الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الزلزلة
بسم الله الرحمن الرحيم
صدق الله العظيم
السورة في وصف اليوم الآخر.
وهي مدنية مبكرة، سادسة السور المدنية على المشهور في ترتيب النزول. وثمة قول بأنها مكية، عن مجاهد وإبن عباس، وعن الضحاك وعطاء.
ومعروف أن عناية القرآن الكريم أتجهت في العهد المكي إلى تقرير أصول الدعوة وفي العهد المدني إلى التشريع وبيان الأحكام.
ولا يعني هذا أن تخلو السور المكية من أحكام تشريع، ولا أن تخلو المدنية من أصول عامة للعقيدة، مثل سورة الزلزلة التي نستأنس لها بنظائرها من السور المكية في اليوم الآخر، مثل سور:
الذاريات، التكوير، الإنفطار، الإنشقاق، الغاشية، القارعة، التكاثر، العاديات، الفجر، النازعات، النبأ، المرسلات، القيامة، المعارج، الحاقة، الواقعة....
ومن الملاحظ البيانية العامة في هذه السور:
* أن آياتها قصار، وهذا القصر ملحوظ فيه القوة والجزم، بما يلقى في نفس السامع من جدية الموقف الحاسم وخطره، بحيث لا يحتمل الإطالة والتأني.....
* وفيها مع ذلك، ظاهرة التكرار. والتكرار مألوف في مواقف الإطناب والإطالة، لكنه حين يأتي في مواقف الإيجاز الحاسمة، يكون لافتاً ومثيراً، ففي سورة الزلزلة، على إيجازها وقسر آياتها، نجد التكرار في ثمانية مواضع. وذه ظاهرة أسلوبية في القرآن الكريم، يعمد لإيها إلى التكرار مع الإيجاز والقصر، ترسيخاً وتقريراً وإقناعاً. والدارسة النفسية قد انتهت بعد طول التجارب، إلى أن مثل هذا الأسلوب هو أقوى أساليب الترسيخ والإقناع، وأشدها إيحاء بالحسم والجد.
والألفاظ المختارة لموقف القيامة، بالغة الإثارة قوية الوقع إما بعنفها كالزلزلة، والرج، والدك، والنسف، والرجف، والمور، والصيحة والإنشقاق، والطامة، والغاشية، والواقعة، والبعثرة والانتثار.
وإما بدقتها، كمثال الذرة، والهباء المنبث، والعهن المنفوش، والفراش المبثوث، والسراب والدخان.....
* وظاهرة بيانية أخرى مطردة، قل أن نخطئها في أحداث اليوم الآخر، وهي أن القرآن الكريم يصرف الحدث عمداً عن محدثه، فلا يسنده إليه، وإنما يأتي به مبنياً للمجهول، أو مسنداً إلى غير فاعله، على المطاوعة أو المجاز:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} .
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} .
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ.....}
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} .
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} .
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} .
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} .
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} .
وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل، عن الالتفات إلى إطراد هذه الظاهرة الأسلوبية. في أحداث القيامة.
وفي منهجنا لا يجوز أن نتأول الفاعل، مع وضوح العمد في البيان القرآني إلى صرف النظر عنه، ولا أن نتعلق بما لم يشأ لنا الكتاب المحكم أن نتعلق به. وقد هدى تدبر هذه الظاهرة الأسلوبية، إلى أن البناء للمجهول تركيز للإهتمام بالحدث، بصرف النظر عن محدثه. وفي الإسناد المجازي أو المطاوعة، تقرير لوقوع الأحاث في طواعية تلقائية، إذ الكون مهيأ للقيامة على وجه التسخير، والأحداث تقع تلقائياً لا تحتاج إلى أمر أو فاعل.
* * *
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} .
الزلزلة في اللغة، الحركة العنيفة والإضطراب الشديد: استعمل في الحسيات، فقيل" زلزل الإبل ساقها بعنف حتى يضطرب سيرها. وتزلزت الأرض، أهتزت وإرتجفت. ثم استعمل في الشدائد والأهوال. وربما كان الأصل فيه: زلت الصفاة، أي ملست حتى تنزل القدم عليها مضطربة.
وفي القرآن الكريم، وردت المادة، فعلاً ومصدراً ست مرات: ثلاثاً منها في وصف يوم الهول الأكبر، في آية الزلزلة، وآية الحج 1:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .
وثلاثاً في وصغ موقف الشدة القاسية والذعر البالغ في هول الحرب بآيات:
وفي المرات الثلاث التي استعمل فيها الفعل، جاء ماضياً مبنياً للمجهول.
قال مفسرون: إن الفاعل حذف للعلم به، غير ملتفتين إلى أنها ظاهرة أسلوبية مطردة في أحداث اليوم الآخر، وقد شغلهم الصنعة البلاغية، عن الالتفات إلى ما في القرآن من أفعال لاتحصى، بنيت للمعلوم مسندة إلى الله تعالى، مع العلم بالفاعل يقيناً، فهو سبحانه خلق السموات والأرض، ونزل القرآن على عبده، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، والله يروق من يشاء بغير حساب، ويعلم الغيب، والرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان..... مما يؤنس إلى أن العلم بالفاعل ليس هو السر البياني في بناء {زُلْزِلَتِ} للمجهول، وإنما هي كما قلنا آنفاً، ظاهرة أسلوبية تطرد في مثل هذا الموقف، تركيزاً للإهتمام في الحدث ذاته، وإيحاء بأن الأرض تزلزل عن طواعية، وإستجابة لتسخير تلقائي......
ومجيء الفعل ماضياً، تقرير لأنه حادث فعلاً. وقد صدر بإذا، فصرفته إلى المستقبل دون أن يفقد التعبير أثره الذي يوحى به استعمال الماضي، بدلاً من المستقبل الصريح. على أن المباغتة في {إذا} لها اثرها في هذا الموقف،
وهذه أيضاً ظاهرة أسلوبية، تسيطر على الحديث عن اليوم الآخر، الذي يأتي بغتة، إمعاناً في الترهيب، على ما سوف نفصله عند تفسير آية النازعات:
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
وندع لغيرنا من المفسرين، أن يشتغلوا بتسوية الصنعة الإعرابية، فيلتمسوا عاملاً مضمراً في إذا، تقديره عند بعضهم: اذكر، وعند آخرين: تحشرون. أي: يوم تزلزل الأرض زلزالها تحشرون.
لأن سر البيان وراء كل هذا، ولأن مناط القوة في التعبير هو بغتة المفأجاة، وتأكيد الحدث، وصرف الذهن إليه، ولا شيء من ذلك يتعلق بما شغلوا به من تأول وتقدير.......
وقرأ الجمهور {زِلْزَالَهَا} بكسر الزاى وهي قراءة الأئمة السبعة، وفي قراءة بفتحها، والفرق بينهما أن المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية - كما قالوا - فعلال بالفتح إلا في المضاعف.
والمصدرية أولى بالمقام، لما فيها من تأكيد يلائم السياق. ويؤيده تعين المصدرية في الآية الأخرى التي استعمل فيها القرآن هذه الصيغة، وهي آية
الأحزاب 11: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} .
وإضافة الزلزال إلى ضمير الأرض، متسق مع التلقائية الملحوظة في هذه الآية وما بعدها من إخراج الأرض أثقالها وتحدثها أخبارها. وفيها أيضاً لفت إلى المعهود المعروف من الزلزلة. ولا بأس بما قاله الزمخشري هنا من أنه "زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال" وقول أبي حيان:"وأضيف الزلزال إلى الأرض، إذا المعنى زلزالها الي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها..... ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل، والفقر بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته، واضح".
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} .
جعل الأرض هنا فاعلة. وهي جماد، مضياً في تقرير مطاوعتها، وكونها مسخرة لمثل هذا. والسياق ملتئم مع الآية قبلها، من حيث تركيز الإهتمام على الحدث، دون شغل للسامع بمصدره أو محدثه.
وتكرار الأرض هنا مقصود، لترسيخ اليقين، والإقناع النفسي.
والأثقال جمع ثقل، وهو الحمل الشديد. واللغويون والمفسرون، متفقون على أن الثقل هنا نقيض الحفة ونص "الراغب" على أن أصل استعماله في الأجسام ثم في المعاني. فمن الأول: أثقلت المرأة فهي مثقل، ثقل حملها في بطنها. ومن الثاني: أثقله الهم والغرم والدين، والوزر.
وجاءت "الأثقال" في القرآن في ثلاث آيات: آية النحل 7، والثقل فيها مادي، فيما تحمل الأنعام:
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} .
وآية العنكبوت 13، والثقل فيها معنوي:
وآية الزلزلة: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} .
فما هذه الأثقال التي تخرجها الأرض إذا زلزلت زلزالها؟
ذهب الزمخشري في (الكشاف) إلى أن الأثقال هي ما في جوفها من الدفائن
والكنوز. ونص في (الأساس) على أن هذا من المجاز، جعل ما في جوفها من الجفائن أثقالاً لها.
وفي (البحر المحيط) مما قيل في الآية، أن أثقالها كنوزها وموتاها.
ثم رد هذا الكنوز تخرج وقت الدجال (!) لا يوم القيامة، أما الموتى فتخرج يوم القيامة: وأبعدوا في التأول، فجعلوا للزلزال في الآية وقتين: في أولهما أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها!
وأكتفى "الطبرسي" في تفسير الأثقال بالموتى.
وقال "الراغب": قيل كنوزها، وقيل ما تصمنته من أجساد البشر، عند الحشر والبعث.
ولا نقف عندما لم يتعلق القرآن بذكره، بل يلفتنا في إخراج الأثقال هنا ما توحى به من إندفاع للتخلص من الثقل الباهظ، فالمثقل يتلهف على التخفف من حمله، ويندفع فيلقيه حين يتاح له ذلك. والأرض إذ تخرج أثقالخا تفعل ذلك كالمدفوعة برغبة التخفف من هذا الذي يثقلها، عندما حان الأوان. ونستأنس في هذا الفهم بقوله تعالى في سورة الإنشقاق:
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . هكذا بغير إنتظار أو تمهل..... وهل تمسك المثقل حملها حين يأتي أوانه؟ وهل يتردد ذو حمل ثقيل، في إلقائه والتخلي عنه إذا أتيح له ذلك؟
والتأويل بـ: وأخرجت الأرض ما في جوفها، يضيع به هذا الإيحاء المثير، اللافت إلى المعهود من لهفة ذي الحمل الثقيل على التخلي عما يئوده ويبهظه.
ويلفتنا أيضاً، إسناد الإخراج مجازاً إلى الأرض، مع {زُلْزِلَتِ} على البناء للمجهول، مضياً في تقرير تلقائية الحدث، كأنه في غير حاجة إلى محدث، وتركيزاً للإنتباه فيه.
* * *
{وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا}
السؤال واضح فيه معنى العجب والدهشة، والخوف والقلق والترقب. لكن من المفسرين - كما في الجلالين - من ذهب إلى أن الاستفهام إنكاري. وهو ما لانرى وجهاً له فإن الموقف لم يعد يحتمل الإنكار وقد قامت القيامة فعلاً، بعد أن سبقت بها النذر، وتتابعت بأنبائها رسالات الدين.
والإنسان هنا هو الإنسان، على الإطلاق، تروعه الزلزلة العنيفة وما أعقبها من لإخراج الأرض أثقالها، فيسأل في دهشة وتعجب: مالها!
لكن عدداً من المفسرين ذهبوا إلى أن {الإنسان هنا هو الكافر، لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون".
جاء هذا التأويل في تفاسير (الكشاف، ومجمع البيان، والجلالين) وصرح "أبو حيان" في (البحر) بأن هذا هو مذهب الجمهور، ونص عبارته:
"والظاهر عموم الإنسان، وقيل: ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقه: والمؤمن - وإن كان مؤمناً بالبعث فإنه أستهول المرأى..... قال الجمهور: الإنسان هو الكافر، يرى ما لم يظن".
ولسنا نرى وجهاً لتخصيص الإنسان هنا بالكافر، فاللغة لا تعين على هذا التخصيص، والاستعمال القرآني للفظ الإنسان لا يؤيده. ثم هو تخصيص لا يقوى به المعنى، فلأن تكون رجة الزلزلة وهول الموقف، مما يروع الإنسان على الإطلاق، كافراً كان أو مؤمناً، أقوى من أن يقتصر الدهش والعجب على الكافر وحده.
ويؤنس إلى هذا الإطلاق والتعميم، قوله تعالى في وصف الزلزلة، في آية الحج:
تذهل كل مرضعة، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس، عاكة الناس، لا الكفار وحدهم!
* * *
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} .
أي يوم يحدث ذلك، تحدث الأرض أخبارها.
وسر التعبير بيومئذ هنا، أنه لفت قوي يستحضر معه السامع ما مضى من وصف اليوم، فلا يتابع ما بعد {يَوْمَئِذٍ} منصرفاً عما قبلها، مستقلاً عنه.
وتحدث الأرض، مما وقف المفسرون عنده طويلاً: فالإمام الطبري يذهب إلى أن تحدث الأرض هنا تمثيل. أي أن حالها وما يقع فيها من الإنقلاب غير المعهود، يعلم السائل ويفهمه الخبر. وتابعه على ذلك جماعة منهم الزمخشري إذ يقول في الكشاف:"والتحدث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان". ومثله في تفسير الشيخ محمد عبده لسورة الزلزلة من جزء عم.
وذهب آخرون، إلى أن التحدث حقيقة لا مجاز، ففي (سنن إبن ماجه) :"تقول الأرض يوم القيامة: يارب هذا ما استودعتني". وعن إبن مسعود: "تحدث الأرض بقيام الساعة إذا قال اإنسان: مالها؟ فتخبر أن أمر الدنيا قد أنقضى، وأن أمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهم عن سؤالهم".
وقال "الطبرسي" في مجمع البيان:
"يجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها، ويجوز أن يقلبها حيواناً يقدر على النطق، ويجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقام الكلام".
وجاء في الكشاف: "وقيل ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خير وشر"
ويبدو أن هذا هو ما اطمأن إليه "أبو حيان"، بقوله في البحر المحيط:
"الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة، بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً فتشبه
بما عمل عليها من صالح أو فاسد. وهو قول إبن مسعود والثوري وغيرهما..... ويشهد له ما جاء في "الترمذي" عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ هذه الآة ثم قال:"أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا. هذه أخبارها" هذا حديث حسن صحيح غريب".
والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد الأصم فحسب، بل يجرد منه كذلك شخصية حية، فاعلة ناطقة، مريدة مدركة:
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ؟ ق: 30
{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} المعارج: 17
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} الفرقان: 12
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} الملك: 7
والتفت المفسرون إلى ما تقتضيه الصنعة النحوية من تقدير مفعول ثان للفعل {تُحَدّث} الذي يتعدى إلى أثنين. وعند أبي حيان أن المحذوف أو لهما، أي تحدث الناس أخبارها.
ونرى القرآن قد بينه بما يغني عن اي تأويل:
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} .
والإيحاء عند "الزمخشري" مجاز، كقوله تعالى:{أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقال الطبرسي في مجمع البيان: "أوحى لها، أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها".
* * *
وبمعنى الوسوسة، وفيها السر والخفاء، في آيتي الأنعام 112، 121:
وقال الشيخ محمد عبده: "الوحي هم الأمر الإلهي الخاص، قال لها: كوني خراباً، كما قال لها عند إيجادها: كوني أرضاً. فهذا أمر من الأوامر التكوينية التي هي تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها".
وهي أقوال متقاربة ومقبولة وإن لم يكف تفسير الوحي بالأمر، أو القول، لتبين أثر اللفظ في المعنى، و"الراغب" كان أقرب إلى حس العربية وهدى القرآن حين قال:"الوحي الإشارة السريعة مع الخفاء، فإن كان الموحي إليه حياً فهو إلهام، وإن كان جماداً فهو تسخير".
فالعربية قد استعملت الوحي بمعنى السرعة، فقالت: الوحي الوحي، أي البدار البدار. ومن أمثالهم: الموت بالسيف أوحى، أي أسرع وأحسم.
ولحظ مع السرعة الخفاه، فقيل وحي إليه، أشار وكلمه سراً. ومن الخفاء والسرعة الملحوظين في المادة، جاء الوحي بمعنى الإلهام بملحظ من خفاء مصدره وسرعة حدوثه.
والقرآن استعمل الوحي في خفي الإلهام في:
آية الشورى 51: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .
"وقيل الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل بالأرض تلك الأفعال، واللام في (لها) للسبب، أي من أجلها ومن حيث
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}
وبمعنى التسخير في آية النحل 68:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} .
على أن أكثر استعمال الوحي في القرآن، فيما يلقيه الله إلى أنبيائه.
وفي آية الزلزلة، ليس الوحي بمعنى الأمر، لأن الأمر يقتضي توجيه الحديث ويعوزه ما للوحي من دلالة السرعة والخفاء، وإنما الوحي يكفى منه إيداع القوة فيها، مما هو أنسب لجو التسخير والمطاوعة المسيطر على الموقف.
وعدى الفعل "أوحى" باللام، وهو ما لفت المفسرين واللغويين، لأن المشهور تعديتها بإلى.
ونرجع إلى القرآن الكريم، فنراه استعمل الفهل إحدى وسبعين مرة:
في مرتين منها، لم يصرح بالموحي إليه:
النجم 4: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
الشورى 51: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} .
وفي سبع وستين مرة، تعدى الفعل بـ: إلى.
ومرة واحدة تعدى بـ: في، بآية فصلت 12:
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}
وفي آية الزلزلة وحدها تعدى الفعل باللام.
قال أبو حيان: وعدى أوحى باللام، وإن كان المشهور تعديتها بإلى، لمراعاة الفواصل.....
الأفعال فيها، وإذا كان الإيحاء إليها أحتمل أن يكون وحي إلهام، وأحتمل أن يكون برسول من الملائكة".
أما "إبن هشام" النحوي فجاء بالآية شاهداً على أن اللام تأتي موافقة لإلى، كما تأتي موافقة لـ: على، وفي، وعند، وبعد، وعن، ومع، بشواهد على هذا كله من فصيح العربية.
ونرجئ النظر فيما قالوا لنتدبر صنيع الفرآن، فيما استقرأنا من مواضع استعماله للفعل، فنرى أن الوحى به يتعدى إليه الفعل بنفسه.
أما الموحي إليه، فيتعدى الفعل إليه بحرف إلى، إذا كان من الأحياء، باستقراء الآيات السبع والستين التي جاء الوحي فيها بإلى، ومنها آية النحل 68:
أما الجماد فلا يتعدى الوحي إليه بحرف إلى، بل بحرف في:
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} .
أو باللام، في آية الزلزلة:{أَوْحَى لَهَا} :
ويلتمس تعيين دلالة الحرف، بالسياقين:
ففي السماء {أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي بث فيها، ما به نظامها، فعدى الفعل بـ (في) الظرفية التي تدل على التمكين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
وفي الأرض، عدى الفعل باللام. وقد قال إبن هشام في المعنى:"إن اللام تقوم مقام إلى" واستشهد بآية الزلزلة.
وهو مذهب عامة النحاة، ويراه خاصة من فقهاء العربية مبطلاً لحقيقة اللغة: من حيث لا يمكن أن تؤدى وظيفتها في التعبير والبيان، إذا أختلطت الدلالات ولم يتميز حرف عن حرف.
وما قالوه، في أن هذا لمراعاة الفواصل، غير مقبول هنا، أو حينما قالوه في القرآن، لأننا لا نسلم، بل لا نعرف أن هذا البيان المعجز، يؤثر كلمة على غيرها لمجرد ملحظ لفظي لا يقتضيه المعنى.
ووالقول بأن "الموحي إليه محذوف، أي أوحي إلى ملائكته" معناه أن الموقف يحتاج إلى وساطة لإيصال الإيحاء إلى الأرض. وهو ما يأباه السياق الذي يقتضي عكس ذلك:
فمع بناء "زلزلت الأرض" للمجهول، ومع قوة الفاعلية المستفادة صراحة من إسناد الإخراج والتحدث والزلزلة إلى الأرض، لا وجه لتقدير وساطة الملائكة، لإيصال الإيحاء إلى الأرض التي زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وتحدث أخبارها. فالبيان يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق: مالها؟! فاقتضى أن يأتيه الجواب {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} تحدث به الأرض نفسها تلقائياً، فالإيحاء هنا للأرض مباشرة ليلائم إسناد التحدث إلى الأرض، وسر قوته في هذه التلقائية المباشرة على وجه التسخير. ومن هنا كان إيثار التعدية باللام، لما في معنى اللام من اختصاص، وإلصاق، وصيرورة، وتقوية الإيصال، وهي معان عرفها اللغويون أنفسهم فيها، وعدةها فيما عدوا من معانيها التي أحصاعا "إبن هشام" في (مغنى اللبيب) وإن لم يلتفتوا إليها هنا في البيان القرآني، بل قالوا إن اللام تقوم مقام إلى، بشاهد من آية الزلزلة: أَوْحَى لَهَا.
* * *
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}
يومئذ: كرة راجعة إلى ما قبل، يصل بها القرآن مشاهد الموقف، ويرد السامع إلى ما سبق من آيات، ويستعيد ما استقر في خاطره من نذر.
وأكثر المفسريمن على أن {يَصْدُرُ النَّاسُ} هنا بمعنى يخرجون من القبور "الزمخشري" ومنهم من يقول بأن معناها: ينصرفون من موقف الحساب، كما في (تفسير الجلالين، ومجمع البيان للطبرسي) .
وتفسير يصدر بـ: يخرج أو ينصرف، يفوته إيحاء الكلمة في حس العربية التي استعملت الصدر مقابلا للورد، والعرب قد ألفوا استعماله كذلك، وجرت أمثالهم بأن الوارد يجب أن يعرف كيف يصدر، وإلا ضاع. قال شاعرهم:
وأحرم الناس من لو مات من ظمأ لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا
من ثم لا أجد ما يفسر به الصدر في آية الزلزلة، إلا نقيض الورد، لأن في ربطهما سر الدلالة الموحية بأن الحياة الدنيا ليست بدار مقام، وإنما هي رحلة نجتازها ولابد من تأميد طريق العودة والصدر.
ولا يمكن أن يغني عن "يصدر" في هذا الموقف، أي لفظ آخر أو يقوم مقامه، إذ تتمثل لهم به الدنيا مورداً يجب أن يؤمنوا الصدر عنه. والقرآن قد استعمل اللفظ نفسه، بصريح مقابلته لورد الماء، في قصة موسى وابنى شعيب بآية القصص 23:
"وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ".
وبهذه الآية نستأنس في فهم آية الزلزلة على أن الصدر مقابل الورد، وأبو جيان، قد صرح بأن "الصدر يكون عن ورد" وعقب على هذا بقول الجمهور: هو كون الناس في الأ {ض مدفونين، والصدر قيامهم للعبث.
وكذلك حام "الراغب" حول ما فهمناه من معنى يصدر، حين جاء بها مقترنة بالصدر عن الماء، لكنه فسرها بعد ذلك بالانصراف فقال:
"وإذا عدى صدر بعن، اقتضى الانصراف" تقول: صدرت الإبل عن الماء صدراً، وقال تعالى:"يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا".
وقال الشيخ محمد عبده: صدر عن المدينة، أي سافر منها. ثم فسر "يَصْدُرُ النَّاسُ" بقوله: يذهب الناس.
ولا نطمئن إلى شيء في تفسير الصدر إلا أنه مقابل الورد: يكون عن ماء كما في آية القصص، وعن الحياة الدنيا كما في آية الزلزلة ولم يستعمل القرآن الصدر إلا في هاتين الآيتين.
وكونهم يصدرون "أشتاتاً" أي متفرقين، أدعى للحيرة والخوف والرهبة، إذ مع الجماعة يكون نوع من الأنس والإلف، لا يتاح مثله مع التشتت والتفرق، ولا سيما في موقف الهول الأكبر.
وأشتات: جمع شت، والشت والشتات في اللغة التفرق والاختلاف. وقد وردت المادة في خمسة مواضع من القرآن. ثلاثة منها بصيغة شتى:
طه 53: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} .
الليل 4: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}
والمرتان الأخريان بصيغة أشتات، منصوبة على الحال: آية الزلزلة، والنور 61:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} .
ومعنى التفرق، المقابل للتجمع، واضح في الآيتين، أما شتى غالملحوظ فيها التنوع والاختلاف. وبالتفرق، فسر "الراغب" أشتاتاً في آية الزلزلة، وهو ما يعطيه اللفظ من قرب، وتؤيده آية النور، كما يؤيده أن القرآن استعمل في وصف الموقف نفسه، البعثرة والإنتشار، والبث:
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} .
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} .
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} .
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} .
ولكن كثيراً من الفسرين، ذكروا في تأويل أشتات أقوالاً بعيدة، لا يعين عليها الحس اللغوي للمادة، والاستعمال القرآني لأشتات، وما يؤنس إليه وصفه للخروج في الموقف نفسه بالبعثرة، كأن الناس جراد منتشر أو فراش مبثوث.
فالومخشري يقول في الكشاف:
"أشتاتاً: بيض الوجوه أو سود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقاُ الجنة والنار".
وأظنه ما يفهم من قول أبي حيان في (البحر المحيط) : "أشتاتاً، جمع شت، أي فرقاً".
والطبرسي في (مجمع البيان) يذهب إلى أن أشتاتاً: "يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض: أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة".
والشيخ محمد عبده يفسره بأن الناس يذهبون "على اختلافهم، شقيهم وسعيدهم، محسنهم ومسيئهم".
وما نرى هذه التأويلات، تعود على المعنى بشيء ذي بال، وإنما تقوي الإثارة والتلاهيب والردع، حين يكون من التشتت بمعنى التفرق والبعثرة والإنتشار، بما تقتضيه طبيعة الموقف من اضطراب، ولما يكون مع التشتت من فقدان الأنس
بالجماعة والتماس نوع من الأملن، ولو على سبيل الوهم. في الصحبة والتجمع. وهم يصدرون أشتاتاً {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} .
وفي قراءة: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، على البناء للمعلوم، ولكن الجمهور على قراءة الأئمة بالبناء للمجهول، وهي الظاهرة على السياق، تركز الإنتباه كله في الموقف: يصدر فيه الناس أشتاتاً، متقودين إلى الحشر.
* * *
المثقال ما يوزن به، وقد ورد اللفظ في القرآن ثماني مرات أضيف في اثنين منها إلى حبة من خردل:
والسياق في الآيتين يرجح، والله أعلم، أن المقصود بمثقال حبة من خردل هنا، ليس بخفة الوزن، وإنما ضآلة الحجم، وأنها في هذا الكون الواسع لا تغيب على علم الله، رغم كونها لضآلتها وهونها مظنة الخفاء.
وفي المرات الست الأخرى، أضيف مثقال ذرة:
سبأ 3: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ومظنة الخفاء، لضآلة الحجم، أقرب فيهما كذلك إلى دلالة السياق. على حين تتعين دلالة {مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} على خفة الوزن في الآيات الأربع التالية:
النساء 40: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} .
وآيتي الزلزلة.
ززاضح أن المقصود بالذرة فيهما خفة الوزن، وقد حاول محاولون أن يعينوا مقدار الذرة على وجه التحديد: ففي (لسان العرب) عن ثعلب: "إن مائة منها، وزن حبة شعير".
وقال أبو حيان في (البحر) : إنها النملة الصغيرة، حمراء رقيقة.
وفي (الكشاف) : "قيل هي النملة الصغيرة، وقيا: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء".
ومثله في تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده.
الأقوال قربية، ولا شيء منها بموضع إنكار كالذي جاء به محدثون من بدع التفسير العصري، فذهبوا إلى أنه الذرة التي أكتشف العلم سرها في القرن العشرين!!
وقد نرى أن تحديد المفسرين للذرة، ليس مراد القرآن ولا هو من مألوف بيانه والعربية قد عرفت الذر في كل ما يمثل الضآلة والصغر وخفة الوزن، تقول: ذررت الملح والدقيق والفتات، نشرته بأطراف الأصابع. والذر الهباء يرى في شعاع الشمس، وبولغ في وصف تناثر النمل الصغير المنبث فقيل: ذر. وفي (لسان العرب) نص صريح على أن "الذرة ليس لها وزن" لفرط صغرها وخفتها.
ونؤثر أن نفهمها بحس العربية على هدى البيان القرآني، دون تكلف لتقدير الأوزان والأحجام والألوان. وما فهم العرب، الذين بعث فيهم رسول
منهم، قوله تعالى:{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلا أنه التناهي في الضآلة والخفة والصغر، حتى ليكون من الهباء الذي لا وزن له.
وهو ما يلائم، مادياً وبياناً، جو الموقف ونسق السياق، من الزلزلة والإنفجار والتفتيت والتشتيت.... فهم يخرجون أثقالاً، ويصدرون أشتاتاً، ويرون أعمالهم مثقال ذرة من خير أو شر.
* * *
ونفرغ بعد هذا لعقدة الموقف في {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يأيتي الزلزلة، وما ثار حوله من خلاف قديم بدأ بتساؤل المفسرين من الفرق وأصحاب الكلام:"للقائل أن يقول: إن حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوة بإجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة للخير والشر؟ ".
ولكي يحلوا عقدة الموقف المفترض، عملوا إلى تأولات شتى، فقال "الزمخشري" - من المعتزلة - بتخصيص العامل في الآيتين، فالمعنى عنده:"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة شراً من فريق الأشقياء".
وقال أبو حيان، وهو ممن مالوا إلى الظاهرية:
"والظاهر تخصيص العامل - في الخير - أي فمن يعمل مثقال ذرة من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميمه في آية {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} لأنه جاء بعد قوله: {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} وقال إبن عباس: هذه الأعمال في الآخرة، قيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه. فالمؤمن تعجل له سيئاته الصغائر في دنياه، في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه".
لكن "الطبرسي" - من الشيعة - في مجمع البيان، ذهب إلى أن "هذه الآية يستدل بها على بطلان الإحباك، فطاهرها يدل على أنه لا يفعل أحد شيئاً من طاعة أو معصية، إلا ويجازى علية".
وهو ما يبدو أن الشيخ محمد عبده أخذ به فقال: "قيل إنها نزلت لإزالة ما وقع في نفوس كثير من المؤمنين. من أن الخير القليل لا ينظر الله إليه ولا يجازى عليه، وكذلك الصغائر من الذنوب، فأزال شبهتهم وكشف عنهم وهمهم، وعرفهم أن لا شيء من عمل الإنسان يفوته، فالخير يجازى به مهما صغر، والشر يلقى جزاءه مهما نزر".
لكن هذا كله لم يحسم الموقف، إذ يواجهه صريح الآيات المحكمات في مغفرة الله تعالى لمن يشاء من عباده:
النساء 48، 116 {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
مما أضطر بعضهم إلى القول بأن "المؤمن يرى عقوبته في الدنيا" أو قيد العقاب بمثقال ذرة، وعلى "ما يفعلون من شر إذا لم يكونوا تابوا عنه".
وما كنا لنطيل الوقوف عند هذا الجدل الذي يبدو مما لا يتعلق به التفسير البياني، لولا أنه يصل بنا أخيراً إلى ما يؤيد دعوتنا الملحة إلى الدرس المنهجي لدلالات الأفاظ القرآنية، وتدبر أسراره البيانية.
* * *
فلنسأل بعد كل ما سمعناه من خلاف تأزم، ومن محاولات عسرة للخروج من المأزق المفترض:
ما الذي أقحم قضية الإحباط ومسألة الحساب على آيتي الزلزلة، وليستا متعلقتين بجزاء أو عقاب؟
نص الآيتين، يغنينا عن كل ذاك العناء، والتدبر الدقيق لبيانه يعفينا من التكلف والتأول، ويريجنا من القيد والتخصيص والتعميم. فالذي في الآيتين أن من يعمل مثقال
ذرة خيراُ أو شراً {يَرَهُ} ولم يقل تعالى: {يجز به أو يحاسب عليه": وفي الآية قبلهما: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} شاهد على أن الموقف متعلق برؤية الإنسان عمله محضراً في دقة "لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".
ثم يكون الحساب والجزاء بعد ذلك بعدل الله وفضله ورحمته، سبحانه:
{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .