الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة العلمانية المؤسلمة
!
سأستعرض هنا عددًا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين، وسنفحصها جميعًا من خلال مقارنتها بـ (المضمون العلماني) لنكشف وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني.
عرضنا فيما سبق لـ (أسلمة العلمانية) وذكرنا أن لها جانبين:
الجانب الأول: علمنة الدين الإسلامي كله وجعله مجرد علاقة روحية بين العبد وربه وليس له أي شأن بالأحكام الدنيوية، وهذه علمانية صلعاء هرب منها كثير من العلمانيين المعاصرين، فلا إمكانية لإعادة أسلمتها من جديد.
الجانب الثانى: العلمانية في جانبها السياسي القائمة على فصل الدين عن النظام السياسي وعدم خضوع الأحكام السياسية الملزمة لأي رؤية دينية، وهذه الرؤية قابلة لأن تؤسلم ويتصالح معها بعض الإسلاميين، ويمكن أن تعبأ في أوعية جديدة كالرؤى التجديدية المعاصرة:
الرؤية الأولى:
أن الإسلام لم يأتِ في الجانب السياسي ونظام الحكم إلا بمبادئ كلية عامة وليس فيه أي تشريعات أو أحكام تفصيلية، فالواجب في الحكم الإسلامي هو الشورى والحرية والعدالة والمساواة ونحوها، وليس ثمَّ أحكام للشريعة في السياسة والحكم سوى هذه المبادئ.
حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس، فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة، وإنما الخصومة والنزاع دائمًا في التفصيلات والتشريعات الجزئية.
وعندما بحث الأستاذ القانوني د. عبد الحميد متولي الخلاف في مسألة الإسلام دين ودولة وذكر قول علي عبد الرازق في نفي وجود دولة، وقول من يرى وجود دولة بمعنى مبادئ عامة؛ ذكر أنه لا خلاف بينهما على الحقيقة، وأن هذه الرؤية لا تختلف كثيرًا عن رؤية علي عبد الرازق، و (لو أن المسألة وضعت هذا الوضع لما كان ثمة موضع للخلاف؛ لأنه لا يمكن أن يكون ثمة خلاف في أن القرآن جاء بمبادئ الشورى والحرية والمساواة والعدالة وغيرها مما يتعلق بنظام الحكم)(1).
وهذه المبادئ الإسلامية كما يقول أحدهم ساخرًا: (ليست هذه القيم سوى المعاني الديمقراطية ذاتها بعد ترجمتها إلى المصطلحات الإسلامية)(2).
الرؤية الثانية:
أن مهمة الدولة في الإسلام هي حفظ الحقوق ورعاية الحريات وتوفير مناخ
(1) مبادئ نظام الحكم في الإسلام لعبد الحميد متولي، 105.
(2)
برهان غليون في النظام السياسي في الإسلام، 184، حوار بين د. برهان غليون ود. محمد سيم العوا، ضمن مطبوعات دار الفكر.
آمن للحرية الفكرية والتعددية الثقافية من دون أي تدخل لفرض رؤية معينة، ويساق لأجل ذلك عدد من النصوص والأدلة.
معنى هذا أن مهمة الدولة في حفظ الدين هي أن تتيح له حرية الوجود من دون أن يكون هناك أي فرض أو إلزام بشيء منه، ولا تنسَ أن تستحضر أن الحرية هنا ستكون للدين ولما يضاده، فحقيقة هذا الكلام هو إعادة صياغة للفكرة العلمانية بطريقة تكون مقبولة إسلاميًا، فالخلاف (الإسلامي/ العلماني) لم يكن عن السماح للدعوة أو منعها، بل حول الإلزام والفرض للأحكام الشرعية.
الرؤية الثالثة:
أنه لا يمكن تصور فصل الدين عن الدولة؛ لأن الدولة إنما تقوم على الشعب، وهو شعب مسلم، فالإسلام مؤثر في تفكيرهم وسلوكهم بما يظهر أثر ذلك على الدولة.
وهذا تفسير جديد لمفهوم (فصل الدين عن الدولة) الذي كان محور النزاع الإسلامي/ العلماني يراد به زحزحة الخلاف عن مكانه الحقيقي، فلم يكن محل النزاع هو النوازع الذاتية التي تؤثر على تفكير الشخص، إنما كان تحديدًا عن أثر الدين على القوانين والنظم من جهة الفرض والإلزام، وهو ما يرفضه مثل هذا التفكير، لكنه أشغل الذهن بتحويله لمسار آخر.
الرؤية الرابعة:
أن الأحكام الشرعية تحتاج إلى شرعية سياسية حتى تكون ملزمة قانونًا، فإذا اختار الناس الحكم بها فتكون لها شرعية لأنها اختيرت من الناس، وإن لم تحز على اختيار الأكثرية فلا شرعية سياسية لها.
وهذه الرؤية تسعى للمواءمة بين الإلزام بالشريعة وبين الحداثة السياسية المعاصرة، فتجتهد في تكييف الإلزام الشرعي وإخراجه بشكل مدني بشري قائم على اختيار الناس كأي قانون آخر، فالحكم بالإسلام حينئذ لن يكون مبينًا على رؤية دينية ولزوم شرعي، بل لأنه قانون مدني مثل أي قانون آخر جاء بقانون ويمكن أن يذهب بقانون، فله شرعيته واحترامه السياسي ما دام قانونًا، وتذهب هذه الشرعية بذات الطريقة التي جاءت بها، لهذا لا يرفض كثير من العلمانيين تحكيم الشريعة حين يأتي عن طريق اختيار الناس؛ لأن المشروعية العليا حينها للناس وليس للشريعة.
الرؤية الخامسة:
أن كل جريمة معصية، وليس كل معصية جريمة، فلا يلزم من كون الشيء حرامًا أن يكون مجرمًا قانونًا، فالمحرم آثم شرعًا ويعاقب عليه في الآخرة، وكذا تارك الواجب، وأما في الدنيا فلا يلزم أن يكون عليه عقاب أو منع.
وحين يكون الأمر مجرد تجريم أخروي فليس لدى العلمانيين أي إشكال مع هذا التفكير، بل هي ذات رؤية علي عبد الرازق، فهو لم يقل إن من حق الشخص أن يفعل المحرمات ويترك الواجبات ولا عقاب عليه في الآخرة! إنما حديثه عن الجانب الدنيوي، فنفي التجريم عن المحرمات الشرعية -إلا عن المحرمات التي تجرم في القانون المعاصر- هو ذات الرؤية العلمانية لكن عبر مدخل جديد.
الرؤية السادسة:
أن رابطة الدولة في العصر الإسلامي الأول كانت تقوم على الدين نظرًا للظرف التاريخي الذي عاصرته، فكان حضور الدين تبعًا لطبيعة الرابطة، بينما الرابطة المعاصرة هي رابطة دنيوية تعاقدية بحتة، وحينها تتوقف كافة الأحكام الشرعية لأنها مرتبطة بظرف معين قد اختلف.
وهذا في الحقيقة هو ذات المضمون العلماني بإعادة صياغة فقط وبالبحث عن سياق إسلامي مناسب يمكن أن تسير عليه العربة العلمانية.
الرؤية السابعة:
أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالإمامة والقضاء كلها قضايا مصلحة دنيوية ليست تشريعًا من السماء، فالشؤون الدستورية والسياسية هي من المصالح المتغيرة، وما جاء فيها من أحكام فهو لأجل الاستفادة منها والبناء على أصولها ومناهجها القائمة على اعتبار المصالح وليس لأجل الالتزام بها.
ومعنى هذا الكلام أنه لا وجود لتشريعات ملزمة في النظام السياسي الإسلامي، وما وجد سابقًا هو مرحلة تاريخية ليس إلا.
هذه سبعة تفسيرات للنظام السياسي صدرت من عدد من المعاصرين، لست أريد تقويمها تفصيلًا وبيان ما فيها من قصور، إنما أريد مقارنتها بالنموذج العلماني للنظام السياسي.
السؤال المركزي هنا: في أي شئ تختلف هده التصورات عن النظام السياسى العلماني؟
سؤال مباشر يحتاج لإجابة واضحة، فإن كان ثمَّة فرق واضح فيجب إظهار هذا (المضمون الإسلامي) المختلف ليكون الناس على بينة.
سأجيب عنه بشكل منفرد، وأرجو من أصحاب هذه التصورات أن يقدموا إجاباتهم.
رأيي بوضوح أن فرق هذه التصورات عن النموذج العلماني فرق ذاتي لا موضوعي، بمعنى أن ثمَّة فروقًا قد تكون ظاهرة لكنها بحسب الاجتهاد الشخصي
البحت، فقد يتفق عدد من الأشخاص على إشاعة مثل هذه التصورات، ويكون لدى بعضهم فرق واضح بين رؤيتهم والرؤية العلمانية، بينما لا يستطيع غيرهم أن يوضح ذلك الفرق.
لماذا حصل هذا؟
لأن التصور بحد ذاته ليس فيه افتراق ظاهر عن النموذج العلماني، فهذه التصورات السبعة في الحقيقة لا تختلف كثيرًا عن التصور السياسي العلماني، وإن جاءت بطريقة مختلفة، وبُحث لها عن مسار إسلامي.
فالنموذج العلماني قائم على إلغاء مبدأ وجود قوانين ملزمة على الجميع استنادًا إلى سبب ديني وحكم ديني، وكل التصورات السبعة موصلة لذات النتيجة التي يقوم عليها النموذج العلماني.
لهذا صار من المحرج جدًا حضور اسم العلمانية هنا، فالعلمانية مشوهة لأبعد حد، وهذه الرؤى متقاربة جدًا مع جانبها السياسي.
لهذا قال بعضهم: يجب إعادة تفسير العلمانية لأنها ظُلمت كثيرًا.
وقال آخر: العلمانية فيها جوانب إيجابية، فقد قيدت سلطة رجال الدين ولا إشكال في قبول ما فيها من حق.
وقال ثالث: إن كانت علمانية متطرفة فلا يمكن قبولها، وأما العلمانية المعتدلة فيمكن قبولها والاستفادة منها.
وقال غيره: هناك علمانية تحارب الدين، وعلمانية تتصالح مع الدين.
هذه التقسيمات وغيرها تكشف عن وجود أزمة حقيقية في كيفية التخلص من ورطة اسم العلمانية، فثمَّة شعور بضرورة تحريك العلمانية من مكانها إلى مناطق جديدة حتى يسلم الشخص من تحمُّل تبعة بشاعة اسم العلمانية لكل من يقترب منها.
وواقع الأمر أن علمانية علي عبد الرازق لم تكن علمانية ملحدة، ولا متطرفة تعادي التدين، بل من يقرأ كتابه (الإسلام وأصول الحكم) سيجد أنه يظهر احترام النصوص ويستدل بالقرآن، فإشكالية الفكر الإسلامي مع العلمانيين لم تكن في الأساس لأنهم لا يؤمنون باللَّه أو يقتلون من يصلي، فهؤلاء خلافنا معهم في الإسلام، وأما العلمانية فخلافنا معهم في حكم الإسلام وتفسيرهم للإسلام، فلا معنى لأن يقول بعضهم ثمَّة علمانية ملحدة وغير ملحدة؛ لأن الخلاف مع الملاحدة في شيء أخطر من الفكرة العلمانية.
يجيب بعضهم عن إشكالية التقارب مع العلمانية فيقول: العلمانية ليست تفسيرًا واحدًا، فكل نظام له نموذج مختلف، بل حتى الأنظمة العلمانية المتوافقة في الفكر تجد بينها اختلافًا كبيرًا.
وهذا جواب يصرف نظر بعض الناس عن الإشكال لكنه لا يقول شيئًا، فمن البديهي أن الأنظمة العلمانية تختلف، ككل الأفكار والاتجاهات، فلا يوجد في الدنيا اتجاه أو مذهب أو فكر لا يقوم على خلافات ورؤى متباينة، إنما هذه الخلافات ترجع لأصول محددة وتتفق على جذور مشتركة وإلا لما صارت فكرة واحدة ولا كانت منظومة محددة، فحديثنا هنا ليس عن (فروع) تفصيلية في العلمانية، بل عن الأصل العلماني المشترك.
من الملفت للنظر هنا أن مبررات العلمانيين ودوافعهم لرفض الحكم بالإسلام أو التشكيك فيه أصبحت متسربة ومتداولة عند بعض الإسلاميين، فصرتَ تقرأ في أدبيات بعض الإسلاميين مثل هذه العبارات:
(عن أي شريعة تتحدثون؟ لا يمكن فرض رؤية دينية محددة، نحن لا ننكر أن التحريم والتحليل للَّه لكن هذا لا يعني أن يكون حرامًا في الدنيا، هناك فرق بين الشريعة وتطبيق الشريعة فالشريعة مقدسة وأما تطبيق الشريعة فاجتهادي، ونحن نريد تنزيه الدين وجعله مقدسًا بعيدًا عن ألاعيب السياسة وعبث المستبدين حتى لا يتحمل الدين سوء بعض أتباعه).
ونحو هذه المبررات التي تصاغ بأشكال مختلفة، وهي ذات المبررات والدوافع التي تحرك العلمانيين بالعرب، بل ستصدم حين تجد أن ما يكرره بعض الإسلاميين هنا هو عين ما يقوله العلمانيون!
وحتى تتضح إشكالية هذا النهج الجديد الذي يخطه بعض الإسلاميين، نريد أن نعود بهم قليلًا إلى حيث لحظة (علي عبد الرازق) لنضع أيدينا على مشهد الصراع الإسلامي العلماني على أي شيء كان، فهل كان (علي عبد الرازق) يريد هدم الإسلام وتدمير المسلمين والانتقام منهم؟ بالتأكيد لا، وإنما كان يقدم تصورات منحرفة في النظام السياسي.
لهذا تجد بعضهم يثني عليه: بأنه إنما أراد استنقاذ الوعي الإصلاحي والمدني بالدولة والشأن العام، وما نجح في ذلك ليس لأن طريقته ما كانت مقنعة، بل بسبب تكالب المستعمرين على ديار المسلمين وتظاهرهم بمعارضة إعادة الخلافة (1).
(1) مقدمة رضوان السيد لكتاب الإسلام وأصول الحكم، 21.
ويشيد به آخر: بأنه حريص أشد الحرص على أن يجنب الإسلام مزالق السياسة وأن يباعد بينه وبين معارك الحياة وأهواء الحاكمين، بحيث لا يخضع لسلطان أحد ولا يضاف إلى حساب أحد، يخشى أن يتولد نظام من الإسلام فيتحمل الإسلام أوزار هذا النظام (1).
ويقول آخر منافحًا عنه: (جريمة علي عبد الرازق أنه طلب الحرية للدين في مواجهة الملك)(2).
الغاية من هذا كله، أن الرؤية العلمانية لا يجوز -موضوعيًا- أن تنقلب رؤية إسلامية بمجرد أن تحوَّل إليها بعض الإسلاميين!
(1) انظر: الخلافة والإمامة لعبد الكريم الخطيب، 218 - 222.
(2)
أفكار ضد الرصاص لمحمود عوض، 8.