الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدْخل
…
مدرسة الدعْوَة
فَضِيلَة الدكتور مُحَمَّد السَّيِّد الْوَكِيل
وَكيل كُلية الحَدِيث الشريف
نشأت الدعْوَة فِي مَكَّة المكرمة، وَكَانَت أول مدرسة لَهَا هِيَ دَار الأرقم بن أبي الأرقم المَخْزُومِي، حَيْثُ كَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يلتقي بالرعيل الأول هُنَاكَ، فيعلمهم العقيدة الصَّحِيحَة، وينتزع مَا بَقِي فِي قُلُوبهم من آثَار الوثنية، ويقتلع من نُفُوسهم قدسية الْأَصْنَام ومنزلتها، ويغرس فِيهَا الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر، وَمَا فِيهِ من الْبَعْث والحساب وَالْجنَّة وَالنَّار إِلَى غير ذَلِك من أصُول العقيدة.
وَقد تميزت مدرسة الدعْوَة بخصائص لم تتوفر لغَيْرهَا، كَانَ لَهَا أكبر الْأَثر على الدعاة، فخرّجت جيلا ضحى فِي سَبِيل الدعْوَة بِمَا يملك من النَّفس وَالْمَال وَالْولد، وَلم يضن عَلَيْهَا بِشَيْء تحْتَاج إِلَيْهِ، كَمَا كَانَ للجهد الْعَظِيم الَّذِي بذله الدعاة نتائج هائلة وثمرات جَيِّدَة، وَبِذَلِك أَصبَحت مدرسة الدعْوَة فِي تِلْكَ الآونة مدرسة فريدة فِي موضوعها، فريدة فِي منهاجها، فريدة فِي نتائجها.
خَصَائِص مدرسة الدعْوَة:
أول هَذِه الخصائص ربانية الْمنْهَج:
لقد كَانَ مَنْهَج هَذِه الْمدرسَة من صنع الله تبارك وتعالى جَاءَ بِهِ جِبْرِيل من عِنْده سُبْحَانَهُ وَحيا يُوحى؛ لهَذَا كَانَ منهجا متكاملا، لم يتْرك مِمَّا يصلح بِهِ البشرية فِي دينهَا ودنياها إِلَّا حث عَلَيْهِ وَأمر بِهِ.
وَكَانَ أول مَا اهتم بِهِ الْمنْهَج هُوَ تَصْحِيح العقيدة من الانحراف الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا، لِأَن الْغَايَة من خلق آدم وَذريته هُوَ تَحْقِيق معنى الْعُبُودِيَّة لله عز وجل فِي الأَرْض، بِاتِّبَاع الْمنْهَج القويم الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاء والمرسلون، وَذَلِكَ بِعبَادة الله - تَعَالَى - وإخلاص الطَّاعَة لَهُ - سُبْحَانَهُ -.
وَكَانَ النَّاس فِي تِلْكَ الآونة من الزَّمَان قد نسوا الْبَعْث، بل أنكروه، كَمَا هُوَ حَالهم فِي فترات الزَّمَان المتباعدة، فَكَانَت الدعْوَة الإسلامية عَاملا مهما من عوامل إيقاظ هَذَا الْمَعْنى فِي النُّفُوس، وركزت عَلَيْهِ تركيزا بِحَيْثُ لم يعد هُنَاكَ مجَال للشَّكّ فِيهِ.
وَقد ثبَّت الْمنْهَج هَذِه العقيدة بأساليب مُخْتَلفَة، فَضرب الْأَمْثِلَة، وانتقل من الْمَعْقُول إِلَى المحسوس، ولفت أنظار النَّاس إِلَى قدرَة الله فِيمَا حَولهمْ وَفِيمَا يجْرِي بَينهم؛ حَتَّى تكون الوقائع الماثلة شاهدة على مَا يُخْبِرهُمْ بِهِ الله فِي كِتَابه على لِسَان نبيه.
وَحَيْثُ كَانَ الْمنْهَج ربانيا فَإِنَّهُ جَاءَ مناسبا لكل زمَان وَمَكَان، لَا يَعْتَرِيه نقص، وَلَا يطْرَأ عَلَيْهِ تَغْيِير، لِأَن صفة الربانية لهَذَا الْمنْهَج تكسبه معنى الصلاحية والثبات، وَكَونه منهجا لآخر رِسَالَة فِي هَذِه الْحَيَاة يكسبه معنى الخلود إِلَى آخر هَذِه الْحَيَاة، فلسنا إِذا فِي حَاجَة إِلَى تَغْيِير من فَتْرَة إِلَى فَتْرَة، وَلَا فِي حَاجَة إِلَى التَّعْدِيل فِيهِ من حِين إِلَى حِين.
وَأما ثَانِيَة الخصائص فَهِيَ جمعهَا بَين مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة:
قد يخْطر بالبال أَن ربانية الْمنْهَج فِي تِلْكَ الْمدرسَة يدل على أَنَّهَا تتَنَاوَل أُمُور الدّين فَقَط، وَلَا تلْتَفت إِلَى الدُّنْيَا فِي قَلِيل أَو كثير، وَالْوَاقِع خلاف ذَلِك؛ فَإِن تِلْكَ الْمدرسَة قد جمعت بَين مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فِي تناسق تَامّ وتوازن عَجِيب، فَلم تتْرك أحد الْجَانِبَيْنِ يطغى عل الآخر، وَلم تهمل شَيْئا مِنْهُمَا على حِسَاب الآخر، ذَلِك لِأَن الْإِسْلَام ينظر إِلَى الدُّنْيَا على أَنَّهَا هِيَ المزرعة الَّتِي يحصد مِنْهَا الْإِنْسَان زَاده للآخرة، بل هِيَ الجسر الَّذِي يعبر عَلَيْهِ ليصل إِلَى مقره الَّذِي يسْعَى جاهدا لبلوغه.
وَمن جَانب آخر فَإِن الْأَعْمَال الدُّنْيَوِيَّة كلهَا تتحول إِلَى أَعمال دينية إِذا حسنت فِيهَا النِّيَّة، فَأَنت تَأْكُل لتعيش فَقَط هَذَا عمل دُنْيَوِيّ صرف، وَأَنت تَأْكُل لتستعين على طَاعَة الله، وَتقوم بواجبك، بِهَذِهِ النِّيَّة يَنْقَلِب الْعَمَل الدنيوي إِلَى عمل ديني لَك أجره ومثوبته، وَأَنت تتَزَوَّج لتَكون رب أسرة وتنجب الْبَنِينَ وَالْبَنَات، وَأَنت نَفسك تتَزَوَّج لتعف نَفسك وتغض
بَصرك وَتحفظ فرجك، أما الزواج الأول فدنيوي صرف، وَأما الثَّانِي فديني صرف، وَكِلَاهُمَا زواج سَتَكُون فِيهِ رب أسرة، وَأَبا للبنين وَالْبَنَات.
وَهَكَذَا كل الْأَعْمَال تَسْتَطِيع أَن تحولها إِلَى أَعمال دينية مهما كَانَت درجتها الدُّنْيَوِيَّة، وَيكون لَك عَلَيْهَا من الْأجر وَالثَّوَاب مثل بَقِيَّة الْأَعْمَال العبادية أَو الدِّينِيَّة الصرفة.
وَبِذَلِك تكون مدرسة الدعْوَة الإسلامية قد مزجت مزجا تَاما بَين أَعمال الدُّنْيَا وَالدّين، ونهجت فِي سَبِيل تَوْحِيد الْأَعْمَال نهجا قويما عبر عَنهُ الْقُرْآن فَقَالَ:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.
ألم تَرَ أَن الْآيَة الْكَرِيمَة جمعت بَين ابْتِغَاء الْآخِرَة، وتذكير الْإِنْسَان بِنَصِيبِهِ من الدُّنْيَا حَتَّى لَا يكون فِي شغله بِطَلَب الْآخِرَة مَا ينسيه نصِيبه من الدُّنْيَا؟
وَنحن نلاحظ فِي الْآيَة أَيْضا أَنَّهَا أمرت بِالْإِحْسَانِ، وَهُوَ من أَعمال الْآخِرَة، وحذرت من الْفساد فِي الأَرْض وَهُوَ من أَعمال الدُّنْيَا.
إِن الْآيَة الْكَرِيمَة قد مزجت بَين الْعَمَل الدائب للآخرة بِكُل أَنْوَاعه، وَبَين الْعَمَل الدنيوي الَّذِي يعود على النَّاس بالنفع وَالْخَيْر، وَإنَّك مهما حاولت التَّأَمُّل فِي الْآيَة لن تشعر بفاصل بَين الْعَمَل للدنيا وَالْعَمَل للآخرة، وَمهما أرهفت حسك الأدبي فَلَنْ تدْرك - مهما بالغت - ثقلا أَو صعوبة فِي الِانْتِقَال من أَعمال الْآخِرَة إِلَى أَعمال الدُّنْيَا، لِأَن الْآيَة الْكَرِيمَة قد ساقتهما فِي نسق وَاحِد، وتأليف فريد.
إِنَّك بحسك الأدبي وذوقك الفني تدْرك أَن موسيقى الْأَلْفَاظ وَاحِدَة فِي الْآيَة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وتقسيم الفواصل لَا يخْتَلف فِيهَا، ونلاحظ أَن أَعمال الْآخِرَة وَردت فِي الْآيَة بِصِيغَة الْأَمر وأعمال الدُّنْيَا جَاءَت بِصِيغَة النَّهْي، وَلَعَلَّ ذَلِك لِكَثْرَة مَا يَقع النَّاس فِي الْمَحْظُورَات؛ فَجَاءَت صِيغَة النَّهْي للتحذير من الْوُقُوع فِي مخالب الدُّنْيَا ومفاتنها الَّتِي تشغل النَّاس عَن أَعمال الْآخِرَة؛ فَنَاسَبَ أَن تَأتي بِصِيغَة الْأَمر لأعمال الْآخِرَة {وَابْتَغِ} .. {وَأَحْسِنْ} ، وناسب أَن تَأتي أَعمال الدُّنْيَا بِصِيغَة النَّهْي {وَلا تَنْسَ} .. {وَلا تَبْغِ} .
1 الْقَصَص الْآيَة77.
وَإنَّك لتلاحظ هَذَا المزج فِي كثير من آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم، وتلمسه وَاضحا فِي قَوْله تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} 1.
فَإِن الْآيَة الْكَرِيمَة جمعت بَين الْعِبَادَة ورمزت لَهَا بِالصَّلَاةِ، وَبَين الْأَعْمَال العادية وأشارت إِلَيْهَا بالنسك وَهُوَ الذَّبِيحَة، ثمَّ أجلات فَجعلت حَيَاة الْمُؤمن ومماته لله، وَذكرت التَّوْحِيد بِنَفْي الشّرك.
وَهَكَذَا تتَنَاوَل الْآيَة أَعمال الدّين الْخَالِصَة، والأعمال الَّتِي هِيَ فِي الأَصْل عمل دُنْيَوِيّ حولهَا الْإِسْلَام إِلَى عبَادَة، ثمَّ ذكر التَّوْحِيد صَرَاحَة وَهُوَ العقيدة الَّتِي لَا يقبل من الْإِنْسَان سواهَا.
وَآيَة أُخْرَى يَقُول تبارك وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2، وَالْآيَة كَمَا ترى تجمع بَين الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أهم أَرْكَان الْإِيمَان بعد الشَّهَادَتَيْنِ، وَبَين الذّبْح الَّذِي هُوَ أَمر لَا حرج على من لم يَفْعَله وَلَا إِثْم، وَالصَّلَاة فِي الْآيَة وَإِن كَانَ الْمَقْصُود بهَا صَلَاة الْعِيد إِلَّا أَنَّهَا من جنس الْفَرِيضَة الَّتِي فَرضهَا الله على الْمُؤمنِينَ، وَهِي فِي الأَصْل عمل ديني لَا يشوبه شَائِبَة من شوائب الدُّنْيَا.
والخصيصة الثَّالِثَة هِيَ تَسَاوِي النَّاس جَمِيعًا أَمَام نظمها: فَلَيْسَ هُنَاكَ عبيد وأحرار، وَلَا سادة وعوام، وَلَا نبلاء ودهماء، بل الْكل فِي ذَات الله سَوَاء، يجمعهُمْ الْإِيمَان بِاللَّه، ويفاضل بَينهم الْعَمَل الصَّالح، ويتنافسون فِي ميدان التَّقْوَى الرحب الفسيح.
وَكَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُول لَهُم: "كلكُمْ بَنو آدم، وآدَم خلق من تُرَاب؛ لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أَو لَيَكُونن أَهْون على الله من الْجعلَان"3.
وَالله عز وجل يَقُول فِي الْقُرْآن الْكَرِيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 4.
1 الْأَنْعَام الْآيَة162،163.
2 الْكَوْثَر الْآيَة2.
3 رَوَاهُ الْبَزَّار.
4 الحجرات الْآيَة13.
وَمَا دَامَ النَّاس كلهم أَوْلَاد آدم عليه السلام فَكيف يفرق بَينهم فِي النّسَب؟ وَكَيف يفخر بَعضهم على بعض؟
وَمَا دَامَ النَّاس جَمِيعًا من أَب وَاحِد وَأم وَاحِدَة فَكيف يسوغ التخاصم والنزاع؟
إِن الأولى للنَّاس جَمِيعًا أَن يتعارفوا وَأَن يأتلفوا، وَأَن يَكُونُوا جَمِيعًا فِي منزلَة وَاحِدَة أَمَام قوانين النظام الَّذِي ردهم على أصلهم، ونهاهم أَن يفتخروا بآبائهم.
النَّاس من جِهَة التَّمْثِيل أكفاء
…
أبوهم آدم وَالأُم حَوَّاء
فَإِن يكن لَهُم فِي أصلهم شرف
…
يفاخرون بِهِ فالطين وَالْمَاء
قَالَ الشَّاعِر:
وَمن أجل تَحْقِيق تِلْكَ الْمُسَاوَاة كَانَت التَّكْلِيف عَامَّة لم يُكَلف بهَا جنس دون جنس، وَكَانَت الْوَاجِبَات عل الْجَمِيع سَوَاء بِسَوَاء لم يعف مِنْهَا أحد مهما كَانَ.
كَذَلِك كَانَت الْمَحْظُورَات مَحْظُورَات على كل الْمُسلمين لم يسْتَثْن مِنْهَا أحد مهما كَانَ شريفا، والمنهيات مُحرمَة على الْجَمِيع لم يعف مها مُسلم قطّ.
وَهَكَذَا كَانَت الْمُسَاوَاة فِي الْحُقُوق والواجبات من خَصَائِص تِلْكَ الْمدرسَة ومميزاتها.
وباجتماع تِلْكَ الخصائص فِي مدرسة الدعْوَة تفوقت الدعْوَة على كل مَا عَداهَا، وأصبحت مدرستها فريدة فِي نهجها، فذة فِي تربيتها، وحيدة فِي تفوق نتائجها.
وَلَقَد أَصبَحت هَذِه الخصائص شعارات لتِلْك الْمدرسَة عرفت بهَا، وغرستها فِي قُلُوب طلابها، فآمنوا بهَا إِيمَانًا أصبح وَاقعا عمليا فِي حياتهم، وَكَانُوا النماذج الْحَيَّة الَّتِي يَرَاهَا النَّاس لتِلْك الدعْوَة بسلوكهم قبل كَلَامهم، وبواقعهم قبل دعايتهم.
وانتظم الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم – فِي تِلْكَ الْمدرسَة، وحرصوا على أَن يتلقوا فِيهَا علومهم، حَتَّى كَانَ الرّجلَانِ المشتركان فِي تِجَارَة أَو نَحْوهَا يتناوبان مجَالِس الْعلم، ويخبر
الْحَاضِر مِنْهُم الْغَائِب بِمَا سَمعه من الْعُلُوم فِي نوبَته فيتعلمه مِنْهُ1.
واستطاع هَؤُلَاءِ الْأَصْحَاب أَن يتحملوا الْأَمَانَة، وَأَن يبلغوها كَمَا حملوها، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يحثهم عل التَّبْلِيغ ويرغبهم فِيهِ وَيُعلمهُم أَن الْمبلغ قد يكون أوعى من السَّامع، وَأَن حَامِل الْفِقْه قد يكون غير فَقِيه، ويخلص من هَذَا إِلَى وجوب التَّبْلِيغ على الْمُسلمين فَيَقُول صلى الله عليه وسلم:"بلغُوا عني وَلَو آيَة"23.
كَمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يبين للْمُسلمين الْأَسْبَاب الداعية إِلَى التَّبْلِيغ الْمُوجبَة للْقِيَام بِهِ فَيَقُول: "نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فحفظه حَتَّى يبلغهُ غَيره، فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ، وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه"1.
وَهَكَذَا يُوضح الرَّسُول صلى الله عليه وسلم منزلَة تَبْلِيغ الدعْوَة ونقلها إِلَى من لم يسْمعهَا، لِأَن الدعْوَة قد تصل عَن طَرِيق الْبَلَاغ إِلَى من يقدرها قدرهَا وَيدْرك مِنْهَا مَا لم يُدْرِكهُ غَيره وَلَو كَانَ سَمعهَا من فَم الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَقد يكون حماس الْمبلغ للدعوة ودأبه على نشرها وحرصه على الْقيام بِحَقِّهَا أعظم مِمَّن سَمعهَا، وَذَلِكَ لِأَن فقهه لأهدافها، وإدراكه لمراميها يشعره بِعظم حَقّهَا عَلَيْهِ، فيبذل من وقته ليبلغها وَمن مَاله لنشرها، وَمن فقهه ليرغب فِيهِ.
وَلَيْسَ أدعى للتضحية فِي سَبِيل المبدأ من فقهه وَالْإِيمَان بِهِ، وَلَيْسَ أقوى للنَّفس وأجرأ للقلب فِي سَبِيل نشر الفكرة من عقيدة تسيطر على صَاحبهَا فتحوله إِلَى حَرَكَة لَا تهدأ، وَعمل لَا يفتر حَتَّى يصل إِلَى غَايَته.
وَلنْ يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا لرجل فهم دَعوته وَأدْركَ عظمتها؛ فَدفعهُ ذَلِك إِلَى الْعَمَل الدائب من أجل تبليغها وإيجاد الْقُلُوب الَّتِي تحملهَا وتضحي فِي سَبِيلهَا.
وَلِهَذَا كَانَ حرص رَسُول الله صلى الله عليه وسلم – على تَبْلِيغ الدعْوَة إِلَى من لم تبلغه، وَحملهَا إِلَى كل مَكَان لَعَلَّهَا تصادف من يعيها، وَيفهم حَقِيقَتهَا، وَيدْرك عظمتها، فيهب لحملها ويتولى الدفاع عَنْهَا حَتَّى ينصرها الله عز وجل.
1 البُخَارِيّ (1/185)
2 رَوَاهُ البُخَارِيّ.
3 رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.