الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: أشهر الكتب المؤلفة في علم المقالات ومناهج مؤلفيها
…
المطلب الثالث: أشهر الكتب المؤلفة في المقالات ومناهج مؤلفيها.
من الحقائق التي يجهلها الكثير من الدارسين لهذا العلم أن أشهر الكتب التي يكثر تداولها بين أيديهم عند دراسة هذا العلم وهي "كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، كتاب الفصل لابن حزم، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني، والفرق بين الفرق للبغدادي" لا تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة، فهذه الكتب يصدق فبها قول شيخ الإسلام ابن تيمية "فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن، لا في المقالات المجردة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه."1.
وقوله أيضاً: "ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات، ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه. ونفس ما بعث الله به رسوله، وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل، الذي حكوا فيه أقوال الناس، لا ينقلونه لا تعمداً منهم لتركه، بل لأنهم لم يعرفوه، بل ولا سمعوه، لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين.".2.
ومن أجل ذلك أحببت التنبيه على ما حوته هذه المؤلفات من مناهج، مع بيان عقائد أصحابها وسمات تلك المؤلفات، وذلك على النحو
1 النبوات ص 219-220.
2 منهاج السنة 6/303 ـ304
التالي:
أولاً: كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري "260 -324".
ا - عقيدته:
يعتبر أبو الحسن الأشعري امتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ -324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها لفترة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، إلا أنه وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.
وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقى الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة.
ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث،1 وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها2 ثم لما قدم
1- مجموع الفتاوى 5/386، تذكرة الحفاظ (2/907) .
2-
العلو ص150، تذكرة الحفاظ (2/907) .
بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره.
ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك.1
ولذلك قال عنه السجزي: (رجع في الفروع وثبت في الأصول) 2 أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره.3
وقال عنه الذهبي: "
…
وكان معتزلياً ثم تاب، ووافق أصحاب الحديث في أشياء يخالفون فيها المعتزلة، ثم وافق أصحاب الحديث في أكثر ما يقولونه، وهو ما ذكرناه عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك، وأنه موافق لهم في جميع ذلك، فله ثلاثة أحوال: حال كان معتزلياً، وحال كان فيها سنياُ في بعض دون البعض، وكان في غالب الأصول سنياً، وهو الذي علمناه من حاله، فرحمه الله وغفر له ولسائر المسلمين
…
"4.
ب - منهج الأشعري في كتابه المقالات
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر فيه من المقالات وتفصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم. وليس في جنسه أقرب إليه منه،
1- مجموع الفتاوى 12/204.
2-
الرد على من أنكر الحرف والصوت ص168.
3-
موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/367.
4 العرش للذهبي 2/302-303.
ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان: في القرآن، والرؤية، والصفات، والقدر، وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه، وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين.
وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين، المختلفين في أصول الدين. ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام) إلى أن قال (ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله، فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل، وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى، فيبقى الإنسان عنده دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب.
وهذا مما مُدح به الأشعري؛ فإنه بيّن من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره، لأنه كان منهم، وكان قد درس الكلام على أبي علي الجبائي أربعين سنة، وكان ذكياً، ثم إنه رجع عنهم، وصنف في الرد عليهم، ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب، لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم، ولم يعرف غيرها، فإنه لم يكن خبيراً بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وتفسير السلف للقرآن. والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا.
ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة: يذكر قول كل واحد منهم وما بينهما من النزاع في الدق الجل.....؛ويذكر أيضاً مقالات الخوارج والروافض، لكن نقله لها من كتب أرباب المقالات، لاعن مباشرة منه للقائلين، ولا عن خبرة بكتبهم، ولكن فيه تفصيل عظيم، ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه، ويذكر اختلاف
الناس في القرآن من عدة كتب.
فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمراً مجملاً تلقى أكثره عن زكريا بن يحي الساجي، وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم. وأين العلم المفصل من العلم المجمل؟ "1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات، ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه. ونفس ما بعث الله به رسوله، وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل، الذي حكوا فيه أقوال الناس، لا ينقلونه لا تعمداً منهم لتركه، بل لأنهم لم يعرفوه، بل ولا سمعوه، لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين.
وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها مالا يوجد في غيرها. وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم، وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم.
وجاء بعده من أتباعه ـ كابن فورك ـ من لم يعجبه ما نقله عنهم، فنقص من ذلك وزاد، مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته في الحديث ومقالات السلف الأئمة، وقد ذكر في غير موضع عنهم أقوالاً في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلاً".2
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وتأملت ما وجدته في الصفات من المقالات مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وكتاب مقالات الإسلاميين للأشعري، وهو أجمع كتاب رأيته في هذا الفن، وقد ذكر فيه
1 منهاج السنة 5/275 ـ 278
2 منهاج السنة 6/303 ـ304
ما ذكر أنه مقالة أهل السنة والحديث، وأنه يختارها، وهي أقرب ما ذكره من المقالات إلى السنة والحديث، لكن فيه أمور لم يقلها أحد من أهل السنة والحديث ونفس مقالة أهل السنة والحديث لم يكن يعرفها، ولا هو خبير بها، فالكتب المصنفة في مقالات الطوائف التي صنفها هؤلاء ليس فيها ما جاء به الرسول وما دل عليه القرآن، لا في المقالات المجردة، ولا في المقالات التي يذكر فيها الأدلة فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه"1
ج - سمات كتاب مقالات الإسلاميين
من أبرز ما تميز به كتابه المقالات من السمات ما يلي:
1-
قصر الأشعري الحديث في كتابه على الفرق الإسلامية، والسبب في ذلك أن له كتاباً آخر سماه (مقالات غير الإسلاميين)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( [كتاب مقالات غير الإسلاميين] وهو كتاب كبير أكبر من [مقالات الإسلاميين] )2.
2-
أغفل الأشعري في كتابه حديث الافتراق، فلم يتعرض له بشيء فضلاً عن أن يقيم كتابه عليه مثل ما فعل بعض المؤلفين الآخرين كما سيأتي.
3-
سلك الأشعري في عرض الآراء منهج عرض آراء ومقالات الفرق، دون أن يكون للمؤلف أي توجيه في ذلك العرض، فلا تعقيب ولا رد ولا نقد ولا مناقشة لتلك الآراء، وقد التزم الأشعري بهذا المنهج في
1 النبوات ص 219-220.
2 منهاج السنة 5/283 وقال الدكتور محمد رشاد سالم في هامش التحقيق "وهو كتاب مفقود.وانظر سزكين م 1،ح4،ص 35 ـ39 "
جميع كتابه، ولذا عدَّ مصدراً موثوقا به في نقل آراء الفرق الأخرى، وخاصة المعتزلة الذين يعدون من خصومه.
4-
تميز كتاب المقالات بالجمع بين الطريقتين في عرض آراء الفرق، فالجزء الأول معظمه كان وفق الطريقة الأولى، وهي جعل أصحاب المذاهب أصولاً.
أما الجزء الثاني فهو وفق الطريقة الثانية، وهي جعل المسائل أصولاً، ثم إيراد في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
ومنهج الأشعري هذا جعل كتابه بمثابة كتابين مختلفين ضم أحدهما إلى الآخر، فمن أراد آراء الفرق في مسألة ما، أمكنه ذلك، ومن أراد آراء فرقة ما، أمكنه ذلك، وقد اقتضى منه ذلك شيء من التكرار الملاحظ لآراء الأشخاص في أكثر من موضع.
5-
حصر الأشعري أصول الفرق في عشر فرق1 خلافا للمؤلفين الآخرين كما سيأتي.
6-
اختلف منهج الأشعري في طائفة المعتزلة عن سائر الطوائف من حيث:
أ- عدم تقسيم المعتزلة إلى فرق، كما هو شأن سائر الفرق الأخرى.
ب- عرض آرائهم وفق الطريقة الثانية فقط، وهي جعل المسائل أصولا.
جـ- التوسع والإطناب في عرض آرائها توسعاً ملحوظاً، حيث استغرق الحديث عنهم نصف الجزء الأول تقريباً، ومعظم الجزء الثاني،
1 مقالات الإسلاميين 1/65.
وذلك لسعة علمه واطلاعه على دقائق آرائهم، ودقة فهمه لمقولاتهم.
7-
كان الأشعري أعلم بالمقالات وقائليها، وأدق في نقل الأقوال، وعزوها إلى قائليها، وأكثر تحرياً ممن جاء بعده، بل إن كتابه هو مصدر معظم من جاء بعده من المؤلفين في مقالات الفرق، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه منها قوله:
"والأشعري أعلم بمقالات المختلفين من الشهرستاني، ولهذا ذكر عشر طوائف، وذكر مقالات لم يذكرها الشهرستاني، وهو أعلم بمقالات أهل السنة وأقرب إليها وأوسع علماً من الشهرستاني"1.
وقال: "ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء، لأنه أعلم بالمقالات، وأشد احترازاً من كذب الكذابين فيها
…
"2.
وقال أيضاً: "ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري
…
"3.
وقال: "وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها، وفيه من الأقوال وتحريرها مالا يوجد في غيرها"4.
8-
الإيجاز والاختصار في عرض الآراء والمقالات بوجه عام5.
1 النبوات ص 247.
2 منهاج السنة 6/301.
3 المصدر السابق 5/275.
4 المصدر السابق 6/303.
5 انظر حول هذه النقاط كتاب الشهرستاني ومنهجه في كتابه الملل والنحل ص 258-265 بتصرف.
ثانياً: كتاب "الفرق بين الفرق" لعبد القاهر البغدادي "ت 429 هـ"
ا - عقيدته: هو أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي المتوفى سنة 429هـ1، وكان أشعري المذهب ويدل على ذلك عدة أمور منها:
1-
اتفاق المترجمين له على نسبته إلى هذا المذهب
2-
عرضه لعقيدة الأشعرية في كتابه الفرق بين الفرق على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية، ولم يصنف الأشعرية على أنها إحدى الطوائف بل جعلهم هم أهل الحق2.
3-
كتابه "أصول الدين" أكبر دليل على انتسابه إلى هذا المذهب، فقد ألفه على طريقة المتكلمين في تقسيمه لأبوابه، وتقريره لمسائل الاعتقاد على منهج الأشاعرة في مختلف الأبواب3.
ب - منهج البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق
تميز منهج البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق بعدم ميزات من أهمها ما يلي:
1-
اعتمد في تقسيم الفرق الإسلامية على حديث الافتراق، وسعى في تحديد الفرق طبقاً للعدد المذكور في الحديث.
2-
كانت طريقته في عرض آراء الفرق بجعل أصحاب الآراء وزعماء الفرق أصولاً، ثم إيراد آراء كل منهم في كل مسألة.
1 ترجمته في وفيات الأعيان 1/298، طبقات الشافعية للسبكي 3/238، فوات الوفيات 1/298، تبيين كذب المفتري ص 253، الأعلام 4/48.
2 الفرق بين الفرق ص 312 وما بعدها.
3 انظر المصدر السابق ص 88، 90، 133، 156، وغيرها.
3-
تميز كتاب الفرق بين الفرق بحسن التنظيم وجودة الترتيب لآراء الفرق والتقسيمات المتعلقة بها.
4-
قدم قبل الخوض في آراء الفرق بمقدمات، ضمنها ذكر الخلافات الواقعة في أول الأمة، وكيف وقع الافتراق، والإشارة إلى فرق الأمة إجمالاً، وتوسع في ذلك فكانت تلك المقدمات كالخلاصة لبقية كتابه.
5-
اقتصر البغدادي على عرض آراء الفرق الإسلامية فقط.
6-
وافق البغدادي في عده لأصول الفرق أبا الحسن الأشعري، حيث جعل كل منهما أصول الفرق عشرة1، وعد بعض الفرق خارجة عن الإسلام وإن كانت تنتسب إليه، كغلاة الشيعة2.
7-
عرض البغدادي الأشعرية وآراءهم عرضاً يفيد أنها العقيدة الصحيحة التي عليها جمهور أهل السنة والجماعة ـ في نظره ـ وهم معظم المسلمين كما زعم، ولم يدخلها ضمن تصنيفه للفرق الإسلامية3.
8-
كان عرض البغدادي للفرق أكثر شمولاً من عرض غيره، حيث يعطي القارئ تصوراً عن الفرقة من جوانب متعددة، سواء كانت تاريخية أو فقهية أو غيرها؛ إضافة إلى الآراء العقدية لها.
9-
اتبع البغدادي في كتابه منهج التقرير والنقد، لا مجرد النقل الموضوعي لآراء الفرق، فكان يعرض آراء الفرق ومقولاتها، ثم يتبع ذلك بمناقشتها، وبيان بطلانها وتهافتها من وجهة نظره، وكانت مناقشاته وتعقيباته تتسم بالشدة، والقسوة وتصل إلى حد السب والسخرية
1 الفرق بين الفرق ص 38-39.
2 المصدر السابق ص 230 وما بعدها.
3 المصدر السابق ص 312 وما بعدها.
والشماتة والتهكم بالرأي وصاحبه1، وذكر الإلزامات على الرأي، ومقارنة بعض آراء الفرقة بالمذاهب والأديان المنحرفة، بل يبلغ نقده حد الاتهام بالأعراض 2، بل التكفير والإخراج من ملة الإسلام، وهذا في مواضع متعددة من كتابه، وخاصة في حديثه عن المعتزلة 34.
1 المصدر السابق ص 175، 177-178.
2المصدر السابق ص 173.
3 المصدر السابق ص 114 وما بعدها.
4 انظر حول هذه النقاط كتاب الشهرستاني ومنهجه في كتابه الملل والنحل ص 265-269 بتصرف.
ثالثاً: كتاب الفصل لابن حزم "ت 456 هـ"
ا - عقيدته: هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي المتوفى (456 هـ) ، أما مذهبه العقدي فإن ابن حزم لم يكن له مذهب عقدي متميز سار عليه في جميع أبواب الاعتقاد، بل نجده مضطرباً اضطراباً شديداً في مختلف المسائل العقدية، فنجده مثلاً يوافق المتكلمين في طريقة إثباتهم لوجود الله بطريق الحدوث، لكنه زاد عليهم في الاستدلال بالآثار الدالة في المخلوقات على وجود الصانع وهو أحد أدلة أهل السنة.
ونجده يستعمل العديد من مصطلحات المتكلمين المجملة، كنفي الجسمية والعرضية والزمانية والمكانية والحركة، مع أن الصواب في ذلك هو عدم النفي المطلق بل التفصيل في هذه المسائل.
ويوافق المعتزلة في إثبات الأسماء لله عز وجل مجردة عن المعاني المتعلقة بها، ومن غير أن تشتق منها الصفات، بل يعتبرها أنها أعلام محضة لا معنى لها.
والصفات التي يثبتها ابن حزم يرجعها إلى الذات كما هو مذهب طوائف من المتكلمين في هذه المسألة، ونجده أيضاً يؤول العديد من الصفات كالصورة، والأصابع، والساق، والاستواء، والنزول، وغيرها.
في حين نجده يوافق أهل السنة في جملة مسائل منها، مسألة الرؤية في الآخرة، والقرآن، وأنه كلام الله، وغالب مباحث أفعال الله تعالى، في باب القضاء والقدر.
في حين يوافق الأشاعرة في عدم تعليل أفعال الله تعالى خلافاً
لأهل السنة والجماعة1.
هذه بعض المسائل التي تبين اضطراب ابن حزم في منهجه العقدي مما يتعذر معه نسبته لطائفة معينة.
ب - منهج ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل
اتسم منهج ابن حزم في كتابه الفصل بعدة سمات من أبرزها ما يلي:
1-
شمل كتاب الفصل الحديث عن الفرق الإسلامية والملل الأخرى من مختلف الأديان، وركز ابن حزم حديثه عن أهل الكتاب، وأولاهم اهتماماً كبيراً حتى استغرق ذلك جزءاً كبيراً من الكتاب، بينما حديثه عن الفرق الإسلامية كان مختصراً ويسيراً.
2-
لم يعتمد ابن حزم في كتابه على حديث الافتراق، بل ضعفه وأبطله وأنكر صحته2.
3-
جعل ابن حزم أصول الفرق خمسة وهي: "المعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج، وأهل السنة"3.
4-
سلك ابن حزم في طريقة عرضه لآراء الفرق الطريقتين المتبعتين في ذلك، وهما: إما جعل المسائل أصولاً ثم ذكر من قال بها من مختلف الطوائف، وهي التي استخدمها أكثر، وإما جعل أصحاب المقالات وزعماء الفرق أصولاً، ثم ذكر قولهم في كل مسألة.
5-
سلك ابن حزم في كتابه منهج التقرير والنقد لمختلف الآراء، ولم
1 انظر حول الآراء العقدية لابن حزم كتاب ابن حزم وموقفه من الإلهيات للدكتور أحمد بن ناصر الحمد.
2 الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/138 ط/دار الجيل.
3 المصدر السابق 2/88.
يكتفي بمجرد العرض الموضوعي لها، بل لم يدخر جهداً في إبطال ونقد كل مذهب ومقالة عرضها تخالف ما يعتقده، وقد كان في نقده ومناقشته لتلك الآراء عنيفاً، شديداً في عباراته وألفاظه، قوياً في رده، خاصة في مناقشته لأهل الكتاب فيما تضمنه كتابهم المقدس ـ بزعمهم ـ حيث نقده نقداً شديداً، وبين تحريفه.
ومع قسوته وعنفه إلا أنه كان موضوعياً، وكان نقده علمياً لا عاطفياً حماسياً.
6-
جاء كتاب ابن حزم مضطرباَ في ترتيبه غير منظم، وقد أصاب السبكي في ذلك عندما قال: "وكتاب الملل والنحل للشهرستاني هو عندي خير كتاب صنف في هذا الباب، مصنف ابن حزم وإن كان أبسط منه، إلا أنه مبدد ليس له نظام
…
"1.
وقد علل أصحاب دائرة المعارف الإسلامية وجود هذا الاضطراب في كتاب ابن حزم بقولهم: "إن الترتيب المنطقي لهذا الكتاب ـ الفصل ـ مضطرب إلى حد ما؛ بسبب إدماج رسائل مستقلة فيه
…
"23.
1 طبقات الشافعية للسبكي 3/78.
2 دائرة المعارف الإسلامية 1/254.
3 انظر حول هذه النقاط كتاب الشهرستاني ومنهجه في كتابه الملل والنحل ص 269-273 بتصرف.
رابعاًً: كتاب الملل والنحل للشهرستاني "ت 548"
ا - عقيدته: هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ1، وكان الشهرستاني أشعري المعتقد ويدل لذلك عدة أمور منها:
1-
إجماع المترجمين له على نسبته إلى المذهب الأشعري في المعتقد، ولم يخالف في ذلك أحد2.
2-
دلالة العديد من كتبه على انتسابه إلى المذهب الأشعري في المعتقد، مثل كتابه الملل والنحل الذي قرر فيه أن المذهب الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة، وتصريحه في كتابه نهاية الإقدام حين يعرض آراء المذهب الأشعري بقوله:"نقول، قلنا، قولنا، قول الحق"3، وغير ذلك؛ بخلاف عرض آراء المذاهب المخالفة، حيث يصدرها بقوله:"قالوا، يقولون، قولهم، حققوه"4، وغير ذلك.
فكاتبه هذا ـ في جملته ـ تقرير للمذهب الأشعري بأدلته وحججه ومناقشة الآراء المخالفة والرد عليها5.
1 انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 20/286، طبقات الشافعية للسبكي 4/78، وفيات الأعيان 4/273، الوافي بالوفيات للصفدي 3/278، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 3/27، تاريخ ابن الوردي 2/86 وغيرها.
2 انظر المشترك وضعاً والمفترق صقعاً لياقوت الحموي ص 279، ووفيات الأعيان لابن خلكان 4/274، الوافي بالوفيات للصفدي 3/278، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 3/27، تاريخ ابن الوردي 2/86.
3 انظر نهاية الإقدام ص 282، 284، 292، 311، 387، 399، وغيرها من المواضع.
4انظر المصدر السابق ص 281، 305، 405، 408، 409، وغيرها من المواضع.
5 انظر لمزيد من التفصيل في مذهبه العقدي "الشهرستاني وكتابه الملل والنحل ص 90-117.
ومن الأمور التي اشتهرت في حق الشهرستاني اتهامه بالميل إلى الفلاسفة الباطنية، ومن العلماء الذين وجهوا له هذا الاتهام ابن أرسلان الخوارزمي1، وعلي بن أبي القاسم البيهقي2، والسمعاني 3، والذهبي 4.
وقد دافع عنه آخرون وحاولوا تبرئته من هذه التهمة منهم السبكي5، وابن حجر العسقلاني6،والدكتورة سهير محمد مختار7.
وقد حقق القول في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية وبين رأيه في هذه التهمة قائلاً: "أما قوله (يعني بذلك ابن مطهر الحلي) إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية، فليس كذلك بل يميل كثيراً إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحياناً أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه؛ ولذا اتهمه الناس بالإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك، وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته، وقد يقال: هو من الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه
…
وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم
…
"8.
ومما يؤكد ذلك أن الشهرستاني صنف في ذكر فضائح الباطنية9، وفي الرد على ابن سينا الفيلسوف الإسماعيلي، يقول ابن القيم: "وصارع
1 انظر معجم البلدان 3/377، وسير أعلام النبلاء 20/288، ولسان الميزان 5/263.
2 انظر تاريخ حكماء الإسلام ص 142.
3 انظر التحبير في المعجم الكبير 2/161، وسير أعلام النبلاء 20/287.
4 انظر العبر في خبر من غبر 3/7.
5 انظر طبقات الشافعية 4/79.
6 انظر لسان الميزان 5/264.
7 انظر الشهرستاني وآراؤه الكلامية والفلسفية ص 362.
8 منهاج السنة 6/305-307.
9 درء تعارض العقل والنقل 5/8.
محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه (المصارعة) أبطل فيه قوله بقدم العالم، وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته وخلقه العالم" 1.
وإن كان للشهرستاني بعض الردود على مطاعن الشيعة في الصحابة2، ووصفهم بالحيرة والضياع3، إلا أن ميله للتشيع أمر مؤكد في حقه كما قال شيخ الإسلام عنه: "وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم، فإن هذا الكتاب ـ الملل والنحل ـ صنفه لرئيس من رؤسائهم، وكانت له ولاية ديوانية، وكان الشهرستاني مقصود في استعطافه له، وكذلك صنف له كتاب المصارعة
…
"4.
وربما كان هذا التذبذب محاولة منه لإرضاء الطرفين، أهل السنة والشيعة، والله أعلم.
ب - منهج الشهرستاني في كتابه الملل والنحل
تتمثل أبرز سمات المنهج الذي سار عليه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل في النقاط التالية:
1-
جمعه بين الحديث عن الفرق الإسلامية وملل ومذاهب أخرى، فكتابه أشبه بالموسوعة المختصرة في الأديان والمذاهب والفرق المختلفة.
2-
اعتماده حديث الافتراق، حيث بني تقسيمه للفرق على ضوئه، وتكلف في حصر الفرق وتحديدها ليطابق العدد المذكور في ذلك الحديث.
1 إغاثة اللهفان 2/381، وانظر مقدمة الشهرستاني لكتابه مصارعة الفلاسفة ص 16، ونهاية الإقدام ص 5، 23.
2 انظر الملل والنحل 1/164-165.
3 المصدر السابق 1/172، 1/93.
4 منهاج السنة 6/306، وانظر اعتراف الشهرستاني بذلك في مصارعة الفلاسفة ص 14.
3-
اشترط الشهرستاني في أول كتابه بأن يسلك المنهج الموضوعي في العرض دون التعقيب أو النقد أو الرد1، إلا أنه لم يلتزم بهذا الشرط بل كانت له بعض التعقيبات والمداخلات أثناء حديثه عن بعض الفرق والطوائف.
4-
اقتصر في عرض آراء ومقالات الفرق على طريقة جعل أصحاب المقالات وزعماء الفرق أصولاً، ثم إيراد تحت كل منهم آراءه في مسألة مسألة، وعلل ذلك بأنه أضبط للأقسام وأليق ببيان الحساب2.
5-
حصر المؤلف أصول الفرق في أربع فرق كبار هي: "القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة"3.
6-
عدم الدقة في النقل وقلة العلم بمقالات بعض الفرق، كما قال ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض المقارنة بين كتابه وكتاب المقالات للأشعري الذي وصفه بضد ذلك فقال: "
…
والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالاً ضعيفة، يعرفها من يعرف مقالات الناس، مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلاً، ولكن هذا الباب وقع فيه ما وقع. ولهذا لما كان خبيراً بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة، كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين. وأما الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث، فلا هو وأمثاله يعرفون أقوالهم، بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة، وإنما سمعوا جملاً تشتمل على حق وباطل"4.
1 الملل والنحل 1/11.
2 المصدر السابق 1/10-11.
3 المصدر السابق 1/10.
4 منهاج السنة 6/304 ــ305
ولعل هذا الخلل وقع منه بسبب مصادره في النقل حيث صرح شيخ الإسلام بأن أكثر مصادره هي كتب المعتزلة وقلة خبرته بالحديث وآثار السلف، فقال: "والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة
…
"1.
وقال أيضاً: "والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين، ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول الكبار، لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام، وإنما ينقلون ما يجدونه في كتب المقالات، وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التوريخ "2.
7-
تضمن منهج الشهرستاني في كتابه العناية بالأسماء والمصطلحات، فلا يكاد يذكر فرقة في حديثه إلا يسميها، بل قد يذكر أكثر من اسم لها إن وجد، ويعزو الآراء إلى قائليها، سواءً كانوا فرقة أو أفراداً.
8-
تميز كتاب الشهرستاني عن غيره من المصنفات في المقالات بحسن التنظيم، وجودة الترتيب للفرق وآرائهم.
9-
تميز منهجه العام في العرض بالإيجاز والاختصار.
10-
قدم لكتابه قبل الخوض في آراء الفرق بمقدمات ضمنها ذكر الخلافات الواقعة في أول الأمة، وتوسع في ذلك، وبين كيف وقع الافتراق، وأشار إلى فرق الأمة إجمالاً، حتى كأنما أجمل كتابه في تلك المقدمات3.
1منهاج السنة 6/307
2منهاج السنة 6/319 ــ320
3 انظر حول هذه النقاط كتاب الشهرستاني ومنهجه في كتابه الملل والنحل ص 253-273، بتصرف.
الخاتمة
أهمية التأليف في علم المقالات استقلالاً.
لاتزال الحاجة ماسة إلى تخليص مادة هذا العلم مما أصابها من تشويه وقلب للحقائق بسبب ما حوته أكثر كتب هذا الفن ذيوعاً وانتشاراً، ولذلك أود أن ألفت النظر إلى ضرورة إعادة صياغة هذا العلم وذلك لوجود عدة ثغرات هي بحاجة إلى معالجة ألخصها من خلال عدة وقفات على النحو التالي:
الوقفة الأولى: علم مقالات الفرق يُعنى كما هو معلوم بالمقالة وقائلها، ولكل جانب من هذين الجانبين أهميته؛ وارتباطه مع الجانب الأخر، ولكن مع ارتباط الجانبين في بعض النواحي إلا أن لكل واحد منهما جانب من الخصوصية والاستقلالية.
ومن المعلوم أن المقالة قد تشترك فيها أكثر من فرقة، والفرقة قد تكون لها أكثر من مقالة، وغالباً ماتندثر بعض الفرق ولكن مع ذلك تبقى أفكارها فتتلقفها فرق أخرى بمسميات جديدة، كما هو مشاهد في عصرنا الحاضر، فبعض أفكار المعتزلة والخوارج ومقالاتهم تنادي بها اليوم بعض الطوائف والجماعات المعاصرة التي قد لا ترتبط بتلك الفرق إلا من جهة تبنيها لبعض أفكارها، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تنسب إلى تلك الفرق انتساباً مطلقاً لأنها قد لا تتفق معها في سائر أفكارها الأخرى، فلكي تُنسب جماعة أو طائفة إلى المعتزلة ـ على سبيل المثال ـ فلا بد أن تكون مقرة بالأصول الخمسة المعروفة عندهم وهي (التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعد والوعيد)
وقد جرت العادة - في الغالب الأعم - أن تُدرس الفرقة ثم يتم التعرف على بعض مقالاتها التي اشتهرت بها الأمر الذي يجعل الدارس يربط المقالة بالفرقة التي قالت بها، مما يصرف الذهن عن التنبه إلى كون تلك المقالة قد يكون هناك من تبناها من الفرق الأخرى، أو أنها قد تظهر في فترات زمنية لاحقة تحت مسميات جديدة غير التي كانت تعرف بها سابقاً في كتب الفرق المتقدمة، ومثل هذا اللبس يقع فيه بعض الدارسين مما يجعلهم يخلطون بين تلك الحقائق ولا يميزون بينها مما يؤثر سلباً على الهدف الأسمى الذي بسببه أدرج هذا الفن في علم العقيدة، وخص بالبحث والدراسة.
ثم إنه مع تباعد الأزمنة وانقراض بعض الفرق، وبقاء أكثر مقالاتهم التي أحدثوها حتى زمننا هذا ووجود مسميات جديدة تحمل تلك الأفكار السابقة، فإني أرى الحاجة ماسة إلى دراسة المقالات بنوع من الاستقلالية عن الفرق التي تبنتها قديماً، حتى يسهل رصد تلك المقالات وتتبعها جذوراً وفروعاً.
ولا شك أن أهل الاختصاص يدركون أن الغاية من دراسة علم الفرق هو معرفة المقالات المخالفة مع ما يستدعيه ذلك من التعرف على بعض الجوانب التاريخية ذات العلاقة بالفرق التي تبنت تلك المقالات وما تفرع عنها، فالمقالة تأتي في المقام الأول فهي بيت القصيد، وقطب رحى علم الفرق،.
ولكن مع هذه الدعوة لابد من التنبيه على ضرورة المحافظة على الروابط القائمة بين الجانبين وذلك للارتباط الوثيق بينهما، ولا يعني كلامي السابق أنني أدعو إلى الفصل الكلي بين الجانبين، أو أنني أنتقد المنهج الأخر المعتمد على وضع الرجال وأصحاب المقالات أصولاً ثم إيراد
مذاهبهم في المسائل مسألة مسألة فلهذا المنهج فوائده وخصائصه. ولكن مقصودي هو ضرورة إيجاد التوازن بين الجانبين وأن يعطى كل جانب حقه من العناية والاهتمام والبحث والدراسة وذلك للمبررات السابق ذكرها
الوقفة الثانية: إن عناية كتب الفرق تنصب - في الغالب الأعم - على النقل المجرد للمقالات دون الدخول في تفاصيلها، فلا تتعرض إلى جذورها وشبهها ومسائلها والردود عليها أو الانتصار لها، فتبقى دراسة هذه الجوانب قاصرة ومحدودة الجانب ولا يمكن استيفاؤها من هذا الوجه.
وهذا الجانب له أهميته عند دراسة هذا العلم فكثير من المقالات هي في حقيقتها دخيلة على هذه الأمة، إذ هي دسيسة من دسائس أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فالبحث في جذور هذه المقالات ومعرفة أصولها يعين على معرفة طرق أهل الباطل وكشف أساليبهم، ويُمكن من صدهم وفضح باطلهم وهذا الجانب لا توليه كتب الفرق الاهتمام اللازم
فمثل هذا الحال يستدعي أن تدرس المقالات بنوع من الاستقلالية عن دراستها من خلال ارتباطها بدراسة فرقة بعينها كما هو الحاصل في دراسة مادة الفرق اليوم
الوقفة الثالثة: يدرك المتخصص في هذا الفن أن غالب من ألف في هذا الباب ليسوا من أهل السنة، وإنما هم من المعتزلة أو الرافضة أو الأ شاعرة، ولذلك فإن مشاهير الكتب المؤلفة في علم الفرق لا تعبر عن مذهب أهل السنة والجماعة، وليس لدى أصحابها الدراية اللازمة بعقيدة أهل السنة والجماعة، وفي اعتقادي أن عزوف كبار علماء أهل السنة عن
التأليف بمثل هذه الطريقة التي سار عليها أصحاب تلك المؤلفات له ما يبرره، فالعبرة في المقام الأول للأقوال لا لقائليها ولذلك كثرت مؤلفاتهم في المسائل والردود وقلت في باب الفرق؛ بل انتقدوا منهج وطريقة تلك المؤلفات، وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلاً مجرداً، مثل كتاب "المقالات" لأبي الحسن الأشعري، وكتاب "الملل والنحل" للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق؛أو مع الانتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم - فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم. أما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة - فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام؛ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض؛ وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب)
الوقفة الرابعة: أن المقالات تتفاوت في الكم والكيف، فهناك مقالات كبيرة تندرج تحتها جملة من الأقوال وتتشعب عنها أنواع من الأراء والأفكار والمسائل، ومثل هذه المقالات بحاجة إلى دراسة مستقلة توضح تلك الجوانب وتشرح تلك الأفكار والأراء، وتبين نوع العلاقة
1 منهاج السنة 5/268 ـ 269
وأوجه الخلاف وحجج كل قول ومن قال به. ومن ثم يذكر من تبنى تلك المقالات وقال بها.
الوقفة الخامسة: لما كان البحث عن معلومات هذا الفن إنما يتأتى غالباً من أحد طريقين هما:
أولاً: النظر في الكتب المؤلفة في علم الفرق.
وثانياً: الرجوع إلى الكتب المؤلفة في مسائل الاعتقاد.
والطريق الأول أسهل بكثير من الطريق الثاني، وذلك نظراً لكون كتب الاعتقاد ليس لها نمط موحد في ترتيب الأبواب والمسائل، فيندر أن تجد كتابين يتفقان في ترتيب المسائل وطريقة سردها، ولذلك فإن من الصعوبة بمكان البحث عن معلومة تتعلق بمسألة أو مقالة معينة في تلك الكتب، مع كون تلك الكتب تحتوي على مادة كبيرة في موضوع علم المقالات، وبالأخص كتب أهل السنة، الأمر الذي يستدعي في نظري أن تجرد تلك المادة الضخمة وتجمع ليسهل الاستفادة منها والرجوع إليها، وهذا متيسر بإذن الله لو أن هذا العلم أفرد بالتصنيف والتأليف بصورة مستقلة.
وفي الحقيقة لا تزال مادة علم المقالات إلى يومنا هذا موزعة ومشتتة بين عدة علوم، فهناك كتب علم الفرق، وكتب علم العقيدة، وكتب علوم التأريخ والرجال، وغيرها من كتب الفنون، وتحتوي كتب التراجم والسير وتأريخ الرجال من كتب أهل السنة، على مادة جيدة في هذا المجال، ومن ذلك على سبيل المثال مؤلفات الذهبي، وهذه المادة هي كذلك بحاجة إلى جمع وإخراج ودراسة، لتعطي إضافة مهمة في هذا الجانب
ولعل فيما كتبته في هذا البحث دافعاً لإحياء لهذا الجانب وحافزاً لمزيد من الكتابات التي تثري هذا المجال الذي هو بأمس الحاجة إلى أقلام الدارسين، والله الموفق.