المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل الإلزام بأحكام الإسلام يورث النفاق - معركة النص - جـ ٢

[فهد العجلان]

الفصل: ‌هل الإلزام بأحكام الإسلام يورث النفاق

‌هل الإلزام بأحكام الإسلام يورث النفاق

؟

في أكثر من لقاءٍ فضائي.

وفي إشارات مقتضبة في بعض المؤلفات المعاصرة.

وفي كلام كثير على مواقع الإنترنت.

يتردد الحديث بأن تحكيم الشريعة وفرض أحكامها يؤدي إلى النفاق، وأن الشريعة لا تلزم الناس بأحكامها لأن ذلك سيخلق مجتمعًا منافقًا، ولهذا كان من دلائل الشريعة أن {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

فهل الإلزام بالشريعة أو ببعض أحكامها يؤدي إلى النفاق؟

يقول لك حامل هذا الاستشكال: إنه لا يمكن الإلزام بأحكام الشريعة لأنه يورث النفاق، فالناس حين لا تقتنع بالحكم فإنها ستمارسه في الخفاء، فالمطلوب هو غرس القيم الإيمانية وتعزيز انتماء الناس لدينهم وهويتهم، والاجتهاد في

ص: 38

نصحهم ووعظهم حتى يقوموا بأحكام الدين برغبتهم واختيارهم، وأما مع الإلزام فهو إكراه ينافي الإسلام ويؤدي للنفاق.

وثم تفاوت في إعمال هذا الكلام:

فبعضهم: ينفي بسبب هذا عن الإسلام أي إلزام، ويجعله مجرد رسالة روحية فردية بين العبد وبين ربه ولا علاقة له بنظام ولا حكم لأن حين يرتبط بسلطة وإلزام يتحول من رسالة هداية إلى وسيلة قمع.

وبعضهم: يأتي بمثل هذا الكلام لكن في جانب معين وهو ما يتعلق بالرأي، فحرية الرأي مكفولة مهما تجاوزت أصول الإسلام ومحكماته ما دام ليس فيها اعتداء على أحد، لأن إي إلزام أو منع سيعزز النفاق.

وبعضهم: يجعل هذا الأصل سببًا لتعليق الإلزام بأحكام الشريعة بطريقة معينة، بحيث يكون الإلزام مستمدًا شرعيته من التصويت واختيار الناس لا من كونه حكمًا شرعيًا، فإذا اختار الناس الإلزام بهذه الطريقة فلا بأس، وإلا فهو مرفوض، ولا يمكن تطبيق الشريعة بغير هذه الطريقة وإلا كان هذا سببًا لخلق مجتمعٍ منافق.

فهذه اتجاهات مختلفة كلّها تستدل -بشكل أو بآخر- بشبهة ترتب النفاق على الإلزام بالشريعة.

إذن: الحديث هنا ليس عن الإيمان بالحكم الشرعي، بل عن مستوى الإلزام.

لا حاجة هنا أن يعترض أحد فيقول (إن صاحب هذا الاستشكال لا يؤمن بالنص ولا بحكمه) لأن هذا ليس محلّ السؤال، الحديث تحديدًا عن الإلزام بالحكم.

ص: 39

ولا حاجة لصاحب السؤال بأن يجيب (بأنه مؤمن بالنص)، لأن الخلاف تحديدًا عن الإلزام بالنص وليس عن مجرد الإيمان به.

هذا هو تفصيل السؤال، وهو يحمل في طياته خللًا بينا وتصورًا خاطئًا وإشكالات مركبة، ستظهر بإذن اللَّه من خلال تفكيك هذا السؤال ومناقشة مقدماته وإظهار مخفياته.

فهذا السؤال يحمل ثلاث إشكالات رئيسية:

الأول: إلغاء وصف (الإلزام) في الشريعة تصريحًا أو مآلًا.

الثاني: الخلل في فهم النفاق ومعرفة أسبابه.

الثالث: الخلل في تصوّر الإلزام وأثره.

وحجم هذه الإشكالات يتضح -بإذن اللَّه- مع استعراض هذه العناصر:

(1)

يجب التفريق -أولًا- بين ترك الإلزام بالشريعة أو ببعض أحكامها في ظرفٍ ما، أو مكانٍ ما، أو لسببٍ ما، وبين التأصيل الكلّي العام الذي يعود على مفاهيم الشريعة بالنقض والتحريف.

فهذا التأصيل -بجعل الإلزام يؤدي للنفاق- يرجع على أصل الإلزام بالشريعة بالنقض.

فإذا كان الإلزام بالشريعة يؤدي إلى النفاق فمعناه أن الشريعة يجب أن لا يكون فيها إلزام، ولو وجد فيها إلزام فهو مفسدة ظاهرة تؤدي للنفاق ولا فائدة

ص: 40

منها ويجب تبرئة الشريعة من هذه النقيصة، وهذا هو لازم مؤدٍ للوقع في الفكرة العلمانية الصريحة التي غمرتها الأمة رفضًا واستنكارًا.

وهنا تكمن المشكلة: فالإلزام ببعض أحكام الشريعة قد لا يكون ممكنًا في بلد ما، أو يترتب عليه مفاسد أعظم في حالة ما، الخ هذه الأسباب التي يجب مراعاته عند تطبيق الأحكام الشرعية، فالموقف الصحيح حينها أنه واجب شرعي قد يسقط لعدم القدرة، وهذا أصل شرعي محكم {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقاعدة السياسة في الإسلام تقوم على الأخذ بأرجح المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، فالإلزام ليس فرضًا في كل زمان ومكان وحال وشخص ونظام، بل قد يؤجل أو يسقط لاعتبارات عدة خاضعة للميزان الشرعي.

إذن أين المشكلة؟

المشكلة أن يتحول الاستثناء إلى أصل، وأن تنتقل الضرورة إلى حكمٍ ثابت وأساس محكم، فالقول بأن النفاق تابع وأثر للإلزام يعني أن أصل الإلزام كله مرفوض مطلقًا، وأن الشريعة ليس فيها إلزام، وهذا تجاوز وحذف لأصل شرعي ثابت ومجمع عليه ولا يمكن إنكاره، وكون الإنسان لا يستطيع تنفيذه أو يرى أن ثم ما هو أوجب منه أو يرى أن تنفيذه سيثير مفاسد معينة، كل هذا لا يجيز إلغاء الحكم الشرعي.

فالإنسان قد يضطر لشرب الخمر مثلًا، وهو شيء مقبول، بل ويجب عليه أن يشربه، ولو قال إن الخمر شراب من ضمن الأشربة ولا تشددوا على الناس، لعد قوله منكرًا شنيعًا ولو كان مضطرًا، لأن الضرورة في الشرب وليس في تغيير الحكم الشرعي.

ص: 41

فالإشكال ليس في (التطبيق) الذي سيجري في بلد معين من بلاد المسلمين حين يكون مراعيًا للأصول الشرعية في المصالح والمفاسد بل في حقيقة (التصور الشرعي).

حينئذٍ فلا معنى لما يكرره بعض الفضلاء من أن كثيرًا من العلماء لا يفقهون واقع تلك البلاد.

فأيًا ما كان مستوى فقه العلماء لذلك الواقع، لا علاقة لهذا بأساس الخلل.

القضية متعلقة بمفهوم شرعي، وليس بتطبيق معين في أي بلد، فالقضية علم بأحكام شرعية ثابتة وليس علم بواقع مجتمع معين.

وكون البلد يعاني من مشكلات معينة، ويجد الدعاة فيه إشكالات وصعوبات كثيرة، كل هذا لا يجيز تحريف الأحكام الشرعية أو تغيير مفاهيمها، فهذا دين وشرع من عند اللَّه، الحديث فيه توقيع عن اللَّه، وهو مزلق عظيم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33] فحاجة المجتمع والمتغيرات التي يعيشها ليست عذرًا لأحد في حذف شيء من الشريعة أو إدخال شيء فيها، والعناية بهذا الموضوع ليس ترفًا علميًا أو سجالًا جدليًا.

فهو أولًا: من بيان أحكام الشرع، وحفظ المفهوم الشرعي مطلب بحد ذاته.

وثانيًا: فوضوحه للناس سبب لأن يتمسكوا به ويطالبوا به حتى يستطيعوا تحكيمه فيما بعد.

وثالثًا: أن كونه ضرورة أو حاجة يقتضي معاملته وفق القواعد الشرعية لهذه الأبواب، فليس كل دعوى في هذا مقبولة، ولا كل اجتهادٍ فيها معتبر.

ص: 42

ورابعًا: أن حاجة المجتمعات تختلف فإذا لم يستطع بلد أن يطبق بعض أحكام الشريعة فثم مجتمعات تستطيع أن تطبقه، فيجب أن يكون الحكم الشرعي بينًا لا تختلط فيه صورة الأصل مع الضرورة.

(2)

ومن يلتزم بهذه الشبهة سيقع في إشكال عميق مع قائمة طويلة من الأحكام الشرعية، وستطول عليه أساليب التأويل والتحريف والتغيير.

فالقضية ليست نصًا جزئيًا يمكن أن يتأول أو يكون ضعيفًا.

الإلزام أصل شرعي محكم يقوم على نصوص وأحكام وقواعد لا تحصر، وسأعدد سريعًا -لتوضيح حجم هذا الأصل- بعض هذه الأحكام:

- الحدود الشرعية، ففي القرآن حد السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وحد الزنا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وفي السنة الصحيحة عقوبة شرب الخمر، فهذه ليست إلزامات فقط، بل عقوبات على هذه الجرائم، تعني تجريم الفعل وتحديد عقوبة معينة عليه، فهو إلزام بترك الفعل، وإلزام بعقاب معين، فهل نتعامل مع هذه الحدود على مبدأ {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أم على مبدأ أن الإلزام يؤدي للنفاق؟

- وجوب تغيير المنكر بدرجاته الثلاث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)(1) فالتغيير باليد يعني منعًا وإزالة، وهو إلزام على التزام أحكام الشريعة، بخطابٍ لعموم الناس وليس خاصًا فقط بالنظام، فهل الواجب تغيير المنكر أم هو داع للنفاق؟

(1) أخرجه مسلم برقم 186.

ص: 43

- التحاكم إلى الشرع، فقد أمر اللَّه بالتحاكم إلى كتابه فقال سبحانه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وقال تعالى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} [النور: 47 - 48]، وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] فهذه آيات صريحة على وجوب التحاكم إلى الشريعة، ولو لم يكن في الشريعة إلزام ومنع وفرض لما كان للتحاكم أي معنى؟ فيتحاكمون لأي شيء ما دام أن حكمه غير ملزم؟

وقد قال اللَّه تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فالمؤمن ليس له خيار في الالتزام بالشريعة وأحكامها، كيف توفق بين الإيمان بهذه الآية وبين القول بأنه لا إلزام في الشريعة؟ كيف لا يكون له خيار، لكنه في نفس الوقت ليس ملزمًا؟! هذه معادلة معقّدة جدًا!

- الجهاد في سبيل اللَّه، ففي نصوص القرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين وأصحابه الكرام ما هو شائع مشهور، فإذا لم يكن في الشريعة إلزام فعلى أي شيء كان كل هذا الجهد والجهاد؟

حتى على التفسير العصري المحدث القائل إن الجهاد في الإسلام كان لردّ العدوان ولدفع المعتدي فقط، فحتى على هذا التفسير يبقى موضوع الإلزام مشكلًا، لأن الصحابة في جهادهم لم يكتفوا بدفع العدوان وتسليم البلد لأهلها ثم عادوا إلى بلادهم، بل حكموا البلد بالإسلام وأقاموا شعائره وألزموهم بنظام الإسلام، فهل كانوا دعاةً إلى الإسلام نشروا شعائره في الخافقين أم أنهم كانوا يغرسون النفاق في جذور المجتمع من حيث لا يشعرون؟

ص: 44

وسيرة الخلفاء الراشدين ظاهرة في الأخذ بالإسلام ونشره وإقامة شعائره، وأحكامهم مع أهل الذمة لا تخفى على أحد، فأيًا ما كان تفسيرهم لهذه الأحكام فهل أدى هذا الإلزام للنفاق أم كان سببًا لنشر الإسلام وتقويته وتوسيع دائرة أوطانه؟

- نصوص العقاب والإهلاك: ففي القرآن والسنة نصوص عدة تثبت أن المنكر إذا ظهر وفشا كان عاقبته الهلاك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش وقد سأَلته (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث)(1) فكثرة الخبث مؤذنة بالهلاك، وهذا يعني أنه يجب منع هذا الخبث حتى لا يحل بالمسلمين الهلاك.

- السنة العملية الظاهرة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، ومن معهم من الصحابة رضي الله عنهم في الأخذ بالشريعة والإلزام بها، فقد حد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر، ورجم في الزنا في عدة وقائع، وهم بتحريق بيوت تاركي الصلاة في المساجد، وعاقب من تخلف عن الجهاد معه، وقام بجباية الزكاة، وأسقط الزيادة في الديون الربوية، وأخذ الجزية من أهل نجران، وجلد في القذف، وأخذ الناس بأحكام الجنايات والديات والبيوع والأسرة، وقام بالفصل بين الخصومات. . إلخ.

وأما نصوص الصحابة فحدث ولا حرج، فقد قاتلوا المرتدين، وجبوا الزكاة، وحكموا بين الناس في كافة قضاياهم، وطبّقوا أحكام أهل الذمة، وأقاموا الجهاد، والحدود، والعقوبات التعزيزية على المعاصي، إلخ.

(1) أخرجه البخاري برقم 3403، ومسلم برقم 7418.

ص: 45

بصراحة أجد أن تعداد هذا ترف علمي لا حاجة له، لأنه من البدهيات التي يعرفها كل الناس، فلم يكن سؤال (الإلزام) بالشريعة مطروحًا في تلك العصور أصلًا، لأنه بدهي وضروري من أحكام الإسلام، إنما طرح هذا الموضوع بسبب ضغط مفاهيم الثقافة العلمانية المعاصرة التي حركت محاولات التوفيق والتلفيق والموائمة.

- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)(1)، وقال عليه الصلاة والسلام:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وذكر منها التارك لدينه المفارق للجماعة)(2)، وقد اعتضد هذا الحكم بعدة تطبيقات عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وانعقدت عليه كلمة عامة فقهاء الإسلام.

أعرف جيدًا أن لبعض المعاصرين تفسيرًا مختلفًا للحكم في قول لا يعرف له قائل من قبلهم.

لكن بغض النظر عن صحة قولهم أو فساده، ما تفسيرهم لاتفاق كافة الفقهاء على هذا القول؟ هل كان الفقهاء ينشرون النفاق ويعمقونه في المجتمع من حيث يظنون أنهم يطبقون الإسلام؟

وعلى فرض أن بعض الفقهاء لا يقولون بحدّ الردة، فإنهم كانوا يقولون بسجنه أو استتابته، يعني في النهاية هو منع وإلزام وليس فيها حرية مطلقة للردة.

مع ملاحظة أن دافع النفاق هنا قوي جدًا، لأنك أمام شخصى أعلن كفره،

(1) أخرجه البخاري برقم 6922.

(2)

أخرجه البخاري برقم 6878، ومسلم برقم 1676.

ص: 46

ثم يوقف عند القضاء حتى يتراجع وإلا عوقب، فاتجاهه للنفاق حتى يسلم بنفسه سلوك طبيعي جدًا، ومع هذا فلم يكن أحد من الفقهاء بتاتًا يقول اتركوه حتى لا يكون منافقًا، بل يلزم بقانون الإسلام وباحترام نظامه وآدابه، ولو نافق مثله فهو خير من الإضرار بعموم المجتمع.

فإذا كان مثل هذه الصورة المؤدية فعلًا للنفاق غير معتبرة عند أحد من فقهاء الإسلام، فكيف تكون الخشية من النفاق مؤثرة في قضايا لا يمكن بتاتًا أن تكون سببًا للنفاق؟

(3)

هل من يثير هذا السؤال يتصوّر حالة المنافقين في عصر الرسالة؟

النفاق وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرهم اللَّه في القرآن وحذر منهم وبيّن صفاتهم، ولم ينبت النفاق في المدينة إلا بعد أن قوي الإسلام واشتد عوده وظهرت شعائره، فوجودهم حالة طبيعية ملازمة لتطبيق الشريعة وقوتها وظهورها وليس عيبًا على الشريعة، فالنفاق لا يخرج إلا في المجتمع الإسلامي القوي، حين تظهر شعائره وتعظم حرماته فيلجأ بعض الناس لمسلك النفاق لأنه لا يستطيع أن يمارس فساده وانحرافه، فهذه علامة قوة وصحة للمجتمع، فوجود النفاق لا يؤدي لإلغاء الإلزام بالحكم الشرعي وإلا لكان هذا طعنًا وانتقاصًا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، لأن قوة الشريعة وظهورها على يده هو الذي ظهر بعده المنافقون، ولم يكونوا موجودين قبل ذلك لما كان الإسلام ضعيفًا في مكة.

فالحديث بطريقة: أن الإلزام يؤدي للنفاق وبناءً عليه فلا إلزام، تركيب خاطئ للموضوع.

ص: 47

بل وجود النفاق مع الإلزام ظاهرة صحية شرعية طبيعية، فلا يتعطل أصل شرعي من أجله.

النفاق لا يوجد إلا مع قوة الإسلام، ولن يذهب إلا مع ضعف الإسلام، فإذا كان الهدف هو إزالة النفاق فالحل إذن هو في إضعاف الإسلام حتى لا يحتاج أحد للنفاق.

أما حين يذهب الدعاة والعلماء والفضلاء لتقوية الإسلام وتعميق أحكامه وقيمه ومبادئه في نفوس الناس فإن هذا سيؤدي بداهة لوجود المنافقين الذين يضطرون لمسايرة هذا الواقع والاستفادة من منجزاته، فوجود النفاق دليل على قوة الإسلام وليس ضعفه.

أيضًا: فالإلزام لا يُترك خشية النفاق، بل إن العيب والذم يلحق المنافقين لتفريطهم في الالتزام بأحكام الإسلام، فقد كان يتهرّبون من حكم الإسلام {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60].

فهم يرفضون التحاكم، واللَّه يذمهم ويعيبهم على تركهم للتحاكم إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فترك التحاكم إلى الشريعة والابتعاد عن الإلزام بها هو صفة المنافقين، وليس هو سبب للنفاق.

فالتصوّر الشرعي: هو دعوة المنافقين للتحاكم وإلزامهم به.

أما أن يترك الإلزام لأجل أن لا يكون لدينا منافقين فهو بعثرة للصورة بالكامل.

ص: 48

وإذا كان هذا في المنافق غير المؤمن من الأساس فكيف بالمؤمن المسلم المنقاد؟

(4)

إن هذا يدعوني للسؤال عن مفهوم النفاق وتعريفه لدى صاحب هذا الاستشكال.

فما مفهوم النفاق؟

لأن كل المعطيات السابقة والآتية تثبت أن المسلمين لا يتحولون إلى هذا النفاق بسبب إنكار المنكر أو بتطبيق الشريعة، فهو غير مؤدٍ بتاتًا إلى النفاق، فالنفاق أن يسر الإنسان بالكفر ويظهر الإيمان، فما علاقة هذا بإنكار المنكرات أو تحكيم الشريعة؟

نعم، هذا سيكون في بعض الأحكام الشرعية ومن فئة قليلة لديها موقف سلبي من الدين نفسه وتريد الطعن في الإسلام لكنها لا تستطيع ذلك خشية العقاب فتلجأ إلى النفاق، وهذا موقف صحي وقوي، فالاستتار بكفره وعدائه خير من إعلانه الاستخفاف والاستهتار.

فالنفاق لا يكون بالإلزام.

بل الواقع أن النفاق إنما يكون حين يضعف الإلزام.

فالمنافقون يخفون غيظهم وحنقهم على الإسلام والمسلمين، وإذا وجدوا مجالًا أو وضعًا مناسبًا استغلوه وأظهروا الرجف والتشكيك، لهذا كان علاجهم القرآني بالتهديد والوعيد {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} [الأحزاب: 60] فالقوة والإلزام هي التي تحمي المجتمعات

ص: 49

من المنافقين، وتركه هو الذي يجرئهم ويغريهم، لهذا جاء الخطاب القرآني {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، فهذه هو علاج القرآن للمنافقين، ولم يكن علاجهم بطريقة: خذوا راحتكم، وأعلنوا كفركم وأنتم في حل من الشريعة، المهم أن لا تصبحوا منافقين!!

النفاق لا يستقر في النفوس بسبب الشعائر، الشعائر والإلزام بركة وديانة وتقوى للَّه، شيوعها يقرب النفوس للدين ويجعلها تألفه وتحبه وتعتاده، النفاق لا ينشأ بسبب هذا، إنما ينشأ بأسباب أخرى، من أعظمها شيوع مسالك التشكيك والطعن في الدين وإثارة الشبهات فيه، فهذا من أعظم أسباب النفاق لأنه يهز اليقين في نفوس بعض الناس ويدخلهم في الحيرة والشكوك، فهذه منابت النفاق التي يجب الحرص عليها لمن كان صادقًا فعلًا في محاربة النفاق ومتألمًا منه، ومن الملفت أن من يرفض الإلزام بدعوى أنه يورث النفاق هو نفسه من يقرر حرية التشكيك وإثارة الشبهات والطعون في الإسلام وأحكامه، فأيهما الذي يورث النفاق؟

(5)

أن إخفاء المعاصي والمنكرات خير من إظهارها وإشهارها، فعلى أسوء الاحتمالات فلو أن المنع لم يفد شيئًا وأصبح الناس يمارسون ذات المنكرات في الخفاء فإخفاؤها خير من إظهارها وإشاعتها، بل ولا وجه للمقارنة بينهما، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)(1) فالمجاهرة بالذنب أشر وأقبح من الإسرار به، وما دام المنكر سرًا فلا يحاسب عليه المجتمع ولا يؤاخذ به، إنما المحاسبة على المنكر حين يشيع ويظهر.

(1) أخرجه البخاري برقم 6069، ومسلم برقم 2990.

ص: 50

(6)

ثم إن التخفي بالمعصي ليس نفاقًا، فإذا منع المسلم من شرب الخمر فشربه سرًا فهذا خير له وأخف شرًا وليس نفاقًا.

وما أدري لماذا يتصور السؤال أن المسلم إما أن يشرب الخمر جهرًا ويفعل الفاحشة جهرًا وإما أن يكون منافقًا يشربه سرًا ويفعلها سرًا؟

ثم هل الإسرار بالمعصية نفاق؟

لا يقول هذا عالم، فالإسرار بالمعصية أولى من الجهر بها، فهو شرعًا أفضل وأهون، فلا أدري على أي اعتبار صار منافقًا؟

حتى ولو بحث المسلم عن المعصية واجتهد في الوصول إليها ولم يجدها فهذا ليس نفاقًا ولا علاقة له بالنفاق بتاتًا.

(7)

وهذا السؤال يمارس تصويرًا مغلوطًا واضحًا، فهو يفترض أن المسلم حين يمنع من الحرام فإنه سيفعله في السر، وكأنه لا وجود لخيار ثالث هو الأكثر والأشهر، وهو أن عامة المسلمين حين يمنعون من الحرام فإنهم سيتركونه لما في نفوسهم من تعظيم للشرع وميل لتطبيقه أحكامه ما استطاعوا، وإنما تبقى قلة هي التي تمارسه في الخفاء.

كما أن هذا السؤال يخفي أثر إشاعة الحرام في توسيع دائرة مرتاديه وتجرئة الناس على فعله، فاعتقاد أن منع الحرام لن يؤثر في مضايقته وإبعاد الناس عنه

ص: 51

تصور بعيد جدًا عن الواقع، ولهذا جاءت الشريعة بالحث على التستر بالمعاصي وهو شيء بدهي يفهمه عامة الناس فتراهم يرددون: إذا بليتم فاستتروا.

وقد قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] فالمنكر الظاهر يجرئ الناس ويوسع الفساد فإذا لم يظهر غفل عنه الناس وتركوه.

إن الصلاح الظاهر وشيوع الشعائر يؤثر على صلاح الناس، كما أن شيوع المنكرات تؤثر على فساد الناس، فالمنكر إذا انتشر أثر في الناس وزاد ضرره وكثر مرتاديه، فالقضية ليست خاصة بمن يريد المنكر ويبحث عنه، بل إن المنكر إذا شاع سهل في النفوس وخف أثره وجرأ الناس عليه، ولهذا كان من حكمة الشريعة في إنكار المنكر إضعافه وتقليله لئلا يؤثر على الباقين، فالمنكر يؤثر على الصالحين، وليست الصورة أنه منكر متجذر في نفوس الناس بدأ معهم فطرة، بل إن تركه وطول العهد به هو الذي يجعله منتشرًا وتقبله النفوس، وإذا حورب وضيق عليه قل أثره وضرره.

(8)

وهذا الإلزام لا يخلو منه أي قانون ولا نظام معاصر، فكل الأنظمة المعاصرة تقوم على قوانين وأنظمة ملزمة في كافة شؤون حياة الناس، والالتزام بها ضرورة، حتى ولو خالفها بعض الناس فلا يتصور أن يخطر ببال أحد أن مخالفتهم تعني أن القانون لم يعد له أهمية فإما أن تلتزم به أدبيًا أو لا حاجة له؟

لا أحد يفكر بهذه الطريقة لأن هذا شأن معيشي بدهي، والناس يعرفون أن القانون إذا قوي واستقر زادت قناعة الناس به ورضوا به مع كونهم في الأصل مكرهين عليه وملزمين به.

ص: 52

وفي برنامج فضائي سأل مقدم البرنامج أحد خصوم المشروع الإسلامي: لماذا لا تمنعون الخمر؟ فقال: إن المنع لن يفيد شيئًا لأن الناس ستعرف طريق الوصول إليه، فأجابه: لماذا لا تقول هذا في السرقة والاعتداء على الأموال، لماذا لا تكررون هذا الكلام إلا مع هذه القضايا بالذات؟

لم يكن مقدم البرنامج متحمسًا للدفاع عن الأحكام الشرعية حين قدم هذا الاعتراض بقدر ما كان يتحدث بلغة عفوية تتفهم بوضوح أن الإلزام شأن مفروض في النظام المعاصر، فلم يجد سببًا معقولًا لهذه الازدواجية في قبول بعض الإلزامات دون بعض!

(9)

ثم إن خطاب الشريعة في القرآن والسنة، القائم على أوامر ونواهٍ، هل هو خطاب للفرد فقط، أم للفرد والمجتمع؟

حين نقرأ في القرآن مثلًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278].

فيفهم منه المسلم أنه خطاب للفرد بأن يترك الربا امتثالًا لأمر اللَّه، وللمجتمع المسلم بأن يترك الربا، وللدولة المسلمة التي تقوم على سياسة هذا المجتمع أن تترك الربا.

وهذا يعني أن الإلزام جزء أساسي من الحكم الشرعي.

أما اعتقاد أن النص يدل على تحريمه على الفرد، أما تحريمه نظامًا وقانونًا فهو شيء آخر، فهو تفكير جديد، يناسب تفكير الفئة المتأثرة بالثقافة العلمانية حين تجعل الدين شأنًا فرديًا وخطابه متجه للفرد لا يمس النظام والدولة.

ص: 53

إن المسلم حين يدخل في الإسلام فإنه ضرورة سيكون مسلِّمًا ومنقادًا لحكم الإسلام، فالإسلام نظام شامل، لا يوجد في الفكر الإسلامي أن يُسلِّم الشخص فيدخل في الإسلام، ثم يسلِّم مرة أخرى فيوافق على حكم الشريعة، هذه درجتا فهم تناسب الثقافة العلمانية التي ترعرت في ظل المفهوم الكنسي، لأن الدين لديهم علاقة روحية لا تمس الحكم، فيختار الحكم الذي يريد بغض النظر عن دينه، أما المسلم فإنه حين رضي بالإسلام فقد رضي به حكمًا، وهذا يقتضيه إيمانه بالإسلام لزومًا ضروريًا، فكما أنه حين يدخل في الإسلام لا يبحث عن رضاه في أن يصلي أو يصوم أو يحج لأنها أحكام شرعية لا يصح إيمانه بدون التزام بالقيام بها، فكذلك لا يبحث عن رضاه في أن يحكم بحكم الإسلام.

معنى هذا أن الإلزام بأحكام الإسلام ليس شيئًا طارئًا وجسمًا غريبًا نبحث له عن سبب ومشروعية معينة، بل هو أصل وفرض لازم لأي مسلم، وهذه مجتمعات مسلمين قامت في أرضها دول إسلامية خلال عشرات القرون، لم تعرف غير حكم الإسلام وإلزامه، فليس لها خيار عن حكم الإسلام.

فالتفكير الذي يفصل الحكم بالإسلام عن كونه لازمًا لدخول المسلم في الدين، ويبحث للحكم بالإسلام عن مشروعية أخرى، هو من دوافع الخلل الذي يعمق وهم أن الإلزام يورث النفاق.

(10)

أن المطالبة الشرعية تتجه للظاهر لا الباطن، فلست مسؤولًا عما في بواطن الناس وخفايا قلوبهم فأمرها إلى اللَّه، فما دام أنه في خفايا قلبه فهو خاص بصاحبه ولا يضر إلا نفسه، ولا يعد منكرًا في الشريعة يجب إنكاره لأنك لا تدري عنه.

ص: 54

فمن الفارقات أن يترك السلم النكر الظاهر الذي يجب عليه (= منع المحرمات الشرعية)، خشية من منكر خفي لا يعلم عنه وهو غير واجب عليه! (= لئلا يورث النفاق).

فالشريعة تأمره بالمنكر الظاهر، فيتركه خشية من منكر ليس بواجب عليه؟

ويترك منكرًا معلومًا، خشية من منكر غير معلوم ولا يمكن الكشف عنه؟

ويترك منكرًا متيقنًا خشية من منكر موهوم لا يجزم به؟

(11)

ثمّ إن بعض النفوس فيها من الشر والسوء والكره للإسلام وأهله، فهل نتيح لهم الفرصة ليعبّروا عن مشاعرهم ويسيئوا للإسلام وأهله حتى لا يكونوا منافقين؟

يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (فإن الكلمة الواحدة من سب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين اللَّه ظهورًا يمنع أحدًا أن ينطق فيه بطعنٍ أحب إلى اللَّه ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مهان)(1).

هذا هو التفكير الإسلامي البدهي الذي تجده عند أكثر المسلمين ولا تجد عندهم التفكير بطريقة (بل ليظهروا الفساد والانحراف حتى لا يتحولوا إلى منافقين)!

(12)

وإذا كان الإلزام سيؤدي إلى النفاق، فحتى النصيحة والموعظة ستؤدي إلى النفاق كذلك، لأن أكثر الناس يستجيبون للنصح والوعظ وإن كان قد يمارسها في الخفاء، فهل يكون مثل هذا منافقًا؟

(1) الصارم المسلول 3/ 939.

ص: 55

فعلى طريقة تفكير السؤال يجب أن يكون حكم النصيحة كحكم الإلزام لأنها تجعل الشخص يستحي منك ويترك المنكر حياء ويفعله سرًا فيكون منافقًا!

بل إن أثر الحياء من المجتمع في ترك المنكر أقوى بكثير من أثر الإلزام، فالإنسان يراعي الناس وأعرافهم، ويمارس معهم من الحياء والمداراة ما هو أعظم بكثير من مراعاته لمجرد الإلزام القانوني، فإذا كان الإلزام يؤدي للنفاق فالحياء من المجتمع نفاق أيضًا!

فالدافع إلى النفاق ليس هو الخشية والإكراه فقط بل ثمَّ دوافع مصلحية أعظم متعلقة بالجاه والمال والمكانة وكسب المصالح الذاتية من المجتمع، فهو يراعي المجتمع أكثر من مراعاته للنظام، فارتباط مصالحه بأفراد المجتمع أضعاف ارتباطه بالنظام، فعلى هذا فحتى لو زال الإلزام فسيبقى النفاق ما دام في الناس اعتزاز بدينهم وهويتهم يجعلهم ينقصون مقدار من يخالف الإسلام فيضطر للنفاق مسايرة لهم.

(13)

ثم إن هذا الإلزام بأحكام الشريعة هل سيأتي من خلال البرلمان واختيار الناس أم لا؟

هل ستمنع الخمور والفواحش وبقية المنكرات وتطبق أحكام الشريعة لو أتيحت الفرصة من خلال اختيار الأكثرية؟

هل سيكون هناك فرضٌ للشريعة وأحكامها حين تكون نصًا دستوريًا؟

ص: 56

إن كان الجواب بـ (نعم) فإن هذا سيؤدي للنفاق وهي ذات المشكلة التي نتحدث فيها الآن! فهل سيزول النفاق وتنتهي المشكلة بمجرد أن يصدر قرار برلماني بذلك؟ أو بمجرد أن يكون نصًا دستوريًا؟

إذا كان الإلزام إكراه في الدين ولا يمكن أن يلتزم به الإنسان إلا برضاه، فلا يجوز إذن إلزامه ابتداءً ولا بقانون ولا برأي أكثرية، لأن وصف النفاق موجود لم يتغير.

فالقول بعدم الإلزام خشية من النفاق، ثم القول بعده بأن يكون الالزام من خلال البرلمان أو التصويت أو الدستور تناقض ظاهر، لهذا فالقول بأن الالزام يورث النفاق يطرد مع القول بأنه لا وجود لإلزام في الشريعة كما هي الرؤية العلمانية، حيث تجعل الإسلام رسالة روحية تخلو من أي إلزام أو فرض، وترفض الالزام لأنه ينافي رسالة الإسلام ويؤدي إلى النفاق.

(14)

يسوق هذا السؤال جزئية: (أن المطلوب هو تزكية النفوس وتطهيرها لا إلزامها بما لا تريد).

والحقيقة أن الإلزام جزء من تزكية الناس وتطهيرها.

فجعل المسألة: إما إلزام للشخص وإما أن يقوم بها من نفسه وضميره، قسمة غير عادلة ولا منصفة.

بل الإلزام يتكامل مع مراقبة المسلم وإيمانه ودافعه الذاتي، فهما متكاملان لا ضدان، كون الشريعة جاءت بالإلزام لا يعني أنها لا تأتي بالدافع الذاتي، بل

ص: 57

كلاهما واجبان شرعيان وطريقان صحيحان لتزكية النفس وتطهيرها ودفعها نحو طاعة اللَّه وعبادته.

ثم إن الإلزام بالشريعة هو سبب لتطهير النفس وتزكيتها من الأمراض والأهواء وتصحيح مسارها وتقوية مراقبتها للَّه.

فالله تعالى يقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} [النور: 47].

فترك التزامه بالتحاكم ينفي عنه صفة الإيمان، فالإلزام جزء من الإيمان، وقد أثنى اللَّه عليهم {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51] فالإلزام فلاح ونجاة وهذا معنى عظيم من معاني التزكية.

فالتزكية إنما تكون بالقيام بأوامر اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم وترك نواهي اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ليست التزكية حالة روحانية شعورية خارجة عن الشريعة، فبقدر ما يلتزم بالعبادة والطاعة -والتي منها الإلزام- بقدر ما تحصل التزكية، وبقدر ما يبتعد عنها تضعف التزكية، فالتزكية غاية شرعية تقوم على وسائلها الشرعية.

هذه أوجه عديدة متفرقة لتفكيك هذه الإشكالية الشائعة في عصرنا، إشكالية تتوهم أن تطبيق أحكام الإسلام سيورث النفاق ويؤدي إلى النفاق، وأيًا ما كان مقصد الشخص في الاستدلال بها، هل يريد بها نفي الالزام مطلقًا عن الشريعة كما هي الرؤية العلمانية أو يريد تعليق الالزام بطريقة معينة لكي تتوافق مع الثقافة الحداثية المعاصرة أو يريد غير ذلك، فهي قاعدة باطلة تقوم على أساس موهوم وأينما توجهت بها لا تأت بخير.

ص: 58