الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
السورة مكية، نزلت بعد سورة الضحى، واقترنت بها في رواية تقول إن الضحى والشرح سورة واحدة لما يبدو من المناسبة في سياق تعدد النعم، بين قوله تعالى في سورة الضحى: ألم يجدك يتيماً فآوى. . . وقوله في الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. . .
ورده "النيسابورى" قائلاً:
"وفيه ضعف، لأن القرآن كله في حكم كلام واحد. . . على أن الاستفهام في الضحى وارد بصيغة الغيبة، وفي الشرح بصيغة المتكلم، وهذا مما يوجب المباينة لا المناسبة".
ولم يشر الطبري والزمخشري والقرطبي إلى موضوع إقتران السورتين، كما لم يشر إليه علماء القراءات.
وقال الشيخ محمد عبده: "السورة مكية عند الجمهور، بل زعم بعضهمأنها تتمة لسورة الضحى، وعلى هذا تكون المنة بشرح الصدر، مبنية على عود الوحي والتبشير بما جاء في سورة الضحى".
قوله: إنما مكية عند الجمهور، يشعر بأن من المفسرين من ذهب إلى كونها مدنية، وقد قال "البقاعى" إنها مدنية بناء على "ما يفهم من التقرير بشرح الصدر وما بعده. وهذا إنما كان بعد ظهور القوة، وبعد أن فتح الله على المسلمين ما فتح عليهم، وأكمل لهم النعمة بغلبة حقهم على باطل خصومهم". ويرد على هذا، أن في كثير من السور المكية، ما يقرر قوة المسلمين، وغلبة حقهم على باطل خصومهم.
وجاءت السورة في بعض التفاسير مثل الطبري باسم "ألم نشرح" وفي تفاسير أخرى: سورة الإنشراح.
* * *
وأكثر المفسرين على أن الشرح هنا هو الفسحة والبسط والتوسعة، وهو قريب من الصل اللغوي للفظ الشرح، لكن المفسرين زادوه تفصيلاً ببيان ما كان من هذا الشرح، فقال الطبري:"إنه الشرح للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق. . . وجعلنا صدرك وعاء للحكمة".
وقال الومخشري: "شرحنا لك صدرك، فسحناه حتى وسع هموم النبوة، أو حنى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم. أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل".
وقال الشيخ محمد عبده: "وقد شرح الله صدر نبيه بإخراجه من تلك الحيرة التي كان يضيق لها صدره، بما كان يلاقيه في سبيله من جمود قومه وعنادهم".
وهي معان متقاربة ومقبولة، على أن من المفسرين، كالنيسابورى، من أضاف إليها معنى مادياً، فساق في تفسير الشرح أحتمال أن تكون فسحاً حقيقياً لا مجازياً - للصدر، "لما يروى من أن جبرائيل أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علماً وإيماناً".
وجاء مثل هذا في "البحر المحيط" عن إبن عباس.
وكان ينبغي لمثل هذا التأويل، أن ينظر فيه إلى آيات شرح الصدر في القرآن، لنرى هل هي خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام، فتتعلق بالمروى في السيرة عن شق الملائكة صدره، أيام كان طفلاً ببادية بني سعد؟ أو أنها أقرب إلى الشرح المعنوي للإيمان والهدى؟
و"الراغب" اتجه إلى قريب من هذا، حين ضم آية الضحى إلى قوله تعالى:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} بسورة طه، وقوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} بآية الزمر 22، وتمامها:
ثم اطمأن بها إلى أن "شرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه".
وآية طه خاصة بموسى عليه السلام، وبعدها" {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} . وآية الزمر نزلت فيمن "شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" ولا مجال لقول بشق الصدر وانتزاع القلب ثم غسله وتطهيره، مما ذكر النيسابورى وأبو حيان، عن إبن عباس، في تأويل آية الشرح.
وفي القرآن الكريم من آيات شرح الصدر. غي ما ذكره الراغب آيتا:
والآيات الخمس مكية. والشرح فيها جميعاً للصدر.
وقد افترنت بالنور في آيتي الزمر والأنعام، وباليسر في آيتي طه والشرح، ومع اليسر في الأولى حل العقدة من اللسان، وفي الثانية رفع الوزر.
وقوبلت فب "آية النحل" بغفلة الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم،
وفي "الزمر" بقسوة القلب والضلال المبين، وفي "الأنعام" بضيق الصدر وحرجه ورجس الكفر......
وهذا التتبع، يزيدنا بعدا عن المعنى المادي لشرح الصجر، ويجعلنا أكثر طمأنينة إلى أنه هدى الإيمان ونور الحق وراحة اليقين والسلام النفسي.
وشرح الصدر للكفر، في سياق الوعيد بآية النحل، شاهد بأن الأمر فيه معنوي خالص......
* * *
وكونه طمأنينة نفس، وهدى إيمان، وارتياحاً إلى اليقين، يجعلنا نتردد في تفسير الصدر هنا بالجارحة كما ذهب النيسابورى، أو أنه "قوي الشهوة والهوى والغضب" ونحوها مما عده "الراغب"..... لنحتكم في هذا إلى اتلقرآن نفسه، حيث جاء لفظ {صَدْرً} بصيغة المفرد، عشر مرات، كلها بلا استثناء، إما مع الشرح في الآيات الخمس التي أشرنا إليها، وإما مع الضيق والحرج في آيات:
هود 12: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} .
الأعراف 2: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} .
الحجر 97: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} .
خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعها آية الشعراء، حكاية عن موسى عليه السلام:
واألأنعام 125: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} .
وجاءت {صُدُورِ} جمعاً في آيات كثيرة، منها ما اقترن بالشفاء {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} التوبة 14، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس 57.
أو وسوسة الشيطان في آية الناس:
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} .
وبالغل في آيتي الأعراف 43 والحجر 47: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} .
والحصر، في آية النساء:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 90.
والرهبة، في آية الحشر:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} 13.
وليس شيء من هذا كله، بالذي يجنح إلى معنى مادي كشق الصدر الذي هو جارحة. ولا مجال معه، لتزيد لا يحتمله صريح السياق، مما أفاض المفسرون في ذكره من علوم وحكمة.....، وهذه آيات القرآن جميعاً في الصدور، لا تأذن لنا في مثل هذا التزيد، وهي في سياق الإيمان والهدى ونور الله والشفاء، أو الضيق والحرج والعسر والطمس والضلال والغل......
* * *
وتكلم مفسرون عن الاستفهام في الآية. قال الزمخشري: "إنه استفهم عن انتقاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك".
على ما بين تأويله، ونص الآيات المحكمات من تفاوت بعيد دقيق، يدرك الإعجاز البياني فيه ولا يوصف، وبحسبنا أن نضع عبارته في التأويل تجاه الآية، لندرك بعد ما بينهما.
وإذا لم يكن بد من توجيه الاستفهام في الآية، فهو على وجه التقرير كما قال أبو حيان، لا الإنكار كما ذهب الزمخشري.
والتفت بعضهم كذلك إلى نون المضارعة في "شرح" فذكروا أن "فائدة العدول من المتكلم إلى الجمع، إما تعظيم حال الشرح، وإما الإعلام بتوسط الملك جبريل في ذلك الفعل"!
وهو ما لا نقف عنده طويلاً، فلسي تحدث الله جل جلاله عن ذاته بصيغة الجمع، بالأمر الذي يوقف عنده أو يتأول له وسيط ثان يسوى الصنعة اللغوية في العدول عن الواحد إلى الجمع في "نشرح" والشارح هنا هو الله جل جلاله، رب السموات والأرض وما بينهما، وإن أحدنا، معشر العباد، ليتحدث عن نفسه بصيغة الجمع فلا نتكلف وسيطاً ثانياً يسوغ هذا العدول من الواحد إلى الجمع!!
وقيل في {لِكِ} هنا، إنها زيادة يستقل المعنى بدونها!! وفائدة زيادتها "أنها لإيضاح بعد إبهام، كأنه قيل:{أَلَمْ نَشْرَحْ} ففيهم أن ثم مشروحاً، ثم قيل {لِكِ} فأوضح ما علم مبهماً.... وكذلك، في:{لَكَ ذِكْرَكَ} و {عَنْكَ وِزْرَكَ} .
ومقتضى هذا التأويل، الوقف عند نشرح - ووضعنا، ورفعنا - لتأتي {لِكِ} بعدها فتوضح الإبهام. ولا نعلم أحداً من القراء قرأها بالوقف، بل الإجماع على قراءتها وصلاً. ثم إن الإيهام فيه - إن جاز القول به - يرتفع حتماً بقوله:{صَدْرِكَ} دون حاجة إلى {لِكِ} وكذلك يتضح الإبهام في الآيات بعدها بكاف الخطاب في {وِزْرَكَ، ذِكْرَكَ} .
و"النيسابورى" خانه التعبير، فتأول وضع {لِكِ} هنا بالإقحام، على ما لهذا اللفظ، في الحديث عن القرآن الكريم، من جفوة وغلظ، وعنده أن "فوائد إقحام، لك: الإجمال ثم التفصيل، وإرادة الاختصاص، أو كونه أهم".
والأمر أبسط وأوضح من أن نتعثر في تأويله، فمن مألوف البيان العربي أن يأتي بمثل هذا الأسلوب، لا عن زيادة أو إقحام، أو إرادة الإجمال ثم التفصيل، وإنما للتقرير وتأكيد الاختصاص وتقوية الإيصال. وأظن أن هذا هو ما لمحه الشيخ محمد عبده حين قال: "والإتيان بالجار والمجرور - لك، وعنك -
وتقديمه على المفعول في الآيات الثلاث، لزيادة التقرير والإسراع بالتبشير".
ومثل هذا مألوف في أساليب العربية تقول: أرح لي بالي، وأزل عني شكي وأسمع مني نصيحتي، فلا يقال إن "لي، وعنى، ومنى، مقحمة أو زائدة، وإنما هي ضرورة بيانية اقتضاها المقام.
ولنا أن نستأنس هنا بأسلوب القرآن في مثل آيات:
طه 25: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} .
آل عمران 193: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} .
لنطمئن إلى أن ليس في الأمر زيادة لا إقحام!
* * *
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}
الوضع الحطُّ والإلقاء والطرح زالإسقاط، وأكثر ما يستعمل فيما يثقل ويرهق. استعمل الوضع في الولادة، وليس أثقل من الحمل فيها، وقد جعله الزمخشري" من الاستعمالات المجازية للوضع في (أساس البلاغة) ومنه في القرآن الكريم آيات:
آل عمران 36: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} .
الأحقاف 15: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} .
الطلاق 4، 6:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ......}
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
فاطر 11: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . ومعها: آية فصلت 47.
وهذا الملحظ. من وضع المرهق، ولا نخطئه في الاستعمال المجازى للمادة كذلك، في مثل قولهم: وضعت الحرب أوزارها، ووضع عنه الجناية، أسقطها....
وجاء الوضع مع الحرب في:
آية محمد 4: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} .
والنساء 102: {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} .
ومع الإصر والأغلال في آية الأعراف 157:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .
ومع الوزر في آية الشرح.
فشهد هذا التتبع الاستقرائي، على أن الوضع ملحوظ فيه دائماً، التخفف من ثقل مرهق وحمل باهظ.
وأصل الوزر: الجبل، وسمى الملجأ وزراً ومنه آية القيامة:
{كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}
والوزير: الموازر، لأنه يحمل العبء، ومنه في القرآن آيتا (طه 29، والفرقان 35)
في {هَارُونَ} وزيراً لموسى، عليهما تاسلام.
ونقل الوزر إلى العبء الثقيل:
المادي ومنه في القرآن آية (طه 87) في بني إسرائيل الذين أضلهم السامري:
وآية (محمد 4) : {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} .
والمعنوي في الوزر الإثم، وجمعه أوزار كالذي في آيات:(الأنعام 31، 164، فاطر 18، الزمر 7، النحل 25، طه 100)
ومعها {وَازِرَةٌ} في آيات: (الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18، الزمر 7، النجم 38)
والوضع للوزر في آية الشرح، يؤكد ثقل العبء، كما تؤكده الآية بعدها:
والإنقاض في الاستعمال اللغوي والقرآني - كليهما - هو الحل والانتثار، والتمزق تحت ضغط ثقيل معاناة.
ذكر فيه أبو حيان قوله أهل اللغة: {أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل. وسمعت نقيض المرجل أي صريره".
ومثله في تفسير: النيسابورى" للآية.
وقول الشيخ محمد عبده: {نقيض الظهر، الصوت الذي يحدث فيه لثقل الحما" قريب من قول الزمخشري:"هو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله".
ورفض "الراغب" أن يكون الانتقاض هو الصوت، قال:"وحقيقة الانتقاض ليس الصوت، إنما هو الذي يحدث منه الصوت" يعني تحت الضغط والمعاناة.
ونؤثر أن يكون الإنقاض من الإثقال الذي يحل الظهر، كي نستبقى للكلمة دلالة الحل التي لا تنفك عن استعمال القرآن لها، مادياً في آية النحل 92 {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} ومعنوياً في تقض العهد:(البقرة 27، الأنفال 56)، أو الميثاق:(الرعد 20، 25 والنساء 150، المائدة 13) أو الإيمان (النحل 91) .
ويبقى تحديد هذا العبء الباهظ الذي يحل الظهر فمن الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، بأن وضعه عنه. وقد ذهب المفسرون في تأويله مذاهب شتى، كقوله الراغب:"هو ما كنت فيه من إصر الجاهلية، وأعفيت منه بما خصصت به، عن تعاطي ما كان عليه قومك" وقال أبو حيان: "كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في اتفاء ذلك" وفي الطبري: "ووضعنا عنك وزرك، أي وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها، وحللنا عنك وقرك الذي أثقل ظهرك فأوهنه".
ونقل عن "قتادة": "كانت للنبي ذنوب قد أثقلته فغفرها تعالى له. وسمعت الضحاك يقول في آية {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} يعني الشرك الذي كان فيه" والأولى عندنا أن يقال: الشرك الذي كان فيه قومه.
وقيل: ما أثقل ظهره لما صدر عنه من بعض الصغائر قبل النبوة، ولما جهله من الأحكام والشرائع، أو لما كان تهالك عليه من إسلام أولى العناد..... وقيل المراد بالوزر أعباء الرسالة..... وقيل: الحيرة التي كان فيها قبل المبعث.
وصرح الشيخ محمد عبده بأن "الكلام على التمثيل، فإن ما كان يحمله عليه السلام من ثقل الإهتمام بشأن قومه، وضيق المذاهب بين يديه قبل تواتر الوحي عليه بالإرشاد، لم يكن ثقلاً حسياً ينقض منه الظهر، ولكنه كان هماً نفسياً يفوق ألمه ألم ذلك الثقل الحسي الممثل به، فعبر عن الهم الذي تبخع له النفوس بالحمل الذي تقصم له الظهور".
وهو ما نستريح إليه، ونؤيده بما ذكرنا في تفسير آية الضحى: "وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} فالوزر في الآية هو من: ضلال الحيرة وعدم الاهتداء إلى سواء السبيل، حتى هداد الله ووضع عنه ذلك الوزر الذي بلغ من فداحة ثقله أن أنقض ظهره، لفرط ما كان يشعر به قبل المبعث من وطأة الحيرة، وصلال السبيل إلى الحق الذي تطمئن به نفسه.
* * *
الرفع في اللغة الإعلاء، يكون حسياً مادياً كرفع البناء ورفع القواعد، ومنه في القرآن من الاستعمال الأول مثل:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} .
ثم يكون معنوياً مجازياً كارتفاع الدرجة والمنزلة.... مثل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
أما الذكر فهو استحضار ما أحرز بالحفظ، وقال "الراغب" في المفردات:"الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان. وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر عن إدامة حفظ".
وفي تفسير الطبري: "يقول: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فلا اذكر إلا ذكرت معي. وبنحو ذلك قال أهل التأويل. قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" - ومثله في (البحر المحيط لأبي حيان) .
وفصله "الومخشري": "قرن ذكر الرسول بذكر الله في كلمة الشهادة، والأذان، والإقامة، والتشهد، والخطب، وفي غير موضع من القرآن: والله ورسوله أحق أن يرضوه.... ومن يطع الله ورسوله...... وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفي تسمية: رسول الله ونبي الله"، ثم أضاف: {ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم العهد أن يؤمنوا به".
وهو بنصه ما في غرائب النيسابورى.
واختار الشيخ محمد عبده من هذا كله: "أن الله هداه إلى إنقاذ أمم كثيرة من رق الأوهام وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة السليمة.... هذا إلى ما فرض الله من الإقرار بنبوته والإعتراف برسالته بعد بلوغ دعونه، وجعلها شرطاً في دخول جنته".
واتلأقوال متقاربة، يمكن أن ترد جميعاً إلى ما رواه "الطبري" من أقوال أهل التأويل.
ونضيف إليها من الملاحظ البيانية للذكر المرفوع، أن كلمة الذكر تضاف، أكثر ما تضاف إلى اسمه تعالى ظاهراً: ذكر الله، ذكر ربك..... أو إلى ضميره جل شأنه:(ذكرى) وفي القرآن منها ستة مواضع، كلها لله جل جلاله (الكهف 10، طه 14، 42، 124، المؤمنون 11، ص 8) و (ذكرنا) مرتين كلتاهما لله تعالى: الكهف 28، النجم 29.
وجاء الذكر معرفاً بأل، بمعنى الوحي أو القرآن الكريم، في الحجر 6، 9، ص 8، القمر 25 فصلت 41، النحل 44، الفرقان 18، يس 11.
وهذا مما يضفى على كلمة الذكر جلالاً ورفعه، لكبرة ما تفترن بذات الجلالة، أو تضاف إلى ضميره جل شأنه، أو يقصد بها القرآن والوحر.
فإذا قال الله لعبده ورسوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بلغ بهذا أقصى المدى من الإيناس والرفعة، لما يخف بلفظ الذكر من علو قدر.
وتسغى النبوة عن تحديد هذا الرفع للذكر بكذا وكيت مما عده أصحاب التأويل، فحسب محمد أن اصطفاه الله رسولاً، ليكون له من هذا الاصطفاء ما يجاوز كل مطمح لبش يتيم عائل، إبن امرأة من قريش تأكل القديد.
ولهذه البشرية التي قررها القرآن أصلاً من أصول العقيدة، حسابها في تقدير ما للنبوة هنا من رفعه ذكر وجلال قدر، وهي حسبنا، في فهم آية:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} على هدى ما رأينا من كثرة إقتران الذكر في القرآن بالله جل جلالة، واطراد استعماله - معرفاً بأل - علماً على القرآن الكريم والوحي المنزل.
* * *
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .
في الفاء هنا، مع معنى الترتيب دلالة السببية، فهي تقرر مل يترتب على ما سبق بيانه من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر. وهذا التقرير يأتي مؤكداً بإن، ثم يقوى التأكيد فيه بتكرار الجملة مرتين نفياُ للشك وتقوية للإيناس. والبلاغيون يعدون التكرار، من الإطناب الذي يزيد على المساواة، ويلفتنا من البيان القرآني، أن التكرار يأتي في قصار السور - ومنه القدر، والتكاثر، والكافرون، والناس - حيث لا مجال في مثلها لقول بالإطناب، ولا يكون التكرار إطناباً مع حاجة المقام إليه.
وسورة الشرح قد نزلت مباشرة بعد الضحى التي جاءت على فترة من الوحي، فالتكرار فيها يرسخ في نفس المصطفى الطمأنينة إلى رعاية ربه عز وجل، ويؤنسه صلى الله عليه وسلم، إلى ما يستقبل من أمره.
وسياق الآيات في الاستفهام التقريرى، وتقوية الإيصال بـ "لك، عنك"
يمهد لهذا التقرير الجازم الحاسم لكل شك، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
ومن المفسرين، من التفت إلى استعمال "مع" هنا بدلاً من: بعد، أو ما أشبهها مما يفيد التفاوت الزمني. قال الزمخشري:"إن "مع" للصحبة، ومعنى اصطحاب اليسر والعسر أن الله أراد أن يصيبهم - يعني المؤمنين - بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية وتقوية القلوب".
وهو ملحظ دقيق، وإن كان التعبير عنه قد أعوزته الدقة في موضعين: قوله: يصيبهم، في مقام البشرى، دون ضرورة بيانية تقتضيه، كما أن الآية تقوية للرسول بخاصة، لا للمؤمنين بوجه عام. والسياق قبلها وبعدها. يجعل هذا التخصيص أولى بالمقام.
وقوله: حتى جعل اليسر كالمقارن للعسر.
وقريب منه قول، النيسابروى:"جعل الزمان القريب كالمتصل والمقارن زيادة في التسلية وقوة الرجاء" والشيخ محمد عبده: "والتعبير بالمعية لتوثيق الأمل بأنه لابد منه، كأنه معه".
والأولى إسقاط كاف التشبيه، وفهم الآيتين على أن اليسر مقترن بالعسر إذ تفيد "مع" المصاحبة، لا التشبيه.
والتفتوا كذلك إلى تعريف العسر وتنكير اليسر في الآيتين كلتيهما. ورووا في ذلك حديثاً على النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يغلب عسر يسرين".
فسره الفراء والزجاج: "العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود سابق قينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في الموضعين شيئاً واحداً، وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكأن أحدهما غير الآخر....."
وفي البحر المحيط: "وقيل: مع كل عسر يسران، من حيث إن العسر معرف بالعهد، واليسر منكر، فالأول غير الثاني".
وزيفة "الجرجاني" قال: "من المعلوم أن القائل إذا قال إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً، لم يلزم منه أن يكون هناك فارس واحد معه سيفان".
وتوسع النيسابورى في افتراض إحتمالات شتى: إذا كان المراد بالعسر الجنس لا العهد، لزم اتحاد العسر في الصورتين، وأما اليسر فمنكر، فإن حمل الكرلا الثاني على التكرار مثل {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ونحوه، وكان اليسران واحداً، وإن حمل على أنه جملة مستأنفة، لزم أن يكون اليسر الثاني غير الأول وإلا كان تكراراً والمفروض خلافه. وإن كان المراد بالعسر المعهود، فإن كان المعهود واحداً وكان الثاني تكراراً كان اليسران أيضاً واحداً، وإن كان مستأنفاً كانا أثنين وإلا لزم خلاف المفروض. وإن كان المعهود أثنين فالظاهر إختلاف اليسرين وإلا لزم أو حسن أن يعاد اليسر الثاني معرفاً بلام العهد فهو واحد، والكلام الثاني تكرير للأول لتقريره في النفوس، إلا أنه يحسن أن يجعل اليسر فيه مغايراً للأول لعدم لام العهد، ولعل هذا معنى الحديث، إن ثبت والله أعلم ورسوله، فإن لم تثبت صحة الحديث أمكن حمل الآية على جميعها، وإن ثبت صحته وجب حملها على وجه يلزم منه اتحاد العسر وإختلاف اليسر، وحينئذ يكون فيه قوة الرجاء ومزيد الاستظهار برحمة الله".
والذي في جمهرة التفاسير لا يكاد يخرج عن هذه الإحتمالات والإفتراضات التي تقصاها النيسابورى. وقد ذهبوا في تأويل اليسرين، بأنهما يسر العاجل، ويسر الآجل، قيل إنع ما تيسر لهم من الفتوح في أيام الرسول والخلفاء الراشدين، وقيل هو يسر الآخرة.
والأمر فيما نرى أوضح من أت نتكلف له هاتيك التأويلات المعقدة التي يغيب فيها وجه البيان لنصل آخر الأمر إلى أن يسرين لا يغلبهما العسر الواحد. أو أن الآية الثانية استئناف، "فيكون معناها أهم من سابقتها"!!
والذي نطمئن إليه، هو أن الآية الثانية تأكيد للأولى، لتقوية اليقين النفسي وترسيخ ما من الله به على عبده من شرح صدره ووضع وزره ورفع ذكره.
والراجح أن "ال" في العسر، للعهد لا للاستغراق، والمراد، والله أعلم، ما كان الرسول يشعر به من ضيق الصدر وثقل البء في مواجهة الوثنية العاتية الراسخة. أما تنكير يسر، فلكي ينفسح فيه مجال التصور والإطلاق فيحتمل ما قاله المفسرون وما لم يقولوه، إذ التحديد هنا بكذا أو كيت من مفهوم اليسر، ينافي البيان القرآني الذي آثر إطلاق "يسر" بغير قيد ولا حد.
والعسر أشد المشقة والمكابدة.
وقد استعملت العربية العسر مادياً حسياً في أشد الضيق: فالعسر الناقة لم ترض، وعسرت المرأة ولادها، وعسرت الغريم إذا طلبت منه الدين على عسرته. ويأتي في القرآن وصفاً لليوم الآخر في شدته على الكافرين في آيات:
القمر 8: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
المدثر 9: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} .
الفرقان 26: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} .
كما استعمله في حالات الشدة البالغة والعنت القاسي في آيات:
الليل 10: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
الطلاق 6: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
الطلاق 7: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} .
التوبة 117: {وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} .
الكهف 3: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} .
وفي إرهاق المدين حين يطالب بالدين وليس معه مال:
البقرة 280: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
وكثيراً ما يأتي اليسر في القرآن نقيضاً للعسر كما في آيات (الطلاق 7، البقرة 185، 280، المدثر 9، الليل 7، 10) و "الراغب" فسر كلاً اللفظين بأن أحدهما نقيض الآخر، واللغويون أيضاً فسروا العسر بنقيض اليسر، والمعاسرة ضد المياسرة، والمعسور ضد الميسور، والعسرى نقيض اليسرى. كما أطلقت العربية اليسر على الغنى، فقالوا أيسر الرجل إذا أستغنى، كما قالوا تيسر الأمر إذا سها وتهيأ على راحة وبلا معاناة. ومن هذا المعنى قوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} .
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} .
وهذا القدر يكفينا في فهم ما يوحي به لفظ العسر عن ضنك وضيق وعنت، وإدراك الوقع القوي العميق لكلمة "يسر" في هذا المقام، بما تحمل هذه الكلمة من معاني الإرتياح والسهولة والفرج، على الإطلاق.
* * *
الفراغ في اللغة هو الخلو بعد امتلاء. يكون مادياً حسياً مثل: فرغ الإناء أي خلا بعد إمتلاء، ويكون معنوياً مثل: فرغ البال أي خلا مما كان يشغله، ومنه الآيات:
القصص 10: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}
الأعراف 126: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} .
والبقرة 250: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} .
وفرغ للأمر توفر له وأخلى نفسه من كل ما عداه. ومنه آية الرحمن:
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} .
وإذا، ظرف لما يستقبل من الزمان. والفاء - فيها، وفي: فانصب - ملحوظ فيها إلى جانب المسببية، الترتيب الذي يأتي على التعاقب. فالفراغ متصل السبب بما سبقه من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر. كما يتصل به من ناحية أخرى، ما بعده من نصب.
والنصب ملحوظ فيه معنى الجهد والتعب، والقيام أو الشخوص. وكلا المعنيين - التعب والشخوص - أصيل في المادة، يقال: هم ناصب، أي مرهق مجهد. والحرب مناصبة، أي مجاهدة وعداء. ونصب العلم: أقامة شاخصاً، ونصب حول الحوض نصائب. وهي حجارة تكون عضداً له. والأنصاب الحجارة الشاخصة، كانوا ينصبونها ويصبون عليها دماء الذبائح، واحدها نُصْبٌ ونُصُب. ونصبته للأمر حميلته عبئه، ومنه المنصب يحتمل المرء عبئه.....
ومعنى الشخوص والإقامة. أوضح في آية الغاشية 19:
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} .
ومعنى التعب والجهد متعين في آيات:
الكهف 62: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} .
التوبة 120: {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} .
فاطر 35: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} .
ومعها: الحجر 48.
والضمير في آيتي فاطر والحجر عائد على الجنة، حيث لا يمس المؤمنين فيها نصب ولا لغوب.
ويبدو من صنيع "الراغب" أنه يميل إلى تفسير آية الشرح. بأن النصب فيها من النصيب، أي القسم المنصوب الشاخص، قال: "والنصيب الحظ
المنصوب أي المعين، قال تعالى: أم لهم نصيب من الملك، نصيباً من الكتاب، فإذا فرغت فانصب."
"والراغب" يلتفت إلى ما في معنى النصب من الشخوص. ونؤثر أن نلتفت إلى ما فيه كذلك من معنى الجهد والتعب، مستأنسين بكل الآيات التي ورد فيها "النصب" حيث لا نخطئ فيها جميعاً معنى الجهد والتعب. وبالتعب فسرها النيسابورى والشيخ محمد عبده. وبالإجتهاد والمتابعة والمواصلى فسرها الزمخشري.
والآية لم تحدد مم يكون هذا الفراغ وفيم يكون النصب، إكتفاء بدلالة السياق، وجرياً على مألوف البيان القرآني في السكوت عن التحديد في مقام الإطلاق. لكن المفسرين، على عادتهم، أبوا إلا أن يحددوا متعلق الفراغ والنصب، وقد جاءوا بأقوال منها:
* إذا فرغت من صلاتك فانصب إلى ربك في الدعاء وقضاء حاجاتك.
* إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك.
* إذا فرغت من أمر الدنيا فانص، أي فصل.
وقد سرد الطبري هذه الأقوال الثلاثة، ثم عقب عليها بقوله:"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال إن الله تعالى أمر نبيه أن يجعل فراغه من كل ما كان مشتغلاً به من أمر دنياه وآخرته (؟) إلى النصب في عبادته. ولم يخصص بذلك حالاً من أحوال فراغه جون حال، فسواء كل أحوال فراغه من صلاة أو جهاد أو أمر دنيا كان به مشتغلاً، لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوصحال فراغ دون حال أخرى"
واختار الزمخشري: "فإذا فرغت من عبادة فأتبعها أخرى" وهو ما في تفسير الشيخ محمد عبده، مع مزيد تفصيل وإطناب.
ويتعين أن نصل الآية {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} بسياق الآيات قبلها، بحكم وجود "الفاء" الرابطة للآية بما قبلها.
الآية مسبوقة بتأكيد اليقين بأن هذا العسر يصحبه يسر لا محالة، والله منجز وعده لا ريب، وسيعقب هذا ما يعقبه من فراغ البال من الحيرة والضيق والكرب والضنك، بعد إذ من الله على عبده بأن شرح له صدره ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ورفع له ذكره.
فإذا لم يكن بد من تحديد متعلق الفراغ، فلسنا بحيث نطمئن إلى شيء فيه، غير ما سبقت به الآيات المحكمات: وهو أنه سبحانه قد أفرغ بال رسولع مما كان يجهده من حيرة ويثقله من وزر ينقض الظهر...... هو فراغ اليسر بعد العسر، والراحة النفسية بعد الشدة والكرب، فلينصب المصطفى لتكاليف رسالته وأعباء منصبه، بلاغاً لرساله ربه، وجهاداً في سبيلها.
* * *
الرغب الميل والإرادة، يقال رغبت في الشيء إذا أردته وملت إليه، ورغبت عنه إذا لم ترده وزهدت فيه.
وربما كانت "السعة" أصلاً في المادة، كما قال "الراغب". فالحوض الرغيب: الواسع، والسقاء الرغيب كذلك، وفرس رغيب العدو أي واسع الخطو في عدوه، والرغب والرغبى السعة في الإرادة، والرغبة والرغيبة العطاء الواسع الكثير. ومن ملحظ الميل إلى ما هو واسع ورحب، في الحوض وعدو الفرس والعطاء، أضيف إلى السعة معنى الميل والإرادة، فكانت الرغبة في الشيء الميل إليه وإرادته، والرغبة عنه الإنصراف عنه والزهد فيه. وقد تزداد الرغبة فتطلق على الشره، ومنه قولهم "الرغب شؤم" يعنون الشره.
وفي الاستعمال القرآني، تأتي الرغبة في السياق الديني في مثل آيات:
البقرة 130: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} .
مريم 46: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} .
التوبة 59: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} .
القلم 32: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}
النساء 127: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} .
وجاء الرغب مع الرهب في آية الأنبياء 90:
وجاءت في غير السياق الديني، بمعنى الميل القوي.
والملحظ البياني في قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} هو في تقديم {وَإِلَى رَبِّكَ} على الفعل أرغب، وهو أسلوب بلاغي يفيد القصر والتخصيص، والإمام الطبري يقول: {أجعل رغبتك إلى ربك دون من سواه من خلقه إذا كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد".
وقال النيسابورى: "وأرغب إلى ربك في إنجاز المأمول لا إلى غيره، يعطك خير الدارين". وقال الشيخمحمد عبده: "لا ترغب إلى أحد في استثمار أعمالك إلا إلى الله وحده".
والآية ربطت بما قبلها بواو العطف، فلزم أن يكون التخصيص في "وإلى ربك فأرغب" مرتبطاً بما قبله، متصلاً به.
ووصل الآية بما قبلها، هو الذي يطرد به النسق وتتم وحدة السياق في السورة كلها فتتعلق رغبة المصطفى بالله وحده، الذي أفرغ بال رسوله مما كان يشغله من ضيق الصدر، ووضع عنه الوزر الذي أنقض ظهره، وبشره بيسر قريب، على وجه الذي لا شك فيه.