الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمات تمهيدية:
العمل الأدبى
يقف الأديب عند سرير جندى جريح، عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معانى شتى، للبطولة والتضحية، أو يدخل مصنعا، قد انصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحى إليه ما يراه، بخواطر عن الدأب، والنظام، والتقدم، ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة، أو يقرض قصيدة، أو يؤلف قصة أو رواية، ويغضب الخطيب لأمر، فيحاول نقل غضبه في خطبة إلى سامعيه، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلا صادقا غير منقوص.
هذه المقالة، أو القصيدة، أو القصة، أو الرواية، أو الخطبة، هى العمل الأدبى فهى الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها انتقل إحساس الأول إلى الثانى.
ونستطيع أن نعرّف العمل الأدبى بأنه «التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية» والتعبير بالألفاظ، هو الذى يميز الأدب من باقى الفنون الجميلة؛ لأن الأدب يعبّر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.
ونعنى بالتجربة كل ما جربه الأديب، ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقيّا أم متخيلا، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته، أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظرا رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهما مر بخياله، ومن هنا كان كل شىء في الحياة صالحا لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صورا لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره، وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادى مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة؛ حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية، لمجهود أدبى، يستطيع به أن يصف التجربة، فى صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه، أو سامعيه.
هذا، وإن الحقائق العلمية قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملا أدبيّا رائعا.
إن التجربة لا تكون بسيطة أبدا، بل لا بدّ أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتى به الفكر نفسه من معان، يدعو بعضها بعضا؛ فالواقف أمام نهر النيل مثلا، لا تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضا رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيها من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك إحساسات أخرى، ولدها خياله، كموازنة هدوئه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التى تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلا في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية، تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى، بما ينضم إليها من ألوان الإحساس، وبتداعى المعانى، فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفى منه بأن يصور لنا المنظر الذى رآه، أو يذكر الإحساس الذى خالطه عند ما رآه، بل يجب أن يؤدى تجربته كاملة الأجزاء، لما شاهده وما أحسه معا، مرتبطين ارتباطا وثيقا، حتى يحس بها القارئ إحساسا كاملا وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.
إن في الإنتاج الأدبى لعملا إراديّا للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهى مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيبا منسقا، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره، واحدا واحدا، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذى هو جزء منه، وبجمع هذه الأجزاء، تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحدا، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء، أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الاستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهة، لا صلة بين أجزائها ولا اتساق، وهاك تجربة لقتيلة بنت الحارث، وقد أخذت تعاتب الرسول، لقتله أخاها النضر، برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:
أمحمد يا خير ضنء (1) كريمة
…
فى قومها، والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت، وربما
…
منّ الفتى، وهو المغيظ، المحنق
والنضر أقرب من أصبت وسيلة
…
وأحقهم، إن كان عتق، يعتق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه
…
لله أرحام هناك، تشقق
(1) الضنء بالفتح الولد ويكسر.
فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه، نداء القريب، الذى لا كلفة بينك وبينه، مشعرة إياه بشدة الصلة بينهما، حتى لكأنها توحى إليه، بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير، ثم انتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم، الذى في كل أنثى، دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابن، لأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه، بهذا النداء، أخذت تسأله سؤال الموجع، الموقن بأن حكم القضاء قد تم، ولا سبيل إلى
استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين، الموحى بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلا عما في هذا الإطلاق، من مكرمة المن. وأتت بكلمة «لو» المشعرة بالأسف، لدلالتها على امتناع وجود الفعل، وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة «ربما» الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو، برغم الغيظ والحنق، من مثل أعلى، جدير بالاقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك، لمست من الرسول صلى الله عليه وسلم موضع العطف، فذكّرته بقربه منه، واستحقاقه أن يظفر برعايته، ثم انتقلت من ذلك إلى تصوير هذا القريب، الجدير بالود، أو بالمنّ، والعتق- هدفا لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها، فتمزق بتمزيق أديمه، القرابة وتقطع أواصرها.
وهكذا، كان كل جزء له أثره، فى نقل هذه التجربة التى ملكت نفس قتيلة، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روى أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.
نستطيع أن نسمى التجربة التى تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام، احتاج إلى قوة كبيرة، تستطيع التعبير عنه تعبيرا يمثله تمثيلا صادقا، ولذا كان كبار الأدباء ذوى سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.
وإن لدى الأديب إحساسا لغويّا ممتازا، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوى في تصويره، واضح في دلالته على مراده، ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحى به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحيا يشع منها، فيملأ النفس شعورا، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ قد تراكم حولها بمضى الزمن والاستعمال، معان أخرى، أكثر من هذه المعانى التى نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معانى الألفاظ في المعاجم، سوى هذه المعانى المتبلورة، والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان، أضفاها عليها الزمن، فتثير
فى النفس أعمق الإحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور، وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معانى كلمات: أم طفولة، ومدرسة، ووطن، مثلا، فالأم في اللغة هى الوالدة، ولكن هذا اللفظ يثير في النفس، إذا سمع، أسمى معانى الحب وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معانى الحنان، وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر، التى تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة، وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هى في المعجم مكان الدراسة، أما كلمة الوطن، فقد تراكم حولها من المعانى والذكريات ما أشار ابن الرومى إلى بعضه حين قال:
وحبب أوطان الرجال إليهم
…
مآرب، قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم
…
عهود الصبا فيها، فحنوا لذلكا
فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة، وإن أردت أن تدرك شدة وحى الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (الحجرات 12). وانظر أى كراهية ونفور، يثيره في النفس، تخيل أكل لحم الأخ ميتا، واقرأ قول الشاعر:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة، فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
…
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
…
فيحجبها، ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
…
فتلمس جانب العقد النظيم
وانظر ما توحى به إلى النفس «لفحة الرمضاء» فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن، يلفح وجهك، ويرمض عينيك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه هذه السخونة الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادى عليه، فقد حماه من وهج الشمس، وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه، أن يسقيه «مضاعف الغيث» . وانظر ما توحى به إلى خيالك كلمة «دوح» من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس، بعد لفحة الرمضاء، وتخيل «حنو المرضعات» وما يثيره من معانى العطف والحنان، أما «أرشف» فتوحى إليك بهذه المتعة، التى يحس بها الظمآن، لفحه حر الشمس، فأوى إلى ظل ظليل وأخذ يشرب على مهل، يستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ، ألذّ من المدامة،
وتخيل كذلك ما يثيره عندك «يروع» والصورة التى تركتها. وكلمة «العذارى» وموضع الفاء، التى تدل على هذه الحركة السريعة، الناشئة من الروعة، وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية، السيطرة على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره.
ولعل هذا هو السبب، فى أن علماء البلاغة، قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة؛ لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنها، فضلا عن أن تثير هذه الخواطر، التى تحيط بالكلمة إذا استعملت.
على أنه قد يشفع في بعض الأحيان، لاستخدام الكلمة الغريبة، أنها وضعت فى موضع، سهّل الأسلوب فهمها، وكانت هى بجرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقى:
خلوا الأكاليل للتاريخ، إن له
…
يدا تؤلفها درا ومخشلبا (1)
فهذا الجمع بين الدر والمخشلب، يوحى بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة، ما يوحى بأنها تعنى شيئا حقيرا.
والإحساس اللغوى عند الأديب هو الذى يختار اللفظ اختيارا دقيقا، بحيث يؤدى المعنى، على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات، ويأخذ من بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق.
سمع ابن هرمة أديبا ينشد قوله:
بالله ربك، إن دخلت، فقل لها:
…
هذا ابن هرمة، قائما بالباب
فقال له: لم أقل: «قائما» ، أكنت أتصدق؟. فقال:«قاعدا» ، فقال: أكنت أبول؟
قال: فماذا؟ قال: «واقفا» وليتك علمت ما بين هذين، من قدر اللفظ والمعنى (2).
بل إن الإحساس اللغوى، قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحى به إلى الخاطر، كما تحس بذلك في كلمة «أرشف» من الشعر السابق، وكما اختار المتنبى كلمة «تفاوح» فى قوله:
(1) الوارد في المعاجم مخشلبة كلمة عراقية معناها خرز بيض يشاكل اللؤلؤ والحلى يتخذ من الليف والخرز.
(2)
الوقوف لا يقتضى الدوام والثبوت، أما القيام فيقتضيهما.
إذا سارت الأحداج فوق نباته
…
تفاوح مسك الغانيات ورنده
فهى تدل بصيغتها، على هذه الموجات النسيمية، تحمل في أردانها عبق المسك والرند. وكلمة صليل في قوله:
وأمواه، تصلّ بها حصاها
…
صليل الحلى في أيدى الغوانى
فهى تسمعك وسوسة المياه تداعب حصاها ..
وبعض ألفاظ اللغة، أسلس على اللسان، وأجمل وقعا على الأذن من بعض، وهو جمال ظاهرى، يساعد الأديب على إيصال تجربته، وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.
وفضلا عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب، كذلك النظم في العبارة الأدبية، يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة، بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حينا وعن عمد حينا آخر، فنجده يقدم، ويؤخر، ويذكر، ويحذف، ويصل، ويفصل، ويأتى ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحينا يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتى بزخرفة في مكانها، وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علما يتحدث عن خصائص الجملة ودعوه علم المعانى، وعلما للخيال الذى يعقد الصلة بين الأشياء ودعوه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال، وسموه علم البديع.
ولكن خصائص النظم، لا تقف عند حد الجملة، بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع، والحركة المتوثبة، ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة، والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفنى الأديب، إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير.
***