المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القراءة الأدبية هى تلك التى يحاول القارئ فيها، أن يستحضر في - من بلاغة القرآن

[أحمد أحمد بدوي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الكتاب الأول

- ‌مقدّمات تمهيدية:

- ‌العمل الأدبى

- ‌مجال الأدب بين مظاهر الشعور

- ‌علوم البلاغة والنقد الأدبى

- ‌القراءة الأدبية

- ‌المنهج الأدبى في القرآن

- ‌إعجاز القرآن

- ‌الفصل الأول ألفاظ القرآن

- ‌البلاغة والنظم:

- ‌تخير اللفظ

- ‌الفاصلة

- ‌الغريب

- ‌المعرب

- ‌ الزائد

- ‌الفصل الثانى الآية القرآنية

- ‌تكونها:

- ‌التقديم والتأخير

- ‌الذكر والحذف

- ‌التنكير والتعريف

- ‌الإفراد والتذكير وفروعهما

- ‌التوكيد والتكرير

- ‌القصر

- ‌الاستفهام

- ‌الأمر والنهى

- ‌التمنى والترجى

- ‌النداء

- ‌القسم

- ‌الفصل والوصل

- ‌بدائع القرآن

- ‌التشبيه في القرآن

- ‌«كذلك» فى القرآن الكريم

- ‌التصوير بالاستعارة

- ‌مجازات القرآن

- ‌الكناية والتعريض

- ‌الفصل الثالث السورة

- ‌الفصل الرابع أسلوب القرآن

- ‌الكتاب الثانى

- ‌الفصل الأول المعانى القرآنية

- ‌الله

- ‌محمد

- ‌ القرآن

- ‌يوم القيامة

- ‌الجنة

- ‌النار

- ‌الجهاد

- ‌المعارك الحربية

- ‌الإنسان المثالى

- ‌الحياة الدنيا

- ‌عبادة الأوثان

- ‌العقائد والعبادات

- ‌الأحكام

- ‌مظاهر الطبيعة

- ‌المدح

- ‌الهجاء

- ‌العتاب

- ‌مصرفى القرآن

- ‌القصة في القرآن

- ‌الجدل

- ‌الابتهال

- ‌بعض صور الحياة الجاهلية

- ‌الفصل الثانى موازنات

- ‌خاتمة

- ‌مراجع البحث

الفصل: ‌ ‌القراءة الأدبية هى تلك التى يحاول القارئ فيها، أن يستحضر في

‌القراءة الأدبية

هى تلك التى يحاول القارئ فيها، أن يستحضر في نفسه التجربة، كما مرت بالأديب المنشئ، وإذا كان الأديب يتخذ لنقل تجربته ألفاظا يختارها، توحى إلى قارئه بمشاعره، فالقراءة الأدبية، هى التى يقف القارئ فيها أمام كل كلمة في النص الأدبى، يتبين ما توحى به، ويرى ما يحيط بها من الظلال، ويتأمل سر اختيارها، ليستخلص كل ما فيها، من خواطر ومعان، فيمارس التجربة التى مارسها المنشئ، ويعيش اللحظة التى عاشها ومن هنا قالوا: إن الأدب يضيف عمرا إلى عمر قارئه، بسبب هذه التجارب التى يستحضرها، ويشعر بها نفسه.

ويمر القارئ للأدب بثلاث مراحل، فالمرحلة الأولى: هى التى يقرأ فيها النص الأدبى ليعيش في تجربته، والمرحلة الثانية: هى مرحلة النقد، وفيها يدرس القارئ ألفاظ النص، ليرى قدرتها على التعبير عما أراده الأديب، أو عجزها عن ذلك، وفي المرحلة الثالثة: ينقد ما يكون قد اشتمل عليه، من معان وآراء، فيرى خطأه وصوابه، وصدقه

أو كذبه، ولن يستطيع القارئ أن يصل إلى المرحلة الثالثة، إلا إذا عاش التجربة كما عاشها منشئها، وتقمص شعوره، وحينئذ يحكم بصواب ما قرأ أو خطئه، فالقراءة الأدبية ألوان ثلاثة: قراءة متذوقة، وقراءة ناقدة، وقراءة حاكمة، ولكى تتبين كيف يقرأ الأدب قراءة متذوقة، نأتى ببعض المثل؛ لنرى تلك الآفاق الواسعة التى يفتحها أمام أنفسنا ذلك النوع من القراءة.

قال البحترى في وصف الربيع:

أتاك الربيع الطلق، يختال ضاحكا

من الحسن، حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غسق الدجى

أوائل وردكن بالأمس نوّما

يفتقها برد الندى، فكأنه

يبث حديثا، كان قبل مكتما

فمن شجر، رد الربيع لباسه

عليه، كما نشّرت وشيا منمنما

ورق نسيم الريح، حتى حسبته

يجيء بأنفاس الأحبة نعما

ترى الشاعر قد جاء بكاف الخطاب في أول حديثه، كأنما ينبه من يخاطبه إلى

ص: 26

أن جمال الطبيعة في هذا الفصل قد جاء إليه، وكأنه يدعوه إلى الابتهاج به، والفرح بمقدمه وفي تعريف الربيع (بأل) العهدية، ما يثير في النفس ما ألفته في هذا الفصل الرائع من جمال وحياة، وفي اختيار كلمة (الطلق) ما يوحى بمعنى الحرية التى يشعر الناس بها في الطبيعة، فليس فيها شذوذ بسحب متراكمة ولا مطر، ولا أوحال في الطرق، تقيد الناس وتحبسهم في بيوتهم، ويشعرون بها في أنفسهم، غير مقيدين بمنازلهم حينا، وبنوع من الملابس حينا آخر، وتأمل كلمة (يختال) فلعلها تصور لك اختيال الأزهار يداعبها مر النسيم، وفي تعبيره (يختال ضاحكا) ما يوحى إليك بأن الشاعر لم يحس بالربيع مظاهر تراها العين فحسب، ولكنه حياة تتدفق في جميع أرجاء الكون، فيهتز عطفه اختيالا، ويبتسم ضاحكا، ويزداد شعور الشاعر بهذه الحياة، ويقوى إحساسه بإفصاح الربيع عن جماله وبهائه، فيخاله يكاد يتكلم ويبين، ويطرد إحساس الشاعر بحياة الربيع، فيرى هذه الأزهار التى تملأ الجو بأريجها مخلوقات، كانت تغط في نوم عميق، فجاءها الربيع ينبهها أن تستيقظ من رقادها، وكأنما زارها في الدجى، يؤكد ألا يسفر وجه الصباح، حتى تكون قد أخذت بهجتها وازينت، كى لا يضيع عليها شىء من جمال النهار، وذلك هو السر في تنبيه الربيع لها، فى غسق الدجى، ثم ألا ترى في استخدام (ورد) هنا ما يحمل إليك أريج أزهار الربيع، وفي استخدام كلمة (أوائل) ما يشير إلى نشاط هذه الزهرات الأولى من أزهار الربيع، وفي اختيار كلمة (نوّم) ما يوحى إليك بما كان فيه الزهر من غفلة عن جمال الحياة، قبل أن ينبهه فصل الجمال، وإن هذه الغفلة والنوم ليحتاجان إلى إيقاظ عنيف، ولذلك استخدم الشاعر كلمة (يفتق) التى تدل على شىء من العنف، ثم ألا ترى أن الدفء مبعث اللجاج في النوم، فمن المعتاد أن البرد يوقظ النائم، وبذلك ترى السر في اختيار (برد الندى) وسيلة لإيقاظ الأزهار، ولما كان شعور الشاعر بتدفق الحياة في الكون قويّا دافقا، أحس كأن هذا الورد يفشى سرّا، كان يخفيه، واختار لتعبيره كلمة (يبث) التى تشعر بأن الحديث الذى يذيعه الورد حديث في خفوت يشبه الهمس، وقال (مكتما) لينقل إلى نفسك ما كان عليه جمال الزهرة قبل تفتحها من سرية محجوبة لا تبين، فكثير من الزهر يتشابه قبل أن تتفتح أكمامه، ويقف المرء أمامه، لا يتبين ما يكون عليه أمره، بعد أن يتفتح، فجماله سر مكتم لا ينم عنه شىء، واختار الشاعر كلمة (حديث) التى توحى بهذا التجاوب النفسى بين الطبيعة والإنسان.

ص: 27

وبهذا استطاع الشاعر، أن يصور لنا إحساسه الروحى بجمال الربيع، ولكنه لم ينس حظ العينين من هذا الجمال، فحدثنا عن الشجر، وقد استعاد خضرته ونضارته، ودبجته الأزاهير، واختار الشاعر كلمة (رد) التى توقظ في نفسك ما كان عليه من تجرد، لا تبهج العين رؤيته، إذ سلب ثيابه، فعاد حاليا بزينته وحليته، واستخدم الشاعر كلمة (نشّر) المضعّفة الدالة على التكثير، ليصور لك هذا المعرض الحى من معارض الطبيعة، وكلمة (منمنما) توحى بدقة الوشى كأنما نسجته يد صناع، (ورق) توقظ في النفس موازنة بين نسيم الربيع وهواء الشتاء الكثيف، وفي كلمة (حتى) ما يدل على عمق الشعور برقة هذا النسيم، والتلذذ به، وفي المجيء بكلمة (أنفاس) جمعا وإيثارها على المفرد، ما يوحى بأن نسيم الربيع يجيء متقطعا، كالأنفاس، حتى لا يمل، ووصف الأحبة بالنعمة يوحى إليك بالهدوء، فليست هى بزفرات حارة، يخرجها صدر يحترق بالحب.

وهاك بيتا (1) من الشعر، قال الأصمعى عنه أنه أهجى بيت قالته العرب، وهو:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهمو

قالوا لأمهم: بولى على النار

فكل كلمة في هذا البيت تكاد تنطق بالهجاء والذم؛ فتنكير (قوم) لتحقيرهم، والإشارة إلى أنه لولا هذه الصفات التى تسمهم، لكانوا نكرة في الصحراء، لا يأبه بهم أحد، والإيحاء بأن هذه الصفات الدنيئة إذا ذكرت، وسمتهم، فصاروا بها معروفين مميزين، وكلمة (إذا) وهى تفيد الشرط، تدل على أن مقدم الأضياف إليهم إنما هو في أوقات معينة قليلة، وليس ذلك بعادة دائمة (والسين والتاء) فى استنبح للدلالة على أن الأضياف كأنهم يمضون إلى الكلب ويعرضون له، لينبح، أما هو فيغط في نوم عميق، فيلس لديه ما يحرسه، ولم ير من قبل غرباء يطرقون هؤلاء القوم، فلم يجد عملا فنام، وربما كان عدم نباح الكلب، لهزاله وضعفه من الجوع الذى يقاسيه في صحبتهم، وجاء (بالأضياف) جمع قلة، ليؤذن بأن من يقصد هؤلاء القوم عدد محدود قليل، ونسب القول إليهم في (قالوا) وهو قول مزر، للإشارة إلى سوء أدبهم، وامتهانهم لأمهم، والمجيء بلفظة (أم) وهى تستدعى أعظم ألوان التقدير، يوحى بما آلت إليه حال هذه الأم عندهم، ومن هوان وضعة، حتى صارت لديهم في منزلة أقل من منزلة الخادم، وإضافة الأم إليهم، إشارة إلى لؤمهم، ومبالغة في تحقيرهم، وإيذان بأنه ما كان ينبغى أن يعاملوها تلك المعاملة، وهى أمهم، وأنطقهم بلفظ (البول) وهو مما يثير شيئا

تتقزز منه

(1) راجع فنون الأدب ص 35.

ص: 28

النفوس، إيماء إلى جفوتهم، وأنهم لم يهذبوا ويصقلوا، وتوجيه هذا الأمر إلى أمهم فيه ما فيه من التشنيع عليهم، وفيه كذلك أنهم يبخلون بالماء، فيستعيضون عنه بالبول، وأن نارهم ضعيفة خافتة، وتكفى بولة عجوز لإطفائها، وأتى الشاعر بحرف الجر «على» الدال على الاستعلاء؛ ليرسم صورة منفرة، وهى صورة الأم، وقد علت النار تبول عليها، وتعريف النار إشارة إلى تلك النار المعهودة التى يستطاع اعتلاؤها والبول عليها، ولم ينسبهم الشاعر إلى البخل صراحة، وإنما أخبر عنهم بما يدل على أقبح ألوان هذا البخل.

وهذه آيات من القرآن الكريم نقف عندها، لنقرأها تلك القراءة الأدبية المتذوّقة، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)(البقرة 8 - 20).

ألا ترى في اختيار كلمة النَّاسِ وعمومها، عدم مجابهة المنافقين بتعيينهم، وفي ذلك ستر عليهم، وإغراء لهم بالإقلاع عن نفاقهم، ذلك أنه، ما داموا لم يعينوا، من المتوقع أن يصغوا إلى القرآن، فربما انصرفوا عن غيهم، إذا استمعوا إلى تصوير حال ضلالهم، وما هم فيه من حيرة واضطراب، ولو أنه جبههم بكشف الستار عنهم، لانصرفوا معرضين عن الإصغاء، فلا يكون ثمة أمل فى هدايتهم، وكلمة يَقُولُ، توحى بأن إيمانهم لم يتعد أفواههم، وأجرى على ألسنتهم الإيمان بصيغة الماضى، ليوهموا سامعيهم أنهم قد دخلوا في الإيمان منذ زمن بعيد، زيادة منهم في التمويه والخداع، وخص الإيمان بالله وباليوم الآخر؛ لأن الإيمان بهما يجمع كل ما يجب الإيمان به، من كل ما يصل الإنسان

ص: 29

بربه، أو يصله بالناس، واختار في الرد عليهم الجملة الاسمية في النفى؛ ليدل بها على استقرار هذا النفى وثباته.

هؤلاء المنافقون إنما يخدعون بعملهم هذا الذين آمنوا، ولكن القرآن جعل الخداع لله، سخرية منهم، واستهزاء بعقولهم، واستخدم الفعل المضارع هنا، يصور به حالهم، ويحضر هذه الصورة أمام أعين السامعين، واستخدم أداة القصر وهى (ما) و (إلا)، ليردّ عليهم ردّا حاسما، يبين أن خداعهم لن يضرّ أحدا غيرهم، ولكن يصيبهم وحدهم أذاه، وأوقع الخداع على أنفسهم ليكون ذلك مثار العجب أن يفعل ذلك من لديه مسكة من عقل، وفي وَما يَشْعُرُونَ تصوير صادق لهؤلاء المنافقين، الذين لا يدركون مغبة خداعهم، واستخدام كلمة مَرَضٌ، لما أصابهم من تغليب الهوى على العقل، يوحى إلينا بأن عقولهم، وقد تغلب عليها سلطان الهوى، صارت غير مستطيعة أن تفكر تفكيرا سليما، وأن تقوم بوظيفتها التى خلقت لها، كالجسم يصاب بالمرض فلا يستطيع أداء وظيفته، وفي الدعاء عليهم بزيادة المرض، إيذان بغضب الله وسخطه عليهم، واستخدام فِي فى هذه الجملة، يؤذن بتمكن المرض من قلوبهم، فكأنما انطوت قلوبهم عليه، وفي كلمة أَلِيمٌ- والعذاب لا يكون إلا مؤلما، إبراز لأهمّ خصائص العذاب، واختيار كانَ والمجيء بخبرها فعلا مضارعا، يؤذن باعتيادهم الكذب ولجاجتهم فيه، وجاء بالواو في قوله:

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، إشارة إلى مأثمة جديدة من آثامهم، وأتى بالفعل: قِيلَ مبنيّا للمجهول، مؤذنا بأن من الواجب عليهم أن ينظروا إلى القول من حيث هو، بقطع النظر عن قائله، وألا يجعلوا للقائل دخلا في تقديرهم ووزنهم، واختار كلمة الْفَسادَ ليصور بها ما يقوم به هؤلاء المنافقون، من تشكيك المؤمنين وتخذيلهم عن نصرة الرسول، وبثّ الفتن في الأرض، ونسب القول إليهم في قالُوا؛ ليبين مدى تبجحهم، وأنهم لا يبالون أن يقلبوا الحقائق، ويطمسوا معالمها، أما ردهم، فقد استخدموا له أداة من أدوات القصر، يريدون بذلك نفى الإفساد عنهم نفيا باتا، وأن عملهم لا يعدو الخير والصلاح وبالغوا في ذلك حتى أوهموا أن نفوسهم قد قصرت على الإصلاح قصرا، فهى لا يمكن أن تلم بفساد، واختاروا من أدوات القصر إِنَّما التى تدل على أن الأمر من الوضوح، بحيث لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، مبالغة منهم في التمويه والخداع، واستفتح الرد عليهم بألا؛ ليسترعى الأذهان إليه، حتى تتنبه إلى الرد ولا يفوتها منه شىء، وبدأ

ص: 30

الجملة بالتأكيد؛ لأنه في مقام يريد أن يقتلع من الأذهان دعواهم العريضة في الإصلاح، و (هم) الثانية ضمير فصل يؤكد الإسناد في الجملة، وتعريف الطرفين يفيد قصر المسند على المسند إليه، فكأن الإفساد مقصور عليهم، لا يبرحهم إلى سواهم، وجاء بلكن، يريد أن يخبرنا بخبر جديد عن هذه الطائفة التى انحصر الإفساد في بنيها، وأنه

كان خليقا بهم أن يدركوا هذه الحقيقة، لو كان عندهم قدر من شعور، أما وهم قوم لا يشعرون، فذاك هو السر في خفاء هذه الحقيقة البينة عنهم، وفرق في التعبير بين وَما يَشْعُرُونَ فى الآية السالفة، وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ فى تلك الآية، فالجملة الأولى في مكانها تنبئ بأن حركة خداع النفس تمر بهم، من غير أن يتنبهوا إليها، فهو لا ينفى الشعور عنهم مطلقا بل ينفى شعورهم بخداع أنفسهم؛ أما في هذه الآية فليس إفسادهم مما يقع منهم بلا شعور، بل هم يفعلون عن رغبة وإصرار، ولكنهم قد فقدوا التفكير، الذى يزنون به الأمور بميزانها الصحيح.

وتستطيع أن تمضى في قراءة الآية التالية، كما مضيت في هذه الآية، وقف فيها وقفة عند كلمتى النَّاسِ والسُّفَهاءُ تتبين في الكلمة الأولى مدى الأدب، الذى استخدمه الداعى في دعوة هؤلاء القوم إلى الإيمان، فهو لم يقل لهم آمنوا كما آمن العقلاء مثلا، فيكون في ذلك جرح لشعورهم، بما قد يكون فيه من تلميح بضعف عقولهم، بل لم يزد في دعوته على أن دعاهم إلى الدخول فيما دخل فيه عامة الناس، وفي ذلك منتهى الرفق واللين، أما ردهم ففيه تبجح وعنف، فقد ادعوا سفاهة هؤلاء الذين آمنوا.

وقف كذلك عند كلمة يَعْلَمُونَ وتأمل سر اختيارها، تر أن السفاهة إنما ترجع إلى العقل والتفكير، فناسب ذلك نفى العلم عنهم، وأما الآية السابقة فإفساد بأعمال يشعر بها، فناسب هناك نفى الشعور.

وامض كذلك في قراءة الآية التى ترسم ما عليه المنافقون من الخداع، وما لهم من وجهين يقابلون المسلمين بأحدهما، ويقابلون رؤساءهم بوجه آخر، وقف عند كلمة خَلَوْا لترى ما توحى به إلى نفسك من جبن هؤلاء المنافقين، الذين لا يستطيعون أن يظهروا ما تكنه قلوبهم، إلا في خلوة لا يراهم فيها أحد، وقف كذلك عند كلمة شياطين، يراد بها رؤساء النفاق، وتأمل ما توحى به من ضروب المكر والدهاء والفساد والضلال، وانظر كيف كشف المنافقون أنفسهم أمام رؤسائهم، فى جملتين اثنتين، دلتا على حقيقتهم، ففي الجملة الأولى: قالوا إنا

ص: 31

معكم، أكدوا لرؤسائهم شدة إخلاصهم لهم، حتى لا يدعوا لهؤلاء الرؤساء سبيلا إلى الشك في إخلاصهم، بسبب ما يظهرونه بألسنتهم للمؤمنين من الإيمان، وفي مَعَكُمْ ما يشعر بهذا الرباط القلبى، الذى يربط المنافقين برؤسائهم، وفي اختيار القصر وأداته في الجملة الثانية: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، ما سبق أن ذكرنا فكأنهم يقولون لشياطينهم: إن استهزاءنا بالمؤمنين عند ما نقول لهم: آمنا، واضح، لا يمكن أن يكون سببا لشككم في إخلاصنا لكم، وأن قلوبنا معكم، واختاروا الجملة الاسمية يدلون بها على ثبوت هذا الخبر واستقراره.

واختار الله في الرد عليهم أن يأتى باسمه دون صفة من صفاته، ليوحى إلينا بهذا الجلال، الذى يحيط بذلك الاسم المقدس، وأنه هو الذى سيتولى الاستهزاء بهم، وكلمة يستهزئ تصور هذا الجزاء الساخط، الذى يقابل به الله استهزاءهم، ليصور بأمر محسوس، أمرا معنويّا، هو تركهم في ضلالهم لا يهتدون، واختيار كلمة الطغيان، توحى بالخروج في قوة عن الطاقة المألوفة في العصيان والفجور، والعمه في الآية، يصور لنا مدى تردد هؤلاء القوم في غوايتهم، وأنهم لا يهتدون إلى الحق والصواب، فهم في حيرة من أمرهم كالأعمى، يسير على غير هدى ولا اطمئنان.

وامض في قراءة الآية التالية، وتأمل وجه استخدام اسم الإشارة، يشير به إلى طائفة قد اتصفت بتلك الصفات الخادعة، وكان لها أثرها في الحكم عليهم، وفي كلمة اشترى، ما يدل على إيثار هؤلاء القوم للضلالة على الهدى، واختار كلمة الضلالة هنا، وآثرها على الكفر والنفاق مثلا، ليتسنى بيان حال ما اختاروه في إيجاز، ووضع الهدى بجوار الضلالة، ليتأتى في يسر معرفة مدى خسران هؤلاء القوم، وضعف عقولهم، ونفى الربح عن التجارة، ولم ينفه عن المتجرين، للإشارة إلى أن هذه التجارة بطبيعتها تجارة خاسرة، بقطع النظر عن المتجرين بها، وفي ما كانُوا مُهْتَدِينَ إشارة إلى جهلهم، باختيار هذه التجارة الخاسرة.

وفي الآية التالية تستوقفنا كلمة استوقد نارا، فنتبين فيها حال رجل، قد أحاطت به حلكة الظلام، فهو يطلب جاهدا نارا تضيء له مسالك السبيل، والسين والتاء يدلان على هذا البحث القوى، والطلب الجاد، وفي كلمة أضاءت ما يدل على أنه قد أوتى أكثر مما كان يطمح إليه، فلقد كان يبحث عن نار، أيّا ما كانت، فأوتى نارا قوية أضاءت ما حوله، غير أن ذلك لم يلبث أن مضى وزال، واستخدام ذهب بالنور أقوى من ذهب النور؛ لأن في التعبير الأول دلالة على أن آخذا أخذ

ص: 32

النور، ومضى به، فكيف إذا كان الذاهب به هو الله، وفي إضافة النور إليهم، ما يشعر بأنهم كانوا قد اطمأنوا إلى النور، وفرحوا به، فيكون الذهاب به أشد إيلاما وأنكى، وجمع ظلمة، ليشير إلى هذا الظلام المتكاثف، والحلكة المتراكم بعضها فوق بعض، وتأمل بعدئذ هذه الصفات التى خرجوا بها عن أن يكونوا من البشر، بل عن أن يكونوا من الحيوان، ما داموا قد عطلوا مواهبهم ولم ينتفعوا بها، وكان لنسق هذه الصفات على وزن واحد أثر موسيقى مؤثر.

والآيتان التاليتان استمرار في وصف حيرة هؤلاء المنافقين، فمثّلهم القرآن بحال من حصرتهم السماء بصيب، وفي هذه الكلمة ما يوحى بقوة المطر وشدة بطشه، فهو ليس بغيث ينقذ الأرض من ظمئها، ولكنه مطر يصيبها ويؤثر فيها، وفي النص على أنه من السماء، ما يوحى بهذا العلو الشاهق، ينزل منه هذا المطر الدافق، فأى رعب ينبعث في القلب من جرائه، وفي المجيء بكلمة فِيهِ ما يدل على أن هذه الظلمات، والرعد، والبرق، كأنما سكنت هذا الصيب، وكأنما تنزل معه من السماء، وفي إيثار الظلمات جمعا، على المفرد ما سبق أن أشرنا إليه، وفي تنكيرها، وتنكير الرعد، والبرق ما يشير إلى أنها من القوة والإزعاج، إلى درجة لا يستطاع تحديدها، وفي كلمة الأصابع ما يوحى بهذا الذعر، الذى استولى عليهم من شدة الأصوات الرعدية المرعبة، فهم يحاولون إبعاد صوتها عنهم، وكلما زادت شدة الصوت، زادوا من إدخال هذه الأصابع، علها تسد أذانهم، واختيار كلمة يجعلون، وإيثارها على يضعون مثلا، للإشارة إلى أن أصابعهم لطول ما صارت في آذانهم، أصبحت كأنها مركبة معها، أما الوضع فلا

يستفاد منه هذا الثبات والاستمرار، وبرغم أن المعنى على أن كل فرد منهم يضع إصبعا في أذن، لا نستطيع أن نبعد عن أنفسنا هذا الجو الذى خلقه حولنا استخدام الجمع، الموحى بمقدار الهلع الذى أصاب أفئدتهم، لهذا الصوت المنكر، حتى لكأنهم يريدون إبعاده، بوضع كل ما يملكون من أصابع في آذانهم. وجمع الصواعق إيذان بما اصطلح على إزعاجهم من صواعق رهيبة، لا صاعقة فحسب. وكلمة حذر تدل على شدة شعورهم بقرب الموت منهم، وإسناد الإحاطة إلى الله فيه من الجلال والرهبة ما فيه، واختيار كلمة مُحِيطٌ يدل على شمول العذاب لهم، وإحاطته بهم من كافة الأرجاء، فهم لا يستطيعون الإفلات منه أينما ساروا، وفي إيثار كلمة الكافرين على المنافقين، بيان لحقيقة حالهم، وأن النطق باللسان لا يغنى عن الحق شيئا.

تحدثت الآية الكريمة عن هذا الصيب، وأن فيه ظلمات ورعدا وبرقا، وذكرت أن حال المنافقين في خوفهم وهلعهم، كحال السائر في هذا الصيب؛ لاضطراب

ص: 33

حياتهم، وخوفهم أن ينكشف أمرهم، فهم في اضطراب نفسى شديد، وشرحت الآية ما يصيب السائر من الفزع، من جراء الرعد يصم أذنيه، وتحدثت الآية الثانية عما أضمره لهم البرق والظلمات، من إخافة وإرهاب، فقال سبحانه يكاد البرق يخطف أبصارهم، وفي استخدام يَخْطَفُ تصوير بأمر محسوس، يبعث فى النفس خوفا. فكأن يدا تمتد نحو السائر تسلب منه نور عينه، والمجيء بكلما يوحى بهذه اللهفة التى تملأ قلوبهم، والرغبة في الخروج من هذه الظلمات المتكاثفة، فلا يكاد النور يبدد هذه الظلمة قليلا، حتى ينتهزوا الفرصة فيمشوا، وإذا أظلم عليهم قاموا، وفي كلمة عَلى ما يدل على شدة وطأة الظلام عليهم، وفي قامُوا ما يوحى إليك بتكاثف الظلمات حولهم، فلا يكادون يحركون أقدامهم، عند ما تطبق عليهم هذه الظلمات.

وهكذا تستطيع بالقراءة الأدبية أن تصل إلى تصور ما يراد من النص أكمل تصور وأوفاه. وبعد هذه القراءة المتذوقة، تقف لترى مقدار ما في هذا النص، من تلاؤم بين ألفاظه ومعانيه، وتلك هى القراءة الناقدة كما ذكرنا، فنرى الآيات تصف هذا الاضطراب في نفسية هؤلاء المنافقين، وما يظنون أنهم يقومون به من خداعهم لله والمؤمنين، وعنيت الآيات بوصف ضلالهم وخسرانهم، برغم ما في عصرهم من نور، لا يكاد يضيء أمامهم الطريق قليلا، حتى يطبق الظلام مرة ثانية عليهم، لأنهم لم يستعملوا آذانهم، فيما خلقت له، من الاستماع إلى صوت الحق، ولا ألسنتهم في التعبير عنه تعبيرا ينبعث عن قلوبهم، ولا أعينهم في الاهتداء بما ترى، إلى الحق والصواب. ذلك موقفهم من دعوة الحق، أما أنفسهم المضطربة الخائفة، فقد ضربت الآيات لها مثلا: هذا الذى يحيط به الصيب، فيه ظلمات ورعد وبرق، وبهذا كله صورت الآيات من هؤلاء المنافقين، صلتهم بالمجتمع الذى يعيشون فيه، بين مسلمين وكافرين، وموقفهم من النور الذى أضاء عصرهم، وتغلغلت إلى أعماق نفوسهم، فصورت خوفها واضطرابها، وكل جزء من هذه الآيات له قيمته في هذا التصوير، بحيث تستطيع أن تتخيل هؤلاء القوم، وأن تستمع إليهم، وقد التقوا بالمؤمنين، فقالوا لهم: آمنا، ومضوا إلى شياطينهم، فقالوا لهم: إنا معكم، وتتخيلهم وهم يعملون جهدهم، على أن يوقدوا نيران الفتنة، ويسعون في الأرض فسادا، فإذا قيل لهم: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، وتستطيع أن تتبين هذا المرض الذى أحاط قلوبهم بأكنة، وخيل إليهم أنهم يستطيعون خداع المؤمنين، بإظهار كلمة الإيمان لهم،

ص: 34

مع أنهم يضمرون لهم أشد ألوان الاحتقار والاستهزاء، وأن تتصور موقفهم من الهدى الذى سطعت شمسه أمامهم، فكانوا صمّا بكما عميا، فإذا تغلغلت في أعماق قلوبهم رأيت الذعر، قد استبد بها، كما يستبد بمن أحاط به صيب، فيه ظلمات ورعد وبرق.

ثم نحكم بعدئذ على ما في هذه المعانى من خطأ أو صواب، وتناسق أو اضطراب، وهى القراءة الثالثة الحاكمة، وبما ذكرناه تتبين الدقة في التصوير، وهنا نشير إلى ما قد يتراءى في تصوير المنافق في تلك الآيات، من وصفه بالإفصاح عن معتقده، كما تدل على ذلك الآية: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ. وبإخفاء معتقده، كما تدل على ذلك آية: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.

وليس بين الآيتين خلاف في التصوير، فالآية الأولى تبين نفسيتهم الحقيقية.

عند ما يعرض عليهم الإيمان، فإنهم يقولون في أنفسهم: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وكأنهم لشدة شعورهم يجهرون بذلك، أما الآية الثانية فتصف صلتهم الخارجية، بالمؤمنين، وأنهم يظهرون لهم الإيمان، ويبطنون الكفر والنفاق، فإحدى الآيتين تشرح نفسيتهم، والثانية تتحدث عن اضطرابهم بين ما يظهرون وما يضمرون.

وبهذه القراءات الثلاث تستطيع أن تقول: إن النص الأدبى أصبح واضحا في نفسك تمام الوضوح.

***

ص: 35