الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثالث: أن سيادة الأمة هي الطريق الأمثل لحكم الشريعة في عصرنا الحاضر، وليس بيد الناس استطاعة شرعية لتطبيقها من دون هذا الطريق.
الأصل الرابع: أن سيادة الشريعة لا تطبق إلا عبر الناس أنفسهم، فإن لم تجعل السيادة بيد الناس فستجعلها بيد المتغلب، وكونها بيد الناس أضمن، كما أنهم هم المكلفون بتطبيق الشريعة.
وعامة ما يقال في هذا السياق لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة.
مناقشة الأصل التلفيقي الأول:
يقول هذا الأصل أنه لا بد من رضا الأكثرية وإلا كان إكراهًا.
وهذا التلفيق يخالف المنهج الإِسلامي في أساسين:
الأساس الأول: أن تسمية حكم الإسلام هنا (إكراهًا) هي تسمية منطلقة بحسب الرؤية الديمقراطية، وليست بحسب الرؤية الإسلامية، فالاختيار حسب المفهوم الديمقراطي الليبرالي يتحدد من خلال التصويت الانتخابي، وأي حرمان منه فهو إكراه، وأما الاختيار في التصور الإسلامي فهو تابع للإسلام، فالمسلم حين يدخل في الإسلام فقد اختار أن يحكم بالإسلام، فليس هناك درجة أخرى من الاختيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} [النور: 47]، فالرضا بحكم الإسلام هو من لوازم إيمان المسلم، فكما أن المسلم لا يختار بعد إسلامه أن يصلي أو يصوم أو يبر والديه، فكذلك لا يختار حكم الإسلام.
إذن، فحين تحكم المسلمين بالإسلام فهذا من اختيارهم، وليس فيه أي إكراه، فالاختيار يعرف بدخولهم في الإسلام، وليس بإجراء انتخابي معين، فقبل أن
نستدل بآية الإكراه يجب أن نستوعب أن هذا الإكراه هو (إكراه ديمقراطي ليبرالي)، وليس هو (الإكراه الشرعي).
الأساس الثاني: أن تحكيم الإسلام وخضوع الناس لحكمه وقوانينه ليس من الإكراه في شيء، ولا علاقة له بقوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، فجعل هذه الآية ذريعة لتعطيل الشريعة غلط وفهم منحرف عنها، ويظهر هذا من وجوه:
1 -
أن علماء التفسير قد اختلفوا في تفسير هذه الآية إلى ما يزيد على ستة أقوال ليس فيها أي إشارة إلى أنها تشمل المسلمين، بل كل الأقوال ترجع إلى الكفار بعدم إكراههم على ترك دينهم والدخول في الإسلام قسرًا أو التعرض لهم إن دفعوا الجزية، ولم يقل أحد بتاتًا إنها تشمل المسلمين (1).
2 -
أن تحكيم الشريعة ليس من الإكراه في الدين، فهو خضوع لقوانينها وأحكامها، وليس فيه إكراه أحد على مخالفة دينه.
وعلى افتراض أن ذلك إكراه، فالعموم في الآية (عموم في نفي إكراه الباطل، فأما الإكراه بالحق فإنه من الدين، وهل يقتل الكافر إلا على الدين)(2).
3 -
أن أحكام الإسلام كانت تطبق في الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، تطبق على المسلم والكافر، وما كان يؤخذ آراء الناس لمعرفة رضاهم أو سخطهم، بل إن الفتوحات الإسلامية أخضعت بلدانًا كثيرة ولم تخيرهم في حكم الإسلام وهم غير مسلمين، فكيف تخير المسلمين في حكمهم بالإسلام؟
(1) فصلتُ هذه الأقوال في كتاب (التسليم للنص الشرعي والمعارضات الفكرية المعاصرة) ص 183 - 185.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي 1/ 233؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/ 280 - 283.
4 -
والقول بأن تحكيم الشريعة من الإكراه في الدين يلزم منه نفي وجود أي إكراه في الدين، وهو منافٍ لحقيقة الإسلام، ففيه واجبات ومحرمات وحدود وعقوبات، فلازم هذا القول أن يجعل الإسلام رسالة روحية محضة ليس فيها أي إلزام سياسي -كما هي الرؤية العلمانية-، وأما القول بأن الإسلام فيه إلزامات مع القول بعموم (لا إكراه في الدين) لكل إكراه، فظاهر التناقض!
لهذا؛ لا تجد هذا الفهم عند أحدٍ من المتقدمين، فتفسيرهم للآية ينسجم مع فهمهم لأصول الشريعة وقطعياتها، فلا يمكن أن يقول بأن الآية مطلقة العموم في كل إكراه، لأن هذا ينقض أحكام الإسلام بوضوح، لهذا (لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها، لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد على دينه)(1).
5 -
لا إشكال لدى أصحاب هذه الدعوى من تطبيق الشريعة إن جاءت بتصويت الأكثرية، إذن كيف تكره الأقلية على ذلك ما دام أنه لا إكراه في الدين حسب تصوركم؟ ثم لو أراد بعض من صوت مع الأكثرية أن يتراجع فهل يكره على الدين لمجرد أنه شارك في التصويت؟
فإذا كان تحكيم الشريعة إكراهًا، فلا يجوز تطبيقه على الأقلية ولو أرادت الأكثرية، فعجيب أمر هذا التطبيق، يكون إكراهًا ثم يزول الإكراه بمجرد تصويت الأكثرية! وكأن الآية تقول {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} إلا إن اختارت الأكثرية فأكرهوا الأقلية عليه! والظريف -والمؤسف- أن الأكثرية هذه متعلقة بنسبة غير محددة، فيمكن أن تكون 70 % أو 60 % أو أقل أو أكثر، فأي جرأة على اللَّه فوق أن تحدد نسبة معينة
(1) المحلى، 2104.