المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سابعا: رعاية النبي –صلى الله عليه وسلم لبناته بعد الزواج: - من الهدي النبوي في تربية البنات

[محمد بن يوسف عفيفي]

الفصل: ‌سابعا: رعاية النبي –صلى الله عليه وسلم لبناته بعد الزواج:

‌سابعاً: رِعَايَة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم لبنَاته بعد الزواج:

يخْتَلف النَّاس فِي النّظر إِلَى علاقَة الْبِنْت بوالديها بعد الزواج: فَمنهمْ من يرى أَنه يجب على الْأَبَوَيْنِ أَن يتْركُوا الْبِنْت وشأنها بعد الزواج لدرجة أَن علاقتهم بهَا شبه مَقْطُوعَة فَلَا تزاور من طرف الْأَهْل، بزعمهم أَن هَذَا أدعى لسعادتها الزَّوْجِيَّة واستمرار العلاقة بَينهَا وَبَين زَوجهَا وَأَهله.

وَفِي الْمُقَابل نجد أَن هُنَاكَ من الْأسر من يتدخل فِي حَيَاة ابنتهم بشكل مبَاشر فيتطلعون إِلَى معرفَة كل صَغِيرَة وكبيرة فِي حَيَاة ابنتهم، وَلِهَذَا التدخل سلبياته الَّتِي تُؤدِّي إِلَى إِفْسَاد الْحَيَاة الزَّوْجِيَّة، لدرجة قد تصل إِلَى الطَّلَاق! فَمَا هُوَ الْهَدْي النَّبَوِيّ فِي هَذَا الْجَانِب من حَيَاة الْبَنَات؟.

كَانَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم يزور بَنَاته بعد الزواج وَيدخل عَلَيْهِنَّ الْفَرح وَالسُّرُور، فقد زار النَّبِي –صلى الله عليه وسلم فَاطِمَة –رضي الله عنها– بعد زواجها ودعا لَهَا ولزوجها بِأَن يعيذهما الله وذريتهما من الشَّيْطَان الرَّجِيم1.

وَلم يكن يشْغلهُ –صلى الله عليه وسلم عَن بَنَاته –رضي الله عنهن– شاغل بل كَانَ يفكر فِيهِنَّ وَهُوَ فِي أصعب الظروف وأحلكها فعندما أَرَادَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم الْخُرُوج لبدر لملاقاة قُرَيْش وَصَنَادِيدهَا كَانَت رقية –رضي الله عنها– مَرِيضَة فَأمر النَّبِي –صلى الله عليه وسلم زَوجهَا عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه أَن يبْقى فِي الْمَدِينَة؛ ليمرضها وَضرب لَهُ بسهمه فِي مَغَانِم بدر وأجره عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة 2.

وَيجب على الْأَب أَن يحافظ على بَيت ابْنَته وسعادتها مَعَ زَوجهَا وَأَن يتدخل إِذا لزم الْأَمر ويحرص على الْإِصْلَاح بَينهَا وَبَين زَوجهَا بشكل يضمن إِعَادَة الصفاء إِلَى جو الأسرة.

فقد حدث أَنه كَانَ بَين عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه وَزَوجته فَاطِمَة

1 الطَّبَرِيّ (مصدر سَابق) 3/143.

2 ابْن كثير (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) 2/545.

ص: 409

الزهراء –رضي الله عنها– كَلَام فَدخل عَلَيْهِمَا النَّبِي –صلى الله عليه وسلم فأُلقى لَهُ مِثَالا فاضطجع عَلَيْهِ. فَجَاءَت فَاطِمَة –رضي الله عنها فاضطجعت من جَانب، وَجَاء عَليّ –رضي الله عنه فاضطجع من جَانب، فَأخذ رَسُول الله بيد عَليّ –رضي الله عنه فوضعها على سرته، وَأخذ بيد فَاطِمَة –رضي الله عنها على سرته وَلم يزل حَتَّى أصلح بَينهمَا، ثمَّ خرج فَقيل لَهُ:"دخلت وَأَنت على حَال وَخرجت وَنحن نرى الْبشر فِي وَجهك" فَقَالَ: "وَمَا يَمْنعنِي وَقد أصلحت بَين أحب اثْنَيْنِ إليَّ "1.

وَلَكِن قد يسْتَمر الْخلاف بَين الزَّوْجَيْنِ وَيُصْبِح اسْتِمْرَار الْعشْرَة بَينهمَا أمرا مستحيلاً وَالله الْحَكِيم الْخَبِير الَّذِي سنَّ الزواج أَبَاحَ الطَّلَاق وَجعله الْحل الْأَخير الَّذِي يُلجأ إِلَيْهِ إِذا استحالت الْعشْرَة بَين الزَّوْجَيْنِ.

وَأَحْيَانا يَقع الطَّلَاق على الزَّوْجَة ظلما وعدواناً، عِنْدهَا تحزن الْبِنْت كثيرا ويحزن أَهلهَا لحزنها، والعزاء فِي ذَلِك أَن ابْنَتي الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم: رقية وَأم كُلْثُوم طلقتا من عتبَة وعتيبة ابْنا أبي لَهب ظلما بِدُونِ سَبَب إلَاّ أَنَّهُمَا صدقتا مَا قَالَه النَّبِي –صلى الله عليه وسلم: من أَنه أُوحِي إِلَيْهِ وَأَنه نَبِي هَذِه الْأمة، الْكَلَام الَّذِي أغضب قُرَيْش فقد تزوج عتبَة بن أبي لَهب من رقية بنت رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قَالَ أَبُو لَهب:"رَأْسِي من رَأسك حرَام إِن لم تطلق بنت مُحَمَّد ففارقها قبل الدُّخُول"2.

وَلم يكتف أَبُو لَهب بذلك بل أَمر ابْنه عتيبة أَن يُطلق أم كُلْثُوم بنت النَّبِي –

1 ابْن سعد (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) 8/26.

2 سير أَعْلَام النبلاء (2/251) .

ص: 410

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ظنا مِنْهُ أَنه بذلك يَسْتَطِيع أَن يشغل النَّبِي –صلى الله عليه وسلم عَن دَعوته1.

هُنَا درس للبنات وللآباء بِأَن يصبروا ويحتسبوا الْأجر من الله جلَّ وَعلا، وَأَن مَا وَقع من الطَّلَاق ظلما مَا هُوَ إلَاّ ابتلاء سَوف يعوضهم الله خيرا فقد عوض الله ابْنَتي الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم خيرا من عتبَة وعتيبة، عوضهما زوجا صَالحا كَرِيمًا هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه أحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ وثالث الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فقد تزوج عُثْمَان رضي الله عنه برقية وَبعد وفاتها تزوج بأختها أم كُلْثُوم قَالَ الله تَعَالَى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً} 2.

وَقد يحدث أَن يفقد الْأَب بعض بَنَاته بموتهن فالموت نِهَايَة كل حَيّ وَهُوَ الْمصير المحتوم الَّذِي لَا مفر مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى:

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} 3 يَقُول الشَّيْخ ابْن سعدي – يرحمه الله – فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة:

{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} " أَي الْمَلَائِكَة الموكلون بِقَبض الْأَرْوَاح "

{وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "فِي ذَلِك فَلَا يزِيدُونَ سَاعَة مِمَّا قدره الله وقضاه، وَلَا ينقصُونَ"4.

وَمن أعزّ من الْبِنْت على أَبِيهَا؟ وَلَو قدر الله هَذَا يجب على الْأَب أَن يصبر ويحتسب، وَلَا يَقُول إِلَّا مَا يرضى رَبنَا عز وجل قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا

1 ابْن كثير (السِّيرَة النَّبَوِيَّة) 2/483.

2 سُورَة النِّسَاء: آيَة 19.

3 سُورَة الْأَنْعَام: آيَة 61.

4 عبد الرَّحْمَن بن نَاصِر السَّعْدِيّ (تيسير الْكَرِيم الرَّحْمَن فِي تَفْسِير كَلَام المنان) دَار ابْن الْجَوْزِيّ، ط1،ج1، الْجُزْء2، 1415هـ، ص223.

ص: 411

َصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ} 1 أَي تسلوا بقَوْلهمْ هَذَا عَمَّا أَصَابَهُم وَعَلمُوا أَنهم ملك لله يتَصَرَّف فِي عبيده بِمَا يَشَاء، وَعَلمُوا أَنه لَا يضيع لَدَيْهِ مِثْقَال ذرة يَوْم الْقِيَامَة فأحدث لَهُم ذَلِك اعترافهم بِأَنَّهُم عبيده وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون فِي الدَّار الْآخِرَة2.

وليعلم من ابتلى بفقد إِحْدَى بَنَاته أَن الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم فقد جَمِيع ذُريَّته من الذُّكُور وَالْإِنَاث وَلم يبْق بعد وَفَاته إلَاّ فَاطِمَة الزهراء –رضي الله عنها وهديه –صلى الله عليه وسلم فِي وَفَاة بَنَاته رضي الله عنهن، أَنه كَانَ يحزن لوفاتهن وتذرف عَيناهُ الدمع على فراقهن، يَقُول أنس بن مَالك رضي الله عنه فِي نبأ وَفَاة أم كُلْثُوم –رضي الله عنها–

"شَهِدنَا بِنْتا لرَسُول الله –صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَرَسُول الله –صلى الله عليه وسلم جالسٌ على الْقَبْر، قَالَ فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تدمعان، وَقَالَ: "هَل مِنْكُم رجل لم يقارف3 اللَّيْل؟ " قَالَ أَبُو طَلْحَة: " أَنا " قَالَ: " فانزِل " قَالَ: " فَنزل فِي قبرها "4.

والدموع هَذِه لَيست دموع جزع وَسخط من قَضَاء الله وَقدره -وَالْعِيَاذ بِاللَّه- إِنَّمَا هِيَ دموع رَحْمَة وشفقة تذرف من عُيُون الرُّحَمَاء روى أُسَامَة بن زيد –رضي الله عنه قَالَ: "أرْسلت ابْنة النَّبِي –صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: أَن ابْنا لي قبض، فأتنا، فَأرْسل يقرئ السَّلَام وَيَقُول: "إِن لله مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى، وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى، فَلتَصْبِر ولتحتسب" فَأرْسلت إِلَيْهِ تقسم ليأتينها فَقَامَ وَمَعَهُ سعد بن عبَادَة، ومعاذ ابْن جبل، وَأبي

1 سُورَة الْبَقَرَة: آيَة 156.

2 انْظُر ابْن كثير (تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم) 1/203

3 المُقارفة والقِراف: الْجِمَاع وقارف امْرَأَته جَامعهَا (انْظُر لِسَان الْعَرَب لِابْنِ مَنْظُور 9/28) .

4 رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (3/194 مَعَ الْفَتْح) كتاب الْجَنَائِز –بَاب يعذب الْمَيِّت بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ إِذا كَانَ النوح من سنته- ح 1285.

ص: 412

بن كَعْب، وَزيد بن ثَابت، وَرِجَال فرُفع إِلَى رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم الصَّبِي وَنَفسه تتقعقع – قَالَ: حسبته قَالَ: كَأَنَّهَا شن- فَفَاضَتْ عَيناهُ، فَقَالَ سعد:"يَا رَسُول الله مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: "هَذِه رَحْمَة جعلهَا الله فِي قُلُوب عباده، وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء"1.

وَمن هَدْيه –صلى الله عليه وسلم فِي وَفَاة بَنَاته أَنه كَانَ يصبر على فقدهن ويحتسب الْأجر الجزيل من الله تَعَالَى وَهُوَ جنَّة عرضهَا كعرض السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِيهَا مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر.

وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فضل الصَّبْر على فقد الْأَوْلَاد كَثِيرَة مِنْهَا:

عَن أنس – رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِي –صلى الله عليه وسلم "مَا من مُسلم يتوفى لَهُ ثَلَاث لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم" 2 وَعَن أبي سعيد –رضي الله عنه– أَن النِّسَاء قُلْنَ للنَّبِي –صلى الله عليه وسلم: "اجْعَل لنا يَوْمًا " فوعظهن وَقَالَ: "أَيّمَا امْرَأَة مَاتَ لَهَا ثَلَاثَة من الْوَلَد كَانُوا لَهَا حِجَابا من النَّار" قَالَت: "امْرَأَة وَاثْنَانِ؟ " قَالَ: "وَاثْنَانِ"3.

وَمن هَدْيه –صلى الله عليه وسلم فِي وَفَاة بَنَاته –رضي الله عنهن– أَنه كَانَ يشرف على غسلهن وتكفينهن، وَيصلى عَلَيْهِنَّ ويدفنهن، وَيقف على قبورهن وَيَدْعُو الله لَهُنَّ. فَعَن أم عَطِيَّة –رضي الله عنها قَالَت:"دخل علينا رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم وَنحن نغسل ابْنَته فَقَالَ: "اغسلنها ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو

1 رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (3/194 مَعَ الْفَتْح) كتاب الْجَنَائِز – بَاب يعذب الْمَيِّت بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ إِذا كَانَ النوح من سنته- ح 1284، وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/63) كتاب الْجَنَائِز- ح 923.

2 رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (3/153) مَعَ شَرحه فتح الْبَارِي) كتاب الْجَنَائِز – فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب- ح 1248.

3 الْمصدر السَّابِق،ح1249.

ص: 413

أَكثر من ذَلِك بِمَاء وَسدر واجعلن فِي الْآخِرَة كافوراً. فَإِذا فرغتن فآذنني". فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه فَألْقى إِلَيْنَا حقوة فَقَالَ: "أشعرنها إِيَّاه" 1.

وَفِي كَيْفيَّة الْغسْل قَالَت أم عَطِيَّة –رضي الله عنها قَالَت: "لما غسلنا بنت النَّبِي –صلى الله عليه وسلم، قَالَ لنا وَنحن نغسلهَا: " ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا " 2.

وَكَانَ –صلى الله عليه وسلم يقف على قبر من توفّي من بَنَاته وَيَدْعُو لَهَا فقد كَانَت رقية –رضي الله عنها– مَرِيضَة أثْنَاء غَزْوَة بدر فَأمر النَّبِي –صلى الله عليه وسلم زَوجهَا عُثْمَان بن عَفَّان –رضي الله عنه بِالْبَقَاءِ إِلَى جَانبهَا لتمريضها. وَلما عَاد –صلى الله عليه وسلم من الْغَزْوَة وَقد مَاتَت ابْنَته رقية، خرج إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد ووقف على قبرها يَدْعُو لَهَا بالغفران.3.

1 رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه (3/167 مَعَ الْفَتْح) كتاب الْجَنَائِز – بَاب مَا يسْتَحبّ أَن يغسل وترا - ح 1254، وَمُسلم فِي صَحِيحه (2/646/648) كتاب الْجَنَائِز –ح939.

2 الْمصدر السَّابِق، ح546.

3 ابْن سعد (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) 8/37.

ص: 414