الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
السورة مكية، والمشهور أنها الرابعة عشرة في ترتيبالنزول، نزلت بعد سورة العصر. وموضوعها: اليوم الآخر.
وتبدأ بعرض مشهد سريع لغارة عنيفة مفاجئة، تباعت القوم صبحاً فلا ينتبهون إليها وإلا وقد توسطت جمعهم فبعثرتهم وسط عاصفة من النقع المثار.
وتأتي هذه الصورة العنيفة بعد واو القسم، لافتة إلى ما عهد القوم من مثل نلك الغارات المفاجئة المصبحة، وما تحدث من بعثرة وحيرة وإرتباك.
ثم تأتي بعدها صورة أخرى لغيب غير مشهود، ولكنه واقع حتماً: البعث يفجأ على غير موعد، فإذا هم في حيرة وبعثرة وإرتباك، قد لفظتهم القبور لليوم الآخر مالفراش المبثوث، وإذا كا ما في صدورهم قد حصل، لم تفلت منه خافية مضمرة، مطوية في أعماق الصدر ومستكن الضمير.
وفي كل كلمة، بل في كل حرف منها، سره البياني الباهر فيما قصد إليه القرآن من إحضار مشهد ليوم البعث شاخصاً مجسماً، وتأكيداً وقوعه، والإنذار بما ينتظر الإنسان فيه من حساب دقيق عسير.
* * *
ونبأ بالواو في:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} .
الواو في أصل الاستعمال اللغوي للقسم، ويتجه به جمهور المفسرين إلى تعظيم ما يقسم به وتأكيده، وهذه الفكرة المسيطرة عليهم، تدفعهم - على ما رأينا ونرى - إلى ضروب من التأويلات، ولا نخلو من غرابة وإعتساف.
وفي العاديات هنا قولان: فهي الخيل فيما ذهب كثير منهم، ولكي يستقيم لهم مفهوم بالقسم بها، تأولوها بخيول المسلمين في غزوة بدر، وهو قول روى عن إبن عباس، والحسن، وأخذ به جماعة من المفسرين.
لكنهم رووا كذلك عن إبن عباس مل نصه: "كنت جالساً في الحجر، فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً، ففسرها بالخيل..... فذهب إلى "علي"
وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر ماقلت، فقال: ادعه لي. فلما وقفت على رأسه قال: تفى الناس بما لا علم لك به؟ والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد. العاديات ضبخاً، الإبل من عرفة".
يعني إبل الحاج تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، وتثير الغبار عند وادي محسر.
وكذلك فسر "عبد الله بن مسعو" إلى تفسيرها بالإبل، وتابعه على هذا عدد من المفسرين، ملتفتين إلى معنى الإعظام في كونها إبل الحاج.
ورد أصحاب التأويل بالخيل بأن سياق الآيات بعده: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا....... فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا يدل على أن العاديات هي الخيل، إذ لا يكون الإيراء، وهو قدح الشرر، إلا لسنابك الخيل. أما الخلف ففيه لين وإسترخاء (الجرجاني) . وأما القول بأنه لم يكن بمكة حين نزول الآية جهاد، ولا خيل للمسلمين تغزو، "فهذا لا يلزم، لأنه سبحانه أقسم بما يعرفونه من شأن الخيل".
فكان رد أصحاب الإبل على هذا الإعتراض أن فصلوا الموريات عن العاديات، وفي هذا يقول إبن القيم:"ولما علم أصحاب الإبل أن أخفافها أبعد شيء من رْوى النار، تأولوا آية الموريات على وجوه بعيدة، فقال محمد بن كعب، القرظى: هم الحاج أوقدوا نيرانهم ليلة المزدلفة، وعلى هذا فيكون التقدير: فالجماعات الموريات. وهذا خلاف الظاهر، وإنما الموريات هي العاديات، وهي المغيرات".
وأتجهت محاولة بعضهم في التأويل بالإبل، إلى أن يستعار لها ما هو للخيل أصلاً، فقال الزمخشري:
"إن صح ما روى عن "علي" فقد أستعير الضبح للإبل، كما أستعير المشافر والحافر للإنسان، وما أشبه ذلك".
وهكذا يظل الخلاف دون أن ينحسم. فلكل قول رد، ولكل إعتراض جواب!
وما نرى سببالً لهذا كله إلا سيطرة فكرة تعظيم المقسم به على هؤلاء وأولئك، فالذين قالوا: هي الخيل، قصروها على خيل الغزاه ليظهر وجه التعظيم في القسم بها. والذين قالوا: هي الإبل، قصروها على إبل الحاج تنطلق من عرفة إلى المزدلفة ثم إلى منى، للغرض نفسه.
والقلة التي ذهبت إلى أن العاديات هي الخيل بعامة، لم تتخل عن فكرة التعظيم، وجهد المحاولة لبيانها وتقريرها. فإبن القيم يصرح بأنه لا يلزم حتماً أن نخص العاديات بخيل الغزاة وإن كانت أشرف أنواع الخيل "فالقسم إنما وقع بما تضمنه شأن هذه العاديات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم البهيم واشرفه، وهو الذي يحصل به العز والظفر..... فذكرهم تعالى بنعمته عليهم في خلق هذا الحيوان الذي ينتصرون به على أعدائهم ويدركون به ثأرهم".
أخذه "الشيخ محمد عبده" فتوسع في بيان هذا الوجه لتعظيم الخيل، أقسم الله بها "لينوه بشأنها، ويعلى من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد، ليعونا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها، ليكون كل واحد منهم مستعداً في أي وقت كان لأن يكون جزءاً من قومه الأمة إذا اضطرات إلى صد عدو. وكان في هذه الآيات القاراعات، وأشباه لها، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر، وما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها، وأن يكون فيب السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقاناً.....".
وقد مضى القول، في تفسير سورة الضحى، بأن القسم بالواو هنا أقرب إلى أن يكون قد خرج عن أصل معناه في الوضع اللغوي، لملحظ بياني بلاغي.
ولو خلينا فكرة التعظيم بالقسم جانباً، لبدا لنا بوضوح أن جو السورة لا يوحى - من قريب أو بعيد - بشيء من بيان عظمة الخيل وفوائدها، والحث على التسابق إلى قنيتها، والإغراء بفن السباق....وإنما هو مشهد مثير، لغارة مفاجئة تصبح القوم بغتة على غير إنتظار.
وموقف المباغتة، يلائمه قصر الآيات بما فيه من حسم، وسرعة الإنتقال، وتلاحق الأحداث ما بين العدو، وإيراء القدح، وإثارة النفع، إلى توسط الجمع، فما إن تعدو الخيل ضبحاً، موريات قدحاً، مغيرات صبحاً، حتى تكون قد توسطت الجمع في النقع المثار.
ولفظ "العاديات" لم يرد في القرآن بهذه الصيغة إلا هنا، والأصل اللغوي للعدو هو البعد والتجاوز، ومنه العدوة للمكان المتباعد، والعدو الوثب.
واستعمال العدو في الجري الشديد، ملحوظ فيه البعد والوثب وتجاوز المألوف من الجري، كما أن استعماله في العداوة، ملحوظ فيه التباعد والجفاء، واستعماله في العدوان والبغي، ملحوظ فيه تجاوز الحق كذلك.
وقد يقال للفرسان عادية، لكن الضبح يعين أن المقصود بها هنا الخيل لا الفرسان، لما أشرنا إليه من إختصاص الخيل بالضبح، وهو صوت أنفاسها حين تعدو سريعاً.
وأختلفوا في التوجيه الإعرابي لنصب "ضبحاً": فهو مصدر على تقدير "والخيل تضبح ضبحاً" أو هو حال على تقدير "والعاديات ضابحة" لكنهم لم يبينوا أثر كل من المصدرية أو الحالية على المعنى.
ولعل المصدريو هنا أولى، لما فيها من معنى الإطلاق المحض.....
وعطف الموريات قدحاً على العاديات ضبحاً، بالفاء وفيها ملحظ السببية، لأن الإيراء أثر للعدو الشديد ينقدح به الشرر من حوافر الخيل. ولم ترد مادة قدح في القرآن إلا في هذه الآية، أما الإيراء فجاء فعلاً مضارعاً، على أصل معناه في إيراء النار، بآية الواقعة 71:
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} .
وبآية الواقعة هذه، أستشهد الذين قالوا إن العاديات هي إبل الحاج، ففسروا الموريات بأنها جماعات الحجيج إذ يوقدون نيرانهم ليلة المزدلفة، وهو ما وصفه "إبن القيم" بالتأول على وجه بعيد، وقال فيه:"وهذا خلاف الظاهر، وإنما الموريات هي العاديات".
والعطف بالفاء، فيه مع ملحظ من السببية، ترتيب دون تراخ أو تمهل وإبطاء، ما بين عدوها ضبحاً وإغارتها صبحاً.
ويلحظ هنا أن العربية تخص الإغارة بالخيل، ولو لم يذكر لفظ الخيل فتقول: أغار على القوم دفع عليهم الخيل، وأغار الفرس: أشتد عدوه في الغارة. فاستعمال المغيرات للخيل هنا، يتأيد بمألوف الحس اللغوي لهذا اللفظ تخص به الخيل.
أما تخصيص الإغارة بوت الصبح فلم يفت المفسرين إدراك ما فيه من دلالة على المفأجاة: قال في التبيان: "والعدو لم يأخذوا أهبتهم، بل هم في غرتهم وغفلتهم". ومثله في تفسير الشيخ محمد عبده.
وملحظ المباغتة في الصبح، أوضح من أن يحتاج إلى بيان، اللهم إلا أن نذكر هنا أن اللغة أستعملت يوم الصبح بمعنى يوم الغارة، وأن القرآن الكريم استعمل الصباح والإصباح والصبح في موقف المباغتة والإنذار، فث مثل آيات:
الصافات 177: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} .
الحجر 66: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} .
القمر 38: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} .
الأعراف 78: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .
هو 81: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ؟
وأنظر معها آيات: الكهف 41، 42، القلم 21، الأعراف 91، هود 67، 94، العنكبوت 37، الأحقاف 25.
* * *
بالفاء أيضاً، ربطت آية:{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} بالمغيرات صبحاً، دلالة على الترتيب مع التعاقب الملائم تسرعة الموقف وتلاحق الأحداث.
وللزمخشري هنا وقفتان: الأولى عند الفعل {أَثَرْنَ} علام عطف، ولم يسبقه فعل في الآيات قبله؟ والأخرى عند مرجع الضمير في {بِهِ} قال في {أَثَرْنَ} إنه معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأن المعنى: واللآتي عدون، فأورين، فأثرن. ومثله أو قريب منه، ما في تفسير الشيخ محمد عبده.
أما الضمير في {بِهِ} فأرجعه الزمخشري إنما إلى الصبح، أي أثرن بذلك الوقت نقعاً. ومثله أيضاً ما في تفسير جزء عم.
وإما أن يكون عود الضمير على المفهوم مما سبق، أي فأثرن بالإغارة والقدح والعدو.....
وهذا عندي أولى....
* * *
والعطف بالفاء هنا، ملائم لجو الموقف الذي تسيطر عليه الأخذة المباغتة، والسرعة الخاطفة، فمراحل الإغارة تتم جميعاً في تدافع سريع لا تراخى فيه،
وتتعاقب واحدة في إثر أخرى في حسم قاطع، إذ ليس بين العدو الذي هو مرحلة الإبتداء، وإقتحام الجمع الذي هو ذروة الإغارة، إلا ما بين هذه الآيات القصار المتتابعة في تلاحق وترابط. وهي مع قصرها وسرعتها، تكشف بجلاء عن عنف الإغارة ووقع المفاجأة. والبيان القرآني وحده، هو الذي يستطيع أن يصور أعنف إغارة، بكل مراحلها، في كلمات معدودات، تصل بالغارة من بدئها إلى ذروتها الحاسمة.
ونتدبر {جَمْعًا} هنا، فنلمح دلالتها البيانية، حين نذكر أن هذا اللفظ يأتي كثيراً في القرآن، للحشد الكاثر في المعركة، ومع مظنة القوة والغلبة كما في آيات:
آل عمرتن 155: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ومعها آية 166.
آل عمرن 173: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} .
وسمى اليوم الآخر في القرآن يوم الجمع، لاحتشاد الخلق به بعد بعثهم:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} كما سمى موقف الحشر جمعاً:
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} الكهف 99.
وأنظر معها ىيات: آل عمران 25، الجاثية 26 النساء 87، الواقعة 50، الأنعام 12، التغابن 9، المرسلات 38، الشورى 9، 29.
كما استعمل الإجماع في حشد الرأي وتدبير الأمر وإحكام المكيدة، في مثل آيات:
يوسف 15: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} .
يوسف 102: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} .
طه 64: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .
وبكل ما لهذا اللفظ من دلالات الحشد، والتجمع، ومظنة القوة، يأتي في {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} فيوحى بما كان من إحتشاد هو مظنة قوة لهذا الجمع الذي أقتحمته العاديات ضبحاً، في إغارتها المبحة، وسط النقع المثار.
هنا بلغ المشهد ذروته، ثم يترك للتصور أن يذهب كل مذهب فيما يعقب هذا الإقتحام المصبح المباغت، من تشتت حائر وإرتباك مبعثر، وإستسلام للمصير المحتوم.
* * *
وتمضي الآيات:
الكنود وحيدة في القرآن. صيغة ومادة. وهو في اللغة: الكفور للنعمة، والبخيل، والعاصي. وربما كان أصل استعماله في الأرض لا تنبت شيئاً.
وجاء في الكشاف، أن "الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور".
والمعاني متقاربة على كل حال، وصلتها واضحة بالمعنى الذي رجحنا أنه الأصل، وهو الأرض لا تنبت شيئاً، فهي عاصية، وهي بخيلة، وهي كفور.
وأقرب معانيها إلى آية العاديات، والله أعلم أنه الكفران بنعمة الله، وهو ما ذكره الراغب في (المفردات) .
* * *
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} .
أي يشهد على نفسه بكفران نعمة ربه، وليس أقوى منها شهادة..... وهذه الشهادة الدامغة تأتي في القرآن في مقام التحذير، والزجر المقرون بالوعيد، كالذي في آيات:
والأعراف 127، والبروج 17، والتوبة 17.
بل إن البيان القرآني ينطق بهذه الشهادة، يوم الفصل. جوارح الإنسان وحواسه، وجلده، في مثل آيات:
فصلت 22: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} .
وأصل الشهادة في اللغة من الشهود أي الحضور، والمشاهدة: المعاينة وما شهادة الإنسان على نفسه بكنود، وإقراره بكفران نعمة ربه، إلا من هذا الذي ألفناه في البيان القرآني، من إلزام بالحجة وتأكيد لفداحة الذنب وأعتراف به، في موقف الزجر والوعيد، حيث لا سبيل بعد مثل هذه الشهادة الدامغة، إلىتنصل من الذنب أو إدعاء البراءة منه.
لكن عدداً من المفسرين أضاعوا هذا الملحظ البياني بقولهم: إن الضمير في {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} يعود إلى الله تعالى.
مع أن المعنى إنما يقوى بأن يكون الإنسان شاهداً على نفسه، وهذا هو ما تؤيده آيات الشهادة التي استأنسنا بها في فهم الآية.
ثم عادوا في آية {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فجعلوا الضمير للإنسان، فتمزقت بهذا الصنيع وحدة السياق في الآيات الثلاث.
وقالوا في تفسير الخير هنا إنه المال، واستأنسوا بآية الوصية الواجبة.
وقيده "الراغب" بالمال الكثير: "لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً، وعلى ذلك قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ".
وفي القرآن آيات أخرى، قد تؤيد تأويل الخير بالمال، بتوجيه السياق في مثل:
المؤمنون 56: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} .
وجاء الخير مرة واحدة للخيل في آية (ص 32) على لسان داود:
على أن لفظ الخير، أكثر ما يستعمل في القرآن بمعنى الأفضل. وقد أحصيت من هذا الاستعمال نحو 125 مرة، ويقترن بلفظ "أم" المعادلة، أو يجيء تمييزاً، أو معطوفاً عليه بأفعل التفضيل.
كما يأتي في القرآن، نقضاً للشر صراحة في مثل آيات:
الإسراء 11: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} .
الأنبياء 35: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .
المعارج 21: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} .
أو مقابلاً بالسوء والضر:
الأعراف 188: {ولوكنت وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} .
الأنعام 17: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} .
ومعها آية يونس 107.
واللغة تحتمل أن يكون الخير للمال، والخيل، وضد الشر، والخيار والفضيلة.
غير أنسياق آية (العاديات) يرجح أن الخير فيها هو الخير المادي من مال أو شبهه، فهذا الإنسان الكفور بنعمة ربه، والشاهد على نفسه بالكنود، لا يكون حبه للخير الذي هو فضيلة، وإنما هو حب للمال شديد.
والأصل في الشد: قوة العقد والوثاق والإحكام، مادياً كما في آية:
محمد 4: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} .
ومعنوياً في مثل آيات:
الدهر 28: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} .
طه 31: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} .
القصص 35: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} .
ص 20: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
كما يعبر القرآن، عمن بلوغ الرشد والقوة بصيغة: بلغ أو يبلغ أشده، في مثل آيات:
الأنعام 152، الإسراء 34، يوسف 22، القصص 14، غافر 67، الأحقاق 15، الكهف 82، الحج 5.
أما صيغة شديد، فجاءت في القرآن، في نحو أربعين موضعاً، مضافة إلى عذاب الله، وبطشه، وأخذه، وعقابه في الآخرة، أو وصفاً لهذا البطش والأخذ والعذاب، في مقام الزجر والوعي:{إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
وجاءت مرة وصفاً للحديد: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ومرة على لسان لوط إذ قال لقومه في آية هو 80:
{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
وعلى لسان سليمتن منذراً متوعداً، في آية النمل 21:
كما جاءت أربع مرات وصفاً لأولى البأس، والحرس، في آيات: الإسراء 5، النمل 33، الفتح 16، الجن 8.
كذلك جاءت الشدة، بصيغة أفعل التفصيل {أشد} في نحو خمسة وعشرين موضعاً، مميزاً بالقسوة، والبأس، والتنكيل، والكفر، والعتو، والعذاب، والبطش، والرهبة، والوطء، والعدواة، والخشية، والقوة.
ومعها آية الصافات 11: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} .
وجاءت مرة واحدة مميزة بالحب في آية البقرة 165:
وغلبة الاستعمال القرآني لمادة الشدة، في موقف الزجر والإرهاب والوعيد،
يضيف بلا شك، إلى ما اكتفى المفسرون به في آية العاديات، من معنى البخل والإمساك وعدم الإنبساط، إيحاء بالزجر والوعيد، مع ما سبق الآية من شهادة الإنسان على نفسه بالكنود لربه.
كما أنه يقوى بالآيات بعده.
* * *
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .
بما فيها من نذير صادع وزجر رادع.
والبعثرة لم تأت في القرآن إلا في هذه الآية وفي آية الإنفطار:
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} .
وكلتاهما في بعثرة القبور يوم القيامة، وفيهما جاء الفعل مبنياً للمجهول، صرفاً للذهن إلى الحدث نفسه، وتركيزاً للإنتباه فيه. وفيهما أيضاً، انتقال سريع من بعثرة ما في القبور إلى الحساب العسير يحصل ما في الصدور وتعلم بع كل نفس ما قدمت وأخرت.
والبعثرة لغة، فيها معنى التبديد والتفريق والإختلاط، وقلب بعض الشيء على بعض. وقالوا: بعثر الحوض، هدمه وجعل أسفله أعلاه. ود يلحظ فيها معنى التفتيش والكشف، فيقال: بعثر الشيء، استخرجه فيكشفه وأثار ما فيه. كما استعملت البعثرة في قلق الجوف وغثيان النفس.
والمتبادر من مفهوم {بعثر} في آيتي العايات والإنفطار، هو التشتت والتفرق والإنتثار، وما يكون عنها من حيرة وضلال وإختلاط وإرتباك "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث" ولكن اللفظ كذلك مع التفريق الإختلاط بما في الأصل اللغوي، من دلالة الإثارة والكشف، فيمهد لما بعده:
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}
وقد جيء به فور البعثرة، مبنياً للمجهول كذلك، صرفاً عن كل ما عدا الحدث نفسه، على المألوف من آيات القيامة.
ولم تأت مادة "حصل" إلا في آية العاديات:
والتحصيل لغة: الجمع والتمييز. وأصله من الحوصل والحوصلة والحوصلاء،
وهي من الطير كالمعدة للإنسان، ومن الحوض مستقر الماء في عمقه الأقصى.
ولهذه الدلالة اللغوية الأصلية، أثرها في معنى {حُصِّلَ} هنا، فكل ما يعمله الإنسان مستقر في أعماقه، مجموع في صدره، حتى يحين أوان كشفه بعد بعثرة ما في القبور للبعث والقيامة.
والتحصيل لما {فِي الصُّدُورِ؟} إيذاناً بكشف المستور وإظهار المطوى المضمر - جلالة واضحة، لا نخطئها في استعمال القرآن للفظ الصدور:
فالشيطان. {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
وهو تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} غافر 19.
{يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} القصص 69.
{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} العنكبوت 10.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} النمل 74.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} آل عمران 29
وتدبر هذه الآيات جميعاً، يرينا ما في تأويل آية العاديات:
"إن معنى حصل، جمع في الصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً" من جور على المعنى القوى المثير لقوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} فليس المقام هنا للجمع في الصحف، وإنما المقام للإنذار بيوم ينكشف فيه ما طوى في الصدور، ويظهر ما تخفي الضمائر، وقد كان الظن الكاذب به أن يظل خفياً مستوراً.
* * *
ويلفتنا هنا أت تأتي آية:
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} .
بعد بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، فتصل بالمشهد المثير إلى
ذروة عنفه، ثم تدع ما بعد ذلك للخاطر يذهب فيه كل مذهب، وقد آل الأمر كله إلى العليم الخبير.
ولسنا هنا بحاجة إلى القول بتضمن خبير لمعنى "مجاز لهم في ذلك اليوم" بل أولى منه أن نلحظ أن القرآن لم يستعمل الخبير قط، إلا مسنداً إلى الله تعالى أو اسماً من أسمائه الحسنى باستقراء مواضع الكلمة وهي نحو خمسة وأربعين.
وتفسيره بالعليم غير دقيق، إذ جاء الخبير مقترناً بالعليم في آية التحريم 3:{قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . ولقمان 34 والحجرات 13: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} والنساء 35: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} فدل ذلك على أن الخبرة غير العلم، وأفترن الخبير بالحكيم {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} في آيات الأنعام 18، 73، وسبأ 1، وآية هود 1 {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} كما أفترن بالبصير في آية الشورى 27:{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . ومعها آيات: الإسراء 17، 30، 96 وفاطر 31.
وتفرد الله وحده بوصف {الْخَبِيرُ} - وليس الأمر كذلك في العليم، حيث جاء وصفاً لغير الخالق في آيات: يوسف 55، 76، الحجر 53، الشعراء 34، 37. وهذا التفرد يدل على أن الخبرة أخص من العلم، وهو ما يظهر بوضوح في آيات:
ومن المعاني الحسية للخبر في اللغة: منقع الماء في أصوله بالجبل، والصرف الجيد من أول الجز، وأختبرت الشيء أو الشخص. فحصته وأمتحنته لتعرف حقيقة أمره.
وإيثار لفظ {خَبِير} هنا، بعد أن {حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، مع تأكيده باللام وإن في أول الآية، يبلغ به الترهيب منتهاه، ثم يدع للخاطر بعد ذاك أن يتصور ما شاء، في ذلك الجو الحافل بالنذير والوعيد.
* * *
وهذه الوقفة الحاسمة، يبلغ بها القرآن ذروة المشهد العنيف لبعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور، تتسق مع مشهد الإغارة العنيفة في مستهل السورة، على وجه باهر من البيان المعجز. ولا أعرف أن أحداً من المفسرين حاول أن يربط بين المشهدين أو لمح ما بينهما من صلة هي معقد القسم ومجلى دقته البيانية.
فالسورة، كمت قلنا آنفناً تبدأ بواو لبقسم لافته في قوة إلى المشهد المألوف، لإغارة عنيفة مفاجئة، تبغت القوم صبحاً فلا ينتبهون إلا وقد توسطت جمعهم ومزقت شملهم وبعثرتهم وسط النقع المثار.
ويتمثل القوم ما عهدوا من مثل هذه الغارات المصحبة المباغتة، وما يعقبها من بعثرة وحيرة وإرتباك، توطئة بيانية لمشهد غيب لم يقع يستطيعون أن يدركوا صورة منه في ذلك الذي ألفوه وعاينوه......
ذلك هو مشهد البعث، يباغت القوم - وقد طال ما جحدوا نعمة الله وغرتهم الأماني - فإذا هم بعثروا من القبور حيارى ممزقين، وصدروا أشتاتاً مفرقين، ثم إذا بالأحداث تتلاحق سراعاً، مترابطة متدافعة، فليس بين بعثرة ما في القبور، وهول الموقف بين يدى الخبير، إلا أن يحصل ما في الصدور، لا تفلت منه خافية مضمرة، ولا غاتئبة مطوية مستورة في الأعماق، كما ليس بين العاديات ضبحاً، وتوسط الجمع، وتدبير الأمر، إلا أن تنطلق في إغارتها صبحاً، موريات قدحاً، مثيرات نقعاً!
وبين هذا المشهد المألوف الواقع، وذاك الغيب الذي سوف يقع يقيناً، يأتي المقسم عليه:
صدق الله العظيم