المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدعوة تواجه التيارات المضادة: - مدرسة الدعوة

[محمد السيد الوكيل]

الفصل: ‌الدعوة تواجه التيارات المضادة:

فِي وَجه الْكفْر، وأصبحت عقيدتهم أعز عَلَيْهِم من حياتهم، فَأَجَابُوا على التهديد بالصمود، وعَلى الْوَعيد بالتحدي {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 4.

ويفاجأ فِرْعَوْن المتغطرس بِهَذَا التحدي مِمَّن كَانُوا بالْأَمْس عبيدا لَهُ؛ فينخلع قلبه، ويطيش صَوَابه، وَلكنه لم يسْتَطع أَن يمْضِي وعيده، وَلَا أَن ينفذ تهديده، وَكَانَ كعادته يتوعد وَيقف عِنْد هَذَا الْحَد وَلَا يتعداه.

وَسِيَاق الْآيَات الكريمات لَا يُعْطي مدلولا وَاضحا لنتيجة هَذَا التهديد، هَل نفذ فِرْعَوْن وعيده، أم تراجع أَمَام هَذَا التحدي، وبلع رِيقه أَمَام هَذَا الصمود، وَزعم أَن أَتْبَاعه هم حالوا بَينه وَبَين التَّنْفِيذ، كَمَا حكى عَنهُ الْقُرْآن حِين قَالَ:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} 5.

إِن فِرْعَوْن يزْعم أَن أَتْبَاعه هم الَّذين يحولون بَينه وَبَين قتل مُوسَى، ولولاهم لقَتله، فَهُوَ يَقُول لَهُم:{ذَرُونِي} أَي اتركوني؛ وَالْحق أَن أحدا لم يمنعهُ، وَلم يكن فِي رَعيته من يَسْتَطِيع أَن يمنعهُ أَو أَن يحول بَينه وَبَين تَنْفِيذ مَا يُرِيد، وَلَكِن بهت أَمَام تحدي الْإِيمَان وصمود الْمُؤمنِينَ.

وَالَّذِي يَبْدُو من سِيَاق الْآيَات أَن فِرْعَوْن هدد وَلم ينفذ، وتوعد وَتوقف، حَيْثُ لم تشر الْآيَات إِلَى مصير السَّحَرَة الَّذين آمنُوا بِرَبّ هَارُون مُوسَى.

وَالَّذِي يظْهر كَذَلِك أَن فِرْعَوْن انهزم نفسيا أَمَام تحدي السَّحَرَة واستهانتهم بِمَا توعدهم بِهِ، فَلم يقدر على أَكثر من القَوْل.

وَهَكَذَا تَتَكَرَّر الصُّورَة، وَلَا تزَال تَتَكَرَّر حَتَّى يَرث الله الأَرْض وَمن عَلَيْهَا.

وَهَكَذَا يقف الدعاة فِي وَجه الظُّلم والطغيان، ويعلنون فِي ميدان الدعْوَة إِيمَانهم الْحق، وتحديهم للباطل، وصبرهم على الْأَذَى فِي سَبِيل الله حَتَّى يتَحَقَّق لَهُم النَّصْر.

ص: 225

‌الدعْوَة تواجه التيارات المضادة:

دأبت مدرسة الدعْوَة على تَخْرِيج دعاة مسلحين بسلاحين مهمين فِي حَيَاة الدعاة وهما: الْإِيمَان وَالْعلم.

وَالْإِيمَان سلَاح لَا يُغني عَنهُ سلَاح مهما كَانَ، إِذْ هُوَ الدرْع الواقي من هجمات الْأَعْدَاء، وكنز لَا ينْفد فِي إمداد الدعاة بِالصبرِ على الْأَذَى، والثقة فِي الله، والصمود فِي وَجه الطغاة.

4 طه الْآيَتَانِ72،73.

5 غَافِر الْآيَة26.

ص: 225

أما الْعلم فَهُوَ الْفِقْه الدَّقِيق فِي أهداف الدعْوَة ووسائلها، وَكَيْفِيَّة تبليغها والحرص على نشرها، وَالْفِقْه فِي الدعْوَة بِهَذَا الْمَفْهُوم أَمر وَاجِب على الدعاة.

فالدعاة مهما كَانَت جرأتهم فِي الْحق، وقدرتهم على المواجهة، وصبرهم على الْأَذَى، وصمودهم فِي ميدان الدعْوَة؛ فَإِن ذَلِك لَا يسد مسد الْفِقْه فِي الدعْوَة وَالْعلم بدقائقها وطرق تبليغها، وَلَئِن كَانَت هَذِه الْأُمُور ضَرُورِيَّة للدعاة فَإِن الْفِقْه فِي الدعْوَة من أهم الضروريات.

إِن فهم الداعية لحقيقة دَعوته هُوَ الَّذِي يُمكنهُ من تبليغها، ويجعله قَادِرًا على رد الشُّبُهَات عَنْهَا، وتفنيد افتراءات المبطلين الَّذين لَا يكفون عَن إثارة الشُّبُهَات، وإشعال الْفِتَن، وإلصاق التهم، وتجريح الأبرياء.

وَليكن مَعْلُوما لَدَى الدعاة إِلَى الله أَن الحماس للحق لَا يُغني غناء الْفِقْه، وَأَن الجرأة فِي التَّبْلِيغ لَا تسد مسد الْفَهم، وَأَن الصَّبْر على الْأَذَى لَا يقوم مقَام الْعلم، وَلِهَذَا وجدنَا الدعاة فِي ميدان الدعْوَة يواجهون أعداءهم بالحجج الَّتِي تدحض باطلهم، والأدلة الَّتِي تدعم دعوتهم، فِي مُوَاجهَة خصومهم، والبراهين الَّتِي تمكنهم من كشف زيف الْبَاطِل الَّذِي يقف فِي طَرِيق دعوتهم.

وَلَقَد كَانَ هَذَا الْفِقْه للدعاة أمضى من الأسلحة فِي أَيدي الْمُحَاربين؛ اقتحموا بِهِ الْعُقُول فأذعنت للحق، وطرقوا بِهِ الْقُلُوب فَلَانَتْ لذكر الله.

إِن أَي دَعْوَة لَا تمد دعاتها بالفقه فِي مبادئها، والفهم لغايتها ووسائلها لهي دَعْوَة مَحْكُوم عَلَيْهَا بالفشل، لِأَن مشكلات الدعاة لَا تحل عَن طَرِيق السَّيْف بِقدر مَا تحل عَن طَرِيق الْإِقْنَاع والفهم، وَلِأَن الدعْوَة إِذا اسْتَقَرَّتْ فِي الْقلب يعجز السَّيْف عَن إخْرَاجهَا مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم الْحَقِيقِيّ لقَوْله تبارك وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1.

إِن الْفِقْه الدَّقِيق لأسرار الدعْوَة وأهدافها، وَالَّذِي يَسْتَطِيع الداعية عَن طَرِيق إقناع خَصمه، وَإِزَالَة الأباطيل من رَأسه؛ لَهو السِّلَاح الْحَقِيقِيّ الَّذِي يجب أَن يتسلح بِهِ الدعاة؛ لِأَن الدعْوَة لابد أَن تواجهها تيارات مضادة وأفكار معادية، وَمن الْمَعْلُوم أَن الفكرة لَا تحارب بِالسَّيْفِ مهما كَانَت بَاطِلَة، وَأَن العقيدة لَا تقاوم بالقهر وَلَو كَانَت فَاسِدَة؛ وَمن أجل هَذَا كَانَ الْفِقْه وَمَعْرِفَة كَيْفيَّة إقناع الْخصم أجدى على الدعْوَة من السَّيْف والمدفع.

وَمَعَ أَن الدعْوَة لَا تَسْتَغْنِي مُطلقًا عَن السَّيْف والمدفع - إِذْ هما الْوَسِيلَة الفعالة لإقناع

1 سُورَة النَّحْل الْآيَة125.

ص: 226

المعاندين والجاحدين، وإخضاع الطغاة وَالْمُتَجَبِّرِينَ - إِلَّا أَن الْفِقْه والإقناع نتائجهما أعظم وفوائدهما أَكثر.

ولكي ندرك تِلْكَ الْحَقِيقَة سنسوق هُنَا نماذج من حَيَاة الدعاة فِي العصور الْمُخْتَلفَة؛ لنرى كَيفَ كَانَت الْحجَّة والبرهان وَالْفِقْه والإقناع هِيَ الْوَسَائِل الَّتِي كَانَ يستعملها الدعاة، حَتَّى إِذا مَا استعصى الْأَمر ونفد الصَّبْر لم يكن بعد ذَلِك إِلَّا السَّيْف

وَالنَّاس إِن ظلمُوا الْبُرْهَان واعتسفوا

فالحرب أجدى على الدُّنْيَا من السّلم

1-

فِي عصر مُوسَى: أرسل الله عز وجل مُوسَى إِلَى فِرْعَوْن، وَأمره أَن يطْلب من فِرْعَوْن أَن يتْرك بني إِسْرَائِيل ليذهبوا مَعَه، ويحررهم من عبوديتهم لَهُ، وَلَكِن فِرْعَوْن لج فِي العناد، وهدد مُوسَى بالسجن وَالْعِقَاب {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2.

وَإِن المتدبر لتِلْك الْآيَة الْكَرِيمَة ليلمح فِيهَا تهديدا رهيبا، كَمَا يلمس من التَّعْبِير {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} أَن سجون فِرْعَوْن كَانَت مَمْلُوءَة بالمظلومين من أَمْثَال مُوسَى عليه السلام حَيْثُ يُفِيد التَّعْبِير أَن مُوسَى سَيكون وَاحِدًا من المسجونين الكثيرين، وَلنْ يضير فِرْعَوْن أَن يُضَاف سِجِّين جَدِيد إِلَى الْأَعْدَاد الهائلة الَّتِي تغص بهَا سجونه.

ومُوسَى عليه السلام – لَا يعبأ كثيرا بِهَذَا التهديد المخيف، مَعَ أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مَا يكون عَادَة فِي سجون الظَّالِمين من النكال والتعذيب، وبخاصة وَقد سبقه يُوسُف عليه السلام – فسجن فِي أحد سجون الفراعنة ظلما بعد مَا تبينت بَرَاءَته، ولبث فِي السجْن بضع سِنِين، وَلكنه خرج مِنْهُ موفور الْكَرَامَة، مَحْمُود السِّيرَة، مَرْفُوع الرَّأْس، حَيْثُ نَصبه فِرْعَوْن الَّذِي سجنه وزيرا على خَزَائِن الأَرْض، فَمَاذَا يضير مُوسَى عليه السلام لَو أَدخل سجن فِرْعَوْن؟ وَهل نَالَ السجْن من عَزِيمَة يُوسُف شَيْئا حَتَّى ينَال من عَزِيمَة مُوسَى؟ وماذا لَو سجن وَاتخذ من السجْن ميدانا لنشر الدعْوَة؟ ألم يفعل ذَلِك يُوسُف من قبل حِين قَالَ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1.

لم يلْتَفت مُوسَى عليه السلام إِلَى هَذَا التهديد الأجوف، وتذرع بالحلم، وَقَالَ لفرعون فِي هدوء: أتسجنني وَلَو جئْتُك بِآيَة بَيِّنَة تثبت لَك صدق دعواي؟ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}

2 الشُّعَرَاء الْآيَة29.

1 سُورَة يُوسُف الْآيَة39.

2 الشُّعَرَاء الْآيَة30

ص: 227

ويتظاهر فِرْعَوْن بِأَنَّهُ لَا يرفض الْبُرْهَان، وَأَنه مستعد للإذعان للحق مَتى مَا أثْبته بِبَيِّنَة مَقْبُولَة؛ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 3.

وَهنا يظْهر مُوسَى عليه السلام من المعجزات مَا لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا جَاحد عنيد؛ فيحول الْعَصَا حَيَّة تسْعَى، وَيخرج يَده بَيْضَاء مشعة يَرَاهَا كل من نظر إِلَيْهَا بعكس مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الأَصْل من الأدمة - أَي السمرَة -.

ويتنكر فِرْعَوْن لما وعد بِهِ، ويوحي إِلَى الْمَلأ حوله أَن الَّذِي رَأَوْهُ إِنَّمَا هُوَ سحر، وَأَن مُوسَى سَاحر بارع.

وَنحن نلاحظ فِي الْآيَات الَّتِي قصها الْقُرْآن الْكَرِيم علينا أَن مُوسَى لم يواجه فِرْعَوْن بِالسِّلَاحِ، وَلم يذهب إِلَيْهِ بِجَيْش ليجبره على الدُّخُول فِي دينه، مَعَ علمه تَمام الْعلم أَن فِرْعَوْن ظَالِم جَبَّار، وَأَنه لن يسلم للحجة والبرهان، وَمَعَ هَذَا لم يكن مَعَه سلَاح إِلَّا الْحجَّة والبرهان.

ويخلف مُوسَى رجلا من آل فِرْعَوْن، يقوم فيهم دَاعيا إِلَى الله حِين همّ فِرْعَوْن أَو هدد بقتل مُوسَى، ونرى فِي دَعوته حجَجًا عقلية يذعن لَهَا الْعُقَلَاء، ويستجيب لَهَا أولو الْأَبْصَار، وَالْقُرْآن الْكَرِيم يَحْكِي لنا مَا حَاج بِهِ قومه، فَلَا نرى فِي تهديدا بِالْقُوَّةِ، أَو إرهابا بِالسِّلَاحِ قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} 4.

لقد كَانَت تِلْكَ الْحجَج كَافِيَة لإقناع فِرْعَوْن، وَإِظْهَار الْحق لَهُ بعد أَن تجاهله، وَلَكِن العناد والجحود حَالا بَينه وَبَين الْحق، فلج فِي طغيانه، وَلم يسْتَطع أَن يرد على الْحجَّة بِالْحجَّةِ، فَقَالَ قولة الْعَاجِز المفحوم:{مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 5.

وَيتْرك الداعية فِرْعَوْن سادرا مَعَ غيه، لاجا فِي عناده، ويلتفت إِلَى قومه مشفقا عَلَيْهِم، حَرِيصًا على هدايتهم، فيذكرهم بِمَا حدث للأمم السالفة، وَمَا ينتظرهم يَوْم الْقِيَامَة إِذا هم لم يطيعوا رَسُول الله مُوسَى- عليه السلام.

لقد تفنن الداعية فِي عرض حججه؛ فساقها مرّة فِي صُورَة اسْتِفْهَام، وَمرَّة فِي صُورَة الدَّلِيل الْعقلِيّ؛ فَأمر مُوسَى لَا يَخْلُو من أَن يكون صَاحبه كَاذِبًا أَو صَادِقا: فَإِن كَانَ كَاذِبًا فسيعود

3 الشُّعَرَاء الْآيَة31.

4 سُورَة غَافِر الْآيَتَانِ28،29.

5 غَافِر الْآيَة29.

ص: 228

عَلَيْهِ ضَرَر كذبه، وَإِن كَانَ صَادِقا ينزل بكم بعض مَا تهددكم بِهِ.

وَمرَّة ثَالِثَة يخوفهم من بَأْس الله، وَمِمَّا حل بالأمم قبلهم، ثمَّ يلْتَفت إِلَى قومه وَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُم: لَا تسمعوا لفرعون فَإِنَّمَا يُرِيد لكم الدمار والهلاك، {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 1.

ثمَّ يتعجب من إصرارهم على الْبَاطِل، وإلحاحهم عَلَيْهِ فِي قبُوله، فَيَقُول:{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} 2، وَيثبت لَهُم بالأدلة المنطقية أَن الَّذِي يَدعُونَهُ لعبادته لَيْسَ لَهُ دَعْوَة وَلَا يَسْتَطِيع الْإِجَابَة لمن دَعَاهُ، ثمَّ يعْذر إِلَيْهِم بقوله:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 3.

2-

فِي عصر عِيسَى: ويمضي الزَّمن سَرِيعا، ورسل الله تترى لَا يَخْلُو مِنْهَا جيل، والدعاة يتابعون عرض دعوتهم، ويعملون على نشر فكرتهم، فَيُرْسل عِيسَى- عليه السلام الدعاة إِلَى الْقرى النائية يدعونَ أَهلهَا إِلَى الدّين الصَّحِيح، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُون، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4.

وَفِي هَذِه الْقرْيَة يتَعَرَّض الدعاة للتكذيب، فيحاولون دفع هَذَا الاتهام، والمدعوون يصرون على تكذيبهم، وَكَأَنَّهُم كَانُوا ينتظرون أَن يكون الدعاة من الْمَلَائِكَة أَو من جنس آخر غير الْجِنْس الْآدَمِيّ فَقَالُوا:{مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، وجهلوا أَن الدعاة لابد أَن يَكُونُوا من جنس المدعوين، وَإِلَّا لما اسْتَجَابُوا لَهُم، وَلَا فَهموا عَنْهُم، وَلَا اسْتَطَاعُوا التلقي عَنْهُم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} 5.

وَلما كَانَ ذَلِك غير مُمكن - لِأَن النَّاس لَا يَسْتَطِيعُونَ مُوَاجهَة الْمَلَائِكَة، وَلَا يُطِيقُونَ الِاسْتِمَاع إِلَيْهِم - أخبر سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ وَلَو أرسل ملكا لابد أَن يكون على هَيْئَة الْآدَمِيّين؛ ليتَمَكَّن من التَّبْلِيغ دون أَن ينفر مِنْهُ النَّاس، وليتلقى مِنْهُ النَّاس دون صعوبة أَو عناء.

وَمن أجل هَذَا أخبر الله عز وجل بِأَنَّهُ لَو أرسل ملكا لجعله على صُورَة الْبشر حَتَّى يتمكنوا من رُؤْيَته؛ إِذْ لَا قبل للبشر بِرُؤْيَة الْمَلَائِكَة، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

1 غَافِر الْآيَة38.

2 غَافِر الْآيَة41.

3 غَافِر الْآيَة44.

4 سُورَة يس الْآيَات13-17.

5 الْإِسْرَاء الْآيَة95.

ص: 229

مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 1.

ونلاحظ أَن الدعاة لم يكن لديهم إِلَّا محاولة إقناعهم، فَلَمَّا أَعرضُوا ولجوا فِي طغيانهم قَالَ لَهُم رسل عِيسَى عليه السلام {وَمَا عَلَيْنَا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، نَحن لَا نملك قهركم على الْحق، وَلَا نستطيع إرغامكم على الْإِيمَان بِهِ، وَإِنَّمَا نحاول إقناعكم، ونعمل مُخلصين على إرشادكم، وَلكم بعد ذَلِك الْخِيَار فِيمَا تختارون.

وَيطول الحوار، والدعاة يواجهون المضادة بِالصبرِ والحلم محاولين إِظْهَار الْحق فِي صور من المناقشة المتبادلة بَين الْفَرِيقَيْنِ.

يَقُول أَصْحَاب التيارات المضادة: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

ويجيبهم الدعاة قائلين: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 3.

وَترى وَاضحا فِي كَلَام المدعوين أَنهم يتعللون بأوهام وأباطيل، ويحاولون لصق التهم بالدعاة، زاعمين أَن مَا يحل بهم من الْبلَاء إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب وجود الدعاة بَينهم، وينسون أَنهم بابتعادهم عَن الْحق، وعداوتهم لأَهله، وإسرافهم فِي الغي يسْتَحقُّونَ مَا هم فِيهِ من الْبلَاء، بل وَأكْثر مِنْهُ.

ثمَّ نرى مِنْهُم لجوءا إِلَى حيل المفلسين من الْبَرَاهِين، والمصرين على الضلال من غير أَن يكون لديهم عَلَيْهِ حجَّة، فيهددون الدعاة باتخاذ أبشع أَنْوَاع التعذيب.

وَلَكِن الدعاة لَا يلتفتون إِلَى مثل ذَلِك التهديد، فهم يسمعونه فِي كل يَوْم، وهم مُؤمنُونَ بِأَنَّهُم لن يصيبهم إِلَّا مَا قدر لَهُم، ويعتقدون أَن أقْصَى مَا ينزل بهم هُوَ الْعَذَاب حَتَّى الْمَوْت، وَتلك هِيَ الشَّهَادَة الَّتِي يتمناها الدعاة المخلصون، لِأَنَّهَا تقربهم من غايتهم، حَيْثُ لَا يروي شَجَرَة النَّصْر إِلَّا الدِّمَاء، وَلَا يكْتب للدعوة النجاح إِلَّا إِذا قدمت الشُّهَدَاء، وَتلك سنة الله، وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا.

وَلِهَذَا يحاول الدعاة رد الْأُمُور إِلَى أُصُولهَا، ويبينون أَن مَا ينزل بِالنَّاسِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب انصرافهم عَن الْحق، ولجاجهم فِي الْبَاطِل؛ فَيَقُولُونَ فِي هدوء الواثق من الْحق، وطمأنينة الْمُؤمن بِالْقضَاءِ وَالْقدر:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، لسنا نَحن سَبَب مَا نزل بكم من الْقَحْط وَقلة الْمَطَر وَلَكِنَّكُمْ أسرفتم فِي الضلال، وتماديتم فِي الْبَاطِل؛ فاستوجبتم مَا حل بكم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .

1 الْأَنْعَام الْآيَتَانِ8،9.

2،3 سُورَة يس الْآيَتَانِ18،19.

ص: 230

وتقف الْآيَات عِنْد هَذَا الْحَد، فَلَا تَتَكَلَّم عَن مصير الدعاة، وَلَا تبين مَاذَا تمّ على أَيْديهم، وَالَّذِي يظْهر من السِّيَاق أَنهم انصرفوا رَاجِعين من حَيْثُ أَتَوا وَقد بلّغوا، وَلَيْسَ عَلَيْهِم إِلَّا ذَلِك {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلاغُ} 4.

ويخلف رسل عِيسَى رجل من أهل الْقرْيَة فهِم الدعْوَة وآمن بهَا، وأيقن أَن من حَقّهَا عَلَيْهِ أَن يحملهَا إِلَى النَّاس، وَأَن يَدْعُو بهَا من لَا يُؤمن بهَا، فَلَمَّا بلغه أَن أهل الْقرْيَة عصوا الدعاة، وَلم يدخلُوا فِي دعوتهم أقبل مسرعا، ودعا قومه إِلَى الطَّاعَة وَالْإِيمَان، وواجه عنادهم بِالْحجَّةِ والبرهان، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.

ونلمح من خلال الْآيَات أَن قوم الرجل أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَلَامه واتهموه بالمروق، وَكَأَنَّهُم سَأَلُوهُ: هَل أَنْت على دينهم؟ فَقَالَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2.

إِن الداعية - حسب سِيَاق الْآيَات - قد فهم دَعوته فهما دَقِيقًا مكنه من شرحها لهَؤُلَاء المنكرين، أما ترَاهُ يُقرر الوحدانية بأسلوب منطقي فريد؟، وَيثبت بطلَان الشّرك ببراهين محسوسة لَا ينكرها إِلَّا معاند متغطرس؟، ثمَّ يبين أَن من يفعل ذَلِك فَهُوَ فِي ضلال مُبين وَلَو كَانَ هُوَ الداعية نَفسه.

وَهَكَذَا يُقيم عَلَيْهِم الْحجَّة، ويلزمهم بالبرهان، فَلَا يكادون ينطقون.

3-

وَفِي عصر خَاتم النَّبِيين: تمْضِي المسيرة الْمُبَارَكَة إِلَى غايتها، غير عابئة بِمَا يواجهها من مؤامرات الحاقدين، وَلَا مكترثة بافتراءات المفترين، يَقُودهَا خَاتم النَّبِيين، وترعاها عناية رب الْعَالمين.

وتظل الدعْوَة فِي طورها السّري ثَلَاث سِنِين، وَهُوَ طور التربية والتعليم، يخرج بعده الدعاة وَقد فقهوا دعوتهم، واستنارت بصيرتهم، وعقدوا الْعَزْم على نصْرَة الْحق مهما طَالَتْ محنتهم.

4 الشورى الْآيَة48.

1 يس الْآيَتَانِ20،21.

2 يس الْآيَات22،24.

ص: 231

وتواجه الدعْوَة الْفتية التيارات المضادة {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} 3، ويتذرع الدعاة بالحلم وَالصَّبْر، ويقابلون الفكرة بالفكرة، ويقرعون الْحجَّة بِالْحجَّةِ.

وَنحن قد رَأينَا نماذج رائعة من ثبات الدعاة وتحملهم، وسنعرض هُنَا نماذج حَيَّة لأساليب نشر الدعْوَة فِي مُوَاجهَة الأفكار المعادية، وَفقه الدعاة وطرق إقناع الْخصم.

أ- الطُّفَيْل بن عَمْرو: أسلم الطُّفَيْل لما الْقُرْآن الْكَرِيم من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رغم تحذير قُرَيْش إِيَّاه من سَمَاعه، حَتَّى وضع فِي أُذُنَيْهِ الْقطن.

وَلم يكد يسْتَقرّ الْإِيمَان فِي قلبه حَتَّى اسْتَأْذن من رَسُول الله فِي الذّهاب إِلَى قومه لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام، فَأذن لَهُ، وَبَدَأَ الطُّفَيْل بِأَبِيهِ فَأسلم، وثنى بزوجه فَلم تخَالفه، ثمَّ توجه إِلَى قومه فأبطأوا عَلَيْهِ، وَلكنه لم ييأس.

يَقُول ابْن هِشَام: (قَالَ - الطُّفَيْل -: فَلم أزل فِي أَرض دوس أدعوهم إِلَى الْإِسْلَام.. حَتَّى نزلت الْمَدِينَة بسبعين أَو ثَمَانِينَ بَيْتا من دوس، ثمَّ لحقنا برَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَر؛ فَأَسْهم لنا مَعَ الْمُسلمين)1.

وَالَّذِي يلفت النّظر فِي قصَّة الطُّفَيْل موقفان لابد من تجليتهما؛ حَتَّى يتَعَلَّم الدعاة كَيفَ يدعونَ إِلَى الله:

الأول: لما أَبْطَأَ قوم الطُّفَيْل فِي الدُّخُول فِي الْإِسْلَام ذهب إِلَى رَسُول الله، وَطلب مِنْهُ أَن يَدْعُو عَلَيْهِم، فَدَعَا لَهُم الرَّسُول قَائِلا: اللَّهُمَّ اهد دوسا، وَأمر الطُّفَيْل أَن يرجع إِلَى قومه، وَأَن يَدعُوهُم ويرفق بهم، فَرجع حَتَّى كَانَ إسْلَامهمْ على يَدَيْهِ2.

وَمن هُنَا يجب أَن يتَعَلَّم الدعاة أَن النَّاس لَا يستجيبون لأوّل وهلة، لِأَن لَهُم عقيدة يتعلقون بهَا؛ فلابد من الصَّبْر عَلَيْهِم والرفق بهم، حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم الْحق، وَحِينَئِذٍ يُسَارِعُونَ إِلَيْهِ.

الثَّانِي: أَن الْإِيمَان لما اسْتَقر فِي قلب الطُّفَيْل خرج مِنْهُ الْخَوْف من تِلْكَ الْآلهَة الَّتِي كَانَ يَعْبُدهَا، فَلم يعد يحفل بهَا وَلم يعد لَهَا مكانتها فِي نَفسه، وَنحن نلمس ذَلِك عِنْدَمَا أَمر زوجه أَن تذْهب إِلَى حمى الصَّنَم الَّذِي كَانُوا يعبدونه فتغتسل هُنَاكَ حَتَّى يعرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام.

3 الْأَحْزَاب الىية62.

1 ابْن هِشَام (2/24) .

2 نَفسه.

ص: 232

قَالَت زوجه: بِأبي أَنْت وَأمي، أتخشى على الصبية من ذِي الشرى - الصَّنَم - شَيْئا؟ قَالَ: لَا، أَنا ضَامِن لذَلِك3.

لقد أصبح ذُو الشرى - ذَلِك الصَّنَم الَّذِي كَانَ يعظمه الطُّفَيْل ويرهبه - حجرا لَا يضر وَلَا ينفع، وَأصْبح الطُّفَيْل يزدريه ويحتقره، بل ويحتقر أُولَئِكَ الَّذين لَا يزالون يعظمونه، وَيدعونَ لَهُ مكانة تعدل مكانة الْإِلَه، وَهُوَ لَا يعدو أَن يكون حجرا قطعوه من الْجَبَل، وصنعوه بِأَيْدِيهِم، ثمَّ دانوا لَهُ من دون الله بالإجلال والتضرع والابتهال.

وَلم يكتف الطُّفَيْل رضي الله عنه بِهَذَا الْموقف من الْآلهَة، وَلكنه أَبى إِلَّا أَن يكون لَهُ مَعهَا شَأْن آخر، فألح على الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم أَن يَبْعَثهُ إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ - صنم عَمْرو بن حممه - ليحرقه فَأذن لَهُ الرَّسُول، وَخرج إِلَيْهِ، وَجعل يُوقد عَلَيْهِ النَّار وَيَقُول:

ميلادنا أقدم من ميلادكا

يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لست من عبادكا

إِنِّي حشوت النَّار فِي فؤادكا4

إِن إحراق الطُّفَيْل للصنم الَّذِي كَانَ قومه يخضعون لَهُ، ويعطونه ولاءهم، لدَعْوَة عملية للكفر بِتِلْكَ الْآلهَة، ونداء صَرِيح بالوحدانية الَّتِي جَاءَ بهَا الْإِسْلَام، إِذْ كَيفَ يحرق الْإِلَه دون أَن يدْفع عَن نَفسه؟ أتراه ذلّ وَهَان إِلَى ذَلِك الْحَد، أم قدم نَفسه هُوَ الآخر فدَاء للإنسانية، وتحملا لخطايا بني آدم المغفلين؟؟

إِن الْعقل الإنساني يرفض هَذِه وَتلك، ويأبى إِلَّا أَن يكون للإله قدرَة يدْفع بهَا عَن نَفسه من أَرَادَهُ بِسوء، بل إِن الْعقل ليذْهب إِلَى مَا هُوَ أبعد من ذَلِك، إِنَّه يرفض أَن يتَمَكَّن الْإِنْسَان مهما كَانَت قدرته أَن يدْخل مَعَ الله فِي صراع وَهُوَ الْعَاجِز المفتقر إِلَيْهِ فِي كل أَحْوَاله.

أَفلا يكون ذَلِك وَحده كَافِيا لرد هَذِه الْعُقُول إِلَى صوابها، وَتَحْوِيلهَا إِلَى مَا يجب أَن تكون عَلَيْهِ بعد ضلالها.

وَهَكَذَا يكون الطُّفَيْل دَاعِيَة بِعَمَلِهِ أَكثر مِمَّا دَعَا قومه بِكَلَامِهِ، وَكَيف لَا؟ وَقد رَآهُ قومه يسخر من ذِي الشرى وَيضمن عَجزه عَن أَن يُصِيب صَبيا بِسوء، ثمَّ هاهو ذَا يحرق ذَا الْكَفَّيْنِ دون أَن يُصِيبهُ أدنى مَكْرُوه، إِنَّه بِعَمَلِهِ هَذَا أثبت لِقَوْمِهِ عجز مَا يعْبدُونَ، فَعَلَيْهِم أَن يتوجهوا بعبادتهم وطاعتهم لمن يَدعُوهُم إِلَيْهِ.

3 ابْن هِشَام (2/24) .

4 ابْن هِشَام نَفسه.

ص: 233

2-

ضمام بن ثَعْلَبَة: وَهَذَا الرجل صنف آخر من أَصْنَاف الدعاة وَفد على الرَّسُول صلى الله عليه وسلم نَائِبا عَن بني سعد بن بكر، وأناخ بعيره على بَاب الْمَسْجِد وعقله، وَأَقْبل على الجالسين فِي الْمَسْجِد فَسَأَلَهُمْ: أَيْن ابْن عبد الْمطلب؟ فَأَجَابَهُ الرَّسُول: "أَنا ابْن عبد الْمطلب"، وَكَأن الرجل قد خَافَ أَن يكون الْمُجيب شخصا آخر غير الَّذِي يُرِيد؛ فَقَالَ: مُحَمَّد؟ قَالَ: "نعم".

فَقَالَ ضمام: يَا ابْن عبد الْمطلب، إِنِّي سَائِلك ومغلظ لَك فِي الْمَسْأَلَة؛ فَلَا تجدن فِي نَفسك، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا أجد فِي نَفسِي؛ فسل عَمَّا بدا لَك". فَسَأَلَ ضمام الرَّسُول:

هَل هُوَ رَسُول الله حَقًا؟ وَهل الَّذِي أرْسلهُ أمره بِأَن يعبد الله وَحده وَلَا يُشْرك بِهِ شَيْئا؟ وَأخذ يسْأَله عَن فَرَائض الْإِسْلَام كلهَا، وَالرَّسُول صلى الله عليه وسلم يجِيبه فِي كل مرّة:"اللَّهُمَّ نعم"، فَلَمَّا فرغ قَالَ ضمام: فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وسأؤدي هَذِه الْفَرَائِض، وأجتنب مَا نهيتني عَنهُ لَا أَزِيد وَلَا أنقصن ثمَّ انْصَرف.

فَقَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: "إِن يصدق ذُو العقيصتين يدْخل الْجنَّة"1.

وأتى ضمام بعيره، فَأطلق عقاله، وَانْطَلق بِهِ حَتَّى دخل على قومه؛ فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ ينظرُونَ مَا وَرَاءه، وبماذا جَاءَهُم من عِنْد رَسُول الله.

وَكَانَ ضمام كَمَا رَأينَا رجلا صَرِيحًا وَاضحا لَا يعرف اللف، وَلَا يُؤمن بالمناورات، وبالسرعة الَّتِي صدق فِيهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وآمن بِهِ، هاجم اللات والعزى، لم يجامل فِي الله أحدا بعد أَن آمن بِهِ، وَلم يهادن فِي دينه أحدا وَلَو كَانَ الْإِلَه الَّذِي كَانَ يعبده من قبل، ويخضع لَهُ، لقد استبان لَهُ الْحق، واتضح لَهُ الطَّرِيق فَمَا لَهُ لَا يُبينهُ للنَّاس؟ وَمَا لَهُ لَا يفضح هَذَا التزييف الخطير فِي عقيدة قومه، وَهُوَ رسولهم الَّذِي ائتمنوه ليوضح لَهُم مَا خَفِي عَنْهُم.

لقد كَانَ ضمام أَمينا على مَا ائْتمن عَلَيْهِ، ناصحا لِقَوْمِهِ بِقدر ثقتهم فِيهِ، فَلم يرد أَن يظل قومه على الشّرك لَحْظَة وَاحِدَة بعد مَا عرف الْحق، واتخذه دينا لَهُ، لهَذَا كَانَ أول مَا تكلم بِهِ ضمام بعد أَن اجْتمع عَلَيْهِ قومه قَوْله: بئست اللات والعزى، واندهش الْقَوْم لما سمعُوا من ضمام، وخافوا عَلَيْهِ أَن يُصِيبهُ الْجُنُون أَو البرص أَو الجذام، وَلَكِن ضمام سخر من قَوْلهم، فأجابهم: وَيْلكُمْ! إنَّهُمَا مَا يضران وَلَا ينفعان1.

وانتهز ضمام فرْصَة إصغاء الْقَوْم، وَقد رأى على وُجُوههم وجوما لم يعهده فيهم،

1 ابْن الْقيم (3/96) .

2 ابْن الْقيم (3/96) .

ص: 234

ولاحظ عَلَيْهِم اضطرابا شَدِيدا، وَلَعَلَّ الْقَوْم قد تَرَبَّصُوا بضمام أَن يحل عَلَيْهِ سخط آلِهَتهم، أَو تنزل بِهِ لعنة الْأَصْنَام.

لقد تَأَكد النَّاس - حَسْبَمَا كَانَ فِي رؤوسهم من الأوهام - أَن ضماما هَالك لَا محَالة، وَأَن الْآلهَة لن تَدعه سالما وَقد اعْتدى على قدسيتها، وانتهك كرامتها، فنظروا إِلَيْهِ آسفين عَلَيْهِ، متوقعين لَهُ الدمار.

وَكَانَ وجوم الْقَوْم واضطرابهم، وإشفاقهم على ضمام فرْصَة اهتبلها ضمام وَقَالَ لَهُم: إِن الله قد بعث رَسُولا، وَأنزل عَلَيْهِ كتابا، استنقذكم بِهِ مِمَّا كُنْتُم فِيهِ2.

وأعلن ضمام إِسْلَامه أَمَام قومه، وَشهد شَهَادَة الْحق فَقَالَ: وَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَإِنِّي قد جِئتُكُمْ من عِنْده بِمَا أَمركُم بِهِ، ونهاكم عَنهُ3.

وَأَقْبل الْمسَاء وضمام يتمتع بكامل صِحَّته، لم يصبهُ جُنُون وَلَا جذام، وَلَا برص وَلَا هَلَاك، وَنظر النَّاس إِلَيْهِ سليما معافى، لم تستطع الْآلهَة أَن تصب عَلَيْهِ لعنتها؛ فَهِيَ إِذن عاجزة، وَلم تنزل بِهِ غَضَبهَا ونقمتها فَهِيَ لَا محَالة غير قادرة، وَلَو كَانَت آلِهَة تسْتَحقّ التَّقْدِير والاحترام لما سكتت على هَذَا الهوان.

وَعرف النَّاس الْحق فِي كَلَام ضمام ودعوته، فآمنوا بِمَا آمن بِهِ ودخلوا جَمِيعًا فِي دين الله، قَالَ الرَّاوِي: فوَاللَّه مَا أَمْسَى فِي الْيَوْم فِي حاضره رجل وَلَا امْرَأَة إِلَّا مُسلما4.

قَالَ ابْن عَبَّاس: فَمَا سمعنَا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثَعْلَبَة5.

3-

جَعْفَر بن أبي طَالب: وَكَانَ جَعْفَر رضي الله عنه نَسِيج وَحده، تفرد بخصائص لم يُشَارِكهُ فِيهَا أحد، فقد كَانَ مقدم أَصْحَاب رَسُول الله بَين يَدي النَّجَاشِيّ، والمتصدي لأعداء الله حِين حاولوا إغراء النَّجَاشِيّ بطردهم من بِلَاده، واستطاع جَعْفَر بعقله الرَّاجِح، وأسلوبه الفريد، وحجته الْبَالِغَة أَن يستحوذ على قلب النَّجَاشِيّ، ويستميله إِلَى صُفُوف الْمُسلمين كَمَا تمكن من أَن يَأْخُذ مِنْهُ أَمَانًا لَهُ ولأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا فِي الْحَبَشَة على خير مَا يحبونَ.

علمت قُرَيْش بِطيب مقَام الْمُهَاجِرين، وغاظها مَا صَارُوا إِلَيْهِ من الْأَمْن والاطمئنان، فدبروا أَمرهم ليكيدوا الْمُهَاجِرين الفارين بدينهم إِلَى حَيْثُ يطمئنون على عقيدتهم، ويتمكنون من عبَادَة رَبهم.

2 ابْن الْقيم (3/93) .

3 نَفسه.

4 ابْن هِشَام (4/162) .

5 نَفسه.

ص: 235

أرسل أهل مَكَّة رجلَيْنِ من أَشْرَافهم هما: عَمْرو بن الْعَاصِ، وَعبد الله بن أبي ربيعَة، وَالرجلَانِ مخزوميان، وجهزوهما بالهدايا الثمينة للنجاشي وبطارقته، وأمروهما أَن يقدما هَدَايَا البطارقة قبل أَن يدخلا على النَّجَاشِيّ حَتَّى يساعدوهما عِنْد النَّجَاشِيّ فِيمَا قدما من أَجله.

وَلَا يخفى على الْإِنْسَان سَبَب اخْتِيَار عَمْرو بن الْعَاصِ لتِلْك المهمة؛ فَهُوَ مَعَ كَونه شريفا من أَشْرَاف قُرَيْش، داهية من دهاة الْعَرَب الْمَعْدُودين؛ يَسْتَطِيع بذكائه إقناع من أَمَامه بِمَا يُرِيد، ويتمكن بحيلته إِن لم تسعفه الْحجَّة من بُلُوغ مأربه.

وَلَكِن جَعْفَر الداعية الْمُؤمن، قد أفسد عَلَيْهِ رَأْيه، وعطل فِيهِ دهاءه، فَلم تعد لَدَيْهِ الْقُدْرَة على الْإِقْنَاع، وَلم تسعفه الْحِيلَة ليدبر المكيدة الَّتِي جَاءَ من أجلهَا.

دخل عَمْرو وَعبد الله على النَّجَاشِيّ، وحاولا إيغار صَدره على من عِنْده من الْمُسلمين، وقف إِلَى جانبهما جمَاعَة البطارقة؛ فقد جعلتهم الرِّشْوَة يميلون إِلَى الْبَاطِل، ويقفون إِلَى جوَار الظَّالِمين، وَلَكِن النَّجَاشِيّ رفض أَن يسمع فِي الْمُهَاجِرين رَأيا أَو يتَّخذ مِنْهُم موقفا حَتَّى يرى رَأْيهمْ، وَيسمع قَوْلهم، وَقَالَ: فَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أسلمتهم إِلَيْهِمَا، ورددتهم إِلَى قَومهمْ، وَإِن كَانُوا على غير ذَلِك منعتهم مِنْهُمَا، وأحسنت جوارهم مَا جاوروني1.

وَجِيء بِجَعْفَر وَأَصْحَابه، فَلَمَّا وقفُوا على بَاب النَّجَاشِيّ صَاح جَعْفَر: يسْتَأْذن عَلَيْك حزب الله، فَأذن لَهُم النَّجَاشِيّ أَن يدخلُوا بِأَمَان الله وذمته2.

كَانَت تِلْكَ الصَّيْحَة براعة استهلال من جَعْفَر، فقد أعلن قبل دُخُوله أَنه وجماعته من طراز آخر غير مَا عرف النَّجَاشِيّ، فَلَو حصل مَا يُخَالف نظام الدُّخُول على الْمُلُوك كَانَ الْعذر مُتَقَدما، ثمَّ إِن النَّجَاشِيّ رجل على دين الْمَسِيح؛ فَهُوَ يعرف الله ويوحده؛ وَلذَلِك لم يكد يسمع قَول جَعْفَر: يسْتَأْذن عَلَيْك حزب الله، حَتَّى قَالَ: نعم فليدخلوا بِأَمَان الله وذمته.

كَانَ جَعْفَر رضي الله عنه لبقا أريبا مُسَددًا، فَلَمَّا أذن لَهُ النَّجَاشِيّ بِالدُّخُولِ لم يسْجد لَهُ كَمَا كَانَ يفعل الداخلون عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُم: مَا منعكم أَن تسجدوا لي؟ قَالُوا: نسجد لله الَّذِي خلقك وملكك، وَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ التَّحِيَّة لنا وَنحن نعْبد الْأَوْثَان، فَبعث الله فِينَا نَبيا صَادِقا، وأمرنا بالتحية الَّتِي رضيها، وَهِي السَّلَام؛ تَحِيَّة أهل الْجنَّة3.

وأكد جَعْفَر رضي الله عنه هُوَ وَأَصْحَابه بِهَذَا الْكَلَام الصَّيْحَة الَّتِي صاحها بِبَاب النَّجَاشِيّ، فهم لَيْسُوا عبيدا إِلَّا لله وَحده، لَهُ يَسْجُدُونَ، وَبِه يعتزون، وَعَلِيهِ يَتَوَكَّلُونَ.

1 ابْن هِشَام (1/290) .

2 مُخْتَصر السِّيرَة ص96.

3 نَفسه.

ص: 236

إِن اعتزاز الْإِنْسَان بعقيدته فِي مثل تِلْكَ المواقف الَّتِي ترتجف فِيهَا قُلُوب الْمُنَافِقين أكبر دَلِيل على صدقه فِي دَعْوَاهُ، إِذْ لَو كَانَ كَاذِبًا لنافق حَتَّى لَا يُؤْذى، وداهن حَتَّى يصل إِلَى مأربه، وَالْمُسلم قد يجامل غَيره ليستميله، وَقد يلاطفه ليدله على الْحق، كل ذَلِك لَا بَأْس بِهِ مَا دَامَ لَا يمس العقيدة وَلَا يكون على حِسَابهَا، أما أَن يصل الْأَمر إِلَى حد التهاون فِي العقيدة، وصرفها إِلَى غير الله عز وجل فَذَلِك مَا يرفضه الْمُؤمن وَلَو علقت لَهُ المشانق، وَذَلِكَ مَا فعله جَعْفَر وَأَصْحَابه.

إِن السُّجُود لغير الله انحراف فِي العقيدة يُؤَدِّي إِلَى الْكفْر، ومظهر من مظَاهر الضعْف النَّفْسِيّ لَا يَفْعَله إِلَّا جبان خوار، وَلِهَذَا رفض الْمُهَاجِرُونَ أَن يسجدوا للنجاشي، وَلَو أدّى ذَلِك إِلَى طردهم من مأمنهم وإخراجهم يسيحون فِي الأَرْض على غير هدى.

وَلَقَد كَانَ ذَلِك الْموقف الجريء من جمَاعَة الْمُهَاجِرين الَّذين يعيشون فِي غير بِلَادهمْ مهددين فِي كل لَحْظَة بالطرد والإبعاد عَن أَرض وجدوا فِيهَا طمأنينة قُلُوبهم والأمان على دينهم؛ من أهم الْأَسْبَاب الَّتِي جعلت النَّجَاشِيّ يقف على حَقِيقَة صدقهم، ويعتز بوجودهم فِي بِلَاده، ويمنحهم الْأمان مَا داموا فِي جواره.

وَأدْركَ جَعْفَر الداعية الأريب أَنه فِي موقف حرج، وَأَن الْأَمر يتطلب إِعْطَاء الْملك حَقه من الاحترام وَالتَّقْدِير، وَإِن الْحَاجة إِلَى إقناع الْملك بسلامة موقفهم أهم من الدُّخُول فِي مناقشة مَعَ الْخصم اللدود؛ فَقَالَ: إِنَّك ملك لَا يصلح عنْدك كَثْرَة الْكَلَام وَلَا الظُّلم، وَأَنا أحب أَن أُجِيب عَن أَصْحَابِي1.

وَطلب النَّجَاشِيّ أَن يسمع من كلا الطَّرفَيْنِ حَتَّى يقف على حَقِيقَة الْأَمر، وَهنا قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لجَعْفَر: تكلم.

فَالْتَفت جَعْفَر إِلَى النَّجَاشِيّ وَقَالَ: سَله أعبيد نَحن أم أَحْرَار؟ فَإِن كُنَّا عبيدا فقد أبقنا من موالينا فارددنا عَلَيْهِم.

فَقَالَ عَمْرو: بل أَحْرَار كرام.

قَالَ جَعْفَر: هَل أرقنا دَمًا بِغَيْر حق فيقتص منا؟

قَالَ عَمْرو: وَلَا قَطْرَة.

قَالَ جَعْفَر: فَهَل أَخذنَا أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق فعلينا قَضَاؤُهَا؟

قَالَ عَمْرو: وَلَا قِيرَاط.

وَهنا تبين الْأَمر للنجاشي، وآمن بسلامة موقف الْمُهَاجِرين، إِن هَذِه الْأُمُور الَّتِي ثبتَتْ

1 مُخْتَصر السِّيرَة ص96.

ص: 237

براءتهم مِنْهَا هِيَ الَّتِي من أجلهَا يطْلب الْمَرْء؛ فَإِذا لم يكن هُنَاكَ شَيْء من ذَلِك فعلام يلح هَؤُلَاءِ فِي طَلَبهمْ؟

وَهنا قَالَ النَّجَاشِيّ لِابْنِ الْعَاصِ: فَمَا تطلبون مِنْهُم؟

وَسقط فِي يَد عَمْرو، فَلم يسْتَطع إدانتهم بِشَيْء من ذَلِك حَتَّى يسلمهم الْملك إِلَيْهِ، وَلكنه قَالَ: كُنَّا وهم على دين وَاحِد، فتركوا ذَلِك وَاتبعُوا غَيره.

وتطلعت نفس النَّجَاشِيّ لمعْرِفَة الدّين الْجَدِيد، فَقَالَ لجَعْفَر: مَا هَذَا الدّين الَّذِي قد فارقتم فِيهِ قومكم، وَلم تدْخلُوا فِي ديني، وَلَا فِي دين أحد من الْملَل؟

وحانت الفرصة للداعية اللبق فانتهزها، وَنحن قد لاحظنا أَن جَعْفَر رضي الله عنه حَتَّى هَذِه اللحظات لم يتَكَلَّم كلمة وَاحِدَة عَن الْإِسْلَام، وَلَعَلَّه ترك الْكَلَام عَن الدعْوَة حَتَّى تحين الفرصة وتتهيأ النُّفُوس للتلقي، فَيكون شوقها إِلَى الِاسْتِمَاع أعظم، وتقبلها لما يلقى عَلَيْهَا أَكثر.

وَلَعَلَّ النَّجَاشِيّ نَفسه - وَقد طَال بَين يَدَيْهِ الْأَخْذ وَالرَّدّ والقيل والقال دون أَن يسمع شَيْئا عَن الدّين الْجَدِيد - قد شغف بِأَمْر هَذَا الدّين، وتاقت نَفسه ليعرف شَيْئا عَنهُ، فَسَالَ جَعْفَر هَذَا السُّؤَال، وَلم يتَرَدَّد جَعْفَر فِي الْإِجَابَة، وَكَأَنَّهُ أدْرك لهفة النَّجَاشِيّ وتعلقه بِمَعْرِِفَة الدّين، فأسهب فِي الْإِجَابَة وَالنَّجَاشِي منصت يستمع إِلَيْهِ، وَذكر جَعْفَر كل مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة من أَعمال سَيِّئَة، وقفّى عَلَيْهَا بتعاليم الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَبَين أَن الله أنقذهم مِمَّا كَانُوا فِيهِ ببعثة الْمُصْطَفى الَّذِي دلهم على الْخَيْر وحذرهم من الشَّرّ، وَأمرهمْ بِالْمَعْرُوفِ ونهاهم عَن الْمُنكر، وحثهم على مَكَارِم الْأَخْلَاق ومحامد الْعَادَات.

وركز جَعْفَر على إبراز التَّوْحِيد؛ لِأَنَّهُ أساس العقيدة الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَام لينشرها فِي الْعَالمين، وَلِأَن أَي دين لَا يقوم على أساسها فَهُوَ بَاطِل لَا يُغني عَن صَاحبه شَيْئا، ثمَّ الْتفت جَعْفَر إِلَى النَّجَاشِيّ وَكَأَنَّهُ يُرِيد أَن يستعديه على هَؤُلَاءِ الَّذين يلاحقونهم؛ فَقَالَ: فَلَمَّا صدقنا النَّبِي وآمنا بِهِ، واتبعناه على مَا جَاءَ بِهِ من الله، فعبدنا الله وَحده، وَلم نشْرك بِهِ شَيْئا، وحرمنا مَا حرم علينا، وأحللنا مَا أحل لنا، عدا علينا قَومنَا، فعذبونا وفتنونا عَن ديننَا ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان؛ فَلَمَّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بَيْننَا وَبَين ديننَا، خرجنَا إِلَى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا فِي جوارك، ورجونا أَن لَا نظلم عنْدك أَيهَا الْملك! 1.

واشتاق النَّجَاشِيّ بعد هَذَا الحَدِيث الطلي عَن الدّين الْجَدِيد لِأَن يسمع شَيْئا من

1 ابْن هِشَام (1/290) .بِتَصَرُّف.

ص: 238

الْوَحْي الَّذِي أنزل على نَبِي هَذَا الدّين، فَقَالَ لجَعْفَر:

هَل مَعَك مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن الله شَيْء؟.

فَقَالَ جَعْفَر: نعم.

فَقَالَ النَّجَاشِيّ: فاقرأه عَليّ!

فَقَرَأَ جَعْفَر {كهيعص} صَدرا من سُورَة مَرْيَم.

فَلَمَّا سَمعه النَّجَاشِيّ بَكَى وبكت أساقفته، ثمَّ قَالَ: إِن هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ليخرج من مشكاة وَاحِدَة.

وَنظر النَّجَاشِيّ إِلَى عَمْرو وَصَاحبه، وطردهما من مَجْلِسه، وَأمر برد مَا حملا إِلَيْهِ من الْهَدَايَا، وَقَالَ: انْطَلقَا فوَاللَّه لَا أسلمهم إلَيْكُمَا، وَلَا يكادون.

وحز فِي نفس عَمْرو أَن يطرد من مجْلِس الْملك هَذِه الطردة، وَكبر عَلَيْهِ أَن يعود بِهَذِهِ النتيجة المؤسفة، وَكَيف يرجع إِلَى قومه دون أَن يُحَقّق لَهُم مَا أَرَادوا وهم لم يختاروه إِلَّا لإيمانهم بِأَنَّهُ الشخصية العبقرية القادرة على تَحْقِيق تِلْكَ المكيدة، إِن عودة عَمْرو دون أَن يكون مَعَه الْمُهَاجِرُونَ من الْمُسلمين خيبة أمل فِي دهائه، وَحكم بالفشل على عبقريته، وَقَضَاء على مَنْزِلَته بَين قومه.

وفكر عَمْرو كثيرا فِي الْأَمر، وهداه تفكيره إِلَى مكيدة لم يجربها بعد، فعزم على تنفيذها، وَقَالَ: وَالله لآتينهم غَدا بِمَا استأصل بِهِ خضراءهم1.

وَدخل على النَّجَاشِيّ من الْغَد، وَقَالَ: أَيهَا الْملك إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم قولا عَظِيما، فأرسلْ إِلَيْهِم فسلْهم عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.

وَأرْسل النَّجَاشِيّ إِلَى الْمُسلمين، وسألهم عَمَّا يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام، ورد عَلَيْهِ جَعْفَر رضي الله عنه فَقَالَ: نقُول فِيهِ مَا جَاءَنَا بِهِ نَبينَا صلى الله عليه وسلم: هُوَ عبد الله وَرَسُوله وروح مِنْهُ وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول.

فَأخذ النَّجَاشِيّ عودا من الأَرْض، وَقَالَ: وَالله مَا عدا عِيسَى بن مَرْيَم مَا قلت هَذَا الْعود.

والتفت إِلَى جَعْفَر وَأَصْحَابه وَقَالَ: اذْهَبُوا فَأنْتم شيوم بأرضي - أَي آمنون - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، مَا أحب أَن لي دبرا من ذهب - أَي جبلا - وَأَنِّي آذيت أحدا مِنْكُم.

والتفت مرّة أُخْرَى إِلَى عَمْرو وَصَاحبه، وَقَالَ لحاشيته: ردوا عَلَيْهِمَا هداياهما فَلَا حَاجَة لي بهَا، فوَاللَّه مَا أَخذ الله مني الرِّشْوَة حِين رد عَليّ ملكي فآخذ الرِّشْوَة فِيهِ، وَمَا أطَاع النَّاس فِي فأطيعهم فِيهِ، فَخَرَجَا من عِنْده مقبوحين2.

1 ابْن هِشَام (1/290) .

ص: 239

ونجح جَعْفَر الداعية فقد بلغ الدعْوَة إِلَى النَّجَاشِيّ نَفسه، وأقنعه بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَأسلم وَمَات مُسلما1.

وباء رَسُولا قُرَيْش بخيبة أمل لم يتوقعها أحد، وَلم تَنْفَع عبقرية عَمْرو وَلَا دهاؤه فِي بُلُوغ الأمل الَّذِي علقته قُرَيْش عَلَيْهِمَا، وَسعد الْمُسلمُونَ بجوار النَّجَاشِيّ، وبقوا عِنْده حَتَّى عَادوا يَوْم فتح خَيْبَر يتزعمهم جَعْفَر بن أبي طَالب رضي الله عنه، وَقد سر الرَّسُول – صلى الله عليه وسلم بقدومه، وَقَبله بَين عَيْنَيْهِ، وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أسر، بِفَتْح خَيْبَر أم بقدوم جَعْفَر؟ 4.

باستعراض هَذِه النماذج من حَيَاة الدعاة وطرائقهم فِي تَبْلِيغ الدعْوَة نفهم الْأُمُور الْآتِيَة:

1-

إِن على الدعاة أَن يتفقهوا فِي الدّين، وَأَن يتعلموا الْأُمُور الَّتِي سيبلغونها لغَيرهم، لِأَن الْجَهْل يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أضرار تعرض الدعْوَة لهجوم أعدائها عَلَيْهَا، وتمكنهم من النّيل مِنْهَا وتشويهها.

وَالْإِنْسَان عَادَة لَا يَسْتَطِيع أَن يمنح شَيْئا لَيْسَ عِنْده، إِذْ فَاقِد الشَّيْء لَا يُعْطِيهِ، وَالنَّاس أَعدَاء لما جهلوا، فَإِذا لم يكن الداعية على جَانب من الْعلم وَالْفِقْه يُمكنهُ من شرحها، وَدفع الشُّبُهَات والافتراءات عَنْهَا؛ كَانَ ضَرَره عَلَيْهَا أَكثر من نَفعه.

وَلِهَذَا فَإِن الطُّفَيْل بن عَمْرو لما دخل الْإِسْلَام فِي قلبه تبع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى دخل بَيته ثمَّ دخل عَلَيْهِ، وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ أسلم، وَقَالَ: اعْرِض عَليّ أَمرك، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، وتلا عَلَيْهِ الْقُرْآن، ثمَّ اسْتَأْذن رَسُول الله فِي أَن يَدْعُو قومه إِلَى مَا آمن بِهِ، فَأذن لَهُ الرَّسُول، وَلما دَعَا الطُّفَيْل وَالِده واستجاب قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فاغتسل، وطهر ثِيَابك ثمَّ تعال حَتَّى أعلمك مَا علمت1.

هَكَذَا يَقُول الطُّفَيْل: (حَتَّى أعلمك مَا علمت) ، وَهُوَ بِهَذَا يَدْعُو إِلَى شَيْء تعلمه وفهمه، إِذْ لَيست الدعْوَة حماسا وخطبا وَلكنهَا علم وَعمل.

وَأما ضمام بن ثَعْلَبَة فَإِنَّهُ لما وَفد على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم – لم يُغَادر مَجْلِسه حَتَّى تعلم أَرْكَان الْإِسْلَام، وَعرف الْحَلَال وَالْحرَام، وَعَاد إِلَى قومه فأعلن إِسْلَامه، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِن الله بعث رَسُولا، وَأنزل كتابا استنقذكم بِهِ مِمَّا كُنْتُم فِيهِ، ثمَّ نطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ: وَإِنِّي قد جِئتُكُمْ من عِنْده بِمَا أَمركُم بِهِ ونهاكم عَنهُ2.

1 ابْن لجوزي (1/60) .

4 ابْن هِشَام (3/232) .

1 ابْن هِشَام (2/23) .

2 ابْن الْقيم (3/96)

ص: 240

وَهَكَذَا يكون ضمام قد تعلم وَفقه مَا يجب أَن يَدْعُو إِلَيْهِ قبل أَن يقدم على تَبْلِيغ الدعْوَة، ويتحمل أمانتها، يجب أَن يكون الدعاة فِي كل زمَان وَمَكَان.

2-

نشر الدعْوَة وَاجِب على الدعاة مهما كَانَت الظروف الَّتِي يوجدون فِيهَا، فالإمساك عَن التَّبْلِيغ جريمة فِي حق الدعْوَة لَا يغفرها إِلَّا الْعَمَل الدَّائِم من أجل لنشرها.

وَلَيْسَ معنى هَذَا التهور فِي التَّبْلِيغ وَعدم مُرَاعَاة الظروف الَّتِي يُوجد فِيهَا الداعية، وَلَكِن الْمَقْصُود انتهاز الفرصة المواتية وَعدم تضييعها، وَاسْتِعْمَال الأسلوب الْمُنَاسب لكل وضع يعِيش فِيهِ الدعاة، وَهَذَا هُوَ تَفْسِير الْآيَة الْكَرِيمَة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 3.

وَالْقُرْآن الْكَرِيم يَحْكِي لنا قصَّة دَاعِيَة أَدخل السجْن ظلما ولبث فِي السجْن بضع سِنِين، وَلم تحل الظروف القاسية الَّتِي يعِيش فِيهَا بَينه وَبَين تَبْلِيغ الدعْوَة، وَلم تكن أسوار السجْن الرهيب لتصرفه عَن بَيَان الْحق وإعلانه، لقد وجد فِي السجْن من ينصت إِلَيْهِ، فَلْيَكُن السجْن ميدان دَعوته، وأحس من المساجين ميلًا إِلَيْهِ وشغفا بِهِ فَلْيَكُن هَؤُلَاءِ هم البذور الَّتِي يستنبتها فيحصد مِنْهَا الْخَيْر الوفير.

وجهر يُوسُف عليه السلام بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ فِي أعماق السجْن، ودعا إِلَيْهِ من حوله حِين واتته الفرصة وَلم يضيعها؛ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1.

3-

لَيْسَ للدعوة أسلوب معِين يجب اتِّبَاعه عِنْد التَّبْلِيغ بل لكل بيئة مَا يُنَاسِبهَا، وَلكُل عقلية خطاب، وَلكُل مقَام مقَال، وَلأَجل هَذَا قَالَ عَليّ - كرم الله وَجهه -: حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله؟ 2.

وأسلوب الْقُرْآن الْكَرِيم فِي الدعْوَة لم يلْتَزم خطا وَاحِدًا، وَلم يَأْتِ على وتيرة وَاحِدَة، بل خَاطب الْمُؤمنِينَ بأسلوب، وخاطب أهل الْكتاب بأسلوب آخر، وخاطب الْمُلْحِدِينَ الْمُشْركين بأسلوب غير الأسلوبين السَّابِقين3.

3 النَّحْل الْآيَة125.

1 يُوسُف الْآيَة39

2 البُخَارِيّ (1/225) .

3 يُرَاجع كتَابنَا أسس الدعْوَة.

ص: 241

وَكَانَ اخْتِلَاف الأسلوب مَعَ كل جمَاعَة لَا لمُجَرّد التنويع والتظرف فِي الحَدِيث، وَلَكِن كَانَ لاخْتِلَاف الْوَسَائِل المقنعة لكل جمَاعَة من الْجَمَاعَات السَّابِقَة؛ فَمَا يُنَاسب الْمُؤمنِينَ لَا يُنَاسب المعاندين، وَمَا يقنع أهل الْكتاب قد لَا يقنع الْمُلْحِدِينَ.

فعلى الداعية إِذا أَن يدرس البيئة الَّتِي يعِيش فِيهَا، والظروف المحيطة بِهِ، وأحوال النَّاس الَّذين يُقيم بَينهم، وَعَلِيهِ أَن يُقيم بَينهم، وَعَلِيهِ أَن يتعرف على كل مَا يتَّصل بحياتهم من الْأَحْوَال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وَهل هُنَاكَ مؤثرات خارجية، وضغوط طارئة تضعهم تَحت ظروف غير طبيعية فتصبغهم بصبغة مُؤَقَّتَة يُمكن أَن يتخلصوا مِنْهَا بِزَوَال هَذِه المؤثرات وَتلك الضغوط، أم أَن هَذِه الصبغة نتيجة جهل بالحقائق، وَعدم معرفَة بِمَا يجب أَن يَكُونُوا عَلَيْهِ؟

يجب أَن يدرس الداعية ذَلِك كُله، ثمَّ يضع خطة عمله على أساس تِلْكَ الدراسة الوافية الَّتِي تمكنه من ممارسة مهمته بنجاح.

3-

وعَلى الداعية أَن يخْتَار الموضوعات الملائمة الَّتِي تعالج مشكلات النَّاس، وَتقدم لَهُم الْحُلُول الْمُنَاسبَة الَّتِي تجعلهم يُؤمنُونَ بِأَن الدعْوَة الإسلامية هِيَ الَّتِي تحقق لَهُم أكبر قدر مُمكن من السَّعَادَة وَالْخَيْر فِي تِلْكَ الْحَيَاة، وَحِينَئِذٍ لَا يتطلعون إِلَى غَيرهَا، وَلَا يؤملون الْخَيْر فِي سواهَا.

أما أَن يكون الداعية فِي وَاد والمدعوون فِي وَاد آخر، أَو أَن يعِيش الداعية بعقلية غَيره، وَيجْبر المدعوين على التلون بذلك اللَّوْن الَّذِي لَا يتناسب وأسلوب حياتهم، أَو أَن يرجع الداعية بالمدعوين إِلَى عصر غابر ودهر سالف، ثمَّ يتَعَرَّض لمشكلات ذَلِك الْعَصْر، فَيكون كمن يَصِيح فِي وَاد أَو ينْفخ فِي رماد، فَذَلِك فِي الْحق ضيَاع للجهد، وتفتيت للقوى.

نعم لَو كَانَت مشاكل ذَلِك الْعَصْر متشابهة بمشكلات الْعَصْر الَّذِي نَعِيش فِيهِ فَلَا بَأْس بالتعرض لَهَا مَعَ ربطها بمشاكلنا، واقتراح الْحُلُول الْمُنَاسبَة لَهَا، وعَلى الداعية فِي هَذِه الْحَال أَن يتَنَاوَل الْمَوْضُوع بِمَا يتناسب مَعَ عصره الَّذِي يعِيش فِيهِ، وَأَن ينظر إِلَيْهِ وعقلية العبقري الَّذِي يضع الْأُمُور فِي نصابها، ويبتكر الْحُلُول الَّتِي تقضي على المشكلة من أساسها.

وعَلى هَذَا يكون اخْتِيَار الموضوعات غير الْمُنَاسبَة - كتزهيد الْفُقَرَاء فِي الدُّنْيَا، وحثهم على تَركهَا والبعد عَنْهَا - ضربا من الْحمق والسفه لَا يُنَاسب مقَام الدعاة إِلَى الله عز وجل، وَهل

ص: 242

وجدوا مِنْهَا شَيْئا حَتَّى يَزْهَدُوا فِيهَا وَيرغبُوا عَنْهَا؟ وَهل وجد الْفَقِير مَا يُقيم بِهِ صلبه ويسد بِهِ جوعه تَدعُوهُ إِلَى الإقلال من مَتَاع الدُّنْيَا والبعد عَن زخارفها؟؟

وَمثل هَذَا تَمامًا الَّذين يَتَكَلَّمُونَ عَن المزدكية والمانوية1، وينسون الشيوعية والقاديانية والبهائية، فَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ إحْيَاء الْمَوْتَى بعد أَن مَضَت تِلْكَ المعجزة، وَمضى صَاحبهَا عليه السلام؛ إِن المزدكية والمانوية وأمثالهما مَذَاهِب درست وَكَذَلِكَ الجبرية والمعتزلة والمرجئة وَغَيرهَا مِمَّا هُوَ على شاكلتها فلسفات نفقت، وَلم يعد لَهَا فِي عَالم النَّاس إِلَّا هَذِه الْآثَار الَّتِي ضمتها الْكتب الْقَدِيمَة بَين صفحاتها كَمَا يضم التابوت رفاتا قد جيف وأنتن، وَالنَّاس لَا يجنون من وَرَاء نبشه إِلَّا أَن يزكموا بِتِلْكَ الرَّائِحَة الكريهة.

إِن الأولى للدعاة أَلا ينبشوا تِلْكَ الْقُبُور، وَلَا يفتشوا عَن هَذِه الْجِيَف فقد آل أمرهَا إِلَى الله عز وجل، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - سيتولى حِسَابهَا عَمَّا قدمت من خير أَو شَرّ.

وَلَيْسَ معنى هَذَا أَن نسكت عَنْهَا لَو حاولت الظُّهُور فِي أَي شكل من الأشكال، كَمَا حاولت المزدكية الظُّهُور فِي صُورَة الشيوعية، وكما حاولت الْمُعْتَزلَة أَن تَأْخُذ شكل العقلانية؛ فعلى الدعاة حِينَئِذٍ أَن يتصدوا لَهَا قبل أَن تنفض التُّرَاب عَن وَجههَا، وَأَن يعمقوا لَهَا قبرها قبل أَن تنهض على قدميها، وَلَا يكون ذَلِك بالسب والإقذاع واللوم والتعنيف، فَتلك طَريقَة المفلسين، وشأن السُّفَهَاء والعاجزين، وَإِنَّمَا يكون بالتحقيق العلمي الرصين الَّذِي يكْشف بُطْلَانهَا، وَيرد شبهاتها، ويفضح زيفها.

إِن الشيوعية والقاديانية والبهائية مَذَاهِب تعيش فِي رُؤُوس فريق من النَّاس مولعين بهَا يعْملُونَ على نشرها، ويجهدون فِي التبشير بهَا، حَتَّى دخلت كل بَيت، وغزت أَكثر الْقُلُوب، وَهَذِه الْمذَاهب وَإِن لم يُؤمن النَّاس كعقيدة إِلَّا أَن أفكارها وفلسفتها أَصبَحت تهيمن على عقول كَثِيرَة.

فالشيوعية تنبذ كل الديانَات، وَترى أَنَّهَا وَسِيلَة يستغلها الْأَغْنِيَاء لبسط نفوذهم على الْفُقَرَاء2.

والقاديانية كرست جهدها فِي وقف حَرَكَة الْجِهَاد الَّتِي أقضت مضاجع المستعمرين، وَالَّتِي هِيَ فَرِيضَة على الْمُسلمين1.

وَأما البهائية فقد ألغت الصَّلَوَات الْخمس، وأباحت لأتباعها ارْتِكَاب الشَّهَوَات كَيْفَمَا

1هما مذهبان فارسيان قَدِيما، يَقُولَانِ بِأَن الْعَالم مركب من أصلين قديمين أَحدهمَا نور وَالْآخر ظلمَة، وَجعلت المزدكية النَّاس شُرَكَاء فِي المَال وَالنِّسَاء كشركتهم فِي المَاء وَالنَّار والكلأ.

2 المستجد فِي الْأَدَب مَادَّة شيع.

1 القاديانية لأبي الْحسن الندوي ص25.

ص: 243

شَاءُوا فِي خَمْسَة أَيَّام قبل زمن الصّيام، وَحرمت على الْمَرْأَة الْحجاب، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أشاعته بَين النَّاس2.

وَنحن نرى من هَذَا الْعرض أَن هَذِه الْمذَاهب حَرْب على الْإِسْلَام صَرَاحَة، وَمَعَ ذَلِك لَا نرى فِيهَا إِلَّا نزرا يَسِيرا من البحوث والمؤلفات، وأغلب الظَّن أَن الدعاة لم يطلعوا عَلَيْهَا، بل لم يسمعوا عَنْهَا.

إِن ترك هَذِه الْمذَاهب الْفَاسِدَة تنفث سمومها بَين النَّاس، وتبيض وتفرخ فِي عُقُولهمْ جريمة لن يغفرها الله للدعاة إِلَّا إِذا بذلوا أقْصَى الْجهد فِي فضحها وإيقاف الْمُسلمين على حَقِيقَتهَا وأسرارها حَتَّى يتجنبوها ويكتفوا شَرها.

وَإِن الْأَفْضَل للدعاة إِلَى الله أَن يدرسوا هَذِه الْمذَاهب، ويقفوا على خباياها ومكنوناتها، وَأَن يضعوا العلمية المرتكزة على الْحَقَائِق لدحضها وَبَيَان فَسَادهَا، وينظموا المحاضرات والندوات لتعريف الْمُسلمين بهَا وتحذيرهم من شَرها، وَذَلِكَ خير لَهُم من أَن يهاجم بَعضهم بَعْضًا، أَو يعلنوا الْحَرْب على الدارسين الهلكى.

5-

الْبناء قبل الْهدم من وَاجِب الدعاة؛ لأَنهم يُرِيدُونَ أَن ينقلوا النَّاس من وضع سيئ إِلَى وضع حسن، ويخرجوهم من الضلال إِلَى الْهدى.

وَمن الْمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان بفطرته يحب مَا نَشأ فِيهِ وشب عَلَيْهِ، وَلَيْسَ من السهل على نَفسه أَن يتْركهُ إِلَّا إِذا حصل على مَا هُوَ خير مِنْهُ؛ إِنَّه يتشبث بِهِ لِأَنَّهُ ماضيه الَّذِي يرجع إِلَيْهِ، وحاضره الَّذِي يعتز بِهِ.

وكلنَا ندرك أَن صَاحب الكوخ المتداعى لَا يسمح مُطلقًا بهدمه، وَهُوَ مستعد للدفاع عَنهُ بِنَفسِهِ؛ لِأَن الكوخ الحقير عِنْده أفضل من سُكْنى العراء.

وكلنَا يُوقن أننا لَو بنينَا لصَاحب هَذَا الكوخ قصرا منيفا، أَو بَيْتا نظيفا وراودناه على ترك هَذَا الكوخ ليسكن هَذَا الْبَيْت لاستجاب للدعوة، وَقد يتَرَدَّد فِي بادئ الْأَمر لصعوبة فِرَاق مَا أَلفه، ووحشة النَّفس من الْجَدِيد، وَلَكِن تردده لَا يلبث أَن يتبدد حينما يذكر حَاله فِي هَذَا الكوخ، وَمَا كَانَ يدهمه فِيهِ من الحشرات والهوام، وَحين يمني نَفسه بِمَا ينظره من السَّعَادَة والهناء فِي الْقصر الْجَدِيد، بل إِنَّه ليتأكد من سَعَادَة نَفسه وطمأنينة قلبه وهناء باله يقارن بَين المنزلين: كوخه المتداعى وقصره المشيد.

2 هَذِه هِيَ البهائية ص8.

ص: 244

إِن الدعاة الَّذين يهدمون قبل أَن يبنوا كهؤلاء الَّذين يهدمون الكوخ ويتركون صَاحبه فِي العراء وَلَو لفترة قَصِيرَة حَتَّى يشيدوا لَهُ الْبناء، فهم حِينَئِذٍ ينفرون وَلَا يبشرون، ويضيقون وَلَا ييسرون، أما الَّذين يُقِيمُونَ البنايات مَعَ وجود الأكواخ، ويشيدون الْقُصُور إِلَى جَانب الْقُبُور، فَهَؤُلَاءِ يُعْطون فرْصَة الْمُقَارنَة والِاخْتِيَار، ويتيحون للعقول حريَّة التَّأَمُّل والانتقاء، وَلنْ تكون النتيجة إِلَّا الرِّضَا بالأحسن، والإقبال على مَا هُوَ أفضل، وسيقوم ساكنو الأكواخ بعد ذَلِك يهدمونها بِأَيْدِيهِم.

وَيجب على الدعاة بعد تشييد الْبناء ودعوة النَّاس إِلَى الِانْتِقَال إِلَيْهِ، هدم الأكواخ، وَعدم التساهل فِي تحطيمها، فكثيرا مَا تحن النُّفُوس إِلَى ماضيها وَلَو كَانَ ضلالا، وَكَثِيرًا مَا تعود إِلَى سالفها وَلَو كَانَ فَسَادًا.

وَإِن وجود هَذِه الأكواخ مِمَّا يذكر النُّفُوس بماضيها، وَيعود بهَا إِلَى سالفها؛ فتحن لَهُ وتتمنى العودة إِلَيْهِ.

وَهَذِه هِيَ طَريقَة الدعاة إِلَى الله عز وجل فِي كل زمَان وَمَكَان، مُنْذُ أرسل الله الرُّسُل، إِلَى أَن يَرث الله الأَرْض وَمن عَلَيْهَا.

وَلَو أننا استعرضنا تَارِيخ الدعْوَة لوجدنا أَن جَمِيع الرُّسُل يدعونَ أقوامهم إِلَى تَوْحِيد الله عز وجل أَولا، ثمَّ يكرون على مَا يعْبدُونَ من دون الله فيظهرون عجزها، ويفضحون زيفها، ويثبتون أَنَّهَا لَا تملك لنَفسهَا ضرا وَلَا نفعا.

وَنحن نرى فِي هَذَا أَن دَعْوَة النَّاس إِلَى التَّوْحِيد هِيَ الْبناء الشامخ الَّذِي يبْذل الدعاة جهودهم فِي تشييده وإقامته، وَإِظْهَار محاسنه وإبراز رَوْعَته، وَأَن إِظْهَار عجز الْآلهَة الأدعياء وفضح بُطْلَانهَا هُوَ هدم هَذِه الأكواخ المتداعية الَّتِي لم تعد تصلح للتشبث بهَا بعد أَن ارْتَفع صرح الْحق وَعلا.

هَكَذَا كَانَت خطة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ قومه؛ دعاهم أَولا إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه وَرُسُله قبل أَن يَدعُوهُم إِلَى الْكفْر بآلهتهم، وَطلب مِنْهُم التَّوَجُّه بِالْعبَادَة لله وَحده قبل أَن يطْلب مِنْهُم نبذ أصنامهم وأوثانهم.

إِن أول كلمة جهر بهَا صلى الله عليه وسلم لدَعْوَة قومه بعد أَن جمعهم على الصَّفَا هِيَ قَوْله: "إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم خَاصَّة وَإِلَى النَّاس كَافَّة"، وَفِي البُخَارِيّ:"إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد"، وكلتا العبارتين تدعوانهم إِلَى الْإِيمَان بِهِ مُرْسلا من قبل الله الْوَاحِد الْأَحَد.

وَفِي الدَّلَائِل للبيهقي عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما – أَنه لما حضرت أَبَا طَالب الْوَفَاة ذهب إِلَيْهِ قومه، وطلبوا إِلَى أَن يبْعَث إِلَى ابْن أَخِيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فينهاه عَن سبّ آلِهَتهم وتسفيه عُقُولهمْ، فَبعث أَبُو طَالب إِلَى رَسُول الله، وَسَأَلَهُ: أَي ابْن أخي،

ص: 245