المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سادسا – تزويج النبي –صلى الله عليه وسلم لبناته: - من الهدي النبوي في تربية البنات

[محمد بن يوسف عفيفي]

الفصل: ‌سادسا – تزويج النبي –صلى الله عليه وسلم لبناته:

وتمضى فراغها فِي ملاعبتها1.

وَلَقَد صدق الْقَائِل: (إِن الفتاة المتعلمة المهذبة فَخر لأَهْلهَا وَعون لبعلها، وَكَمَال لبنيها، أَهلهَا بهَا يفتخرون، وَأَوْلَادهَا بهَا يسعدون، وَمن ذَا الَّذِي لَا يسرّ فُؤَاده بابنته الأديبة الَّتِي تدبر الْأُمُور المعاشية بالمعرفة، وتدير الْحَرَكَة المنزلية بالحكمة، ويجد فِي مجالستها أنيساً عَاقِلا وسميراً كَامِلا)2.

1 بنت الشاطئ (مرجع سَابق) ص489.

2 جمال الدّين القاسمي الدِّمَشْقِي (جَوَامِع الْآدَاب فِي أَخْلَاق الإنجاب) ، مكتبة الثقافة الدِّينِيَّة، ب ت، 43-44.

ص: 399

‌سادساً – تَزْوِيج النَّبِي –صلى الله عليه وسلم لبنَاته:

الزواج سنة من سنَن الله فِي خلقه، وَأمر مَرْغُوب فِيهِ حثَّ إِلَيْهِ ديننَا الحنيف ودعى إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} 4.

والزواج من سنة الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم جَاءَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ ثَلَاثَة رَهْط إِلَى بيُوت أَزوَاج النَّبِي –صلى الله عليه وسلم، يسْأَلُون عَن عبَادَة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخبروا كَأَنَّهُمْ تقالوها، فَقَالُوا: "وَأَيْنَ نَحن من النَّبِي –صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر"، قَالَ أحدهم: "أما أَنا فَإِنِّي أُصلي اللَّيْل أبدا"، وَقَالَ آخر: "أَنا أَصوم الدَّهْر وَلَا أفطر"، وَقَالَ آخر: "أَنا أعتزل النِّسَاء فَلَا أَتزوّج أبدا"، فجَاء رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَنْتُم الَّذين

3 سُورَة الرّوم: آيَة21

4 سُورَة النَّحْل: آيَة 72

ص: 399

قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أما وَالله إِنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ، لكني أَصوم وَأفْطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني" 1

وامتثالاً لأمر الله عز وجل وَأمر رَسُوله –صلى الله عليه وسلم يجب على الْأَب أَن يُزَوّج بَنَاته ولَا يعضلهن ويمنعهن من الزواج لأي سَبَب من الْأَسْبَاب فَوَاجِب الْأَب أَن يُزَوّج ابْنَته وَأَن يخْتَار لَهَا الْكُفْء من الرِّجَال والكفء مَعْرُوف هُوَ صَاحب الدّين والخلق قَالَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم– "إِذا أَتَاكُم من ترْضونَ خلقه وَدينه فَزَوجُوهُ، إِن لَا تَفعلُوا تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد عريض"2.

وَقد زوج النَّبِي –صلى الله عليه وسلم جَمِيع بَنَاته من خيرة الرِّجَال: فزوج زَيْنَب –رضي الله عنها من أبي الْعَاصِ بن الرّبيع الْقرشِي رضي الله عنه وَهُوَ ابْن خَالَتهَا هَالة بنت خويلد وَأَبُو الْعَاصِ كَانَ من رجال مَكَّة الْمَعْدُودين مَالا، وَأَمَانَة، وتجارة 3.

وَقد أثنى النَّبِي –صلى الله عليه وسلم على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع فِي مصاهرته خيرا وَقَالَ: "حَدثنِي فصدقني، ووعدني فوفى لي" وَكَانَ قد وعد النَّبِي أَن يرجع إِلَى مَكَّة، بعد وقْعَة بدر، فيبعث إِلَيْهِ بِزَيْنَب ابْنَته، فوفى بوعده، وفارقها مَعَ شدَّة حبه لَهَا4.

1تفق عَلَيْهِ، أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/129 مَعَ فتح الْبَارِي) كتاب النِّكَاح، بَاب التَّرْغِيب فِي النِّكَاح –ح5063، وَاللَّفْظ لَهُ وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/1020) كتاب النِّكَاح –ح 1401

2أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي سنَنه (3/394) كتاب النِّكَاح، بَاب إِذا جَاءَكُم من ترْضونَ دينه فَزَوجُوهُ، ح1408

3 ابْن كثير (الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة) 3/312.

4 انْظُر سير أَعْلَام النبلاء (1/60) .

ص: 400

وَمِمَّا يدل على شهامته وَصدقه قصَّة إِسْلَامه رضي الله عنه فقد كَانَ فِي تِجَارَة لقريش إِلَى الشَّام وَفِي طَرِيق عودته إِلَى مَكَّة المكرمة لَقيته سَرِيَّة فَأخذُوا مَا مَعَه، وَجَاء تَحت اللَّيْل إِلَى زَوجته زَيْنَب – وَقد كَانَت فِي الْمَدِينَة وَفرق بَينهمَا الْإِسْلَام فَهُوَ لم يدْخل فِي الْإِسْلَام بعد – فَاسْتَجَارَ بهَا فَأَجَارَتْهُ وَخرجت وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى بِالنَّاسِ الْفجْر فَقَالَت:"أَيهَا النَّاس إِنِّي قد أجرت أَبَا الْعَاصِ بن الرّبيع" فَلَمَّا سلم الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم أقبل على النَّاس فَقَالَ: "أَيهَا النَّاس هَل سَمِعْتُمْ الَّذِي سَمِعت؟ " قَالُوا:"نعم" قَالَ: "أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا علمت بشيىء حَتَّى سَمِعت مَا سَمِعْتُمْ وَأَنه يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم" ثمَّ انْصَرف رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فَدخل على ابْنَته زَيْنَب فَقَالَ: "أَي بنية أكرمي مثواه وَلَا يخلصن إِلَيْك فَإنَّك لَا تحلين لَهُ" قَالَ: وَبعث –صلى الله عليه وسلم فحثهم على رد مَا كَانَ مَعَه فَردُّوهُ بأسره لَا يفقد مِنْهُ شَيْئا فَأَخذه أَبُو الْعَاصِ فَرجع بِهِ إِلَى مَكَّة فَأعْطى كل إِنْسَان مَا كَانَ لَهُ ثمَّ قَالَ: "يَا معشر قُرَيْش هَل بَقِي لأحد مِنْكُم عِنْدِي مَال لم يَأْخُذهُ؟ " قَالُوا: "لَا فقد وجدناك وفياً". قَالَ: "فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَالله مَا مَنَعَنِي عَن الْإِسْلَام عِنْده إلَاّ تخوف أَن يَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أردْت أَن آكل أَمْوَالكُم فَلَمَّا أَدَّاهَا الله إِلَيْكُم وفرغت مِنْهَا أسلمت"1.

وَقد زوجه النَّبِي –صلى الله عليه وسلم من ابْنَته زَيْنَب عِنْدَمَا طلبت مِنْهُ أمهَا خَدِيجَة بنت خويلد –رضي الله عنها أَن يُزَوّجهَا لَهُ فَوَافَقَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم على طلبَهَا2؛ لما يعرف

1 ابْن كثير، (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) 2/520 دَار الْمعرفَة للطباعة والنشر، بيروت، تَحْقِيق مصطفى عبد الْوَاحِد

2 ابْن هِشَام (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) 2/651 مؤسسة عُلُوم الْقُرْآن، تَحْقِيق مصطفى السقا وَآخَرُونَ، ب ت.

ص: 401

من رجاحة عقلهَا وثقتها بِابْن أُخْتهَا فَكَانَت تعده بِمَنْزِلَة وَلَدهَا.

وَهنا درس نبوي كريم فِي تَزْوِيج الْبَنَات هُوَ أَنه لَا مَانع من أَخذ رَأْي وَالِدَة الْبِنْت والتشاور مَعهَا فَفِي ذَلِك إِكْرَاما لَهَا واعترافاً بِحَقِّهَا.

وزوَّج النَّبِي –صلى الله عليه وسلم رقية من عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه الْخَلِيفَة الراشد الزَّاهِد الْجواد السخي الْحَيِي، وَكَانَ من أبرز أخلاقه وأشدها تمَكنا من نَفسه خلق الْحيَاء، الَّذِي تأصل فِي كيانه؛ لذا فقد أشاد الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحيَاء الْوَاسِع العميم فَقَالَ:"إِن عُثْمَان رجلٌ حييّ" 1، وَقَالَ – صلى الله عليه وسلم:"ألَاّ أستحي من رجل تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة"2.

وَكَانَ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم يُحِبهُ كثيرا فَلَمَّا توفيت رقية –رضي الله عنها– زوجه النَّبِي –صلى الله عليه وسلم بأختها أم كُلْثُوم وَلما مَاتَت أم كُلْثُوم قَالَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم "لَو كَانَ عِنْدِي ثَالِثَة لزوجتها عُثْمَان"، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى "لَو كن عشرا لزوجتهن عُثْمَان"3.

وزوَّج فَاطِمَة –رضي الله عنها– من عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه ابْن عَمه –صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أول ذكر من النَّاس آمن برَسُول الله –صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قد تربى فِي حجر الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم قبل الْإِسْلَام وَلم يزل عَليّ مَعَ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم-حَتَّى بَعثه الله نَبيا 4.

يَقُول ابْن كثير رحمه الله: "كَانَ أَبُو طَالب ذَا عِيَال كَثِيرَة، فَقَالَ رَسُول الله –

1 أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه (4/1866) كتاب فَضَائِل الصَّحَابَة ح 2402.

2 أخرجه مُسلم (الْمصدر نَفسه) ح2401.

3 ابْن كثير (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) ،4/610.

4 ابْن هِشَام، (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) ،1/245.

ص: 402

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لِعَمِّهِ الْعَبَّاس، وَكَانَ من أيسر بني هَاشم:"يَا عَبَّاس إِن أَخَاك أَبَا طَالب كثير الْعِيَال وَقد أصَاب النَّاس مَا ترى من هَذِه الأزمة فَانْطَلق حَتَّى نخفف عَنهُ من عِيَاله"، فَأخذ رَسُول الله– صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إِلَيْهِ، فَلم يزل مَعَ رَسُول الله حَتَّى بَعثه الله نَبيا فَاتبعهُ عَليّ وآمن بِهِ وَصدقه "1

والْبِنْت أَمَانَة فِي بَيت والديها ولابد أَن تنْتَقل إِلَى بَيت زَوجهَا يَوْمًا مَا، وَقد أوجب لَهَا ديننَا الإسلامي الحنيف حق الاسْتِئْذَان فِي الزواج فَلَا يحل لوَلِيّهَا أَن يعْقد لَهَا على رجل تكرههُ قَالَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم:"لَا تنْكح الأيم حَتَّى تستأمر، ولاتنكح الْبكر حَتَّى تستأذن". قَالُوا: "يَا رَسُول الله، وَكَيف إِذْنهَا؟ " قَالَ: " أَن تسكت"2.

فكلمة تستأمر فِي حق الثّيّب تفِيد طلب الْأَمر فَلَا يعْقد عَلَيْهَا إلَاّ بعد طلب أمرهَا وإذنها بذلك، وَكلمَة تستأذن فِي حق الْبكر تعنى طلب إِذْنهَا وموافقتها على النِّكَاح3 وَإِذا عقد الْأَب لابنته وَهِي كارهة فَالْعقد مَرْدُود "عَن خنساء بنت خدام الْأَنْصَارِيَّة: أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي ثيب فَكرِهت ذَلِك، فَأَتَت رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فَرد نِكَاحهَا" 4.

وَفِي رِوَايَة: عَن الْقَاسِم: " أَن امْرَأَة من ولد جَعْفَر، تخوفت أَن يُزَوّجهَا وَليهَا وَهِي كارهة، فَأرْسلت إِلَى شيخين من الْأَنْصَار – عبد الرَّحْمَن وَمجمع ابْني جَارِيَة –

1 ابْن كثير (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) 1/429

2 أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/239 مَعَ الْفَتْح) كتاب النِّكَاح، بَاب لَا يُنكح الْأَب وَغَيره الْبكر وَالثَّيِّب إِلَّا برضاهما – ح 5136، وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/1036) كتاب النِّكَاح – ح1419.

3 انْظُر عبد الله بن عبد الرَّحْمَن البسام (توضيح الْأَحْكَام من بُلُوغ المرام) مؤسسة الخدمات الطباعية، لبنان،ج4، ص382ط2، 1414هـ.

4 أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/243 مَعَ الْفَتْح) كتاب النِّكَاح، بَاب إِذا زوج الرجل ابْنَته وَهِي كارهة فنكاحه مَرْدُود – ح 5138.

ص: 403

قَالَا: فَلَا تخشين، فَإِن خنساء بنت خدام، أنْكحهَا أَبوهَا وَهِي كارهة، فَرد النَّبِي –صلى الله عليه وسلم ذَلِك" 1.

وكَانَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم يستشير بَنَاته قبل تزويجهن فعندما خطب عَليّ رضي الله عنه فَاطِمَة –رضي الله عنها– قَالَ لَهَا الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم: "إِن عليا يذكرك" فَسَكَتَتْ فَزَوجهَا2.

وَكَانَ –صلى الله عليه وسلم يتحدث إِلَى بَنَاته فِي أَزوَاجهنَّ ويقنعهن بِفضل من تَزَوَّجن فقد قَالَ لفاطمة –رضي الله عنها– مُبينًا فضل ومكانة عَليّ بن أبي طَالب –رضي الله عنه عِنْدَمَا قَالَت: "زوجتني بِرَجُل فَقير لَا شييء لَهُ" فَقَالَ –صلى الله عليه وسلم: "أما ترْضينَ يَا فَاطِمَة إِن الله اخْتَار من أهل الأَرْض رجلَيْنِ جعل أَحدهمَا أَبَاك، والأخر بعلك"3.

وَهنا يجب على الْآبَاء أَن يتأكدوا من مُوَافقَة الْبِنْت قبل إِجْرَاء العقد لَهَا.

ويخطئ بعض الْآبَاء من ترديد كلمة نَحن أعلم بمصلحتها –لَا شكّ– أَن الْأَب يفوق ابْنَته فِي الْخِبْرَة، وَطول التجربة فِي الْحَيَاة، وَمَعْرِفَة الرِّجَال وَلَكِن على الرغم من ذَلِك يجب عَلَيْهِ أَن لَا يحيد عَن تعاليم الْإِسْلَام، وَلَا يجْبر ابْنَته على رجل تكرههُ بل عَلَيْهِ أَن يستأذنها وَيعرف رأيها قبل إِجْرَاء عقد النِّكَاح، وَفِي ذَلِك خير كَبِير حَيْثُ تشعر الْبِنْت بكيانها وأهميتها وتبدى رأيها فِي الرجل الَّذِي

1 أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (12/420 مَعَ الْفَتْح) كتاب الْحِيَل، بَاب النِّكَاح – ح6969.

2ابْن سعد (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) 8/20، دَار بيروت للطباعة والنشر، بيروت ب ت.

3أَبُو جَعْفَر أَحْمد الطَّبَرِيّ (الرياض النضرة فِي مَنَاقِب الْعشْرَة) دَار الْكتب العلمية، بيروت، 3/144.

ص: 404

ستنتقل إِلَى بَيته وَهُوَ أدعى لدوام السَّعَادَة والوفاق لاقتناع كل من الطَّرفَيْنِ بِصَاحِبِهِ فالزوج أَبَاحَ لَهُ الْإِسْلَام النّظر إِلَى من ينوى نِكَاحهَا، وَهِي كَذَلِك ترَاهُ وتستشار فِي الْمُوَافقَة على إِجْرَاء العقد وَهَذِه من عَظمَة ديننَا الإسلامي الحنيف.

وَالصَّدَاق فِي الزواج حق من حُقُوق الزَّوْجَة يَدْفَعهُ لَهَا الزَّوْج قَالَ الله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 1 فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة يَأْمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِأَن يُعْطوا النِّسَاء مهورهن فَرِيضَة مِنْهُ تَعَالَى فَرضهَا على الرجل لامْرَأَته، فَلَا يحل لَهُ وَلَا لغيره أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا برضى الزَّوْجَة2، والنحلة فِي كَلَام الْعَرَب الْوَاجِب وَلَا تنْكح الْمَرْأَة إِلَّا بِشَيْء وَاجِب لَهَا، وَيجب على الرجل دفع الصَدَاق إِلَى الْمَرْأَة حتما، وَأَن يكون طيب النَّفس بذلك3.

وَلَيْسَ هُنَاكَ حدٌ فِي أقل الصَدَاق وَأَكْثَره، وَيصِح فِيهِ أَن يكون شَيْئا يَسِيرا جدا بِكُل مَا يتراضى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ، أَو من لَهُ ولَايَة العقد وَإِن لم يكن عينا كَالْمَالِ وَالذَّهَب وَنَحْوه، فقد يكون الصَدَاق خدمَة، كقصة مُوسَى عليه السلام مَعَ صَاحب مَدين، وَقد يكون تَعْلِيما فقد، ورد فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ:"أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى رَسُول –صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: "يَا رَسُول الله جِئْت لأهب لَك نَفسِي"، فَنظر إِلَيْهَا رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طأطأ رَأسه، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَة أَنه لم يقْض فِيهَا شَيْئا جَلَست، فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ:

"أَي رَسُول الله، إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها"، فَقَالَ:"هَل عنْدك من شيىء؟ " فَقَالَ: "لَا وَالله

1 سُورَة النِّسَاء: آيَة 4.

2 انْظُر أَبُو بكر الجزائري، (أيسر التفاسير لكَلَام الْعلي الْكَبِير) ، راسم للدعاية والاعلام، جدة، ط3،ج1، ص435-436.

3 ابْن كثير (تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم) ج1، ص462.

ص: 405

يَا رَسُول الله"،قَالَ: "اذْهَبْ إِلَى أهلك فَانْظُر هَل تَجِد شَيْئا؟ ".فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: "لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا وجدت شَيْئا"، فَقَالَ: "انْظُر وَلَو خَاتمًا من حَدِيد" فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: "لَا يَا رَسُول الله وَلَا خَاتمًا من حَدِيد، وَلَكِن هَذَا إزَارِي" – فَقَالَ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم:"مَا تصنع بإزارك، إِن لَبِسْتَهُ لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شيىء، وَإِن لَبِسَتْهُ لم يكن عَلَيْك مِنْهُ شيىء" فَجَلَسَ الرجل حَتَّى طَال مَجْلِسه، ثمَّ قَامَ فرأه رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم موليا، فَأمر بِهِ فدعي، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:"مَاذَا مَعَك من الْقُرْآن؟ " قَالَ: "معي سُورَة كَذَا وَسورَة كَذَا وَسورَة كَذَا"، عدَّها، قَالَ:"أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك؟ " قَالَ: "نعم" قَالَ: "اذْهَبْ فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن"1.

وَسنة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم– وهديه عدم التغالي فِي الصَدَاق، بل إِن خير الصَدَاق أيسره قَالَ الإِمَام ابْن الْقيم –يرحمه الله-:"إِن المغالاة فِي الْمهْر مَكْرُوهَة فِي النِّكَاح، وَأَنَّهَا من قلَّة بركته وعسره"2. " فقد زوَّج النَّبِي –صلى الله عليه وسلم بَنَاته على الْيَسِير من الصَدَاق فَبعد أَن تمت الْمُوَافقَة على زواج عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه من فَاطِمَة حُب رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم وأصغر بَنَاته جَاءَ إِلَى النَّبِي –صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ النَّبِي "مَا تصدقها؟ " فَقَالَ عَليّ: "مَا عِنْدِي مَا أصدقهَا" فَقَالَ الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم "فَأَيْنَ درعك الحطمية الَّتِي كنت قد منحتك؟ " قَالَ عَليّ: "عِنْدِي". قَالَ النَّبِي

1خرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/225/226 مَعَ الْفَتْح) كتاب النِّكَاح، بَاب النّظر إِلَى المخطوبة قبل التَّزْوِيج – ح 5126، وَاللَّفْظ لَهُ وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/1040،1041) كتاب النِّكَاح – ح1425.

2ابْن قيم الجوزية (زَاد الْمعَاد) 5/178.

ص: 406

-صلى الله عليه وسلم " أصدقهَا إِيَّاهَا" فَأَصْدقهَا وتزَوجهَا وَكَانَ ثمنهَا أَرْبَعمِائَة درهما " 1.

هَذَا هُوَ صدَاق بنت رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم وحبه وأصغر بَنَاته سيدة نسَاء أهل الْجنَّة فَعَن ابْن عَبَّاس – رضي الله عنه – قَالَ: "خطّ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فِي الأَرْض أَرْبَعَة خطوط، وَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ " فَقَالُوا: " الله وَرَسُوله أعلم "، فَقَالَ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم " أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد، وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد، وآسيا بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن، وَمَرْيَم ابْنة عمرَان رضي الله عنهن أَجْمَعِينَ" 2.

وَمَا يَفْعَله بعض النَّاس فِي زَمَاننَا من التغالي فِي المهور هُوَ أبعد مَا يكون عَن هدي رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ- وهُوَ أَمر خطير لَهُ أضراره على الْفَرد وعَلى الْمُجْتَمع وَالدّين الإسلامي دين الْيُسْر والسهولة وَفِي أَمر الزواج لَا يقْتَصر الْيُسْر على الصَدَاق بل يَمْتَد إِلَى الْوَلِيمَة الَّتِي يُشهر بهَا الزواج وَهِي أَمر دعى إِلَيْهِ الْإِسْلَام وحثَّ عَلَيْهِ فَكَانَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم يولم فِي زواجه باليسير من النَّفَقَة، فَعَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت:" أولم النَّبِي –صلى الله عليه وسلم على بعض نِسَائِهِ بمدين من شعير "3.

وَكَذَلِكَ فِي زواج أَصْحَابه رضي الله عنهم فَعَن أنس رضي الله عنه:

" أَن النَّبِي –صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أثر صفرَة، قَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالَ: " إِنِّي تزوجت امْرَأَة على وزن نواة من ذهب "، قَالَ: "بَارك الله لَك، أولم وَلَو بِشَاة " 4.

1 ابْن سعد (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) 8/20.

2 رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده 1/293

3 أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/296 مَعَ الْفَتْح) كتاب النِّكَاح، بَاب من أولم بِأَقَلّ من شَاة –ح5172

4 أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (9/276 مَعَ الْفَتْح) كتاب النِّكَاح، بَاب كَيفَ يدعى للمتزوج –ح5155، وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/1042) كتاب النِّكَاح، ح1427.

ص: 407

وَفِي زواج بَنَاته رضي الله عنهن كَذَلِك مظهر من مظَاهر الْيُسْر فِي الْوَلِيمَة فَفِي لَيْلَة زواج فَاطِمَة رضي الله عنها قَالَ الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم: "يَا عَليّ لَا بُد للعروس من وَلِيمَة ". فَقَالَ سعد بن معَاذ رضي الله عنه: "عِنْدِي كَبْش". وَجمع رَهْط من الْأَنْصَار أصواعاً من ذرة وأولم الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم 1.

ونشهد من بعض النَّاس إسرافاً وَاضحا فِي ولائم الزواج وتباهياً وتفاخراً غير مَحْمُود وَهَذَا أَيْضا مُخَالف لهدي النَّبِي –صلى الله عليه وسلم وسنته، وَيعود هَذَا الْإِسْرَاف وَغَلَاء المهور على الْأَفْرَاد والمجتمعات بمشاكل وسلبيات كَثِيرَة، أهمها: كَثْرَة العوانس فِي الْبيُوت، وَتَأَخر سنّ الزواج بَين الشَّبَاب، فقد أثبت عبد الرب نواب الدّين فِي دراسة لَهُ: أَن 92% من الْبَنِينَ و 69% من الْبَنَات يرَوْنَ أَن غلاء المهور سَبَب قوي ومباشر من أَسبَاب العنوسة وَتَأَخر سنّ الزواج، واستنتج أَن هَذِه النِّسْبَة الْعَالِيَة تدل على أَن غلاء المهور مشكلة قَائِمَة فِي الْمُجْتَمع، وَهِي مشكلة مستفحلة يعاني مِنْهَا قطاع كَبِير جدا من الشَّبَاب، وَأَنَّهَا السَّبَب الأول والمباشر لظاهرة العنوسة أَو تَأَخّر سنّ الزواج، أَو العزوف عَن الزواج من ذَوي المهور الغالية والتكاليف الْعَالِيَة! واللجوء من ثمّ إِلَى الْخَارِج للزواج من ذَوَات المهور الْيَسِيرَة والمؤونة السهلة2.

1 ابْن سعد (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) 8/21، دَار بيروت للطباعة والنشر بيروت، ب ت.

2 انْظُر عبد الرب نواب الدّين آل نواب (تَأَخّر سنّ الزواج أَسبَابه، وأخطاره، وطرق علاجه على ضوء الْقُرْآن وَالسّنة) ،دَار العاصمة للنشر والتوزيع، الرياض، ط1 1415هـ، ص174.

ص: 408