المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصحابة في ميدان الدعوة: - مدرسة الدعوة

[محمد السيد الوكيل]

الفصل: ‌الصحابة في ميدان الدعوة:

‌الصَّحَابَة فِي ميدان الدعْوَة:

شحن الصَّحَابَة رضي الله عنهم تِلْكَ الشّحْنَة الإيمانية العميقة، وخالطت بشاشة الْإِيمَان سويداء قُلُوبهم، وَعَلمُوا أَن من حَقّهَا عَلَيْهِم تبليغها لكل من يلقونه، وَحملهَا إِلَى كل مَكَان يذهبون إِلَيْهِ.

لم يغب عَن الصَّحَابَة أَن الطَّرِيق لن يَخْلُو من عقبات، وَأَن تَبْلِيغ الدعْوَة سيحملهم الْكثير من المشقات، وَأَنَّهُمْ سيواجهون أَصْحَاب عقائد فَاسِدَة يذعنون لَهَا ويدافعون عَنْهَا، وَلم يثنهم ذَلِك عَن حمل العبء الثقيل مضحين بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ، وَجَهْدهمْ وأوقاتهم.

خرج أَبُو بكر رضي الله عنه بعد أَن التقى برَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى عَنهُ أصُول الدعْوَة، فبشر بهَا ودعا إِلَيْهَا كل من يَثِق فِيهِ، وعرضها على أصدقائه فِي أسلوب أخاذ، فَاسْتَجَاب لَهُ جمَاعَة من وجهاء مَكَّة، وآمن على يَدَيْهِ كبار الصَّحَابَة: عُثْمَان بن عَفَّان، الزبير بن الْعَوام، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص، وَطَلْحَة بن عبيد الله.

وَلم يكد هَؤُلَاءِ الأفاضل يعلنون إسْلَامهمْ، ويذعنون للحق الَّذِي دعاهم إِلَيْهِ أَبُو بكر حَتَّى ذهب بهم إِلَى رَسُول الله فأسلموا1.

وَيجْلس أَصْحَاب رَسُول الله يَوْمًا فيتذاكرون قُريْشًا وموقفها من الْإِسْلَام، ويتمنون لَو أَن أحدا يسمعهم الْقُرْآن مَا قد يكون سَببا فِي هدايتهم أَو يغيظهم ويقلقهم، فَيَقُولُونَ: من رجل يسمعهم الْقُرْآن؟ ويتطوع عبد الله ابْن مَسْعُود رضي الله عنه – وَيخَاف عَلَيْهِ أَن يُؤْذِيه الْقَوْم، وَلَيْسَ لَهُ عشيرة تَمنعهُ إِن أرادوه بِسوء.

قَالَ ابْن مَسْعُود: دَعونِي! فَإِن الله سيمنعني.

وَغدا الداعية إِلَى حَيْثُ يجْتَمع الْقَوْم فِي أَنْدِيَتهمْ حول الْكَعْبَة وَقَامَ عِنْد الْمقَام، وَأخذ يَتْلُو سُورَة الرَّحْمَن.

1 ابْن هِشَام (1/232) .

ص: 221

وأنصت أَعدَاء الله إِلَى مَا يردد ابْن مَسْعُود، وتساءلوا فِي دهشة مَاذَا قَالَ ابْن أم عبد؟

وَأجَاب بَعضهم: إِنَّه يَتْلُو بعض مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد، فانهالوا عَلَيْهَا ضربا فِي وَجهه، وَهُوَ يَتْلُو غير مبال بِمَا يَفْعَلُونَ بِهِ، حَتَّى بلغ مِنْهَا مَا شَاءَ الله أَن يبلغ.

وَانْصَرف الداعية الجريء إِلَى أَصْحَابه، وَقد أثر الضَّرْب فِي وَجهه، فرق لَهُ الْمُسلمُونَ، وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي خشينا عَلَيْك، فَقَالَ: مَا كَانَ أَعدَاء الله أَهْون عَليّ مِنْهُم الْآن، وَلَئِن شِئْتُم لأغادينهم بِمِثْلِهَا غَدا، قَالُوا: حَسبك قد أسمعتم مَا يكْرهُونَ2.

ويتوالى الدعاة، وتختلف أساليب التَّبْلِيغ، فَتَارَة تكون بنشر الدعْوَة بِالْكَلِمَةِ وَالتَّفْصِيل، وَتارَة تكون بالتمسك بهَا والإصرار عَلَيْهَا، وَتارَة تكون بِالصبرِ على الْأَذَى فِي سَبِيلهَا، وَتحمل المشقات من أجلهَا.

والأسلوب الْأَخير وَإِن كلف الدعاة كثيرا من الدِّمَاء، وَكَثِيرًا من الْجهد، وَكَثِيرًا من العناء إِلَّا أَنه أثبت أَن للدعوة رجَالًا قد آمنُوا بهَا إِيمَانًا ملك عَلَيْهِم حواسهم ومشاعرهم، وتغلغل فِي قُلُوبهم تغلغلا أنساهم آلامهم، وَمَا يلقون فِي سَبِيلهَا من المتاعب والصعاب.

وَكَثِيرًا مَا يكون الصَّبْر والثبات أبلغ فِي التَّأْثِير من الْكَلِمَة مهما كَانَت بليغة مقنعة، وَكَثِيرًا مَا يذل الصَّبْر والثبات كبرياء الجبارين؛ فيستسلمون أَمَام هَذَا الصمود صاغرين.

لقد أذلّ بِلَال العَبْد الضَّعِيف كبرياء أُميَّة بن خلف، وأرغمه بصبره وثباته على الْحق على أَن يطْلب من أبي بكر شِرَاءَهُ ليخلصه مِنْهُ.

يَقُول ابْن هِشَام: إِن أَبَا بكر مرّ بأمية بن خلف وَهُوَ يعذب بِلَالًا؛ فَقَالَ لَهُ: أَلا تتقي الله فِي هَذَا الْمِسْكِين؟ حَتَّى مَتى؟ 3.

وَكَأن ابْن خلف كَانَ ينْتَظر أَن يَقُول أَبُو بكر ذَلِك، وَكَأَنَّهُ قد نفد صبره، ووهنت عزيمته، وَلم يعد لَهُ قدرَة على التعذيب، لقد صَبر بِلَال صبرا أتعب ابْن خلف

2 ابْن هِشَام (1/275) .

3 نَفسه (1/278) .

ص: 222

وافقده لأمل فِي أَن يستجيب بِلَال لما يعرضه عَلَيْهِ من العودة إِلَى الْكفْر، فاستسلم، وَقد صادفت كلمة الصّديق هوى فِي نَفسه لم يكن ليفصح عَنهُ مَخَافَة أَن يرْمى بالضعف - وَهُوَ السَّيِّد المطاع - أَمَام صَبر هَذَا العَبْد الضَّعِيف، وَلِهَذَا لم يكد الصّديق يلقِي عَلَيْهِ كَلمته حَتَّى قَالَ: أَنْت الَّذِي أفسدته، فأنقذه مِمَّا ترى1.

وإننا لنفهم من كلمة أُميَّة بن خلف أَمريْن هامين جديرين بِالتَّأَمُّلِ:

أما الأول: فَهُوَ أَن الصّديق- رضي الله عنه كَانَ لَا يكف عَن تَبْلِيغ الدعْوَة ونشرها فِي كل الأوساط، السَّادة وَالْعَبِيد، والأغنياء والفقراء؛ وَلِهَذَا يرميه ابْن خلف بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أفسد بِلَالًا.

وَأما الثَّانِي: فَهُوَ إفلاس ابْن خلف أَمَام صَبر بِلَال، وعجزه عَن الِاسْتِمْرَار فِي التعذيب، ورغبته فِي التَّخَلُّص من هَذَا المأزق الَّذِي انحدر إِلَيْهِ، وَلم يعد قَادِرًا على التَّخَلُّص مِنْهُ، نلمس ذَلِك فِي قَوْله لأبي بكر: فأنقذه مِمَّا ترى.

إِن ابْن خلف لَو بَقِي لَدَيْهِ شَيْء من الأمل فِي عودة بِلَال إِلَى الْكفْر لما ضحى بِهِ، ولظل يعذبه حَتَّى يُحَقّق ذَلِك الأمل، لِأَنَّهُ يعلم تَمام الْعلم أَن انْتِقَال بِلَال إِلَى بَيت أبي بكر يضمن لَهُ الْحَيَاة الهادئة فِي ظلّ العقيدة الَّتِي يحاربها، ويعذبه من أجل تَركهَا والعدول عَنْهَا.

وَهَكَذَا يكون بِلَال رضي الله عنه قد أذلّ كبرياء ابْن خلف بصبره، وأرغمه على الاستسلام لما يُرِيد بثباته.

ولندع هَذَا المشهد المثير لنقف أَمَام مشْهد أَكثر إثارة وأعجب مِنْهُ دهشة، إِنَّه مشْهد امْرَأَة ضَعِيفَة تقهر كبرياء رجل قَاس عنيد، أما الْمَرْأَة فَهِيَ جَارِيَة بني مُؤَمل، وَأما الرجل فَهُوَ عمر بن الْخطاب.

لقد ظلّ عمر يعذب تِلْكَ الْجَارِيَة المسكينة ليصرفها عَن دينهَا ويردها إِلَى الشّرك والوثنية، وَلَكِن الْجَارِيَة أَبَت العودة إِلَى الْكفْر وأصرت على الْإِيمَان بِاللَّه وَحده، وَيسْتَمر عمر فِي تَعْذِيب الْمَرْأَة وتزداد ثباتا وتمسكا.

1 ابْن هِشَام (1/178) .

ص: 223

وَهَا نَحن نرى عمر يكل ويتعب، وَلَكِن صَبر امْرَأَة وثباتها لم يضعفا وَلم يهنا.

والمشهد يصور لنا ابْن الْخطاب وَهُوَ لَا يزَال على الشّرك جَالِسا ليستريح مِمَّا أَصَابَهُ من التَّعَب والإرهاق، يلتقط أنفاسه التقاطا كَأَنَّهُ عَائِد من معركة مَعَ خصم ذِي بَأْس شَدِيد.

وَفِي الْجَانِب الآخر نشاهد الْجَارِيَة وَقد لاذت بإيمانها، واعتصمت بعقيدتها واقفة كالطود لم ينل مِنْهَا الْأَذَى إِلَّا كَمَا ينَال من الصَّخْرَة حِين يقرعها الوعل بقرنه.

وَيعْتَذر عمر بن الْخطاب لجارية آسفا لعدم قدرته على التعذيب أَكثر من ذَلِك؛ فَيَقُول: إِنِّي أعْتَذر إِلَيْك، إِنِّي لم أتركك إِلَّا ملالة1.

وَترد عَلَيْهِ الْجَارِيَة فِي استعلاء الْمُؤمن بإيمانه: واعتزازه بعقيدته فَتَقول: كَذَلِك فعل الله بك2.

لَا شكّ أَنه مشْهد يثير الْعجب، وَيبْعَث على الدهشة؛ عمر بن الْخطاب يضعف أَمَام امْرَأَة!، المعذب يُصِيبهُ الْملَل والتعب، والمعذبة لَا تسترحمه وَلَا تستعطفه!، المعذب يعْتَذر لعدم قدرته على التعذيب أَكثر من ذَلِك، والمعذبة مستعدة لتحمل أَكثر من ذَلِك فِي سَبِيل عقيدتها وَمن أجل إيمَانهَا!.

ويستسلم عمر ابْن لخطاب الْقوي الْجَبَّار أَمَام صمود الْجَارِيَة الضعيفة.

وَالْحق أَن الْمَسْأَلَة لَيست مَسْأَلَة عمر وَالْجَارِيَة، وَلَا هِيَ مَسْأَلَة قُوَّة وَضعف، وَلكنهَا فِي حَقِيقَتهَا مَسْأَلَة الْإِيمَان وَالْكفْر، وقصة الْإِيمَان وَالْكفْر بعيدَة الأغوار فِي أعماق التَّارِيخ، لَا يَخْلُو مِنْهَا جيل من الأجيال مُنْذُ خلق الله الْإِنْسَان.

نرى صور تِلْكَ الْقِصَّة، تَتَكَرَّر متماثلة مَعَ اخْتِلَاف الزَّمَان والأجيال يبدؤها ولدا آدم عليه السلام وتتكرر مَعَ نوح وَقَومه، ثمَّ مَعَ إِبْرَاهِيم والنمرود، وتتضح معالمها فِي قصَّة مُوسَى مَعَ فِرْعَوْن؛ حَيْثُ يتحدّى السَّحَرَة الْعَزْل فِرْعَوْن، ويصرون على إِيمَانهم بعد أَن هدَاهُم الله إِلَيْهِ، وذاقوا لذته، يهددهم فِرْعَوْن بِعَذَاب تقشعر مِنْهُ الْأَبدَان؛ {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} 3.

ويظن فِرْعَوْن أَنهم سينزعجون من هَذَا التهديد، وَأَنَّهُمْ سيخرون بَين يَدَيْهِ ساجدين خوفًا من الْعَذَاب، وَنسي أَن الْإِيمَان قد اسْتَقر فِي قُلُوبهم فَأَصْبحُوا بفضله قَادِرين على الصمود

1 ابْن هِشَام (1/278) .

2 نَفسه.

3 سُورَة طه الْآيَة71.

ص: 224