الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهو يعتذر بأنه مضطر لأجل واقع، بينما كلامه تأصيل كلي دائم، كما لو أن شخصًا شارك في بنك ربوي لأجل مصلحة راجحة ثم صار بعد ذلك يقول إن الربا حلال لأنه لا فرق بينه وبين البيع واللَّه تعالى يقول {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]!
فكما أن بعض الإسلاميين يشارك في بعض النظم العلمانية لأجل الإصلاح، فهذا لا يجيز له أن يقول بأن الشريعة جاءت بفصل الدين عن الدولة؛ لأنه هو الممكن في تلك المرحلة! ولا يمكن أن يقال إن الخلاف بين (الإسلامي) الذي يشارك في نظام علماني و (العلماني) الذي يرى فصل الدين عن الدولة خلف يسير!
مناقشة الأصل التلفيقي الرابع:
أن أحكام الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس، وهم أضمن للشريعة.
وهنا حديث في البدهيات، فلا شك أن كل الأفكار والاتجاهات لا تطبق إلا من خلال الناس، هذه بدهية لا معنى للنقاش حولها، بل حتى الاستبداد والظلم يطبق من خلال الناس، فالخلاف هنا خلف في (المشروعية) وليس في (التنفيذ) أو (الوجود).
فعامة الباحثين في الفكر الإسلامي يقول إن سيادة الأمة سيادة تنفيذ، ولا إشكال، الخلل هنا أنهم جعلوها سيادة تشريع يمكن أن تشرع ما يخالف الشريعة، ولا تكون الشريعة نافذة إلا بعد رضاهم.
وكونهم أضمن للشريعة، يعني أنهم يتحدثون عن (تنفيذ)، بينما الخلاف في (التشريع).
حكم الفرد أم حكم الأكثرية؟
ويأتي هنا عادة المقارنة بين حكم الفرد وحكم الأكثرية، فيقول كما أنكم تقبلون بحكم الفرد ولو خالف الشريعة، فكذلك نحن هنا نقبل بحكم الأكثرية إن خالفت الشريعة.
وحقيقة هذا السؤال يكشف لك الإشكال بدقة.
فالمتغلب الفرد إن خالف الشريعة فلا مشروعية لمخالفته ولا يجوز طاعته، وأي قرار يصدر منه مخالف للشرع فلا اعتبار له.
بينما هم هنا يقولون إن الأكثرية حين تخالف الشريعة فهذا من حقها، ولها مشروعيتها، ولا مشروعية إلا من خلالها.
وهنا يظهر أن إرادة الأكثرية حسب هذا المفهوم تأتي في معارضة الشريعة وليس في معارضة الفرد، لأنها تعطي الأكثرية صلاحية مخالفة الشريعة.
نعم، لو قالوا إن الأكثرية مقيدة بالشريعة -كما هو قول عامة الباحثين- لما كان ثم نزاع، ولأصبحت الأكثرية في مقابل الفرد، أما إن أعطيتها صلاحية تجاوز الشريعة فالأكثرية هنا صارت مرجعية في مقابل مرجعية.
المرجعية العليا لمن؟
من الأسئلة المركزية هنا: ماذا لو اختار الناس غير الإسلام؟
وفائدة هذا السؤال أنه يكشف المرجعية العليا لمن؟ هل هي للأكثرية أم للشريعة؟ تمامًا كبقية الأسئلة التي تورد على الأفكار والاتجاهات لكشف مضامينها وحقائقها.
يتحاشى كثير منهم الجواب عنه ويقول الناس سيختارون الإسلام فلا معنى للخوف من اختيار غير الإسلام، وهذه صورة افتراضية جدلية.
حسنًا، ولماذا الخوف من التصريح بأنه لا اعتبار لهم إن خالفوا الإسلام؟
لماذا التهرب من الإجابة عن هذا السؤال ما دام أنه غير متصور ومجرد فرضية؟
بكل وضوح، لأن هذا السؤال يكشف حقيقة التشريع، هل هو للشعب أم للإسلام؟
فلو قال سيحكم بالإسلام -ولو كانت مسألة افتراضية- فهو قد أسقط مرجعية سيادة الأمة، ونموذج التلفيق يقتضي أن يحافظ على هذه السيادة كما هي.
فالقول بأن المشروعية للشريعة، ليس مثل القول بأن المشروعية للناس وهم سيختارون الشريعة، فأنت حين تجعلها للناس تجعل أحكام الشريعة غير ملزمة إلا بعد اختيار الأكثرية، كما أن اختيار الأكثرية لو خالف الإسلام فله مشروعيته، وكل هذا ينافي قطعيات الشريعة.
والقول بأن هذا لا يمكن مغالطة واضحة بعيدة تمامًا عن فهم واقع النظم المعاصرة.
فالتصويت لن يجري على طريقة أن يدخل شخص على مجلس فيقول: (هل تريدون الإسلام)؟ بل هي مواد قانونية دقيقة في دستور عام، وتعتمد على النشاط المالي والإعلامي والقدرات التأثيرية على الناس، فمن الممكن جدًا أن يتم تجاوز الشريعة من خلالها، فلماذا الهرب من الجواب؟
ثم إن من يقول إن الناس لن يختاروا إلا الإسلام، لا يتفطن إلى أنه يفكر من حيث لا يشعر في واقع نظام سياسي غير إسلامي، لأن هذا معناه أن النظام يكفل للناس المطالبة بتغيير الشريعة، ولهم حق التعبير عن آرائهم ضد الإسلام، وتكوين الأحزاب وتأليب الرأي العام والحشد الإعلامي الذي يشكك في الإسلام ويطالب بتغيير أحكامه، ثم بعد هذا كله يكفل لهم إمكانية تغيره، ثم يكفل التصويت من أجله، ثم بعد هذا ينظر في النتيجة.
فصاحب هذا الكلام قفز على كل هذه المقدمات التي تناقض الإسلام مناقضة قطعية، وظن أنه قد أنهى الإشكال لما جزم أن الناس لا يختارون غير الإسلام.
والقصة أن هذه الصورة يوردها رافضو الديمقراطية الليبرالية لإثبات منافاتها للنظام السياسي الإسلامي، والجواب الصحيح أن يقول من يدافع عن الديمقراطية بأنها لن تكون بهذه الصورة ما دامت ديمقراطية إسلامية كما يرون، لا أن يتعامل معها وكأنها من المسلمات، ويجعل الإشكالية فقط في كفة الأصوات الأكثر.
الغفلة عن هذه المقدمات المهمة تجعل الشخص يتوهم أن الإشكال فقط في التعامل مع نتيجة الانتخابات بل حتى هذا ما عاد إشكالًا عليها، بل هو من محاسنها وفضائلها!
(لنفرض فرضًا أن شيئًا من هذه المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطية حقيقية أن غالبية المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعد خروجًا عن الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟ فليست الديمقراطية هي التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر الديمقراطية والتمسك بها وليس سببًا لرفضها والقدح فيها واتهامها)(1).
(1) الشورى في معركة البناء لأحمد الريسوني، 170.
سيادة الشريعة أم سيادة الليبرالية؟
من البدهيات في النظم السياسية المعاصرة أنه ليس هناك إرادة مطلقة للأكثرية، فلها صلاحية واسعة لكنها في النهاية محددة بقائمة من الحقوق لا يمكن أن تتجاوزها، فلا يمكن للأكثرية أن تنتهك أي حق من الحقوق المتفق عليها دوليًا، ولا يمكنها أن تعتدي على أي حق من حقوق الأقلية أو تضيق عليها فيه، فهذه الحقوق هي من المبادئ فوق الدستورية التي لا يمكن التعرض لها وليست هي محلًا للتصويت.
محل الخلاف مع أصحاب هذا الاتجاه أنه يقبل بهذه الحقوق والحدود ويرفض أن تكون (حاكمية الشريعة) ضمن هذه الحدود، فالشريعة لا بد لها من التصويت ولا يمكن أن تحكم من دون تصويت، ولا يمكن أن تكون مبدأ فوق دستوري، وأما الحدود التي وضعتها (الليبرالية المعاصرة) فهي حدود فوق دستورية ولا يمكن للأكثرية أن تتعرض لها.
أرأيتم؟ فالحقيقة أن الخلاف ليس بين (سيادة الشريعة) و (سيادة الأمة)؛ لأن الأمة في النهاية سيادتها مقيدة وتعمل في إطار معين، الخلاف هو بين (سيادة الليبرالية) على الأمة أو (سيادة الشريعة) على الأمة، فلا إشكال في القبول بقيود الليبرالية، وأما قيود الإسلام فيقف دونها ألف إشكال؟
فحين يتحدثون عن (مسار تعاقدي) للأمة لا يمكن فرض أي شيء عليها، وإلا فهو تغلب واعتداء عليها؛ لا يتحدثون عن مسار مفتوح تفعل الأمة ما تشاء، بل هو مسار محكوم بإطار وحقوق وأعراف شائعة لا يمكن أن تتجاوزها، ومع هذا هو راضٍ خاضع مقر بكل ما فيها من حدود، وإنما تتحرك الإشكالية في وجه حكم الشريعة، ثم يُظن أن الخلاف ربما يكون لفظيًا أو من مساغات الاجتهاد!
ستعرف حجم هذا الخلاف حين تقارن الحكم بقطعيات الشريعة مع الحكم بحالة هامشية من الحقوق التي تقرها النظم المعاصرة، فالشريعة -في نظرهم- لا بد لها من تصويت واختيار ولا مشروعية لها إلا من خلاله وتسقط من خلاله، وأما هذا الحق الهامشي فلا يصوت عليه ولا يتعرض له لأنه من الحقوق الطبيعية، وجرب بنفسك فاسأل أصحاب هذا الاتجاه عن أقل حد من التضييق لأي حق هامشي وانتظر جوابهم!
لهذا حين يقال: لا أحد يفرض شيئًا على (سيادة الأمة) و (حرياتها) و (قرارها). . . إلخ، فهو لا يتحدث عن حرية وسيادة مطلقة، بل يتحدث عنها وهو مدرك أنها محكومة بـ (إطار ليبرالي) لا يمكن أن تتجاوزه، ولا يريدك أن تدخل فيه المكون الأساسي والتاريخي للأمة الإسلامية (الشريعة)، فالنزاع حينها ليس مع سيادة الأمة وحرياتها وقرارها، بل مع مفهوم هذه السيادة.
مصدر الخلل:
ماذا لو قالوا: السيادة للشريعة ولا مشروعية لما يخالفها.
ما الذي يدفعهم لكل هذه الإشكالات؟ خاصة مع قناعتهم بوجوب تطبيق الشريعة، ومخالفتهم للتيار العلماني في لزوم أحكام الإسلام.
التفسير الأقرب لها هو (إشكالية التلفيق والخضوع للمفاهيم الحداثية المعاصرة).
فحين يأتي الشخص لمفهوم حداثي معين له فلسفته وسياقاته، ويريد إعماله كما هو، فإنه سيقع في إشكالات كثيرة، وكل ما ورد في هذه المقالة هو نموذج تطبيقي لأحد هذه المفاهيم.
سطوة هذه المفاهيم على بعض العقول هي التي دعت أهل البصيرة من باحثي الفكر الإسلامي المعاصر إلى ضرورة الحذر في تقبل هذه المفاهيم، يقول محمد أسد ناصحًا:(إننا عندما نتحدث عن إرادة الشعب في حدود مفهوم الفكر السياسي في الإسلام، لا بد لنا من أن نفكر بحذر شديد كيلا نقع في الخطأ فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أي أننا يجب أن نحرص على ألا نحل محل الاستبداد الغريب عن الإسلام الذي حكمنا خلال القرون الماضية نظامًا لا صلة له هو الآخر بالإسلام، لأنه يدعو لسيادة مطلقة للشعب)(1).
فخلل هذه المفاهيم لا يزول بمجرد تغيير المصطلحات:
فـ (لا يكفي إذن لإصلاح الديمقراطية أن نغير اسمها ونصفها بأنها شورى، بل لا بد من أن تقوم على الأسس الشرعية للشورى الإسلامية، وأول هذه الأسس التزامها بمبادئ الشريعة الإسلامية وعدم فصلها عنها)(2).
فالمطلوب من الباحث أن يفهم الإسلام كما هو لا أن يسعى لتجميله وتحسين صورته:
(وما درى هؤلاء أنهم يشوهون الإسلام لأنه لا بد لهم في محاولتهم هذه أن يميلوا إلى التصنع والتأويل حتى تتم لهم تلك المحاولات.
ومن هنا يأتي التحريف والتزييف والوقوع في الزلل والأخطاء في الإسلام ونظمه، وتغليف جوهره الصافي بسحابات الضباب والأفكار الغربية.
(1) منهاج الإسلام في الحكم، 79 - 81.
(2)
فقه الشورى والاستشارة لتوفيق الشاوي، 583.
ولما كانت النظريات ليست في غالبها إلا مجرد انعكاسات للفلسفة التي يقوم عليها النظام السياسي الذي ظهرت في ظله أو انعكاسًا لواقع هذه النظم ذاتها، فإن محاولة الباحثين في الإسلام لتفسير النظم السياسية الإسلامية على هدى تلك النظريات لن يجرنا إلى أخطاء في التطبيق، وإنما إلى أخطاء فادحة في منهج البحث والدراسة.
فإن لكل نظام فلسفته وتاريخه ونظمه، والإسلام يستقل استقلالًا تامًا عن كل النظم كان تشابه من وجه أو آخر مع بعضها أو في أجزاء منها، لكنه يظل متفردًا من حيث ذاتيته وأساسه الاعتقادي على وجه الخصوص، ولا يصح أن نفسر أي نظام من نظمه إلا على ضوء أسسه الفكرية الخاصة) (1).
والتلفيق حالة من الوهن تحتاج لمثل هذه العزة والثقة:
(دفعهم حماسهم للإسلام إلى أن يثبتوا فيه بغير دراسة متعمقة كل ما يرونه قد راج في أسواق العالم المتحضر، متوهمين أن في ذلك خدمة جليلة للإسلام، فكأنه في أعينهم طفل يتيم ذليل لا يعيش إلا إذا جعل تحت رعاية رجل ذي جاه ونفوذ، أو هم يخافون أن لا تكون لهم عزة من حيث كونهم مسلمين ولا ينالون من الشرف شيئًا إلا إذا أخرجوا للناس مبادئ وأصولًا من دينهم مثل مبادئ النظم السائدة في عصرهم.
فإذا راجت الديمقراطية كان الإسلام ديمقراطيًا، وإذا راجت الاشتراكية كان الاسلام اشتراكيًا، وإذا راجت نظرية سيادة الأمة كانت هذه النظرية من نظريات الإسلام) (2).
(1) رقابة الأمة على الحكام لعلي محمد حسنين، 184 - 185.
(2)
الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي لفتحي عبد الكريم، 18 - 19.
حينها لن يقع في مرض الخوف من: (أن يعاب على التفكير الفقهي الإسلامي أنه لا يوجد به مكان لكل نظرية سياسية أو دستورية قديمة أو حديثة)(1).
هى جاذبية إعلامية. . ولكن؟
حين تتحدث في الإعلام بلغة: إن الشعوب قد تحررت ونالت سيادتها كاملة، فلا يمكن فرض أي شيء عليها، فمن حقها اختيار أي منظومة تريدها، وإن اختارت الإسلام فهذا من حقها، كان رفضته فهذا من حقها، والإسلام يكفل الحريات كاملة. . . إلخ.
هو حديث له جاذبية، ويثير مكامن الرضا والاستحسان في وجوه فئات مختلفة لا تزال تحمل عداءً للمشروع الإسلامي، وسيريح المتحدث مزاجه من مسائل وإشكالات كثيرة تحاصر الإسلاميين، كما أنه هو الممكن في عدد من البلاد الإسلامية.
لكنه في الحقيقة قلمٌ يجري على أحكام الشريعة بالتعديل والتغيير، ويجترئ على اللَّه، فيجعل مراد اللَّه تابعًا لما هو ممكن في الواقع، ويوجه الأحكام بحسب المتاح، ويكون السياق الإعلامي المناسب هو المعيار الذي يحدد تفاصيل الأحكام الشرعية!
(1) مبدأ الشورى مع المقارنة بمبادئ الديمقراطيات الغربية والنظام الماركسي ليعقوب المليجي، 181.