المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكنائس القديمة في بر مصر وحكمها: - مسألة في الكنائس

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الكنائس القديمة في بر مصر وحكمها:

‌الكنائس القديمة في بر مصر وحكمها:

وقد كان في بر مصر كنائس قديمة، لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد؛ لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى، ولم يكونوا مسلمين، وإنما كان المسلمون الجندَ خاصة، فأقرهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر (1) لما فتحها؛ لأن اليهود كانوا فلاحين، وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد. ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود، أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر، كما أقر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"(2) ، حتى لم يبق في خيبر يهودي. وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون، ولا مسجدٌ للمسلمين، فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها، جاز ذلك، كما فعله المسلمون.

(1) خيبر مدينة في شمال غرب المملكة العربية السعودية ، وشمال مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بينها مسافة ثلاثمائة كيلاً ، ويصلها طريق معبد ، كان فيها اليهود قديماً حتى فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أخرجهم منها عمر الفاروق رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد بأسانيد: حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد الزيدي كلاهما ثنا إبراهيم بن ميمون عن سعد سمرة عن سمرة بن جندب عن أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه أنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوا يهود أهل الحجاز ، وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وثنا وكيع به لكنه عن إسحاق بن سعد بن سمرة ، وقال في مجمع الزوائد 5/328: رواه أحمد بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما ورواه أبو يعلى ، وكل الأسانيد الثلاثة صحيحة ، إسناد وكيع فيه وهم والصواب أنه عن سعد بن سمرة وليس عن ابنه إسحاق ، وانظر العلل للدارقطني 4/439 وما بعدها ، ورواه الطيالسي في المسند 229 والدارمي في سننه رقم 2498 ، والحميدي في المسند رقم 85 ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم 235 و236 وأبو نعيم في الحلية 8/372 وفي معرفة الصحابة رقم 596 ، والبيهقي في الكبرى 9/208. والطحاوي في شرح المشكل 4/12 ، وهو بمعنى الحديث الذي ذكره الشيخ تماماً. وروى الحديث الإمام مسلم في كتاب الجهاد - باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب رقم 1767 عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع مسلماً) . =

ص: 118

_________

= وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعاً (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) . قاله عليه السلام قبل موته بثلاث، فهو في البخاري في كتاب الجزية -باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 3/ 1155. ومسلم في كتاب الوصية- باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوحى فيه رقم 1637، ولا شك أن اليهود والنصارى من المشركين. كما في آية براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} الآية.

وذكر الهيثمي أن الطبراني أخرج الحديث عن أم سلمة-رضي الله عنها -بلفظ أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب في المعجم الكبير من طريقين وقال: رجال أحدهما رجال الصحيح. وفي الباب حديث عائشة المشهور المرفوع (لا يجتمع أو لا ينزل بجزيرة العرب دينان) . رواه أحمد والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي:= =رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وفد صرح بالسماع أ. هـ. وهو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صدوق يدلس، وعده الحافظ في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين، وهم من اتفق على أنه لا يحتج بحديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء، واستنكر الذهبي ما انفرد به حتى لو صرح بالسماع. ورواه عبد الرزاق في مصنفه رقم 19359، وكذا البيهقي مرسلاً 9/ 219.

وفي بعض الطرق (لا يجتمع بأرض الحجاز دينان) عند عبد الرزاق 7209 وغيره.

وحدود جزيرة العرب: ما بين البحر الأحمر والخليج العربي أفقا وطولاً من حضرموت إلى ريف جنوب العراق وأطراف الشام الجنوبية، كما حدده بذلك جماعه من السلف، كما في السنن الكبرى 9/ 209، وروى البيهقي فيها بسنده إلى الإمام مالك بن أنس أنه قال: جزيرة العرب: المدينة، ومكة، واليمن، وأما مصر فمن بلاد المغرب، والشام من بلاد الروم، والعراق من بلاد فارس.

هذا وقد عمل عمر بن الخطاب -الخليفة الراشد الثاني رضي الله عنه -بأمره صلى الله عليه وآله وسلم فأجلى اليهود عن خيبر وما حولها إلى أذرعات الشام - تسمى الآن درعا بالأردن -وهي خارج الجزيرة العربية، وكان قد بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بإجلائهم عن المدينة إلى خيبر، وضرب رضي الله عنه لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاثة أيام يتسوقون ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ذلك.

كما كان له موقف من موالي المسلمين وعبيدهم من هؤلاء ما هو مشهور ومعروف، فلله دره، ورفعه الله بذا منزلته في جناته.

أما هذا الزمان، فقد عصى الناس أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وطريقة خلفائه فاستقدموا اليهود والنصارى، بل الوثنين من البوذيين والهندوس وأمثالهم إلى جزيرة العرب، وأرض الحجاز، حتى غدوا بالكثرة بمكان -ولا حول ولا قوة إلا بالله - بدعوى الحاجة ولا حاجة. هذا مع أن المسلمين فيهم كفاية وسداد والحمد لله، ولكن أكثر الناس لا يرعون ولا يشكرون. أسأل الله للمسلمين الهداية والرشاد.

ص: 119

وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصلح قبلتان بأرض"(1) . وفي أثر آخر: "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب"(2) . والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية، وعمرت في هذه الأوقات؛ حتى صار أهلها بقدْر ما كانوا في زمن صلاح الدين مراتٍ متعددة. وصلاح الدين وأهل بيته كانوا يذلون النصارى، ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً من أمرٍ من أمور المسلمين أصلاً.

ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد. فيما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل (3) ، أخي صلاح الدين، حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين. وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله (4) به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد - 25] .

(1) سبق تخريجه ، وتجويد الشيخ لإسناد أبي داود.

(2)

لم أعثر على تخريجه بعد.

(3)

هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب أخو المجاهد صلاح الدين ، لكنه أصغر منه بسنتين ، ولد سنة 534 ، وحضر الفتوحات مع أخيه وكان عوناً له فيها وردءاً ، تولى ملك مصر تسع عشرة سنة ، وبها مات سنة 615 هـ ، وله صنف الفخر الرازي كتابه:(أساس التقديس) كما في مقدمته ، وهو الكتاب الذي رده شيخ الإسلام في كتابه الحافل (بيان تلبيس الجهمية في نقض بدعهم الكلامية) أسرع الله بنشره. رحم الله الجميع.

انظر السير 22/115 ، النجوم الزاهرة 6/144-199 ، شفاء القلوب 200 ، ذيل الروضتين ص 111.

(4)

ومن ذلك اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين والملاحدة بطانة وأعواناً ومستشارين وجعلهم على مصالح المسلمين متنفذين ، وتوليتهم خواص أمور الناس العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فعصوا الله ورسوله وحصل ما يشهده التاريخ والواقع ، وإلى الله المشتكى ، وعليه التكلان.

ص: 120

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج - 41] .

فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز (1) وهارون الرشيد (2) ونحوهما مؤيدين منصورين، وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين.

وإنما كثرت الفتن بين المسلمين، وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمر بالديار المصرية، في دولة المعز (3) ، ووزارة الفائز، وتفرق البحرية، وغير ذلك. والله يقول في كتابه:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات

(1) ممن لا يعرف بهم لشهرتهم ، لكنه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، اعتبر خامس الخلفاء الراشدين ، ولد سنة 563 هـ وهو من أزهد الخلفاء وأدينهم في وقت ترف فيه الملوك ، أخرج له الجماعة مات رضي الله عنه سنة 101 وعمره تسع وثلاثون سنة.

أكثر الناس من التأليف في فضله ومناقبه ، ومن ذلك سيرة عبد الملك بن عمر وأبيه لابن رجب وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ت214) ، وتهذيب الكمال ص 1017 ، طبقات ابن سعد 5/330 وسيأتي بيان شيء من فعله رضي الله عنه بهدم كنائس النصارى.

(2)

هو أبو جعفر هارون بن المهدي العباسي الهاشمي. ولد سنة 148 هـ ومات غازياً وعمره 45 سنة أثنى عليه الشيخ ابن تيمية في المنهاج 8/240 ، وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس ، وكأنها كانت تمام سعادتهم ، فلم ينتظم بعدها الأمر لهم.

وقال في موضع آخر في الفتاوى 4/20 مثل دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين ، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر ، وأهل البدع أذل وأقل. رحمه الله ورفع درجته.

إذا علم هذا فلا يلتفت إلى ما أقذاه به بعضهم من أنه صاحب سكر ولهو. . .

انظر تاريخ بغداد 14/5 ، النبلاء 9/286 ، ومما ذكره عنه أنه يحج عام ويغزو عام ، والمعارف لابن قتيبة 381 وما بعدها ، تاريخ خليفة 447 وما بعدها، المعرفة والتاريخ 1/161.

(3)

هو معد بن المنصور إسماعيل ويلقب بالمعز لدين الله منذ ولاة العبيدين وأئمتهم. ولد سنة 310 هـ وهلك سنة 365 هـ. وفي عهده توسعت الدولة وأخافوا الناس في شمال أفريقية ، وأذلوهم ، أذلهم الله ، وكانت مدة ولايته ثلاث سنين.

ص: 121