المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إن الذين آمنوا بالله واتَّبَعوا رسله وعملوا الصالحات وَفْق شرعه، - التفسير الميسر - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: إن الذين آمنوا بالله واتَّبَعوا رسله وعملوا الصالحات وَفْق شرعه،

إن الذين آمنوا بالله واتَّبَعوا رسله وعملوا الصالحات وَفْق شرعه، سيجعل لهم الرحمن محبة ومودة في قلوب عباده.

ص: 312

فإنما يسَّرنا هذا القرآن بلسانك العربي أيها الرسول؛ لتبشر به المتقين من أتباعك، وتخوِّف به المكذبين شديدي الخصومة بالباطل.

ص: 312

وكثيرًا أهلكنا - أيها الرسول - من الأمم السابقة قبل قومك، ما ترى منهم أحدًا وما تسمع لهم صوتًا، فكذلك الكفار من قومك، نهلكهم كما أهلكنا السابقين من قبلهم. وفي هذا تهديد ووعيد بإهلاك المكذبين المعاندين.

ص: 312

(طه)

سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 312

ما أنزلنا عليك - أيها الرسول - القرآن; لتشقى بما لا طاقة لك به من العمل.

ص: 312

لكن أنزلناه موعظة; ليتذكر به مَن يخاف عقاب الله، فيتقيه بأداء الفرائض واجتناب المحارم.

ص: 312

هذا القرآن تنزيل من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى.

ص: 312

الرحمن على العرش استوى أي: علا وارتفع، استواء يليق بجلاله وعظمته.

ص: 312

له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الأرض، خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا.

ص: 312

وإن تجهر - أيها الرسول - بالقول، فتعلنه أو تخفه، فإن الله لا يخفى عليه شيء، يعلم السر وما هو أخفى من السر مما تحدِّث به نفسك.

ص: 312

الله الذي لا معبود بحق إلا هو، له وحده الأسماء الكاملة في الحسن.

ص: 312

وهل أتاك - أيها الرسول - خبر موسى بن عمران عليه السلام، وهو قادم من «مدين» إلى «مصر» ؟

ص: 312

حين رأى في الليل نارًا موقدة فقال لأهله: انتظروا لقد أبصرت نارًا، لعلي أجيئكم منها بشعلة تستدفئون بها، وتوقدون بها نارًا أخرى، أو أجد عندها هاديًا يدلنا على الطريق.

ص: 312

فلما أتى موسى تلك النار ناداه الله: يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك، إنك الآن بوادي «طوى» الذي باركته، وذلك استعدادًا لمناجاة ربه.

ص: 312

وإني اخترتك يا موسى لرسالتي، فاستمع لما يوحى إليك مني.

ص: 313

إنني أنا الله لا معبود بحق إلا أنا، لا شريك لي، فاعبدني وحدي، وأقم الصلاة لتذكرني فيها.

ص: 313

إن الساعة التي يُبعث فيها الناس آتية لا بد من وقوعها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها أحد من المخلوقين; لكي تُجزى كل نفس بما عملت في الدنيا من خير أو شر.

ص: 313

فلا يصرفنَّك - يا موسى - عن الإيمان بها والاستعداد لها مَن لا يصدق بوقوعها ولا يعمل لها، واتبع هوى نفسه، فكذَّب بها، فتهلك.

ص: 313

وما هذه التي في يمينك يا موسى؟

ص: 313

قال موسى: هي عصاي أعتمد عليها في المشي، وأهزُّ بها الشجر; لترعى غنمي ما يتساقط من ورقه، ولي فيها منافع أخرى.

ص: 313

قال الله لموسى: ألق عصاك.

ص: 313

فألقاها موسى على الأرض، فانقلبت بإذن الله حية تسعى، فرأى موسى أمرًا عظيمًا وولى هاربًا.

ص: 313

قال الله لموسى: خذ الحية، ولا تَخَفْ منها، سوف نعيدها عصًا كما كانت في حالتها الأولى. واضمم يدك إلى جنبك تحت العَضُد تخرج بيضاء كالثلج من غير برص; لتكون لك علامة أخرى.

ص: 313

فعلنا ذلك; لكي نريك - يا موسى - من أدلتنا الكبرى ما يدلُّ على قدرتنا، وعظيم سلطاننا، وصحة رسالتك.

ص: 313

اذهب - يا موسى - إلى فرعون; إنه قد تجاوز قدره وتمرَّد على ربه، فادعه إلى توحيد الله وعبادته.

ص: 313

قال موسى: رب وسِّع لي صدري، وسَهِّل لي أمري، وأطلق لساني بفصيح المنطق; ليفهموا كلامي. واجعل لي معينا من أهلي، هارون أخي. قَوِّني به وشدَّ به ظهري، وأشركه معي في النبوة وتبليغ الرسالة; كي ننزهك بالتسبيح كثيرًا، ونذكرك كثيرا فنحمدك. إنك كنت بنا بصيرًا، لا يخفى عليك شيء من أفعالنا.

ص: 313

قال الله: قد أعطيتك كل ما سألت يا موسى.

ص: 313

ولقد أنعمنا عليك - يا موسى - قبل هذه النعمة نعمة أخرى، حين كنت رضيعًا، فأنجيناك مِن بطش فرعون.

ص: 313

وذلك حين ألهمْنا أمَّك: أن ضعي ابنك موسى بعد ولادته في التابوت، ثم اطرحيه في النيل، فسوف يلقيه النيل على الساحل، فيأخذه فرعون عدوي وعدوه. وألقيت عليك محبة مني فصرت بذلك محبوبًا بين العباد، ولِتربى على عيني وفي حفظي. وفي الآية إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وكماله.

ص: 314

ومننَّا عليك حين تمشي أختك تتبعك ثم تقول لمن أخذوك: هل أدلكم على من يكفُله، ويرضعه لكم؟ فرددناك إلى أمِّك بعد ما صرتَ في أيدي فرعون؛ كي تطيب نفسها بسلامتك من الغرق والقتل، ولا تحزن على فَقْدك، وقتلت الرجل القبطي خطأ فنجيناك من غَمِّ فِعْلك وخوف القتل، وابتليناك ابتلاء، فخرجت خائفًا إلى أهل «مدين» ، فمكثت سنين فيهم، ثم جئت من «مدين» في الموعد الذي قدَّرناه لإرسالك مجيئًا موافقًا لقدر الله وإرادته، والأمر كله لله تبارك وتعالى.

ص: 314

وأنعمتُ عليك - يا موسى - هذه النعم اجتباء مني لك، واختيارًا لرسالتي، والبلاغ عني، والقيام بأمري ونهيي.

ص: 314

اذهب - يا موسى - أنت وأخوك هارون بآياتي الدالة على ألوهيتي وكمال قدرتي وصدق رسالتك، ولا تَضْعُفا عن مداومة ذكري. اذهبا معًا إلى فرعون; إنه قد جاوز الحد في الكفر والظلم، فقولا له قولا لطيفًا; لعله يتذكر أو يخاف ربه.

ص: 314

قال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف أن يعاجلنا بالعقوبة، أو أن يتمرد على الحق فلا يقبله.

ص: 314

قال الله لموسى وهارون: لا تخافا من فرعون; فإنني معكما أسمع كلامكما وأرى أفعالكما، فاذهبا إليه وقولا له: إننا رسولان إليك من ربك أن أطلق بني إسرائيل، ولا تكلِّفهم ما لا يطيقون من الأعمال، قد أتيناك بدلالة معجزة من ربك تدل على صدقنا في دعوتنا، والسلامة من عذاب الله تعالى لمن اتبع هداه. إن ربك قد أوحى إلينا أن عذابه على مَن كذَّب وأعرض عن دعوته وشريعته.

ص: 314

قال فرعون لهما -على وجه الإنكار-: فمَن ربكما يا موسى؟

ص: 314

قال له موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خَلْقَه اللائق به على حسن صنعه، ثم هدى كل مخلوق الهداية الكاملة إلى الانتفاع بما خلقه الله له.

ص: 314

قال فرعون لموسى -على وجه المغالطة والمشاغبة-: فما شأن الأمم السابقة؟ وما خبر القرون الماضية، فقد سبقونا إلى الإنكار والكفر؟

ص: 314

قال موسى لفرعون: ما سألت عنه مما نحن بصدده، بل عِلْمُ تلك القرون فيما فَعَلَت من ذلك عند ربي في اللوح المحفوظ، ولا عِلْمَ لي به، لا يضل ربي في أفعاله وأحكامه، ولا ينسى شيئًا ممَّا علمه منها.

ص: 315

هو الذي جعل لكم الأرض ميسَّرة للانتفاع بها، وجعل لكم فيها طرقًا كثيرة، وأنزل من السماء مطرًا، فأخرج به أنواعًا مختلفة من النبات.

ص: 315

كلوا - أيها الناس - من طيبات ما أنبتنا لكم، وارعوا حيواناتكم وبهائمكم. إن في كل ما ذُكر لَعلامات على قدرة الله، ودعوة لوحدانيته وإفراده بالعبادة، لذوي العقول السليمة.

ص: 315

من الأرض خَلَقْناكم - أيها الناس -، وفيها نعيدكم بعد الموت، ومنها نخرجكم أحياء مرة أخرى للحساب والجزاء.

ص: 315

ولقد أرينا فرعون أدلتنا وحججنا جميعها، الدالة على ألوهيتنا وقدرتنا وصِدْقِ رسالة موسى فكذَّب بها، وامتنع عن قَبول الحق.

ص: 315

قال فرعون: هل جئتنا - يا موسى - لتخرجنا من ديارنا بسحرك هذا؟

ص: 315

فسوف نأتيك بسحر مثل سحرك، فاجعل بيننا وبينك موعدًا محددًا، لا نخلفه نحن ولا تخلفه أنت، في مكان مستوٍ معتدل بيننا وبينك.

ص: 315

قال موسى لفرعون: موعدكم للاجتماع يوم العيد، حين يتزيَّن الناس، ويجتمعون من كل فج وناحية وقت الضحى.

ص: 315

فأدبر فرعون معرضًا عما أتاه به موسى من الحق، فجمع سحرته، ثم جاء بعد ذلك لموعد الاجتماع.

ص: 315

قال موسى لسحرة فرعون يعظهم: احذروا، لا تختلقوا على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب مِن عنده ويُبيدكم، وقد خسر من اختلق على الله كذبًا.

ص: 315

فتجاذب السحرة أمرهم بينهم وتحادثوا سرًا، قالوا: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من بلادكم بسحرهما، ويذهبا بطريقة السحر العظيمة التي أنتم عليها، فأحكموا كيدكم، واعزموا عليه من غير اختلاف بينكم، ثم ائتوا صفًا واحدًا، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة; لتَبْهَروا الأبصار، وتغلبوا سحر موسى وأخيه، وقد ظفر بحاجته اليوم مَن علا على صاحبه، فغلبه وقهره.

ص: 315

قال السحرة: يا موسى إما أن تلقي عصاك أولا وإما أن نبدأ نحن فنلقي ما معنا.

ص: 316

قال لهم موسى: بل ألقُوا أنتم ما معكم أولا فألقَوا حبالهم وعصيَّهم، فتخيل موسى مِن قوة سحرهم أنها حيات تسعى، فشعر موسى في نفسه بالخوف.

ص: 316

قال الله لموسى حينئذ: لا تَخَفْ من شيء، فإنك أنت الأعلى على هؤلاء السحرة وعلى فرعون وجنوده، وستغلبهم.

ص: 316

وألق عصاك التي في يمينك تبتلع حبالهم وعصيهم، فما عملوه أمامك ما هو إلا مكر ساحرٍ وتخييل سِحْرٍ، ولا يظفر الساحر بسحره أين كان.

ص: 316

فألقى موسى عصاه، فبلعت ما صنعوا، فظهر الحق وقامت الحجة عليهم. فألقى السحرة أنفسهم على الأرض ساجدين وقالوا: آمنا برب هارون وموسى، لو كان هذا سحرًا ما غُلِبْنا.

ص: 316

قال فرعون للسحرة: أصدَّقتم بموسى، واتبعتموه، وأقررتم له قبل أن آذن لكم بذلك؟ إن موسى لَعظيمكم الذي عَلَّمكم السحر; فلذلك تابعتموه، فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم مخالفًا بينها، يدًا من جهة ورِجْلا من الجهة الأخرى، ولأصلبنَّكم - بربط أجسادكم - على جذوع النخل، ولتعلمنَّ أيها السحرة أينا: أنا أو رب موسى أشد عذابًا من الآخر، وأدوم له؟

ص: 316

قال السحرة لفرعون: لن نفضلك، فنطيعك، ونتبع دينك، على ما جاءنا به موسى من البينات الدالة على صدقه ووجوب متابعته وطاعة ربه، ولن نُفَضِّل ربوبيتك المزعومة على ربوبية اللهِ الذي خلقنا، فافعل ما أنت فاعل بنا، إنما سلطانك في هذه الحياة الدنيا، وما تفعله بنا، ما هو إلا عذاب منتهٍ بانتهائها.

ص: 316

إنَّا آمنا بربنا وصدَّقْنا رسوله وعملنا بما جاء به; ليعفو ربُّنا عن ذنوبنا، وما أكرهتنا عليه مِن عمل السحر في معارضة موسى. والله خير لنا منك - يا فرعون - جزاء لمن أطاعه، وأبقى عذابًا لمن عصاه وخالف أمره.

ص: 316

إنه من يأت ربه كافرًا به فإن له نار جهنم يُعَذَّب بها، لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة يتلذذ بها.

ص: 316

ومن يأت ربه مؤمنًا به قد عمل الأعمال الصالحة فله المنازل العالية في جنات الإقامة الدائمة، تجري من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا، وذلك النعيم المقيم ثواب من الله لمن طهَّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده فأطاعه واجتنب معاصيه، ولقي ربه لا يشرك بعبادته أحدًا من خلقه.

ص: 316

ولقد أوحينا إلى موسى: أن اخرُج ليلا بعبادي من بني إسرائيل من «مصر» ، فاتِّخِذْ لهم في البحر طريقًا يابسًا، لا تخاف من فرعون وجنوده أن يلحقوكم فيدركوكم، ولا تخشى في البحر غرقًا.

ص: 317

فأسرى موسى ببني إسرائيل، وعبر بهم طريقًا في البحر، فأتبعهم فرعون بجنوده، فغمرهم من الماء ما لا يعلم كنهه إلا الله، فغرقوا جميعًا ونجا موسى وقومه.

ص: 317

وأضلَّ فرعون قومه بما زيَّنه لهم من الكفر والتكذيب، وما سلك بهم طريق الهداية.

ص: 317

يا بني إسرائيل اذكروا حين أنجيناكم مِن عدوكم فرعون، وجَعَلْنا موعدكم الجانب الأيمن من جبل الطور لإنزال التوراة عليكم، ونزلنا عليكم في التيه ما تأكلونه، مما يشبه الصَّمغ طعمه كالعسل، والطير الذي يشبه السُّمَانَى.

ص: 317

كلوا من رزقنا الطيب، ولا تعتدوا فيه بأن يظلم بعضكم بعضًا، فينزل بكم غضبي، ومَن ينزل به غضبي فقد هلك وخسر.

ص: 317

وإني لَغفار لمن تاب من ذنبه وكفره، وآمن بي وعمل الأعمال الصالحة، ثم اهتدى إلى الحق واستقام عليه.

ص: 317

وأيُّ شيء أعجلك عن قومك - يا موسى - فسبقتَهم إلى جانب الطور الأيمن، وخلَّفتَهم وراءك؟

ص: 317

قال: إنهم خلفي سوف يلحقون بي، وسبقتُهم إليك - يا ربي - لتزداد عني رضا.

ص: 317

قال الله لموسى: فإنا قد ابتلينا قومك بعد فراقك إياهم بعبادة العجل، وإن السامري قد أضلهم.

ص: 317

فرجع موسى إلى قومه غضبان عليهم حزينًا، وقال لهم: يا قوم ألم يَعِدْكم ربكم وعدًا حسنًا بإنزال التوراة؟

أفطال عليكم العهد واستبطأتم الوعد، أم أردتم أن تفعلوا فعلا يحل عليكم بسببه غضب من ربكم، فأخلفتم موعدي وعبدتم العجل، وتركتم الالتزام بأوامري؟

ص: 317

قالوا: يا موسى ما أخلفنا موعدك باختيارنا، ولكنَّا حُمِّلنا أثقالا مِن حليِّ قوم فرعون، فألقيناها في حفرة فيها نار بأمر السامري، فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل عليه السلام.

ص: 317

فصنع السامري لبني إسرائيل من الذهب عجلا جسدًا يخور خوار البقر، فقال المفتونون به منهم للآخرين: هذا هو إلهكم وإله موسى، نسيه وغَفَل عنه.

ص: 318

أفلا يرى الذين عبدوا العجل أنه لا يكلمهم ابتداء، ولا يردُّ عليهم جوابًا، ولا يقدر على دفع ضرٍّ عنهم، ولا جلب نفع لهم؟

ص: 318

ولقد قال هارون لبني إسرائيل من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما اختُبرتم بهذا العجل؛ ليظهر المؤمن منكم من الكافر، وإن ربكم الرحمن لا غيره فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري في اتباع شرعه.

ص: 318

قال عُبَّاد العجل منهم: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى.

ص: 318

قال موسى لأخيه هارون: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم ضلُّوا عن دينهم أن لا تتبعني، فتلحق بي وتتركهم؟ أفعصيت أمري فيما أمرتك به من خلافتي والإصلاح بعدي؟

ص: 318

ثم أخذ موسى بلحية هارون ورأسه يجرُّه إليه، فقال له هارون: يا ابن أمي لا تمسك بلحيتي ولا بشعر رأسي، إني خفتُ - إن تركتهم ولحقت بك - أن تقول: فرَّقت بين بني إسرائيل، ولم تحفظ وصيتي بحسن رعايتهم.

ص: 318

قال موسى للسامري: فما شأنك يا سامري؟ وما الذي دعاك إلى ما فعلته؟

ص: 318

قال السامري: رأيت ما لم يروه - وهو جبريل عليه السلام على فرس، وقت خروجهم من البحر وغرق فرعون وجنوده، فأخذتُ بكفي ترابا من أثر حافر فرس جبريل، فألقيته على الحليِّ الذي صنعت منه العجل، فكان عجلا جسدًا له خوار؛ بلاء وفتنة، وكذلك زيَّنت لي نفسي الأمَّارة بالسوء هذا الصنيع.

ص: 318

قال موسى للسامري: فاذهب فإن عقوبتك في الحياة الدنيا أن تعيش منبوذًا تقول لكل أحد: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ، وإن لك موعدا لعذابك وعقابك، لن يُخْلفك الله إياه، وسوف تلقاه، وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته لنُحرقنَّه بالنار، ثم لنُذرونَّه في البحر ذروا لتذهب به الريح؛ حتى لا يبقى منه أثر.

ص: 318

إنما إلهكم - أيها الناس - هو الله الذي لا معبود بحق إلا هو، وسع علمه كل شيء.

ص: 318

كما قصصنا عليك - أيها الرسول - أنباء موسى وفرعون وقومهما، نخبرك بأنباء السابقين لك. وقد آتيناك مِن عندنا هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر.

ص: 319

من أعرض عن هذا القرآن، ولم يصدق به، ولم يعمل بما فيه، فإنه يأتي ربه يوم القيامة يحمل إثمًا عظيمًا.

ص: 319

خالدين في العذاب، وساءهم ذلك الحمل الثقيل من الآثام حيث أوردهم النار.

ص: 319

يوم يَنفُخ الملَكُ في «القرن» لصيحة البعث، ونسوق الكافرين ذلكم اليوم وهم زرق، تغيَّرت ألوانهم وعيونهم; من شدة الأحداث والأهوال.

ص: 319

يتهامسون بينهم، يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الحياة الدنيا إلا عشرة أيام.

ص: 319

نحن أعلم بما يقولون ويُسِرُّون حين يقول أعلمهم وأوفاهم عقلا ما لبثتم إلا يومًا واحدًا; لقِصَر مدة الدنيا في أنفسهم يوم القيامة.

ص: 319

ويسألك - أيها الرسول - قومك عن مصير الجبال يوم القيامة، فقل لهم: يزيلها ربِّي عن أماكنها فيجعلها هباء منبثًا.

ص: 319

فيترك الأرض حينئذ منبسطة مستوية ملساء لا نبات فيها، لا يرى الناظر إليها مِن استوائها مَيْلا ولا ارتفاعًا ولا انخفاضًا.

ص: 319

في ذلك اليوم يتبع الناس صوت الداعي إلى موقف القيامة، لا محيد عن دعوة الداعي; لأنها حق وصدق لجميع الخلق، وسكنت الأصوات خضوعًا للرحمن، فلا تسمع منها إلا صوتًا خفيًا.

ص: 319

في ذلك اليوم لا تنفع الشفاعة أحدًا من الخلق، إلا إذا أذن الرحمن للشافع، ورضي عن المشفوع له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص.

ص: 319

يعلم الله ما بين أيدي الناس مِن أمر القيامة وما خلفهم من أمر الدنيا، ولا يحيط خلقه به علمًا سبحانه وتعالى.

ص: 319

وخضعت وجوه الخلائق، وذلَّت لخالقها، الذي له جميع معاني الحياة الكاملة كما يليق بجلاله الذي لا يموت، القائم على تدبير كلِّ شيء، المستغني عمَّن سواه. وقد خسر يوم القيامة مَن أشرك مع الله أحدًا من خلقه.

ص: 319

ومن يعمل صالحات الأعمال وهو مؤمن بربه، فلا يخاف ظلمًا بزيادة سيئاته، ولا هضمًا بنقص حسناته.

ص: 319

وكما رغَّبنا أهل الإيمان في صالحات الأعمال، وحذَّرنا أهل الكفر من المقام على معاصيهم وكفرهم بآياتنا، أنزلنا هذا القرآن باللسان العربي; ليفهموه، وفصَّلنا فيه أنواعًا من الوعيد; رجاء أن يتقوا ربهم، أو يُحدِث لهم هذا القرآن تذكرة، فيتعظوا، ويعتبروا.

ص: 319

فتنزَّه الله - سبحانه - وارتفع، وتقدَّس عن كل نقص، الملك الذي قهر سلطانه كل ملك وجبار، المتصرف بكل شيء، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، وكل شيء منه حق. ولا تعجل - أيها الرسول - بمسابقة جبريل في تَلَقِّي القرآن قبل أن يَفْرَغ منه، وقل: ربِّ زدني علمًا إلى ما علمتني.

ص: 320

ولقد وصينا آدم مِن قَبلِ أن يأكل من الشجرة، ألا يأكل منها، وقلنا له: إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلا يخرجنكما من الجنة، فتشقى أنت وزوجك في الدنيا، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه، ونسي آدم الوصية، ولم نجد له قوة في العزم يحفظ بها ما أُمر به.

ص: 320

واذكر - أيها الرسول - إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، فأطاعوا، وسجدوا، لكن إبليس امتنع من السجود.

ص: 320

فقلنا: يا آدم إن إبليس هذا عدو لك ولزوجتك، فاحذرا منه، ولا تطيعاه بمعصيتي، فيخرجكما من الجنة، فتشقى إذا أُخرجت منها.

ص: 320

إن لك - يا آدم - في هذه الجنة أن تأكل فلا تجوع، وأن تَلْبَس فلا تَعْرى.

ص: 320

وأن لك ألا تعطش في هذه الجنة ولا يصيبك حر الشمس.

ص: 320

فوسوس الشيطان لآدم وقال له: هل أدلك على شجرة، إن أكلت منها خُلِّدتَ فلم تمت، وملكت مُلْكًا لا ينقضي ولا ينقطع؟

ص: 320

فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها، فانكشفت لهما عوراتهما، وكانت مستورةً عن أعينهما، فأخذا ينزعان من ورق أشجار الجنة ويلصقانه عليهما; ليسترا ما انكشف من عوراتهما، وخالف آدم أمر ربه، فغوى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الاقتراب منها.

ص: 320

ثم اصطفى الله آدم، وقرَّبه، وقَبِل توبته، وهداه رشده.

ص: 320

قال الله تعالى لآدم وحواء: اهبطا من الجنة إلى الأرض جميعًا مع إبليس، فأنتما وهو أعداء، فإن يأتكم مني هدى وبيان فمن اتبع هداي وبياني وعمل بهما فإنه يرشد في الدنيا، ويهتدي، ولا يشقى في الآخرة بعقاب الله.

ص: 320

ومن تولَّى عن ذكري الذي أذكِّره به فإن له في الحياة الأولى معيشة ضيِّقة شاقة -وإن ظهر أنه من أهل الفضل واليسار-، ويُضيَّق قبره عليه ويعذَّب فيه، ونحشره يوم القيامة أعمى عن الرؤية وعن الحجة.

ص: 320

قال المعرِض عن ذكر الله: ربِّ لِمَ حَشَرْتني أعمى، وقد كنت بصيرًا في الدنيا؟

ص: 320

قال الله تعالى له: حشرتك أعمى; لأنك أتتك آياتي البينات، فأعرضت عنها، ولم تؤمن بها، وكما تركتَها في الدنيا فكذلك اليوم تُترك في النار.

ص: 321

وهكذا نعاقب مَن أسرف على نفسه فعصى ربه، ولم يؤمن بآياته بعقوبات في الدنيا، ولَعذاب الآخرة المعدُّ لهم أشد ألمًا وأدوم وأثبت; لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.

ص: 321

أفلم يدل قومك - أيها الرسول - على طريق الرشاد كثرة مَن أهلكنا من الأمم المكذبة قبلهم وهم يمشون في ديارهم، ويرون آثار هلاكهم؟ إن في كثرة تلك الأمم وآثار عذابهم لَعبرًا وعظاتٍ لأهل العقول الواعية.

ص: 321

ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى عنده للازمهم الهلاك عاجلا، لأنهم يستحقونه؛ بسبب كفرهم.

ص: 321

فاصبر - أيها الرسول - على ما يقوله المكذبون بك من أوصاف وأباطيل، وسبِّح بحمد ربك في صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وفي صلاة العصر قبل غروبها، وفي صلاة العشاء في ساعات الليل، وسبح بحمد ربك أطراف النهار في صلاة الظهر -إذ وقتها طرف النصف الأول والنصف الثاني من النهار- وفي صلاة المغرب ; كي تثاب على هذه الأعمال بما تَرْضى به.

ص: 321

ولا تنظر إلى ما مَتَّعْنا به هؤلاء المشركين وأمثالهم من أنواع المتع، فإنها زينة زائلة في هذه الحياة الدنيا، متعناهم بها; لنبتليهم بها، ورزق ربك وثوابه خير لك مما متعناهم به وأدوم; حيث لا انقطاع له ولا نفاد.

ص: 321

وَأْمُرْ - أيها النبي - أهلك بالصلاة، واصطبر على أدائها، لا نسألك مالا، نحن نرزقك ونعطيك. والعاقبة الصالحة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.

ص: 321

وقال مكذبوك - أيها الرسول -: هلا تأتينا بعلامة من ربك تدلُّ على صدقك، أو لم يأتهم هذا القرآن المصدق لما في الكتب السابقة من الحق؟

ص: 321

ولو أنَّا أهلكنا هؤلاء المكذبين بعذاب من قبل أن نرسل إليهم رسولا وننزل عليهم كتابًا لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك، فنصدقه، ونتبع آياتك وشرعك، مِن قبل أن نَذلَّ ونَخزى بعذابك.

ص: 321

قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون النصر والفلاح، فانتظروا، فستعلمون: مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟

ص: 321

دنا وقت حساب الناس على ما قدَّموا من عمل، ومع ذلك فالكفار يعيشون لاهين عن هذه الحقيقة، معرضين عن هذا الإنذار.

ص: 322

ما من شيء ينزل من القرآن يتلى عليهم مجدِّدًا لهم التذكير، إلا كان سماعهم له سماع لعب واستهزاء.

ص: 322

قلوبهم غافلة عن القرآن الكريم، مشغولة بأباطيل الدنيا وشهواتها، لا يعقلون ما فيه. بل إن الظالمين من قريش اجتمعوا على أمر خَفِيٍّ: وهو إشاعة ما يصدُّون به الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أنه بشر مثلهم، لا يختلف عنهم في شيء، وأن ما جاء به من القرآن سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه، وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم؟

ص: 322

رد النبي صلى الله عليه وسلم الأمرَ إلى ربه سبحانه وتعالى فقال: ربي يعلم القول في السماء والأرض، ويعلم ما أسررتموه من حديثكم، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم. وفي هذا تهديد لهم ووعيد.

ص: 322

بل جحد الكفار القرآن فمِن قائل: إنه أخلاط أحلام لا حقيقة لها، ومن قائل: إنه اختلاق وكذب وليس وحيًا، ومن قائل: إن محمدًا شاعر، وهذا الذي جاء به شعر، وإن أراد منا أن نصدِّقه فليجئنا بمعجزة محسوسة كناقة صالح، وآيات موسى وعيسى، وما جاء به الرسل من قبله.

ص: 322

ما آمنت قبل كفار «مكة» من قرية طلب أهلها المعجزات مِن رسولهم وتحققت، بل كذَّبوا، فأهلكناهم، أفيؤمن كفار «مكة» إذا تحققت المعجزات التي طلبوها؟ كلا إنهم لا يؤمنون.

ص: 322

وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - إلا رجالا من البشر نوحي إليهم، ولم نرسل ملائكة، فاسألوا - يا كفار «مكة» - أهل العلم بالكتب المنزلة السابقة، إن كنتم تجهلون ذلك.

ص: 322

وما جعلنا أولئك المرسلين قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب، وما كانوا خالدين لا يموتون.

ص: 322

ثم أنجزنا للأنبياء وأتباعم ما وعدناهم به من النصر والنجاة، وأهلَكْنا المسرفين على أنفسهم بكفرهم بربهم.

ص: 322

لقد أنزلنا إليكم هذا القرآن، فيه عزُّكم وشرفكم في الدنيا والآخرة إن تذكرتم به، أفلا تعقلون ما فَضَّلْتكم به على غيركم؟

ص: 322

وكثير من القرى كان أهلها ظالمين بكفرهم بما جاءتهم به رسلهم، فأهلكناهم بعذاب أبادهم جميعًا، وأوجدنا بعدهم قومًا آخرين سواهم.

ص: 323

فلما رأى هؤلاء الظالمون عذابنا الشديد نازلا بهم، وشاهدوا بوادره، إذا هم من قريتهم يسرعون هاربين.

ص: 323

فنودوا في هذه الحال: لا تهربوا وارجعوا إلى لذاتكم وتنعُّمكم في دنياكم الملهية ومساكنكم المشيَّدة، لعلكم تُسألون من دنياكم شيئًا، وذلك على وجه السخرية والاستهزاء بهم.

ص: 323

فلم يكن لهم من جواب إلا اعترافهم بجرمهم وقولهم: يا هلاكنا، فقد ظلمنا أنفسنا بكفرنا.

ص: 323

فما زالت تلك المقالة - وهي الدعاء على أنفسهم بالهلاك، والاعتراف بالظلم - دَعْوَتَهم يرددونها حتى جعلناهم كالزرع المحصود، خامدين لا حياة فيهم. فاحذروا - أيها المخاطبون - أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فيحلُّ بكم ما حَلَّ بالأمم قبلكم.

ص: 323

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما عبثًا وباطلا بل لإقامة الحجة عليكم - أيها الناس - ولتعتبروا بذلك كله، فتعلموا أن الذي خلق ذلك لا يشبهه شيء، ولا تصلح العبادة إلا له.

ص: 323

لو أردنا أن نتخذ لهوًا من الولد أو الصاحبة لاتخذناه من عندنا لا من عندكم، ما كنا فاعلين ذلك; لاستحالة أن يكون لنا ولد أو صاحبة.

ص: 323

بل نقذف بالحق ونبيِّنه، فيدحض الباطل، فإذا هو ذاهب مضمحل. ولكم العذاب في الآخرة - أيها المشركون - مِن وَصْفكم ربكم بغير صفته اللائقة به.

ص: 323

ولله سبحانه كل مَن في السموات والأرض، والذين عنده من الملائكة لا يأنَفُون عن عبادته ولا يملُّونها. فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه؟

ص: 323

يذكرون الله وينزِّهونه دائمًا، لا يضْعُفون ولا يسأمون.

ص: 323

كيف يصح للمشركين أن يتخذوا آلهة عاجزة من الأرض لا تقدر على إحياء الموتى؟

ص: 323

لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى تدبر شؤونهما، لاختلَّ نظامهما، فتنزَّه الله رب العرش، وتقدَّس عَمَّا يصفه الجاحدون الكافرون، من الكذب والافتراء وكل نقص.

ص: 323

إن من دلائل تفرُّده سبحانه بالخلق والعبادة أنه لا يُسأل عن قضائه في خلقه، وجميع خلقه يُسألون عن أفعالهم.

ص: 323

هل اتخذ هؤلاء المشركون مِن غير الله آلهة تنفع وتضر وتحيي وتميت؟ قل - أيها الرسول - لهم: هاتوا ما لديكم من البرهان على ما اتخذتموه آلهة، فليس في القرآن الذي جئتُ به ولا في الكتب السابقة دليل على ما ذهبتم إليه، وما أشركوا إلا جهلا وتقليدًا، فهم معرضون عن الحق منكرون له.

ص: 323

وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول - من رسول إلا نوحي إليه أنه لا معبود بحق إلا الله، فأخْلصوا العبادة له وحده.

ص: 324

وقال المشركون: اتخذ الرحمن ولدًا بزعمهم أن الملائكة بنات الله. تنزَّه الله عن ذلك; فالملائكة عباد الله مقربون مخصصون بالفضائل، وهم في حسن طاعتهم لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يعملون عملا حتى يأذن لهم.

ص: 324

وما من أعمال الملائكة عمل سابق أو لاحق إلا يعلمه الله سبحانه وتعالى، ويحصيه عليهم، ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضى الله شفاعتهم له، وهم من خوف الله حذرون من مخالفة أمره ونهيه.

ص: 324

ومن يدَّع من الملائكة أنه إله مع الله - على سبيل الفرض - فجزاؤه جهنم، مثل ذلك الجزاء نجزي كل ظالم مشرك.

ص: 324

أو لم يعلم هؤلاء الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين لا فاصل بينهما، فلا مطر من السماء ولا نبات من الأرض، ففصلناهما بقدرتنا، وأنزلنا المطر من السماء، وأخرجنا النبات من الأرض، وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمن هؤلاء الجاحدون فيصدقوا بما يشاهدونه، ويخصُّوا الله بالعبادة؟

ص: 324

وخلقنا في الأرض جبالا تثبتها حتى لا تضطرب، وجعلنا فيها طرقًا واسعة; رجاء اهتداء الخلق إلى معايشهم، وتوحيد خالقهم.

ص: 324

وجعلنا السماء سقفًا للأرض لا يرفعها عماد، وهي محفوظة لا تسقط، ولا تخترقها الشياطين، والكفار عن الاعتبار بآيات السماء (الشمس والقمر والنجوم) ، غافلون لاهون عن التفكير فيها.

ص: 324

والله تعالى هو الذي خلق الليل; ليسكن الناس فيه، والنهار; ليطلبوا فيه المعايش، وخلق الشمس آية للنهار، والقمر آية للَّيل، ولكل منهما مدار يجري فيه وَيَسْبَح لا يحيد عنه.

ص: 324

وما جعلنا لبشر من قبلك - أيها الرسول - دوام البقاء في الدنيا، أفإن مت فهم يُؤمِّلون الخلود بعدك؟ لا يكون هذا. وفي هذه الآية دليل على أن الخضر عليه السلام قد مات; لأنه بشر.

ص: 324

كل نفس ذائقة الموت لا محالة مهما عُمِّرت في الدنيا. وما وجودها في الحياة إلا ابتلاء بالتكاليف أمرًا ونهيًا، وبتقلب الأحوال خيرًا وشرًا، ثم المآل والمرجع بعد ذلك إلى الله - وحده - للحساب والجزاء.

ص: 324

وإذا رآك الكفار - أيها الرسول - أشاروا إليك ساخرين منك بقول بعضهم لبعض: أهذا الرجل الذي يسبُّ آلهتكم؟ وجحدوا بالرحمن ونعمه، وبما أنزله من القرآن والهدى.

ص: 325

خُلق الإنسان عجولا يبادر الأشياء ويستعجل وقوعها. وقد استعجلت قريش العذاب واستبطأته، فأنذرهم الله بأنه سيريهم ما يستعجلونه من العذاب، فلا يسألوا الله تعجيله وسرعته.

ص: 325

ويقول الكفار - مستعجلين العذاب مستهزئين -: متى حصول ما تَعِدُنا به يا محمد، إن كنت أنت ومَن اتبعك من الصادقين؟

ص: 325

لو يعلم هؤلاء الكفار ما يلاقونه عندما لا يستطيعون أن يدفعوا عن وجوههم وظهورهم النار، ولا يجدون لهم ناصرًا ينصرهم، لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا عذابهم.

ص: 325

ولسوف تأتيهم الساعة فجأة، فيتحيَّرون عند ذلك، ويخافون خوفًا عظيمًا، ولا يستطيعون دَفْعَ العذاب عن أنفسهم، ولا يُمْهلون لاستدراك توبة ولا اعتذار.

ص: 325

ولقد استهزئ برسل مِن قبلك أيها الرسول، فحلَّ بالذين كانوا يستهزئون العذاب الذي كان مَثار سخريتهم واستهزائهم.

ص: 325

قل - أيها الرسول - لهؤلاء المستعجلين بالعذاب: لا أحد يحفظكم ويحرسكم في ليلكم أو نهاركم، في نومكم أو يقظتكم، مِن بأس الرحمن إذا نزل بكم. بل هم عن القرآن ومواعظ ربهم لاهون غافلون.

ص: 325

أَلَهُمْ آلهة تمنعهم من عذابنا؟ إنَّ آلهتهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟ وهم منا لا يُجارون.

ص: 325

لقد اغترَّ الكفار وآباؤهم بالإمهال لِمَا رأوه من الأموال والبنين وطول الأعمار، فأقاموا على كفرهم لا يَبْرحونه، وظنوا أنهم لا يُعذَّبون وقد غَفَلوا عن سُنَّة ماضية، فالله ينقص الأرض من جوانبها بما ينزله بالمشركين مِن بأس في كل ناحية ومِن هزيمة، أيكون بوسع كفار «مكة» الخروج عن قدرة الله، أو الامتناع من الموت؟

ص: 325

قل - أيها الرسول - لمن أُرسلتَ إليهم: ما أُخوِّفكم من العذاب إلا بوحي من الله، وهو القرآن، ولكن الكفار لا يسمعون ما يُلقى إليهم سماع تدبر إذا أُنذِورا، فلا ينتفعون به.

ص: 326

لو أصاب الكفارَ نصيب من عذاب الله لعلموا عاقبة تكذيبهم، وقابلوا ذلك بالدعاء على أنفسهم بالهلاك; بسبب ظلمهم لأنفسهم بعبادتهم غير الله.

ص: 326

ويضع الله تعالى الميزان العادل للحساب في يوم القيامة، ولا يظلم هؤلاء ولا غيرهم شيئًا، وإن كان هذا العمل قدْرَ ذرة مِن خير أو شر اعتبرت في حساب صاحبها. وكفى بالله محصيًا أعمال عباده، ومجازيًا لهم عليها.

ص: 326

ولقد آتينا موسى وهارون حجة ونصرًا على عدوهما، وكتابًا - وهو التوراة - فَرَقْنا به بين الحق والباطل، ونورًا يهتدي به المتقون الذين يخافون عقاب ربهم، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة خائفون وجلون.

ص: 326

وهذا القرآن الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرٌ لمن تذكَّر به، وعمل بأوامره واجتنب نواهيه، كثير الخير، عظيم النفع، أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟

ص: 326

ولقد آتينا إبراهيم هداه، الذي دعا الناس إليه من قبل موسى وهارون، وكنَّا عالمين أنه أهل لذلك.

ص: 326

حين قال لأبيه وقومه: ما هذه الأصنام التي صنعتموها، ثم أقمتم على عبادتها ملازمين لها؟

ص: 326

قالوا: وجدنا آباءنا عابدين لها، ونحن نعبدها اقتداء بهم.

ص: 326

قال لهم إبراهيم: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في عبادتكم لهذه الأصنام في بُعْد واضح بيِّن عن الحق.

ص: 326

قالوا: أهذا القول الذي جئتنا به حق وَجِدٌّ، أم كلامك لنا كلام لاعبٍ مستهزئ لا يدري ما يقول؟

ص: 326

قال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: بل ربكم الذي أدعوكم إلى عبادته هو رب السموات والأرض الذي خلقهنَّ، وأنا من الشاهدين على ذلك.

ص: 326

وتالله لأمكرنَّ بأصنامكم وأكسِّرها بعد أن تتولَّوا عنها ذاهبين.

ص: 326

فحطم إبراهيم الأصنام وجعلها قطعًا صغيرة، وترك كبيرها; كي يرجع القوم إليه ويسألوه، فيتبين عجزهم وضلالهم، وتقوم الحجة عليهم.

ص: 327

ورجع القوم، ورأوا أصنامهم محطمة مهانة، فسأل بعضهم بعضًا: مَن فعل هذا بآلهتنا؟ إنه لظالم في اجترائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير.

ص: 327

قال مَن سمع إبراهيم يحلف بأنه سيكيد أصنامهم: سمعنا فتى يذكر الأصنام بسوء يقال له إبراهيم.

ص: 327

قال رؤساؤهم: فَأْتوا بإبراهيم على مرأى من الناس; كي يشهدوا على اعترافه بما قال; ليكون ذلك حجة عليه.

ص: 327

وجيء بإبراهيم وسألوه منكرين: أأنت الذي كسَّرْتَ آلهتنا؟ يعنون أصنامهم.

ص: 327

وتمَّ لإبراهيم ما أراد من إظهار سفههم على مرأى منهم. فقال محتجًا عليهم معرِّضًا بغباوتهم: بل الذي كسَّرها هذا الصنم الكبير، فاسألوا آلهتكم المزعومة عن ذلك، إن كانت تتكلم أو ترد جوابًا.

ص: 327

فأُسقِط في أيديهم، وبدا لهم ضلالهم; كيف يعبدونها، وهي عاجزة عن أن تدفع عن نفسها شيئًا أو أن تجيب سائلها؟ وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم والشرك.

ص: 327

وسُرعان ما عاد إليهم عنادهم بعد إفحامهم، فانقلبوا إلى الباطل، واحتجُّوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم، فقالوا: كيف نسألها، وقد علمتَ أنها لا تنطق؟

ص: 327

قال إبراهيم محقِّرًا لشأن الأصنام: كيف تعبدون أصنامًا لا تنفع إذا عُبدت، ولا تضرُّ إذا تُركت؟ قبحًا لكم ولآلهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى، أفلا تعقلون فتدركون سوء ما أنتم عليه؟

ص: 327

لما بطلت حجتهم وظهر الحق عدلوا إلى استعمال سلطانهم، وقالوا: حَرِّقوا إبراهيم بالنار; غضبًا لآلهتكم إن كنتم ناصرين لها. فأشْعَلوا نارًا عظيمة وألقوه فيها، فانتصر الله لرسوله وقال للنار: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، فلم يَنَلْه فيها أذى، ولم يصبه مكروه.

ص: 327

وأراد القوم بإبراهيم الهلاك فأبطل الله كيدهم، وجعلهم المغلوبين الأسفلين.

ص: 327

ونجينا إبراهيم ولوطًا الذي آمن به من «العراق» ، وأخرجناهما إلى أرض «الشام» التي باركنا فيها بكثرة الخيرات، وفيها أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ص: 327

وأنعم الله على إبراهيم، فوهب له ابنه إسحاق حين دعاه، ووهب له من إسحاق يعقوب زيادة على ذلك، وكلٌّ من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعله الله صالحًا مطيعًا له.

ص: 327

وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب قدوة للناس يدعونهم إلى عبادة الله وطاعته بإذنه تعالى، وأوحينا إليهم فِعْلَ الخيرات من العمل بشرائع الأنبياء، وإقام الصلاة على وجهها، وإيتاء الزكاة، فامتثلوا لذلك، وكانوا منقادين مطيعين لله وحده دون سواه.

ص: 328

وآتينا لوطًا النبوة وفصل القضاء بين الخصوم وعلمًا بأمر الله ودينه، ونجيناه من قريته «سدوم» التي كان يعمل أهلها الخبائث. إنهم كانوا بسبب الخبائث والمنكرات التي يأتونها أهل سوء وقُبْح، خارجين عن طاعة الله.

ص: 328

وأتمَّ الله عليه النعمة فأدخله في رحمته بإنجائه ممَّا حلَّ بقومه; لأنه كان من الذين يعملون بطاعة الله.

ص: 328

واذكر - أيها الرسول - نوحا حين نادى ربه مِن قبلك ومِن قبل إبراهيم ولوط، فاستجبنا له دعاءه، فنجيناه وأهله المؤمنين به من الغم الشديد.

ص: 328

ونصرناه مِن كيد القوم الذين كذَّبوا بآياتنا الدالة على صدقه، إنهم كانوا أهل قُبْح، فأغرقناهم بالطوفان أجمعين.

ص: 328

واذكر - أيها الرسول - نبي الله داود وابنه سليمان، إذ يحكمان في قضية عرَضَها خصمان، عَدَت غنم أحدهما على زرع الآخر، وانتشرت فيه ليلا فأتلفت الزرع، فحكم داود بأن تكون الغنم لصاحب الزرع ملْكًا بما أتلفته، فقيمتهما سواء، وكنَّا لحكمهم شاهدين لم يَغِبْ عنا.

ص: 328

فَفَهَّمنا سليمان مراعاة مصلحة الطرفين مع العدل، فحكم على صاحب الغنم بإصلاح الزرع التالف في فترة يستفيد فيها صاحب الزرع بمنافع الغنم من لبن وصوف ونحوهما، ثم تعود الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه; لمساواة قيمة ما تلف من الزرع لمنفعة الغنم، وكلا من داود وسليمان أعطيناه حكمًا وعلمًا، ومننَّا على داود بتطويع الجبال تسبِّح معه إذا سبَّح، وكذلك الطير تسبِّح، وكنا فاعلين ذلك.

ص: 328

واختصَّ الله داود عليه السلام بأن علَّمه صناعة الدروع يعملها حِلَقًا متشابكة، تسهِّل حركة الجسم; لتحمي المحاربين مِن وَقْع السلاح فيهم، فهل أنتم شاكرون نعمة الله عليكم حيث أجراها على يد عبده داود؟

ص: 328

وسخَّرنا لسليمان الريح شديدة الهبوب تحمله ومَن معه، تجري بأمره إلى أرض «بيت المقدس» بـ «الشام» التي باركنا فيها بالخيرات الكثيرة، وقد أحاط علمنا بجميع الأشياء.

ص: 328

وسخَّرنا لسليمان من الشياطين شياطين يستخدمهم فيما يَعْجِز عنه غيرهم، فكانوا يغوصون في البحر يستخرجون له اللآلئ والجواهر، وكانوا يعملون كذلك في صناعة ما يريده منهم، لا يقدرون على الامتناع مما يريده منهم، حفظهم الله له بقوته وعزه سبحانه وتعالى.

ص: 329

واذكر - أيها الرسول - عبدنا أيوب، إذ ابتليناه بضر وسقم عظيم في جسده، وفقد أهله وماله وولده، فصبر واحتسب، ونادى ربه عز وجل أني قد أصابني الضر، وأنت أرحم الراحمين، فاكشفه عني.

ص: 329

فاستجبنا له دعاءه، ورفعنا عنه البلاء، ورددنا عليه ما فقده من أهل وولد ومال مضاعفًا، فَعَلْنا به ذلك رحمة منَّا، وليكون قدوة لكل صابر على البلاء، راجٍ رحمة ربه، عابد له.

ص: 329

واذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل، كل هؤلاء من الصابرين على طاعة الله سبحانه وتعالى، وعن معاصيه، وعلى أقداره، فاستحقوا الذكر بالثناء الجميل.

ص: 329

وأدخلناهم في رحمتنا، إنهم ممن صلح باطنه وظاهره، فأطاع الله وعمل بما أمره به.

ص: 329

واذكر قصة صاحب الحوت، وهو يونس بن مَتَّى عليه السلام، أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا، فتوعَّدهم بالعذاب فلم ينيبوا، ولم يصبر عليهم كما أمره الله، وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم، ضائقًا صدره بعصيانهم، وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة، فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس، والتقمه الحوت في البحر، فنادى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت تائبًا معترفًا بظلمه; لتركه الصبر على قومه، قائلا: لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين.

ص: 329

فاستجبنا له دعاءه، وخلَّصناه مِن غَم هذه الشدة، وكذلك ننجي المصدِّقين العاملين بشرعنا.

ص: 329

واذكر - أيها الرسول - قصة عبد الله زكريا حين دعا ربه أن يرزقه الذرية لما كَبِرت سنُّه قائلا رب لا تتركني وحيدًا لا عقب لي، هب لي وارثًا يقوم بأمر الدين في الناس من بعدي، وأنت خير الباقين وخير مَن خلفني بخير.

ص: 329

فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له على الكبر ابنه يحيى، وجعلنا زوجته صالحة في أخلاقها وصالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عاقرًا، إنهم كانوا يبادرون إلى كل خير، ويدعوننا راغبين فيما عندنا، خائفين من عقوبتنا، وكانوا لنا خاضعين متواضعين.

ص: 329

واذكر - أيها الرسول - قصة مريم بنت عمران التي حفظت فرجها من الحرام، ولم تأتِ فاحشة في حياتها، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام، فنفخ في جيب قميصها، فوصلت النفخة إلى رحمها، فخلق الله بذلك النفخ المسيح عيسى عليه السلام، فحملت به من غير زوج، فكانت هي وابنها بذلك علامة على قدرة الله، وعبرة للخلق إلى قيام الساعة.

ص: 330

هؤلاء الأنبياء جميعًا دينهم واحد، الإسلام، وهو الاستسلام لله بالطاعة وإفراده بالعبادة، والله سبحانه وتعالى رب الخلق فاعبدوه - أيها الناس - وحده لا شريك له.

ص: 330

لكن الناس اختلفوا على رسلهم، وتفرَّق كثير من أتباعهم في الدين شيعًا وأحزابًا، فعبدوا المخلوقين والأهواء، وكلهم راجعون إلينا ومحاسبون على ما فعلوا.

ص: 330

فمن التزم الإيمان بالله ورسله، وعمل ما يستطيع من صالح الأعمال طاعةً لله وعبادة له فلا يضيع الله عمله ولا يبطله، بل يضاعفه كله أضعافًا كثيرة، وسيجد ما عمله في كتابه يوم يُبْعث بعد موته.

ص: 330

وممتنع على أهل القرى التي أهلكناها بسبب كفرهم وظلمهم، رجوعهم إلى الدنيا قبل يوم القيامة; ليستدركوا ما فرطوا فيه.

ص: 330

فإذا فُتِح سد يأجوج ومأجوج، وانطلقوا من مرتفعات الأرض وانتشروا في جنباتها مسرعين، دنا يوم القيامة وبدَتْ أهواله فإذا أبصار الكفار مِن شدة الفزع مفتوحة لا تكاد تَطْرِف، يدعون على أنفسهم بالويل في حسرة: يا ويلنا قد كنا لاهين غافلين عن هذا اليوم وعن الإعداد له، وكنا بذلك ظالمين.

ص: 330

إنكم - أيها الكفار - وما كنتم تعبدون من دون الله من الأصنام ومَن رضي بعبادتكم إياه من الجن والإنس، وقود جهنم وحطبها، أنتم وهم فيها داخلون.

ص: 330

لو كان هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله تعالى آلهة تستحق العبادة ما دخلوا نار جهنم معكم أيها المشركون، إنَّ كلا من العابدين والمعبودين خالدون في نار جهنم.

ص: 330

لهؤلاء المعذبين في النار آلام ينبئ عنها زفيرهم الذي تندفع فيه أنفاسهم من صدورهم بشدة، وهم في النار لا يسمعون; من هول عذابهم.

ص: 330

إن الذين سبقت لهم منا سابقة السعادة الحسنة في علمنا بكونهم من أهل الجنة، أولئك عن النار مبعدون، فلا يدخلونها ولا يكونون قريبًا منها.

ص: 330

لا يسمعون صوت لهيبها واحتراق الأجساد فيها فقد سكنوا منازلهم في الجنة، وأصبحوا فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذاتها مقيمين إقامةً دائمة.

ص: 331

لا يخيفهم الهول العظيم يوم القيامة، بل تبشرهم الملائكة: هذا يومكم الذي وُعِدتُم فيه الكرامة من الله وجزيل الثواب. يوم نطوي السماء كما تُطْوى الصحيفة على ما كُتب فيها، ونبعث فيه الخلق على هيئة خَلْقنا لهم أول مرة كما ولدتهم أمهاتهم، ذلك وعد الله الذي لا يتخلَّف، وَعَدْنا بذلك وعدًا حقًا علينا، إنا كنا فاعلين دائمًا ما نَعِدُ به.

ص: 331

ولقد كتبنا في الكتب المنزلة من بعد ما كُتِب في اللوح المحفوظ: أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون الذين قاموا بما أُمروا به، واجتنبوا ما نُهوا عنه، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 331

إن في هذا المتلوِّ من الموعظة لَعبرة كافية لقوم عابدين الله بما شرعه لهم ورضيه منهم.

ص: 331

وما أرسلناك - أيها الرسول - إلا رحمة لجميع الناس، فمن آمن بك سَعِد ونجا، ومن لم يؤمن خاب وخسر.

ص: 331

قل: إن الذي أُوحي إليَّ وبُعِثت به: أن إلهكم الذي يستحق العبادة وحده هو الله، فأسلموا له، وانقادوا لعبادته.

ص: 331

فإن أعرض هؤلاء عن الإسلام فقل لهم: أبلغكم جميعًا ما أوحاه الله تعالى إليَّ، فأنا وأنتم مستوون في العلم لمَّا أنذرتكم وحذرتكم، ولستُ أعلم - بعد ذلك - متى يحل بكم ما وُعِدْتُم به من العذاب؟

ص: 331

إن الله يعلم ما تجهرون به من أقوالكم، وما تكتمونه في سرائركم، وسيحاسبكم عليه.

ص: 331

ولست أدري لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه استدراج لكم وابتلاء، وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين; لتزدادوا كفرًا، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.

ص: 331

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ربِّ افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالقضاء الحق. ونسأل ربنا الرحمن، ونستعين به على ما تَصِفونه - أيها الكفار - من الشرك والتكذيب والافتراء عليه، وما تتوعدوننا به من الظهور والغلبة.

ص: 331

يا أيها الناس احذروا عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، إن ما يحدث عند قيام الساعة من أهوال وحركة شديدة للأرض، تتصدع منها كل جوانبها، شيء عظيم، لا يُقْدر قدره ولا يُبْلغ كنهه، ولا يعلم كيفيَّته إلا رب العالمين.

ص: 332

يوم ترون قيام الساعة تنسى الوالدةُ رضيعَها الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها من الكرب، وتُسْقط الحامل حملها من الرعب، وتغيب عقول الناس، فهم كالسكارى من شدة الهول والفزع، وليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وإدراكهم.

ص: 332

وبعض رؤوس الكفر من الناس يخاصمون ويشككون في قدرة الله على البعث; جهلا منهم بحقيقة هذه القدرة، واتباعًا لأئمة الضلال من كل شيطان متمرد على الله ورسله.

ص: 332

قضى الله وقدَّر على هذا الشيطان أنه يُضِل كل من اتبعه، ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة جزاء اتباعه إياه.

ص: 332

يا أيها الناس إن كنتم في شك من أن الله يُحيي الموتى فإنَّا خلقنا أباكم آدم من تراب، ثم تناسلت ذريته من نطفة، هي المنيُّ يقذفه الرجل في رحم المرأة، فيتحول بقدرة الله إلى علقة، وهي الدم الأحمر الغليظ، ثم إلى مضغة، وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمْضَغ، فتكون تارة مخلَّقة، أي تامة الخلق تنتهي إلى خروح الجنين حيًا، وغير تامة الخلق تارة أخرى، فتسقط لغير تمام؛ لنبيِّن لكم تمام قدرتنا بتصريف أطوار الخلق، ونبقي في الأرحام ما نشاء، وهو المخلَّق إلى وقت ولادته، وتكتمل الأطوار بولادة الأجنَّة أطفالا صغارًا تكبَرُ حتى تبلغ الأشد، وهو وقت الشباب والقوة واكتمال العقل، وبعض الأطفال قد يموت قبل ذلك، وبعضهم يكبَرُ حتى يبلغ سن الهرم وضَعْف العقل; فلا يعلم هذا المعمَّر شيئًا مما كان يعلمه قبل ذلك. وترى الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات تتفتح عنه، وارتفعت وزادت لارتوائها، وأنبتت من كل نوع من أنواع النبات الحسن الذي يَسُرُّ الناظرين.

ص: 332

ذلك المذكور مما تقدَّم من آيات قدرة الله تعالى، فيه دلالة قاطعة على أن الله سبحانه وتعالى هو الرب المعبود بحق، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وهو يُحيي الموتى، وهو قادر على كل شيء.

ص: 333

وأن ساعة البعث آتية، لا شك في ذلك، وأن الله يبعث الموتى مِن قبورهم لحسابهم وجزائهم.

ص: 333

ومن الكفار مَن يجادل بالباطل في الله وتوحيده واختياره رسوله صلى الله عليه وسلم وإنزاله القرآن، وذلك الجدال بغير علم، ولا بيان، ولا كتاب من الله فيه برهان وحجة واضحة، لاويًا عنقه في تكبر، معرضًا عن الحق؛ ليصد غيره عن الدخول في دين الله، فسوف يلقى خزيًا في الدنيا باندحاره وافتضاح أمره، ونحرقه يوم القيامة بالنار.

ص: 333

ويقال له: ذلك العذاب بسبب ما فَعَلْتَ من المعاصي واكتسبت من الآثام، والله لا يعذب أحدًا بغير ذنب.

ص: 333

ومن الناس مَن يدخل في الإسلام على ضعف وشكٍّ، فيعبد الله على تردد، كالذي يقف على طرف جبل أو حائط لا يتماسك في وقفته، ويربط إيمانه بدنياه، فإن عاش في صحة وسَعَة استمر على عبادته، وإن حصل له ابتلاء بمكروه وشدة عزا شؤم ذلك إلى دينه، فرجع عنه كمن ينقلب على وجهه بعد استقامة، فهو بذلك قد خسر الدنيا؛ إذ لا يغيِّر كفرُه ما قُدِّر له في دنياه، وخسر الآخرة بدخوله النار، وذلك خسران بيِّن واضح. يعبد ذلك الخاسر من دون الله ما لا يضره إن تركه، ولا ينفعه إذا عبده، ذلك هو الضلال البعيد عن الحق. يدعو مَن ضررُه المحقق أقرب من نفعه، قبح ذلك المعبود نصيرًا، وقبح عشيرًا.

ص: 333

إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله، وثبتوا على ذلك، وعملوا الصالحات، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، إن الله يفعل ما يريد من ثواب أهل طاعته تفضلا وعقاب أهل معصيته عدلا.

ص: 333

من كان يعتقد أن الله تعالى لن يؤيد رسوله محمدًا بالنصر في الدنيا بإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته، وعذابِ مَن كذَّبه، فلْيَمدُدْ حبلا إلى سقف بيته وليخنق به نفسه، ثم ليقطع ذلك الحبل، ثم لينظر: هل يُذْهِبنَّ ذلك ما يجد في نفسه من الغيظ؟ فإن الله تعالى ناصرٌ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم لا محالة.

ص: 333

وكما أقام الله الحجة من دلائل قدرته على الكافرين بالبعث أنزل القرآن، آياته واضحة في لفظها ومعناها، يهدي بها الله مَن أراد هدايته؛ لأنه لا هادي سواه.

ص: 334

إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم واليهود والصابئين وهم: (قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه) والنصارى والمجوس (وهم عبدة النار) والذين أشركوا وهم: عبدة الأوثان، إنَّ الله يفصل بينهم جميعًا يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار، إن الله على كل شيء شهيد، شهد أعمال العباد كلَّها، وأحصاها وحفظها، وسيجازي كلا بما يستحق جزاء وفاقًا للأعمال التي عملوها.

ص: 334

ألم تعلم- أيها الرسول- أن الله سبحانه يسجد له خاضعًا منقادًا مَن في السموات من الملائكة ومَن في الأرض من المخلوقات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب؟ ولله يسجد طاعة واختيارًا كثير من الناس، وهم المؤمنون، وكثير من الناس حق عليه العذاب فهو مهين، وأيُّ إنسان يهنه الله فليس له أحد يكرمه. إن الله يفعل في خلقه ما يشاء وَفْقَ حكمته.

ص: 334

هذان فريقان اختلفوا في ربهم: أهل الإيمان وأهل الكفر، كل يدَّعي أنه محقٌّ، فالذين كفروا يحيط بهم العذاب في هيئة ثياب جُعلت لهم من نار يَلْبَسونها، فتشوي أجسادهم، ويُصبُّ على رؤوسهم الماء المتناهي في حره، ويَنزِل إلى أجوافهم فيذيب ما فيها، حتى ينفُذ إلى جلودهم فيشويها فتسقط، وتضربهم الملائكة على رؤوسهم بمطارق من حديد. كلما حاولوا الخروج من النار -لشدة غمِّهم وكربهم- أعيدوا للعذاب فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار المحرق.

ص: 334

إن الله تعالى يدخل أهل الإيمان والعمل الصالح جنات نعيمها دائم، تجري مِن تحت قصورها وأشجارها الأنهار، يُزَيَّنون فيها بأساور الذهب وباللؤلؤ، ولباسهم المعتاد في الجنة الحرير رجالا ونساءً.

ص: 334

لقد هداهم الله في الدنيا إلى طيب القول: من كلمة التوحيد وحَمْد الله والثناء عليه، وفي الآخرة إلى حمده على حسن العاقبة، كما هداهم من قبل إلى طريق الإسلام المحمود الموصل إلى الجنة.

ص: 335

إن الذين كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، ويمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في عام «الحديبية» عن المسجد الحرام، الذي جعلناه لجميع المؤمنين، سواء المقيم فيه والقادم إليه، لهم عذاب أليم موجع، ومن يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذاب أليم موجع.

ص: 335

واذكر -أيها النبي- إذ بَيَّنا لإبراهيم عليه السلام مكان البيت، وهيَّأناه له وقد كان غير معروف، وأمرناه ببنائه على تقوى من الله وتوحيده وتطهيره من الكفر والبدع والنجاسات؛ ليكون رحابًا للطائفين به، والقائمين المصلين عنده.

ص: 335

وأعلِمْ -يا إبراهيم- الناس بوجوب الحج عليهم يأتوك على مختلف أحوالهم مشاةً وركبانًا على كل ضامر من الإبل، وهو:(الخفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من الهُزال)، يأتين من كل طريق بعيد; ليحضروا منافع لهم من: مغفرة ذنوبهم، وثواب أداء نسكهم وطاعتهم، وتكَسُّبِهم في تجاراتهم، وغير ذلك؛ وليذكروا اسم الله على ذَبْح ما يتقربون به من الإبل والبقر والغنم في أيام معيَّنة هي: عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده; شكرًا لله على نعمه، وهم مأمورون أن يأكلوا مِن هذه الذبائح استحبابًا، ويُطعموا منها الفقير الذي اشتد فقره.

ص: 335

ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم، وذلك بإزالة ما تراكم مِن وسخ في أبدانهم، وقص أظفارهم، وحلق شعرهم، وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا، وليطوفوا بالبيت العتيق القديم، الذي أعتقه الله مِن تسلُّط الجبارين عليه، وهو الكعبة.

ص: 335

ذلك الذي أمر الله به مِن قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت، هو ما أوجبه الله عليكم فعظِّموه، ومن يعظم حرمات الله، ومنها مناسكه بأدائها كاملة خالصة لله، فهو خير له في الدنيا والآخرة. وأحلَّ الله لكم أَكْلَ الأنعام إلا ما حرَّمه فيما يتلى عليكم في القرآن من الميتة وغيرها فاجتنبوه، وفي ذلك إبطال ما كانت العرب تحرِّمه من بعض الأنعام، وابتعِدوا عن القذارة التي هي الأوثان، وعن الكذب الذي هو الافتراء على الله.

ص: 335

مستقيمين لله على إخلاص العمل له، مقبلين عليه بعبادته وحده وإفراده بالطاعة، معرضين عما سواه بنبذ الشرك، فإنَّه من يشرك بالله شيئًا، فمثله -في بُعْده عن الهدى، وفي هلاكه وسقوطه من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر، وتخطُّف الشياطين له من كل جانب- كمثل مَن سقط من السماء: فإما أن تخطفه الطير فتقطع أعضاءه، وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح، فتقذفه في مكان بعيد أشد البعد.

ص: 336

ذلك ما أمر الله به مِن توحيده وإخلاص العبادة له. ومن يمتثل أمر الله ويُعَظِّم معالم الدين، ومنها أعمال الحج وأماكنه، والذبائح التي تُذْبَح فيه، وذلك باستحسانها واستسمانها، فهذا التعظيم مِن أفعال أصحاب القلوب المتصفة بتقوى الله وخشيته.

ص: 336

لكم في هذه الهدايا منافع تنتفعون بها من الصوف واللبن والركوب، وغير ذلك مما لا يضرها إلى وقت ذبحها عند البيت العتيق، وهو الحرم كله.

ص: 336

ولكل جماعة مؤمنة سلفت، جعلنا لها مناسك مِنَ الذبح وإراقة الدماء؛ وذلك ليذكروا اسم الله تعالى عند ذبح ما رزقهم مِن هذه الأنعام ويشكروا له. فإلهكم -أيها الناس- إله واحد هو الله فانقادوا لأمره وأمر رسوله. وبشِّر -أيها النبي- المتواضعين الخاضعين لربهم بخيرَي الدنيا والآخرة.

ص: 336

هؤلاء المتواضعون الخاشعون مِن صفاتهم أنهم إذا ذُكِر الله وحده خافوا عقابه، وحَذِروا مخالفته، وإذا أصابهم بأس وشدة صبروا على ذلك مؤملين الثواب من الله عز وجل، وأدَّوْا الصلاة تامة، وهم مع ذلك ينفقون مما رزقهم الله في الواجب عليهم مِن زكاة ونفقة عيال، ومَن وَجَبَتْ عليهم نفقته، وفي سبيل الله، والنفقات المستحبة.

ص: 336

وجعلنا لكم نَحْرَ البُدْن من شعائر الدين وأعلامه؛ لتتقربوا بها إلى الله، لكم فيها -أيها المتقربون- خير في منافعها من الأكل والصدقة والثواب والأجر، فقولوا عند ذبحها: بسم الله. وتُنْحَر الإبل واقفة قد صُفَّتْ ثلاث من قوائمها وقُيِّدت الرابعة، فإذا سقطت على الأرض جنوبها فقد حلَّ أكلها، فليأكل منها مقربوها تعبدًا ويُطْعِمُوا منها القانع -وهو الفقير الذي لم يسأل تعففًا- والمعترَّ الذي يسأل لحاجته، هكذا سخَّر الله البُدْن لكم، لعلكم تشكرون الله على تسخيرها لكم.

ص: 336

لن ينال اللهَ مِن لحوم هذه الذبائح ولا من دمائها شيء، ولكن يناله الإخلاص فيها، وأن يكون القصد بها وجه الله وحده، كذلك ذللها لكم -أيها المتقربون-؛ لتعظموا الله، وتشكروا له على ما هداكم من الحق، فإنه أهلٌ لذلك. وبشِّر -أيها النبي- المحسنين بعبادة الله وحده والمحسنين إلى خلقه بكل خير وفلاح.

ص: 336

إن الله تعالى يدفع عن المؤمنين عدوان الكفار، وكيد الأشرار; لأنه عز وجل لا يحب كل خوَّان لأمانة ربه، جحود لنعمته.

ص: 336

كان المسلمون في أول أمرهم ممنوعين من قتال الكفار، مأمورين بالصبر على أذاهم، فلما بلغ أذى المشركين مداه وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من «مكة» مهاجرًا إلى «المدينة» ، وأصبح للإسلام قوة أَذِنَ الله للمسلمين في القتال؛ بسبب ما وقع عليهم من الظلم والعدوان، وإن الله تعالى قادر على نصرهم وإذلال عدوِّهم.

ص: 337

الذين أُلجئوا إلى الخروج من ديارهم، لا لشيء فعلوه إلا لأنهم أسلموا وقالوا: ربنا الله وحده. ولولا ما شرعه الله من دَفْع الظلم الذي ينتفع به جميع أهل الأديان المنزلة، ورد الباطل بالقتال المأذون فيه لَهُزِم الحقُّ في كل أمة ولخربت الأرض، وهُدِّمت فيها أماكن العبادة من صوامع الرهبان، وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين التي يصلُّون فيها، ويذكرون اسم الله فيها كثيرًا. ومن اجتهد في نصرة دين الله، فإن الله ناصره على عدوه. إن الله لَقوي لا يغالَب، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق وأخذ بنواصيهم.

ص: 337

الذين وعدناهم بنصرنا هم الذين إنْ مكَّنَّاهم في الأرض، واستخلفناهم فيها بإظهارهم على عدوهم، أقاموا الصلاة بأدائها في أوقاتها بحدودها، وأخرجوا زكاة أموالهم إلى أهلها، وأمروا بكل ما أمر الله به مِن حقوقه وحقوق عباده، ونَهَوْا عن كل ما نهى الله عنه ورسوله. ولله وحده مصير الأمور كلها، والعاقبة للتقوى.

ص: 337

وإن يكذبك قومك -أيها الرسول- فقد سبقهم في تكذيب رسلهم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب «مدين» الذين كذبوا شعيبًا، وكذَّب فرعون وقومه موسى، فلم أعاجل هذه الأمم بالعقوبة، بل أمهلتها، ثم أخذتُ كلا منهم بالعذاب، فكيف كان إنكاري عليهم كفرهم وتكذيبهم، وتبديل ما كان بهم مِن نعمة بالعذاب والهلاك؟

ص: 337

فكثيرًا من القرى الظالمة بكفرها أهلكنا أهلها، فديارهم مهدَّمة خَلَتْ مِن سكانها، وآبارها لا يُستقى منها، وقصورها العالية المزخرفة لم تدفع عن أهلها سوء العذاب.

ص: 337

أفلم يَسِر المكذبون من قريش في الأرض ليشاهدوا آثار المهلكين، فيتفكروا بعقولهم، فيعتبروا، ويسمعوا أخبارهم سماع تدبُّر فيتعظوا؟ فإن العمى ليس عمى البصر، وإنما العمى المُهْلِك هو عمى البصيرة عن إدراك الحق والاعتبار.

ص: 337

ويستعجلك- أيها الرسول- كفار قريش -لشدة جهلهم- بالعذاب الذي أنذرتهم به لمَّا أصروا على الكفر، ولن يخلف الله ما وعدهم به من العذاب فلا بدَّ من وقوعه، وقد عجَّل لهم في الدينا ذلك في يوم «بدر» . وإن يومًا من الأيام عند الله -وهو يوم القيامة- كألف سنة مما تَعُدُّون من سني الدنيا.

ص: 338

وكثير من القرى كانت ظالمة بإصرار أهلها على الكفر، فأمهلتهم ولم أعاجلهم بالعقوبة فاغتروا، ثم أخَذْتُهم بعذابي في الدنيا، وإليَّ مرجعهم بعد هلاكهم، فأعذبهم بما يستحقون.

ص: 338

قل - أيها الرسول -: يا أيها الناس ما أنا إلا منذر لكم مبلِّغ عن الله رسالته. فالذين آمنوا بالله ورسوله، واستقر ذلك في قلوبهم، وعملوا الأعمال الصالحة، لهم عند الله عفو عن ذنوبهم ومغفرة يستر بها ما صدر عنهم من معصية، ورزق حسن لا ينقطع وهو الجنة. والذين اجتهدوا في الكيد لإبطال آيات القرآن بالتكذيب مشاقين مغالبين، أولئك هم أهل النار الموقدة، يدخلونها ويبقون فيها أبدًا.

ص: 338

وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول - من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ كتاب الله ألقى الشيطان في قراءته الوساوس والشبهات؛ ليصدَّ الناس عن اتباع ما يقرؤه ويتلوه، لكن الله يبطل كيد الشيطان، فيزيل وساوسه، ويثبت آياته الواضحات. والله عليم بما كان ويكون، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وأمره.

ص: 338

وما كان هذا الفعل مِنَ الشيطان إلا ليجعله الله اختبارًا للذين في قلوبهم شك ونفاق، ولقساة القلوب من المشركين الذين لا يؤثِّرُ فيهم زجر. وإن الظالمين مِن هؤلاء وأولئك في عداوة شديدة لله ورسوله وخلافٍ للحق بعيد عن الصواب.

ص: 338

وليعلم أهل العلم الذين يفرقون بعلمهم بين الحق والباطل أن القرآن الكريم هو الحق النازل من عند الله عليك أيها الرسول، لا شبهة فيه، ولا سبيل للشيطان إليه، فيزداد به إيمانهم، وتخضع له قلوبهم. وإن الله لهادي الذين آمنوا به وبرسوله إلى طريق الحق الواضح، وهو الإسلام ينقذهم به من الضلال.

ص: 338

ولا يزال الكافرون المكذبون في شك مما جئتهم به من القرآن إلى أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم على تكذيبهم، أو يأتيهم عذاب يوم لا خير فيه، وهو يوم القيامة.

ص: 338

المُلك والسلطان في هذا اليوم لله وحده، وهو سبحانه يقضي بين المؤمنين والكافرين. فالذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة، لهم النعيم الدائم في الجنات. والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأنكروا آيات القرآن، فأولئك لهم عذاب يخزيهم ويهينهم في جهنم.

ص: 339

والذين خرجوا من ديارهم طلبًا لرضا الله، ونصرة لدينه، من قُتل منهم وهو يجاهد الكفار، ومن مات منهم مِن غير قتال، لَيرزقَنَّهم الله الجنة ونعيمها الذي لا ينقطع ولا يزول، وإن الله سبحانه وتعالى لهو خير الرازقين.

ص: 339

ليُدخلنَّهم الله المُدْخل الذي يحبونه وهو الجنة. وإن الله لَعليم بمن يخرج في سبيله، ومن يخرج طلبًا للدنيا، حليم عمن عصاه، فلا يعاجلهم بالعقوبة.

ص: 339

ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من إدخال المهاجرين الجنة، ومن اعتُدِي عليه وظُلم فقد أُذِن له أن يقابل الجاني بمثل فعلته، ولا حرج عليه، فإذا عاد الجاني إلى إيذائه وبغى، فإن الله ينصر المظلوم المعتدى عليه; إذ لا يجوز أن يُعْتَدى عليه بسبب انتصافه لنفسه. إن الله لعفوٌ غفور، يعفو عن المذنبين فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر ذنوبهم.

ص: 339

ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام العادلة هو الحق، وهو القادر على ما يشاء، ومِن قدرته أنه يدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار، ويدخل ما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، وأن الله سميع لكل صوت، بصير بكل فعل، لا يخفى عليه شيء.

ص: 339

ذلك بأن الله هو الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأن ما يعبده المشركون من دونه من الأصنام والأنداد هو الباطل الذي لا ينفع ولا يضرُّ، وأن الله هو العليُّ على خلقه ذاتًا وقدرًا وقهرًا، المتعالي عن الأشباه والأنداد، الكبير في ذاته وأسمائه فهو أكبر من كلِّ شيء.

ص: 339

ألم ترَ -أيها الرسول- أن الله أنزل من السماء مطرًا، فتصبح الأرض مخضرة بما ينبت فيها من النبات؟ إن الله لطيف بعباده باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء، خبير بمصالحهم.

ص: 339

لله سبحانه وتعالى ما في السموات والأرض خلقًا وملكًا وعبودية، كلٌّ محتاج إلى تدبيره وإفضاله. وإن الله لهو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، المحمود في كل حال.

ص: 339

ألم تر أن الله تعالى ذلَّل لكم ما في الأرض من الدواب والبهائم والزروع والثمار والجماد لركوبكم وطعامكم وكل منافعكم، كما ذلَّل لكم السفن تجري في البحر بقدرته وأمره فتحملكم مع أمتعتكم إلى حيث تشاؤون من البلاد والأماكن، وهو الذي يمسك السماء فيحفظها؛ حتى لا تقع على الأرض فيهلك مَن عليها إلا بإذنه سبحانه بذلك؟ إن الله ليرحم الناس رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم ومن رحمته به ما سخره لهم من هذه الأشياء وغيرها؛ تفضلا منه عليهم.

ص: 340

وهو الله تعالى الذي أحياكم بأن أوجدكم من العدم، ثم يميتكم عند انقضاء أعماركم، ثم يحييكم بالبعث لمحاسبتكم على أعمالكم. إن الإنسان لَجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرة الله ووحدانيته.

ص: 340

لكل أمة من الأمم الماضية جعلنا شريعة وعبادة أمرناهم بها، فهم عاملون بها، فلا ينازعنك -أيها الرسول- مشركو قريش في شريعتك، وما أمرك الله به في المناسك وأنواع العبادات كلها، وادع إلى توحيد ربك وإخلاص العبادة له واتباع أمره، إنك لعلى دين قويم، لا اعوجاج فيه.

ص: 340

وإن أصرُّوا على مجادلتك بالباطل فيما تدعوهم إليه فلا تجادلهم، بل قل لهم: الله أعلم بما تعملونه من الكفر والتكذيب، فهم معاندون مكابرون.

ص: 340

الله تعالى يحكم بين المسلمين والكافرين يوم القيامة في أمر اختلافهم في الدين. وفي هذه الآية أدب حسن في الرد على مَن جادل تعنتًا واستكبارًا.

ص: 340

ألم تعلم -أيها الرسول- أن الله يعلم ما في السماء والأرض علماً كاملا قد أثبته في اللوح المحفوظ؟ إن ذلك العلم أمر سهل على الله، الذي لا يعجزه شيء.

ص: 340

ويصر كفار قريش على الشرك بالله مع ظهور بطلان ما هم عليه، فهم يعبدون آلهة، لم يَنْزِل في كتاب مِن كتب الله برهان بأنها تصلح للعبادة، ولا علم لهم فيما اختلقوه، وافتروه على الله، وإنما هو أمر اتبعوا فيه آباءَهم بلا دليل. فإذا جاء وقت الحساب في الآخرة فليس للمشركين ناصر ينصرهم، أو يدفع عنهم العذاب.

ص: 340

وإذا تتلى آيات القرآن الواضحة على هؤلاء المشركين ترى الكراهة ظاهرة على وجوههم، يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يدعونهم إلى الله تعالى، ويتلون عليهم آياته. قل لهم -أيها الرسول-: أفلا أخبركم بما هو أشد كراهة إليكم من سماع الحق ورؤية الداعين إليه؟ النار أعدَّها الله للكافرين في الآخرة، وبئس المكان الذي يصيرون إليه.

ص: 340

يا أيها الناس ضُرِب مثل فاستمعوا له وتدبروه: إن الأصنام والأنداد التي تعبدونها من دون الله لن تقدر مجتمعة على خَلْق ذبابة واحدة، فكيف بخلق ما هو أكبر؟ ولا تقدر أن تستخلص ما يسلبه الذباب منها، فهل بعد ذلك مِن عَجْز؟ فهما ضعيفان معًا: ضَعُفَ الطالب الذي هو المعبود من دون الله أن يستنقذ ما أخذه الذباب منه، وضَعُفَ المطلوب الذي هو الذباب، فكيف تُتَّخذ هذه الأصنام والأنداد آلهة، وهي بهذا الهوان؟

ص: 341

هؤلاء المشركون لم يعظِّموا الله حق تعظيمه، إذ جعلوا له شركاء، وهو القوي الذي خلق كل شيء، العزيز الذي لا يغالَب.

ص: 341

الله سبحانه وتعالى يختار من الملائكة رسلا إلى أنبيائه، ويختار من الناس رسلا لتبليغ رسالاته إلى الخلق، إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بجميع الأشياء، وبمن يختاره للرسالة مِن خلقه. وهو سبحانه يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. وإلى الله وحده ترجع الأمور.

ص: 341

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم اركعوا واسجدوا في صلاتكم، واعبدوا ربكم وحده لا شريك له، وافعلوا الخير; لتفلحوا، وجاهدوا أنفسكم، وقوموا قيامًا تامًّا بأمر الله، وادعوا الخلق إلى سبيله، وجاهدوا بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، مخلصين فيه النية لله عز وجل، مسلمين له قلوبكم وجوارحكم، هو اصطفاكم لحمل هذا الدين، وقد منَّ عليكم بأن جعل شريعتكم سمحة، ليس فيها تضييق ولا تشديد في تكاليفها وأحكامها، كما كان في بعض الأمم قبلكم، هذه الملة السمحة هي ملة أبيكم إبراهيم، وقد سَمَّاكم الله المسلمين مِن قبلُ في الكتب المنزلة السابقة، وفي هذا القرآن، وقد اختصَّكم بهذا الاختيار ; ليكون خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم شاهدًا عليكم بأنه بلَّغكم رسالة ربه، وتكونوا شهداء على الأمم أن رسلهم قد بلَّغتهم بما أخبركم الله به في كتابه، فعليكم أن تعرفوا لهذه النعمة قدرها، فتشكروها، وتحافظوا على معالم دين الله بأداء الصلاة بأركانها وشروطها، وإخراج الزكاة المفروضة، وأن تلجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى، وتتوكلوا عليه، فهو نِعْمَ المولى لمن تولاه، ونعم النصير لمن استنصره.

ص: 341

قد فاز المصدِّقون بالله وبرسوله العاملون بشرعه.

ص: 342

الذين من صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون، تَفْرُغُ لها قلوبهم، وتسكن جوارحهم.

ص: 342

والذين هم تاركون لكل ما لا خير فيه من الأقوال والأفعال.

ص: 342

والذين هم مُطَهِّرون لنفوسهم وأموالهم بأداء زكاة أموالهم على اختلاف أجناسها.

ص: 342

والذين هم لفروجهم حافظون مما حرَّم الله من الزنى واللواط وكل الفواحش.

ص: 342

إلا على زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم من الإماء، فلا لوم عليهم ولا حرج في جماعهن والاستمتاع بهن; لأن الله تعالى أحلَّهن.

ص: 342

فمن طلب التمتع بغير زوجته أو أمَتِه فهو من المجاوزين الحلال إلى الحرام، وقد عرَّض نفسه لعقاب الله وسخطه.

ص: 342

والذين هم حافظون لكل ما اؤتمنوا عليه، موفُّون بكل عهودهم.

ص: 342

والذين هم يداومون على أداء صلاتهم في أوقاتها على هيئتها المشروعة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 342

هؤلاء المؤمنون هم الوارثون الجنة.

ص: 342

الذين يرثون أعلى منازل الجنة وأوسطها، وهي أفضلها منزلاً، هم فيها خالدون، لا ينقطع نعيمهم ولا يزول.

ص: 342

ولقد خلقنا آدم من طين مأخوذ من جميع الأرض.

ص: 342

ثم خلقنا بنيه متناسلين مِن نطفة: هي مني الرجال تخرج من أصلابهم، فتستقر متمكنة في أرحام النساء.

ص: 342

ثم خلقنا النطفة علقة أي: دمًا أحمر، فخلقنا العلقة بعد أربعين يومًا مضغة أي: قطعة لحم قَدْر ما يُمْضغ، فخلقنا المضغة اللينة عظامًا، فكسونا العظام لحمًا، ثم أنشأناه خلقًا آخر بنفخ الروح فيه، فتبارك الله، الذي أحسن كل شيء خلقه.

ص: 342

ثم إنكم أيها البشر بعد أطوار الحياة وانقضاء الأعمار لَميتون.

ص: 342

ثم إنكم بعد الموت وانقضاء الدنيا تُبْعثون يوم القيامة أحياء من قبوركم للحساب والجزاء.

ص: 342

ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض، وما كنا عن الخلق غافلين، فلا نُغْفِلُ مخلوقًا، ولا ننساه.

ص: 342

وأنزلنا من السماء ماء بقدر حاجة الخلائق، وجعلنا الأرض مستقرًا لهذا الماء، وإنا على ذَهاب بالماء المستقر لَقادرون. وفي هذا تهديد ووعيد للظالمين.

ص: 343

فأنشأنا بهذا الماء لكم بساتين النخيل والأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة الأنواع والأشكال، ومنها تأكلون.

ص: 343

وأنشأنا لكم به شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل طور «سيناء» ، يعصر منها الزيت، فيدَّهن ويؤتدم به.

ص: 343

وإن لكم -أيها الناس- في الإبل والبقر والغنم لَعبرة تعتبرون بخلقها، نسقيكم مما في بطونها من اللبن، ولكم فيها منافع أخرى كثيرة كالصوف والجلود، ونحوهما، ومنها تأكلون.

ص: 343

وعلى الإبل والسفن في البر والبحر تُحْمَلون.

ص: 343

ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، بدعوة التوحيد فقال لهم: اعبدوا الله وحده، ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة، أفلا تخشون عذابه؟

ص: 343

فكذَّبه أشراف قومه، وقالوا لعامتهم: إنه إنسان مثلكم لا يتميَّز عنكم بشيء، ولا يريد بقوله إلا رئاسة وفضلا عليكم، ولو شاء الله أن يرسل إلينا رسولا لأرسله من الملائكة، ما سمعنا بمثل هذا فيمَن سبقنا من آباء وأجداد. وما نوح إلا رجل به مَسٌّ من الجنون، فانتظروا حتى يُفيق، فيترك دعوته، أو يموت، فتستريحوا منه.

ص: 343

قال نوح: رب انصرني على قومي; بسبب تكذيبهم إياي فيما بلَّغتهم من رسالتك.

ص: 343

فأوحينا إليه أن اصنع السفينة بمرأى منا وبأمرنا لك ومعونتنا، وأنت في حفظنا وكلاءتنا، فإذا جاء أمرنا بعذاب قومك بالغرق، وبدأ الطوفان، فنبع الماء بقوة من التنور -وهو المكان الذي يخبز فيه- علامة على مجيء العذاب، فأدخِلْ في السفينة من كل الأحياء ذكرًا وأنثى; ليبقى النسل، وأدخل أهلك إلا مَنِ استحق العذاب لكفره كزوجتك وابنك، ولا تسألني نجاة قومك الظالمين، فإنهم مغرقون لا محالة. وفي هذه الآية إثبات صفة العين لله سبحانه بما يليق به تعالى دون تشبيه ولا تكييف.

ص: 343

فإذا علوت السفينة مستقرًا عليها أنت ومن معك آمنين من الغرق، فقل: الحمد لله الذي نجَّانا من القوم الكافرين.

ص: 344

وقل: رب يسِّر لي النزول المبارك الآمن، وأنت خير المنزلين. وفي هذا تعليم من الله عز وجل لعباده إذا نزلوا أن يقولوا هذا.

ص: 344

إن في إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لَدلالات واضحات على صدق رسل الله فيما جاؤوا به من الله، وإن كنا لمختبرين الأمم بإرسال الرسل إليهم قبل وقوع العقوبة بهم.

ص: 344

ثم أنشأنا من بعد قوم نوح جيلا آخر هم قوم عاد.

ص: 344

فأرسلنا فيهم رسولا منهم هو هود عليه السلام، فقال لهم: اعبدوا الله وحده ليس لكم معبود بحق غيره، أفلا تخافون عقابه إذا عبدتم غيره؟

ص: 344

وقال الأشراف والوجهاء من قومه الذين كفروا بالله، وأنكروا الحياة الآخرة، وأطغاهم ما أُنعم به عليهم في الدنيا من ترف العيش: ما هذا الذي يدعوكم إلى توحيد الله تعالى إلا بشر مثلكم يأكل من جنس طعامكم، ويشرب من جنس شرابكم.

ص: 344

ولئن اتبعتم فردًا مثلكم إنكم إذًا لخاسرون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه.

ص: 344

كيف تُصَدِّقون ما يَعِدُكم به من أنكم إذا متُّم، وصرتم ترابًا وعظامًا مفتتة، تُخْرَجون من قبوركم أحياء؟

ص: 344

بعيد حقًا ما توعدون به أيها القوم من أنكم بعد موتكم تُخْرَجون أحياء من قبوركم.

ص: 344

ما حياتنا إلا في هذه الدنيا، يموت الآباء منا ويحيا الأبناء، وما نحن بمخرجين أحياء مرة أخرى.

ص: 344

وما هذا الداعي لكم إلى الإيمان إلا رجل اختلق على الله كذبًا، ولسنا بمصدقين ما قاله لنا.

ص: 344

فدعا رسولهم ربه قائلا رب انصرني عليهم بسبب تكذيبهم لي.

ص: 344

وقال الله مجيبًا لدعوته: عمَّا قليل ليصبحُنَّ نادمين، أي: بعد زمن قريب سيصير هؤلاء المكذبون نادمين.

ص: 344

ولم يلبثوا أن جاءتهم صيحة شديدة مع ريح، أهلكهم الله بها، فماتوا جميعًا، وأصبحوا كغثاء السيل الذي يطفو على الماء، فهلاكًا لهؤلاء الظالمين وبُعْدًا لهم من رحمة الله، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم، فيحل بهم ما حل بسابقيهم.

ص: 344

ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين أممًا وخلائق آخرين كأقوام: لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ص: 344

ما تتقدم أي أمة من هذه الأمم المكذبة الوقت المحدد لهلاكها، ولا تتأخر عنه.

ص: 345

ثم أرسلنا رسلنا إلى تلك الأمم يتبع بعضهم بعضًا، كلما دعا رسول أمته كذبوه، فأتبعنا بعضهم بعضًا بالهلاك والدمار، ولم يَبْقَ إلا أخبار هلاكهم، وجعلناها أحاديث لمن بعدهم، يتخذونها عبرة، فهلاكًا وسُحْقًا لقوم لا يصدقون الرسل ولا يطيعونهم.

ص: 345

ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا التسع وهي: العصا واليد والجراد والقُمَّل والضفادع والدم والطوفان والسنون ونقص من الثمرات، حجةً بيِّنة تقهر القلوب فتنقاد لها قلوب المؤمنين، وتقوم الحجة على المعاندين، أرسلناهما إلى فرعون حاكم «مصر» وأشراف قومه، فاستكبروا عن الإيمان بموسى وأخيه، وكانوا قومًا متطاولين على الناس قاهرين لهم بالظلم.

ص: 345

فقالوا: أنصدِّق فَرْدَيْن مثلنا، وقومهما من بني إسرائيل تحت إمرتنا مطيعون متذللون لنا؟

ص: 345

فكذبوهما فيما جاءا به، فكانوا من المهلكين بالغرق في البحر.

ص: 345

ولقد آتينا موسى التوراة؛ ليهتدي بها قومه إلى الحق.

ص: 345

وجعلنا عيسى بن مريم وأمه علامة دالة على قدرتنا؛ إذ خلقناه من غير أب، وجعلنا لهما مأوى في مكان مرتفع من الأرض، مستوٍ للاستقرار عليه، فيه خصوبة وماء جار ظاهر للعيون.

ص: 345

يا أيها الرسل كلوا من طيب الرزق الحلال، واعملوا الأعمال الصالحة، إني بما تعملون عليم، لا يخفى عليَّ شيء من أعمالكم. والخطاب في الآية عام للرسل عليهم السلام وأتباعهم، وفي الآية دليل على أن أكل الحلال عون على العمل الصالح، وأن عاقبة الحرام وخيمة، ومنها رد الدعاء.

ص: 345

وإنَّ دينكم -يا معشر الأنبياء- دين واحد وهو الإسلام، وأنا ربكم فاتقوني بامتثال أوامري واجتناب زواجري.

ص: 345

فتفرَّق الأتباع في الدين إلى أحزاب وشيع، جعلوا دينهم أديانًا بعدما أُمروا بالاجتماع، كل حزب معجب برأيه زاعم أنه على الحق وغيره على الباطل. وفي هذا تحذير من التحزب والتفرق في الدين.

ص: 345

فاتركهم - أيها الرسول - في ضلالتهم وجهلهم بالحق إلى أن ينزل العذاب بهم.

ص: 345

أيظن هؤلاء الكفار أن ما نمدُّهم به من أموال وأولاد في الدنيا هو تعجيلُ خيرٍ لهم يستحقونه؟ إنما نعجل لهم الخير فتنة لهم واستدراجًا، ولكنهم لا يُحِسُّون بذلك.

ص: 345

إنَّ الذين هم من خشية ربهم مشفقون وَجِلون مما خوَّفهم الله تعالى به.

ص: 345

والذين هم يصدِّقون بآيات الله في القرآن، ويعملون بها.

ص: 345

والذين هم يخلصون العبادة لله وحده، ولا يشركون به غيره.

ص: 345

والذين يجتهدون في أعمال الخير والبر، وقلوبهم خائفة ألا تُقبل أعمالهم، وألا تنجيهم من عذاب ربهم إذا رجعوا إليه للحساب.

ص: 346

أولئك المجتهدون في الطاعة، دأبهم المسارعة إلى كل عمل صالح، وهم إلى الخيرات سابقون.

ص: 346

ولا نكلف عبدًا من عبادنا إلا بما يسعه العمل به، وأعمالهم مسطورة عندنا في كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة ينطق بالحق عليهم، ولا يُظْلم أحد منهم.

ص: 346

لكن قلوب الكفار في ضلال غامر عن هذا القرآن وما فيه، ولهم مع شركهم أعمال سيئة، يُمْهلهم الله ليعملوها، فينالوا غضب الله وعقابه.

ص: 346

حتى إذا أخذنا المترفين وأهل البطر منهم بعذابنا، إذا هم يرفعون أصواتهم يتضرعون مستغيثين.

ص: 346

فيقال لهم: لا تصرخوا، ولا تستغيثوا اليوم، إنكم لا تستطيعون نصر أنفسكم، ولا ينصركم أحد من عذاب الله.

ص: 346

قد كانت آيات القرآن تُقرأ عليكم؛ لتؤمنوا بها، فكنتم تنفرون من سماعها والتصديق بها، والعمل بها كما يفعل الناكص على عقبيه برجوعه إلى الوراء.

ص: 346

تفعلون ذلك مستكبرين على الناس بغير الحق بسبب بيت الله الحرام، تقولون: نحن أهله لا نُغْلَب فيه، وتتسامرون حوله بالسيِّئ من القول.

ص: 346

أفلم يتفكروا في القرآن فيعرفوا صدقه، أم منعهم من الإيمان أنه جاءهم رسول وكتاب لم يأت أباءهم الأولين مثله، فأنكروه وأعرضوا عنه؟

ص: 346

أم منعهم من اتباع الحق أن رسولهم محمدًا صلى الله عليه وسلم غير معروف عندهم، فهم منكرون له؟

ص: 346

بل أحسبوه مجنونًا؟ لقد كذَبوا؛ فإنما جاءهم بالقرآن والتوحيد والدين الحق، وأكثرهم كارهون للحق حسدًا وبغيًا.

ص: 346

ولو شرع الله لهم ما يوافق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومَن فيهن، بل أتيناهم بما فيه عزهم وشرفهم، وهو القرآن، فهم عنه معرضون.

ص: 346

بل أَمَنعهم من الإيمان أنك - أيها الرسول - تسألهم أجرًا على دعوتك لهم فبخلوا؟ لم تفعل ذلك، فإن ما عند الله من الثواب والعطاء خير، وهو خير الرازقين، فلا يَقدر أحد أن يَرزق مثل رزقه سبحانه وتعالى.

ص: 346

وإنك - أيها الرسول - لتدعو قومك وغيرهم إلى دينٍ قويم، وهو دين الإسلام.

ص: 346

وإن الذين لا يُصَدِّقون بالبعث والحساب، ولا يعملون لهما، عن طريق الدين القويم لمائلون إلى غيره.

ص: 346

ولو رحمناهم وكشفنا عنهم ما بهم مِن قحط وجوع لَتمادوا في الكفر والعناد، يتحيَّرون ويتخبطون.

ص: 347

ولقد ابتليناهم بصنوف المصائب فما خضعوا لربهم، وما دعوه خاشعين عند نزولها.

ص: 347

حتى إذا فتحنا عليهم بابًا من العذاب الشديد في الآخرة، إذا هم فيه آيسون من كل خير، متحيرون لا يدرون ما يصنعون.

ص: 347

وهو الذي أنشأ لكم السمع لإدراك المسموعات، والأبصار لإدراك المرئيات، والأفئدة لتفقهوا بها، ومع ذلك فشكركم لهذه النعم المتوالية عليكم قليل لا يُذْكَر.

ص: 347

وهو الذي خلق جميع الناس في الأرض، وإليه تُحشرون بعد موتكم، فيجازيكم بما عملتم من خير أو شر.

ص: 347

وهو وحده الذي يحيي من العدم، ويميت بعد الحياة، وله تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما، أفلا تعقلون قدرته ووحدانيته؟

ص: 347

لكن الكفار لم يصدقوا بالبعث، بل ردَّدوا مقولة أسلافهم المنكرين.

ص: 347

قالوا: أإذا متنا وتحللت أجسامنا وعظامنا في تراب الأرض نحيا مرة أُخرى؟ هذا لا يكون ولا يُتصور.

ص: 347

لقد قيل هذا الكلام لآبائنا من قبل، كما تقوله لنا يا محمد، فلم نره حقيقة، ما هذا إلا أباطيل الأولين.

ص: 347

قل لهم: لمن هذه الأرض ومَن فيها إن كان لديكم علم؟

ص: 347

سيعترفون حتمًا بأنها لله، هو خالقها ومالكها، قل لهم: ألا يكون لكم في ذلك تذكُّر بأنه قادر على البعث والنشور؟

ص: 347

قل مَن رب السموات السبع ورب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات وأعلاها؟

ص: 347

سيقولون حتمًا: هي ملك لله، فقل لهم: أفلا تخافون عذابه إذا عبدتم غيره؟

ص: 347

قل: مَن مالك كل شيء ومَن بيده خزائن كل شيء، ومَن يجير مَنِ استجار به، ولا يقدر أحد أن يُجير ويحمي مَن أراد الله إهلاكه، ولا يدفع الشر الذي قدَّره الله، إن كنتم تعلمون ذلك؟

ص: 347

سيجيبون: بأن ذلك كلَّه لله، قل لهم: كيف تذهب عقولكم وتُخْدَعون وتُصْرفون عن توحيد الله وطاعته، وتصديق أمر البعث والنشور؟

ص: 347

بل أتينا هؤلاء المنكرين بالحق فيما أرسلنا به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وإنهم لَكاذبون في شركهم وإنكارهم البعث.

ص: 348

لم يجعل الله لنفسه ولدًا، ولم يكن معه من معبود آخر; لأنه لو كان ثمة أكثر مِن معبود لانفرد كل معبود بمخلوقاته، ولكان بينهم مغالبة كشأن ملوك الدنيا، فيختلُّ نظام الكون، تنزَّه الله سبحانه وتعالى وتقدَّس عن وصفهم له بأن له شريكًا أو ولدًا.

ص: 348

هو وحده يعلم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه، فتنزَّه الله تعالى عن الشريك الذي يزعمون.

ص: 348

قل - أيها الرسول -: ربِّ إما ترينِّي في هؤلاء المشركين ما تَعِدُهم مِن عذابك فلا تهلكني بما تهلكهم به، ونجني من عذابك وسخطك، فلا تجعلني في القوم المشركين الظالمين، ولكن اجعلني ممن رضيتَ عنهم.

ص: 348

وإننا لَقادرون على أن نريك ما نَعِدُهم من العذاب.

ص: 348

إذا أساء إليك أعداؤك - أيها الرسول - بالقول أو الفعل فلا تقابلهم بالإساءة، ولكن ادفع إساءتهم بالإحسان منك إليهم، نحن أعلم بما يصفه هؤلاء المشركون من الشرك والتكذيب، وسنجازيهم عليه أسوأ الجزاء.

ص: 348

وقل - أيها النبي -: رب أستجير بك من إغواء الشياطين المغرية على الباطل والفساد والصد عن الحق ووسوستها، وأستجير بك -يا رب- مِن حضورهم في شيء من أموري.

ص: 348

يخبر الله تعالى عن حال المحتضر من الكافرين أو المفرطين في أمره تعالى، حتى إذا أشرف على الموت، وشاهد ما أُعِدَّ له من العذاب قال: رب ردُّوني إلى الدنيا.

ص: 348

لعلي أستدرك ما ضيَّعْتُ من الإيمان والطاعة. ليس له ذلك، فلا يجاب إلى ما طلب ولا يُمْهَل. فإنما هي كلمة هو قائلها قولاً لا ينفعه، وهو فيه غير صادق، فلو رُدَّ إلى الدنيا لعاد إلى ما نُهي عنه، وسيبقى المتوفَّون في الحاجز والبَرْزخ الذي بين الدنيا والآخرة إلى يوم البعث والنشور.

ص: 348

فإذا كان يوم القيامة، ونفخ المَلَك المكلَّف في «القرن» ، وبُعِثَ الناس من قبورهم، فلا تَفاخُرَ بالأنساب حينئذ كما كانوا يفتخرون بها في الدنيا، ولا يسأل أحد أحدًا.

ص: 348

فمن كثرت حسناته وثَقُلَتْ بها موازين أعماله عند الحساب، فأولئك هم الفائزون بالجنة.

ص: 348

ومن قَلَّتْ حسناته في الميزان، ورجحت سيئاته، وأعظمها الشرك، فأولئك هم الذين خابوا وخسروا أنفسهم، في نار جهنم خالدون.

ص: 348

تَحْرقُ النار وجوههم، وهم فيها عابسون تَقَلَّصَتْ شفاههم، وبرزت أسنانهم.

ص: 348

يقال لهم: ألم تكن آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا، فكنتم بها تكذبون؟

ص: 349

لما بلَّغتهم الرسل وأنذرتهم قالوا يوم القيامة: ربنا غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا المقدَّرة علينا في سابق علمك، وكنا في فعلنا ضالين عن الهدى.

ص: 349

ربنا أخرجنا من النار، وأعدنا إلى الدنيا، فإن رجعنا إلى الضلال فإنا ظالمون نستحق العقوبة.

ص: 349

قال الله عز وجل لهم: امكثوا في النار أذلاء ولا تخاطبوني. فانقطع عند ذلك دعاؤهم ورجاؤهم.

ص: 349

إنه كان فريق من عبادي -وهم المؤمنون- يَدْعون: ربنا آمنا فاستر ذنوبنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين.

ص: 349

فاشتغلتم بالاستهزاء بهم حتى نسيتم ذكر الله، فبقيتم على تكذيبكم، وقد كنتم تضحكون منهم سخرية واستهزاء.

ص: 349

إني جزيت هذا الفريق من عبادي المؤمنين الفوز بالجنة؛ بسبب صبرهم على الأذى وطاعة الله.

ص: 349

ويُسْألُ الأشقياء في النار: كم بقيتم في الدنيا من السنين؟ وكم ضيَّعتم فيها من طاعة الله؟

ص: 349

قالوا لِهول الموقف وشدة العذاب: بقينا فيها يومًا أو بعض يوم، فاسأل الحُسَّاب الذين يعدُّون الشهور والأيام.

ص: 349

قال لهم: ما لبثتم إلا وقتًا قليلا لو صبرتم فيه على طاعة الله لفزتم بالجنة، لو كان عندكم علم بذلك؛ وذلك لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جدا بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار.

ص: 349

أفحسبتم -أيها الخلق- أنما خلقناكم مهملين، لا أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، وأنكم إلينا لا ترجعون في الآخرة للحساب والجزاء؟

ص: 349

فتعالى الله الملك المتصرف في كل شيء، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، وكل شيء منه حق، وتَقَدَّس عن أن يخلق شيئًا عبثًا أو سفهًا، لا إله غيره ربُّ العرشِ الكريمِ، الذي هو أعظم المخلوقات.

ص: 349

ومن يعبد مع الله الواحد إلهًا آخر، لا حجة له على استحقاقه العبادة، فإنما جزاؤه على عمله السيِّئ عند ربه في الآخرة. إنه لا فلاح ولا نجاة للكافرين يوم القيامة.

ص: 349

وقل -أيها النبي-: ربِّ تجاوَزْ عن الذنوب وارحم؛ وأنت خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته ولم يعاقبه على ذنبه.

ص: 349

هذه سورة عظيمة من القرآن أنزلناها، وأوجبنا العمل بأحكامها، وأنزلنا فيها دلالات واضحات؛ لتتذكروا -أيها المؤمنون- بهذه الآيات البينات، وتعملوا بها.

ص: 350

الزانية والزاني اللذان لم يسبق لهما الزواج، عقوبةُ كل منهما مائة جلدة بالسوط، وثبت في السنة مع هذا الجلد التغريب لمدة عام. ولا تحملكم الرأفة بهما على ترك العقوبة أو تخفيفها، إن كنتم مصدقين بالله واليوم الآخر عاملين بأحكام الإسلام، وليحضر العقوبةَ عدد من المؤمنين; تشنيعًا وزجرًا وعظة واعتبارًا.

ص: 350

الزاني لا يرضى إلا بنكاح زانية أو مشركة لا تُقِرُّ بحرمة الزنى، والزانية لا ترضى إلا بنكاح زان أو مشرك لا يُقِرُّ بحرمة الزنى، أما العفيفون والعفيفات فإنهم لا يرضون بذلك، وحُرِّم ذلك النكاح على المؤمنين. وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك تحريم إنكاح الزاني حتى يتوب.

ص: 350

والذين يتهمون بالفاحشة أنفسًا عفيفة من النساء والرجال مِن دون أن يشهد معهم أربعة شهود عدول، فاجلدوهم بالسوط ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا، وأولئك هم الخارجون عن طاعة الله.

ص: 350

لكن مَن تاب ونَدم ورجع عن اتهامه وأصلح عمله، فإن الله يغفر ذنبه ويرحمه، ويقبل توبته.

ص: 350

والذين يرمون زوجاتهم بالزنى، ولم يكن لهم شهداء على اتهامهم لهنَّ إلا أنفسهم، فعلى الواحد منهم أن يشهد أمام القاضي أربع مرات بقوله: أشهد بالله أني صادق فيما رميتها به من الزنى، ويزيد في الشهادة الخامسة الدعوة على نفسه باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذبًا في قوله.

ص: 350

وبشهادته تستوجب الزوجة عقوبة الزنى، وهي الرجم حتى الموت، ولا يدفع عنها هذه العقوبة إلا أن تشهد في مقابل شهادته أربع شهادات بالله إنه لكاذب في اتهامه لها بالزنى، وتزيد في الشهادة الخامسة الدعوة على نفسها باستحقاقها غضب الله، إن كان زوجها صادقًا فى اتهامه لها، وفي هذه الحال يفرق بينهما.

ص: 350

ولولا تفضُّل الله عليكم ورحمته -أيها المؤمنون- بهذا التشريع للأزواج والزوجات، لأحلَّ بالكاذب من المتلاعنين ما دعا به على نفسه، وأن الله تواب لمن تاب مِن عباده، حكيم في شرعه وتدبيره.

ص: 350

إن الذين جاؤوا بأشنع الكذب، وهو اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، جماعة منتسبون إليكم -معشر المسلمين- لا تحسبوا قولهم شرًّا لكم، بل هو خير لكم، لما تضمن ذلك مِن تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها والتنويه بذكرها، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتمحيص المؤمنين. لكل فرد تكلم بالإفك جزاء فعله من الذنب، والذي تحمَّل معظمه، وهو عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول كبير المنافقين -لعنه الله- له عذاب عظيم في الآخرة، وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.

ص: 351

هلا ظن المؤمنون والمؤمنات بعضهم ببعض خيرًا عند سماعهم ذلك الإفك، وهو السلامة مما رموا به، وقالوا: هذا كذب ظاهر على عائشة رضي الله عنها.

ص: 351

هلا أتى القاذفون بأربعة شهود عدول على قولهم، فحين لم يفعلوا ذلك فأولئك هم الكاذبون عند الله.

ص: 351

ولولا فَضْلُ الله عليكم ورحمته لكم بحيث شملكم إحسانه في دينكم ودنياكم فلم يعجِّل عقوبتكم، وتاب على مَن تاب منكم، لأصابكم بسبب ما خضتم فيه عذاب عظيم.

ص: 351

حين تتلقفون الإفك وتتناقلونه بأفواهكم، وهو قول باطل، وليس عندكم به علم، وهما محظوران: التكلم بالباطل، والقول بلا علم، وتظنون ذلك شيئًا هيِّنًا، وهو عند الله عظيم. وفي هذا زجر بليغ عن التهاون في إشاعة الباطل.

ص: 351

وهلا قلتم عند سماعكم إياه: ما يَحِلُّ لنا الكلام بهذا الكذب، تنزيهًا لك - يارب - مِن قول ذلك على زوجة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كذب عظيم في الوزر واستحقاق الذنب.

ص: 351

يذكِّركم الله وينهاكم أن تعودوا أبدًا لمثل هذا الفعل من الاتهام الكاذب، إن كنتم مؤمنين به.

ص: 351

ويبين الله لكم الآيات المشتملة على الأحكام الشرعية والمواعظ، والله عليم بأفعالكم، حكيم في شرعه وتدبيره.

ص: 351

إن الذين يحبون شيوع الفاحشة في المسلمين من قَذْف بالزنى أو أي قول سيِّئ لهم عذاب أليم في الدنيا بإقامة الحد عليهم، وغيره من البلايا الدنيوية، ولهم في الآخرة عذاب النار إن لم يتوبوا، والله -وحده- يعلم كذبهم، ويعلم مصالح عباده، وعواقب الأمور، وأنتم لا تعلمون ذلك.

ص: 351

ولولا فَضْلُ الله على مَن وقع في حديث الإفك ورحمته بهم، وأن الله يرحم عباده المؤمنين رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم، لما بيَّن هذه الأحكام والمواعظ، ولَعاجل مَن خالف أمره بالعقوبة.

ص: 351

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تسلكوا طرق الشيطان، ومَن يسلك طرق الشيطان فإنه يأمره بقبيح الأفعال ومنكراتها، ولولا فَضْلُ الله على المؤمنين ورحمته بهم ما طَهُرَ منهم أحد أبدًا مِن دنس ذنبه، ولكن الله -بفضله- يطهر من يشاء. والله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وأفعالكم.

ص: 352

ولا يحلف أهل الفضل في الدين والسَّعَة في المال على ترك صلة أقربائهم الفقراء والمحتاجين والمهاجرين، ومنعهم النفقة؛ بسبب ذنب فعلوه، ولْيتجاوزوا عن إساءتهم، ولا يعاقبوهم. ألا تحبون أن يتجاوز الله عنكم؟ فتجاوزوا عنهم. والله غفور لعباده، رحيم بهم. وفي هذا الحثُّ على العفو والصفح، ولو قوبل بالإساءة.

ص: 352

إن الذين يقذفون بالزنى العفيفات الغافلات المؤمنات اللاتي لم يخطر ذلك بقلوبهن، مطرودون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم في نار جهنم. وفي هذه الآية دليل على كفر من سبَّ، أو اتهم زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بسوء.

ص: 352

ذلك العذاب يوم القيامة يوم تشهد عليهم ألسنتهم بما نطقت، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما عملت.

ص: 352

في هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم كاملا على أعمالهم بالعدل، ويعلمون في ذلك الموقف العظيم أن الله هو الحق المبين الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، وكل شيء منه حق، الذي لا يظلم أحدًا مثقال ذرة.

ص: 352

كل خبيث من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مناسب للخبيث وموافق له، وكل طيِّب من الرجال والنساء والأقوال والأفعال مناسب للطيب وموافق له، والطيبون والطيبات مبرؤون مما يرميهم به الخبيثون من السوء، لهم من الله مغفرة تستغرق الذنوب، ورزق كريم في الجنة.

ص: 352

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأذنوا أهلها في الدخول وتسلموا عليهم وصيغة ذلك من السنة: السلام عليكم أأدخل؟ ذلكم الاستئذان خير لكم؛ لعلكم تتذكرون -بفعلكم له- أوامر الله، فتطيعوه.

ص: 352

فإن لم تجدوا في بيوت الآخرين أحدًا فلا تدخلوها حتى يوجد مَن يأذن لكم، فإن لم يأذن، بل قال لكم: ارجعوا فارجعوا، ولا تُلحُّوا، فإن الرجوع عندئذ أطهر لكم؛ لأن للإنسان أحوالا يكره اطلاع أحد عليها. والله بما تعملون عليم، فيجازي كل عامل بعمله.

ص: 353

لكن لا حرج عليكم أن تدخلوا بغير استئذان بيوتًا ليست مخصصة لسكنى أناس بذاتهم، بل ليتمتع بها مَن يحتاج إليها كالبيوت المُعَدَّة صدقة لابن السبيل في طرق المسافرين وغيرها من المرافق، ففيها منافع وحاجة لمن يدخلها، وفي الاستئذان مشقة. والله يعلم أحوالكم الظاهرة والخفية.

ص: 353

قل - أيها النبي - للمؤمنين يَغُضُّوا مِن أبصارهم عمَّا لا يحلُّ لهم من النساء والعورات، ويحفظوا فروجهم عمَّا حَرَّم الله من الزنى واللواط، وكشف العورات، ونحو ذلك، ذلك أطهر لهم. إن الله خبير بما يصنعون فيما يأمرهم به وينهاهم عنه.

ص: 353

وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن عمَّا لا يحلُّ لهن من العورات، ويحفظن فروجهن عمَّا حَرَّم الله، ولا يُظهرن زينتهن للرجال، بل يجتهدن في إخفائها إلا الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلُبْسها، إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، وليلقين بأغطية رؤوسهن على فتحات أعلى ثيابهن من جهة صدورهن مغطيات وجوههن؛ ليكمل سترهن، ولا يُظْهِرْنَ الزينة الخفية إلا لأزواجهن؛ إذ يرون منهن ما لا يرى غيرهم. وبعضها، كالوجه، والعنق، واليدين، والساعدين يباح رؤيته لآبائهن أو آباء أزواجهن أو أبنائهن أو أبناء أزواجهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن المسلمات دون الكافرات، أو ما ملكن مِنَ العبيد، أو التابعين من الرجال الذين لا غرض ولا حاجة لهم في النساء، مثل البُلْه الذين يتبعون غيرهم للطعام والشراب فحسب، أو الأطفال الصغار الذين ليس لهم علم بأمور عورات النساء، ولم توجد فيهم الشهوة بعد، ولا يضرب النساء عند سَيْرهن بأرجلهن ليُسْمِعْن صوت ما خفي من زينتهن كالخلخال ونحوه، وارجعوا -أيها المؤمنون- إلى طاعة الله فيما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ رجاء أن تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

ص: 353

وزوِّجوا -أيها المؤمنون- مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر والصالحين مِن عبيدكم وجواريكم، إن يكن الراغب في الزواج للعفة فقيرًا يغنه الله من واسع رزقه. والله واسع كثير الخير عظيم الفضل، عليم بأحوال عباده.

ص: 354

والذين لا يستطيعون الزواج لفقرهم أو غيره فليطلبوا العفة عمَّا حَرَّمَ الله حتى يغنيهم الله من فضله، وييسر لهم الزواج. والذين يريدون أن يتحرروا من العبيد والإماء بمكاتبة أسيادهم على بعض المال يؤدونه إليهم، فعلى مالكيهم أن يكاتبوهم على ذلك إن علموا فيهم خيرًا: مِن رشد وقدرة على الكسب وصلاح في الدين، وعليهم أن يعطوهم شيئًا من المال أو أن يحطوا عنهم مما كُوتبوا عليه. ولا يجوز لكم إكراه جواريكم على الزنى طلبًا للمال، وكيف يقع منكم ذلك وهن يُرِدْن العفة وأنتم تأبونها؟ وفي هذا غاية التشنيع لفعلهم القبيح. ومن يكرههنَّ على الزنى فإن الله تعالى من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، والإثم على مَن أكْرههن.

ص: 354

ولقد أنزلنا إليكم -أيها الناس- آيات القرآن دلالات واضحات على الحق، ومثلا من أخبار الأمم السابقة المؤمنين منهم والكافرين، وما جرى لهم وعليهم ما يكون مثلا وعبرة لكم، وموعظة يتعظ بها من يتقي الله ويَحْذَرُ عذابه.

ص: 354

الله نور السموات والأرض يدبر الأمر فيهما ويهدي أهلهما، فهو -سبحانه- نور، وحجابه نور، به استنارت السموات والأرض وما فيهما، وكتاب الله وهدايته نور منه سبحانه، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات بعضها فوق بعض. مثل نوره الذي يهدي إليه، وهو الإيمان والقرآن في قلب المؤمن كمشكاة، وهي الكُوَّة في الحائط غير النافذة، فيها مصباح، حيث تجمع الكوَّة نور المصباح فلا يتفرق، وذلك المصباح في زجاجة، كأنها -لصفائها- كوكب مضيء كالدُّر، يوقَد المصباح من زيت شجرة مباركة، وهي شجرة الزيتون، لا شرقية فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، ولا غربية فقط فلا تصيبها الشمس أول النهار، بل هي متوسطة في مكان من الأرض لا إلى الشرق ولا إلى الغرب، يكاد زيتها -لصفائه- يضيء من نفسه قبل أن تمسه النار، فإذا مَسَّتْه النار أضاء إضاءة بليغة، نور على نور، فهو نور من إشراق الزيت على نور من إشعال النار، فذلك مثل الهدى يضيء في قلب المؤمن. والله يهدي ويوفق لاتباع القرآن مَن يشاء، ويضرب الأمثال للناس؛ ليعقلوا عنه أمثاله وحكمه. والله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء.

ص: 354

هذا النور المضيء في مساجد أَمَرَ الله أن يُرْفع شأنها وبناؤها، ويُذْكر فيها اسمه بتلاوة كتابه والتسبيح والتهليل، وغير ذلك من أنواع الذكر، يُصلِّي فيها لله في الصباح والمساء.

ص: 354

رجال لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذِكْرِ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة لمستحقيها، يخافون يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب بين الرجاء في النجاة والخوف من الهلاك، وتتقلب فيه الأبصار تنظر إلى أي مصير تكون؟

ص: 355

ليعطيهم الله ثواب أحسن أعمالهم، ويزيدهم من فضله بمضاعفة حسناتهم. والله يرزق مَن يشاء بغير حساب، بل يعطيه مِنَ الأجر ما لا يبلغه عمله، وبلا عدٍّ ولا كيل.

ص: 355

والذين كفروا بربهم وكذَّبوا رسله، أعمالهم التي ظنوها نافعة لهم في الآخرة، كصلة الأرحام وفك الأسرى وغيرها، كسراب، وهو ما يشاهَد كالماء على الأرض المستوية في الظهيرة، يظنه العطشان ماء، فإذا أتاه لم يجده ماء. فالكافر يظن أن أعماله تنفعه، فإذا كان يوم القيامة لم يجد لها ثوابًا، ووجد الله سبحانه وتعالى له بالمرصاد فوفَّاه جزاء عمله كاملا. والله سريع الحساب، فلا يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد، فإنه لا بدَّ مِن إتيانه.

ص: 355

أو تكون أعمالهم مثل ظلمات في بحر عميق يعلوه موج، من فوق الموج موج آخر، ومِن فوقه سحاب كثيف، ظلمات شديدة بعضها فوق بعض، إذا أخرج الناظر يده لم يقارب رؤيتها من شدة الظلمات، فالكفار تراكمت عليهم ظلمات الشرك والضلال وفساد الأعمال. ومن لم يجعل الله له نورًا من كتابه وسنة نبيه يهتدي به فما له مِن هاد.

ص: 355

ألم تعلم - أيها الرسول - أن الله يُسَبِّح له مَن في السموات والأرض من المخلوقات، والطير صافات أجنحتها في السماء تسبح ربها؟ كل مخلوق قد أرشده الله كيف يصلي له ويسبحه. وهو سبحانه عليم، مُطَّلِع على ما يفعله كل عابد ومسبِّح، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك.

ص: 355

ولله وحده ملك السموات والأرض، له السلطان فيهما، وإليه المرجع يوم القيامة.

ص: 355

ألم تشاهد أن الله سبحانه وتعالى يسوق السحاب إلى حيث يشاء، ثم يجمعه بعد تفرقه، ثم يجعله متراكمًا، فينزل مِن بينه المطر؟ وينزل من السحاب الذي يشبه الجبال في عظمته بَرَدًا، فيصيب به مَن يشاء من عباده ويصرفه عمَّن يشاء منهم بحسب حكمته وتقديره، يكاد ضوء ذلك البرق في السحاب مِن شدته يذهب بأبصار الناظرين إليه.

ص: 355

ومن دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى أنه يقلب الليل والنهار بمجيء أحدهما بعد الآخر، واختلافهما طولا وقِصَرًا، إن في ذلك لَدلالة يعتبر بها كل مَن له بصيرة.

ص: 356

والله تعالى خلق كل ما يدِب على الأرض مِن ماء، فالماء أصل خلقه، فمن هذه الدواب: مَن يمشي زحفًا على بطنه كالحيَّات ونحوها، ومنهم مَن يمشي على رجلين كالإنسان، ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم ونحوها. والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وهو قادر على كل شيء.

ص: 356

لقد أنزلنا في القرآن علامات واضحات مرشدات إلى الحق. والله يهدي ويوفق مَن يشاء مِن عباده إلى الطريق المستقيم، وهو الإسلام.

ص: 356

ويقول المنافقون: صَدَّقنا بالله وبما جاء به الرسول، وأطعنا أمرهما، ثم تُعْرِضُ طوائف منهم من بعد ذلك فلا تقبل حكم الرسول، وما أولئك بالمؤمنين.

ص: 356

وإذا دُعوا في خصوماتهم إلى ما في كتاب الله وإلى رسوله؛ ليَحكُم بينهم، إذا فريق منهم معرض لا يقبل حكم الله وحكم رسوله، مع أنه الحق الذي لا شك فيه.

ص: 356

وإن يكن الحق في جانبهم فإنهم يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام طائعين منقادين لحكمه؛ لعلمهم أنه يقضي بالحق.

ص: 356

أسَبَبُ الإعراض ما في قلوبهم من مرض النفاق، أم شكُّوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أم السبب خوفهم أن يكون حكم الله ورسوله جائرًا؟ كلا إنهم لا يخافون جورًا، بل السبب أنهم هم الظالمون الفجرة.

ص: 356

أما المؤمنون حقا فدأبهم إذا دعوا إلى التحاكم في خصوماتهم إلى كتاب الله وحكم رسوله، أن يقبلوا الحكم ويقولوا: سمعنا ما قيل لنا وأطعنا مَن دعانا إلى ذلك، وأولئك هم المفلحون الفائزون بمطلوبهم في جنات النعيم.

ص: 356

ومن يطع الله ورسوله في الأمر والنهي، ويَخَفْ عواقب العصيان، ويحْذَر عذاب الله، فهؤلاء هم الفائزون بالنعيم في الجنة.

ص: 356

وأقسم المنافقون بالله تعالى غاية اجتهادهم في الأيمان المغلَّظة: لئن أمرتنا - أيها الرسول - بالخروج للجهاد معك لنخرجن، قل لهم: لا تحلفوا كذبًا، فطاعتكم معروفة بأنها باللسان فحسب، إن الله خبير بما تعملونه، وسيجازيكم عليه.

ص: 356

قل - أيها الرسول - للناس: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تعرضوا فإنما على الرسول فِعْلُ ما أُمر به من تبليغ الرسالة، وعلى الجميع فِعْلُ ما كُلِّفوه من الامتثال، وإن تطيعوه ترشدوا إلى الحق، وليس على الرسول إلا أن يبلغ رسالة ربه بلاغًا بينًا.

ص: 357

وعد الله بالنصر الذين آمنوا منكم وعملوا الأعمال الصالحة، بأن يورثهم أرض المشركين، ويجعلهم خلفاء فيها، مثلما فعل مع أسلافهم من المؤمنين بالله ورسله، وأن يجعل دينهم الذي ارتضاه لهم -وهو الإسلام- دينًا عزيزًا مكينًا، وأن يبدل حالهم من الخوف إلى الأمن، إذا عبدوا الله وحده، واستقاموا على طاعته، ولم يشركوا معه شيئًا، ومن كفر بعد ذلك الاستخلاف والأمن والتمكين والسلطنة التامة، وجحد نِعَم الله، فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله.

ص: 357

وأقيموا الصلاة تامة، وآتوا الزكاة لمستحقيها، وأطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ رجاء أن يرحمكم الله.

ص: 357

لا تظننَّ الذين كفروا معجزين الله في الأرض، بل هو قادر على إهلاكهم، ومرجعهم في الآخرة إلى النار، وقبُح هذا المرجع والمصير.

وهو توجيه عام للأمّة، وإن كان الخطاب فيه للرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 357

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه مُروا عبيدكم وإماءكم، والأطفال الأحرار دون سن الاحتلام أن يستأذنوا عند الدخول عليكم في أوقات عوراتكم الثلاثة: من قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ووقت خلع الثياب للقيلولة في الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت للنوم، وهذه الأوقات الثلاثة عورات لكم، يقل فيها التستر، أما فيما سواها فلا حرج إذا دخلوا بغير إذن؛ لحاجتهم في الدخول عليكم، فهم طوافون عليكم للخدمة، ولأن العادة جرت بتردد بعضكم إلى بعض فيها لقضاء المصالح. كما بيَّن الله لكم أحكام الاستئذان يبيِّن لكم آياته وأحكامه وحججه وشرائع دينه. والله عليم بما يصلح خلقه، حكيم في تدبيره أمورهم.

ص: 357

وإذا بلغ الأطفال منكم سن الاحتلام والتكليف بالأحكام الشرعية، فعليهم أن يستأذنوا إذا أرادوا الدخول في كل الأوقات كما يستأذن الكبار، وكما يبيِّن الله آداب الاستئذان يبيِّن الله تعالى لكم آياته. والله عليم بما يصلح عباده، حكيم في تشريعه.

ص: 358

والعجائز من النساء اللاتي قعدن عن الاستمتاع والشهوة لكبرهن، فلا يطمعن في الرجال للزواج، ولا يطمع فيهن الرجال كذلك، فهؤلاء لا حرج عليهن أن يضعن بعض ثيابهن كالرداء الذي يكون فوق الثياب غير مظهرات ولا متعرضات للزينة، ولُبْسهن هذه الثياب -سترًا وتعففًا- أحسن لهن. والله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وأعمالكم.

ص: 358

ليس على أصحاب الأعذار من العُمْيان وذوي العرج والمرضى إثم في ترك الأمور الواجبة التي لا يقدرون على القيام بها، كالجهاد ونحوه، مما يتوقف على بصر الأعمى أو سلامة الأعرج أو صحة المريض، وليس على أنفسكم -أيها المؤمنون- حرج في أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، فيدخل فيها بيوت الأولاد، أو من بيوت آبائكم، أو أمهاتكم، أو إخوانكم، أو أخواتكم، أو أعمامكم، أو عماتكم، أو أخوالكم، أو خالاتكم، أو من البيوت التي وُكِّلْتم بحفظها في غيبة أصحابها بإذنهم، أو من بيوت الأصدقاء، ولا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، فإذا دخلتم بيوتًا مسكونة أو غير مسكونة فليسلِّم بعضكم على بعض بتحية الإسلام، وهي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا لم يوجد أحد، وهذه التحية شرعها الله، وهي مباركة تُنْمِي المودة والمحبة، طيبة محبوبة للسامع، وبمثل هذا التبيين يبيِّن الله لكم معالم دينه وآياته؛ لتعقلوها، وتعملوا بها.

ص: 358

إنما المؤمنون حقًا هم الذين صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا بشرعه، وإذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جمعهم له في مصلحة المسلمين، لم ينصرف أحد منهم حتى يستأذنه، إن الذين يستأذنونك - أيها النبي - هم الذين يؤمنون بالله ورسوله حقًا، فإذا استأذنوك لبعض حاجتهم فَأْذَن لمن شئت ممن طلب الإذن في الانصراف لعذر، واطلب لهم المغفرة من الله. إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم.

ص: 359

لا تقولوا -أيها المؤمنون- عند ندائكم رسول الله: يا محمد، ولا يا محمد بن عبد الله، كما يقول ذلك بعضكم لبعض، ولكن شرِّفوه، وقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله. قد يعلم الله المنافقين الذين يخرجون من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خفية بغير إذنه، يلوذ بعضهم ببعض، فليَحْذَر الذين يخالفون أمر رسول الله أن تنزل بهم محنة وشر، أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة.

ص: 359

ألا إن لله ما في السموات والأرض خلقًا وملكًا وعبادة، قد أحاط علمه بجميع ما أنتم عليه، ويوم يرجع العباد إليه في الآخرة، يخبرهم بعملهم، ويجازيهم عليه، والله بكل شيء عليم، لا تخفى عليه أعمالهم وأحوالهم.

ص: 359

عَظُمَتْ بركات الله، وكثرت خيراته، وكملت أوصافه سبحانه وتعالى الذي نزَّل القرآن الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون رسولا للإنس والجن، مخوِّفًا لهم من عذاب الله.

ص: 359

الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في ملكه، وهو الذي خلق كل شيء، فسوَّاه على ما يناسبه من الخلق وَفْق ما تقتضيه حكمته دون نقص أو خلل.

ص: 359

واتخذ مشركو العرب معبودات من دون الله لا تستطيع خَلْق شيء، والله خلقها وخلقهم، ولا تملك لنفسها دَفْعَ ضر أو جلب نفع، ولا تستطيع إماتة حي أو إحياء ميت، أو بعث أحد من الأموات حيًا من قبره.

ص: 360

وقال الكافرون بالله: ما هذا القرآن إلا كذب وبهتان اختلقه محمد، وأعانه على ذلك أناس آخرون، فقد ارتكبوا ظلمًا فظيعًا، وأتوا زورًا شنيعًا؛ فالقرآن ليس مما يمكن لبشر أن يختلقه.

ص: 360

وقالوا عن القرآن: هو أحاديث الأولين المسطرة في كتبهم، استنسخها محمد، فهي تُقْرَأ عليه صباحًا ومساء.

ص: 360

قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: إن الذي أنزل القرآن هو الله الذي أحاط علمه بما في السموات والأرض، إنه كان غفورًا لمن تاب من الذنوب والمعاصي، رحيمًا بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.

ص: 360

وقال المشركون: ما لهذا الذي يزعم أنه رسول الله (يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام مثلنا، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق؟ فهلا أرسل الله معه مَلَكًا يشهد على صدقه، أو يهبط عليه من السماء كنز من مال، أو تكون له حديقة عظيمة يأكل من ثمرها، وقال هؤلاء الظالمون المكذبون: ما تتبعون أيها المؤمنون إلا رجلا به سحر غلب على عقله.

ص: 360

انظر - أيها الرسول - كيف قال المكذبون في حقك تلك الأقوال العجيبة التي تشبه -لغرابتها- الأمثال؛ ليتوصلوا إلى تكذيبك؟ فبَعُدوا بذلك عن الحق، فلا يجدون سبيلا إليه؛ ليصححوا ما قالوه فيك من الكذب والافتراء.

ص: 360

عَظُمَتْ بركات الله، وكَثُرَتْ خيراته، الذي إن شاء جعل لك - أيها الرسول - خيرًا مما تمنَّوه لك، فجعل لك في الدنيا حدائق كثيرة تتخللها الأنهار، وجعل لك فيها قصورًا عظيمة.

ص: 360

وما كذبوك؛ لأنك تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، بل كذَّبوا بيوم القيامة وما فيه من جزاء، وأعتدنا لمن كذب بالساعة نارًا حارة تُسَعَّر بهم.

ص: 360

إذا رأت النار هؤلاء المكذبين يوم القيامة من مكان بعيد، سمعوا صوت غليانها وزفيرها، من شدة تغيظها منهم.

ص: 361

وإذا أُلقوا في مكان شديد الضيق من جهنم -وقد قُرِنت أيديهم بالسلاسل إلى أعناقهم- دَعَوْا على أنفسهم بالهلاك للخلاص منها.

ص: 361

فيقال لهم تيئيسًا، لا تَدْعوا اليوم بالهلاك مرة واحدة، بل مرات كثيرة، فلن يزيدكم ذلك إلا غمًّا، فلا خلاص لكم.

ص: 361

قل لهم - أيها الرسول -: أهذه النار التي وُصِفتْ لكم خيرٌ أم جنة النعيم الدائم التي وُعِد بها الخائفون من عذاب ربهم، كانت لهم ثوابًا على عملهم، ومآلا يرجعون إليه في الآخرة؟

ص: 361

لهؤلاء المطيعين في الجنة ما يشتهون من ملاذِّ النعيم، متاعهم فيه دائم، كان دخولهم إياها على ربك - أيها الرسول - وعدًا مسؤولا يسأله عباد الله المتقون، والله لا يخلف وعده.

ص: 361

ويوم القيامة يحشر الله المشركين وما كانوا يعبدونه من دونه، فيقول لهؤلاء المعبودين: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء عن طريق الحق، وأمرتموهم بعبادتكم، أم هم ضلوا السبيل، فعبدوكم مِن تلقاء أنفسهم؟

ص: 361

قال المعبودون من دون الله: تنزيهًا لك -يا ربنا- عَمَّا فعل هؤلاء، فما يصحُّ أن نَتَّخِذ سواك أولياء نواليهم، ولكن متعتَ هؤلاء المشركين وآباءهم بالمال والعافية في الدنيا، حتى نسوا ذكرك فأشركوا بك، وكانوا قومًا هلكى غلب عليهم الشقاء والخِذْلان.

ص: 361

فيقال للمشركين: لقد كذَّبكم هؤلاء الذين عبدتموهم في ادِّعائكم عليهم، فها أنتم أولاء لا تستطيعون دَفْعًا للعذاب عن أنفسكم، ولا نصرًا لها، ومَن يشرك بالله فيظلم نفسه ويعبد غير الله، ويمت على ذلك، يعذبه الله عذابًا شديدًا.

ص: 361

وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - أحدًا مِن رسلنا إلا كانوا بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. وجعلنا بعضكم -أيها الناس- لبعض ابتلاء واختبارًا بالهدى والضلال، والغنى والفقر، والصحة والمرض، هل تصبرون، فتقوموا بما أوجبه الله عليكم، وتشكروا له، فيثيبكم مولاكم، أو لا تصبرون فتستحقوا العقوبة؟ وكان ربك - أيها الرسول - بصيرًا بمن يجزع أو يصبر، وبمن يكفر أو يشكر.

ص: 361

وقال الذين لا يؤمِّلون لقاء ربهم بعد موتهم لإنكارهم له: هلا أُنزل علينا الملائكة، فتُخْبِرنا بأن محمدًا صادق، أو نرى ربنا عِيانًا، فيخبرنا بصدقه في رسالته. لقد أُعجِبوا بأنفسهم واستعلَوْا حيث اجترؤوا على هذا القول، وتجاوزوا الحدَّ في طغيانهم وكفرهم.

ص: 362

يوم يرون الملائكة عند الاحتضار، وفي القبر، ويوم القيامة، على غير الصورة التي اقترحوها لا لتبشرهم بالجنة، ولكن لتقول لهم: جعل الله الجنة مكانًا محرمًا عليكم.

ص: 362

وقَدِمْنا إلى ما عملوه مِن مظاهر الخير والبر، فجعلناه باطلا مضمحلا لا ينفعهم كالهباء المنثور، وهو ما يُرى في ضوء الشمس من خفيف الغبار؛ وذلك أن العمل لا ينفع في الآخرة إلا إذا توفر في صاحبه: الإيمان بالله، والإخلاص له، والمتابعة لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم.

ص: 362

أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرًا من أهل النار وأحسن منازل في الجنة، فراحتهم تامة، ونعيمهم لا يشوبه كدر.

ص: 362

واذكر - أيها الرسول - ذلك اليوم الذي تتشقق فيه السماء، ويظهر من فتحاتها السحاب الأبيض الرقيق، وينزل الله ملائكة السموات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في المحشر، ويأتي الله تبارك وتعالى لفصل القضاء بين العباد، إتيانًا يليق بجلاله.

ص: 362

المُلْك الحق في هذا اليوم للرحمن وحده دون مَن سواه، وكان هذا اليوم صعبًا شديدًا على الكافرين، لما ينالهم من العقاب والعذاب الأليم.

ص: 362

واذكر - أيها الرسول - يوم يَعَضُّ الظالم لنفسه على يديه ندمًا وتحسرًا قائلا يا ليتني صاحبت رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم واتبعته في اتخاذ الإسلام طريقًا إلى الجنة، ويتحسَّر قائلا يا ليتني لم أتخذ الكافر فلانًا صديقًا أتبعه وأوده. لقد أضلَّني هذا الصديق عن القرآن بعد إذ جاءني. وكان الشيطان الرجيم خذولا للإنسان دائمًا. وفي هذه الآيات التحذير من مصاحبة قرين السوء؛ فإنه قد يكون سببًا لإدخال قرينه النار.

ص: 362

وقال الرسول شاكيًا ما صنع قومه: يا ربِّ إن قومي تركوا هذا القرآن وهجروه، متمادين في إعراضهم عنه وتَرْكِ تدبُّره والعمل به وتبليغه. وفي الآية تخويف عظيم لمن هجر القرآن فلم يعمل به.

ص: 362

وكما جعلنا لك - أيها الرسول - أعداء من مجرمي قومك، جعلنا لكل نبيٍّ من الأنبياء عدوًا من مجرمي قومه، فاصبر كما صبروا. وكفى بربك هاديًا ومرشدًا ومعينًا يعينك على أعدائك. وفي هذا تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 362

وقال الذين كفروا: هلا أنزل القرآن على محمد جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور! قال الله سبحانه وتعالى: كذلك أنزلناه مفرقًا؛ لنقوِّي به قلبك وتزداد به طمأنينة، فتعيه وتحمله، وبيَّنَّاه في تثبت ومُهْلَة.

ص: 362

ولا يأتيك - أيها الرسول - المشركون بحجة أو شبهة إلا جئناك بالجواب الحق وبأحسن بيان له.

ص: 363

أولئك الكفار هم الذين يُسحبون على وجوههم إلى جهنم، وأولئك هم شر الناس منزلة، وأبعدهم طريقًا عن الحق.

ص: 363

ولقد آتينا موسى التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون معينًا له، فقلنا لهما: اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذَّبوا بدلائل ربوبيتنا وألوهيتنا، فذهبا إليهم، فدَعَواهم إلى الإيمان بالله وطاعته وعدم الإشراك به، فكذَّبوهما، فأهلكناهم إهلاكًا عظيمًا.

ص: 363

وأغرقنا قوم نوح بالطوفان حين كذَّبوه. ومن كذب رسولا فقد كذب الرسل جميعًا. وجعلنا إغراقهم للناس عبرة، وجعلنا لهم ولمن سلك سبيلهم في التكذيب يوم القيامة عذابًا موجعًا.

ص: 363

وأهلكنا عادًا قوم هود، وثمود قوم صالح، وأصحاب البئر وأممًا كثيرة بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرسِّ، لا يعلمهم إلا الله.

ص: 363

وكل الأمم بيَّنَّا لهم الحجج، ووضَّحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، ومع ذلك لم يؤمنوا، فأهلكناهم بالعذاب إهلاكًا.

ص: 363

ولقد كان مشركو «مكة» يمرون في أسفارهم على قرية قوم لوط، وهي قرية «سدوم» التي أُهلِكت بالحجارة من السماء، فلم يعتبروا بها، بل كانوا لا يرجون معادًا يوم القيامة يجازون فيه.

ص: 363

وإذا رآك هؤلاء المكذبون - أيها الرسول - استهزؤوا بك قائلين: أهذا الذي يزعم أن الله بعثه رسولا إلينا؟ إنه قارب أن يصرفنا عن عبادة أصنامنا بقوة حجته وبيانه، لولا أن ثَبَتْنا على عبادتها، وسوف يعلمون حين يرون ما يستحقون من العذاب: مَن أضل دينًا أهم أم محمد؟

ص: 363

انظر - أيها الرسول - متعجبًا إلى مَن أطاع هواه كطاعة الله، أفأنت تكون عليه حفيظًا حتى تردَّه إلى الإيمان؟

ص: 363

أم تظن أن أكثرهم يسمعون آيات الله سماع تدبر، أو يفهمون ما فيها؟ ما هم إلا كالبهائم في عدم الانتفاع بما يسمعونه، بل هم أضل طريقًا منها.

ص: 364

ألم تر كيف مدَّ الله الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؟ ولو شاء لجعله ثابتًا مستقرًا لا تزيله الشمس، ثم جعلنا الشمس علامة يُستَدَلُّ بأحوالها على أحواله، ثم تَقَلَّصَ الظل يسيرًا يسيرًا، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصانه. وذلك من الأدلة على قدرة الله وعظمته، وأنه وحده المستحق للعبادة دون سواه.

ص: 364

والله تعالى هو الذي جعل لكم الليل ساترًا لكم بظلامه كما يستركم اللباس، وجعل النوم راحة لأبدانكم، وجعل لكم النهار؛ لتنتشروا في الأرض، وتطلبوا معايشكم.

ص: 364

وهو الذي أرسل الرياح التي تحمل السحاب، تبشر الناس بالمطر رحمة منه، وأنزلنا من السماء ماء يُتَطَهَّر به؛ لنخرج به النبات في مكان لا نبات فيه، فيحيا البلد الجدب بعد موات، ونُسْقي ذلك الماء مِن خَلْقِنا كثيرًا من الأنعام والناس.

ص: 364

ولقد أنزلنا المطر على أرض دون أخرى؛ ليذكر الذين أنزلنا عليهم المطر نعمة الله عليهم، فيشكروا له، وليذكر الذين مُنعوا منه، فيسارعوا بالتوبة إلى الله -جل وعلا- ليرحمهم ويسقيهم، فأبى أكثر الناس إلا جحودًا لنعمنا عليهم، كقولهم: مطرنا بنَوْء كذا وكذا.

ص: 364

ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا، يدعوهم إلى الله عز وجل، وينذرهم عذابه، ولكنا جعلناك - أيها الرسول - مبعوثًا إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن، فلا تطع الكافرين في ترك شيء مما أرسلتَ به، بل ابذل جهدك في تبليغ الرسالة، وجاهد الكافرين بهذا القرآن جهادًا كبيرًا، لا يخالطه فتور.

ص: 364

والله هو الذي خلط البحرين: العذب السائغ الشراب، والملح الشديد الملوحة، وجعل بينهما حاجزًا يمنع كل واحدٍ منهما من إفساد الآخر، ومانعًا مِن أن يصل أحدهما إلى الآخر.

ص: 364

وهو الذي خلق مِن منيِّ الرجل والمرأة ذرية ذكورًا وإناثًا، فنشأ من هذا قرابة النسب وقرابة المصاهرة. وكان ربك قديرًا على خلق ما يشاء.

ص: 364

ومع كل هذه الدلائل على قدرة الله وإنعامه على خلقه يَعبدُ الكفار مِن دون الله ما لا ينفعهم إن عبدوه، ولا يضرهم إن تركوا عبادته، وكان الكافر عونًا للشيطان على ربه بالشرك في عبادة الله، مُظَاهِرًا له على معصيته.

ص: 364

وما أرسلناك - أيها الرسول - إلا مبشرًا للمؤمنين بالجنة ومنذرًا للكافرين بالنار.

ص: 365

قل لهم: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة أيَّ أجر، لكنْ من أراد أن يهتدي ويسلك سبيل الحق إلى ربه وينفق في مرضاته، فلست أُجبركم عليه، وإنما هو خير لأنفسكم.

ص: 365

وتوكل على الله الذي له جميع معاني الحياة الكاملة كما يليق بجلاله الذي لا يموت، ونزِّهه عن صفات النقصان. وكفى بالله خبيرًا بذنوب خلقه، لا يخفى عليه شيء منها، وسيحاسبهم عليها ويجازيهم بها.

ص: 365

الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش -أي علا وارتفع- استواءً يليق بجلاله، هو الرحمن، فاسأل - أيها النبي - به خبيرًا، يعني بذلك سبحانه نفسه الكريمة، فهو الذي يعلم صفاته وعظمته وجلاله. ولا أحد من البشر أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 365

وإذا قيل للكافرين: اسجدوا للرحمن واعبدوه قالوا: ما نعرف الرحمن، أنسجد لما تأمرنا بالسجود له طاعة لأمرك؟ وزادهم دعاؤهم إلى السجود للرحمن بُعْداً عن الإيمان ونفورًا منه.

ص: 365

عَظُمَتْ بركات الرحمن وكثر خيره، الذي جعل في السماء النجوم الكبار بمنازلها، وجعل فيها شمسًا تضيء وقمرًا ينير.

ص: 365

وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبَيْن يَخْلُف أحدهما الآخر لمن أراد أن يعتبر بما في ذلك إيمانًا بالمدبِّر الخالق، أو أراد أن يشكر لله تعالى على نعمه وآلائه.

ص: 365

وعباد الرحمن الصالحون يمشون على الأرض بسكينة متواضعين، وإذا خاطبهم الجهلة السفهاء بالأذى أجابوهم بالمعروف من القول، وخاطبوهم خطابًا يَسْلَمون فيه من الإثم، ومن مقابلة الجاهل بجهله.

ص: 365

والذين يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم، متذللين له بالسجود والقيام.

ص: 365

والذين هم مع اجتهادهم في العبادة يخافون الله فيدعونه أن ينجيهم من عذاب جهنم، إن عذابها يلازم صاحبه. إن جهنم شر قرار وإقامة.

ص: 365

والذين إذا أنفقوا من أموالهم لم يتجاوزوا الحد في العطاء، ولم يضيِّقوا في النفقة، وكان إنفاقهم وسطًا بين التبذير والتضييق.

ص: 365

والذين يوحدون الله، ولا يدعون ولا يعبدون إلهًا غيره، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به: من كفر بعد إيمان، أو زنى بعد زواج، أو قتل نفس عدوانًا، ولا يزنون، بل يحفظون فروجهم، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ومن يفعل شيئًا من هذه الكبائر يَلْقَ في الآخرة عقابًا. يُضاعَفْ له العذاب يوم القيامة، ويَخْلُدْ فيه ذليلا حقيرًا. (والوعيد بالخلود لمن فعلها كلَّها، أو لمن أشرك بالله) . لكن مَن تاب مِن هذه الذنوب توبة نصوحًا وآمن إيمانًا جازمًا مقرونًا بالعمل الصالح، فأولئك يمحو الله عنهم سيئاتهم ويجعل مكانها حسنات؛ بسبب توبتهم وندمهم. وكان الله غفورًا لمن تاب، رحيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بأكبر المعاصي. ومن تاب عمَّا ارتكب من الذنوب، وعمل عملا صالحا فإنه بذلك يرجع إلى الله رجوعًا صحيحًا، فيقبل الله توبته ويكفر ذنوبه.

ص: 366

والذين لا يشهدون بالكذب ولا يحضرون مجالسه، وإذا مروا بأهل الباطل واللغو من غير قصد مرُّوا معرضين منكرين يتنزهون عنه، ولا يرضونه لغيرهم.

ص: 366

والذين إذا وُعِظُوا بآيات القرآن ودلائل وحدانية الله لم يتغافلوا عنها، كأنهم صمٌّ لم يسمعوها، وعُمْيٌ لم يبصروها، بل وَعَتْها قلوبهم، وتفتَّحت لها بصائرهم، فخرُّوا لله ساجدين مطيعين.

ص: 366

والذين يسألون الله تعالى قائلين: ربنا هب لنا مِن أزواجنا وذريَّاتنا ما تَقَرُّ به أعيننا، وفيه أنسنا وسرورنا، واجعلنا قدوة يُقتدى بنا في الخير.

ص: 366

أولئك الذين اتصفوا بالصفات السابقة من عباد الرحمن، يثابون أعلى منازل الجنة؛ برحمة الله وبسبب صبرهم على الطاعات، وسَيُلَقَّوْن في الجنة التحية والتسليم من الملائكة، والحياة الطيبة والسلامة مِنَ الآفات، خالدين فيها أبدًا مِن غير موت، حَسُنَتْ مستقرًا يَقِرُّون فيه ومقامًا يقيمون به، لا يبغون عنها تحولا.

ص: 366

أخبر الله تعالى أنه لا يبالي ولا يعبأ بالناس، لولا دعاؤهم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة، فقد كَذَّبتم -أيها الكافرون- فسوف يكون تكذيبكم مُفْضِيًا لعذاب يلزمكم لزوم الغريم لغريمه، ويهلككم في الدنيا والآخرة.

ص: 366

(طسم) سبق الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.

ص: 367

هذه آيات القرآن الموضِّح لكل شيء الفاصل بين الهدى والضلال.

ص: 367

لعلك - أيها الرسول - من شدة حرصك على هدايتهم مُهْلِك نفسك؛ لأنهم لم يصدِّقوا بك ولم يعملوا بهديك، فلا تفعل ذلك.

ص: 367

إن نشأ ننزل على المكذبين من قومك من السماء معجزة مخوِّفة لهم تلجئهم إلى الإيمان، فتصير أعناقهم خاضعة ذليلة، ولكننا لم نشأ ذلك; فإن الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب اختيارًا.

ص: 367

وما يجيء هؤلاء المشركين المكذبين مِن ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَث إنزاله، شيئًا بعد شيء، يأمرهم وينهاهم، ويذكرهم بالدين الحق إلا أعرضوا عنه، ولم يقبلوه.

ص: 367

فقد كذَّبوا بالقرآن واستهزؤوا به، فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يستهزئون به ويسخرون منه، وسيحلُّ بهم العذاب جزاء تمردهم على ربهم.

ص: 367

أكذبوا ولم ينظروا إلى الأرض التي أنبتنا فيها من كل نوع حسن نافع من النبات، لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين؟ إن في إخراج النبات من الأرض لَدلالة واضحة على كمال قدرة الله، وما كان أكثر القوم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز على كل مخلوق، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.

ص: 367

واذكر - أيها الرسول - لقومك إذ نادى ربك موسى: أن ائت القوم الظالمين، قوم فرعون، وقل لهم: ألا يخافون عقاب الله تعالى، ويتركون ما هم عليه من الكفر والضلال؟

ص: 367

قال موسى: رب إني أخاف أن يكذبوني في الرسالة، ويملأ صدري الغمُّ لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بالدعوة فأرسِلْ جبريل بالوحي إلى أخي هارون؛ ليعاونني ويصدقني فيما أقول، ويبين لهم ما أخاطبهم به، فهو أفصح مني نطقاً. ولهم علي ذنب في قتل رجل منهم، وهو القبطي، فأخاف أن يقتلوني به.

ص: 367

قال الله لموسى: كلا لن يقتلوك، وقد أجبت طلبك في هارون، فاذهبا بالمعجزات الدالة على صدقكما، إنا معكم بالعلم والحفظ والنصرة مستمعون. فأتِيَا فرعون فقولا له: إنا مرسَلان إليك وإلى قومك من رب العالمين: أن اترك بني إسرائيل؛ ليذهبوا معنا.

ص: 367

قال فرعون لموسى -ممتنًا عليه-: ألم نُرَبِّك في منازلنا صغيرًا، ومكثت في رعايتنا سنين من عُمُرك وارتكبت جنايةً بقتلك رجلا من قومي حين ضربته ودفعته، وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي؟

ص: 367

قال موسى مجيبًا لفرعون: فعلتُ ما ذكرتَ قبل أن يوحي الله إلي، ويبعثني رسولا فخرجت من بينكم فارًّا إلى «مدين» ، لمَّا خفت أن تقتلوني بما فعلتُ من غير عَمْد، فوهب لي ربي تفضلا منه النبوة والعلم، وجعلني من المرسلين. أو تلك التربية في بيتك تَعُدُّها نعمة منك عليَّ، وقد جعلت بني إسرائيل عبيدًا تذبح أبناءهم وتستبقي نساءهم للخدمة والامتهان؟

ص: 368

قال فرعون لموسى: وما رب العالمين الذي تدَّعي أنك رسوله؟

ص: 368

قال موسى: هو مالك ومدبر السموات والأرض وما بينهما، إن كنتم موقنين بذلك، فآمِنوا.

ص: 368

قال فرعون لمن حوله مِن أشراف قومه: ألا تسمعون مقالة موسى العجيبة بوجود رب سواي؟

ص: 368

قال موسى: الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فكيف تعبدون مَن هو مخلوق مثلكم، وله آباء قد فنوا كآبائكم؟

ص: 368

قال فرعون لخاصته يستثير غضبهم؛ لتكذيب موسى إياه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، يتكلم كلامًا لا يُعْقَل!

ص: 368

قال موسى: رب المشرق والمغرب وما بينهما وما يكون فيهما من نور وظلمة، وهذا يستوجب الإيمان به وحده إن كنتم من أهل العقل والتدبر!

ص: 368

قال فرعون لموسى مهددًا له: لئن اتخذت إلهًا غيري لأسجننك مع مَن سجنت.

ص: 368

قال موسى: أتجعلني من المسجونين، ولو جئتك ببرهان قاطع يتبين منه صدقي؟

ص: 368

قال فرعون: فأت به إن كنت من الصادقين في دعواك.

ص: 368

فألقى موسى عصاه فتحولت ثعبانًا حقيقيًا، ليس تمويهًا كما يفعل السحرة، وأخرج يده مِن جيبه فإذا هي بيضاء كالثلج من غير برص، تَبْهَر الناظرين.

ص: 368

قال فرعون لأشراف قومه خشية أن يؤمنوا: إن موسى لَساحر ماهر، يريد أن يخرجكم بسحره من أرضكم، فأي شيء تشيرون به في شأنه أتبع رأيكم فيه؟

ص: 368

قال له قومه: أخِّر أمر موسى وهارون، وأرسِلْ في المدائن جندًا جامعين للسحرة، يأتوك بكلِّ مَن أجاد السحر، وتفوَّق في معرفته.

ص: 368

فَجُمع السحرة، وحُدِّد لهم وقت معلوم، هو وقت الضحى من يوم الزينة الذي يتفرغون فيه من أشغالهم، ويجتمعون ويتزيَّنون؛ وذلك للاجتماع بموسى. وحُثَّ الناس على الاجتماع; أملا في أن تكون الغلبة للسحرة.

ص: 368

إننا نطمع أن تكون الغلبة للسحرة، فنثبت على ديننا.

ص: 369

فلما جاء السحرة فرعون قالوا له: أإن لنا لأجرًا مِن مال أو جاه، إنْ كنا نحن الغالبين لموسى؟

ص: 369

قال فرعون: نعم لكم عندي ما طلبتم مِن أجر، وإنكم حينئذ لمن المقربين لديَّ.

ص: 369

قال موسى للسحرة مريدًا إبطال سحرهم وإظهار أن ما جاء به ليس سحرًا: ألقوا ما تريدون إلقاءه من السحر.

ص: 369

فألقَوا حبالهم وعصيَّهم، وخُيِّل للناس أنها حيَّات تسعى، وأقسموا بعزة فرعون قائلين: إننا لنحن الغالبون.

ص: 369

فألقى موسى عصاه، فإذا هي حية عظيمة، تبتلع ما صدر منهم من إفك وتزوير.

ص: 369

فلما شاهدوا ذلك، وعلموا أنه ليس من تمويه السحرة، آمنوا بالله وسجدوا له، وقالوا: آمنَّا برب العالمين رب موسى وهارون.

ص: 369

قال فرعون للسحرة مستنكرًا: آمنتم لموسى بغير إذن مني، وقال موهمًا أنَّ فِعْل موسى سحر: إنه لكبيركم الذي علَّمكم السحر، فلسوف تعلمون ما ينزل بكم من عقاب: لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف: بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكس ذلك، ولأصلبنَّكم أجمعين.

ص: 369

قال السحرة لفرعون: لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا، إنا راجعون إلى ربنا فيعطينا النعيم المقيم. إنا نرجو أن يغفر لنا ربنا خطايانا من الشرك وغيره; لكوننا أول المؤمنين في قومك.

ص: 369

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: أَنْ سِرْ ليلا بمن آمن من بني إسرائيل؛ لأن فرعون وجنوده متبعوكم حتى لا يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر.

ص: 369

فأرسل فرعون جنده -حين بلغه مسير بني إسرائيل- يجمعون جيشه من مدائن مملكته.

ص: 369

قال فرعون: إن بني إسرائيل الذين فرُّوا مع موسى لَطائفة حقيرة قليلة العدد، وإنهم لمالئون صدورنا غيظًا؛ حيث خالفوا ديننا، وخرجوا بغير إذننا، وإنا لجميع متيقظون مستعدون لهم.

ص: 369

فأخرج الله فرعون وقومه من أرض «مصر» ذات البساتين وعيون الماء وخزائن المال والمنازل الحسان. وكما أخرجناهم، جعلنا هذه الديار من بعدهم لبني إسرائيل.

ص: 369

فلحق فرعون وجنده موسى ومَن معه وقت شروق الشمس.

ص: 369

فلما رأى كل واحد من الفريقين الآخر قال أصحاب موسى: إنَّ جَمْعَ فرعون مُدْرِكنا ومهلكنا.

ص: 370

قال موسى لهم: كلا ليس الأمر كما ذكرتم فلن تُدْرَكوا; إن معي ربي بالنصر، سيهديني لما فيه نجاتي ونجاتكم.

ص: 370

فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضرب، فانفلق البحر إلى اثني عشر طريقًا بعدد قبائل بني إسرائيل، فكانت كل قطعة انفصلت من البحر كالجبل العظيم.

ص: 370

وقرَّبْنا هناك فرعون وقومه حتى دخلوا البحر، وأنجينا موسى ومَن معه أجمعين. فاستمر البحر على انفلاقه حتى عبروا إلى البر، ثم أغرقنا فرعون ومن معه بإطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه.

ص: 370

إن في ذلك الذي حدث لَعبرة عجيبة دالة على قدرة الله، وما صار أكثر أتباع فرعون مؤمنين مع هذه العلامة الباهرة.

ص: 370

وإن ربك لهو العزيز الرحيم، بعزته أهلك الكافرين المكذبين، وبرحمته نجَّى موسى ومَن معه أجمعين.

ص: 370

واقصص على الكافرين - أيها الرسول - خبر إبراهيم حين قال لأبيه وقومه: أي شيء تعبدونه؟

ص: 370

قالوا: نعبد أصنامًا، فنَعْكُف على عبادتها.

ص: 370

قال إبراهيم منبهًا على فساد مذهبهم: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم، أو يقدِّمون لكم نفعًا إذا عبدتموهم، أو يصيبونكم بضر إذا تركتم عبادتهم؟

ص: 370

قالوا: لا يكون منهم شيء من ذلك، ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونهم، فقلَّدناهم فيما كانوا يفعلون.

ص: 370

قال إبراهيم: أفأبصرتم بتدبر ما كنتم تعبدون من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، أنتم وآباؤكم الأقدمون من قبلكم؟ فإن ما تعبدونهم من دون الله أعداء لي، لكن رب العالمين ومالك أمرهم هو وحده الذي أعبده. هو الذي خلقني في أحسن صورة فهو يرشدني إلى مصالح الدنيا والآخرة، وهو الذي ينعم عليَّ بالطعام والشراب، وإذا أصابني مرض فهو الذي يَشْفيني ويعافيني منه، وهو الذي يميتني في الدينا بقبض روحي، ثم يحييني يوم القيامة، لا يقدر على ذلك أحد سواه، والذي أطمع أن يتجاوز عن ذنبي يوم الجزاء.

ص: 370

قال إبراهيم داعيًا ربه: ربِّ امنحني العلم والفهم، وألحقني بالصالحين، واجمع بيني وبينهم في الجنة.

ص: 370

واجعل لي ثناء حسنًا وذكرًا جميلا في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.

ص: 371

واجعلني من عبادك الذين تورثهم نعيم الجنة.

ص: 371

وهذا دعاء من إبراهيم عليه السلام أن ينقذ الله أباه من الضلال إلى الهدى، فيغفر له ويتجاوز عنه، كما وعد إبراهيم أباه بالدعاء له، فلما تبيَّن له أنه مستمر في الكفر والشرك إلى أن يموت تبرَّأ منه.

ص: 371

ولا تُلْحق بي الذل، يوم يخرج الناس من القبور للحساب والجزاء، يوم لا ينفع المال والبنون أحدًا من العباد، إلا مَن أتى الله بقلب سليم من الكفر والنفاق والرذيلة.

ص: 371

وقُرِّبت الجنة للذين اجتنبوا الكفر والمعاصي، وأقبلوا على الله بالطاعة.

ص: 371

وأُظهرت النار للكافرين الذين ضَلُّوا عن الهدى، وتجرَّؤوا على محارم الله وكذَّبوا رسله.

ص: 371

وقيل لهم توبيخًا: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها مِن دون الله، وتزعمون أنها تشفع لكم اليوم؟ هل ينصرونكم، فيدفعون العذاب عنكم، أو ينتصرون بدفع العذاب عن أنفسهم؟ لا شيء من ذلك.

ص: 371

فجُمِعوا وألقُوا في جهنم، هم والذين أضلوهم وأعوان إبليس الذين زيَّنوا لهم الشر، لم يُفْلِت منهم أحد.

ص: 371

قالوا معترفين بخطئهم، وهم يتنازعون في جهنم مع مَن أضلوهم، تالله إننا كنا في الدنيا في ضلال واضح لا خفاء فيه; إذ نسويكم برب العالمين المستحق للعبادة وحده. وما أوقعنا في هذا المصير السيِّئ إلا المجرمون الذين دعونا إلى عبادة غير الله فاتبعناهم.

ص: 371

فلا أحدَ يشفع لنا، ويخلِّصنا من العذاب، ولا مَن يَصْدُق في مودتنا ويشفق علينا.

ص: 371

فليت لنا رجعة إلى الدنيا، فنصير من جملة المؤمنين الناجين.

ص: 371

إن في نبأ إبراهيم السابق لَعبرة لِمن يعتبر، وما صار أكثر الذين سمعوا هذا النبأ مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز القادر على الانتقام من المكذبين، الرحيم بعباده المؤمنين.

ص: 371

كَذَّبت قوم نوح رسالة نبيهم، فكانوا بهذا مكذبين لجميع الرسل; لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تخشون الله بترك عبادة غيره؟ إني لكم رسول أمين فيما أبلغكم، فاجعلوا الإيمان وقاية لكم من عذاب الله وأطيعوني فيما آمركم به من عبادته وحده. وما أطلب منكم أجرًا على تبليغ الرسالة، ما أجري إلا على رب العالمين، المتصرف في خلقه، فاحذروا عقابه، وأطيعوني بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

ص: 371

قال له قومه: كيف نصدِّقك ونتبعك، والذين اتبعوك أراذل الناس وأسافلهم؟

ص: 371

فأجابهم نوح عليه السلام بقوله: لست مكلفًا بمعرفة أعمالهم، إنما كُلفت أن أدعوهم إلى الإيمان. والاعتبار بالإيمان لا بالحسب والنسب والحِرف والصنائع.

ص: 372

ما حسابهم للجزاء على أعمالهم وبواطنهم إلا على ربي المطَّلِع على السرائر. لو كنتم تشعرون بذلك لما قلتم هذا الكلام.

ص: 372

وما أنا بطارد الذين يؤمنون بدعوتي، مهما تكن حالهم؛ تلبية لرغبتكم كي تؤمنوا بي. ما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.

ص: 372

عدل قوم نوح عن المحاورة إلى التهديد، فقالوا له: لئن لم ترجع -يا نوح- عن دعوتك لتكوننَّ مِنَ المقتولين رميًا بالحجارة.

ص: 372

فلما سمع نوح قولهم هذا دعا ربه بقوله: رب إن قومي أصروا على تكذيبي، فاحكم بيني وبينهم حكمًا تُهلك به مَن جحد توحيدك وكذَّب رسولك، ونجني ومَن معي من المؤمنين مما تعذب به الكافرين.

ص: 372

فأنجيناه ومَن معه في السفينة المملوءة بصنوف المخلوقات التي حملها معه.

ص: 372

ثم أغرقنا بعد إنجاء نوح ومن معه الباقين، الذين لم يؤمنوا مِن قومه وردُّوا عليه النصيحة.

ص: 372

إن في نبأ نوح وما كان من إنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين لَعلامة وعبرةً عظيمة لمن بعدهم، وما كان أكثر الذين سمعوا هذه القصة مؤمنين بالله وبرسوله وشرعه.

ص: 372

وإن ربك لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بعباده المؤمنين.

ص: 372

كذَّبت قبيلة عاد رسولهم هودًا عليه السلام فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسل؛ لاتحاد دعوتهم في أصولها وغايتها.

ص: 372

إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تخشون الله فتخلصوا له العبادة؟ إني مرسَل إليكم لهدايتكم وإرشادكم، حفيظ على رسالة الله، أبلِّغها لكم كما أمرني ربي، فخافوا عقاب الله وأطيعوني فيما جئتكم به من عند الله. وما أطلب منكم على إرشادكم إلى التوحيد أيَّ نوع من أنواع الأجر، ما أجري إلا على رب العالمين.

ص: 372

أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عاليًا تشرفون منه فتسخرون مِنَ المارة؟ وذلك عبث وإسراف لا يعود عليكم بفائدة في الدين أو الدنيا، وتتخذون قصورًا منيعة وحصونًا مشيَّدة، كأنكم تخلدون في الدنيا ولا تموتون، وإذا بطشتم بأحد من الخلق قتلا أو ضربًا، فعلتم ذلك قاهرين ظالمين.

ص: 372

فخافوا الله، وامتثلوا ما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم، واخشوا الله الذي أعطاكم من أنواع النعم ما لا خفاء فيه عليكم، أعطاكم الأنعام: من الإبل والبقر والغنم، وأعطاكم الأولاد، وأعطاكم البساتين المثمرة، وفجَّر لكم الماء من العيون الجارية.

ص: 372

قال هود عليه السلام محذرًا لهم: إني أخاف إن أصررتم على ما أنتم عليه من التكذيب والظلم وكُفْر النِّعم، أن ينزل الله بكم عذابًا في يوم تعظم شدته من هول عذابه.

ص: 372

قالوا له: يستوي عندنا تذكيرك وتخويفك لنا وتركه، فلن نؤمن لك.

ص: 372

وقالوا: ما هذا الذي نحن عليه إلا دين الأولين وعاداتهم، وما نحن بمعذبين على ما نفعل مما حَذَّرْتنا منه من العذاب.

ص: 373

فاستمَرُّوا على تكذيبه، فأهلكهم الله بريح باردة شديدة. إن في ذلك الإهلاك لَعبرة لمن بعدهم، وما كان أكثر الذين سمعوا قصتهم مؤمنين بك. وإن ربك لهو العزيز الغالب على ما يريده من إهلاك المكذبين، الرحيم بالمؤمنين.

ص: 373

كذَّبت قبيلة ثمود أخاهم صالحًا في رسالته ودعوته إلى توحيد الله، فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسل; لأنهم جميعًا يدعون إلى توحيد الله.

ص: 373

إذ قال لهم أخوهم صالح: ألا تخشون عقاب الله، فتُفرِدونه بالعبادة؟ إني مرسَل من الله إليكم، حفيظ على هذه الرسالة كما تلقيتها عن الله، فاحذروا عقابه تعالى، وامتثلوا ما دعوتكم إليه. وما أطلب منكم على نصحي وإرشادي لكم أي جزاء، ما جزائي إلا على رب العالمين.

ص: 373

أيترككم ربكم فيما أنتم فيه من النعيم مستقرين في هذه الدنيا آمنين من العذاب والزوال والموت؟ في حدائق مثمرة وعيون جارية وزروع كثيرة ونخل ثمرها يانع لين نضيج، وتنحتون من الجبال بيوتًا ماهرين بنحتها، أَشِرين بَطِرين.

ص: 373

فخافوا عقوبة الله، واقبلوا نصحي، ولا تنقادوا لأمر المسرفين على أنفسهم المتمادين في معصية الله الذين دأبوا على الإفساد في الأرض إفسادًا لا إصلاح فيه.

ص: 373

قالت ثمود لنبيها صالح: ما أنت إلا من الذين سُحروا سِحْرًا كثيرًا، حتى غلب السحر على عقلك. ما أنت إلا فرد مماثل لنا في البشرية من بني آدم، فكيف تتميز علينا بالرسالة؟ فأت بحجة واضحة تدل على ثبوت رسالتك، إن كنت صادقًا في دعواك أن الله أرسلك إلينا.

ص: 373

قال لهم صالح -وقد أتاهم بناقة أخرجها الله له من الصخرة-: هذه ناقة الله لها نصيب من الماء في يوم معلوم، ولكم نصيب منه في يوم آخر. ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم، ولا تنالوها بشيء مما يسوءها كضَرْبٍ أو قتل أو نحو ذلك، فيهلككم الله بعذابِ يومٍ تعظم شدته؛ بسبب ما يقع فيه من الهول والشدة.

ص: 373

فنحروا الناقة، فأصبحوا متحسرين على ما فعلوا لَمَّا أيقنوا بالعذاب، فلم ينفعهم ندمهم.

ص: 373

فنزل بهم عذاب الله الذي توعدهم به صالح عليه السلام، فأهلكهم. إن في إهلاك ثمود لَعبرة لمن اعتبر بهذا المصير، وما كان أكثرهم مؤمنين.

ص: 373

وإن ربك لهو العزيز القاهر المنتقم من أعدائه المكذبين، الرحيم بمن آمن من خلقه.

ص: 373

كَذَّبت قوم لوط برسالته، فكانوا بهذا مكذبين لسائر رسل الله؛ لأن ما جاؤوا به من التوحيد وأصول الشرائع واحد.

ص: 374

إذ قال لهم أخوهم لوط: ألا تخشون عذاب الله؟ إني رسول من ربكم، أمين على تبليغ رسالته إليكم، فاحذروا عقاب الله على تكذيبكم رسوله، واتبعوني فيما دعوتكم إليه، وما أسألكم على دعوتي لهدايتكم أيَّ أجر، ما أجري إلا على رب العالمين.

ص: 374

أتنكحون الذكور مِن بني آدم، وتتركون ما خلق الله لاستمتاعكم وتناسلكم مِن أزواجكم؟ بل أنتم قوم -بهذه المعصية- متجاوزون ما أباحه الله لكم من الحلال إلى الحرام.

ص: 374

قال قوم لوط: لئن لم تترك يا لوط نَهْيَنا عن إتيان الذكور وتقبيح فعله، لتكونن من المطرودين من بلادنا.

ص: 374

قال لوط لهم: إني لِعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكور، لَمن المبغضين له بغضًا شديدًا.

ص: 374

ثم دعا لوط ربه حينما يئس من استجابتهم له قائلا ربِّ أنقذني وأنقذ أهلي مما يعمله قومي مِن هذه المعصية القبيحة، ومِن عقوبتك التي ستصيبهم.

ص: 374

فنجيناه وأهل بيته والمستجيبين لدعوته أجمعين إلا عجوزًا من أهله، وهي امرأته، لم تشاركهم في الإيمان، فكانت من الباقين في العذاب والهلاك.

ص: 374

ثم أهلكنا مَن عداهم من الكفرة أشدَّ إهلاك، وأنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر أهلكتهم، فقَبُحَ مطرُ من أنذرهم رسلهم ولم يستجيبوا لهم؛ فقد أُنزل بهم أشدُّ أنواع الهلاك والتدمير.

ص: 374

إن في ذلك العقاب الذي نزل بقوم لوط لَعبرة وموعظة، يتعظ بها المكذبون. وما كان أكثرهم مؤمنين.

ص: 374

وإن ربك لهو العزيز الغالب الذي يقهر المكذبين، الرحيم بعباده المؤمنين.

ص: 374

كذَّب أصحاب الأرض ذات الشجر الملتف رسولهم شعيبًا في رسالته، فكانوا بهذا مكذِّبين لجميع الرسالات. إذ قال لهم شعيب: ألا تخشون عقاب الله على شرككم ومعاصيكم؟ إني مرسَل إليكم مِنَ الله لهدايتكم، حفيظ على ما أوحى الله به إليَّ من الرسالة، فخافوا عقاب الله، واتبعوا ما دعوتكم إليه مِن هداية الله؛ لترشدوا، وما أطلب منكم على دعائي لكم إلى الإيمان بالله أيَّ جزاء، ما جزائي إلا على رب العالمين.

ص: 374

قال لهم شعيب -وقد كانوا يُنْقِصون الكيل والميزان-: أتمُّوا الكيل للناس وافيًا لهم، ولا تكونوا ممن يُنْقِصون الناس حقوقهم، وَزِنوا بالميزان العدل المستقيم، ولا تنقصوا الناس شيئًا مِن حقوقهم في كيل أو وزن أو غير ذلك، ولا تكثروا في الأرض الفساد، بالشرك والقتل والنهب وتخويف الناس وارتكاب المعاصي.

ص: 374

واحذروا عقوبة الله الذي خلقكم وخلق الأمم المتقدمة عليكم.

ص: 375

قالوا: إنما أنت -يا شعيب- مِنَ الذين أصابهم السحر إصابة شديدة، فذهب بعقولهم، وما أنت إلا واحد مثلنا في البشرية، فكيف تختص دوننا بالرسالة؟ وإن أكبر ظننا أنك من الكاذبين فيما تدَّعيه من الرسالة. فإن كنت صادقًا في دعوى النبوة، فادع الله أن يسقط علينا قطع عذاب من السماء تستأصلنا.

ص: 375

قال لهم شعيب: ربي أعلم بما تعملونه مِنَ الشرك والمعاصي، وبما تستوجبونه من العقاب.

ص: 375

فاستمَرُّوا على تكذيبه، فأصابهم الحر الشديد، وصاروا يبحثون عن ملاذ يستظلون به، فأظلتهم سحابة، وجدوا لها بردًا ونسيمًا، فلما اجتمعوا تحتها، التهبت عليهم نارًا فأحرقتهم، فكان هلاكهم جميعًا في يوم شديد الهول.

ص: 375

إن في ذلك العقاب الذي نزل بهم، لَدلالة واضحة على قدرة الله في مؤاخذة المكذبين، وعبرة لمن يعتبر، وما كان أكثرهم مؤمنين متعظين بذلك.

ص: 375

وإن ربك - أيها الرسول - لهو العزيز في نقمته ممن انتقم منه من أعدائه، الرحيم بعباده الموحدين.

ص: 375

وإن هذا القرآن الذي ذُكِرَتْ فيه هذه القصص الصادقة، لَمنزَّل مِن خالق الخلق، ومالك الأمر كله، نزل به جبريل الأمين، فتلاه عليك - أيها الرسول - حتى وعيته بقلبك حفظًا وفهمًا؛ لتكون مِن رسل الله الذين يخوِّفون قومهم عقاب الله، فتنذر بهذا التنزيل الإنس والجن أجمعين. نزل به جبريل عليك بلغة عربية واضحة المعنى، ظاهرة الدلالة، فيما يحتاجون إليه في إصلاح شؤون دينهم ودنياهم.

ص: 375

وإنَّ ذِكْرَ هذا القرآن لَمثبتٌ في كتب الأنبياء السابقين، قد بَشَّرَتْ به وصَدَّقَتْه.

ص: 375

أو لم يَكْفِ هؤلاء -في الدلالة على أنك رسول الله، وأن القرآن حق- عِلْمُ علماء بني إسرائيل صحة ذلك، ومَن آمن منهم كعبد الله بن سلام؟

ص: 375

ولو نَزَّلنا القرآن على بعض الذين لا يتكلمون بالعربية، فقرأه على كفار قريش قراءة عربية صحيحة، لكفروا به أيضًا، وانتحلوا لجحودهم عذرًا. كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين جحود القرآن، وصار متمكنًا فيها؛ وذلك بسبب ظلمهم وإجرامهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عمَّا هم عليه من إنكار القرآن، حتى يعاينوا العذاب الشديد الذي وُعِدوا به.

ص: 375

فينزل بهم العذاب فجأة، وهم لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه، فيقولون عند مفاجأتهم به تحسُّرًا على ما فاتهم من الإيمان: هل نحن مُمْهَلون مُؤخَّرون؛ لنتوب إلى الله مِن شركنا، ونستدرك ما فاتنا؟

ص: 375

أَغَرَّ هؤلاء إمهالي، فيستعجلون نزول العذاب عليهم من السماء؟

ص: 375

أفعلمت - أيها الرسول - إن مَتَّعناهم بالحياة سنين طويلة بتأخير آجالهم، ثم نزل بهم العذاب الموعود؟

ص: 375

ما أغنى عنهم تمتعهم بطول العمر، وطيب العيش، إذا لم يتوبوا من شركهم؟ فعذاب الله واقع بهم عاجلا أم آجلا.

ص: 376

وما أهلكنا مِن قرية من القرى في الأمم جميعًا، إلا بعد أن نرسل إليهم رسلا ينذرونهم، تذكرة لهم وتنبيهًا على ما فيه نجاتهم، وما كنا ظالمين فنعذب أمة قبل أن نرسل إليها رسولا.

ص: 376

وما تَنَزَّلَتْ بالقرآن على محمد الشياطين -كما يزعم الكفرة- ولا يصح منهم ذلك، وما يستطيعونه؛ لأنهم عن استماع القرآن من السماء محجوبون مرجومون بالشهب.

ص: 376

فلا تعبد مع الله معبودًا غيره، فينزل بك من العذاب ما نزل بهؤلاء الذين عبدوا مع الله غيره.

ص: 376

وحذِّر - أيها الرسول - الأقرب فالأقرب مِن قومك، مِن عذابنا، أن ينزل بهم.

ص: 376

وأَلِنْ جانبك وكلامك تواضعًا ورحمة لمن ظهر لك منه إجابة دعوتك.

ص: 376

فإن خالفوا أمرك ولم يتبعوك، فتبرَّأ من أعمالهم، وما هم عليه من الشرك والضلال.

ص: 376

وفَوِّضْ أمرك إلى الله العزيز الذي لا يغالَب ولا يُقْهَر، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه، وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة وحدك في جوف الليل، ويرى تقلُّبك مع الساجدين في صلاتهم معك قائمًا وراكعًا وساجدًا وجالسًا، إنه -سبحانه- هو السميع لتلاوتك وذكرك، العليم بنيتك وعملك.

ص: 376

هل أخبركم -أيها الناس- على مَن تنزَّل الشياطين؟ تتنزل على كل كذَّاب كثير الآثام من الكهنة، يَسْتَرِقُ الشياطين السمع، يتخطفونه من الملأ الأعلى، فيلقونه إلى الكهان، ومَن جرى مجراهم مِنَ الفسقة، وأكثر هؤلاء كاذبون، يَصْدُق أحدهم في كلمة، فيزيد فيها أكثر مِن مائة كذبة.

ص: 376

والشعراء يقوم شعرهم على الباطل والكذب، ويجاريهم الضالون الزائغون مِن أمثالهم. ألم تر - أيها النبي - أنهم يذهبون كالهائم على وجهه، يخوضون في كل فن مِن فنون الكذب والزور وتمزيق الأعراض والطعن في الأنساب وتجريح النساء العفائف، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، يبالغون في مدح أهل الباطل، وينتقصون أهل الحق؟

ص: 376

استثنى الله من الشعراءِ الشعراءَ الذين اهتدَوْا بالإيمان وعملوا الصالحات، وأكثروا مِن ذِكْر الله فقالوا الشعر في توحيد الله -سبحانه- والثناء عليه جلَّ ذكره، والدفاع عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالحكمة والموعظة والآداب الحسنة، وانتصروا للإسلام، يهجون مَن يهجوه أو يهجو رسوله، ردًّا على الشعراء الكافرين. وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي، وظلموا غيرهم بغمط حقوقهم، أو الاعتداء عليهم، أو بالتُّهم الباطلة، أي مرجع من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه؟ إنَّه منقلب سوء، نسأل الله السلامة والعافية.

ص: 376

(طس) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

هذه آيات القرآن وهي آيات الكتاب العزيز بينة المعنى، واضحة الدلالة، على ما فيه من العلوم والحكم والشرائع. فالقرآن هو الكتاب، جمع الله له بين الاسمين.

ص: 377

وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والآخرة، وتبشر بحسن الثواب للمؤمنين الذين صَدَّقوا بها، واهتدَوْا بهديها، الذين يقيمون الصلوات الخمس كاملة الأركان، مستوفية الشروط، ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها، وهم يوقنون بالحياة الآخرة، وما فيها مِن ثواب وعقاب.

ص: 377

إن الذين لا يُصَدِّقون بالدار الآخرة، ولا يعملون لها حسَّنَّا لهم أعمالهم السيئة، فرأوها حسنة، فهم يترددون فيها متحيِّرين. أولئك الذين لهم العذاب السيِّئ في الدنيا قتلا وأَسْرًا وذُلا وهزيمةً، وهم في الآخرة أشد الناس خسرانًا.

ص: 377

وإنك -أيها الرسول- لتتلقى القرآن من عند الله، الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا.

ص: 377

اذكر قصة موسى حين قال لأهله في مسيره من «مدين» إلى «مصر» : إني أبصَرْتُ نارًا سآتيكم منها بخبر يدلنا على الطريق، أو آتيكم بشعلة نار; كي تستدفئوا بها من البرد.

ص: 377

فلما جاء موسى النارَ ناداه الله وأخبره أن هذا مكانٌ قدَّسه الله وباركه فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله، وأن الله بارك مَن في النار ومَن حولها مِنَ الملائكة، وتنزيهًا لله رب الخلائق عما لا يليق به. يا موسى إنه أنا الله المستحق للعبادة وحدي، العزيز الغالب في انتقامي من أعدائي، الحكيم في تدبير خلقي. وألق عصاك فألقاها فصارت حية، فلما رآها تتحرك في خفة تَحَرُّكَ الحية السريعة ولَّى هاربًا ولم يرجع إليها، فطمأنه الله بقوله: يا موسى لا تَخَفْ، إني لا يخاف لديَّ من أرسلتهم برسالتي، لكن مَن تجاوز الحدَّ بذنب، ثم تاب فبدَّل حُسْن التوبة بعد قبح الذنب، فإني غفور له رحيم به، فلا ييئس أحدٌ من رحمة الله ومغفرته. وأدخل يدك في فتحة قميصك المفتوحة إلى الصدر تخرج بيضاء كالثلج من غير بَرَص في جملة تسع معجزات، وهي مع اليد: العصا، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم؛ لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه، إنهم كانوا قومًا خارجين عن أمر الله كافرين به.

ص: 377

فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيِّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما دلت عليه، قالوا: هذا سحرٌ واضحٌ بيِّن.

ص: 377

وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدلالة على صدق موسى في نبوته وصدق دعوته، وأنكروا بألسنتهم أن تكون من عند الله، وقد استيقنوها في قلوبهم اعتداءً على الحق وتكبرًا على الاعتراف به، فانظر -أيها الرسول- كيف كان مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الأرض، إذ أغرقهم الله في البحر؟ وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.

ص: 378

ولقد آتينا داود وسليمان علمًا فعملا به، وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا بهذا على كثير من عباده المؤمنين. وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع أهله.

ص: 378

وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك، وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس عُلِّمنا وفُهِّمنا كلام الطير، وأُعطينا مِن كل شيء تدعو إليه الحاجة، إن هذا الذي أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي يُمَيِّزنا على مَن سوانا.

ص: 378

وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم، فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين، بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا جميعًا منتظمين.

ص: 378

حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يهلكنَّكم سليمان وجنوده، وهم لا يعلمون بذلك. فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل، واستشعر نعمة الله عليه، فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني، ووفقني، أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ، وأن أعمل عملا صالحًا ترضاه مني، وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم.

ص: 378

وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب منها، وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده، فقال: ما لي لا أرى الهدهد الذي أعهده؟ أسَتَره ساتر عني، أم أنه كان من الغائبين عني، فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه غائب قال: لأعذبنَّ هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا له، أو لأذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخلَّ بما سُخِّر له، أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة، فيها عذر لغيبته.

ص: 378

فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على مغيبه وتخلُّفه، فقال له الهدهد: علمت ما لم تعلمه من الأمر على وجه الإحاطة، وجئتك من مدينة «سبأ» بـ «اليمن» بخبر خطير الشأن، وأنا على يقين منه.

ص: 378

إني وجدت امرأةً تحكم أهل «سبأ» ، وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا، ولها سرير عظيم القدر، تجلس عليه لإدارة ملكها.

ص: 379

وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة الله، وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها، فصرفهم عن الإيمان بالله وتوحيده، فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده.

ص: 379

حسَّن لهم الشيطان ذلك; لئلا يسجدوا لله الذي يُخرج المخبوء المستور في السموات والأرض من المطر والنبات وغير ذلك، ويعلم ما تُسرُّون وما تظهرون. الله الذي لا معبود يستحق العبادة سواه، رب العرش العظيم الذي هو (*) أعظم المخلوقات.

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أي العرش

ص: 379

قال سليمان للهدهد: سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر أصدقت في ذلك أم كنت من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي هذا إلى أهل «سبأ» فأعطهم إياه، ثم تنحَّ عنهم قريبًا منهم بحيث تسمع كلامهم، فتأمل ما يتردد بينهم من الكلام.

ص: 379

ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته، فجمعت أشراف قومها، وسمعها تقول لهم: إني وصل إليَّ كتاب جليل المقدار من شخص عظيم الشأن.

ص: 379

ثم بيَّنت ما فيه فقالت: إنه من سليمان، وإنه مفتتح بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه، وأقْبِلوا إليَّ منقادين لله بالوحدانية والطاعة مسلمين له.

ص: 379

قالت: يا أيها الأشراف أشيروا عليَّ في هذا الأمر، ما كنت لأفصل في أمر إلا بمحضركم ومشورتكم.

ص: 379

قالوا مجيبين لها: نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة وأصحاب النجدة والشجاعة في شدة الحرب، والأمر موكول إليكِ، وأنتِ صاحبة الرأي، فتأملي ماذا تأمريننا به؟ فنحن سامعون لأمرك مطيعون لك.

ص: 379

قالت محذرةً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة، ومبيِّنة لهم سوء مغبَّة القتال: إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قريةً عنوةً وقهرًا خرَّبوها وصيَّروا أعزَّة أهلها أذلة، وقتلوا وأسروا، وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على أن يهابوهم. وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة مشتملة على نفائس الأموال أصانعه بها، ومنتظرة ما يرجع به الرسل.

ص: 379

فلمَّا جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان، قال مستنكرًا ذلك متحدثًا بأَنْعُمِ الله عليه: أتمدونني بمالٍ تَرْضيةً لي؟ فما أعطاني الله من النبوة والملك والأموال الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم، بل أنتم الذين تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم; لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها.

ص: 380

وقال سليمان عليه السلام لرسول أهل «سبأ» : ارجع إليهم، فوالله لنأتينَّهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها ومقابلتها، ولنخرجنَّهم مِن أرضهم أذلة وهم صاغرون مهانون، إن لم ينقادوا لدين الله وحده، ويتركوا عبادة من سواه.

ص: 380

قال سليمان مخاطبًا من سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟

ص: 380

قال مارد قويٌّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا الذي تجلس فيه للحكم بين الناس، وإني لقويٌّ على حَمْله، أمين على ما فيه، آتي به كما هو لا أُنقِص منه شيئًا ولا أبدله.

ص: 380

قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا تحرَّكَتْ للنظر في شيء. فأذن له سليمان فدعا الله، فأتى بالعرش. فلما رآه سليمان حاضرًا لديه ثابتًا عنده قال: هذا مِن فضل ربي الذي خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني: أأشكر بذلك اعترافًا بنعمته تعالى عليَّ أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله على نعمه فإنَّ نَفْعَ ذلك يرجع إليه، ومن جحد النعمة وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره، كريم يعم بخيره في الدنيا الشاكر والكافر، ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة.

ص: 380

قال سليمان لمن عنده: غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس عليه إلى حال تنكره إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم تكون من الذين لا يهتدون؟

ص: 380

فلما جاءت ملكة «سبأ» إلى سليمان في مجلسه قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: إنه يشبهه. فظهر لسليمان أنها أصابت في جوابها، وقد علمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان عليه السلام، فقال: وأوتينا العلم بالله وبقدرته مِن قبلها، وكنا منقادين لأمر الله متبعين لدين الاسلام.

ص: 380

ومَنَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده مِن دون الله تعالى، إنها كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين، واستمرت على دينهم، وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما تعرف به الحق من الباطل، ولكن العقائد الباطلة تُذهب بصيرة القلب.

ص: 380

قيل لها: ادخلي القصر، وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء، فلما رأته ظنته ماء تتردد أمواجه، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صاف والماء تحته. فأدركت عظمة ملك سليمان، وقالت: رب إني ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك، وانقدتُ متابعة لسليمان داخلة في دين رب العالمين أجمعين.

ص: 380

ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا: أن وحِّدوا الله، ولا تجعلوا معه إلهًا آخر، فلما أتاهم صالحٌ داعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده صار قومه فريقين: أحدهما مؤمن به، والآخر كافر بدعوته، وكل منهم يزعم أن الحق معه.

ص: 381

قال صالح للفريق الكافر: لِمَ تبادرون الكفر وعمل السيئات الذي يجلب لكم العذاب، وتؤخرون الإيمان وفِعْل الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هلا تطلبون المغفرة من الله ابتداء، وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا.

ص: 381

قال قوم صالح له: تَشاءَمْنا بك وبمن معك ممن دخل في دينك، قال لهم صالح: ما أصابكم الله مِن خير أو شر فهو مقدِّره عليكم ومجازيكم به، بل أنتم قوم تُخْتَبرون بالسراء والضراء والخير والشر.

ص: 381

وكان في مدينة صالح -وهي «الحِجْر» الواقعة في شمال غرب جزيرة العرب- تسعة رجال، شأنهم الإفساد في الأرض، الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.

ص: 381

قال هؤلاء التسعة بعضهم لبعض: تقاسموا بالله بأن يحلف كل واحد للآخرين: لنأتينَّ صالحًا بغتة في الليل فنقتله ونقتل أهله، ثم لنقولَنَّ لوليِّ الدم مِن قرابته: ما حضرنا قتلهم، وإنا لصادقون فيما قلناه.

ص: 381

ودبَّروا هذه الحيلة لإهلاك صالح وأهله مكرًا منهم، فنصرنا نبينا صالحًا عليه السلام، وأخذناهم بالعقوبة على غِرَّة، وهم لا يتوقعون كيدنا لهم جزاءً على كيدهم.

ص: 381

فانظر -أيها الرسول- نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلاء الرهط بنبيهم صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين.

ص: 381

فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد، أهلكهم الله; بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك، وتكذيب نبيهم. إن في ذلك التدمير والإهلاك لَعظة لقوم يعلمون ما فعلناه بهم، وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين.

ص: 381

وأنجينا مما حلَّ بثمود من الهلاك صالحًا عليه السلام والمؤمنين به، الذين كانوا يتقون بإيمانهم عذاب الله.

ص: 381

واذكر لوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفعلة المتناهية في القبح، وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم للشهوة عوضًا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون حقَّ الله عليكم، فخالفتم بذلك أمره، وعَصَيْتُم رسوله بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين.

ص: 381

فما كان لقوم لوط جواب له إلا قول بعضهم لبعض: أَخْرجوا آل لوط من قريتكم، إنهم أناس يتنزهون عن إتيان الذكران. قالوا لهم ذلك استهزاءً بهم.

ص: 382

فأنجينا لوطًا وأهله من العذاب الذي سيقع بقوم لوط، إلا امرأته قدَّرناها من الباقين في العذاب حتى تهلك مع الهالكين; لأنها كانت عونًا لقومها على أفعالهم القبيحة راضية بها.

ص: 382

وأمطرنا عليهم من السماء حجارة مِن طين مهلكة، فقَبُحَ مطر المنذَرين، الذين قامت عليهم الحجة.

ص: 382

قل -أيها الرسول-: الثناء والشكر لله، وسلام منه، وأَمَنَةٌ على عباده الذين تخيرهم لرسالته، ثم اسأل مشركي قومك هل الله الذي يملك النفع والضر خير أو الذي يشركون من دونه، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا؟

ص: 382

واسألهم مَن خلق السموات والأرض، وأنزل لكم من السماء ماء، فأنبت به حدائق ذات منظر حسن؟ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها، لولا أن الله أنزل عليكم الماء من السماء. إن عبادته سبحانه هي الحق، وعبادة ما سواه هي الباطل. أمعبود مع الله فعل هذه الأفعال حتى يُعبد معه ويُشرك به؟ بل هؤلاء المشركون قوم ينحرفون عن طريق الحق والإيمان، فيسوون بالله غيره في العبادة والتعظيم.

ص: 382

أعبادة ما تشركون بربكم خير أم الذي جعل لكم الأرض مستقرًا وجعل وسطها أنهارًا، وجعل لها الجبال ثوابت، وجعل بين البحرين العذب والملح حاجزًا حتى لا يُفسد أحدهما الآخر؟ أمعبود مع الله فَعَلَ ذلك حتى تشركوه معه في عبادتكم؟ بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر عظمة الله، فهم يشركون به تقليدًا وظلمًا.

ص: 382

أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يجيب المكروب إذا دعاه، ويكشف السوء النازل به، ويجعلكم خلفاء لمن سبقكم في الأرض؟ أمعبود مع الله ينعم عليكم هذه النعم؟ قليلا ما تذكرون وتعتبرون، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.

ص: 382

أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يرشدكم في ظلمات البر والبحر إذا ضللتم فأظلمت عليكم السبل، والذي يرسل الرياح مبشرات بما يرحم به عباده مِن غيث يحيي موات الأرض؟ أمعبود مع الله يفعل بكم شيئًا من ذلك فتدعونه من دونه؟ تنزَّه الله وتقدَّس عما يشركون به غيره.

ص: 382

واسألهم من الذي ينشئ الخلق ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده، ومَن الذي يرزقكم من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بإنبات الزرع وغيره؟ أمعبود سوى الله يفعل ذلك؟ قل: هاتوا حجتكم إن كنتم صادقين في زعمكم أن لله تعالى شريكًا في ملكه وعبادته.

ص: 383

قل -أيها الرسول- لهم: لا يعلم أحد في السموات ولا في الأرض ما استأثر الله بعلمه من المغيَّبات، ولا يدرون متى هم مبعوثون مِن قبورهم عند قيام الساعة؟ بل تكامل علمهم في الآخرة، فأيقنوا بالدار الآخرة، وما فيها مِن أهوال حين عاينوها، وقد كانوا في الدنيا في شك منها، بل عميت عنها بصائرهم.

ص: 383

وقال الذين جحدوا وحدانية الله: أنحن وآباؤنا مبعوثون أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا بعد أن صرنا ترابًا؟

ص: 383

لقد وُعدنا هذا البعث نحن وآباؤنا مِن قبل، فلم نر لذلك حقيقة ولم نؤمن به، ما هذا الوعد إلا مما سطَّره الأولون من الأكاذيب في كتبهم وافتروه.

ص: 383

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين: سيروا في الأرض، فانظروا إلى ديار مَن كان قبلكم من المجرمين، كيف كان عاقبة المكذبين للرسل؟ أهلكهم الله بتكذيبهم، والله فاعل بكم مثلهم إن لم تؤمنوا.

ص: 383

ولا تحزن على إعراض المشركين عنك وتكذيبهم لك، ولا يَضِقْ صدرك مِن مكرهم بك، فإن الله ناصرك عليهم.

ص: 383

ويقول مشركو قومك -أيها الرسول-: متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تَعِدُنا به أنت وأتباعك إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟

ص: 383

قل لهم -أيها الرسول-: عسى أن يكون قد اقترب لكم بعض الذي تستعجلون من عذاب الله.

ص: 383

وإنَّ ربك لذو فضل على الناس; بتركه معاجلتهم بالعقوبة على معصيتهم إياه وكفرهم به، ولكن أكثرهم لا يشكرون له على ذلك، فيؤمنوا به ويخلصوا له العبادة.

ص: 383

وإن ربك لَيعلم ما تخفيه صدور خلقه وما يظهرونه.

ص: 383

وما مِن شيء غائب عن أبصار الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب واضح عند الله. قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان وما يكون.

ص: 383

إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل الحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها.

ص: 383

وإن هذا القرآن لهداية من الضلال ورحمة من العذاب، لمن صدَّق به واهتدى بهداه.

ص: 384

إن ربك يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم بحكمه فيهم، فينتقم من المبطل، ويجازي المحسن. وهو العزيز الغالب، فلا يُرَدُّ قضاؤه، العليم، فلا يلتبس عليه حق بباطل.

ص: 384

فاعتمد -أيها الرسول- في كل أمورك على الله، وثق به; فإنه كافيك، إنك على الحق الواضح الذي لا شك فيه.

ص: 384

إنك -أيها الرسول- لا تقدر أن تُسمع الحق مَن طبع الله على قلبه فأماته، ولا تُسمع دعوتك مَن أصمَّ الله سمعه عن سماع الحق عند إدبارهم معرضين عنك، فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلا، فكيف إذا كان معرضًا عنه موليًا مدبرًا؟

ص: 384

وما أنت -أيها الرسول- بهادٍ عن الضلالة مَن أعماه الله عن الهدى والرشاد، ولا يمكنك أن تُسمع إلا مَن يصدِّق بآياتنا، فهم مسلمون مطيعون، مستجيبون لما دعوتهم إليه.

ص: 384

وإذا وجب العذاب عليهم; لتماديهم في المعاصي والطغيان، وإعراضهم عن شرع الله وحكمه، حتى صاروا من شرار خلقه، أخرجنا لهم من الأرض في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى، وهي «الدابة» ، تحدثهم أن الناس المنكرين للبعث كانوا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ودينه لا يصدقون ولا يعملون.

ص: 384

ويوم نجمع يوم الحشر من كل أمة جماعة، ممن يكذب بأدلتنا وحججنا، يُحْبَس أولهم على آخرهم; ليجتمعوا كلهم، ثم يساقون إلى الحساب.

ص: 384

حتى إذا جاء من كل أمة فوج ممن يكذب بآياتنا فاجتمعوا قال الله: أكذَّبْتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي واستحقاقي وحدي للعبادة ولم تحيطوا علمًا ببطلانها، حتى تُعرضوا عنها وتُكَذِّبوا بها، أم أي شيء كنتم تعملون؟ وحقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم وتكذيبهم، فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم ما حلَّ بهم من سوء العذاب.

ص: 384

ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا جعلنا الليل يستقرُّون فيه وينامون، والنهار يبصرون فيه للسعي في معاشهم؟ إن في تصريفهما لَدلالة لقوم يؤمنون بكمال قدرة الله ووحدانيَّته وعظيم نعمه.

ص: 384

واذكر -أيها الرسول- يوم يَنفخ الملَك في «القرن» ففزع مَن في السموات ومَن في الأرض فزعًا شديدًا مِن هول النفخة، إلا مَنِ استثناه الله ممن أكرمه وحفظه من الفزع، وكل المخلوقات يأتون إلى ربهم صاغرين مطيعين.

ص: 384

وترى الجبال تظنها واقفة مستقرة، وهي تسير سيرًا حثيثًا كسير السحاب الذي تسيِّره الرياح، وهذا مِن صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقنه. إن الله خبير بما تفعلون أيها الناس من خير وشر، وسيجازيهم على ذلك.

ص: 384

من جاء بتوحيد الله والإيمان به وعبادته وحده، والأعمال الصالحة يوم القيامة، فله عند الله من الأجر العظيم ما هو خير منها وأفضل، وهو الجنة، وهم يوم الفزع الأكبر آمنون.

ص: 385

ومن جاء بالشرك والأعمال السيئة المنكرة، فجزاؤهم أن يكبَّهم الله على وجوههم في النار يوم القيامة، ويقال لهم توبيخًا: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا؟

ص: 385

قل -أيها الرسول- للناس: إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة، وهي «مكة» ، الذي حَرَّمها على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا حرامًا، أو يظلموا فيها أحدًا، أو يصيدوا صيدها، أو يقطعوا شجرها، وله سبحانه كل شيء، وأُمرت أن أعبده وحده دون مَن سواه، وأُمرت أن أكون من المنقادين لأمره، المبادرين لطاعته، وأن أتلو القرآن على الناس، فمن اهتدى بما فيه واتبع ما جئت به، فإنما خير ذلك وجزاؤه لنفسه، ومن ضلَّ عن الحق فقل -أيها الرسول-: إنما أنا نذير لكم من عذاب الله وعقابه إن لم تؤمنوا، فأنا واحد من الرسل الذين أنذروا قومهم، وليس بيدي من الهداية شيء.

ص: 385

وقل -أيها الرسول-: الثناء الجميل لله، سيريكم آياته في أنفسكم وفي السماء والأرض، فتعرفونها معرفة تدلكم على الحق، وتبيِّن لكم الباطل، وما ربك بغافل عما تعملون، وسيجازيكم على ذلك.

ص: 385

(طسم) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 385

هذه آيات القرآن الذي أنزلته إليك -أيها الرسول-، مبينًا لكل ما يحتاج إليه العباد في دنياهم وأخراهم.

ص: 385

نقصُّ عليك من خبر موسى وفرعون بالصدق لقوم يؤمنون بهذا القرآن، ويصدِّقون بأنه من عند الله، ويعملون بهديه.

ص: 385

إن فرعون تكبر وطغى في الأرض، وجعل أهلها طوائف متفرقة، يستضعف طائفة منهم، وهم بنو إسرائيل، يذبِّح أبناءهم، ويستعبد نساءهم، إنه كان من المفسدين في الأرض.

ص: 385

ونريد أن نتفضل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض، ونجعلهم قادةً في الخير ودعاةً إليه، ونجعلهم يرثون الأرض بعد هلاك فرعون وقومه.

ص: 385

ونمكن لهم في الأرض، ونجعل فرعون وهامان وجنودهما يرون من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه مِن هلاكهم وذهاب ملكهم، وإخراجهم من ديارهم على يد مولود من بني إسرائيل.

ص: 386

وألْهمنا أم موسى حين ولدته وخشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بني إسرائيل: أن أرضعيه مطمئنة، فإذا خشيت أن يُعرف أمره فضعيه في صندوق وألقيه في النيل، دون خوف من فرعون وقومه أن يقتلوه، ودون حزن على فراقه، إنا رادُّو ولدك إليك وباعثوه رسولا. فوضعته في صندوق وألقته في النيل، فعثر عليه أعوان فرعون وأخذوه، فكانت عاقبةُ ذلك ما قدره الله بأن يكون موسى عدوا لهم بمخالفة دينهم، وموقعا لهم في الحزن بإغراقهم وزوال ملكهم على يده. إن فرعون وهامان وأعوانهما كانوا آثمين مشركين.

ص: 386

ولمَّا شاهدته امرأة فرعون ألقى الله محبته في قلبها، وقالت لفرعون: هذا الطفل سيكون مصدر سرور لي ولك، لا تقتلوه; فقد نصيب منه خيرًا أو نتخذه ولدًا، وفرعون وآله لا يدركون أن هلاكهم على يديه.

ص: 386

وأصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره، وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها، فصبرت ولم تُبْدِ به; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به.

ص: 386

وقالت أم موسى لأخته حين ألقته في اليم: اتَّبِعي أثر موسى كيف يُصْنَع به؟ فتتبعت أثره فأبصرته عن بُعْد، وقوم فرعون لا يعرفون أنها أخته، وأنها تتبع خبره.

ص: 386

وحرمنا على موسى المراضع أن يرتضع منهن مِن قبل أن نردَّه إلى أمه، فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يحسنون تربيته وإرضاعه، وهم مشفقون عليه؟ فأجابوها إلى ذلك.

ص: 386

فرددنا موسى إلى أمه; كي تقرَّ عينها به، ووفينا إليها بالوعد; إذ رجع إليها سليمًا مِن قتل فرعون، ولا تحزنَ على فراقه، ولتعلم أن وعد الله حق فيما وعدها مِن ردِّه إليها وجعله من المرسلين. إن الله لا يخلف وعده، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق.

ص: 386

ولما بلغ موسى أشد قوته وتكامل عقله، آتيناه حكمًا وعلمًا يعرف بهما الأحكام الشرعية، وكما جزينا موسى على طاعته وإحسانه نجزي مَن أحسن مِن عبادنا.

ص: 387

ودخل موسى المدينة مستخفيًا وقت غفلة أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان: أحدهما من قوم موسى من بني إسرائيل، والآخر من قوم فرعون، فطلب الذي من قوم موسى النصر على الذي من عدوه، فضربه موسى بجُمْع كفِّه فمات، قال موسى حين قتله: هذا من نزغ الشيطان، بأن هيَّج غضبي، حتى ضربت هذا فهلك، إن الشيطان عدو لابن آدم، مضل عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة. وهذا العمل من موسى عليه السلام كان قبل النبوة.

ص: 387

قال موسى: رب إني ظلمت نفسي بقتل النفس التي لم تأمرني بقتلها فاغفر لي ذلك الذنب، فغفر الله له. إن الله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم.

ص: 387

قال موسى: ربِّ بما أنعمت عليَّ بالتوبة والمغفرة والنعم الكثيرة، فلن أكون معينًا لأحد على معصيته وإجرامه.

ص: 387

فأصبح موسى في مدينة فرعون خائفًا يترقب الأخبار مما يتحدث به الناس في أمره وأمر قتيله، فرأى صاحبه بالأمس يقاتل قبطيًا آخر، ويطلب منه النصر، قال له موسى: إنك لكثير الغَواية ظاهر الضلال.

ص: 387

فلما أن أراد موسى أن يبطش بالقبطي، قال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ ما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض، وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.

ص: 387

وجاء رجل من آخر المدينة يسعى، قال يا موسى: إن أشراف قوم فرعون يتآمرون بقتلك، ويتشاورون، فاخرج من هذه المدينة، إني لك من الناصحين المشفقين عليك.

ص: 387

فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا ينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، فدعا الله أن ينقذه من القوم الظالمين.

ص: 387

ولما قصد موسى بلاد «مدين» وخرج من سلطان فرعون قال: عسى ربي أن يرشدني خير طريق إلى «مدين» .

ص: 388

ولما وصل ماء «مدين» وجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم، ووجد من دون تلك الجماعة امرأتين منفردتين عن الناس، تحبسان غنمهما عن الماء; لعجزهما وضعفهما عن مزاحمة الرجال، وتنتظران حتى تَصْدُر عنه مواشي الناس، ثم تسقيان ماشيتهما، فلما رآهما موسى عليه السلام رقَّ لهما، ثم قال: ما شأنكما؟ قالتا: لا نستطيع مزاحمة الرجال، ولا نسقي حتى يسقي الناس، وأبونا شيخ كبير، لا يستطيع أن يسقي ماشيته؛ لضعفه وكبره.

ص: 388

فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما، ثم تولى إلى ظل شجرة فاستظلَّ بها وقال: رب إني مفتقر إلى ما تسوقه إليَّ مِن أي خير كان، كالطعام. وكان قد اشتد به الجوع.

ص: 388

فجاءت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تسير إليه في حياء، قالت: إن أبي يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا، فمضى موسى معها إلى أبيها، فلما جاء أباها وقصَّ عليه قصصه مع فرعون وقومه، قال له أبوها: لا تَخَفْ نجوت من القوم الظالمين، وهم فرعون وقومه؛ إذ لا سلطان لهم بأرضنا.

ص: 388

قالت إحدى المرأتين لأبيها: يا أبت استأجره ليرعى لك ماشيتك; إنَّ خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك، الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه.

ص: 388

قال الشيخ لموسى: إني أريد أن أزوِّجك إحدى ابنتيَّ هاتين، على أن تكون أجيرًا لي في رعي ماشيتي ثماني سنين مقابل ذلك، فإن أكملت عشر سنين فإحسان من عندك، وما أريد أن أشق عليك بجعلها عشرا، ستجدني إن شاء الله من الصالحين في حسن الصحبة والوفاء بما قلتُ.

ص: 388

قال موسى: ذلك الذي قلته قائم بيني وبينك، أي المدتين أَقْضِها في العمل أكن قد وفيتك، فلا أُطالَب بزيادة عليها، والله على ما نقول وكيل حافظ يراقبنا، ويعلم ما تعاقدنا عليه.

ص: 388

فلما وفى نبي الله موسى عليه السلام صاحبه المدة عشر سنين، وهي أكمل المدتين، وسار بأهله إلى «مصر» أبصر من جانب الطور نارًا، قال موسى لأهله: تمهلوا وانتظروا إني أبصرت نارًا; لعلي آتيكم منها بنبأ، أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها.

ص: 389

فلما أتى موسى النار ناداه الله من جانب الوادي الأيمن لموسى في البقعة المباركة من جانب الشجرة: أن يا موسى إني أنا الله رب العالين، وأن ألق عصاك، فألقاها موسى، فصارت حية تسعى، فلما رآها موسى تضطرب كأنها جانٌّ من الحيات ولَّى هاربًا منها، ولم يلتفت من الخوف، فناداه ربه: يا موسى أقبل إليَّ ولا تَخَفْ; إنك من الآمنين من كل مكروه.

ص: 389

أدخل يدك في فتحة قميصك المفتوحة إلى الصدر، وأخرجها تخرج بيضاء كالثلج مِن غير مرض ولا برص، واضمم إليك يدك لتأمن من الخوف، فهاتان اللتان أريتُكَهما يا موسى: مِن تحوُّل العصا حية، وجَعْلِ يدك بيضاء تلمع من غير مرض ولا برص، آيتان من ربك إلى فرعون وأشراف قومه. إن فرعون وملأه كانوا قومًا كافرين.

ص: 389

قال موسى: ربِّ إني قتلت من قوم فرعون نفسًا فأخاف أن يقتلوني، وأخي هارون هو أفصح مني نطقًا، فأرسله معي عونًا يصدقني، ويبين لهم عني ما أخاطبهم به، إني أخاف أن يكذبوني في قولي لهم: إني أُرسلت إليهم.

ص: 389

قال الله لموسى: سنقوِّيك بأخيك، ونجعل لكما حجة على فرعون وقومه فلا يصلون إليكما بسوء. أنتما -يا موسى وهارون- ومَن آمن بكما المنتصرون على فرعون وقومه; بسبب آياتنا وما دلَّتْ عليه من الحق.

ص: 389

فلما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا شاهدة بحقيقة ما جاء به موسى مِن عند ربه، قالوا لموسى: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته كذبًا وباطلا وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الذين مضوا قبلنا.

ص: 390

وقال موسى لفرعون: ربي أعلم بالمحقِّ منَّا الذي جاء بالرشاد من عنده، ومَن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة، إنه لا يظفر الظالمون بمطلوبهم.

ص: 390

وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة، فأشْعِل لي -يا هامان- على الطين نارًا، حتى يشتد، وابْنِ لي بناء عاليًا; لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته، وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين.

ص: 390

واستعلى فرعون وجنوده في أرض «مصر» بغير الحق عن تصديق موسى واتِّباعه على ما دعاهم إليه، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون.

ص: 390

فأخذنا فرعون وجنوده، فألقيناهم جميعًا في البحر وأغرقناهم، فانظر -أيها الرسول- كيف كان نهاية هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بربهم؟

ص: 390

وجعلنا فرعون وقومه قادة إلى النار، يَقتدي بهم أهل الكفر والفسق، ويوم القيامة لا ينصرون; وذلك بسبب كفرهم وتكذيبهم رسول ربهم وإصرارهم على ذلك.

ص: 390

وأتبعنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيًا وغضبًا منا عليهم، ويوم القيامة هم من المستقذرة أفعالهم، المبعدين عن رحمة الله.

ص: 390

ولقد آتينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت من قبله -كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب «مدين» - فيها بصائر لبني إسرائيل، يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرهم، وفيها رحمة لمن عمل بها منهم; لعلهم يتذكرون نِعَم الله عليهم، فيشكروه عليها، ولا يكفروه.

ص: 390

وما كنت -أيها الرسول- بجانب الجبل الغربي من موسى إذ كلَّفناه أَمْرنا ونَهْينا، وما كنت من الشاهدين لذلك، حتى يقال: إنه وصل إليك من هذا الطريق.

ص: 391

ولكنا خلقنا أممًا من بعد موسى، فمكثوا زمنًا طويلا فنسوا عهد الله، وتركوا أمره، وما كنت مقيمًا في أهل «مدين» تقرأ عليهم كتابنا، فتعرف قصتهم وتخبر بها، ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى وحي، وشاهد على رسالتك.

ص: 391

وما كنت -أيها الرسول- بجانب جبل الطور حين نادينا موسى، ولم تشهد شيئًا من ذلك فتعلمه، ولكنا أرسلناك رحمة من ربك; لتنذر قومًا لم يأتهم مِن قبلك من نذير; لعلهم يتذكرون الخير الذي جئتَ به فيفعلوه، والشرَّ الذي نَهيتَ عنه فيجتنبوه.

ص: 391

ولولا أن ينزل بهؤلاء الكفار عذاب بسبب كفرهم بربهم، فيقولوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من قبل، فنتبع آياتك المنزلة في كتابك، ونكون من المؤمنين بك.

ص: 391

فلما جاء محمد هؤلاء القوم نذيرًا لهم، قالوا: هلا أوتي هذا الذي أُرسل إلينا مثل ما أوتي موسى من معجزات حسية، وكتابٍ نزل جملة واحدة! قل -أيها الرسول- لهم: أو لم يكفر اليهود بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: في التوراة والقرآن سحران تعاونا في سحرهما، وقالوا: نحن بكل منهما كافرون.

ص: 391

قل -أيها الرسول- لهؤلاء: فأتوا بكتاب من عند الله هو أقوم من التوراة والقرآن أتبعه، إن كنتم صادقين في زعمكم.

ص: 391

فإن لم يستجيبوا لك بالإتيان بالكتاب، ولم تبق لهم حجة، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ولا أحد أكثر ضلالا ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. إن الله لا يوفِّق لإصابة الحق القوم الظالمين الذين خالفوا أمر الله، وتجاوزوا حدوده.

ص: 391

ولقد فصَّلنا وبيَّنا القرآن رحمة بقومك أيها الرسول؛ لعلهم يتذكرون، فيتعظوا به.

ص: 392

الذين آتيناهم الكتاب من قبل القرآن -وهم اليهود والنصارى الذين لم يبدِّلوا- يؤمنون بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام.

ص: 392

وإذا يتلى هذا القرآن على الذين آتيناهم الكتاب، قالوا: صدَّقنا به، وعملنا بما فيه، إنه الحق من عند ربنا، إنا كنا من قبل نزوله مسلمين موحدين، فدين الله واحد، وهو الإسلام.

ص: 392

هؤلاء الذين تقدَّمَتْ صفتُهم يُؤتَوْن ثواب عملهم مرتين: على الإيمان بكتابهم، وعلى إيمانهم بالقرآن بما صبروا، ومن أوصافهم أنهم يدفعون السيئة بالحسنة، ومما رزقناهم ينفقون في سبيل الخير والبر. وإذا سمع هؤلاء القوم الباطل من القول لم يُصْغوا إليه، وقالوا: لنا أعمالنا لا نحيد عنها، ولكم أعمالكم ووزرها عليكم، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، ولا تسمعون منَّا إلا الخير، ولا نخاطبهم بمقتضى جهلكم; لأننا لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. وهذا من خير ما يقوله الدعاة إلى الله.

ص: 392

إنك -أيها الرسول- لا تهدي هداية توفيق مَن أحببت هدايته، ولكن ذلك بيد الله يهدي مَن يشاء أن يهديه للإيمان، ويوفقه إليه، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه.

ص: 392

وقال كفار «مكة» : إن نتبع الحق الذي جئتنا به، ونتبرأ من الأولياء والآلهة، نُتَخَطَّفْ من أرضنا بالقتل والأسر ونهب الأموال، أو لم نجعلهم متمكنين في بلد آمن، حرَّمنا على الناس سفك الدماء فيه، يُجلب إليه ثمرات كل شيء رزقًا مِن لدنا؟ ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر هذه النعم عليهم، فيشكروا مَن أنعم عليهم بها ويطيعوه.

ص: 392

وكثير من أهل القرى أهلكناهم حين أَلْهَتهم معيشتهم عن الإيمان بالرسل، فكفروا وطغَوْا، فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلا منها، وكنا نحن الوارثين للعباد نميتهم، ثم يرجعون إلينا، فنجازيهم بأعمالهم.

ص: 392

وما كان ربك -أيها الرسول- مهلك القرى التي حول «مكة» في زمانك حتى يبعث في أمها -وهي «مكة» - رسولا يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله ومعصيته، فهم بذلك مستحقون للعقوبة والنكال.

ص: 392

وما أُعطيتم -أيها الناس- من شيء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا، وزينة يُتزيَّن بها، وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير وأبقى; لأنه دائم لا نفاد له، أفلا تكون لكم عقول -أيها القوم- تتدبرون بها، فتعرفون الخير من الشر؟

ص: 393

أفمَن وعدناه مِن خَلْقنا على طاعته إيانا الجنة، فهو ملاقٍ ما وُعِدَ، وصائر إليه، كمن متعناه في الحياة الدنيا متاعها، فتمتع به، وآثر لذة عاجلة على آجلة، ثم هو يوم القيامة من المحضرين للحساب والجزاء؟ لا يستوي الفريقان، فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار، وهو طاعة الله وابتغاء مرضاته.

ص: 393

ويوم ينادي الله عز وجل الذين أشركوا به الأولياء والأوثان في الدنيا، فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم لي شركاء؟

ص: 393

قال الذين حقَّ عليهم العذاب، وهم دعاة الكفر: ربنا هؤلاء الذين أضللنا، أضللناهم كما ضللنا، تبرأنا إليك مِن ولايتهم ونصرتهم، ما كانوا إيانا يعبدون، وإنما كانوا يعبدون الشياطين.

ص: 393

وقيل للمشركين بالله يوم القيامة: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، وعاينوا العذاب، لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق لما عُذِّبوا.

ص: 393

ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين، فيقول: بأيِّ شيء أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم؟

ص: 393

فخفيت عليهم الحجج، فلم يَدْروا ما يحتجون به، فهم لا يسأل بعضهم بعضًا عما يحتجون به سؤال انتفاع.

ص: 393

فأما من تاب من المشركين، وأخلص لله العبادة، وعمل بما أمره الله به ورسوله، فهو من الفائزين في الدارين.

ص: 393

وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه، ويصطفي لولايته مَن يشاء من خلقه، وليس لأحد من الأمر والاختيار شيء، وإنما ذلك لله وحده سبحانه، تعالى وتنزَّه عن شركهم.

ص: 393

وربك يعلم ما تُخفي صدور خلقه وما يظهرونه.

ص: 393

وهو الله الذي لا معبود بحق سواه، له الثناء الجميل والشكر في الدنيا والآخرة، وله الحكم بين خلقه، وإليه تُرَدُّون بعد مماتكم للحساب والجزاء.

ص: 393

قل -أيها الرسول-: أخبروني -أيها الناس- إن جعل الله عليكم الليل دائمًا إلى يوم القيامة، مَن إله غير الله يأتيكم بضياء تستضيئون به؟ أفلا تسمعون سماع فهم وقَبول؟

ص: 394

قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة، مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟

ص: 394

ومن رحمته بكم -أيها الناس- أن جعل لكم الليل والنهار فخالف بينهما، فجعل هذا الليل ظلامًا؛ لتستقروا فيه وترتاح أبدانكم، وجعل لكم النهار ضياءً; لتطلبوا فيه معايشكم، ولتشكروا له على إنعامه عليكم بذلك.

ص: 394

ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين، فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي؟

ص: 394

ونزعنا من كل أمة من الأمم المكذبة شهيدا -وهو نبيُّهم-، يشهد على ما جرى في الدنيا من شركهم وتكذيبهم لرسلهم، فقلنا لتلك الأمم التي كذبت رسلها وما جاءت به من عند الله: هاتوا حجتكم على ما أشركتم مع الله، فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم، وأن الحق لله، وذهب عنهم ما كانوا يفترون على ربهم، فلم ينفعهم ذلك، بل ضرَّهم وأوردهم نار جهنم.

ص: 394

إن قارون كان من قوم موسى عليه الصلاة والسلام فتجاوز حدَّه في الكِبْر والتجبر عليهم، وآتينا قارون من كنوز الأموال شيئًا عظيمًا، حتى إنَّ مفاتحه لَيثقل حملها على العدد الكثير من الأقوياء، إذ قال له قومه: لا تبطر فرحًا بما أنت فيه من المال، إن الله لا يحب مِن خلقه البَطِرين الذين لا يشكرون لله تعالى ما أعطاهم.

ص: 394

والتمس فيما آتاك الله من الأموال ثواب الدار الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، ولا تترك حظك من الدنيا، بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسراف، وأحسن إلى الناس بالصدقة، كما أحسن الله إليك بهذه الأموال الكثيرة، ولا تلتمس ما حرَّم الله عليك من البغي على قومك، إن الله لا يحب المفسدين، وسيجازيهم على سوء صنيعهم.

ص: 394

قال قارون لقومه الذين وعظوه: إنما أُعطيتُ هذه الكنوز بما عندي من العلم والقدرة، أو لم يعلم قارون أن الله قد أهلك مِن قبله من الأمم مَن هو أشد منه بطشًا، وأكثر جمعًا للأموال؟ ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون; لعلم الله تعالى بها، إنما يُسْألون سؤال توبيخ وتقرير، ويعاقبهم الله على ما علمه منهم.

ص: 395

فخرج قارون على قومه في زينته، مريدًا بذلك إظهار عظمته وكثرة أمواله، وحين رآه الذين يريدون زينة الحياة الدنيا قالوا: يا ليت لنا مثل ما أُعطي قارون من المال والزينة والجاه، إن قارون لذو نصيب عظيم من الدنيا.

ص: 395

وقال الذين أوتوا العلم بالله وشرعه وعرفوا حقائق الأمور للذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: ويلكم اتقوا الله وأطيعوه، ثوابُ الله لمن آمن به وبرسله، وعمل الأعمال الصالحة، خيرٌ مما أوتي قارون، ولا يَتَقَبَّل هذه النصيحة ويوفَّق إليها ويعمل بها إلا مَن يجاهد نفسه، ويصبر على طاعة ربه، ويجتنب معاصيه.

ص: 395

فخسفنا بقارون وبداره الأرض، فما كان له من جند ينصرونه من دون الله، وما كان ممتنعًا من الله إذا أحلَّ به نقمته.

ص: 395

وصار الذين تمنوا حاله بالأمس يقولون متوجعين ومعتبرين وخائفين من وقوع العذاب بهم: إن الله يوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيِّق على مَن يشاء منهم، لولا أن الله منَّ علينا فلم يعاقبنا على ما قلنا لَخسف بنا كما فعل بقارون، ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، لا في الدنيا ولا في الآخرة؟

ص: 395

تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق في الأرض ولا فسادًا فيها. والعاقبة المحمودة -وهي الجنة- لمن اتقى عذاب الله وعمل الطاعات، وترك المحرمات.

ص: 395

من جاء يوم القيامة بإخلاص التوحيد لله وبالأعمال الصالحة وَفْق ما شرع الله، فله أجر عظيم خير من ذلك، وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم، ومن جاء بالأعمال السيئة، فلا يُجْزى الذين عملوا السيئات على أعمالهم إلا بما كانوا يعملون.

ص: 395

إن الذي أنزل عليك -أيها الرسول- القرآن، وفرض عليك تبليغه والتمسُّك به، لمرجعك إلى الموضع الذي خرجت منه، وهو «مكة» ، قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: ربي أعلم مَن جاء بالهدى، ومن هو في ذهابٍ واضحٍ عن الحق.

ص: 396

وما كنت -أيها الرسول- تؤمِّل نزول القرآن عليك، لكن الله سبحانه وتعالى رحمك فأنزله عليك، فاشكر لله تعالى على نِعَمه، ولا تكوننَّ عونًا لأهل الشرك والضلال.

ص: 396

ولا يصرفَنَّك هؤلاء المشركون عن تبليغ آيات ربك وحججه، بعد أن أنزلها إليك، وبلِّغ رسالة ربك، ولا تكونن من المشركين في شيء.

ص: 396

ولا تعبد مع الله معبودًا آخر; فلا معبود بحق إلا الله، كل شيء هالك وفانٍ إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون من بعد موتكم للحساب والجزاء. وفي هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى كما يليق بكماله وعظمة جلاله.

ص: 396

{الم} سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 396

أظَنَّ الناس إذ قالوا: آمنا، أن الله يتركهم بلا ابتلاء ولا اختبار؟

ص: 396

ولقد فتنَّا الذين من قبلهم من الأمم واختبرناهم، ممن أرسلنا إليهم رسلنا، فليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق صدق الصادقين في إيمانهم، وكذب الكاذبين؛ ليميز كلَّ فريق من الآخر.

ص: 396

بل أظنَّ الذين يعملون المعاصي مِن شرك وغيره أن يعجزونا، فيفوتونا بأنفسهم فلا نقدر عليهم؟ بئس حكمهم الذي يحكمون به.

ص: 396

من كان يرجو لقاء الله، ويطمع في ثوابه، فإن أجل الله الذي أجَّله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآتٍ قريبًا، وهو السميع للأقوال، العليم بالأفعال.

ص: 396

ومن جاهد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وجاهد نفسه بحملها على الطاعة، فإنما يجاهد لنفسه؛ لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب على جهاده. إن الله لغني عن أعمال جميع خلقه، له الملك والخلق والأمر.

ص: 396

والذين صدَّقوا الله ورسوله، وعملوا الصالحات لنمحونَّ عنهم خطيئاتهم، ولنثيبنَّهم على أعمالهم الصالحة أحسن ما كانوا يعملون.

ص: 397

ووصينا الإنسان بوالديه أن يبرهما، ويحسن إليهما بالقول والعمل، وإن جاهداك -أيها الإنسان- على أن تشرك معي في عبادتي، فلا تمتثل أمرهما. ويلحق بطلب الإشراك بالله، سائر المعاصي، فلا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الله سبحانه، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إليَّ مصيركم يوم القيامة، فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئها، وأجازيكم عليها.

ص: 397

والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال، لندخلنهم الجنة في جملة عباد الله الصالحين.

ص: 397

ومن الناس من يقول: آمنا بالله، فإذا آذاه المشركون جزع من عذابهم وأذاهم، كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذيَّة منه، فارتدَّ عن إيمانه، ولئن جاء نصر من ربك -أيها الرسول- لأهل الإيمان به ليقولَنَّ هؤلاء المرتدون عن إيمانهم: إنَّا كنا معكم -أيها المؤمنون- ننصركم على أعدائكم، أو ليس الله بأعلم من كل أحد بما في صدور جميع خلقه؟

ص: 397

وليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، وليعلمنَّ المنافقين; ليميز كل فريق من الآخر.

ص: 397

وقال الذين جحدوا وحدانية الله من قريش، ولم يؤمنوا بوعيد الله ووعده، للذين صدَّقوا الله منهم وعملوا بشرعه: اتركوا دين محمد، واتبعوا ديننا، فإنا نتحمل آثام خطاياكم، وليسوا بحاملين من آثامهم من شيء، إنهم لكاذبون فيما قالوا.

ص: 397

وليحملَنَّ هؤلاء المشركون أوزار أنفسهم وآثامها، وأوزار مَن أضلوا وصدُّوا عن سبيل الله مع أوزارهم، دون أن ينقص من أوزار تابعيهم شيء، وليُسألُنَّ يوم القيامة عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب.

ص: 397

ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك، فلم يستجيبوا له، فأهلكهم الله بالطوفان، وهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم وطغيانهم.

ص: 397

فأنجينا نوحًا ومَن تبعه ممن كان معه في السفينة، وجعلنا ذلك عبرة وعظة للعالمين.

ص: 398

واذكر -أيها الرسول- إبراهيم عليه السلام حين دعا قومه: أن أخلصوا العبادة لله وحده، واتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ذلكم خير لكم، إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم مما هو شر لكم.

ص: 398

ما تعبدون -أيها القوم- مِن دون الله إلا أصنامًا، وتفترون كذبًا بتسميتكم إياها آلهة، إنَّ أوثانكم التي تعبدونها من دون الله لا تقدر أن ترزقكم شيئًا، فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم، وأخلصوا له العبادة والشكر على رزقه إياكم، إلى الله تُردُّون من بعد مماتكم، فيجازيكم على ما عملتم.

ص: 398

وإن تكذِّبوا -أيها الناس- رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادة الله وحده، فقد كذبت جماعات من قبلكم رسلها فيما دعتهم إليه من الحق، فحل بهم سخط الله، وما على الرَّسول محمد إلا أن يبلغكم عن الله رسالته البلاغ الواضح، وقد فَعَل.

ص: 398

أو لم يعلم هؤلاء كيف ينشئ الله الخلق من العدم، ثم يعيده من بعد فنائه، كما بدأه أول مرة خلقًا جديدًا، لا يتعذر عليه ذلك؟ إن ذلك على الله يسير، كما كان يسيرًا عليه إنشاؤه.

ص: 398

قل -أيها الرسول- لمنكري البعث بعد الممات: سيروا في الأرض، فانظروا كيف أنشأ الله الخلق، ولم يتعذر عليه إنشاؤه مبتدَأً؟ فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أراده.

ص: 398

يعذب مَن يشاء مِن خلقه على ما أسلف مِن جرمه في أيام حياته، ويرحم مَن يشاء منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحًا، وإليه ترجعون، فيجازيكم بما عملتم.

ص: 398

وما أنتم -أيها الناس- بمعجزي الله في الأرض ولا في السماء إن عصيتموه، وما كان لكم من دون الله مِن وليٍّ يلي أموركم، ولا نصير ينصركم من الله إن أراد بكم سوءًا.

ص: 398

والذين جحدوا حُجج الله وأنكروا أدلته، ولقاءه يوم القيامة، أولئك ليس لهم مطمع في رحمتي لَمَّا عاينوا ما أُعِدَّ لهم من العذاب، وأولئك لهم عذاب مؤلم موجع.

ص: 398

فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إلا أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو حرِّقوه بالنار، فألقوه فيها، فأنجاه الله منها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا، إن في إنجائنا لإبراهيم من النار لأدلة وحججًا لقوم يصدِّقون الله ويعملون بشرعه.

ص: 399

وقال إبراهيم لقومه: يا قوم إنما عبدتم من دون الله آلهة باطلة، اتخذتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا، تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، ثم يوم القيامة، يتبرأ بعضكم من بعض، ويلعن بعضكم بعضًا، ومصيركم جميعًا النار، وليس لكم ناصر يمنعكم من دخولها.

ص: 399

فصدَّق لوطٌ إبراهيمَ وتبع ملته. وقال إبراهيم: إني تارك دار قومي إلى الأرض المباركة وهي «الشام» ، إن الله هو العزيز الذي لا يُغَالَب، الحكيم في تدبيره.

ص: 399

ووهبنا له إسحاق ولدًا، ويعقوب من بعده وَلَدَ وَلَدٍ، وجعلنا في ذريته الأنبياء والكتب، وأعطيناه ثواب بلائه فينا، في الدنيا الذكر الحسن والولد الصالح، وإنه في الآخرة لمن الصالحين.

ص: 399

واذكر -أيها الرسول- لوطًا حين قال لقومه: إنكم لتأتون الفعلة القبيحة، ما تَقَدَّمكم بفعلها أحد من العالمين، أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم، وتقطعون على المسافرين طرقهم بفعلكم الخبيث، وتأتون في مجالسكم الأعمال المنكرة كالسخرية من الناس، وحذف المارة، وإيذائهم بما لا يليق من الأقوال والأفعال؟ وفي هذا إعلام بأنه لا يجوز أن يجتمع الناس على المنكر مما نهى الله ورسوله عنه. فلم يكن جواب قوم لوط له إلا أن قالوا: جئنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين فيما تقول، والمنجزين لما تَعِد.

ص: 399

قال: رب انصرني على القوم المفسدين بإنزال العذاب عليهم; حيث ابتدعوا الفاحشة وأصرُّوا عليها، فاستجاب الله دعاءه.

ص: 399

ولما جاءت الملائكة إبراهيم بالخبر السارِّ من الله بإسحاق، ومن وراء إسحاق ولده يعقوب، قالت الملائكة لإبراهيم: إنا مهلكو أهل قرية قوم لوط، وهي «سدوم» ; إنَّ أهلها كانوا ظالمي أنفسهم بمعصيتهم لله.

ص: 400

قال إبراهيم للملائكة: إنَّ فيها لوطًا وليس من الظالمين، فقالت الملائكة له: نحن أعلم بمن فيها، لننجِّينَّه وأهله من الهلاك الذي سينزل بأهل قريته إلا امرأته كانت من الباقين الهالكين.

ص: 400

ولما جاءت الملائكة لوطًا ساءه ذلك; لأنه ظنهم ضيوفًا من البشر، وحزن بسبب وجودهم; لعلمه خبث فعل قومه، وقالوا له: لا تَخَفْ علينا لن يصل إلينا قومك، ولا تحزن مما أخبرناك مِن أنا مهلكوهم، إنَّا منجُّوك من العذاب النازل بقومك ومنجُّو أهلك معك إلا أمرأتك، فإنها هالكة فيمن يهلك مِن قومها.

ص: 400

إنا منزلون على أهل هذه القرية عذابًا من السماء; بسبب معصيتهم لله وارتكابهم الفاحشة.

ص: 400

ولقد أبقينا مِن ديار قوم لوط آثارًا بينة لقوم يعقلون العبر، فينتفعون بها.

ص: 400

وأرسلنا إلى «مدين» أخاهم شعيبًا، فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، ما لكم من إله غيره، وارجوا بعبادتكم جزاء اليوم الآخر، ولا تكثروا في الأرض الفساد والمعاصي، ولا تقيموا عليها، ولكن توبوا إلى الله منها وأنيبوا.

ص: 400

فكذَّب أهل «مدين» شعيبًا فيما جاءهم به عن الله من الرسالة، فأخذتهم الزلزلة الشديدة، فأصبحوا في دارهم صَرْعى هالكين.

ص: 400

وأهلكنا عادًا وثمود، وقد تبين لكم من مساكنهم خَرابُها وخلاؤها منهم، وحلول نقمتنا بهم جميعًا، وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، فصدَّهم عن سبيل الله وعن طريق الإيمان به وبرسله، وكانوا مستبصرين في كفرهم وضلالهم، معجبين به، يحسبون أنهم على هدى وصواب، بينما هم في الضلال غارقون.

ص: 400

وأهلكنا قارون وفرعون وهامان، ولقد جاءهم جميعًا موسى بالأدلة الواضحة، فتعاظموا في الأرض، واستكبروا فيها، ولم يكونوا ليفوتوننا، بل كنا مقتدرين عليهم.

ص: 401

فأخذنا كلا من هؤلاء المذكورين بعذابنا بسبب ذنبه: فمنهم الذين أرسلنا عليهم ريحاً شديدة ترميهم بحجارة من طين متتابع، وهم قوم لوط، ومنهم مَن أخذته الصيحة، وهم قوم صالح وقوم شعيب، ومنهم مَن خسفنا به الأرض كقارون، ومنهم مَن أغرقنا، وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه، ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم، فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق، ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره.

ص: 401

مثل الذين جعلوا الأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرها، كمثل العنكبوت التي عملت بيتًا لنفسها ليحفظها، فلم يُغن عنها شيئًا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يُغْن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا، وإن أضعف البيوت لَبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون ذلك ما اتخذوهم أولياء، فهم لا ينفعونهم ولا يضرونهم.

ص: 401

إن الله يعلم ما يشركون به من الأنداد، وأنها ليست بشيء في الحقيقة، بل هي مجرد أسماء سَمَّوها، لا تنفع ولا تضر. وهو العزيز في انتقامه ممن كفر به، الحكيم في تدبيره وصنعه.

ص: 401

وهذه الأمثال نضربها للناس; لينتفعوا بها ويتعلموا منها، وما يعقلها إلا العالمون بالله وآياته وشرعه.

ص: 401

خلق الله السموات والأرض بالعدل والقسط، إن في خلقه ذلك لدلالة عظيمة على قدرته، وتفرده بالإلهية، وخَصَّ المؤمنين؛ لأنهم الذين ينتفعون بذلك.

ص: 401

اتل ما أُنزل إليك من هذا القرآن، واعمل به، وأدِّ الصلاة بحدودها، إن المحافظة على الصلاة تنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات; وذلك لأن المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها، يستنير قلبه، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر، ولَذكر الله في الصلاة وغيرها أعظم وأكبر وأفضل من كل شيء. والله يعلم ما تصنعون مِن خيرٍ وشر، فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.

ص: 401

ولا تجادلوا -أيها المؤمنون- اليهودَ والنصارى إلا بالأسلوب الحسن، والقول الجميل، والدعوة إلى الحق بأيسر طريق موصل لذلك، إلا الذين حادوا عن وجه الحق وعاندوا وكابروا وأعلنوا الحرب عليكم فجالدوهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وقولوا: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذَيْن أُنزلا إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا به، ونهانا عنه.

ص: 402

وكما أنزلنا -أيها الرسول- الكتب على مَن قبلك من الرسل، أنزلنا إليك هذا الكتاب المصدق للكتب السابقة، فالذين آتيناهم الكتاب من بني إسرائيل فعرفوه حق معرفته يؤمنون بالقرآن، ومِن هؤلاء العرب من قريش وغيرهم مَن يؤمن به، ولا ينكر القرآن أو يتشكك في دلائله وبراهينه البينة إلا الكافرون الذين دَأْبُهم الجحود والعناد.

ص: 402

ومن معجزاتك البينة -أيها الرسول- أنك لم تقرأ كتابًا ولم تكتب حروفًا بيمينك قبل نزول القرآن عليك، وهم يعرفون ذلك، ولو كنت قارئًا أو كاتبًا من قبل أن يوحى إليك لشك في ذلك المبطلون، وقالوا: تعلَّمه من الكتب السابقة أو استنسخه منها.

ص: 402

بل القرآن آيات بينات واضحة في الدلالة على الحق يحفظه العلماء، وما يكذِّب بآياتنا ويردها إلا الظالمون المعاندون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.

ص: 402

وقال المشركون: هلا أُنزل على محمد دلائل وحجج من ربه نشاهدها كناقة صالح، وعصا موسى! قل لهم: إن أمر هذه الآيات لله، إن شاء أنزلها، وإن شاء منعها، وإنما أنا لكم نذير أحذركم شدة بأسه وعقابه، مبيِّن طريق الحق من الباطل.

ص: 402

أو لم يكف هؤلاء المشركين في علمهم بصدقك -أيها الرسول- أنَّا أنزلنا عليك القرآن يتلى عليهم؟ إن في هذا القرآن لَرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.

ص: 402

قل: كفى بالله بيني وبينكم شاهدًا على صدقي أني رسوله، وعلى تكذيبكم لي وردكم الحق الذي جئتُ به من عند الله، يعلم ما في السموات والأرض، فلا يخفى عليه شيء فيهما. والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله -مع هذه الدلائل الواضحة- أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

ص: 402

ويستعجلك -أيها الرسول- هؤلاء المشركون من قومك بالعذاب استهزاء، ولولا أن الله جعل لعذابهم في الدنيا وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر، لجاءهم العذاب حين طلبوه، وليأتينهم فجأة، وهم لا يشعرون به ولا يُحِسُّون.

ص: 403

يستعجلونك بالعذاب في الدنيا، وهو آتيهم لا محالة إمَّا في الدنيا وإما في الآخرة، وإن عذاب جهنم في الآخرة لمحيط بهم، لا مفرَّ لهم منه.

ص: 403

يوم القيامة يغشى الكافرين عذاب جهنم من فوق رؤوسهم، ومِن تحت أقدامهم، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم، ويقول الله لهم حينئذ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا: من الإشراك بالله، وارتكاب الجرائم والآثام.

ص: 403

يا عبادي الذين آمنوا إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان وعبادة الله وحده، فهاجِروا إلى أرض الله الواسعة، وأخلصوا العبادة لي وحدي.

ص: 403

كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا ترجعون للحساب والجزاء.

ص: 403

والذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا ما أُمروا به من الصالحات لننزلنَّهم من الجنة غرفًا عالية تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا، نِعْمَ جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف في جنات النعيم.

ص: 403

إن تلك الجنات المذكورة للمؤمنين الذين صبروا على عبادة الله، وتمسكوا بدينهم، وعلى الله يعتمدون في أرزاقهم وجهاد أعدائهم.

ص: 403

وكم من دابة لا تدَّخر غذاءها لغد، كما يفعل ابن آدم، فالله سبحانه وتعالى يرزقها كما يرزقكم، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم وخطرات قلوبكم.

ص: 403

ولئن سألت -أيها الرسول- المشركين: من الذي خلق السموات والأرض على هذا النظام البديع، وذلَّل الشمس والقمر؟ ليقولُنَّ: خلقهن الله وحده، فكيف يصرفون عن الإيمان بالله خالق كل شيء ومدبره، ويعبدون معه غيره؟ فاعجب من إفكهم وكذبهم!!

ص: 403

الله سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويضيق على آخرين منهم; لعلمه بما يصلح عباده، إن الله بكل شيء من أحوالكم وأموركم عليم، لا يخفى عليه شيء.

ص: 403

ولئن سألت -أيها الرسول- المشركين: مَنِ الذي نزَّل من السحاب ماء فأنبت به الأرض من بعد جفافها؟ ليقولُنَّ لك معترفين: الله وحده هو الذي نزَّل ذلك، قل: الحمد لله الذي أظهر حجتك عليهم، بل أكثرهم لا يعقلون ما ينفعهم ولا ما يضرهم، ولو عَقَلوا ما أشركوا مع الله غيره.

ص: 403

وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان; بسبب ما فيها من الزينة والشهوات، ثم تزول سريعًا، وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها، لو كان الناس يعلمون ذلك لما آثروا دار الفناء على دار البقاء.

ص: 404

فإذا ركب الكفار السفن في البحر، وخافوا الغرق، وحَّدوا الله، وأخلصوا له في الدعاء حال شدتهم، فلما نجَّاهم إلى البر، وزالت عنهم الشدة، عادوا إلى شركهم، إنهم بهذا يتناقضون، يوحِّدون الله ساعة الشدة، ويشركون به ساعة الرخاء. وشِرْكهم بعد نعمتنا عليهم بالنجاة من البحر; ليكونَ عاقبته الكفر بما أنعمنا عليهم في أنفسهم وأموالهم، وليكملوا تمتعهم في هذه الدنيا، فسوف يعلمون فساد عملهم، وما أعدَّه الله لهم من عذاب أليم يوم القيامة. وفي ذلك تهديد ووعيد لهم.

ص: 404

أو لم يشاهد كفار «مكة» أن الله جعل «مكة» لهم حَرَمًا آمنًا يأمن فيه أهله على أنفسهم وأموالهم، والناسُ مِن حولهم خارج الحرم، يُتَخَطَّفون غير آمنين؟ أفبالشرك يؤمنون، وبنعمة الله التي خصَّهم بها يكفرون، فلا يعبدونه وحده دون سواه؟

ص: 404

لا أحد أشد ظلمًا ممن كذَب على الله، فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى الله، أو كذَّب بالحق الذي بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إن في النار لمسكنًا لمن كفر بالله، وجحد توحيده وكذَّب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

ص: 404

والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديهم الله سبل الخير، ويثبتهم على الصراط المستقيم، ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.

ص: 404

(الم) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 404

غَلَبت فارسُ الرومَ في أدنى أرض «الشام» إلى «فارس» ، وسوف يَغْلِب الرومُ الفرسَ في مدة من الزمن، لا تزيد على عشر سنوات ولا تنقص عن ثلاث. لله سبحانه وتعالى الأمر كله قبل انتصار الروم وبعده، ويوم ينتصر الروم على الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله للروم على الفرس. والله سبحانه وتعالى ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، وهو العزيز الذي لا يغالَب، الرحيم بمن شاء من خلقه. وقد تحقق ذلك فغَلَبَت الرومُ الفرسَ بعد سبع سنين، وفرح المسلمون بذلك; لكون الروم أهل كتاب وإن حرَّفوه.

ص: 404

وعد الله المؤمنين وعدًا جازمًا لا يتخلف، بنصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين، ولكن أكثر كفار «مكة» لا يعلمون أن ما وعد الله به حق، وإنما يعلمون ظواهر الدنيا وزخرفها، وهم عن أمور الآخرة وما ينفعهم فيها غافلون، لا يفكرون فيها.

ص: 405

أو لم يتفكر هؤلاء المكذِّبون برسل الله ولقائه في خلق الله إياهم، وأنه خلقهم، ولم يكونوا شيئًا. ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا لإقامة العدل والثواب والعقاب، والدلالة على توحيده وقدرته، وأجل مسمى تنتهي إليه وهو يوم القيامة؟ وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لجاحدون منكرون; جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم، وغفلةً منهم عن الآخرة.

ص: 405

أو لم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بالله الغافلون عن الآخرة في الأرض سَيْرَ تأمل واعتبار، فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذَّبوا برسل الله كعاد وثمود؟ وقد كانوا أقوى منهم أجسامًا، وأقدر على التمتع بالحياة حيث حرثوا الأرض وزرعوها، وبنَوْا القصور وسكنوها، فعَمَروا دنياهم أكثر مما عَمَر أهل «مكة» دنياهم، فلم تنفعهم عِمارتهم ولا طول مدتهم، وجاءتهم رسلهم بالحجج الظاهرة والبراهين الساطعة، فكذَّبوهم فأهلكهم الله، ولم يظلمهم الله بذلك الإهلاك، وإنما ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان.

ص: 405

ثم كانت عاقبة أهل السوء من الطغاة والكفرة أسوأ العواقب وأقبحها; لتكذيبهم بالله وسخريتهم بآياته التي أنزلها على رسله.

ص: 405

الله وحده هو المتفرد بإنشاء المخلوقات كلها، وهو القادر وحده على إعادتها مرة أخرى، ثم إليه يرجع جميع الخلق، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

ص: 405

ويوم تقوم الساعة ييئس المجرمون من النجاة من العذاب، وتصيبهم الحَيْرة فتنقطع حجتهم.

ص: 405

ولم يكن للمشركين في ذلك اليوم من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شفعاء، بل إنها تتبرأ منهم، ويتبرؤون منها. فالشفاعة لله وحده، ولا تُطلَب من غيره.

ص: 405

ويوم تقوم الساعة يفترق أهل الإيمان به وأهل الكفر، فأما المؤمنون بالله ورسوله، العاملون الصالحات فهم في الجنة، يكرَّمون ويسرُّون وينعَّمون.

ص: 405

وأما الذين كفروا بالله وكذَّبوا بما جاءت به الرسل وأنكروا البعث بعد الموت، فأولئك في العذاب مقيمون; جزاء ما كذَّبوا به في الدنيا.

ص: 406

فيا أيها المؤمنون سبِّحوا الله ونزِّهوه عن الشريك والصاحبة والولد، وَصِفوه بصفات الكمال بألسنتكم، وحقِّقوا ذلك بجوارحكم كلها حين تمسون، وحين تصبحون، ووقت العشي، ووقت الظهيرة. وله -سبحانه- الحمد والثناء في السموات والأرض وفي الليل والنهار.

ص: 406

يخرج الله الحي من الميت كالإنسان من النطفة والطير من البيضة، ويخرج الميت من الحي، كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطير. ويحيي الأرض بالنبات بعد يُبْسها وجفافها، ومثل هذا الإحياء تخرجون -أيها الناس- من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.

ص: 406

ومن آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق أباكم آدم من تراب، ثم أنتم بشر تتناسلون منتشرين في الأرض، تبتغون من فضل الله.

ص: 406

ومن آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لأجلكم من جنسكم -أيها الرجال- أزواجًا; لتطمئن نفوسكم إليها وتسكن، وجعل بين المرأة وزوجها محبة وشفقة، إن في خلق الله ذلك لآيات دالة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يتفكرون، ويتدبرون.

ص: 406

ومن دلائل القدرة الربانية: خَلْقُ السموات وارتفاعها بغير عمد، وخَلْقُ الأرض مع اتساعها وامتدادها، واختلافُ لغاتكم وتباينُ ألوانكم، إن في هذا لَعبرة لكل ذي علم وبصيرة.

ص: 406

ومن دلائل هذه القدرة أن جعل الله النوم راحة لكم في الليل أو النهار; إذ في النوم حصول الراحة وذهاب التعب، وجعل لكم النهار تنتشرون فيه لطلب الرزق، إن في ذلك لدلائل على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته لقوم يسمعون المواعظ سماع تأمل وتفكر واعتبار.

ص: 406

ومن دلائل قدرته سبحانه أن يريكم البرق، فتخافون من الصواعق، وتطمعون في الغيث، وينزل من السحاب مطرًا فيحيي به الأرض بعد جدبها وجفافها، إن في هذا لدليلا على كمال قدرة الله وعظيم حكمته وإحسانه لكل مَن لديه عقل يهتدي به.

ص: 406

ومن آياته الدالة على قدرته قيام السماء والأرض واستقرارهما وثباتهما بأمره، فلم تتزلزلا ولم تسقط السماء على الأرض، ثم إذا دعاكم الله إلى البعث يوم القيامة، إذا أنتم تخرجون من القبور مسرعين.

ص: 407

ولله وحده كل مَن في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد، كل هؤلاء منقادون لأمره خاضعون لكماله.

ص: 407

والله وحده الذي يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده حيًا بعد الموت، وإعادة الخلق حيًا بعد الموت أهون على الله من ابتداء خلقهم، وكلاهما عليه هيِّن. وله سبحانه الوصف الأعلى في كل ما يوصف به، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. وهو العزيز الذي لا يغالَب، الحكيم في أقواله وأفعاله، وتدبير أمور خلقه.

ص: 407

ضرب الله مثلا لكم -أيها المشركون- من أنفسكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم مَن يشارككم في رزقكم، وترون أنكم وإياهم متساوون فيه، تخافونهم كما تخافون الأحرار الشركاء في مقاسمة أموالكم؟ إنكم لن ترضوا بذلك، فكيف ترضون بذلك في جنب الله بأن تجعلوا له شريكًا من خلقه؟ وبمثل هذا البيان نبيِّن البراهين والحجج لأصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بها.

ص: 407

بل اتبع المشركون أهواءهم بتقليد آبائهم بغير علم، فشاركوهم في الجهل والضلالة، ولا أحد يقدر على هداية مَن أضلَّه الله بسبب تماديه في الكفر والعناد، وليس لهؤلاء مِن أنصار يُخَلِّصونهم من عذاب الله.

ص: 407

فأقم -أيها الرسول أنت ومن اتبعك- وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله لك، وهو الإسلام الذي فطر الله الناس عليه، فبقاؤكم عليه، وتمسككم به، تمسك بفطرة الله من الإيمان بالله وحده، لا تبديل لخلق الله ودينه، فهو الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله رب العالمين وجنته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الذي أمرتك به -أيها الرسول- هو الدين الحق دون سواه.

ص: 407

وكونوا راجعين إلى الله بالتوبة وإخلاص العمل له، واتقوه بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وأقيموا الصلاة تامة بأركانها وواجباتها وشروطها، ولا تكونوا من المشركين مع الله غيره في العبادة.

ص: 407

ولا تكونوا من المشركين وأهل الأهواء والبدع الذين بدَّلوا دينهم، وغيَّروه، فأخذوا بعضه، وتركوا بعضه; تبعًا لأهوائهم، فصاروا فرقًا وأحزابًا، يتشيعون لرؤسائهم وأحزابهم وآرائهم، يعين بعضهم بعضًا على الباطل، كل حزب بما لديهم فرحون مسرورون، يحكمون لأنفسهم بأنهم على الحق وغيرهم على الباطل.

ص: 407

وإذا أصاب الناسَ شدة وبلاء دعَوا ربهم مخلصين له أن يكشف عنهم الضر، فإذا رحمهم وكشف عنهم ضرهم إذا فريق منهم يعودون إلى الشرك مرة أخرى، فيعبدون مع الله غيره.

ص: 408

ليكفروا بما آتيناهم ومننَّا به عليهم من كشف الضر، وزوال الشدة عنهم، فتمتعوا -أيها المشركون- بالرخاء والسَّعَة في هذه الدنيا، فسوف تعلمون ما تلقونه من العذاب والعقاب.

ص: 408

أم أنزلنا على هؤلاء المشركين برهانًا ساطعًا وكتابًا قاطعًا، ينطق بصحة شركهم وكفرهم بالله وآياته.

ص: 408

وإذا أذقنا الناس منا نعمة مِن صحة وعافية ورخاء، فرحوا بذلك فرح بطرٍ وأَشَرٍ، لا فرح شكر، وإن يصبهم مرض وفقر وخوف وضيق بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، إذا هم يَيْئَسون من زوال ذلك، وهذا طبيعة أكثر الناس في الرخاء والشدة.

ص: 408

أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانًا، هل يشكر أو يكفر؟ ويضيِّقه على من يشاء اختبارًا، هل يصبر أو يجزع؟ إن في ذلك التوسيع والتضييق لآيات لقوم يؤمنون بالله ويعرفون حكمة الله ورحمته.

ص: 408

فأعط -أيها المؤمن- قريبك حقه من الصلة والصدقة وسائر أعمال البر، وأعط الفقير الذي لا يملك ما يكفيه ويسد حاجته، والمحتاج الذي انقطع به السبيل من الزكاة والصدقة، ذلك الإعطاء خير للذين يريدون بعملهم وجه الله، والذين يعملون هذه الأعمال وغيرها من أعمال الخير، أولئك هم الفائزون بثواب الله الناجون مِن عقابه.

ص: 408

وما أعطيتم قرضًا من المال بقصد الربا، وطلب زيادة ذلك القرض; ليزيد وينمو في أموال الناس، فلا يزيد عند الله، بل يمحقه ويبطله. وما أعطيتم من زكاة وصدقة للمستحقين ابتغاء مرضاة الله وطلبًا لثوابه، فهذا هو الذي يقبله الله ويضاعفه لكم أضعافًا كثيرة.

ص: 408

الله وحده هو الذي خلقكم -أيها الناس- ثم رزقكم في هذه الحياة، ثم يميتكم بانتهاء آجالكم، ثم يبعثكم من القبور أحياء للحساب والجزاء، هل من شركائكم مَن يفعل من ذلكم من شيء؟ تنزَّه الله وتقدَّس عن شرك هؤلاء المشركين به.

ص: 408

ظهر الفساد في البر والبحر، كالجدب وقلة الأمطار وكثرة الأمراض والأوبئة; وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر; ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا; كي يتوبوا إلى الله -سبحانه- ويرجعوا عن المعاصي، فتصلح أحوالهم، وتستقيم أمورهم.

ص: 408

قل -أيها الرسول- للمكذبين بما جئت به: سيروا في أنحاء الأرض سير اعتبار وتأمل، فانظروا كيف كان عاقبة الأمم السابقة المكذبة كقوم نوح، وعاد وثمود، تجدوا عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل؟ فقد كان أكثرهم مشركين بالله.

ص: 409

فوجِّه وجهك -أيها الرسول- نحو الدين المستقيم، وهو الإسلام، منفذًا أوامره مجتنبًا نواهيه، واستمسك به من قبل مجيء يوم القيامة، فإذا جاء ذلك اليوم الذي لا يقدر أحد على ردِّه تفرقت الخلائق أشتاتًا متفاوتين; ليُروا أعمالهم.

ص: 409

من كفر فعليه عقوبة كفره، وهي خلوده في النار، ومن آمن وعمل صالحًا فلأنفسهم يهيئون منازل الجنة; بسبب تمسكهم بطاعة ربهم.

ص: 409

ليجزي الله الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من فضله وإحسانه. إنه لا يحب الكافرين لسخطه وغضبه عليهم.

ص: 409

ومن آيات الله الدالة على أنه الإله الحق وحده لا شريك له وعلى عظيم قدرته إرسال الرياح أمام المطر مبشرات بإثارتها للسحاب، فتستبشر بذلك النفوس; وليذيقكم من رحمته بإنزاله المطر الذي تحيا به البلاد والعباد، ولتجري السفن في البحر بأمر الله ومشيئته، ولتبتغوا من فضله بالتجارة وغيرها; فعل الله ذلك من أجل أن تشكروا له نعمه وتعبدوه وحده.

ص: 409

ولقد أرسلنا مِن قبلك -أيها الرسول- رسلا إلى قومهم مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى التوحيد، ويحذرونهم من الشرك، فجاؤوهم بالمعجزات والبراهين الساطعة، فكفر أكثرهم بربهم، فانتقمنا من الذين اكتسبوا السيئات منهم، فأهلكناهم، ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل، وكذلك نفعل بالمكذبين بك إن استمروا على تكذيبك، ولم يؤمنوا.

ص: 409

الله -سبحانه- هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا مثقلا بالماء، فينشره الله في السماء كيف يشاء، ويجعله قطعًا متفرقة، فترى المطر يخرج من بين السحاب، فإذا ساقه الله إلى عباده إذا هم يستبشرون ويفرحون بأن الله صرف ذلك إليهم.

ص: 409

وإنْ كانوا من قبل نزول المطر لفي يأس وقنوط; بسبب احتباسه عنهم.

ص: 409

فانظر -أيها المشاهد- نظر تأمل وتدبر إلى آثار المطر في النبات والزروع والشجر، كيف يحيي به الله الأرض بعد موتها، فينبتها ويعشبها؟ إن الذي قَدَر على إحياء هذه الأرض لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

ص: 409

ولئن أرسلنا على زروعهم ونباتهم ريحًا مفسدة، فرأوا نباتهم قد فسد بتلك الريح، فصار من بعد خضرته مصفرًا، لمكثوا من بعد رؤيتهم له يكفرون بالله ويجحدون نعمه.

ص: 410

فإنك -أيها الرسول- لا تسمع من مات قلبه، أو سدَّ أذنه عن سماع الحق، فلا تجزع ولا تحزن على عدم إيمان هؤلاء المشركين بك، فإنهم كالصم والموتى لا يسمعون، ولا يشعرون ولو كانوا حاضرين، فكيف إذا كانوا غائبين عنك مدبرين؟

ص: 410

وما أنت -أيها الرسول- بمرشد مَن أعماه الله عن طريق الهدى، ما تُسمع سماع انتفاع إلا مَن يؤمن بآياتنا، فهم خاضعون ممتثلون لأمر الله.

ص: 410

الله تعالى هو الذي خلقكم من ماء ضعيف مهين، وهو النطفة، ثم جعل من بعد ضعف الطفولة قوة الرجولة، ثم جعل من بعد هذه القوة ضعف الكبر والهرم، يخلق الله ما يشاء من الضعف والقوة، وهو العليم بخلقه، القادر على كل شيء.

ص: 410

ويوم تجيء القيامة ويبعث الله الخلق من قبورهم يقسم المشركون ما مكثوا في الدنيا غير فترة قصيرة من الزمن، كذبوا في قسمهم، كما كانوا يكذبون في الدنيا، وينكرون الحق الذي جاءت به الرسل.

ص: 410

وقال الذين أوتوا العلم والإيمان بالله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين: لقد مكثتم فيما كتب الله مما سبق في علمه من يوم خُلقتم إلى أن بُعثتم، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون، فأنكرتموه في الدنيا، وكذَّبتم به.

ص: 410

فيوم القيامة لا ينفع الظالمين ما يقدمونه من أعذار، ولا يُطلب منهم إرضاء الله تعالى بالتوبة والطاعة، بل يُعاقبون بسيئاتهم ومعاصيهم.

ص: 410

ولقد بينَّا للناس في هذا القرآن مِن كل مثل من أجل إقامة الحجة عليهم وإثبات وحدانية الله جل وعلا، ولئن جئتهم -أيها الرسول- بأي حجة تدل على صدقك ليقولَنَّ الذين كفروا بك: ما أنتم -أيها الرسول وأتباعك- إلا مبطلون فيما تجيئوننا به من الأمور.

ص: 410

ومثل ذلك الختم يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به -أيها الرسول- من عند الله من هذه العبر والآيات البينات.

ص: 410

فاصبر -أيها الرسول- على ما ينالك مِن أذى قومك وتكذيبهم لك، إن ما وعدك الله به من نصر وتمكين وثواب حق لا شك فيه، ولا يستفزَّنَّك عن دينك الذين لا يوقنون بالميعاد، ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء.

ص: 410

(الم) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 411

هذه الآيات آيات القرآن ذي الحكمة البالغة.

ص: 411

هذه الآيات هدى ورحمة للذين أحسنوا العمل بما أنزل الله في القرآن، وما أمرهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 411

الذين يؤدون الصلاة كاملة في أوقاتها ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم لمستحقيها، وهم بالبعث والجزاء في الدار الآخرة يوقنون.

ص: 411

أولئك المتصفون بالصفات السابقة على بيان مِن ربهم ونور، وأولئك هم الفائزون في الدنيا والآخرة.

ص: 411

ومن الناس مَن يشتري لَهْو الحديث -وهو كل ما يُلهي عن طاعة الله ويصد عن مرضاته- ليضلَّ الناس عن طريق الهدى إلى طريق الهوى، ويتخذ آيات الله سخرية، أولئك لهم عذاب يهينهم ويخزيهم.

ص: 411

وإذا تتلى عليه آيات القرآن أعرض عن طاعة الله، وتكبَّر غير معتبر، كأنه لم يسمع شيئًا، كأَنَّ في أذنيه صممًا، ومَن هذه حاله فبشِّره -أيها الرسول- بعذاب مؤلم موجع في النار يوم القيامة.

ص: 411

إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات التي أُمروا بها، أولئك لهم نعيم مقيم في الجنات.

ص: 411

وحياتهم في تلك الجنات حياة أبديةٌ لا تنقطع ولا تزول، وعدهم الله بذلك وعدًا حقًا. وهو سبحانه لا يُخلف وعده، وهو العزيز في أمره، الحكيم في تدبيره.

ص: 411

خلق الله السموات، ورفعها بغير عمد كما تشاهدونها، وألقى في الأرض جبالا ثابتة؛ لئلا تضطرب وتتحرك فتفسد حياتكم، ونشر في الأرض مختلف أنواع الدواب، وأنزلنا من السحاب مطرًا، فأنبتنا به من الأرض من كل زوج بهيج نافع حسن المنظر.

ص: 411

وكل ما تشاهدونه هو خلق الله، فأروني -أيها المشركون-: ماذا خلقت آلهتكم التي تعبدونها من دون الله؟ بل المشركون في ذهاب بيِّن عن الحق والاستقامة.

ص: 411

ولقد أعطينا عبدًا صالحًا من عبادنا (وهو لقمان) الحكمة، وهي الفقه في الدين وسلامة العقل والإصابة في القول، وقلنا له: اشكر لله نِعَمَه عليك، ومَن يشكر لربه فإنما يعود نَفْع ذلك عليه، ومن جحد نِعَمَه فإن الله غني عن شكره، غير محتاج إليه، له الحمد والثناء على كل حال.

ص: 412

واذكر -أيها الرسول- نصيحة لقمان لابنه حين قال له واعظًا: يا بنيَّ لا تشرك بالله فتظلم نفسك؛ إن الشرك لأعظم الكبائر وأبشعها.

ص: 412

وأَمَرْنا الإنسان ببرِّ والديه والإحسان إليهما، حَمَلَتْه أمه ضعفًا على ضعف، وحمله وفِطامه عن الرضاعة في مدة عامين، وقلنا له: اشكر لله، ثم اشكر لوالديك، إليَّ المرجع فأُجازي كُلا بما يستحق.

ص: 412

وإن جاهدك -أيها الولد المؤمن- والداك على أن تشرك بي غيري في عبادتك إياي مما ليس لك به عِلم، أو أمراك بمعصية مِن معاصي الله فلا تطعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وصاحبهما في الدنيا بالمعروف فيما لا إثم فيه، واسلك -أيها الابن المؤمن- طريق مَن تاب من ذنبه، ورجع إليَّ وآمن برسولي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إليَّ مرجعكم، فأخبركم بما كنتم تعملونه في الدنيا، وأجازي كلَّ عامل بعمله.

ص: 412

يا بنيَّ اعلم أن السيئة أو الحسنة إن كانت قَدْر حبة خردل -وهي المتناهية في الصغر- في باطن جبل، أو في أي مكان في السموات أو في الأرض، فإن الله يأتي بها يوم القيامة، ويحاسِب عليها. إن الله لطيف بعباده خبير بأعمالهم.

ص: 412

يا بنيَّ أقم الصلاة تامة بأركانها وشروطها وواجباتها، وأْمر بالمعروف، وانْه عن المنكر بلطفٍ ولينٍ وحكمة بحسب جهدك، وتحمَّل ما يصيبك من الأذى مقابل أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، واعلم أن هذه الوصايا مما أمر الله به من الأمور التي ينبغي الحرص عليها.

ص: 412

ولا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم، ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا، إن الله لا يحب كل متكبر متباه في نفسه وهيئته وقوله.

ص: 412

وتواضع في مشيك، واخفض من صوتك فلا ترفعه، إن أقبح الأصوات وأبغضها لصوت الحمير المعروفة ببلادتها وأصواتها المرتفعة.

ص: 412

ألم تروا -أيها الناس- أن الله ذلَّل لكم ما في السموات من الشمس والقمر والسحاب وغير ذلك، وما في الأرض من الدوابِّ والشجر والماء، وغير ذلك مما لا يحصى، وعمَّكم بنعمه الظاهرة على الأبدان والجوارح، والباطنة في العقول والقلوب، وما ادَّخره لكم مما لا تعلمونه؟ ومن الناس مَن يجادل في توحيد الله وإخلاص العبادة له بغير حجة ولا بيان، ولا كتاب مبين يبيِّن حقيقة دعواه.

ص: 413

وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في توحيد الله وإفراده بالعبادة: اتبعوا ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: بل نتبع ما كان عليه آباؤنا من الشرك وعبادة الأصنام، أيفعلون ذلك، ولو كان الشيطان يدعوهم؛ بتزيينه لهم سوء أعمالهم، وكفرهم بالله إلى عذاب النار المستعرة؟

ص: 413

ومن يُخْلص عبادته لله وقصده إلى ربه تعالى، وهو محسن في أقواله، متقن لأعماله، فقد أخذ بأوثق سبب موصل إلى رضوان الله وجنته. وإلى الله وحده تصير كل الأمور، فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.

ص: 413

ومن كفر فلا تأسَ عليه -أيها الرسول- ولا تحزن؛ لأنك أدَّيت ما عليك من الدعوة والبلاغ، إلينا مرجعهم ومصيرهم يوم القيامة، فنخبرهم بأعمالهم الخبيثة التي عملوها في الدنيا، ثم نجازيهم عليها، إن الله عليم بما تُكِنُّه صدورهم من الكفر بالله وإيثار طاعة الشيطان.

ص: 413

نمتعهم في هذه الدنيا الفانية مدة قليلة، ثم يوم القيامة نُلجئهم ونسوقهم إلى عذاب فظيع، وهو عذاب جهنم.

ص: 413

ولئن سألت -أيها الرسول- هؤلاء المشركين بالله: مَن خلق السموات والأرض؟ ليقولُنَّ الله، فإذا قالوا ذلك فقل لهم: الحمد لله الذي أظهر الاستدلال عليكم من أنفسكم، بل أكثر هؤلاء المشركين لا ينظرون ولا يتدبرون مَن الذي له الحمد والشكر، فلذلك أشركوا معه غيره.

ص: 413

لله -سبحانه- كل ما في السموات والأرض ملكًا وعبيدًا وإيجادًا وتقديرًا، فلا يستحق العبادة أحد غيره. إن الله هو الغني عن خلقه، له الحمد والثناء على كل حال.

ص: 413

ولو أن أشجار الأرض كلها بُريت أقلامًا والبحر مداد لها، ويُمَد بسبعة أبحر أخرى، وكُتِب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله من علمه وحكمه، وما أوحاه إلى ملائكته ورسله؛ لتكسرت تلك الأقلام، ولنفِد ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله التامة التي لا يحيط بها أحد. إن الله عزيز في انتقامه ممن أشرك به، حكيم في تدبير خلقه. وفي الآية إثبات صفة الكلام لله -تعالى- حقيقة كما يليق بجلاله وكماله سبحانه.

ص: 413

ما خَلْقُكم -أيها الناس- ولا بَعْثُكم يوم القيامة في السهولة واليسر إلا كخَلْق نفس واحدة وبَعْثها، إن الله سميع لأقوالكم، بصير بأعمالكم، وسيجازيكم عليها.

ص: 413

ألم تر أن الله يأخذ من ساعات الليل، فيطول النهار، ويقصر الليل، ويأخذ من ساعات النهار، فيطول الليل، ويقصر النهار، وذلَّل لكم الشمس والقمر، يجري كل منهما في مداره إلى أجل معلوم محدد، وأن الله مُطَّلع على كل أعمال الخلق مِن خير أو شر، لا يخفى عليه منها شيء؟

ص: 414

ذلك كله من عظيم قدرة الله ; لتعلموا وتقروا أن الله هو الحق في ذاته وصفاته، وأفعاله، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي بذاته وقَدْره وقهره فوق جميع مخلوقاته، الكبير على كل شيء، وكل ما عداه خاضع له، فهو وحده المستحق أن يُعبد دون مَن سواه.

ص: 414

ألم تر -أيها المشاهد- أن السفن تجري في البحر بأمر الله نعمة منه على خلقه؛ ليريكم من عبره وحججه عليكم ما تعتبرون به؟ إن في جرْي السفن في البحر لَدلالات لكل صبَّار عن محارم الله، شكور لنعمه.

ص: 414

وإذا ركب المشركون السفن وعَلَتْهم الأمواج مِن حولهم كالسحب والجبال، أصابهم الخوف والذعر من الغرق ففزعوا إلى الله، وأخلصوا دعاءهم له، فلما نجاهم إلى البر فمنهم متوسط لم يقم بشكر الله على وجه الكمال، ومنهم كافر بنعمة الله جاحد لها، وما يكفر بآياتنا وحججنا الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا إلا كل غدَّار ناقض للعهد، جحود لنعم الله عليه.

ص: 414

يا أيها الناس اتقوا ربكم، وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا يوم القيامة الذي لا يغني فيه والد عن ولده ولا مولود عن أبيه شيئًا، إن وعد الله حق لا ريب فيه، فلا تنخدعوا بالحياة الدنيا وزخرفها فتنسيكم الأخرى، ولا يخدعنكم بالله خادع من شياطين الجن والإنس.

ص: 414

إن الله -وحده لا غيره- يعلم متى تقوم الساعة؛ وهو الذي ينزل المطر من السحاب، لا يقدر على ذلك أحد غيره، ويعلم ما في أرحام الإناث، ويعلم ما تكسبه كل نفس في غدها، وما تعلم نفس بأيِّ أرض تموت. بل الله تعالى هو المختص بعلم ذلك جميعه. إن الله عليم خبير محيط بالظواهر والبواطن، لا يخفى عليه شيء منها.

ص: 414

(الم) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

ص: 415

هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنه منزل من عند الله، رب الخلائق أجمعين.

ص: 415

بل أيقول المشركون: اختلق محمد صلى الله عليه وسلم القرآن؟ كذَبوا، بل هو الحق الثابت المنزل عليك -أيها الرسول- من ربك; لتنذر به أناسًا لم يأتهم نذير من قبلك، لعلهم يهتدون، فيعرفوا الحق ويؤمنوا به ويؤثروه، ويؤمنوا بك.

ص: 415

الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لحكمة يعلمها، وهو قادر أن يخلقها بكلمة «كن» فتكون، ثم استوى سبحانه وتعالى -أي علا وارتفع- على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يكيَّف، ولا يشبَّه باستواء المخلوقين. ليس لكم -أيها الناس- من وليٍّ يلي أموركم، أو شفيع يشفع لكم عند الله؛ لتنجوا من عذابه، أفلا تتعظون وتتفكرون -أيها الناس-، فتُفردوا الله بالألوهية وتُخلصوا له العبادة؟

ص: 415

يدبر الله تعالى أَمْر المخلوقات من السماء إلى الأرض، ثم يصعد ذلك الأمر والتدبير إلى الله في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي تعدُّونها.

ص: 415

ذلك الخالق المدبِّر لشؤون العالمين، عالم بكل ما يغيب عن الأبصار، مما تُكِنُّه الصدور وتخفيه النفوس، وعالم بما شاهدته الأبصار، وهو القويُّ الظاهر الذي لا يغالَب، الرحيم بعباده المؤمنين.

ص: 415

الله الذي أحكم خلق كل شيء، وبدأ خَلْقَ الإنسان، وهو آدم عليه السلام من طين.

ص: 415

ثم جعل ذرية آدم متناسلة من نطفة ضعيفة رقيقة مهينة.

ص: 415

ثم أتم خلق الإنسان وأبدعه، وأحسن خلقته، ونفخ فيه مِن روحه بإرسال الملك له؛ لينفخ فيه الروح، وجعل لكم -أيها الناس- نعمة السمع والأبصار يُميَّز بها بين الأصوات والألوان والذوات والأشخاص، ونعمة العقل يُميَّز بها بين الخير والشر والنافع والضار. قليلا ما تشكرون ربكم على ما أنعم به عليكم.

ص: 415

وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أإذا صارت لحومنا وعظامنا ترابًا في الأرض أنُبعَث خلقًا جديدًا؟ يستبعدون ذلك غير طالبين الوصول إلى الحق، وإنما هو منهم ظلم وعناد؛ لأنهم بلقاء ربهم -يوم القيامة- كافرون.

ص: 415

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم، فيقبض أرواحكم إذا انتهت آجالكم، ولن تتأخروا لحظة واحدة، ثم تُردُّون إلى ربكم، فيجازيكم على جميع أعمالكم: إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

ص: 415

ولو ترى -أيها المخاطب- إذ المجرمون الذين أنكروا البعث قد خفضوا رؤوسهم عند ربهم من الخزي والعار قائلين: ربنا أبصرنا قبائحنا، وسمعنا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا، وقد تُبْنا إليك، فارجعنا إلى الدنيا لنعمل فيها بطاعتك، إنا قد أيقنَّا الآن ما كنا به في الدنيا مكذبين من وحدانيتك، وأنك تبعث من في القبور. ولو رأيت -أيها الخاطب- ذلك كله، لرأيت أمرًا عظيمًا، وخطبًا جسيمًا.

ص: 416

ولو شئنا لآتينا هؤلاء المشركين بالله رشدهم وتوفيقهم للإيمان، ولكن حق القول مني ووجب لأملأنَّ جهنم من أهل الكفر والمعاصي، من صنفي الجِنِّ والإنس أجمعين؛ وذلك لاختيارهم الضلالة على الهدى.

ص: 416

يقال لهؤلاء المشركين -عند دخولهم النار على سبيل التوبيخ-: فذوقوا العذاب؛ بسبب غفلتكم عن الآخرة وانغماسكم في لذائذ الدنيا، إنا تركناكم اليوم في العذاب، وذوقوا عذاب جهنم الذي لا ينقطع؛ بما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر بالله ومعاصيه.

ص: 416

إنما يصدق بآيات القرآن ويعمل بها الذين إذا وُعِظوا بها أو تُليت عليهم سجدوا لربهم خاشعين مطيعين، وسبَّحوا الله في سجودهم بحمده، وهم لا يستكبرون عن السجود والتسبيح له، وعبادته وحده لا شريك له.

ص: 416

ترتفع جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله عن فراش النوم، يتهجدون لربهم في صلاة الليل، يدعون ربهم خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله وفي سبيله.

ص: 416

فلا تعلم نفس ما ادَّخر الله لهؤلاء المؤمنين مما تَقَرُّ به العين، وينشرح له الصدر؛ جزاء لهم على أعمالهم الصالحة.

ص: 416

أفمن كان مطيعًا لله ورسوله مصدقًا بوعده ووعيده، مثل من كفر بالله ورسله وكذب باليوم الآخر؟ لا يستوون عند الله.

ص: 416

أما الذين آمنوا بالله وعملوا بما أُمِروا به فجزاؤهم جنات يأوون إليها، ويقيمون في نعيمها ضيافة لهم؛ جزاءً لهم بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعته.

ص: 416

وأما الذين خرجوا عن طاعة الله وعملوا بمعاصيه فمستقرهم جهنم، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم -توبيخاً وتقريعاً-: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون في الدنيا.

ص: 416

ولنذيقن هؤلاء الفاسقين المكذبين من العذاب الأدنى من البلاء والمحن والمصائب في الدنيا قبل العذاب الأكبر يوم القيامة، حيث يُعذَّبون في نار جهنم؛ لعلهم يرجعون ويتوبون من ذنوبهم.

ص: 417

ولا أحد أشد ظلمًا لنفسه ممن وعظ بدلائل الله، ثم أعرض عن ذلك كله، فلم يتعظ بمواعظه، ولكنه استكبر عنها، إنا من المجرمين الذين أعرضوا عن آيات الله وحججه، ولم ينتفعوا بها، منتقمون.

ص: 417

ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك -أيها الرسول- القرآن، فلا تكن في شك من لقاء موسى ليلة الإسراء والمعراج، وجعلنا التوراة هداية لبني إسرائيل، تدعوهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

ص: 417

وجعلنا من بني إسرائيل هداة ودعاة إلى الخير، يأتمُّ بهم الناس، ويدعونهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده وطاعته، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية حين صبروا على أوامر الله، وترك زواجره، والدعوة إليه، وتحمُّل الأذى في سبيله، وكانوا بآيات الله وحججه مصدقين على وجه اليقين.

ص: 417

إن ربك -أيها الرسول- يقضي بين المؤمنين والكافرين من بني إسرائيل وغيرهم يوم القيامة بالعدل فيما اختلفوا فيه من أمور الدين، ويجازي كل إنسان بعمله بإدخال أهلِ الجنةِ الجنةَ وأهلِ النارِ النارَ.

ص: 417

أو لم يتبين لهؤلاء المكذبين للرسول: كم أهلكنا من قبلهم من الأمم السابقة يمشون في مساكنهم، فيشاهدونها عِيانًا كقوم هود وصالح ولوط؟ إن في ذلك لآيات وعظات يُستدَلُّ بها على صدق الرسل التي جاءتهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك، أفلا يسمع هؤلاء المكذبون بالرسل مواعظ الله وحججه، فينتفعون بها؟

ص: 417

أو لم ير المكذبون بالبعث بعد الموت أننا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه تأكل منه أنعامهم، وتتغذى به أبدانهم فيعيشون به؟ أفلا يرون هذه النعم بأعينهم، فيعلموا أن الله الذي فعل ذلك قادر على إحياء الأموات ونَشْرهم من قبورهم؟

ص: 417

يستعجل هؤلاء المشركون بالله العذاب، فيقولون: متى هذا الحكم الذي يقضي بيننا وبينكم بتعذيبنا على زعمكم إن كنتم صادقين في دعواكم؟

ص: 417

قل لهم -أيها الرسول-: يوم القضاء الذي يقع فيه عقابكم، وتعاينون فيه الموت لا ينفع الكفار إيمانهم، ولا هم يؤخرون للتوبة والمراجعة.

ص: 417

فأعرض -أيها الرسول- عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بتكذيبهم، وانتظر ما الله صانع بهم، إنهم منتظرون ومتربصون بكم دوائر السوء، فسيخزيهم الله ويذلهم، وينصرك عليهم. وقد فعل فله الحمد والمنة.

ص: 417

يا أيها النبي دُم على تقوى الله بالعمل بأوامره واجتناب محارمه، وليقتد بك المؤمنون؛ لأنهم أحوج إلى ذلك منك، ولا تطع الكافرين وأهل النفاق. إن الله كان عليمًا بكل شيء، حكيمًا في خلقه وأمره وتدبيره.

ص: 418

واتبع ما يوحى إليك من ربك من القرآن والسنة، إن الله مطَّلِع على كل ما تعملون ومجازيكم به، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

ص: 418

واعتمد على ربك، وفَوِّضْ جميع أمورك إليه، وحسبك به حافظًا لمن توكل عليه وأناب إليه.

ص: 418

ما جعل الله لأحد من البشر من قلبين في صدره، وما جعل زوجاتكم اللاتي تظاهرون منهن (في الحرمة) كحرمة أمهاتكم (والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، وقد كان هذا طلاقًا في الجاهلية، فبيَّن الله أن الزوجة لا تصير أُمًّا بحال) وما جعل الله الأولاد المتَبَنَّيْنَ أبناء في الشرع، بل إن الظهار والتبني لا حقيقة لهما في التحريم الأبدي، فلا تكون الزوجة المظاهَر منها كالأم في الحرمة، ولا يثبت النسب بالتبني من قول الشخص للدَّعِيِّ: هذا ابني، فهو كلام بالفم لا حقيقة له، ولا يُعتَدُّ به، والله سبحانه يقول الحق ويبيِّن لعباده سبيله، ويرشدهم إلى طريق الرشاد.

ص: 418

انسبوا أدعياءكم لآبائهم، هو أعدل وأقوم عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين فادعوهم -إذًا- بأخوَّة الدين التي تجمعكم بهم، فإنهم إخوانكم في الدين ومواليكم فيه، وليس عليكم إثم فيما وقعتم فيه من خطأ لم تتعمدوه، وإنما يؤاخذكم الله إذا تعمدتم ذلك. وكان الله غفورًا لمن أخطأ، رحيمًا لمن تاب من ذنبه.

ص: 418

النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين، وأقرب لهم من أنفسهم في أمور الدين والدنيا، وحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته كحرمة أمهاتهم، فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده. وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة (وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم، ثم نُسخ ذلك بآية المواريث) إلا أن تفعلوا -أيها المسلمون- إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية، كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ، فيجب عليكم العمل به. وفي الآية وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد من نفسه، ووجوب كمال الانقياد له، وفيها وجوب احترام أمهات المؤمنين، زوجاته صلى الله عليه وسلم، وأن من سبَّهن فقد باء بالخسران.

ص: 418

واذكر -أيها النبي- حين أخذنا من النبيين العهد المؤكد بتبليغ الرسالة، وأخذنا الميثاق منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم (وهم أولو العزم من الرسل على المشهور) ، وأخذنا منهم عهدًا مؤكدًا بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وأن يُصَدِّق بعضهم بعضًا.

ص: 419

أخذ الله ذلك العهد من أولئك الرسل؛ ليسأل المرسلين عمَّا أجابتهم به أممهم، فيجزي الله المؤمنين الجنة، وأعد للكافرين يوم القيامة عذابًا شديدًا في جهنم.

ص: 419

يا معشر المؤمنين اذكروا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم في «المدينة» أيام غزوة الأحزاب -وهي غزوة الخندق-، حين اجتمع عليكم المشركون من خارج «المدينة» ، واليهود والمنافقون من «المدينة» وما حولها، فأحاطوا بكم، فأرسلنا على الأحزاب ريحًا شديدة اقتلعت خيامهم ورمت قدورهم، وأرسلنا ملائكة من السماء لم تروها، فوقع الرعب في قلوبهم. وكان الله بما تعملون بصيرًا، لا يخفى عليه من ذلك شيء.

ص: 419

اذكروا إذ جاؤوكم مِن فوقكم من أعلى الوادي من جهة المشرق، ومن أسفل منكم من بطن الوادي من جهة المغرب، وإذ شخصت الأبصار من شدة الحَيْرة والدهشة، وبلغت القلوب الحناجر من شدة الرعب، وغلب اليأس المنافقين، وكثرت الأقاويل، وتظنون بالله الظنون السيئة أنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته.

ص: 419

في ذلك الموقف العصيب اختُبر إيمان المؤمنين ومُحِّص القوم، وعُرف المؤمن من المنافق، واضطربوا اضطرابًا شديدًا بالخوف والقلق; ليتبين إيمانهم ويزيد يقينهم.

ص: 419

وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم شك، وهم ضعفاء الإيمان: ما وعدنا الله ورسوله من النصر والتمكين إلا باطلا من القول وغرورًا، فلا تصدقوه.

ص: 419

واذكر -أيها النبي- قول طائفة من المنافقين منادين المؤمنين من أهل «المدينة» : يا أهل «يثرب» (وهو الاسم القديم «للمدينة» ) لا إقامة لكم في معركة خاسرة، فارجعوا إلى منازلكم داخل «المدينة» ، ويستأذن فريق آخر من المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى منازلهم بحجة أنها غير محصنة، فيخشون عليها، والحق أنها ليست كذلك، وما قصدوا بذلك إلا الفرار من القتال.

ص: 419

ولو دخل جيش الأحزاب «المدينة» من جوانبها، ثم سئل هؤلاء المنافقون الشرك بالله والرجوع عن الإسلام، لأجابوا إلى ذلك مبادرين، وما تأخروا عن الشرك إلا يسيرًا.

ص: 419

ولقد كان هؤلاء المنافقون عاهدوا الله على يد رسوله من قبل غزوة الخندق، لا يفرُّون إن شهدوا الحرب، ولا يتأخرون إذا دعوا إلى الجهاد، ولكنهم خانوا عهدهم، وسيحاسبهم الله على ذلك، ويسألهم عن ذلك العهد، وكان عهد الله مسؤولا عنه، محاسَبًا عليه.

ص: 419

قل -أيها النبي- لهؤلاء المنافقين: لن ينفعكم الفرار من المعركة خوفًا من الموت أو القتل; فإن ذلك لا يؤخر آجالكم، وإن فررتم فلن تتمتعوا في هذه الدنيا إلا بقدر أعماركم المحدودة، وهو زمن يسير جدًا بالنسبة إلى الآخرة.

ص: 420

قل -أيها النبي- لهم: مَن ذا الذي يمنعكم من الله، أو يجيركم مِن عذابه، إن أراد بكم سوءًا، أو أراد بكم رحمة، فإنه المعطي المانع الضارُّ النافع؟ ولا يجد هؤلاء المنافقون لهم من دون الله وليًّا يواليهم، ولا نصيرًا ينصرهم.

ص: 420

إن الله يعلم المثبطين عن الجهاد في سبيل الله، والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا، واتركوا محمدًا، فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه، وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياء وسمعة وخوف الفضيحة.

ص: 420

بُخَلاء عليكم -أيها المؤمنون- بالمال والنفس والجهد والمودة لما في نفوسهم من العداوة والحقد؛ حبًا في الحياة وكراهة للموت، فإذا حضر القتال خافوا الهلاك ورأيتهم ينظرون إليك، تدور أعينهم لذهاب عقولهم؛ خوفًا من القتل وفرارًا منه كدوران عين مَن حضره الموت، فإذا انتهت الحرب وذهب الرعب رموكم بألسنة حداد مؤذية، وتراهم عند قسمة الغنائم بخلاء وحسدة، أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم، فأذهب الله ثواب أعمالهم، وكان ذلك على الله يسيرًا.

ص: 420

يظن المنافقون أن الأحزاب الذين هزمهم الله تعالى شر هزيمة لم يذهبوا؛ ذلك من شدة الخوف والجبن، ولو عاد الأحزاب إلى «المدينة» لتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا غائبين عن «المدينة» بين أعراب البادية، يستخبرون عن أخباركم ويسألون عن أنبائكم، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.

ص: 420

لقد كان لكم -أيها المؤمنون- في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله قدوة حسنة تتأسون بها، فالزموا سنته، فإنما يسلكها ويتأسى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر، وأكثرَ مِن ذكر الله واستغفاره، وشكره في كل حال.

ص: 420

ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول «المدينة» وأحاطوا بها، تذكروا أن موعد النصر قد قرب، فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والمحنة والنصر، فأنجز الله وعده، وصدق رسوله فيما بشَّر به، وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.

ص: 420

من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله تعالى، وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس: فمنهم من وَفَّى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء، ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وما غيَّروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدَّلوه، كما غيَّر المنافقون.

ص: 421

ليثيب الله أهل الصدق بسبب صدقهم وبلائهم وهم المؤمنون، ويعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم، بأن لا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت، فيموتوا على الكفر، فيستوجبوا النار، أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، إن الله كان غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم إذا تابوا، رحيمًا بهم; حيث وفقهم للتوبة النصوح.

ص: 421

وردَّ الله أحزاب الكفر عن «المدينة» خائبين خاسرين مغتاظين، لم ينالوا خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال بما أيدهم به من الأسباب. وكان الله قويًا لا يُغالَب ولا يُقْهَر، عزيزًا في ملكه وسلطانه.

ص: 421

وأنزل الله يهود بني قريظة من حصونهم; لإعانتهم الأحزاب في قتال المسلمين، وألقى في قلوبهم الخوف فهُزموا، تقتلون منهم فريقًا، وتأسرون فريقًا آخر.

ص: 421

وملَّككم الله -أيها المؤمنون- أرضهم ومساكنهم وأموالهم المنقولة كالحليِّ والسلاح والمواشي، وغير المنقولة كالمزارع والبيوت والحصون المنيعة، وأورثكم أرضًا لم تتمكنوا مِن وطئها من قبل؛ لمنعتها وعزتها عند أهلها. وكان الله على كل شيء قديرًا، لا يعجزه شيء.

ص: 421

يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك، يطلبن منك زيادة النفقة: إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا، وأفارقكنَّ دون ضرر أو إيذاء.

ص: 421

وإن كنتن تردْنَ رضا الله ورضا رسوله وما أعدَّ الله لكُنَّ في الدار الآخرة، فاصبرْنَ على ما أنتُنَّ عليه، وأطعن الله ورسوله، فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ ثوابًا عظيمًا. (وقد اخترن الله ورسوله، وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة) .

ص: 421

يا نساء النبي مَن يأت منكن بمعصية ظاهرة يُضاعَف لها العذاب مرتين. فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهن عقوبته مغلظة؛ صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك العقاب على الله يسيرًا.

ص: 421

ومن تطع منكن الله ورسوله، وتعمل بما أمر الله به، نُعْطها ثواب عملها مثلَي ثواب عمل غيرها من سائر النساء، وأعددنا لها رزقًا كريمًا، وهو الجنة.

ص: 422

يا نساء النبيِّ -محمد- لستنَّ في الفضل والمنزلة كغيركنَّ من النساء، إن عملتن بطاعة الله وابتعدتن عن معاصيه، فلا تتحدثن مع الأجانب بصوت لَيِّن يُطمع الذي في قلبه فجور ومرض في الشهوة الحرام، وهذا أدب واجب على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، وقُلن قولا بعيدًا عن الريبة، لا تنكره الشريعة.

ص: 422

والْزَمْنَ بيوتكن، ولا تخرجن منها إلا لحاجة، ولا تُظهرن محاسنكن، كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام، وهو خطاب للنساء المؤمنات في كل عصر. وأدِّين -يا نساء النبي- الصلاة كاملة في أوقاتها، وأعطين الزكاة كما شرع الله، وأطعن الله ورسوله في أمرهما ونهيهما، إنما أوصاكن الله بهذا؛ ليزكيكنَّ، ويبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي -ومنهم زوجاته وذريته عليه الصلاة والسلام، ويطهِّر نفوسكم غاية الطهارة.

ص: 422

واذكرن ما يتلى في بيوتكن من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملن به، واقدُرْنه حقَّ قَدْره، فهو من نِعَم الله عليكن، إن الله كان لطيفًا بكنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والسنة، خبيرًا بكنَّ إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجًا.

ص: 422

إن المنقادين لأوامر الله والمنقادات، والمصَدِّقين والمصدِّقات والمطيعين لله ورسوله والمطيعات، والصادقين في أقوالهم والصادقات، والصابرين عن الشهوات وعلى الطاعات وعلى المكاره والصابرات، والخائفين من الله والخائفات، والمتصدقين بالفرض والنَّفْل والمتصدقات، والصائمين في الفرض والنَّفْل والصائمات، والحافظين فروجهم عن الزنى ومقدماته، وعن كشف العورات والحافظات، والذاكرين الله كثيرًا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات، أعدَّ الله لهؤلاء مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا، وهو الجنة.

ص: 422

ولا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله فيهم حُكمًا أن يخالفوه، بأن يختاروا غير الذي قضى فيهم. ومن يعص الله ورسوله فقد بَعُدَ عن طريق الصواب بُعْدًا ظاهرًا.

ص: 423

وإذ تقول -أيها النبي- للذي أنعم الله عليه بالإسلام -وهو زيد بن حارثة الذي أعتقه وتبنَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنعمت عليه بالعتق: أَبْقِ زوجك زينب بنت جحش ولا تطلقها، واتق الله يا زيد، وتخفي -يا محمد- في نفسك ما أوحى الله به إليك من طلاق زيد لزوجه وزواجك منها، والله تعالى مظهر ما أخفيت، وتخاف المنافقين أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه، والله تعالى أحق أن تخافه، فلما قضى زيد منها حاجته، وطلقها، وانقضت عدتها، زوجناكها; لتكون أسوة في إبطال عادة تحريم الزواج بزوجة المتبنى بعد طلاقها، ولا يكون على المؤمنين إثم وذنب في أن يتزوجوا من زوجات من كانوا يتبنَّوْنهم بعد طلاقهن إذا قضوا منهن حاجتهم. وكان أمر الله مفعولا لا عائق له ولا مانع. وكانت عادة التبني في الجاهلية، ثم أُبطلت بقوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} .

ص: 423

ما كان على النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم من ذنب فيما أحلَّ الله له من زواج امرأة مَن تبنَّاه بعد طلاقها، كما أباحه للأنبياء قبله، سنة الله في الذين خَلَوا من قبل، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا لا بد من وقوعه.

ص: 423

ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم بأنهم: الذين يُبَلِّغون رسالاتِ الله إلى الناس، ويخافون الله وحده، ولا يخافون أحدًا سواه. وكفى بالله محاسبًا عباده على جميع أعمالهم ومراقبًا لها.

ص: 423

ما كان محمد أبًا لأحد من رجالكم، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة. وكان الله بكل شيء من أعمالكم عليمًا، لا يخفى عليه شيء.

ص: 423

يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذِكْرًا كثيرًا، واشغلوا أوقاتكم بذكر الله تعالى عند الصباح والمساء، وأدبار الصلوات المفروضات، وعند العوارض والأسباب، فإن ذلك عبادة مشروعة، تدعو إلى محبة الله، وكف اللسان عن الآثام، وتعين على كل خير.

ص: 423

هو الذي يرحمكم ويثني عليكم وتدعو لكم ملائكته؛ ليخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الإسلام، وكان بالمؤمنين رحيمًا في الدنيا والآخرة، لا يعذبهم ما داموا مطيعين مخلصين له.

ص: 423

تحية هؤلاء المؤمنين من الله في الجنة يوم يلقونه سلام، وأمان لهم من عذاب الله، وقد أعدَّ لهم ثوابًا حسنًا، وهو الجنة.

ص: 424

يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا على أمتك بإبلاغهم الرسالة، ومبشرًا المؤمنين منهم بالرحمة والجنة، ونذيرًا للعصاة والمكذبين من النار، وداعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده بأمره إياك، وسراجًا منيرًا لمن استنار بك، فأمْرك ظاهر فيما جئتَ به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند.

ص: 424

وبَشِّر -أيها النبي- أهل الإيمان بأن لهم من الله ثوابًا عظيمًا، وهو روضات الجنات.

ص: 424

ولا تطع -أيها الرسول- قول كافر أو منافق واترك أذاهم، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الرسالة، وثق بالله في كل أمورك واعتمد عليه؛ فإنه يكفيك ما أهمَّك من كل أمور الدنيا والآخرة.

ص: 424

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن ثم طلقتموهن مِن قبل أن تجامعوهن، فما لكم عليهن مِن عدَّة تحصونها عليهن، فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها بحسب الوسع جبرًا لخواطرهن، وخلُّوا سبيلهن مع الستر الجميل، دون أذى أو ضرر.

ص: 424

يا أيها النبي إنَّا أبَحْنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن، وأبَحْنا لك ما مَلَكَتْ يمينك من الإماء، مما أنعم الله به عليك، وأبحنا لك الزواج من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك، وأبحنا لك امرأة مؤمنة مَنَحَتْ نفسها لك من غير مهر، إن كنت تريد الزواج منها خالصة لك، وليس لغيرك أن يتزوج امرأة بالهِبَة. قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين في أزواجهم وإمائهم بألا يتزوجوا إلا أربع نسوة، وما شاؤوا من الإماء، واشتراط الوليِّ والمهر والشهود عليهم، ولكنا رخصنا لك في ذلك، ووسَّعْنا عليك ما لم يُوسَّع على غيرك؛ لئلا يضيق صدرك في نكاح مَن نكحت مِن هؤلاء الأصناف. وهذا من زيادة اعتناء الله برسوله صلى الله عليه وسلم وتكريمه له. وكان الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين، رحيمًا بالتوسعة عليهم.

ص: 424

تؤخر مَن تشاء مِن نسائك في القَسْم في المبيت، وتضم إليك مَن تشاء منهن، ومَن طَلَبْتَ ممن أخَّرت قَسْمها، فلا إثم عليك في هذا، ذلك التخيير أقرب إلى أن يفرحن ولا يحزنَّ، ويرضين كلهن بما قسمت لهنَّ، والله يعلم ما في قلوب الرجال مِن مَيْلها إلى بعض النساء دون بعض. وكان الله عليمًا بما في القلوب، حليمًا لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.

ص: 425

لا يحل لك تزوج النساء من بعد زوجاتك أمهات المؤمنين، ولا أن تطلقهن وتتزوج بدلهن غيرهن -إكراماً لهن، وشكراً على حسن صنيعهن من اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة- ولو أعجبك حسن غيرهن من النساء، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، فهن حلال لك. وكان الله على كل شيء رقيبًا، لا يغيب عنه علم شيء.

ص: 425

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تدخلوا بيوت النبي إلا بإذنه لتناول طعام غير منتظرين نضجه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا أكلتم فانصرفوا غير مستأنسين لحديث بينكم؛ فإن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي، فيستحيي من إخراجكم من البيوت مع أن ذلك حق له، والله لا يستحيي من بيان الحق وإظهاره. وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال؛ فالرؤية سبب الفتنة، وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته أبدًا؛ لأنهن أمهاتكم، ولا يحلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه، إنَّ أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده إثم عظيم عند الله.

وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر، واجتنبت ما نهى الله عنه منه.

ص: 425

إن تُظْهِروا شيئًا على ألسنتكم -أيها الناس- مما يؤذي رسول الله مما نهاكم الله عنه، أو تخفوه في نفوسكم، فإن الله تعالى يعلم ما في قلوبكم وما أظهرتموه، وسيجازيكم على ذلك.

ص: 425

لا إثم على النساء في عدم الاحتجاب من آبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن والنساء المؤمنات والعبيد المملوكين لهن؛ لشدة الحاجة إليهم في الخدمة. وخفن الله -أيتها النساء- أن تتعدَّيْن ما حَدَّ لكنَّ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكُنَّ أن تبدينه، أو تتركن الحجاب أمام مَن يجب عليكن الاحتجاب منه. إن الله كان على كل شيء شهيدًا، يشهد أعمال العباد ظاهرها وباطنها، وسيجزيهم عليها.

ص: 426

إن الله تعالى يثني على النبي صلى الله عليه وسلم عند الملائكة المقربين، وملائكته يثنون على النبي ويدعون له، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، صلُّوا على رسول الله، وسلِّموا تسليمًا، تحية وتعظيمًا له. وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت في السنة على أنواع، منها:«اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .

ص: 426

إن الذين يؤذون الله بالشرك أو غيره من المعاصي، ويؤذون رسول الله بالأقوال أو الأفعال، أبعدهم الله وطردهم مِن كل خير في الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم في الآخرة عذابًا يذلهم ويهينهم.

ص: 426

والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بقول أو فعل من غير ذنب عملوه، فقد ارتكبوا أفحش الكذب والزور، وأتوا ذنبًا ظاهر القبح يستحقون به العذاب في الآخرة.

ص: 426

يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يرخين على رؤوسهن ووجوههن من أرديتهن وملاحفهن؛ لستر وجوههن وصدورهن ورؤوسهن; ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة، فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى. وكان الله غفورًا رحيمًا حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم بما أوضح لكم من الحلال والحرام.

ص: 426

لئن لم يكفَّ الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان والذين في قلوبهم شك وريبة، والذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائحهم وشرورهم، لنسلِّطنَّك عليهم، ثم لا يسكنون معك فيها إلا زمنًا قليلا. مطرودين من رحمة الله، في أي مكان وُجِدوا فيه أُسِروا وقُتِّلوا تقتيلا ما داموا مقيمين على النفاق ونشر الأخبار الكاذبة بين المسلمين بغرض الفتنة والفساد.

ص: 426

سنة الله وطريقته في منافقي الأمم السابقة أن يؤسَروا ويُقَتَّلوا أينما كانوا، ولن تجد -أيها النبي- لطريقة الله تحويلا ولا تغييرًا.

ص: 426

يسألك الناس -أيها الرسول- عن وقت القيامة استبعادًا وتكذيبًا، قل لهم: إنما علم الساعة عند الله، وما يدريك -أيها الرسول- لعل زمانها قريب؟

ص: 427

إن الله طرد الكافرين من رحمته في الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم في الآخرة نارًا موقدة شديدة الحرارة، ماكثين فيها أبدًا، لا يجدون وليًّا يتولاهم ويدافع عنهم، ولا نصيرًا ينصرهم، فيخرجهم من النار. يوم تُقَلَّب وجوه الكافرين في النار يقولون نادمين متحيِّرين: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا رسوله في الدنيا، فكنا من أهل الجنة.

ص: 427

وقال الكافرون يوم القيامة: ربنا إنا أطَعْنا أئمتنا في الضلال وكبراءنا في الشرك، فأزالونا عن طريق الهُدى والإيمان. ربنا عذِّبهم من العذاب مثلَيْ عذابنا الذي تعذبنا به، واطردهم من رحمتك طردًا شديدًا. وفي هذا دليل على أن طاعة غير الله في مخالفة أمره وأمر رسوله، موجبة لسخط الله وعقابه، وأن التابع والمتبوع في العذاب مشتركون، فليحذر المسلم ذلك.

ص: 427

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تؤذوا رسول الله بقول أو فعل، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا نبيَّ الله موسى، فبرَّأه الله مما قالوا فيه من الكذب والزور، وكان عند الله عظيم القدر والجاه.

ص: 427

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، اعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته؛ لئلا تستحقوا بذلك العقاب، وقولوا في جميع أحوالكم وشؤونكم قولا مستقيمًا موافقًا للصواب خاليًا من الكذب والباطل.

ص: 427

إذا اتقيتم الله وقلتم قولا سديدًا أصلح الله لكم أعمالكم، وغفر ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فيما أمر ونهى فقد فاز بالكرامة العظمى في الدنيا والآخرة.

ص: 427

إنا عرضنا الأمانة -التي ائتمن الله عليها المكلَّفين من امتثال الأوامر واجتناب النواهي- على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وخفن أن لا يقمن بأدائها، وحملها الإنسان والتزم بها على ضعفه، إنه كان شديد الظلم والجهل لنفسه.

ص: 427

لتكون عاقبة حمل الإنسان الأمانة أن يعذب الله المنافقين الذين يُظهرون الإسلام ويُخفون الكفر، والمنافقات، والمشركين في عبادة الله غيره، والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بستر ذنوبهم وترك عقابهم. وكان الله غفورًا للتائبين من عباده، رحيمًا بهم.

ص: 427

الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي له ملك ما في السموات وما في الأرض، وله الثناء التام في الآخرة، وهو الحكيم في فعله، الخبير بشؤون خلقه.

ص: 428

يعلم كل ما يدخل في الأرض من قطرات الماء، وما يخرج منها من النبات والمعادن والمياه، وما ينزل من السماء من الأمطار والملائكة والكتب، وما يصعد إليها من الملائكة وأفعال الخلق. وهو الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة، الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

ص: 428

وقال الكافرون المنكرون للبعث: لا تأتينا القيامة، قل لهم -أيها الرسول-: بلى وربي لتأتينَّكم، ولكن لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى الله علام الغيوب، الذي لا يغيب عنه وزن نملة صغيرة في السموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا هو مسطور في كتاب واضح، وهو اللوح المحفوظ; ليثيب الذين صدَّقوا بالله، واتَّبَعوا رسوله، وعملوا الصالحات. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم، وهو الجنة.

ص: 428

والذين سعوا في الصدِّ عن سبيل الله وتكذيب رسله وإبطال آياتنا مشاقين الله مغالبين أمره، أولئك لهم أسوأ العذاب وأشده ألمًا.

ص: 428

ويعلم الذين أُعطوا العلم أن القرآن الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق، ويرشد إلى طريق الله، العزيز الذي لا يغالَب ولا يمانع، بل قهر كل شيء وغلبه، المحمود في أقواله وأفعاله وشرعه.

ص: 428

وقال الذين كفروا بعضهم لبعض استهزاء: هل ندلكم على رجل (يريدون محمدًا صلى الله عليه وسلم يخبركم أنكم إذا متم وتفرقت أجسامكم كل تفرُّق، إنكم ستُحيون وتُبعثون من قبوركم؟ قالوا ذلك مِن فرط إنكارهم.

ص: 428

هذا الرجل أختلق على الله كذبًا أم به جنون، فهو يتكلم بما لا يدري؟ ليس الأمر كما قال الكفار، بل محمد أصدق الصادقين. والذين لا يصدقون بالبعث ولا يعملون من أجله في العذاب الدائم في الآخرة، والضلال البعيد عن الصواب في الدنيا.

ص: 429

أفلم ير هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة عظيم قدرة الله فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض مما يبهر العقول، وأنهما قد أحاطتا بهم؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض، كما فعلنا بقارون، أو ننزل عليهم قطعًا من العذاب، كما فعلنا بقوم شعيب، فقد أمطرت السماء عليهم نارًا فأحرقتهم. إن في ذلك الذي ذكرنا من قدرتنا لَدلالة ظاهرة لكل عبد راجع إلى ربه بالتوبة، ومقر له بتوحيده، ومخلص له في العبادة.

ص: 429

ولقد آتينا داود نبوة، وكتابًا وعلمًا، وقلنا للجبال والطير: سبِّحي معه، وألنَّا له الحديد، فكان كالعجين يتصرف فيه كيف يشاء.

ص: 429

أن اعمل دروعًا تامات واسعات وقدِّر المسامير في حِلَق الدروع، فلا تعمل الحلقة صغيرة فتَضْعُف، فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها، واعمل يا داود أنت وأهلك بطاعة الله، إني بما تعملون بصير لا يخفى عليَّ شيء منها.

ص: 429

وسخَّرنا لسليمان الريح تجري من أول النهار إلى انتصافه مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر بالسير المعتاد، وأسلنا له النحاس كما يسيل الماء، يعمل به ما يشاء، وسخَّرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار المستعرة.

ص: 429

يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة، وصور من نحاس وزجاج، وقِصَاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء، وقدور ثابتات لا تتحرك من أماكنها لعظمهن، وقلنا يا آل داود: اعملوا شكرًا لله على ما أعطاكم، وذلك بطاعته وامتثال أمره، وقليل من عبادي من يشكر الله كثيرًا، وكان داود وآله من القليل.

ص: 429

فلما قضينا على سليمان بالموت ما دلَّ الجن على موته إلا الأرَضَةُ تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها، فوقع سليمان على الأرض، عند ذلك علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما أقاموا في العذاب المذلِّ والعمل الشاق لسليمان؛ ظنا منهم أنه من الأحياء. وفي الآية إبطال لاعتقاد بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب; إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان عليه السلام، ولما أقاموا في العذاب المهين.

ص: 429

لقد كان لقبيلة سبأ بـ «اليمن» في مسكنهم دلالة على قدرتنا: بستانان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم، واشكروا له نعمه عليكم; فإن بلدتكم كريمة التربة حسنة الهواء، وربكم غفور لكم.

ص: 430

فأعرضوا عن أمر الله وشكره وكذبوا الرسل، فأرسلنا عليهم السيل الجارف الشديد الذي خرَّب السد وأغرق البساتين، وبدَّلناهم بجنتيهم المثمرتين جنتين ذواتَيْ أكل خمط، وهو الثمر المر الكريه الطعم، وأثْل وهو شجر شبيه بالطَّرْفاء لا ثمر له، وقليل من شجر النَّبْق كثير الشوك. ذلك التبديل من خير إلى شر بسبب كفرهم، وعدم شكرهم نِعَمَ الله، وما نعاقب بهذا العقاب الشديد إلا الجَحود المبالغ في الكفر، يجازى بفعله مثلا بمثل.

ص: 430

وجعلنا بين أهل «سبأ» -وهم «باليمن» - والقرى التي باركنا فيها -وهي «الشام» - مُدنًا متصلة يُرى بعضها من بعض، وجعلنا السير فيها سيرًا مقدَّرًا من منزل إلى منزل لا مشقة فيه، وقلنا لهم: سيروا في تلك القرى في أيِّ وقت شئتم من ليل أو نهار، آمنين لا تخافون عدوًّا، ولا جوعًا ولا عطشًا.

ص: 430

فبطغيانهم ملُّوا الراحة والأمن ورغد العيش، وقالوا: ربنا اجعل قُرانا متباعدة; ليبعد سفرنا بينها، فلا نجد قرى عامرة في طريقنا، وظلموا أنفسهم بكفرهم فأهلكناهم، وجعلناهم عبرًا وأحاديث لمن يأتي بعدهم، وفَرَّقناهم كل تفريق وخربت بلادهم، إن فيما حل «بسبأ» لَعبرة لكل صبَّار على المكاره والشدائد، شكور لنعم الله تعالى.

ص: 430

ولقد ظن إبليس ظنًا غير يقين أنه سيضل بني آدم، وأنهم سيطيعونه في معصية الله، فصدَّق ظنه عليهم، فأطاعوه وعصوا ربهم إلا فريقًا من المؤمنين بالله، فإنهم ثبتوا على طاعة الله.

ص: 430

وما كان لإبليس على هؤلاء الكفار مِن قهر على الكفر، ولكن حكمة الله اقتضت تسويله لبني آدم; ليظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز مَن يصدِّق بالبعث والثواب والعقاب ممن هو في شك من ذلك. وربك على كل شيء حفيظ، يحفظه ويجازي عليه.

ص: 430

قل -أيها الرسول- للمشركين: ادعوا الذين زعمتموهم شركاء لله فعبدتموهم من دونه من الأصنام والملائكة والبشر، واقصدوهم في حوائجكم، فإنهم لن يجيبوكم، فهم لا يملكون وزن نملة صغيرة في السموات ولا في الأرض، وليس لهم شِرْكة فيهما، وليس لله من هؤلاء المشركين معين على خلق شيء، بل الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالإيجاد، فهو الذي يُعْبَدُ وحده، ولا يستحق العبادة أحد سواه.

ص: 430

ولا تنفع شفاعة الشافع عند الله تعالى إلا لمن أذن له. ومن عظمته وجلاله عز وجل أنه إذا تكلم سبحانه بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أُرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي، فإذا زال الفزع عن قلوبهم سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: قال الحق، وهو العليُّ بذاته وقهره وعلوِّ قدْره، الكبير على كل شيء.

ص: 431

قل -أيها الرسول- للمشركين: مَن يرزقكم من السماوات بالمطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن وغير ذلك؟ فإنهم لا بدَّ أن يُقِرُّوا بأنه الله، وإن لم يُقِرُّوا بذلك فقل لهم: الله هو الرزاق، وإنَّ أحد الفريقين منا ومنكم لعلى هدى متمكن منه، أو في ضلال بيِّن منغمس فيه.

ص: 431

قل: لا تُسألون عن ذنوبنا، ولا نُسأل عن أعمالكم; لأننا بريئون منكم ومِن كفركم.

ص: 431

قل: ربنا يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة، ثم يقضي بيننا بالعدل، وهو الفتَّاح الحاكم بين خلقه، العليم بما ينبغي أن يُقْضى به، وبأحوال خلقه، لا تخفى عليه خافية.

ص: 431

قل: أروني بالحجة والدليل الذين ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء له في العبادة، هل خلقوا شيئًا؟ ليس الأمر كما وصفوا، بل هو المعبود بحق الذي لا شريك له، العزيز في انتقامه ممن أشرك به، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أمور خلقه.

ص: 431

وما أرسلناك -أيها الرسول- إلا للناس أجمعين مبشرًا بثواب الله، ومنذرًا عقابه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق، فهم معرضون عنه.

ص: 431

ويقول هؤلاء المشركون مستهزئين: متى هذا الوعد الذي تَعِدوننا أن يجمعنا الله فيه، ثم يقضي بيننا، إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟

ص: 431

قل لهم -أيها الرسول-: لكم ميعاد هو آتيكم لا محالة، وهو ميعاد يوم القيامة، لا تستأخرون عنه ساعة للتوبة، ولا تستقدمون ساعةً قبله للعذاب. فاحذروا ذلك اليوم، وأَعِدُّوا له عدته.

ص: 431

وقال الذين كفروا: لن نصدِّق بهذا القرآن ولا بالذي تَقَدَّمَه من التوراة والإنجيل والزبور، فقد كذَّبوا بجميع كتب الله. ولو ترى -أيها الرسول- إذ الظالمون محبوسون عند ربهم للحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم، كل يُلْقي بالعتاب على الآخر، لرأيت شيئًا فظيعاً، يقول المستضعفون للذين استكبروا -وهم القادة والرؤساء الضالون المضلون-: لولا أنتم أضللتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بالله ورسوله.

ص: 431

قال الرؤساء للذين استُضعِفوا: أنحن منعناكم من الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ دخلتم في الكفر بإرادتكم مختارين.

ص: 432

وقال المستضعفون لرؤسائهم في الضلال: بل تدبيركم الشر لنا في الليل والنهار هو الذي أوقعنا في التهلكة، فكنتم تطلبون منا أن نكفر بالله، ونجعل له شركاء في العبادة، وأسرَّ كُلٌّ من الفريقين الحسرة حين رأوا العذاب الذي أُعدَّ لهم، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، لا يعاقَبون بهذا العقاب إلا بسبب كفرهم بالله وعملهم السيئات في الدنيا. وفي الآية تحذير شديد من متابعة دعاة الضلال وأئمة الطغيان.

ص: 432

وما أرسلنا في قرية من رسول يدعو الى توحيد الله وإفراده بالعبادة، إلا قال المنغمسون في اللذات والشهوات من أهلها: إنَّا بالذي جئتم به -أيها الرسل- جاحدون.

ص: 432

وقالوا: نحن أكثر منكم أموالا وأولادًا، والله لم يعطنا هذه النعم إلا لرضاه عنا، وما نحن بمعذَّبين في الدنيا ولا في الآخرة.

ص: 432

قل لهم -أيها الرسول-: إن ربي يوسِّع الرزق في الدنيا لمن يشاء مِن عباده، ويضيِّق على مَن يشاء، لا لمحبة ولا لبغض، ولكن يفعل ذلك اختبارًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك اختبار لعباده؛ لأنهم لا يتأملون.

ص: 432

وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى، وترفع درجاتكم، لكن مَن آمن بالله وعمل صالحًا فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات، فالحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة، وهم في أعالي الجنة آمنون من العذاب والموت والأحزان.

ص: 432

والذين يسعون في إبطال حججنا، ويصدون عن سبيل الله مشاقين مغالبين، هؤلاء في عذاب جهنم يوم القيامة، تحضرهم الزبانية، فلا يخرجون منها.

ص: 432

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد: إن ربي يوسِّع الرزق على مَن يشاء من عباده، ويضيِّقه على مَن يشاء؛ لحكمة يعلمها، ومهما أَعْطَيتم من شيء فيما أمركم به فهو يعوضه لكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالثواب، وهو -سبحانه- خير الرازقين، فاطلبوا الرزق منه وحده، واسعَوا في الأسباب التي أمركم بها.

ص: 432

واذكر -أيها الرسول- يوم يحشر الله المشركين والمعبودين من دونه من الملائكة، ثم يقول للملائكة على وجه التوبيخ لمن عبدهم: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون مِن دوننا؟

ص: 433

قالت الملائكة: ننزهك يا ألله عن أن يكون لك شريك في العبادة، أنت وليُّنا الذي نطيعه ونعبده وحده، بل كان هؤلاء يعبدون الشياطين، أكثرهم بهم مصدقون ومطيعون.

ص: 433

ففي يوم الحشر لا يملك المعبودون للعابدين نفعًا ولا ضرًّا، ونقول للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.

ص: 433

وإذا تتلى على كفار «مكة» آيات الله واضحات قالوا: ما محمد إلا رجل يرغب أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم، وقالوا: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا -يا محمد- إلا كذب مختلق، جئتَ به من عند نفسك، وليس مِن عند الله، وقال الكفار عن القرآن لما جاءهم: ما هذا إلا سحر واضح.

ص: 433

وما أنزلنا على الكفار مِن كُتُب يقرؤونها قبل القرآن فتدلهم على ما يزعمون من أن ما جاءهم به محمد سحر، وما أرسلنا إليهم قبلك -أيها الرسول- من رسول ينذرهم بأسنا.

ص: 433

وكذَّب الذين من قبلهم كعاد وثمود رسلنا، وما بلغ أهل «مكة» عُشرَ ما آتينا الأمم السابقة من القوة، وكثرة المال، وطول العمر وغير ذلك من النعم، فكذبوا رسلي فيما جاؤوهم به فأهلكناهم، فانظر -أيها الرسول- كيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟

ص: 433

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين المعاندين: إنما أنصح لكم بخصلة واحدة أن تنهضوا في طاعة الله اثنين اثنين وواحدًا واحدًا، ثم تتفكروا في حال صاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسب إليه، فما به من جنون، وما هو إلا مخوِّف لكم، ونذير من عذاب جهنم قبل أن تقاسوا حرها.

ص: 433

قل -أيها الرسول- للكفار: ما سألتكم على الخير الذي جئتكم به من أجر فهو لكم، ما أجري الذي أنتظره إلا على الله المطَّلِع على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع، كلٌّ بما يستحقه.

ص: 433

قل -أيها الرسول- لمن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام: إن ربي يقذف الباطل بحجج من الحق، فيفضحه ويهلكه، والله علام الغيوب، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ص: 433

قل -أيها الرسول-: جاء الحق والشرع العظيم من الله، وذهب الباطل واضمحلَّ سلطانه، فلم يبق للباطل شيء يبدؤه ويعيده.

ص: 434

قل: إن مِلْت عن الحق فإثم ضلالي على نفسي، وإن استقمت عليه فبوحي الله الذي يوحيه إليَّ، إن ربي سميع لما أقول لكم، قريب ممن دعاه وسأله.

ص: 434

ولو ترى -أيها الرسول- إذ فَزِعَ الكفار حين معاينتهم عذاب الله، لرأيت أمرًا عظيمًا، فلا نجاة لهم ولا مهرب، وأُخذوا إلى النار من موضع قريب التناول.

ص: 434

وقال الكفار -عندما رأوا العذاب في الآخرة-: آمنا بالله وكتبه ورسله، وكيف لهم تناول الإيمان في الآخرة ووصولهم له من مكان بعيد؟ قد حيل بينهم وبينه، فمكانه الدنيا، وقد كفروا فيها.

ص: 434

وقد كفروا بالحق في الدنيا، وكذبوا الرسل، ويرمون بالظن من جهة بعيدة عن إصابة الحق، ليس لهم فيها مستند لظنهم الباطل، فلا سبيل لإصابتهم الحق، كما لا سبيل للرامي إلى إصابة الغرض من مكان بعيد.

ص: 434

وحيل بين الكفار وما يشتهون من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا، كما فعل الله بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة، إنهم كانوا في الدنيا في شَكٍّ من أمر الرسل والبعث والحساب، مُحْدِث للريبة والقلق، فلذلك لم يؤمنوا.

ص: 434

الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، خالق السماوات والأرض ومبدعهما، جاعل الملائكة رسلا إلى مَن يشاء من عباده، وفيما شاء من أمره ونهيه، ومِن عظيم قدرة الله أن جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع تطير بها؛ لتبليغ ما أمر الله به، يزيد الله في خلقه ما يشاء. إن الله على كل شيء قدير، لا يستعصي عليه شيء.

ص: 434

ما يفتح الله للناس من رزق ومطر وصحة وعلم وغير ذلك من النعم، فلا أحد يقدر أن يمسك هذه الرحمة، وما يمسك منها فلا أحد يستطيع أن يرسلها بعده سبحانه وتعالى. وهو العزيز القاهر لكل شيء، الحكيم الذي يرسل الرحمة ويمسكها وَفْق حكمته.

ص: 434

يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، فلا خالق لكم غير الله يرزقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالماء والمعادن وغير ذلك. لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فكيف تُصْرَفون عن توحيده وعبادته؟

ص: 434

وإن يكذبك قومك -أيها الرسول- فقد كُذِّب رسل مِن قبلك، وإلى الله تصير الأمور في الآخرة، فيجازي كلا بما يستحق. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 435

يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق ثابت، فلا تخدعنَّكم الحياة الدنيا بشهواتها ومطالبها، ولا يخدعنَّكم بالله الشيطان. إن الشيطان لبني آدم عدو، فاتخذوه عدوًّا ولا تطيعوه، إنما يدعو أتباعه إلى الضلال؛ ليكونوا من أصحاب النار الموقدة.

ص: 435

الذين جحدوا أن الله هو وحده الإله الحق وجحدوا ما جاءت به رسله لهم عذاب شديد في الآخرة، والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات لهم عفو من ربهم وتجاوز عن ذنوبهم بعد سترها عليهم، ولهم أجر كبير، وهو الجنة.

ص: 435

أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان فرآه حسنًا جميلا كمَن هداه الله تعالى، فرأى الحسن حسنًا والسيئ سيئًا؟ فإن الله يضل من يشاء من عباده، ويهدي من يشاء، فلا تُهْلك نفسك حزنًا على كفر هؤلاء الضالين، إن الله عليم بقبائحهم وسيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

ص: 435

واللهُ هو الذي أرسل الرياح فتحرك سحابًا، فسقناه إلى بلد جدب، فينزل الماء فأحيينا به الأرض بعد يُبْسها فتخضر بالنبات، مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة.

ص: 435

من كان يطلب عزة في الدنيا أو الآخرة فليطلبها من الله، ولا تُنال إلا بطاعته، فلله العزة جميعًا، فمن اعتز بالمخلوق أذلَّه الله، ومن اعتز بالخالق أعزه الله، إليه سبحانه يصعد ذكره والعمل الصالح يرفعه. والذين يكتسبون السيئات لهم عذاب شديد، ومكر أولئك يَهْلك ويَفْسُد، ولا يفيدهم شيئًا.

ص: 435

واللهُ خلق أباكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم جعلكم رجالا ونساءً. وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه، وما يعمَّر من مُعَمَّر، فيطول عمره، ولا يُنْقَص من عمره إلا في كتاب عنده، وهو اللوح المحفوظ، قبل أن تحمل به أمُّه وقبل أن تضعه. قد أحصى الله ذلك كله، وعلمه قبل أن يخلقه، لا يُزاد فيما كتب له ولا يُنْقَص. إن خَلْقكم وعِلْم أحوالكم وكتابتها في اللوح المحفوظ سهل يسير على الله.

ص: 435

وما يستوي البحران: هذا عذب شديد العذوبة، سَهْلٌ مروره في الحلق يزيل العطش، وهذا ملح شديد الملوحة، ومن كل من البحرين تأكلون سمكًا طريًّا شهيَّ الطَّعم، وتستخرجون زينة هي اللؤلؤ والمَرْجان تَلْبَسونها، وترى السفن فيه شاقات المياه؛ لتبتغوا من فضله من التجارة وغيرها. وفي هذا دلالة على قدرة الله ووحدانيته; ولعلكم تشكرون لله على هذه النعم التي أنعم بها عليكم.

ص: 436

واللهُ يدخل من ساعات الليل في النهار، فيزيد النهار بقَدْر ما نقص من الليل، ويُدخل من ساعات النهار في الليل، فيزيد الليل بقَدْر ما نقص من النهار، وذلل الشمس والقمر، يجريان لوقت معلوم، ذلكم الذي فعل هذا هو الله ربكم له الملك كله، والذين تعبدون من دون الله ما يملكون مِن قطمير، وهي القشرة الرقيقة البيضاء تكون على النَّواة.

ص: 436

إن تدعوا -أيها الناس- هذه المعبودات من دون الله لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا على سبيل الفرض ما أجابوكم، ويوم القيامة يتبرؤون منكم، ولا أحد يخبرك -أيها الرسول- أصدق من الله العليم الخبير.

ص: 436

يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله في كل شيء، لا تستغنون عنه طرفة عين، وهو سبحانه الغنيُّ عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته، الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بالناس منه، فله الحمد والشكر على كلِّ حال.

ص: 436

إن يشأ الله يهلكُّم أيها الناس، ويأت بقوم آخرين يطيعونه ويعبدونه وحده.

ص: 436

وما إهلاككم والإتيان بخلق سواكم على الله بممتنع، بل ذلك على الله سهل يسير.

ص: 436

ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى، وإن تَسْأل نفسٌ مثقَلَة بالخطايا مَن يحمل عنها من ذنوبها لم تجد من يَحمل عنها شيئًا، ولو كان الذي سألتْه ذا قرابة منها من أب أو أخ ونحوهما. إنما تحذِّر -أيها الرسول- الذين يخافون عذاب ربهم بالغيب، وأدَّوا الصلاة حق أدائها. ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي فإنما يتطهر لنفسه. وإلى الله سبحانه مآل الخلائق ومصيرهم، فيجازي كلا بما يستحق.

ص: 436

وما يستوي الأعمى عن دين الله، والبصير الذي أبصر طريق الحق واتبعه، وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا الظل ولا الريح الحارة، وما يستوي أحياء القلوب بالإيمان، وأموات القلوب بالكفر. إن الله يسمع مَن يشاء سماع فَهْم وقَبول، وما أنت -أيها الرسول- بمسمع مَن في القبور، فكما لا تُسمع الموتى في قبورهم فكذلك لا تُسمع هؤلاء الكفار لموت قلوبهم، إن أنت إلا نذير لهم غضب الله وعقابه. إنا أرسلناك بالحق، وهو الإيمان بالله وشرائع الدين، مبشرًا بالجنة مَن صدَّقك وعمل بهديك، ومحذرًا مَن كذَّبك وعصاك النار. وما من أمة من الأمم إلا جاءها نذير يحذرها عاقبة كفرها وضلالها.

ص: 437

وإن يكذبك هؤلاء المشركون فقد كذَّب الذين مِن قبلهم رسلهم الذين جاؤوهم بالمعجزات الواضحات الدالة على نبوتهم، وجاؤوهم بالكتب المجموع فيها كثير من الأحكام، وبالكتاب المنير الموضح لطريق الخير والشر.

ص: 437

ثم أخَذْت الذين كفروا بأنواع العذاب، فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وحلول عقوبتي بهم؟

ص: 437

ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فسقينا به أشجارًا في الأرض، فأخرجنا من تلك الأشجار ثمرات مختلفًا ألوانها، منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر وغير ذلك؟ وخَلَقْنا من الجبال طرائق بيضًا وحمرًا مختلفًا ألوانها، وخلقنا من الجبال جبالا شديدة السواد.

ص: 437

وخلقنا من الناس والدواب والإبل والبقر والغنم ما هو مختلف ألوانه كذلك، فمن ذلك الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك كاختلاف ألوان الثمار والجبال. إنما يخشى اللهَ ويتقي عقابه بطاعته واجتناب معصيته العلماءُ به سبحانه، وبصفاته، وبشرعه، وقدرته على كل شيء، ومنها اختلاف هذه المخلوقات مع اتحاد سببها، ويتدبرون ما فيها من عظات وعبر. إن الله عزيز قويٌّ لا يغالَب، غفور يثيب أهل الطاعة، ويعفو عنهم.

ص: 437

إن الذين يقرؤون القرآن، ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص، ويضاعف لهم الحسنات من فضله، إن الله غفور لسيئاتهم، شكور لحسناتهم، يثيبهم عليها الجزيل من الثواب.

ص: 437

والذي أنزلناه إليك -أيها الرسول- من القرآن هو الحق المصدِّق للكتب التي أنزلها الله على رسله قبلك. إن الله لخبير بشؤون عباده، بصير بأعمالهم، وسيجازيهم عليها.

ص: 438

ثم أعطينا -بعد هلاك الأمم- القرآن مَن اخترناهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فمنهم ظالم لنفسه بفعل بعض المعاصي، ومنهم مقتصد، وهو المؤدي للواجبات المجتنب للمحرمات، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، أي مسارع مجتهد في الأعمال الصالحة، فَرْضِها ونفلها، ذلك الإعطاء للكتاب واصطفاء هذه الأمة هو الفضل الكبير.

ص: 438

جنات إقامة دائمة للذين أورثهم الله كتابه يُحلَّون فيها بأساور الذهب وباللؤلؤ، ولباسهم المعتاد في الجنة حرير أي: ثياب رقيقة. وقالوا حين دخلوا الجنة: الحمد لله الذي أذهب عنا كل حَزَن، إن ربنا لغفور; حيث غفر لنا الزلات، شكور; حيث قبل منا الحسنات وضاعفها. وهو الذي أنزلَنا دار الجنة من فضله، لا يمسنا فيها تعب ولا إعياء.

ص: 438

والذين كفروا بالله ورسوله لهم نار جهنم الموقدة، لا يُقْضى عليهم بالموت، فيموتوا ويستريحوا، ولا يُخَفَّف عنهم مِن عذابها، ومثل ذلك الجزاء يجزي الله كلَّ من هو مبالغ في الكفر متمادٍ في الكفر مُصِرٍّ عليه.

ص: 438

وهؤلاء الكفار يَصْرُخون من شدة العذاب في نار جهنم مستغيثين: ربنا أخرجنا من نار جهنم، وردَّنا إلى الدنيا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمله في حياتنا الدنيا، فنؤمن بدل الكفر، فيقول لهم: أو لم نُمْهلكم في الحياة قَدْرًا وافيًا من العُمُر، يتعظ فيه من اتعظ، وجاءكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم تتذكروا ولم تتعظوا؟ فذوقوا عذاب جهنم، فليس للكافرين من ناصر ينصرهم من عذاب الله.

ص: 438

إن الله مطَّلع على كل غائب في السموات والأرض، وإنه عليم بخفايا الصدور، فاتقوه أن يطَّلع عليكم، وأنتم تُضْمِرون الشك أو الشرك في وحدانيته، أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن تَعْصوه بما دون ذلك.

ص: 438

الله هو الذي جعلكم -أيها الناس- يَخْلُف بعضكم بعضًا في الأرض، فمن جحد وحدانية الله منكم فعلى نفسه ضرره وكفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بغضًا وغضبًا، ولا يزيدهم كفرهم بالله إلا ضلالا وهلاكًا.

ص: 439

قل -أيها الرسول- للمشركين: أخبروني أيَّ شيء خَلَق شركاؤكم من الأرض، أم أن لشركائكم الذين تعبدونهم من دون الله شركًا مع الله في خلق السموات، أم أعطيناهم كتابًا فهم على حجة منه؟ بل ما يَعِدُ الكافرون بعضهم بعضًا إلا غرورًا وخداعًا.

ص: 439

إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا عن مكانهما، ولئن زالت السماوات والأرض عن مكانهما ما يمسكهما من أحد من بعده. إن الله كان حليمًا في تأخير العقوبة عن الكافرين والعصاة، غفورًا لمن تاب من ذنبه ورجع إليه.

ص: 439

وأقسم كفار قريش بالله أشد الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه.

ص: 439

ليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق، وإنما هو استكبار في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيِّئ والخداع والباطل، ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلا ولا تحويلا فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل، ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه أو غيره.

ص: 439

أو لم يَسِرْ كفار «مكة» في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كعاد وثمود وأمثالهم، وما حلَّ بهم من الدمار، وبديارهم من الخراب، حين كذبوا الرسل، وكان أولئك الكفرة أشد قوة وبطشًا من كفار «مكة» ؟ وما كان الله تعالى ليعجزه ويفوته من شيء في السماوات ولا في الأرض، إنه كان عليمًا بأفعالهم، قديرًا على إهلاكهم.

ص: 439