المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النازعات بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) - التفسير البياني للقرآن الكريم - جـ ١

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

الفصل: ‌ ‌سورة النازعات بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)

‌سورة النازعات

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِ

ص: 121

يَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }

صدق الله العظيم

ص: 122

السورة مكية متأخرة، فهي الواحدة والثمانون على المشهور في ترتيب النزول نزلت بعد النبأ.

وتبدأ بواو القسم، متلوة بخمس صفات متتابعة في آيات خمس: وقد أفسح حذف الموصوف فيها وإقامة الصفات مقامه، مجالاً واسعاً لتأويلات كثيرة بلغت في بعض كتب التفسير نحو عشرة أقوال.

يطول الخلاف أولاً حول النازعات ما هي، وتتعدد الأقوال فيها ثم يحتكم كل قول منها في توجيه الآيات التي بعدها، مع الرد في كل حالة على بيان وجه التعظيم "للنازعات" بحكم وقوعها بعد واو القسم.

فمن أقوالهم في النازعات:

أنها الملائكة تنزع نفوس بني آدم - عم عبد الله وإبن عباس.

وقيل: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق - عن الحسن وقتادة وأبي عبيدة.

وقيل: هي النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها - عن السدي.

وقيل: هي القسى تنزع بالسهام - عن عطاء وعكرمة.

وقيل: هي الجماعات النازعات بالقسى - عن عطاء أيضاً.

وقيل: هي المنايا تنزع النفوس - عن مجاهد.

وقيل: هي الوحش تنزع إلى الكلأ - حكاه يحي بن سلام.

وقيل: هي خيل الغزاة تنزع في أعنتها - جاء في الكشاف.

وقيل: هي الريح تقلع القوم لشدة هبوبها - جاء في المفردات.

وأشهر هذه الأقوال جميعاً، أنها الملائكة تنزع أرواح بني آدم، وهو أحد أقوال ثلاثة أختارها الزمخشري وأدار الآيات عليها، والقولان الآخران

ص: 123

هما: النجوم، وخيل الغزاة.

واختار "الراغب" تفسيرها بالملائكة، أو الريح.

* * *

ومن تدبر السور المفتتحة بواو القسم، يبدو لنا أن القرآن يعدل في هذا الأسلوب عن الأصل اللغوي للتعظيم بالقسم إلى استعمال بلاغي، هو قوة اللفت إلى مادي محسوس وواقه مشهود، ليس مطنة مماراة، توطئة بيانية لمعنوي أو غيبي غير مدرك بالحس. على ما سبق الإلتفات إليه في سورتي الضحى، والعاديات.

وهذا التوجية يمكن أن تقبله سور: العصر، والليل، والفجر، والشمس، والمرسلات، والذاريات، والتين، والطور، والقلم، والنجم.....

وهي جميعاً من السور المكية.

وأمام ذلك المألوف من أسلوب القرآن في اللفت بالواو إلى مادي مدرك، لا نطمئن إلي تفسير "النازعات" بما ذهب إليه أكثر المفسرين، من أنها الملائكة تنزع الأرواح، إذ ليست الملائكة في نزعها للأرواح، وسبقها إلى تدبير أمر الله، مما يدخل في نطاق الحسيات المدركة. كما يبدو مستبعداً في فهمنا. والله أعلم، أن يلفت إليها القرآن للاستدلال على البعث، من لا يؤمنون بملائكة تنزع الأرواح وتدبر شئون الكون بأمر الله. إذ لو كانوا مؤمنين بها. لصدقوا بالبعث واليوم الآخر.

ونحن أكثر اطمئناناً إلى تفسير النازعات بالخيل المغيرة، دون تحديد لها بخيل الغزاة كما قال الزمخشري وغيره من المفسرين متأثرين بنزعة التعظيم في القسم بها، فما كان للمسلمين في العهد المكي خيل تغزو، ولا كان هناك دار سلام ودار حرب يخرج الغزاة منها وإليها، والقول بأن هذا سوف يكون بعد الهجرة، لا مجال له هنا مع هذا اللفت إلى واقع مشهود، توطئة للإقناع بغيب يمارون فيه!

وقد لفت القرآن في (سورة العاديات) إلى الخيل عاديات ضبحاً مثيرات نقعاً مغيرات صبحاً، ليستحضر بها موقف البعث إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور. وما نرى السياق في (النازعات) إلا شبيهاً يالذي في (العاديات) ؛

ص: 124

فالاستئناس بإحداهما في فهم الأخرى، أصح منهجاً من أن نبعد في التأويل إلى مسبح الملائكة في آفاقها الغيبية غير المنظورة ولا المدركة.

* * *

وما نطمئن إليه من تفسير (النازعات) بالخيل، يوجه الآيات بعدها في يسر وبلا تكلف، فهي تنزع في عدوها وتغرق فيه، وهو الملحظ نفسه في السبح الذي يجمع له السابح قوته. وبهذا النزع السابح، تسبق إلى الغاية فتدبر من الأمر ما أجمعت له في معاناة.

وننظر في المفردات، فنرى النزع - وهو لغوياً بمعنى الجذب والشد والقلع، ومنه المنازعة شدة التجاذب في الخصومة - قد استعمل في القرآن ملحوظاً فيه قوة الجذب والمعاناة فيما يظن به الرسوخ والتأصل، سواء في ذلك الفعل في نزع الشيطان لباس أبوينا {الأعراف 27) ونزع موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين (الأعراف 108 والشعراء 33) ونزع الله النعمة من الإنسان (هو 9 وآل عمران 36) ونزع ريح صرصر عاتية كفار عاد {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَع} (القمر 20) والصفة في لظى نار جهنم {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} ، أي الأطراف (المعرج 16) وآية النازعات غرقاً.

والغرق في الأصل اللغوي بمعنى الرسوب في الماء، ويستعمل مجازاً في إغراق البلاء والنعمة. كما يقال أغرق النازع في القوس أستوفى مدها، وإغترق الفرس الخيل خالطها ثم سبقها، وامرأة تغترق نظرهم أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها لحسنها.

وفي القرآن جاءت مادة غرق، عدا آية النازعات، أثنتين وعشرين مرة. كلخا على اختلاف صيغها، فعلاً ومصدراً واسم مفعول، من الغرق بمعناه الأول القريب في أصل الوضع اللغوي بصريح سياقها في اليم والبحر والموج، أو في إغراق قوم موسى والكفار من قوم نوح.

فسر الزمخشري {غَرْقًا} في النازعات، بأن الخيل تنزع نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها.

ص: 125

وأخذه أبو حيان من الإغراق في الشيء أي المبالغة فيه، قال: أغرق النازع في القوس بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى الفصل، وذهب الفيروزابادى في القاموس إلى أن الغرق في الآية أقيم مقام المصدر الحقيقي وهو الإغراق.

وقال الشيخ محمد عبده: الغرق في النزع هو الإتيان على الغايات منه، حين تنزع الكواكب عن قسى دوائرها.

ونحمله في الخيل على النزع المغرق، بما فيه من عنف الجذب وقوة المعاناة.

* * *

{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} .

لم ترد مادة "ن ش ط" في القرآن إلا في هذا الموضع. والنشط في اللغة يستعمل أصلاً في العقد الذي يسهل حله، ومنه الأنشوطة: العقدة يسهل حلها. وبئر نشاط: قربية القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة. ثم قيل: أنشط البعير حله. فنشط أي أنطلق في سهولة. ومنه ثور ناشط: خارج من أرض إلى أرض.

والتفت "الراغب" إلى ما في استعمال النشظ هنا من تنبيه على السهولة واليسر. ونؤثر أن نضيف إليه ما يربطه بأصله اللغوي، إفلاتاً من عقال.

* * *

{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} .

السبح: العوم، والأصل فيه أن يكون في الماء، ويستعار لغة للخيل فيقال لها السوابح. كما يجيء في القرآن لسبح النجوم في الفلك:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ولسرعة المضي في العمل: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} .

والسبح من الخيل، إنما يكون في غير مجاله الذي هو الماء، وهذا يقتضي من تجمع القوى وعنف المعاناة، ما يلائم النزع المغرق.

* * *

ص: 126

{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} .

السبق التقدم، ملحوظاً فيه معنى السرعة والمبادرة. واستعماله في الخيل واضح وقريب، لكن الذين فسروا النازعات بالملائكة أو بالنجوم أو بالآجال والمنايا، ذهبوا في تأويل السابقات، إلى أنها وصف لهذه أو تلك، فالملائكة تسبق إلى تدبير شئون الكون بأمر الله، "والنجوم سابقات في سبحها فتتم دورتها حول ما تدور عليه في مدة أسرع مما يتمم غيرها، كالقمر يتمم دورته في شهر قمري، وكالأرض تتمم دورتها في سنة شمسية، ونحو ذلك من السيارات. ومنا ما لا يتمم دورته إلا في سنين، لكن السابقات هي التي أنفردت بتدبير بعض الأمور الكونية في عالمنا الآرضي".

وهو تاويل اقتضاه توجيه واو القسم إلى تعظيم المقسم به وهو الملائكة أو النجوم، {إظهاراً لعظم شأنها وإتقان نظامها وغزارة فوائدها وأنه مسخرة له - تعالى خاضعة لأمره".

ونفهم السبق هنا، أثراً لما جمعت الخيل من قواها في نزعها المغرق وسبحها الناشط.

* * *

{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}

ويلحظ من مادة "التدبير" في القرآن، أن الفعل منه يجيء مضاراعاً، مسنداً إلى الله تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في آيات: يونس 3، 31، والرعد 2، والسجدة 5.

وفي المضارعة معنى الاستمرار والإحضار وتدبيره تعالى إحكام للسنن الكونية. وليس على المفهوم من التدبير الكمي الذي يكون من البشر. وأصل التدبير في الاستعمال اللغوي، أنه من التفكير في دبر الأمور وعواقبها، على أنه يطلق عادة على تولى الأمر والنهوض بتنظيمه وإدارته، دون أن تنقطع صلته بالأصل اللغوي.

وقد فسرها الراغب في النازعات، بأنها ملائكة موكلة بتدبير أمور الكون.

ص: 127

وفي الكشاف: "إما أنها الملائكة تدبرا أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم، وإما أنها خيل الغزاة تدبر أمر الغلبة والظفر، وإما أنها النجوم تدبر أمراً في علم الحساب".

وفي البحر المحيط عن إبن عطية: "لا أحفظ خلافاُ في أنها الملائكة التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات".

وقال الشيخ محمد عبده: "ليس التدبير إلا ظهور الأثر لعمل الكواكب السابقات التي أنفردت بتدبير بعض الأمور الكونية".

وإذ فهمنا النازعات بالخيل في نزعها المغرق وسبقها السابح، يكون التدبير غاية ما تجمعت لو قواها فيما أريد لها من أمر الغلبة والحسم.

ووقف "أبو حيان" في آيات النازعات الخمس ألولى، عند الوصل بالواو مرتين وبالفاء مرتين. ونص عبارته فيه:"والذي ظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء، وأن المعطوف بالواو هو مغاير لما قبله. على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو من عطف الصفات بعضها على بعض".

ويظهر من صنيع المفسرين في توجيه الصفات الأربع، تبعاً لما أختاروه في تأويل النازعات، الميل إلى أعتبار الربط بالواو أو بالفاء من تتابع الصفات: فالناشطات والسابحات فالسابقات فالمدبرات، كلها أوصاف لموصوف واحد تعينه "النازعات".

والذي نراه أن السبق والتدبير يرتبطان بالسبح والنشط، وبالإغراق في النزع، على وجه الترتيب والتعقيب الملحوظ فيه السببية، وهو ما تقضى به طبيعة الاستعمال اللغوي للفاء، فإغراق الخيل في نرعها، ونشاطها المطلق وسبحها في الهواء، يعقبه ويترتب عليه أن تسبق فتدبر أمراً جمعت له قواها.

ونتفق مع الممفسرين في أن ما بعد الواو في الآيات الثلاث صفات لموصوف واحد، وإن كنا لا نجزم برأي "أبي حيان" في أن الواو هنا للعطف، إذ يحتمل كذلك أن تكون في المواضع الثلاثة، واو القسم اللافتة، وقد تغيرت بعدها الصفات والموصوف واحد.

ص: 128

وفي جواب القسم قيل: قد يكون محذوفاً وتقديره {لَتُبْعَثُنَّ} لدلالة ما بعده عليه - قاله "الفراء"، ونص أبو حيان في (البحر) على أنه المختار.

وعن الترمذي. أن الجواب: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" - فيما يلي من السورة - رده إبن الأنبارى بقوله: وهذا قبيح. لأن الكلام قد طال.

وقيل: الجواب، ليوم ترجف الراجفةتتبعها الرادفة. حذفت فيه اللام، ولم تدخل نون التوكيد، لأنه فصل بين اللام المقدرة والفعل.

وقيل: التقدير، يوم ترجف الراجفة والنازعات، على التقديم والتأخير. رفضه أبو حيان وقال: ليس بشيء.

وقول خامس. على تقدير: فإذا هم بالسهرة والنازعات. خطأه "إبن الأنباري"، لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.

وسادس يقول: الجواب، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} لأنه في تقدير: قد أتاك. قال فيه أبو حيان: "ليس بشيء".

وأضاف: وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية. وحذف الجواب هو الوجه.

ولا داعي عندنا لإطالة الوقوف عند هذه التأويلات، فليس القسم هنا على أصل وضعه اللغوي، فنحتاج معه إلى تسوية القاعدة في وجوب دخول اللام على الفعل مؤكداً بالنون في جواب القسم، وإنما يتم لنا بالمقطع الأول من السورة - بآياته الخمس - مشهد حسي وصورة مادية للخيل فيما تعاني من عنف النزع وقوة الجذب وشدة التجمع للإفلات والإنطلاق، كي تحسم أمراً أريدت له، وتبت في مصير حشدت له قواها، وعانت ف السيق إليه ما عانت من نزع وجذب، ومن تجمع وتقبض وتوثب، شأن النازع المغرق، والسابح في غير مجال.

ص: 129

والقرآن في سورة "العاديات" قد لفت إلى إنطلاق الخيل في غارتها المصبحة المفاجئة، وهو هنا يعرض المشهد من جانب حركة العدو، وما فيها من معاناة وتجمع وإنطلاق. والوقع المادي لحركة العجو، يوحى بها تهدر به صدور الخيل وهي تتجمع للمعركة، وما تضطرب به أعماقها وهي ننقبض وتتوثب، مقلنة من العقال، سابحة في الهواء، سابقة إلى حيث أريد لها، فإذا ما بلغت من ذلك كله، تدبير الأمر المراد، جاءت صورة أخرى غيبية، تصور حركة القيامة بما فيها من رجف ووجف، وما يصحبها من هزة عنيفة تغير الثابتمن نظام الكون، وتدبر أمراً كان حتماً مقضياً.

* * *

{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}

الرجف: الاضطراب الشديد. ويستعمل لغة في الراجف: الحمى ذات الرعدة. والرجفة الزلزلة. ومنه أرجفت الأرض: زلزلت. ويستعار للفتنة ونحوها فيقال أرجف القوم إذا خاضوا في أخبار الفتن أو الإفك. ويقال كذلك أرجفوا إذا تهيئوا للحرب.

وهذا التهيؤ للحرب، قريب من النزع المغرق حين تتهيأ الخيل للمعركة.

وفي القرآن جاء الإرجاف مرة في الفتنة، يراد بها هز القيم وزلزلة الأمن، في آية الأحزاب 60:

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} .

وجاءت "الرجفة" أربع مرات كلها في موقف الفزع الشديد والاضطراب المزازل، وعبر عنها جميعاً بـ {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} في آيتى الأعراف: 78، 91 ومعهما آيتا العنكبوت 37 والأعراف 155.

أما الفعل فجاء مرتين، كلتاهما في المضارع: آية النازعات، وآية

ص: 130

المزمل 14: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} .

وبها استأنس الزمخشري في تفسير الراجفة، بالأرض ترجف يوم القيامة. ولكنه لم يقف، وهو البلاغي المفسر، عند إسناد الرجف إلى الأرض نفسها، مع وضوح الظاهرة الأسلوبية في الآيات بعدها: الرادفة والساهرة، والحافرة، وخاسرة.

والأصل فيه أن الأرض مرجوفة لا راجفة، وأن التابعة مردفة لا رادفة، وأن حفرة القبر محفورة لا حافرة، وأن الكرة خسر أصحابها، وكذلك الساهرة. وعدول القرآن عن هذا الأصل، إلى الإسناد لامجازى فيها جميعاً، ظاهرة أسلوبية لافته، لا يهون إغفالها.

وفي سورة الزلزلة، أشرنا إلى غلبة استعمال الفعل مبنياً للمجهول، أو مطاوعاً، في الحديث عن يوم القيامة، وذكرنا أن في هذا تركيزاً للإنتباه في الحدث نفسه، ودلالة على الطواعية التلقائية التي يستغنى بها عن فاعل.

والذي قلناه في إخراج الأرض أثقالها وتحدثها بأخبارها، يقال مثله هنا في الأرض راجفة وهو مرجوفة، والرادفة وهي مردوفة، وكذلك الشأن وهنا تلقائية تعني عن ذكر المحدث. بما أودع جل شأنه الأرض من قوة وهنا تلقائية تغنى عن ذكر المحدث، بما أودع جل شأنه الأرض من قوة التسخير لما يريد لها. وهنا أيضاً مباغتة، لا يدري معها الإنسان يوم القيامة من أين جاء الرجف، وتركيز للإنتباه في أخذه الرجفة.

وكما تنزع الخيل نحو غاياتها التي سخرت لها، بحركة تلقائية ذاتية، وتنشط وتسبح يقوى مودعة فيها، فكذلك الأرض يوم القيامة، ترجف بحركة تلقائية ذاتية، صائرة إلى ما سحرت له، فهي مرجوفة راجفة،

* * *

{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} .

والردف في العربية: الإتباع، والراكب يحمل غيره على ردف الفرس وراءه فيقال: ردفه. ثم أطلق على الإتباع بعامة، وإن لم يكن على ردف فرس.

ص: 131

وفي القرآن، جاءت المادة ثلاث آيات:

النمل 72: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} .

الأنفال 9: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} .

والردف هنا في موضعه.

وآية النازعات والرادفة فيها تابعة، والأصل أن يكون التابع مردفاً لا رادفاً. والعدول عنه كما في {تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} بيان للطواعية والتسخير، والتلقائية التي يقع فيها الحدث على المجدث، فكأنه هو!

وللمفسرين في تأويل الراجفة والرادفة أقوال: ففي (الكشاف، والبحر) أنهما النفختان تتبع الثانية الأولى وتلحق بها.

وقيل: الراجفة هي الأرض، والرادفة السماء إذ تنشق وتنتثر كواكبها.

والأولى عندنا أن تكون الرادفة هي ما يتبع الرجفة من بعثرة ما في القبور، لتتصل الآية بما بعدها.

* * *

{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} .

الوجف والوجيف لغة: الاضطراب. وربما كان الأصل فيه ضرباً من سير الخيل والإبل فيه سرعة مضطربة، وقد التفت "الراغبط إلى هذا الاستعمال اللغوي الأصيل، في تفسير {وَاجِفَةٌ} ، وتقوى بد دلالة الوجف هنا على الاضطراب الناشيء من عنف خفقات القلوب واضطراب وجيبها في رجة القيامة.

والخشوع يكون عن ضراعة أو عن رهبة وإجلال، وهو في الصوت والبصر: السكون والغض، وفي الكوكب: دنوه من الغروب، والخشعة، بالصم: الأكمة اللاظئة بالأرض. وتخشع: تضرع.

وكل خشوع في القرآن الكريم، إنما يكون لله سبحانه من مخلوقاته.

ص: 132

وحين يكون الخشوع من المؤمنين، فهو في الحياة الدنيا، عن صدق إيمان بالله واليوم الآخر:

(البقرة 45، آل عمران 199، الأنبياء 90، الإسراء 109، المؤمنون 2، الأحزاب 25، الحديد 16) .

وأسند الخشوع لله، إلى الأصوات (108 طه) والأرض (39 فصلت) على سبيل المجاز، عن فرط الرهبة والإجلال. ومن ذلك أيضاً آية الحشر 21

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .

وجاء في موقف الذلة والهوان والخوف، مسنداً إلى الأبصار 4 مرات، وإلى الوجوه مرة واحدة، يوم الهول الأكبر، في آيات:

المعارج 44: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} .

القلم 43: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .

الغاشية 2: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} .

القمر 7: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} .

وآية النازعات: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} .

والآيات الخمس مكية، وكلها في موقف القيامة، وأربع منها صريحة الاختصاص بالكافرين، والخامسة - وهو آينة القمر - يرجح السياق أنها كذلك. من ثم نطمئن إلى أن خشوع الأباصر في آية النازعات، هو غض البصر عن ذلة وإنكسار، وشعور بهول الموقف الرهيب الذي يستيقن فيه الكفار من فداحة الذنب وصدق النذير وسوء المصير:

* * *

ص: 133

{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .

الرد: الرجع والعود، والارتداد: الرجوع في الطريق الذي جيء منه.

والردة تختص بالرجوع إلى الكفر، أما الارتداد ففي الكفر وغيره. والاسترداد: الاسترجاع (الراغب) .

ويتعين معنى الرجوع والعود في الاستعمال القرآني حين يكون الرد إلى الله، في مثل آيات:

الكهف 36، 87، الأنعام 62، يونس 30، النساء 59، التوبة 94، الجمعة 8.

ويتعين معنى الردة، حين يكون الارتداد رجوعاً عن الدين في مثل آيات:

البقرة 109، 217، آل عمران 100، محمد 25، المائدة 54.

ويتعين معنى الإرجاع في مثل آيات:

إبراهيم 9، النساء 83، القصص 13، يوسف 65، البقرة 228.

وقريب منه استعمال الرد في رجع التحية "النساء 86" وهو شبيه باستعمالنا الرد في الجواب.

وقوله تعالى: {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} يونس 107 {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} هو 76 {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} الأنعام 147 {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا} يوسف 110، ملحوظ فيه مع الإرجاع معنى الصرف، فلا صارف لفضل الله، ولا مرجع عن عذابه وبأسه.

ويتعين معنى الرجوع في الطريق الذي جئ منه، مادياً، أو معنوياً، حين يصرح بالرد على الأعقاب، أو الأدبار، وذلك في مثل آيات: آل عمران 149، الأنعام 71، الأعراف 53.

أو على الآثار كآية الكهف 65.

أو مع لفظ {كُلَّ مَا} في مثل آية النساء 91:

{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} .

وكذلك مع كرة، في آية النازعات، وآية الإسراء 6:

ص: 134

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} .

وكل هذه المعاني متقاربة، وبها يفسر {مَرْدُودُونَ} بمعنى الإرجاع والعودة إلى حيث كانوا {فِي الْحَافِرَةِ} .

والحفرة في اللغة معروفة، والحفر: إخراج التراب من الحفرة، والمحفرة: المسحاة أو ما يحفر به، وسمى حافر الفرس لحفرة في عدوه. وسموا القبر حفيراً، والذي يحفر القبور حفاراً. وأما الحافرة فأصل استعمالها أن العرب كانت لا تبيع الخيل نسيئة بل تقول: النقد عن الحافرة. تعني ألا يزول حافر الحصان عن مكانه حتى ينقد ثمنه، ثم نقل استعماله إلى كل أولى، ومنه قيل للخلقة الأولى حافرة (القاموس، البحر المحيط) وقالوا: رجع فلان في حافرته، أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها وأثر فيها بمشيه، جعلوا أثر قدميه حفراً.

وقد جاءت المادة في القرآن مرتين:

آل عمران 103: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} .

والنازعات: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} .

وبكلا المعنيين: حفرة القبر، والحالة الأولى، فسرت آية النازعات، وأقتصر "الزمخشري" على المعنى الثاني.

وفي (الطبري، والبحر) عن إبن عباس: الحافرة الحياة الثانية.

وقيل: الحافرة النار. ذكره أبو حيان.

وهو ما لا يستطاع حمل اللفظ عليه، فيما نرى، إلا على بعد وتكلف.

وقيل: الحافرة جمع حافر بمعنى القدم، أي مردودون أحياء نمشي على أقدامنا، ونطأ بها الأرض. وليس من المألوف استعمال الحافر للإنسان إلا أن يستعار.

والأولى أن يستبقى اللفظ دلالته اللغوية على حفرة القبر وعلى الحالة الأولى.

فيكون السؤال حين ترجف الراجفة: أننا لمردودون في حفرة القبر أحياء، عائدون إلى حالتنا ألولى؟

* * *

ص: 135

{أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} .

وقرئ ناخرة، كلاهما من النخر بمعنى البلى، لكن نخرة أبلغ من ناخرة. ولعل أصل استعماله اللغوي في النخير: الصوت ينبعث من شيء أجوف، والمنخر الأنف، والناخرة من العظام: المجوفة فيها ثقب. وربما لحظ في الشيء الأجوف أو المثقوب، الهشاشة وسرعة التفتت، فأطلق النخر والناخر على البالي المتفتت، والنخرة من العظام: البالية.

ولم يأت من المادة في القرآن، غير {نَخِرَةً} في آية النازعات.

فسرها الراغب بأنها من قولهم: نخرت الشجرة أي بليت.

والأقرب عندنا أن يفسر بالاستعمال اللغوي، في التفتت والبلى.

والسؤال في: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} يحتمل عند المفسرين أن يكون على وجه التمني، إذ يقولون في موقف الهول: ليتنا نرد في الحافرة ونكون عظاماً نخرة، ولكن يبعد هذا الإحتمال قولهم بعد ذلك: تلك إذن كرة خاسرة. إذ لو كان الاستفهام على وجه التمني، لكانت الكرة في حسابهم رابحة، كالذي في آيتي:

الشعراء 102: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

والزمر 58: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .

فهل الاستفهام هنا على وجه الاستبعاد والاستهزاء كما ذكر "الزمخشري وأبو حيان"؟

الاستهزاء قريب والاستبعاد متبادر في سؤال الكفار للرسل، بآيات:

الإسراء 49: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا

ص: 136

جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .

الإسراء 98: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} .

المؤمنون 82: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .

الواقعة 47: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} ؟

زالآيات كلها مكية والسياق فيها متشابة: فهي من جدال الممارين في البعث، والسؤال بها {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا} ؟ مما قالوه في الدنيا لرسل الله إليهم، على وجه الاستبعاد والتكذيب والإنكار.

وليس الأمر كذلك مع آية النازعات حيث السؤال يوم ترجف الراجفة، لا في الحياة الدنيا. وهو يأتي مع الفعل المضارع {يَقُولُونَ} التي انفردت بها آية النازعات، دون الآيات السابقة التي صدر السؤال فيها بالفعل ماضياً {قَالُوا} والمضارعة تعني الإحضار، وبهذا الإحضار يتجه مقول القول إلي موقف القيامة، {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ..... {يقولون أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؟ {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} ؟

ومقتضى هذا عندنا، أن يحمل الاستفهام هنا، لا على وجه التمني الذي تصرف عنه الآية التالية، ولا وجه الاستهزاء الذي لا يمكن تصوره في مثل ذلك الموقف، ولا على وجه الإنكار الذي لا محل له مع الإحضار وتحقق البعث،

ص: 137

وإنما على وجه الدهشة والإستغراب والخوف، وحيرة المأخوذ برجفة القيامة بغتة!

* * *

{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .

الكر: العطف على الشيء بالذات أو بالفعل، ويقال للحبل المفتول: كر، فيلحظ فيه معنى العود يالفتل، وسمى الليل أو النهار كرة، لما فيهما من عود وتكرار.

وجاءت كرة في القرآن، مصدر المرة من: كر، أي إنعطف وعاد، في خمسة موضاع، أحدها في العودة الغلبة والنصر بعد هزيمة:

وأربعة في العودة إلى الحياة الدنيا:

الإسراء 6: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} .

البقرة 167: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .

الشعراء 102: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؟

النور 58: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .

وآية النازعات: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}

وجاءت كرة مثناة في آية الملك 4:

{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} .

ص: 138

وإذا فسرنا الرد في الحافرة، بأنه البعث للقيامة، فالكرة في آية النازعات بمقتضى اسم الإشارة، هي تلك العودة والرجعة إلى الحياة بعد موت.

والخسارة نقيض الربح، ويكثر استعمال الخسر في النقص والهلاك والضياع. وكرة الكرة خاسرة، مطرد مع النسق البياني الذي أشرنا إليه في الحافرة والراجفة والرادفة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى تعيين الخاسرين هنا بأنهم صناديد قريش الذين كذبوا بالآخرة، و {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} على وجه الاستهزاء.

وقد مضى القول في استبعاد الاستهزاء في موقف القيامة ورجفت البعث. ويمنعه أيضاً أن الأستفهام في الآيتين السايقتين جاء مع فعل المضارعة {يَقُولُونَ} الذي يعني الإحضار. أما الكرة الخاسرة فجاءت مع الفعل ماضياً {قَالُوا} وأتدبر هذا الانتقال من المضارعة إلى المضي، فأراه يهدي إلى بيان وجه المقول وتحديد الجو الذي قيلت فيه كل منهما، والدلالة على الحالة النفسية للقائلين في كل من الموقفين: بغتتهم رجفة القيامة، بما تبعها من هزة ووجيف وخشوع، فهم يقولون في ذهشة المأخوذ من فوجئ بما لم يكن في حسابه قط: لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ؟ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً؟ ولم يكن الموقف بحيث يحتاج إلى إجابتهم عما سألوا عنه، وقد قضى الأمر وصار كل هذا الذي كذبوا به وأستبعدوه واقعاً مشهوداً. فلما عاينوا اليقين {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} في حسرة وندم ويأس.

وفي كلمة {قَالُوا} من سر البيان، أنها تأتي حيث يبدو في ظاهر الأمر إمكان الإستغناء عنها بـ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً؟ تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. ومجيئها هو الذي يوجه إلى أنتقالهم من حال إلى حال.

فهم في أخذه الرجفة يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ؟ والمضارعة هنا هي التي تلائم حيرة المأخوذ وعجب المستغرب. كما أن المضى في {قَالُوا} بعد أن أتاهم اليقين، هو الملائم لحالة اليأس من استرجاع ما فات أو استدراك ما مضى والتيقن من الخسران المحقق والمصير المحتوم.....

هذا مما يوجه إليه {يَقُولُونَ} في صدر الآيتين الأوليين، عند رحفة القيامة ثم المغايرة بـ {قَالُوا} حين تحقق الخسران وقضى الأمر فلا سبيل إلى أسترجاع ما فات

ص: 139

{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} .

الزجرة الصيحة، وأكثر ما تكون في سوق الكلب والبهم والدواب، ويلحظ فيها معنى الإذلال، من قولهم: تركه بمزجر الكلب. وناقة زجور: لا تدر لبنها حتى تزجر. كما استعملوا الزجر في التأنيب أو الردع، ومنه في القرآن الكريم آية القمر 4:

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} .

وجاءت "زجرة" مرتين:

آية الصافات 19: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} .

وآية النازعات.

والآيتان مكيتان، ووحدة السياق فيهما تجعلنا نطمئن إلى أن الزجرة فيهما ليست مجرد صيحة، وإنما هي صيحة فيهل كل ما يحتمل الزجر من قهر وردع وهوان، مع ملحظ قريب من المعنى الحسي الأصيل للمادة، من قولهم زجر الكلب إذا ساقه! دون تحديد هذه الزجرة "بأنها النفخة الثانية يبعث بها الأموات" كتأويل الزمخشري.

والمفأجاة فيها صريحة بإذا، وهي تناسب الزجرة الواحدة. وبغتة القيامة، وتتسق بيانياً مع حركة الخيل في صدر السورة، وعنف معاناتها لتنطلق ناشطة سابحة. إلى حسم معركة وتدبير أمر.

ولشد ما تكلف المفسرون في تأويل الساهرة!

قيل: هي الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم: يمين ساهرة، اي جارية الماء! قاله الزمخشري. ومثله الشيخ محمد عبده.

وقيل: هي جهنم، عن قتادة (الكشاف والبحر) .

وعن إبن عباس: هي أرض من فضة، يخلقها الله تعالى (جاء في البحر) .

وعن وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله يوم القيامة لحشر الناس!

وقيل: بل هي أرض مكة، أو أرض قريبة من بيت المقدس.

ص: 140

وقيل: بل هي الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق.

وهكذا يقول تعالى {السَّاهِرَةِ} فيجعلون منها أرضاً من فضة، بيضاء مستوية يجري فيها السراب، ويحددون مكانها فهي مكة، أو الشام، أو بيت المقدس، أو هي الأرض السابعة يأتي بها الله!!

ولو قصد القرآن إلى شيء من هذا لصرح به، لكنه لم يقصد إلى تحديد موقع الأرض ولونها وشكلها ومادتها، وإنما أكتفى {بالسَّاهِرَةِ} وصفاً لساحة الحشر أو عرضات جهنم حيث لا نوم هنالك ولا رقاد! وهو مأخوذ ببساطة عن قرب. من المدلول اللغوي للسهر: عدم النوم ليلاً. وقالوا: ليل ساهر، ذو سهر، والقمر ساهر وساهور، لذلك. والساهرية نوع من العطر، سميت بذلك لأنه يسهر في عملها وتجويدها.

ولم ترد ملدة "س هـ ر" في القرآن إلا في آية النازعات، فهل في سياقها أو مادتها، أو أصل أستعمالها اللغوي، ما يشير من قرب أو بعد، على الحقيقة أو المجاز، إلى فضة وبياض، وإلى شام وحجاز، وإلى أرض سابعة وغير سابعة، وإلى إستواء وعدم إستواء؟

وأين في القرآن كله، من غيب الآخرة، ما يحدد موضع مكان الحشر أو جهنم، حتى يجوز القول بأن الساهرة أرض مكة أو بيت المقدس أو جبل بالشام؟!

* * *

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .

ص: 141

هنا يلفت القرآن إلى مصير طاغية علا ةتكبر وقال: أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة وألاولى....

وذلك هو مصير الطغاة في الآخرة....

وإنه لكذلك مصيرهم في الدنيا.

وبحسب القرآن أن يلفت إلى مصير طاغية، ليكون عبرة لمن يخشى.

ولم يعن القرآن هنا بشيء من تفصيل القصة: لم يذكر نشأة موسى، وصلته الأولى بفرعون. ولم يحدد تاريخ الحادثة، بل لم يذكر كذلك نوع الآية الكبرى التي أراها موسى فرعون، ولا نوع النكال الذي أخذه الله به في الآخرة والأولى.

وإنما الذي عناه أن يعرض من القصة موضع العبرة دو تعلق بتفصيل لجزئيات مما ليس من جوهر الموقف.

وقد بدأ هنا بالسؤال اللافت المثير:

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} .

فطوى كل ما كان من قصة موسى قبل هذا الحديث إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى.

والوادي المقدس، هو المكمان المطهر الذي تجلى فيه سبحانه لموسى وكلمه، وألقى إليه رسالته. ةفي قصة موسى من سورة طه:

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} 9 -12طوقدهد المفسرون في تأويل طوى وإعرابها، كما أختلف القراء في قراءتها.

قرئت: طُوًى، بالضم والقصر والتنوين، وقيل هي علم على الوادي المقدس، فتعرب بدلاً أو عطف بيان.

ص: 142

وقرئت: طُوَى بالضم والقصر مع عدم التنوين. فتكون معدولاً بها عن "طاو" ويمنع الصرف على اعتبار البقعة، اي المكان.

وفي قراءة: "طِوًى" بالكسر والقصر والتنوين. مصدراً بوزن الثنى وبمعناه. لأن الثنى بالكسر والقصر: الشيء الذي تكرره. فكذلك الطوى للوادي ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين.

وقال قطرب: طوى من الليل. أي ساعة. والمعنى قدس لك الوادي في ساعة من الليل، لأن موسى نودي بالليل فلحق تقديس مجدد (البحر) .

وقريب أن يكون "طوى" اسماً للوادي المقدس، وقد ذكره (الراغب) في المفردات.

وأقرب منه، والله أعلم، أن تكون حالاً للوادي المقدس، حيث طويت الأبعاد ما بين أرض وسماء.....

* * *

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} .

الطغيان: تجاوز الحد، ويستعمل لغة في الماء يتجاوز الحد إلى الخطر.

ومنه في القرآن:

آية الحاقة 11: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} .

وفسروا الطاغية كذلك بالطوفان في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} .

على أن أكثر استعماله القرآني، في تجاوز الحد في العصيان والكفر، وهو المعنى القريب في آيات:

البقرة 15، الأنعام 110، الأعراف 186، يونس 11، المؤمنون 71، الإسراء 60، المائدة 64، 68، ص 55، عم 22.

كما جاء بمعنى تجاوز الحد، في التجبر والعتو والظلم، في آيات:

العلق 6، الفجر 11، الإسراء 60، الكهف 80.

واسند الطغيان إلى فرعون موسى، في آيتي طه خطاباً لموسى:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 24.

ص: 143

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 43.

وفي آية النازعات:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} .

والاستفهام هنا للعرض مع تلطف. وهذا التلطف في عرض الرسالة، صريح في آية طه:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفيه كذلك رجاء صريح، بشاهد من:{لَعَلَّهُ} .

والزكاة النمو عن خير وبركة. وتزكية النفس: أن تتطهر وتنمو فضائلها، وقد أمر الله تعالى موسى أن يذهب إلى فرعون فيقول له:

{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}

والهداية: الإرشاد إلى الطريق المستقيم، ولعل أصل استعماله في الهدى: الصخرة الناتئة في الماء يؤمن بها العثار. والهدى: وجه النهار يتضح فيه الطريق. واللافت هنا إضافة رب إلى كاف الخطاب، مع أن فرعون لم يكن يؤمن برب موسى، وهذه الإضافة مقصود بها التقرير والإبزام، والتمهيد لقوله:{فَتَخْشَى} ، إذ الخشية من فرعون لن تكون إلا عن إيمان بربه.

{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} .

الآية: العلامة، ويكثر استعمالها - دينياً - في الدلالة على وجود الله وعظمته ووحدانيته وقدرته وفي المعجزات التي يؤيد بها من يصطفيهم لرسالاته.

وهي في "النازعات" العلامة الدالة على أن موسى مبعوث برسالة من الله جل وجلالة، أو بعبارة المفسرين:"المعجزة الدالة على صدقة".

ووصفت الآية بالكبرى تعظيماً وتقريراً لقوة دلالتها وبلوغها في تأييد رسالة موسى غاية المدى. وإذا كانت هناك ضرورة لتحديد هذه الآية الكبرى، فلنا أن نستأنس بحديث موسى في سورة طه:{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} .

وقال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا

ص: 144

وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 17 - 24.

وقد حاول مفسرون تأويل درجة كل ىية من هذه الآيات. وقيل فيما قيل: إن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه عقب على ذكر اليد بقوله: لنريك من آياتنا اكبرى. وقيل: بل العصا أعظم، لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون، وأما العصا ففيها تغيير اللون، وخلق الحياة والقدرة في الجماد، (البحر المحيط) .

وإذ جاءت {الْآيَةَ الْكُبْرَى} في النازعات مطلقة بغير تحديد، فقد ترددوا ما بين العصا واليد، ثم رأى بعضهم حسم الموقف بإعتبارهما آية واحدة، لأن العصا ملازمة لليد، فقال الزمخشري:"الآية الكبرى قلب العصا حية، لأنها كانت المقدمة والأصل، والأخرى - يعني اليد - كالتبع لها لأن موسى كان يتقيها بيده، أو أرادهما جميعاً، وجعلهما واحدة، لأن الثانية أي اليد كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها"(الكشاف) .

وقال أبو حيان: "الآية الكبرى هي العصا واليد معاً، جعلهما آية واحدة، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها"(البحر المحيط) .

والأولى ألا نحدد الآية هنا، ما دام القرآن نفسه لم ير تعيينها في هذا الموضع، مكتفياً بوصفها بالكبرى، وهي صيغة تشهد بمبلغ دلالة الآية على صدق موسى، وعلى قدرة ربه، رب فرعون والخلق جميعاً.

* * *

{فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

هنا ينتقل الطاغي من التكذيب، إلى العصيان، إلى إدعاء الربوبية وهو أتعس الطغيان والكفر.

ص: 145

والايات المحكمة تعرض مراحل هذا الإنتقال، في خطوات متتابعة، تسلم كل منها إلى أخرى أفدح واشد نكراص: بدأ فكذب بعد إذ أراه موسى الآية الكبرى. وعصى الرسول، ثم ولى مدبراً يسعى في تأكيد سلطانه وحمايته من خطر داهم يهدده، وكان سعيه هذا نتيجة لما ملأ نفسه من قلق، لو شاعت مقاله موسى في الناس، وأراهم ما أراه من ألاية الكبرى، فأبطلت ما يدعيه فرعون لنفسه من ربوبية.

والإدبار هنا هو الإعراض عن موسى وما أراه من الاية الكبرى.

والسعي لا يكون في هذا الجو النفسي - المروع بما سمع من النبي المرسل ورأى من آيته الكبرى - إلا لمواجهة الخطر والحيلولة دون تصديق الناس برسالة موسى. وهذا هو ما تفهمه الآيات البينات من قرب، دون حاجة إلى تكلف في تأويل الإدبار هنا بأنه فرار فرعون مرعوباً من الحية، وأن السعي هو الإسراع في المشية عن ذعر وطيش "وقد كان فرعون رجلاً طياشاً خفيفاً" على ما ذكر مفسرون، ولا ندري من أين جاءهم علم بذاك.

وإنما نستبعد هذا التأويل، لأن الذعر من رؤية الثعبان منقلباً عن عصا، يبدو لنا مستبعداً في بيئة كانت تمارس السحر وتأليف أفاعيل السحرة، فليست رؤية عصا تنقلب حية تسعى، بحيث تثير رعب فرعون وتدفعه إلى الفرار مذعوراً. والقرآن نفسه يحدثنا في (سورة طه 57و 71) عن موقف فرعون حين حشر السحرة من قومه، فألقوا حبالهم وعصيهم. ثم ألقى موسى عصاه فإذا هي {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ويمضي القرآن فيصور لنا وقع هذه الآية على السحرة وعلى فرعون: أما هم فسجدوا خاشعين أمام المعجزة وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وأما فرعون فثبت على كفره وطغيانه، وأنكر تسليم السحرة وتوعد وأنذر. قال:

{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} .

ص: 146

فكيف يقال، وهذا موقفه عندما غلب سحرته وخروا سجداً: إنه أدبر مذعوراً عندما إنقلبت عصا موسى حية، وفر بنفسه هارباً؟

ما نطمئن إليه، هو أن مسعاه كان لتدبير الأمر ودفع الخطر الذي يهدده:

{فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

لم يصرح القرآن بمفعول حشر، ولكن لفظ الحضر بما له من دلالة صريحة على الجمع المزدحم، يغني عن ذكر المحذوف. وقلما يستعمل الحشر - لغة - لإلا في موضع الحشد والشدة، ومنه حشر الجماعة أي إخراجهما إلى الحرب، والقرآن الكريم، يستعمله غالباً في اليوم الآخر، وقد سمي "يوم الحشر" في أكثر من ثلاثين موضعاً، أما استعماله في الحياة الدنيا فجاء منه في القرآن: وآية النمل 17: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} .

وآية الحشر في خروج الذين كفروا من أهل الكتاب، من ديارهم في خبير شمالى الحجاز:{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} .

وآية ص 19: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} لداود عليه السلام.

وخمس مرات مع فرعون موسى: طه 59.

الأعراف 111، الشعراء 36، 53، والنازعات 23.

والنداء في: فحشر فنادى، مسند إلى ضمير فرعون، لكن الزمخشري ذكر فيه إحتمالين:

أن يكون فرعون "قد أمر منادياً فنادى في الناس بذلك".

وهذا ما لا يعين عليه النص.

أو "أن يكون قد قام بنفسه خطيباً".

والإيجاز البليغ في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ينفي أن يكون الموقف موقف خطابه، وإنما هي كلمات ثلاث لم تزد. ولهذا الإيجاز دلالته على الحالة النفسية للطاغية حين شعر بالخطر، وهو متسق مع ما يسيطر على السورة

ص: 147

كلها من سرعة حاسمة، على حين كان مقام التفصيل في (سورة طه) حيث ورد "حديث موسى" في نحو تسعين آية، اتسعت لذكر الحوار بين فرعون وموسى، ثم بينه وبين السحرة، وهو ما لم يتجه القصد إلى شيء منه في (النازعات) - وموضوعها اليوم الآخر، لا قصة موسى - اكتفاء بموضع العبرة في بيان مصير الطغاة.

وفي لفظ {الْأَعْلَى} هنا ملحظ دقيق، فليس القصد منه معنى المفاضلة، وإنما هو الإطلاق غير المحدود بمفضول، ومثله: الأشقى، والأتقى، والأعلى ف سورة الليل، على ما سوف نزيده بياناً في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

* * *

{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} .

أصل النكل في اللغة: قيد الدابة وحديدة اللجام. نكلته: قيدته. لحظ فيه عجز المنكول وهوانه، فاستعمل التنكيل في مطلق الإذلال، منتقلاً إليه من معناه الأول وهو القيد والغل.

وجاءت المادة في القرآن في خمسة مواضع:

المزمل 12: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} جمع نكل.

النساء 84: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} .

وصيغة نكال، في الآيات الثلاث:

البقرة 66: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .

المائدة 38: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

ص: 148

وآية النازعات في فرعون موسى.

وللمفسرين في تأويل {نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} قولان:

أحدهما، إنه الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.

والثاني: أنه نكال كلمتيه الآخرة وألولى فقد قال مرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

وقال أخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص 38) .

وليس في السياق هنا ما يشير إلى احتمال أن يقصد بالأخرى والأولى في النازعات كلمتان لفرعون، وإنما نطمئن فيها إلى تفسير الآخرة والأولى، بالحياتين الأخرى والدنيا.

وقدمت الآخرة على الأولى، لآن نكالها أفدح وأبقى.

* * *

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .

العبرة: الإعتبار، وربما كان استعماله اللغوي الأول في تعبير الدراهمأي وزنها لمعرفة قيمتها، أو من: عبر الوادي. إذا قطعه من عبره إلى عبره. وقيل عبر الكتاب إذا تدبره ولم يرفع صوته بقراءته. وناقة عبر أسفار: مجربة لا يزال يسافر عليها.

واستعمال العبرة في الاعتبار، ملحوظ فيه أن المرء يرى مثلاً أمامه فيزنه ويخبره ويتدبره ويتعظ به. والمثل هنا في "النازعات" هو فرعون الذي طغى، وكذب وعصى {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} .

وحسبه مثلاً لمن يتعظ، وعبرة لمن يخشى.

* * *

{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .

ص: 149

ظاهر الخطاب أنه عام. والمقصود منكرو البعث، على ماقال "أبو حيان" وإنما أنكروه أستبعاداً لإمكان عودة الإنسان إلى الحياة الدنيا بعد أن يقبر ويبلى. ولو تدبروا آيات الله في الكون لوجدوا فيها ما ليس أسهل ولا أهون من إحياء العظام وهي رميم. وقد ساق القرآن هذه الآيات بأسلوب الاستفهام ليرجعوا إلى أنفسهم فيلتمسوا جواب ما سئلوا عنه:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .

ولمنن شاء منهم أن يتصور صعوبة بناء سماء كهذه، وقد ألفوا في المبنى أن يكون بمنال اليد وأن يشد بما يمسكه ويرفعه فلا ينقض، وأين ذلك كله من تلك السماء، في ارتفاعها الشاهق الذي لا مجال لبلوغه، وفي قيامها على غير عمد ترى أو قوائم تحس!

والسمْكُ: القامة والعلو. وتكلف مفسرون فحددوا مقدار ذلك السمك، ففي (الكشاف والبحر) :"جعل مقدارها في العلو مديداً رفيعاً، مقدار خمسمائة عامّ" وهذا ما لا يقبله النص من قريب ولا بعيد، كما أنه ليس من مألوف البيان القرآني فيما تناول من ظواهر الكون وآيات القدرة الإلهية فيها. وهو من تفاوت قياس السرعة بالزمن، على اختلاف العصور، فما كان يقاس أيام الزمخشري بالأعوام، في عصر الناقة، أصبح يقاس بالدقائق والثواني في عصر غزو الفضاء!

وذهب الشيخ محمد عبده إلى أن رفع السمك هنا هو "رفع أجرام السماء فوق رءوسنا" ولا يبدو قوياً.

أما التسوية - وهي في اللغة استقامة واعتدال وإتزان - فمن المفسرين من تأولها هنا بالتتميم وبالإصلاح (الكشاف) وبجعلها ملساء ليس فيها تفاوت، وبإتقان الإنشاء وإحكام الصنعة (البحر المحيط، ومفردات القرآن) .

وهي معان متقاربة، يحتملها النص في قبر وبلا تكلف، وأما قول الشيخ محمد عبده إن التسوية هي "وضع كل جرم في موضعه" فلا يعطي من قرب، الدلالة القرآنية العامة للتسوية والسوى والسواء، بمعنى الإستقامة والإعتدال، فيما يكون في استوائه ملحظ دقة وإحكام.

ص: 150

وإغطاش الليل: إظلامه. وفي العربية: فلاة غطشاء وغطشى لا يهتدي بها، والغطش - محركة - الغمش، وغطش فلان غطشاً وغطشاناً، مشى رويداً من مرض أو كبر، والتغاطش: التعامي عن الشيء.

ولم تأت المادة في القرآن في غير هذا الموضع.

والإخراج للضحى، وهو إنبساط ضوء الشمس، فيه لفت إلى خروجه من الليل، آية من آيات القدرة في الضحى يخرج من الليل وينسلخ منه فإذا الضوء الشافر يعقب الظلمة الغطشى:

وإضافة الليل والضحى إلى السماء، لأنها مجال الضوء والظلام تسفر منها الشمس فإذا الضحى متألق، وتغيب فإذا الليل مغطش.

* * *

ومن آيات قدرته تعالى:

{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} .

فسر الراغب {دَحَاهَا} بأنه أزالها عن مقرها، أخذه من قولهم: دحا المطر الحصى من وجه الأرض أي جرفه. ومر الفرس يدحو إذا جر يده على وجه الأرض فدحاً ترابها.

ولعل الأقرب أن يؤخذ من: دحيت الشيء أدحاه دحياً بسطته، والمدحاه كمسحاة: خشبة تمر على الأرض لا تأتي على شيء إلا اجتحفته، وتدحى: تبسط. وقيل لمبيض النعام: الأدحى والمدحى، لأنه يدحوه برجله ويبسطه ويوسعه ثم يبيض فيه. وهو المختار عند الزمخشري وأبي حيان.

وظاهرة البسط في هذه الأرض واضحة، على المشهود المرئي، آية من آيات قدرته تعالى في الكون.

والمرعى، مفعل من الرعى: والصيغة تحتمل أن تكون للمصدر وللزمان والمكان، لكن الأرجح أن المراد به هنا ما يرعى، وهو مفهوم المرعى كذلك في سورة الأعلى 4:

ص: 151

{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .

والأصل في الرعى أن يكون للإبل والأنعام، وقد جاء بهذا المعنى في آية طه 54:

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} .

واستعارة الرعى للإنسان قربية ومألوفة. ومنه الراعى والرعية.

وفي تقديم الماء على المرعى، بآية النازعات، يقول أبو حيان: إن الماء سبب المرعى.

* * *

{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .

الإرساء: التثبيت والترسيخ، ومن استعماله في الحسيات: الرمى - كغبى - وهو العمود الثابت وسط الخباء، وقدر راسية: لا تبرح مكانها لعظمها. وقالوا: ألقت السفينة مراسيها إذا استقرت، وكذلك السحابة إذا أستقرت جادت.

ومنه في القرآن: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} سبأ 31.

{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} هود 41.

على أن المتدة يكثر مجيئها في الجبال، لوضوح الثبات والرسوخ فيها، والقرآن يطلق أحياناً "الرواسي" على الجبال، فيشهد هذا بأن صفة الرسو، تبدو أوضح ما تبدو في الجبال:

الرعد 3: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} .

الحجر 19: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} .

ومثلها آيات: ق 7، الأنبياء 31، والنمل 61، والمرسلات 27، ولقمان 10، والنحل 15.

فإرساء الجبال، فيه هذه الدلالة الأصيلة الواضحة على الثبات والرسوخ،

ص: 152

وفيه كذلك لفت قوي إلى قدرة الله الذي أرساها، كما أن ظاهرة الرفع لا تبدو مثلما تبدو في السماء. وظاهرة الاستواء والبسط لا تبدو مثلما تبدو في الأرض.

* * *

{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .

هنا يلفت القرآن إلى ملحظ آخر في بناء السماء ورفع سمكها، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها، وإرساء الجبال: فهي إلى جانب كونها من آيات قدرته تعالى وقوته، شاهدة على أن الذي بناها ورفعها ودحاها وأرساها لا يشق عليه خلق الإنسان وإحياؤه بعد أن يبلى جسده وترم عظامه؛

نعمة من نعمه تعالى على مخلوقاته، يذكر بها الغافلين والجاحدين والمغرورين.

وسياق الآيات هنا، في الانتقال من الاستدلال بمثل هذا على قدرة الخالق، إلى بيان فضله تعالى ونعمته، شبيه بالذي في سورة عبس:

{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .

وكما أردفت هذه الآيات من سورة عبس، بقوله تعالى:

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .

كذلك يأتي بعد آيات النازعات النذير المباغت، بحساب وجزاء:

{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ

ص: 153

الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .

والطامة الكبرى هي القيامة عند "الراغب". وهي النفخة الثانية فيما روي عن "ابن عباس" أو وقت سوق أهل الجنة إليها وأهل النار إليها، عن مجاهد وجاء الزمخشري في الكشاف بهذه الأقوال الثلاثة متتالية، وإن بدا منه أنه يختار تفسير الطامة الكبرى "بالقيامة".

ولم تأت المادة في غير هذا الموضع، وأخذها "الراغب" من الطم أي البحر، ويقال: طم البحر على كذا، أي طغى وفاض وغلب.

وربما كان من المناسب أن نذكر كذلك أن العربية استعملت الطامة في الداهية تغلب ما سواها. وقد استأنس الزمخشري بهذا في تفسيره الطامة الكبرى بالقيامة.

* * *

ونفهمها بالآية بعدها:

{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} .

والتذكر هنا عن نسيان، وقد نظر له الومخشري بقوله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} المجادلة 6.

وقالوا في {مَا سَعَى} : إن (ما) تحتمل أن تكون مصدرية أو موصولهة، وقد أختار أبو حيان الموصولة، أي عنله الذي سعى إليه، أما الزمخشري، فقال بهما معاً، دون ترجيح.

والذي نراه أن المصدرة أعم وأولى بالمقام، فيكون المعنى: يوم يتذكر الإنسان مسعاه. {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .

* * *

ص: 154

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} .

والقرآن يستعمل البروز، وهو قوة الشخوص والظهور، في موقف القيامة والحساب. ومنه آيات:

الشعراء 91: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}

غافر 16: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .

إبراهيم 21: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ؟

إبراهيم 48: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .

وتسمية جهنم بالجحيم في المصطلح الديني، ملحوظ فيها الأصل اللغوي وهو شدة تأجج نارها. فالجحيم والجحمة في اللغة: النار الشديدة التأجج، كل نار بعضها فو بعض. وكل نار عظيمة في مهواة. والحاجم: الجمر الشديد الإشتعال، والجحام داء العين. ومن المجاز: التحجم التحرق حرصاً وبخلاً أو غضباً.

وإسناد البروز إلى الجحيم، بالبناء للمجهول، تطرد به الظاهرة الأسلوبية في صرف النظر عمداً عن الفاعل لأحداث القيامة، تقريراً لفاعليتها التلقائية، وتركيزاً للإنتباه فيها.

* * *

{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} .

الأثر، لغة: بقية الشيء، ومنه الخبر المأثور الباقي، والأثرة المكرمة تبقى، والبقية من العلم تؤثر. ولعل اصل استعماله في الأثيرة الدابة العظيمة الأثر في الأرض بحافرها. والأثر سمة في باطن خف البعير يقتفى بها أثره، أي ما يترك

ص: 155

من علامة باقية. وأثر فيه تأثيراً، ترك فيه أثراً يبقى، والآثار ما بقى من الماضين.

والإيثار: التفضيل، وبهذا المعنى جاء في آيات:

يوسف 91: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} .

الأعلى 16: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .

طه 72: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .

وجاء نقيضاً للأثرة في آية الحشر 9:

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وهو تفضيل أيضاً لكن للغير على النفس، كرماً وفضلاً.

ويجيء الإيثار بمعنى الإختبار، ملحوظاً فيه أن المرء يختار ما يحسبه أفضل وأبقى. وبمعنى الأثرة، ملحوظاً فيها أن الأثر يستبقى لنفسه الأشياء المختارة.

والمأوى: المكان يؤوى إليه ويلاذ ويسكن فيه. ولم يستعمله القرآن إلا في الحياة الآخرة: إما مع الجنة (السجدة 19، النجم ة15، النازعات 41) .

وإما مع الجحيم أو النار أو جهنم وبئس المصير:

(آل عمران: 151، 162، 197، الأنفال 16، المائدة 72، الحديد 15، العنكبوت 25، الجاثية 34، النساء 97، 121، يونس 38، الإسراء 97، السجدة 20، التوبة 73، 95، التحريم 9، الرعد 18، النور 57، النازعات 39) .

وهو صنيع يشهد بان القرآن الكريم يقرر أن الدار الآخرة هي المأوى. ويلحظ فيه من قرب، أنها المقر الدائم والمنزل الأخير، وأنها نهاية المطاف وغاية المصير.

أما الفعل من "أوى" فيأتي في القرآن أربع عشرة مرة، لا يخطئ الحس فيها جميعاً، معنى المأمن والحمى والملاذ، إما حقيقة في مثل آيات:

الضحى 6: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} .

الأنفال 72، 74:{وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} .

ص: 156

الأنفال 26: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} .

ومعها آيات: الكهف 10، 16، 63 ويوسف 69، 99 والمؤمنون 50 والأحزاب 51.

وإما على سبيل الرجاء أو الوهم:

هود 80: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .

هود 43: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .

المعارج 13: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} .

* * *

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .

في ذكر المقام هنا، مقام ربه، إيحاء بأن الخائف يراقب ربه في كل عمله ومسعاه، عن يقين بأمه واقف بين يدى الله، ماثل في مقامه تعالى، وأيا ما حملنا المقام، على المصدرية أو الزمان أو المكان، ففيه إحضار وشهود، ونظيره في القرآن آيات:

إبراهيم 14: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} .

الرحمن 46: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} .

قال أبو حيان: "وفي إضافة المقام للرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً".

والهوى الميل، وربما كان أصل استعماله في: هوت العقاب إذا انقضت على فريستها. ومن هذا الإستعمال أخذ الميل، والإنجذاب إلى شيء مرغوب، شراً كان أو خيراً، محموداً أو غير محمود. على أن أكثر استعماله، كما قال

ص: 157

أبو جيان، فيما ليس بحمود. ويجئ في القرآن، مفرداً وجمعاً، في سياق الغواية والضلال، بصريح آيات:

النساء 135: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} معها آية ص 26.

النجم 3: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} .

الأعراف 176: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} والكهف 28، طه 16، القصص 50.

الفرقان 43: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . والجاثية 23.

المائدة 77: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} ومعها الأنعام 150، والجاثية 18.

البقرة 120: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

ومعها البقرة 145، والشورى 15، والرعد 37.

المؤمنون 71: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} .

الروم 29: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

ومعها: محمد 14، 16، والقمر 3.

الأنعام 119: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

وهذا التتبع، يؤيد ما يطمئن به السياق في آية النازعات:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي إستجابة إلى الشهوات الضالة والغواية المهلكة.

وفي {نَهَى} هنا ملحظ دقيق، فكما استعملت العربية ضد الأمر، استعملت "النَهَى" كذلك في العقل والرشد، ومنه في القرآن الكريم آيتا طه 54، 128، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .

وهو ما يجعل للفعل "نُّهَى" النفس عن الهوى، إيحاء الإستجابة إلى صوت العقل في زجر النفس عن شهواتها، وإعتقال هواها المضل.....

* * *

ص: 158

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .

وإذ يبلغ القرآن بالوعيد غايته. وينتهي به إلى الأمر المقضى من ثواب أو عقاب، لا يدع الموقف دون أن يعقب عليه بحسم عقدته، والرد على سؤالهم عن الساعة: أيان مرساها!

ولفظ الساعة في العربية، يعني الجزء من الوقت، ثم تحدد. بستين دقيقة.

ويستعمل معرفا بـ (ال) للعهد، ظرف زمان للوقت الحاضر، فيقال: أزورك الساعة. ثم غلب إستعمال "الساعة" في الآلة الضابظة للوقت، بعد اختراعها.

لكن للقرآن استعماله الخاص للساعة، فهو لا يستعملها نكرة، إلا في برهة من الوقت قصيرة دون تحديد لها بالدقائق:

الروم 55: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} .

النحل 61: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ومعها الأعراف 34 وسبأ 30 ويونس 49.

يونس 45: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} .

الأحقاف 35: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} .

أما حين يستعمل القرآن "الساعة" معرفة بـ: ال، فتلك - دائماً - هي ساعة الآخرة، لم يتخلف هذا في أي موضع من المواضع الأربعين الني جاءت "الساعة" فيها في القرآن الكريم، بدلالتها الإسلامية في المصطلح الديني.

والملحظ البياني في هذا الإستعمال المطرد، أن هذه "الساعة" تنفرد دون ساعات الزمان كله، بأنها الحاسمة الفاصلة التي يتغير فيها نظام الزمن وسير الكون، لما يحدث فيها من حدث هائل خطير. وهو معنى يقوى ويتضح، بإسناد القيام، والإتيان، والمجئ، إلى هذه الساعة المتميزة الحاسمة، دلالة على بروزها وشخوصها وفاعليتها:

ص: 159

الأنعام 31: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} .

الأنعام 40: {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} .

يوسف 107: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} .

ومعها الحج 55، والزخرف 66، محمد 18.

الروم 12، 14، 55 {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} . ومعها طه 15، والجاثية 37.

سبأ 3: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

القمر 1: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .

الكهف 36: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . ومعها (فصلت 50)

وفي السؤال {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؟ إنكار وإستبعاد، فما قصد السائلون إلا أن يحرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام بسؤالهم:{أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ؟ على الاستبعاد والجحد والإنكار.

* * *

{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} .

وعن عمد، صرف القرآن عن السؤال عن مؤسى الساعة ومستقرها وأوانها، لأن الله تعالى قد استأثر بعلمها، فإليه وحده منتهاه، على وجه القصر الصريح بالتقديم والتأخير في الآية:{إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} لا إلى غيره: ونظيره ما في آيات:

الأحزاب 63: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} .

فصلت 47: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} .

لقمان 34: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ومعها الزخرف 85.

عنده وحده علم الساعة، وإليه وحده مردها ومنهاها، ففيم أنت من ذكراها يا محمد، والله استأثر بعلمها، لم يؤته أحاً من خلقه!

ص: 160

لكن من الفسرين من يذهبوا إلى أن المقصود بالآية، هو "أن لا فائدة لهم من العلم بوقتها" فيضيعون ما للموقف من رهبة وخوف، ويخطئهم حس ما في تجهيل الوقت من تهويل وإرهاب. فليس صحيحاً أن علم السائلين بوقت الساعة لا يفيدهم، وكيف، وهو لو علموه يقيناً لا ستعدوا له؟! إنما صرفوا عمداً عن ذلك السؤال عن وقتها، كما صرف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الإشتغال بهذا، والله وحده قد استأثر بعلمها، ليظل لها رهبة المجهول وعنف البغتة، وهو اضح تماماً في آيات الساعة تأيتهم بغتة، فكأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. والفرق دقيق بعيد، بين أن يصرفوا عن السؤال عن وقتها لأن الله قد استأثر بعلمها، وبين ما يقوله الزمخشري وأبو حيان وغيرهما من أنه "لا فائدة لهم من علمهم بوقتها"

* * *

{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَ} .

فيه قصر لمهمة النبي عليه الصلاوة والسلام، فيما يتعلق بهذه الساعة: أن ينذر من يخشاها، لا أن يذكر موعدها ومرساها. وفيه تخصيص للإنذار بمن يخشى الساعة، لأنه - كما قال أبو حيان - الذي يجدى معه الإنذار.

والخشية ليست مجرد خوف، وإنما هي خوف مشوب برهبة المخشي وإعظامه، وأكثر ما تجيء في القرآن، في مقام خشية الله، مسندة إلى المؤمنين، أو الرسل، أو العلماء، أو من ترجى لهم الهداية. ويبلغ القرآن بالخشية أقصى دلالتها على الرهبة والإجلال، حين تكون من الحجارة أو الجبل:

البقرة 74: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .

الحشر 21: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .

* * *

ص: 161

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .

هنا تبلغ المباغتة غاية العنف والنذير، ولا نتعلق بما ذكره المفسرون في مكان اللارثين وهل يكون في القبور أو في الحياة الدنيا: فالآية حين أطلقت اللبثَ، صرفته عمداً إلى كل ما قبل رؤيتهم الساعة.

والأصل في الرؤية أن تكون حسية، وكون الساعة شيئاً يرونه رأى العين، فيه من التشخيص والتجسيم والبروز، إلباس الظرف بالمظروف، وإدماج الحدث "القيامة" بالوقت الذي يحدث فيه وهو "الساعة": فهذه الساعة الحاسمة الفاصلة، كأنها الحدث الهائل الضخم الذي يقع فيها. وهذا الملحظ من التجسيم، وتقوية الصلة بين الوقت والحادث، هو نفسه الذي لحظناه في إسناد القيام والإتيان المجئ إلى "الساعة" وربما تنوسيت ظرفية الساعة فأخبر عنها بصيغة المذكر، على اعتبار أنها الحدث نفسه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}

الشورى 17 ومعها آية الأحزاب 63.

وإنة تكلف المفسرون له محذوفاً مقدراً هو "قريب وقتها"!

وبغتة المفاجأة، هي المسيطرة على آية النازعات:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} كما تسيطر على أكثر الآيات التي جاءت "الساعة" فيها، فهي تأتيهم بغتة، كأن لم يلبثوا إلا ساعة.

ولا حاجة بنا بعد هذا إلى الوقوف عندما قاله بعض المفسرين في إضافة الضحى إلى العشية: "لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد: "الزمخشري" أو لكونهما طرفى النهار "بدأ بذكر أحدهمت فأضاف الآخر إليه تجوزاً واتساعاً: أبو حيان" فليس شيء من هذا ومثله بذى بال، أمام ذلك النذير الصادع برهبة المفأجاة، فإذا الساعة قائمة يراها هؤلاء الذين أنكروها وسألوا في استبعاد واستهزاء {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ! وإذا هول اليقين يفجأ من غرتهم الدنيا، فيحسم المشهد المثير وينتهي به إلى غايته المقررة، متسقاً مع المشهد الحسي المادي الذي لفت إليه القرآن أول السورة في {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} .

صدق الله العظيم

ص: 162