الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السورة مكية، ترتيبها الخامسة والثلاثون على المشهور في ترتيب النزول.
نزلت بعد (ق) .
وهي إحدى سورتين ابتدأتا بلفظ القسم صريحاً مسبوقاً بـ: لا
والسورة الأخرى هي القيامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
عل ىأن عبارة {لَا أُقْسِمُ} وردت في مستهل آيات أخرى، لكن في غير مفتتح السورة:
الواقعة 75: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} .
الحاقة 38: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} .
المعارج 40: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} .
القيامة 2: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .
التكوير 15: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} .
الانشقاق 16: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} .
وكلها آيات مكية
…
وفعل القسم فيها جميعاً، مسند إلى الله سبحانه متلماً.
وجمهرة المفسرين يكتفون هنا بالقول أن {لَا أُقْسِمُ} معناه: أقسم، زيدت لا، للتأكيد: دون إشارة إلى المقتضى البياني للعدول عن {أُقْسِمُ} إلى {لَا أُقْسِمُ} أو إيضاح وجه تأكيد القسم، بنقيضه وهو النفي!
على أن الشيخ محمد عبده، لم يفته الوقوف عندها ليقول: "إن لا أقسم، عبارة من عبارات العرب في القسم، يراد بها تأكيد الخبر، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم. ويقال إنه يؤتى بها في القسم إذا أريد تعظيم المقسم
به، كأن القائل يقول: إني لا أعظمه بالقسم لأنه عطيم في نفسه. والمعنى في حال على القسم".
وفي {لَا أُقْسِمُ} قول آخر، ذكره أبو حيان بين الأقوال في تفسير الآية وهو أن النفي هنا حقيقي، وليس لتأكيد القسم! وتوجيه العبارة عنده، على النفي:"أن هذا البلد لا يقسم الله به وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته".
ونستقرئ كل مواضع الاستعمال القرآني لهذا الأسلوب في نفي القسم فنجد:
* أنه لم يستعمل "لا أقسم" إلا حين يكون الفعل مسنداً إلى الله تعالى.
*أن فعل القسم لم يأت في القرآن كله مسنداً إلى الله، إلا مع "لا" النافية.
وهذا الاستقراء صرح الجلالة على أنه سبحانه ليس في حاجة إلى القسم وأن نفي الحاجة إلى القسم تأكيد له. ومن مألوف استعمالنا أن نقول: لا أوصيك بفلان، تأكيداً للتوصية. كما نقول: بغير يمين، تأكيداً للثقة التي لا نحتاج معها إلى يمين.
وفي لفظ "أقسم" هنا ملحظ ذو بال. فقد يبدو من السهل هنا أن نفسر أقسم بلفظ أحلف، وليس في استعمال العرب لهما ما يمنع من تفسير أحدهما بالآخر، فالنابغة يقول في اعتذاره للنعمان
* حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *
وقال الأعشى:
* حلفت برب الراقصات إلى منى *
وقال شاس بن عبدة، أخو علقمة الفحل:
* حلفت بما ضم الحجيج إلى منى *
وفي القاموس: حلف أي أقسم....
لكن استقراء الكلمتين في القرآن يمنع هذا الترادف: فلقد جاءت مادة "حلف" في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً، كلها بغير استثناء، في مقام الحنث باليمين. منها ست آيات في المنافقين الذين فضحتهم سورة التوبة بعد غزوة تبوك:
التوبة 56: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} .
التوبة 62: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
التوبة 74: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} .
التوبة 107: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
ومعها، في المنافقين أيضاً، آيات:
المجادلة 14: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وجاء الفعل مرة واحدة مسنداً إلى الذين آمنوا، فلزمتهم كفارة الحنث باليمين
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . المائدة 89.
أما القسم فيغلب مجيئه في الأيمان الصادقة.
وجاء المصدر منه موصوفاً بالعظمة في آية الواقعة: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} .
ويجئ الفعل في الشهادة ومثلها، حيث لا يحل الحنث باليمين، كالشهادة على الوصية: الماءدة 106، 107.
وحين يسند القسم في القرآن إلى المجريمن فإنهم في ظنهم غي حانثين:
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الروم 55.
وكذلك حين يقسم الكفار بالله جهد أيمانهم، عن اقتناع بصدق ما يقسمون عليه ولو كان في حقيقته كذباً:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} . الأنعام 109
ومعها آيات: الأعراف 49، إبراهيم 44، المائدة 53، النحل 38، النور 53، فاطر 42.
وأمام هذا الاستعمال القرآني، لا يهون أن نفسر القسم بالحلف، وصنيع القرآن فيهما يلفت إلى فرق دقيق بين اللفظين المقول بترادفهما، فرق يؤيده فقه العربية، فاختلاف مادتي اللفظين يؤذن باختلاف مدلول كل منهما، وبين حلف وحنث من القرب، ما ليس بين حلف وقسم، مما يبعد أن يكونا سواء.
* * *
ولا أعرف أنهم اختلفوا في أن {هَذَا الْبَلَدَ} . المقسم به في الآية، هو "مكة".
ونضيف من الاستقراء، أنه حيثما جاء {هَذَا الْبَلَدَ} في القرآن الكريم، مفرداً معرفاً بـ: ال، مشاراً إليه بهذا، فإن الإشارة تعين أن "ال" للعهد، وهذا البلد هو مكة. في آيتى البلد:
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} وآيتى:
التين 3: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} .
إبراهيم 35: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} .
وجاء البلد، بغير اسم الإشارة، في آية الأعراف 58 وليست خاصة بمكة، بل عامة لجنس البلد الطيب:
أما بلد، بالإفراد والتنكير، فقد جاء مرة في دعاء إبراهيم لمكة: في آية البقرة 126:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} .
وثلاث على العموم المستفاد من التنكير مع قيده بالوصف، في آيات:
النحل 7: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} .
فاطر 9: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} . ومعها آية الأعراف 57.
ومن هذا التتبع، نرى أن تخصيص "البلدط بمكة في القرآن، لا يطون إلا معرفاً بـ: "ال" للعهد، وباسم الإشارة الذي يفيد التعيين والاختصاص والإحضار.
* * *
وسبقت الإشارة في {لَا أُقْسِمُ} إلى قول ذكره أبو حيان في تفسير
الآية، وهو أن "لا" هنا لنفي القسم لا لتأكيده، لأن "هذا البلد لا يقسم الله به وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته".
يبدو أن القول بالنفي هنا، وجه إليه أن القسم للتعظيم، فلما منع ظاهر السياق هنا أن يكون المقسم به موضع تعظيم، قيل إن "لا" مافية وليست مؤكدة، وقد هدى تدبر الظاهرة الأسلوبية، إلى تأكيد القسم بنفي الحاجة إليه، حين يكون فعل القسم مسنداً إلى الله تعالى.
ويبقى القسم في الآية على وجهه من تعظيم حرمة هذا البلد، واستعظام أوضاع لأهله متوارثة، لا تليق بجلال حرمته.
* * *
وآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} مرتبطة كما قلنا بالآية بعدها.
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
من ناحيتين: واو الحال، وهي قيد للجملة الأولى، ثم تكرار "هذا البلد" توكيداً للصلة بين الآيتين.
وفي معنى {حِلٌّ} خلاف بين المفسرين:
قيل: هو من استحلال حرمة الرسول في البلد الحرام الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني.
وقد واجهتهم هنا مشكلة: إذ كيف يستقيم القسم بمكة، حال استحلال أهلها لحرمة الرسول في البلد الحرام، والقسم هنا على وجهه للتعظيم؟
قال "أبو حيان" في (البحر) إن "لا" نافية للقسم الذي هو تعظيم. وقال إن القيم: المعنى متضمن تعظيم بين الله ورسوله، وقال الشيخ محمد عبده: "ومعنى كونه حلا، أنه استحل لأهل مكة: استحلوا إعناته - صلى الله عليه وسلم ومطاردته واستباحوا حرمة الأمن في ذلك البلد الأمين حتى اضطروه إلى
الهجرة، ليفيد أن مكة عظم شأنها جليل قدرها في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي لم يرع أهلها تلك الحرمة التي خصها الله بها".
وقيل: {حِلٌّ} هنا بمعنى إحلال الله لرسوله أن يفعل بمكة وأهلها ما شاء "فأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أن الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء".
والآية مكية بإتفاق وقد نزلت قبل فتح مكة بسنين، فاحتاجوا إلى تعليل هذا التأويل، فقال الزمخشري يجيب عن سؤال طرحه في هذا الموقف: إن المستقبل هنا كالحاضر المشاهد، ونظيرهقوله عز وجل:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .وما بنا حاجة إلى مثل هذا، فالإخبار عن المستقبل مألوف في العربية وفي القرآن، وأبو حيان معذور حين يرد على الزمخشري هنا بقوله:"وأما سؤاله والجواب، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات".
ثم قال أبو حيان: لم نحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة.
وفي الآية، قول ثالث هو أن يكون {حِلٌّ} من الإحلال ضد الإحرام ذكره إبتن القيم في التبيان.
وقول رابع: أنه من الحلول بمعنى الإقامة ضد الظعن، ذكره الراغب في (المفردات) وكذلك إبن القيم:"قسم بحرمة المكان، وبحلول الرسول فيه، قسم بخير البقاع وقد اشتمل على خير العباد".
وقال أبو حيان في البحر: "أقسم بها لما جمعت من الشرفين: شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وإقامته بها، فصارت أهلاً لأن يقسم بها".
والحل لغة، يحتمل أكثر الأقوال التي ذكرها المفسرون، فيكون من الحلول ضد الظعن، أو من الإحلال ضد الإحرام، أو من إستحلال الحرمة وإنتهاكها، وربما كان آصل معنى فيه، حل العقدة، ومنه دعاء موسى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} .
ثم قيل: حللت أي نزلت، من حل الأحمال عند النزول، ومنه في القرآن الكريم آيات:
الرعد 31: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} .
إبراهيم 28: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} .
فاطر 35: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} .
ثم نقلت إلى المصطلح الديني في الدلالة الإسلامية على الحل والحلال، نقيض الحرتم. وهو الغالب على الاستعمال القرآني، ومعه الإحلال، ضد الإحرام في آية المائدة 2: وهي مدنية.
وبمعنى الحلال جاءت كلمة {حِلٌّ} في القرآن، في أربع مرات من خمس، هي كل ما في الكتاب الكريم من صيغة {حِلٌّ} :
المائدة 5: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} .
الممتحنة 10: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
آل عمران 93: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} وكلها آيات مدنية.
ونطمئن إلى تفسير آية البلد بالحلول - وهو المختار عند أبي حيان - والمعنى يستقيم بهذا الفهم، مع ملحظ من دلالة الاستحلال لحرمة الرسول في هذا البلد، لافت إلى الأحوال الشاخصة لهذا البلد وأهله، فكل ما يقع على الرسول من إيذاء،
حاضر مشهود؛ يعانيه صلى الله عليه وسلم ويكابده، إذ هو موضع الأذى والاضطهاد بمكة، وهو مقيم بها. وإنها، لكما قال المصطفى يوم الهجرة:"لأحب أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى رسوله" عليه الصلاة والسلام.
وبهذا الفهم لا يبدو معنى الإحلال ضد الإحرام قريباً والسياق لا يطمئن به، والأذهان غير متجهة إليه في هذا المقام.
كما نستبعد أن يكون حل بمعنى إحلال الله لرسوله هذا البلد يفعل به بعد الفتح ما شاء، لظهور تكلفه، فضلاً عن كون الصيغة لا تقبل لغوياً أن يكون الإحلال من حل، وليس الاشتقاق.
وتفسير الحل بالإقامة وهو المعنى المتبادر، أو يجعل أذى الرسول حلالا وهو أكثر استعمال القرآن للمادة، يبدو قوى الصلة بالآيات التالية، على وجه لانضطر معه إلى تمزيق السياق أو الإبعاد في التكلف، وبخاصة حين تحمل آية {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} على الحالية، وهو ما ذهب إليه "أبو حيان"، وليس على الاعتراض كما قاله "الزمخشري" وتابعه على ذلك الشيخ محمد عبده فقال:"واعترض بها بين العاطف والمعطوف، ليفيد أن مكة عظيم شأنها جليل قدرها في جميع الأحوال".
وهذا القول بأن الآية معترضة، يغيب عنه ما في الحالية من قوة الربط وتقرير الصلة بين الآيتين. إذا تكون الثانية قيداً للأولى. ووصلاً لها بالآية التالية:
* * *
فالواو هنا للعطف، {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} معطوفان على هذا البلد في الآية الأولى {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ} فيه تعرف أحواله أهله وأوضاعهم، وتعاني ما تعاني من أمرهم.
وعند بعض المفسرين أن "ما" في الآية، يحتمل أن تكون نافية، وهو احتمال لا يدعو إليه ملحظ من السياق أو داع من المعنى فيما نرى، وتأويلها عندهم "ووالد،
والذي ما ولد" أي العاقر، على تقدير موصول مضمر يصح به هذا المعنى. مع أن إضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.... (أبو حيان) .
على أن جمهرة المفسرين، ذهبوا إلى أن "ما" هنا اسم موصول، ثم اختلفوا بعد ذلك في تأويل: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ......
وأهم ما عناهم منه، هذا التنكير في {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال الزمخشري: هو للإبهام المستقل بالمدح والتعجب.
وأولى منه قول من قالوا بالتعميم. لكن ما حدود هذا التعميم؟
أطلقه قوم، منهم إبن عباس - فيما نقل الطبري وأبو حيان - فأدخل فيه جميع الحيوان!
وجعله بعضهم. ومنهم إبن جرير الطبري، عاماً في البشر والحيوان والنبات.
وهو ما أخذ به الشيخ محمد عبده فقال: "المراد منه أي والد وأي مولود من الإنسان والحيوان والنبات كما يرشد إليه التنكير، وكما هو مختار عند إبن جرير وجمع من المحققين".
واكتفى قوم من العموم بالبشر دون سائر الحيوان والنبات، فقالوا: والوالد والولد هنا، آدم وذوريته "إبن القيم، وذكره الزمخشري".
وخصه قوم: بالصالحين من ذريته.
وحصره فريق في محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وقد ذكره الطبير بصيغة الإحتمال، وأورده الزمخشري في (الكشاف) وذكره أبو حيان مروياً عن "مجاهد"....
وفي قول: إنه نوح وذريته، أو إبراهيم عليه السلام وجميع ولده!
وهكذا يتسع عموم التنكير عندهم، حتى يحتمل جميع الناس والحيوان والنبات....
ثم يتدرج في الضيق، حتى ينحصر في أحد الأنبياء عليهم السلام وأمته، أو الصالحين من ذريته وولده!
ولا أدري هل هذه الأقوال جميعاً مما يمكن أن تحتمله العبارة لغوياً؟
لكنها مما لا يحتمله المقام بيانياً. ولا يتبين لنا بقول منها موضعه من المعطوف عليه {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
شغل المفسرين أن يبينوا وجه العظمة في {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} لوقوعهما في حيز المقسم به، مع أن القسم كما يكون للتعظيم، يكون لاستعظام ما هو جسيم وخطير.
فالذين قالوا: هو آدم وذريته، قالوا إن وجه التعظيم أن آدم مرجع العباد، كما أن مكة مرجع البلاد! (التنبيان) .
والذين قالوا: هو محمد وأمته، قالوا إن القسم هنا لتعظيم الله محمداً وأمته، بعد ما أقسم ببلده، مبالغة في شرفه صلى الله عليه وسلم (الطبير. ونقله أبو حيان) .
والذين قالوا: هو كل {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، من جميع البشر والجيوان والنبات، فسروه بنه تعالى أقسم بذلك "ليلفت نظرنا إلى رفعة هذا الطور من أطوار الوجود، وهو طور التوالد، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في ذلك.... فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو من مقاومة فواعل الجو ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى، تعمل عملها وتزين الوجود بجمال منظرها.... إذا أحضرت ذلك في ذهنك، والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم".
وما أرى نص الآية، يحتمل كل ذلك. وهذا الإطناب في بيان عظمة التوالد في النبات والحيوان، لم يرتبط على وجه ما، بهذا البلد الذي ارتبط به {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} لفظاً بواو العطف، ومعني بوقوعهما جميعاً في حيز المقسم به.......
وتخصيص والد، بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو نوح، أو إبراهيم، عليهما السلام، يبعده، إن لم ينفه، العموم المستفاد من التنكير، فضلاً عن دلالة "ما" على غير العاقل.
ونتدبر الآية في سياقها من السورة، فترى التعميم أقرب إلى أن يفهم منه تتابع الأجيال من أهل {هَذَا الْبَلَدَ} طبقة بعد طبقة، وما توارثوا، ولداً عن والد، من أحوال وأوضاع يستعظمها القرآن فيقسم بها لفتاً إلى جسامة خطرها، ثم يتولى بيانها في آيات تالية.
ووضع "ما" مكان من - التي هي للعاقل - في قوله تعالى: {وَمَا وَلَدَ} لفت إلى أن المقصود هنا ليس أشخاصاً بذواتهم، وإنما الحديث عن تتابع الحياة وأجيالها على نمط واحد، وعن توارثها ولداً وخلفاً عن سلف.
والأمر بهذا الفهم، أبسط من أن نتكلف له مثل ما ذكره الشيخ محمد عبده أو نحو ما قاله الزمخشري فيه:
"وقوله تعالى ماولد، فيه ما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي باي شيء وضعت، يعني موضوعاً عجيب الشأن! "
وربما كانه "الفراء" أهدى منهجاً، حين اكتفى بالاستئناس بما في القرآن من آيات جتءت فيها "ما" للناس كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ........ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} دون أن يتكلف في الأمر ما يدعو إلى العجب! (البحر المحيط) .
* * *
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} .
جمهور المفسرين على أن الإنسان اسم جنس (أبو حيان) .
والراجح أنه كذلك، فأكثر ما تجيء كلمة "الإنسان" في القرآن، معرفة بأل للجنس - نحو 63 مرة - وجاءت مرة واحدة نكرة، لكن مع الاستغراق بلفظ كل في آية الإسراء 13:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} .
لكن الزمخشري خص الإنسان في آية البلد، بمرضى القلب من بني آدم!
وقال أبو زيد فيما نقل أبو حيان: إن الإنسان هو آدم.
على أن استقراء كل آيات الإنسان في القرآن الكريم، يشهد بأن دلالة الإنسانية فيه أخص من الآدمية والإنسية، فالإنسان هو الذي يختص بالبيان والجدل ويحتمل التكليف والأمانة والعهد والوصية، والإبتلاء بالخير والشر والتعرض للغواية، مع ما يلابس ذلك كله من غرور وطغيان....
* * *
أما {كَبَدٍ} فلم ترد في القرآن صيغة ولا مادة، غير هذه المرة. وأصل الكبد في اللغة من وجع الكبد، يقال: كبد الرجل يكبده، ضرب كبده، وكبد - كعنى - شكا كبده. والكباد، كغراب: وجع الكبد.
ثم أطلق على الألم بعامة، فقيل: كبد، أي ألم. ومنه أخذ معنى الشدة والمشقة، فقيل: كبد القوم شق عليهم، والكبد بالتحريك: الشدة والمشقة، والمكابدة: المقاساة والمعاناة.
ولم يختلف المفرسون في أن معناه في آية البلد الشدة، لكن أقوالهم شتى في تحديد هذه الشدة، فالزمخشري يقول:"لقد خلقنا الإنسان في مرض هو مرض القلب وفساد الباطن"، ثم انتبه إلى أنه بهذا يثير موضوع المسئولية والجزاء، وهو الموضوع الذي فتح عليهم باباً لم يستطيعوا سده وإقفاله، فالخالق هنا هو الله، خلق الإنسان مريض القلب فاسد الباطن، ومن ثم يستدرك الزمخشري المعتزلى قائلاً:"يريد: الذين علم منهم - تعالى - حين خلقهم، أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات".
ومقتضى هذا أن تكون "ال" في الإنسان للعهد لا لاستغراق الجنس الذي يرجحه سياق الآية، ويؤيده الاستعمال القرآني للإنسان مقصوداً به عموم النوع الإنساني، وهو ما عليه الجمهور، كما صرح بذلك أبو حيان في (البحر) .
وفي (التبيان) : لم يخلق الله خلقاًً يكابد ما يكابد إبن آدم.... يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
وفيه كذلك عن "إبن عباس": يعني بالكبد، حمله وولادته ورضاعه وفصاله، نبت أسنانه، وحياته ومعاشه ومماته، كل ذلك شدة.
فصله إبن القيم القيم فقال: "الإنسان مخلوق في شدة، بكون في الرحم ثم في القماط ثم في الرباط، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف ومكابده المعيشة والأمر والنهي، ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة في الجنة".
وقال الشيخ محمد عبده: "إنه في عناء من تصريف قواه في عمله، بل وفي أكله وشربه، وحماية أهله في سربه".
وكل ذلك يمكن أن يقال، لكن ما وجه ارتباط القسم بهذا البلد، ووالد وما ولد، بتلك الشدة التي خلق فيها الإنسان، والعناء المحتوم عليه من ساعة مولده إلى يوم القيامة؟
يقول الشيخ محمد عبده: "إن الإنسان نوع من الوالد والمولود، فحق له أن يخلق في كبد وكد ونصب..... وما يصيب الرسول من تقريع المستحلين لحرمته، فهو من شأن الإنسان وقدر قدر على كل مولود منه. وفيه من تسليته صلى الله عليه وسلم عن ذلك افيذاء ما هو ظاهر، وأن العناء الذي يلاقيه من اختصه الله بوحه، هو العناء الذي يصيب الوالد في تربية ولده، والمولود في بلوغه الغاية من سير نموه".
ووجه الغرابة في هذا التأويل أن يسوى بين أعباء الرسالة، وما يتحمله كل مولود من عناء النمو. قد رأينا أنه رحمه الله ذهب في التعميم إلى آخر مدى، فجعل {مَا وَلَدَ} في ألاية، لكل مولود من إنسان وحيوان ونبات، فهل يستوي حقاً أعباء الرسالة الكبرى، ما يكابده كل مولود من البشر. ودعك من بذور النبات وصنوف الحشرات والحيوان؟!
مانظن المكابدة هنا تنصرف إلى ما ذكروه من مشاق الحمل والنمو
والعيش والموت والحساب، كما نستبعد أن يكون "الكبد" في الاية هو مرض القلب وفساد الباطن كما قال "الزمخشري"وإنما الكبد - فيما نرجح - هو مت هييء له اإنسان بفطرته من احتمال المسئولية ومشقة الاختيار بين الخير والشر. ووجه ارتباطه بالقسم قبله - بحال أهل مكة وما اختاروا لأنفسهم من استحلال أذى الرسول وهو مقيم بالبلد الحرام - واضح ظاهر. وهو أوضح ارتباطاً بالآيات بعد. من ضلال الغرور بهذا الإنسان الذي وهب الله له وسائل الإدراك والتمييز. وبين له معالم الطريقين: الخير والشر.
وقوله تعالى: {خَلَقْنَا} بدلاً من: جعلنا، إشارة إلى أن ألإنسان مخلوق بفطرته لهذه المكابدة، على ما فهمناها من معاناة المسئولية وأمانة التكليف، والإبتلاء بالشر أوالخير، دون حاجة إلى ما أثاره المجبرة أو المعتزلة من كلام في المسئولية والجزاء.
ثم تأتي بعد هذا، مبينة الكبد الذي خلق فيه الإنسان، موضحة ما هيئ له من وسائل الهدى والتمييز.
* * *
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ؟
فهنا تبدأ المعاناة، بما يشعر به الإنسان في حال قوته وثرائه من غرور يطغيه ويضله فيحسب لأن لن يقدر عليه أحد:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .
وبلاغة الاستفهام في الآية، تأتي من هذا الطى المتعمد لتحديد نوع الكبد، على مألوف الإيجاز المعهود، وبخاصة في قصار السور من العهد المكي. ثم يفاجأ السامع بظواهر الكبد وعلله وآثاره، في صورة استفهام تقريري، يحمل من الإنكار قدر ما يحمل من التقرير القاطع الحاسم؛ فهنا وقفة عند {كَبَدٍ} منكرة، يذهب فيها الظن كل مذهب. يليها الاستفهام المثير: أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ و {لَنْ} لتأييد النفي في حساب هذا الإنسان المغتر.
ولا حاجو بنا إلى تحديد مرجع الضمير في {أَيَحْسَبُ} بشخص معين،
هو من قول: أبو الأشد، كان قوياً يبسط له الأديم العطاظي فيقوم عليه ويقول:"من أولنى عنه له كذا" فلا ينزع إلا قطعاً ويبقى موضع قدميه. أو هو قول آخر: الوليد بن المغيرة، وغروره بقوته وجاهه وماله ذائع معروف. فالعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص سبب النزول، لو صح أن الآية نزلت في أحد الرجلين......
هو الإنسان بعامة، كما فهم "أبو حيان" وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، ومع الطغيان تغره قوته فيحسب أن لن يقدر عليه أحد، ويغره ثراؤه فيتشدق مباهياً مفاخراً.
* * *
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} .
لفظ "لبد" لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، وهو في اللغة الكثير المجتمع، وأصله من: تلبد الصوف ونحوه، إذا تداخل ولزق بعضه ببعض.
واللبدة، بالكسر: شعر زبرة الأسد لوفرته وتداخله، والتبدت الشجرة وتلبدت: كثرت أوراقها، واللبدى: القوم المجتمع.
يقول: أهلكت، ولم يقل: أنفقت، مع قربها، إذ الإهلاك أولى بالغرور والطغيان، وأنسب لجو المباهاة زالفخر على المقام......
والتنكير في "مال" كالتنكير في: لبد، وفي: أحد، مقصود به إلى الإطلاق والتعميم.
* * *
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} .
هنا عاد الاستفهام، بكل ما فيه من ردع وإنكار، يفجأ المغتر بماله وقوته، وفي حسابه أن لم يره أحد. وقد عدل البيان القرآني هنا عن "لن" التي في الاستفهام الأول، إلى "لم" التي تنصرف إلى الماضي فتقرر أن ماضي المغتر محسوب عليه محاط به. بعد أن أكد في: أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ أن مصيره في يد القادر المحيط بما يعمل، لا تخفى عليه خافية، فمهد هذا للآيات بعده:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} .
بدأ فيها بوسائط الإدراك الحسي، ووسائل الإبانة: فالعين أداة البصر، واللسان والشفتان أدوات النطق والإبانة والتعبير. وليس المراد هنا، والله أعلم، أدوات الحس العضوية العضلية، فذلك ما لا يختص به الإنسان دون إليهم والوحش والطير والحشرات. وإنما يراد بها ما يسأل الإنسان عنه، على وجه الحض والزجر بالحجة، من أمانة البصر والنطق، تمهيداً لما يلي في السورة، من تقرير تبعات الرشد ومسئولية الكلمة.
* * *
بعد وسائل الإدراك الحسي من بصر ونطق، يأتي التذكير بما هدي تعالى الإنسان من إدراك مميز لمعالم الطريقين:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
والأصل اللغوي للهدى أنه الصخرة الناتئة في الماء يؤمن بها من العثار، ووجه النهار يعرف السائر فيه طريقه فلا يضل. ثم استعمل في هوادى الإبل أي المتقدمة منها، ومنه الهادى أي الدليل الذي يتقدم القوم ويهديهم الطريق؛ واستعمل بعد هذا مجازياً في الهداية ضد الضلال، وهو أكثر المعاني وروداً في القرآن كما استعمل - في الجو الديني - في التوفيق والإلهام.
والنجد لغة: ما أشرف من الأرض، والطريق المرافع الواضح. والنجود من الإبل والأتن: الطويلة العنق، والماضية، والمتقدمة، والتي تبرك على المكان المرتفع.
ومن الوضوح والارتفاع والتقدم، أطلق النجد على الدليل يظهر مكانه في القوم، ويسقهم هادياً إلى الطريق.
وفسر "الراغب" النجدين في الآية، بطريق الحق والباطل في الاعتقاد، والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح في الفعال.
واقتصر "الزمخشري" ومثله "إبن القيم، والشيخ محمد عبده" على القول بأنهما طريقاً للخير والشر، وذكر "أبو حيان" أن هذا هو ما عليه الجمهور.
على أن هناك قولا - في الأساس والبحر والمحيط - بأن النجدين "هما الثديان، لأنهما طالطريقين لحياة الولد ورزقه"!
والتأويل به، فيه شطط التكلف مع ظهور وهنه وضعفه........
كلمة {وَهَدَيْنَاهُ} - دون: بينا له أو أوضحنا - توجهنا إلى أن الهدى ملحوظ فيه أنه تعالى ألهم الفطرة الإنسانية الإدراك المميز للخير والشر، وجعل لها الأدوات الحسية لهذا الإدراك. كما أن {النَّجْدَيْنِ} - ولم يأت هذا اللفظ في القرآن، لإلا في هذه الآية - ملحوظ فيهما معنى الوضوح والشخوص المستفاد من الدلالة الأصلية للمادة، بحيث يرى الإنسان الطريقين ببصره، ويدركهما بما تهيأ له من هدى الله وإلهام الفطرة.....
واتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها واضح بين: فهذا الإنسان الذي خلقه الله مهيأ لأمانة التكليف الصعبة، مستعداً لمكابدة لختيار أحد الطريقين.
قد زوده - جلت قدرته - بوسائل الإدراك الحسي، وهداه معالم الخير والشر واضحة أمامه شاخصة ماثلة، يراها بعينيه كما يرى النجدين في وجه النهار، ويدركها بما تهيأ له في فطرته من تمييز بين الخير والشر......
واستعمل "ألم" في صدر الاسفتهام هنا، لأن خلق الإنسان مزوداً بوسائل الإدراك والتمييز، يسبق شعوره يقوته واعتراره بما له، غناسبه أن ينسحب الفعل بها إلى الماضي بـ (لم) .
أما حسبانه أن لن يقدر عليه أحد، فيأتي متأخراً بعد أن تطغيه القوة والمال، ومن ثم جاءت (لن) لتنقل الفعل من الحال إلى المستقبل، إذ ليس أمعن في الغرور من أن يحسب المغتر أن لن يقدر عليه أحد أبداً.
ويقال كذلك، إن الإنسحاب إلى الماضي {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ...... أَلَمْ نَجْعَلْ له......} وإلى المستقبل في {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} بيان لمدى إحاطة الله بالإنسان مهما يبلغ من قوته وطغيانه، فهو تعالى يملك من أمر مستقبله
ما يملك من حاضره وماضيه: بيده الخلق، وإليه المصير، وذلك هو ما في قوله تعالى في سورة الوحي الأولى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق) .
* * *
الأقتحام: توسط شدة مخيفة، فيما فسره "الراغب". ولم ترد مادته في القرآن إلا في موضعين: آية البلد هذه، وآية (ص) 59:
{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} .
وأصل القحمة، من الطريق: مصاعبه. ومن الشهر: لياليه الثلاث الأخيرة، يشق فيها السرى وتتوه السبل. وقحم المفاوز، كمنع: طواها.
وأما العقبة، بالتحريك. فأصلها المرقى الصعب من الجبال. والعقاب: الطائر الجارح المعروف، صخرة ناتئة في عرض الجبل، وحجر ناتى في جوف البئر يخرق الدلو.
ولم تأت العقبة، بهذا المعنى، إلا في آيتى البلد، وفيما عداهما، تدور المادة في القرآن حول العقاب والعاقبة والعقبى والتعقيب.
والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب. والمناسبة بين اقتحام العقبة وخلق الإنسان في كبد، أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فالإنسان المخلوق في كبد، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب ويجتاز أقسى المفاوز، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة.
ووقف المفسرون طويلاً عند "فلا" في صدر الآية، ويميل أكثرهم إلى اعتبار "لا" نافية، مع الكوت عن الفاء فيها. ولكن عقد الصنعة الإعرابية واجهتهم، فالقاعدة المشهورة عندهم أن "لا" النافية لا تدخل على الماضي إلا مكررة، وقد ساق "أبو حيان" قول الفراء والزجاج: "والعرب لا تكاد تفرد
"لا" مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لكنها في آية البلد، دخلت على الماضي دون تكرار، ومن ثم احتالوا للتوفيق بينها وبين القاعدة الإعرابية.
فقال الزمخشري: هي متكررة في المعنى، على تقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن....
وعند الزجاج أن قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على معنى: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن.
وأنكر الشيخ محمد عبده هذه التأويلات، إذ لا وجه عنده للالتفات إلى القول بمخالفة القاعدة "لأن القرآن حجة في الفصاحة، وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها".
على أن هناك قولا آخر في توجيه "فلا" في الآية، وهو أن تكون استفهامية. وقريب منه القول بأن (لا) في الآية من:(ألا) التي للتحضيض. ورده قوم منهم الشيخ محمد عبده - بأنه لم يعرف تخفيف ألا التخضيضية. وليست أدرى لم جاز عند الشيخ أن يلتفت هنا إلى هذه المخالفة للمعروف من قواعدهم، وقد أخذ عليهم الالتفات إلى مخالفة القاعدة في عدم تكرار لا النافية مع الماضي، لأن القرآن نفسه حجة في الفصاحة؟
والذي نطمئن إليه في: أنها على أي الوجهين حملناها، تشعر بالإنكار والتأنيب والحض. والمعنى بالنفي والاستفهام متقارب، فاختيار "لا" في موضع الاستفهام، صريح في نفي اقتحام العقبة عن هذا الإنسان المغتر بقوله وماله، وقد خلقه الله في كبد وهداه النجدين. واللغة حين تستعمل ألا وهلا في الاستفهام، فذلك إنما يكون في مقام التخضيض والتأنيب عن انتقاء الفعل، فلست تقول لأحد "هلا صنعت كذا" إلا وهو لم يصنعه.
فمعنى التأنيب والحض صريح في {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} مع تقرير النفي بها لا ينفك عنها. والفاء هنا، للربط والترتيب: خلق الإنسان مهيئاً لمكابدة المسئولية، وأعطى زسائل التمييز والإدراك، ليقاوم الشر والضلال، ويسلك طريق الصلاح على
ما فيه من مشقة هو أهل لاحتمالها. ويقتحم العقبة التي حض على اقتحامها.
لكن، ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟
في الطبري عن الحسن البصري: عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان.
وقريب منه، ما قاله الزمخشري، ونقله الشيخ محمد عبده.
وقيل: العقبة جهنم، أو جبل فيها، لا ينجى منها إلا الأعمال الصالحة.
نقله أبو حيان في "البحر المحيط" عن الحسن أيضاً، وعن إبن عباس ومجاهد وكعب.
ونرى السياق في غير حاجة إلى تأويل يغنى عنه أن القرآن نفسه قد تول بيان "العقبة" حين أتبعها السؤال اللافت.
* * *
فهذا بيان للعقبة التي يجب أن يقتحمها الإنسان. بما تهيأ له من وسائل المكابدة وطاقة المجاهدة، والإدراك والتمييز.
وهو كذلك بيان لأوضاع ظالمة نشأت عن غرور القادرين وطغيان أصحاب المال في "هذا البلد": فليس ما كان المجتمع المكي يعانيه من مآسي الرق، ومن النصدع الطبقي، ومن البغي والإستبداد إلى حد إنتهاك حرمة الرسول عليه الصلاة والسلام في البلد الحرام، ليس هذا كله إلا أثراً لطغيان هذا الإنسان الذي غرته قوته فاستعيد مخلوقين مثله وملك رقابهم بأغلال الاسترقاق المهين، كما زين له جاه الثراء أن يباهي بأنه أهلك مالاً لبدا، وعلى مقربة منه يتيم محتاج، أو مسكين لاصق بالتراب........
أوضاع مريضة، استقرت على مر الأجيال وتوارثها "هذا البلد" ولداً عن والد، وطبقة في إثر طبقة. وكان الإنسان جديراً بأن يقاوم طغيان المال وغرور
القوة، وأن يحتمل أعباء الذبل والإيثار من أجل خير الجماعة، على ما في ذلك من مشقة وعناء.
ولو أن هذا الإنسان قد رجع إلى فطرته، وثاب إلى رشده وحسه وبصيرته، لاهتدى إلى معالم الخير والشر واضحة أمامه شاخصة، ولأدرك أنه - على ما يتوهم من قدرته - ضعيف أما خالقه القادر الأعلى، وأنه على ما يغره من تراثه، محاسب عن ذلك الشر الذي تمثل في أوضاع "هذا البلد".
وأي شر أفدح وأوضح، من أن يستحل أذى الرسول في البلد الحرام؟ وأن يوجد في هذا البلد، مثابة الحج ومقر البيت العتيق، قادر مستبد يملك رقاب الناس، ترى يهلك مالاً لبداً، وإلى جانبه ناس قد أهدرت إنسانيتهم بالرق، وذو قربى جياع، ومساكين فقراء لاصقون بالتراب؟!
هكذا تتجسم أوضاع هذا البلد الحرام، والرسول حل فيه. وعلى هذا مضت بهم الحياة أجيالاً متعاقبة: والداً وما ولد.
ومن ثم تتحدد معالم النضال في سبيل ما جاءت به الدعوى الإسلامية لهدى الناس وإصلاح ما فسد من أحوالهم: والقرآن إذ يدعو هنا إلى المجاهدة ضد الرق، والفروق الطبقية والظلم الإجتماعي، يستثير ما في فطرة الإنسان من قدرة على المكابدة ويخصه على اقتحام العقبة الكبرى، على هدى المعالم الواضحة أمامه لطريقى الخير والشر.....
والإثارة اللافتة، لا تأتي من مجرد الاستفهام البياني وحده، وإنما تأتي كذلك من كل لفظ ونبرة، في قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ، ينفذ به إلى أعماق الوجدان، ويهيىءالاسمع لما يعقبه من بيان:{فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ......}
وعسى ألا يفوتنا هنا، هذا الترتيب لخطوات اقتحام العقبة ومراحل النضال من أجل صلاح الإنسان وخير الجماعة:
بدأ بفك الرقبة، ولهذا البدء دلالته الصريحة عن أن تحرير الإنسانية من أغلال الرق هو أول خطوة في النضال الصعب من أجل الوجود الكريم الجدير بالإنسان، فليس شيء أخر بالذي يسبق رد الكرامة الآدمية للإنسانية. وكل
إصلاح لخير البشر والمجتمع، إنما يأتي بعد أن نرد إلى الإنسانية اعتبارها المهدر بالرق.
واستعمال الفك والرقبة، فيه ما فيه من إشعار بأن العبد المسترق مغلول الرقبة بقيد مهين يسلبه إنسانيته وينزل به إلى منزلة البهم والدواب، وهو المخلوق الذي سواه الله بشراً حراً كريماً، فاستعبده مخلوق مثله، حسب لفرط غروره بقوته وثرائه، أن لن يقدر عليه أحد!
والآيات بعدها: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} هي آيات العدالة الإجتماعية، لتصحيح الأوضاع المادية التي أباحت وجود مقتدر ذي مال لبد، ويتيم جائع ذي مقربة أو مسكين ذي متربة. والقرآن يضع هذه العدالة الإجتماعية تالية لفك الرقبة، ويأتي بها في مساق البيان لاقتحام العقبة، مقدراً ما في تصحيح هذا الوضع الفاسد من صعوبة، وما يتطلبه من مجاهده ومكابدة.
وقوله تعالى: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} ، يجسم بشاعة الوضع: فالمسغبة المجاعة، أو هو الجوع العام كما قال "أو حيان"، وليس أبشع من تصور جار يتيم أو مسكين محتاج، في يوم مجاعة.
وكون اليتيم ذا مقربة، يفسر بالقرب وبالقرابة، ولكليهما حق الجوار والقربى.
وكون المسكين ذا متربة، بيان لمدى العوز والهوان، يلصق المسكين بالتراب، أو يجعله، من فرط العدم، لا يجد سوى التراب!
وضع بشع، يستطيع الإنسان أن يدركه ببصره وبصيرته، بحسه وبفطرته، ويستطيع معه أن يميز طريق الخير، لو اقتحم العقبة وجاهد من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية.
* * *
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} .
عطف الإيمان، بلفظ: ثم، على ما قبله يبيح لنا أن نفهم أن تحقيق الكرامة الإنسانية بفك الرقبة، والعدالة الإجتماعية بإطعام يتيم ذي مقربة أو مسكين ذي متربة، لازمان للإيمان وما بعده من تواص بالصبر والمرحمة. الإنسان لا يكون مؤمناً، ما لم يكن له من نفسه وازع يرده عن الطغيان ويلزمه حده فلا يسترق بشراً مثله، ولا يتجاهل حق يتيم ومسكين، وأنى لإنسان أن يؤمن بوجود خالق قادر عليم، ما لم يتحرر أولاً من غرور جاهه وقوته وثرائه، ذلك الغرور الذي يعطل شعوره نحو أخيه الإنسان، ويجعله يحسب أن لم يره أحد ولن يقدر عليه أحد. فالإيمان بالله، نعمة لا تتاح لقساة القلوب غلاظ الأكباد عمي الأباصر والبصائر، ولا يميزون بين الخير والشر!
كل هذا/ مما يعطيه سبق فك الرقبة والإطعام، على الإيمان الذي جاء معطوفاً عليهما بلفظ: ثم، لكن المفسرين عطلوا هذا الملحظ الجليل، بل عكسوا الوضع، فجعلوا {ثُمَّ} مقصوداً بها إلى إبعاد الإيمان عن فك رقبة وإطعام يتيم أو مسكين، فلا يكون الإيمان معهما في مرتبة واحدة! ونص عبارة الزمخشري في (الكشاف)"وجاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الفضيلة والرتبة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به".
وقال أيو حيان في (البحر المحيط) :
"ثم، لتراخي الإيمان والفضيلة لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان، إذ هو شرط صحة وقوعها من الطائع. أو يكون المعنى: ثم كان عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان، إذ الموافاة عليه شرط في الإنتفاع بالطاعات. أو يكون التراخي في الذكر، كأنه قيل: اذكر أنه كان من الذين آمنوا....."
والإيمان مناط العقيدة الإسلامية. لكن المسلم قد يظن أن إيمانه يصح بمجرد أداء العبادات، فهم من ثم، في حاجة إلى التنبية بأن صحة الإيمان تنفي الغرور والاستعباد والقسوة.
فماذا علينا لو أخذنا بصريح الترتيب في الايات المحكمات، حيث بيبن القرىن مراحل اقتحام العقبة، فيضع الكرامة الإنسانية بالعتق، والعدالة الإجتماعية بإطعان يتيم ومسكين، مناط الإيمان، مقرراً بذلك أن لا سبيل إلى رجاء الإيمان فيمن غره جاهه فانتحل صفة الربوبية باستعباد مخلوق مثله، وتحجر قلبه فلم يطعم يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة! ومعلناً أن لا مكان لإيمان صادق مخلص، في مجتمع يسيغ عبودية بشر لغير خالقه ويطيق أن يمسك الطعام في يوم مجاعة، هم يتيم ذى قربى، ومسكين معدم لا يجد إلا التراب؟
ويقوى هذا الفهم، عطف التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة على الإيمان بالواو المفيدة للربط دون تفاوت او تراخ، دلالة على أن الإيمان متى وقع في نفس سليمة الحس والإدراك، قادرة على المجاهدة والبذل والإيثار، مهتدية إلى طريقي الخير والشر، فغن هذا الإيمان يصحبه ويقترن به، شعور بما يقتضيه حق الجماعة من واجب التواصي بالصبر والمرحمة: الصبر على أعباء النضال من أجل الخير، والتراحم الذي يجعل الناس إخوة متعاونين متكافلين مترابطين، كأنهم أعضاء جسم واحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وقد جعل الله للإنسان لساناً وشفتين. كي لا يسكت عن الحق. والساكت عن الحق شيطان أخرس.
وهذا هو المجتمع المثالي الذي حض عليه القرآن الكريم في سورة البلد، وهدى إليه الإنسانية المروجوة لتكاليف الجهاد للخلاص من محن الرق، وأنانية الفردية الظاغية المستبدة، وإثم السلبية الساكتة عن الحق.
* * *
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} .
وقد ألفت العربية استعمال اليمين في البركة واليمن والتفاؤل والقوة. وفي الاستعمال ال قرآني، نلمح ملحظ البركة في اختيار الجانب الأيمن للموضع الذي تجلى فيه الله سبحانه لموسى عليه السلام:
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} . مريم 52.
كما نلمح ملحظ القوة في آيات الزمر 67، طه 17، الأحزاب 50.
ومعها آيات: النساء 3، 25، 33، والنور 53، 58 والمؤمنون 60 والمعارج 30 والانشقاق 7.
وملحظ الخير والتفاؤل في إيتاء المؤمن كتابه بيمينه: الإسراء 71، الحاقة 19، الانشقاق 7.
وأهل الجنة يوم القيامة: هم أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة. وأضيف إلى هذه المعاني جميعاً دلالة الحرمة في اليمين بمعنى القسم، ومعنى ديني هو الإيمان.
وقوبل أصحاب الميمنة في سوزرة البلد، بأصحاب المشأمة في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} .
فدل ذلك من صنيع القرآن على أن الكفر بآيات الله، مقابل لاقتحام العقبة: فك رقبة، أو إطعلم في يوم ذي مسبغة، ثم الإيمان، والتواصي بالصبر والمرحمة.
والشؤم في اللغة ضد اليمن، وقد سمى أهل النار في الآخرى أصحاب المشأمة أو هم أصحاب الشمال.
* * *
مغلقة لا منفذ لها ولا مخرج منها. وأصل اللفظ من الوصيد وهو في اللغة: الجبل، وبين من الحجارة في الجبال للمال. وأخذها الزمخشري من: أوصدت الباب وأصدته إذا أطبقته وأغلقته. ونرى أن الإيصاد ليس مجرد الإغلاق، وإنما فيه الشدة والإحكام الملحوظان في أصل المادة.
وقد جاءت المادة في القرآن ثلاث مرات: الوصيد في آية الكهف 18:
ومؤصدة في آية البلد. وآية الهمزة في {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
وسورة الهمزة، مكية نزلت بعد القيامة.
والاستئناس بها هنا يزيدنا تمثلاً للمجتمع الإسلامي المتعاون المتكافل المتراحم الذي يهدي إليه القرآن ويحض عليه، كما يزيدنا شعوراً بنظرة القرآن إلى ضراوة الجشع وشؤم الأنانية وغرور المال.
وقال في الآيتين: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ولم يقل: فوقهم، وذلك لأن الفوقية تحتمل البعد وعدم الملاصقة، بخلاف {عَلَيْهِمْ} التي نفيد الإطباق المباشر.
* * *
وبهذه الاية، تختم السورة التي جسمت فساد الأوضاع ف هذا البلد، والنبي حل به قد عانى من أذى واضطهاد، ولمس أمراض المجتمع المكي، بتوارثها ولد عن والد. كما بينت السورة أسباب الفساد، وطرق النجاة. لافته إلى ما في طاقة الإنسان وفطرته، من المكابدة لتصحيح المظالم الإنسانية والإجتماعية، وإدراك ما ينجم عنها من شر، وسوء مصير.
وهكذا تتسق الايات في نسق باهر وبيان معجز، واستثارة نبيلة لتحقيق أمل الإنسانية في مقاومة الرق والبغي، والغرور والأنانية، والقسوة والظلم....
{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
صدق الله العظيم