الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنهج الأدبى في القرآن
وأعنى بالمنهج الأدبى، هذا المنهج الذى يتجه إلى إثارة وجدان القارئ، إثارة روحية رفيعة، تحدث السرور في النفس فتقبل، أو تحدث فيها الألم فتأبى وترفض، والقرآن غنى بذلك؛ لأنه لا يعتمد على التفكير وحده ليقنع، ولكنه يتكئ عليه وعلى الوجدان ليستميل، فهو في وعده ووعيده، وأوامره ونواهيه، وقصصه، ووصفه، وابتهاله وتسبيحه، بل وفي أحكامه وبراهينه، لا يغفل هذه الناحية من نواحى النفس الإنسانية؛ لأن العمل غالبا يرتبط بها ويقترن، فالقرآن يهاجم ببلاغته جميع القوى البشرية، ليصل إلى هدفه: من تهذيب النفس، وحب العمل الصالح، والإيمان بالله واليوم الآخر.
خذ مثلا قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ
اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً
(70)
(النساء 69، 70). ألا تراه قد أثار فينا شعور الغبطة والابتهاج، حينما نخيل لأنفسنا أننا إن أطعنا الله والرسول، فسنكون رفقاء للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. أو لا ترى أن هذا الشعور بالفرح جدير بأن يدفع المرء إلى الانقياد والطاعة:
وخذ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (النساء 47). تراه قد اتكأ على إثارة الخوف في النفس من أن تشوه الوجوه أو تطمس، أو أن تحل اللعنة بأصحابها، كما حلت بأصحاب السبت، وهذا الخوف، بما يحدثه في النفس من ألم، جدير أن يدفع الناس إلى التفكير العميق للتخلص من أسبابه، والخلوص من مأزقه، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بما أنزل الله. وقل مثل ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء 56). فأى رعب ينبعث في النفس، عند ما تتخيل أصحاب النار، وقد نضجت جلودهم، فبدلوا
بها جلودا غيرها، لا تلبث أن تنضج كرة أخرى، فتتبدل، وهكذا دواليك. وأى خوف شديد يملك المرء من هذا المصير المؤلم.
وخذ مثلا هذا الجزء من قصة إبراهيم، وهو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)(الأنعام 74 - 82).
ألا يملأ نفسك إعجابا هذا الحوار بين إبراهيم وأبيه وقومه، وهذا التأمل من إبراهيم فيما يحيط به، ويسترعى نظره في الكون، أو لا تحس بالقلق الذى استبد بإبراهيم وهو ينشد الله، وبالراحة التى غمرته عند ما اهتدى إليه، أو لا تشعر بالغبطة كما شعر بها إبراهيم، وهو يتجه إلى الذى فطر السموات والأرض، أو لا يثور في نفسك الرغبة في هذا الأمن، الذى يناله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؟!
كل أولئك إثارات وجدانية تحركها في نفسك هذه القصة، فتحب إبراهيم وتعجب به، ويدفعك ذلك إلى الاقتناع بما اقتنع به إبراهيم.
وخذ قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)(ق 6 - 11). فهو بتلك الآيات يثير في النفس شعور الإجلال لعظمة الخالق، الذى بنى السماء بناء محكما، وزينها نهارا وليلا، ومد الأرض، ورفع الجبال في أرجائها، وأنبت فيها بهيج النبات، وشعور الإعجاب بهذا المطر، ينزل من السماء فيحيى الأرض بعد موتها، وينشئ الجنات ويرفع النخل باسقات، ألا ترى أن شعور الإجلال والإعجاب يدفع إلى الإيمان بقدرة الله على البعث والنشور.
وخذ قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)(البقرة 40 - 44). ألا تراه يثير فيهم شعور العرفان بالجميل، عند ذكر نعمه التى أنعم بها عليهم، وهذا العرفان بالجميل يدفعهم إلى الوفاء بالعهد، والإيمان بما أنزل، لا أن يقابل منهم بالجحود، والنكران، وإلباس الحق ثوب الباطل، كما أثار فيهم غريزة حب النفس، عند ما أنكر عليهم دعوتهم الناس إلى الخير، ونسيانهم أنفسهم، وهكذا اتصل الأمر والنهى بتلك الإثارات الوجدانية، التى تحمل النفس على قبول الأمر والنهى.
وخذ فاتحة الكتاب، وهى من آيات الابتهال والتسبيح، تر فيها الإثارات الوجدانية واضحة جلية، فاتل قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)(سورة الفاتحة 2 - 7). ترى الحمد قد قرن بما يثير في النفس الحب والإجلال معا، فالله المنعم بجليل النعم ودقيقها، مالك يوم الدين، يبعث في النفس الفرح عند انتهاجها الصراط المستقيم، بأنها ستكون مع الذين أنعم الله عليهم.
ويقرن الله سبحانه وتعالى أوامره بإثارات عاطفية، تدعو إلى قبولها والعمل بها، وها هو ذا، كما رأينا، يذكر بنى إسرائيل بنعمه عليهم، هذا التذكير الذى يدفعهم إلى عرفان الجميل، فيوفون بعهده، ويرهبونه، ويؤمنون بما أنزل مصدقا لما معهم.
ويذكرنا برقابته لنا حتى نخافه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (النساء 58).
ويثير فينا النخوة التى تدفعنا إلى الدفاع عن الضعاف والنساء والأطفال، ويصور لنا لهفة هؤلاء على من ينصرهم، فيبعث في نفوسنا إحساس الرفق، وعامل الشفقة،
ويرسم لنا من يقاتل ذيادا عن أولئك مقاتلا في سبيل الله، واستمع إليه سبحانه يقول: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ
وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)(النساء 75، 76).
واقرأ قوله سبحانه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت 34). فإنه عند ما أمرنا أن ندفع بالحسنى، أثار فينا تلك الرغبة في أن نجد بجوارنا الناصر والمعين نستكثر منهما، حتى لينقلب العدو بتلك المعاملة، كأنه صديق حميم.
وعند ما حثنا على الصدقة، اتكأ على غريزة حب النفس، تلك الغريزة التى تستكثر بمقدار ما تستطيع من الخير، فأبان القرآن أن ما سنبذله من صدقة سوف يعود خيره علينا أضعافا مضاعفة، قال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة 261).
واستمع إليه ينهى عن نسيان الله: فيذكرنا بعاقبة ذلك، وأن الله سوف يصرف هؤلاء الناسين عن خيرهم فيفسقون، ويصور لنا الفرق الشاسع بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، ويذكرنا بالفوز الذى يظفر به من لا ينسى الله، قال سبحانه:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)(الحشر 19، 20).
واقرأ هذه الابتهالات الرائعة التى يمزج فيها الخوف بالرجاء، والتى انبعثت من قلوب آمنت وتأملت خلق السماء والأرض، واختلاف الليل والنهار، إذ يقول سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (195)(آل عمران 190 - 195). أو لا ترى هذا الابتهال المؤثر جديرا بهذه الخاتمة السعيدة، فقد استجاب لهم ربهم.
والأحكام في القرآن تقترن بما يثير الوجدان، حتى تقبل النفس على العمل بها راضية مغتبطة، وخذ أشد الآيات توغلا في بيان هذه الأحكام، مثل آية
الدّين، ألا تراه فيها يدعو الكاتب إلى أن يكون عادلا فيما يكتب، مذكرا إياه بأن معرفته الكتابة منة من الله عليه، يجب أن تقابل بالشكر، ومن شكرها أن يكتب كما يجب، قال تعالى: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ (البقرة 282).
ويذكّر من عليه الحق بأن يتقى الله، وهو يملى ما عليه من دين وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً (البقرة 282). ويتكئ على غريزة التملك، عند ما تحدث عن الحكمة في كتابة الدّين، إذ كتابته تحفظ المال، وتبعد الريب عن النفس في قيمته، قال سبحانه: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا (البقرة 282). وعند ما حذرنا أن نضر الكاتب والشهيد، ذكرنا بأن الإضرار بهما فسوق، لا يرضاه الله.
وانتهت آية الدّين بتذكيرنا بأن الله عليم بكل شىء، يعلم ما فيه الخير لنا فيأمرنا به، ويكون النجح في القيام به.
وختم القرآن حديثه عن أحكام الميراث بقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)(النساء 13 - 14)، وفي ذلك كما ترى إثارة عامل الخوف والرجاء. وفي استدلالات القرآن تجد فيها تلك الإثارات الوجدانية أيضا، واقرأ قوله تعالى مبرهنا على وحدانيته: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)(الأنبياء 21 - 29). فهو يثير في النفس إجلال الله بتلك الصفات التى سيقت له، وانفرد بها، فهو رب العرش، لا يسأل عما يفعل ولا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم من خشيته مشفقون، وذلك كله مما يسند الإيمان بوحدانيته. وقبل أن أختم هذا الفصل، أريد أن أقف قليلا عند تلك الآيات التى قد يبدو فيها أنها تبعث إثارات جسمية، من مثل قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ
آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (محمد 15). وقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ
(54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ
(78)
(الرحمن 46 - 78).
وقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)(الطور 17 - 24).
وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26)(الواقعة 10 - 26). ونحو ذلك مما عنى به القرآن من ذكر لذائذ الجسد، من طعام وشراب ونساء، مما يمكن أن يقال فيه: إنه يثير لذّات
جسدية، لا يعنى الأدب بإثارتها، وهنا يصح أن نشير إلى أن القرآن، وقد نزل للناس جميعا، عنى بأن يستميلهم إليه، وفيهم المثالى ذو اللذة الروحية السامية، والواقعى الذى لا يسمو روحه عن واقع الحياة، فنزل القرآن وفيه هذان الاتجاهان، حتى يجد فيه كلا الفريقين بغيته. ومما هو جدير بالذكر أن اللذائذ إنما وصفت في معرض الحديث عن الجنة، وأن القرآن يجمع فيها بين الواقعية والمثالية، فتراه يقول: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ (محمد 15). ويختم حديثه عن الجنة في سورة الرحمن بقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(الرحمن 78). كما أنه يتحدث عن الأمن وضمان الخلود في جنة الخلد، وهى لذائذ روحية، ويضم إلى وصف الجنة ونعيمها أنه لا لغو فيها ولا تأثيم، إلا قيلا سلاما سلاما، وهكذا يجد الواقعى في وصف الجنة طلبته، ويجد المثالى أمنيته، على أن كثيرا من هذه اللذائذ الجسدية يبعث الراحة في النفس، والاطمئنان إلى بهجة الخلود، أفلا تطمئن النفس إلى هذه الأنهار الجارية، والعيون المتفجرة، والأشجار ذات الغصون الوارفة، والثمار الدانية، والزوجات الحسان المقصورات في الخيام، وهل يثير ذلك لذة جسدية فحسب، ولا يثير فيها معنى الأنس والحنان؟! وفي الحق أن هناك مبالغة كبيرة في ادعاء أن تلك الصفات خالصة لإثارات جسمية محضة.
***