يبدأ من الحديث رقم (484)، وينتهي بنهاية الكتاب بالحديث رقم (1182)، بالإِضافة لدراسة عن الحافظ الذهبي وكتابه التلخيص، وترجمة موجزة للحاكم وكتابه المستدرك، وعن ابن الملقن ومختصره وفيها إضافات على ما ذكر في القسم الأول. وقد قمنا بحذف المقدمتين وما تضمنتاه من الدراسة خشية من كبر حجم الكتاب، والاكتفاء من ذلك بتراجم موجزة؛ لأن كلاً من الحاكم والذهبي وابن الملقن قد قدمت عنهم دراسات مسبقة، ومنها أطروحة الدكتور الشيخ محمود ميرة عن الحاكم وكتابه المستدرك. فنسأل الله تعالى أن ينفع القارىء بهذا الجهد المتواضع، وأن يغفر لنا الزلّة فيما أخطانا فيه مما تجشمناه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المحققان
عبد الله بن حمد اللحيدان
سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد