المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجال الأدب بين مظاهر الشعور - من بلاغة القرآن

[أحمد أحمد بدوي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌المقدمة

- ‌الكتاب الأول

- ‌مقدّمات تمهيدية:

- ‌العمل الأدبى

- ‌مجال الأدب بين مظاهر الشعور

- ‌علوم البلاغة والنقد الأدبى

- ‌القراءة الأدبية

- ‌المنهج الأدبى في القرآن

- ‌إعجاز القرآن

- ‌الفصل الأول ألفاظ القرآن

- ‌البلاغة والنظم:

- ‌تخير اللفظ

- ‌الفاصلة

- ‌الغريب

- ‌المعرب

- ‌ الزائد

- ‌الفصل الثانى الآية القرآنية

- ‌تكونها:

- ‌التقديم والتأخير

- ‌الذكر والحذف

- ‌التنكير والتعريف

- ‌الإفراد والتذكير وفروعهما

- ‌التوكيد والتكرير

- ‌القصر

- ‌الاستفهام

- ‌الأمر والنهى

- ‌التمنى والترجى

- ‌النداء

- ‌القسم

- ‌الفصل والوصل

- ‌بدائع القرآن

- ‌التشبيه في القرآن

- ‌«كذلك» فى القرآن الكريم

- ‌التصوير بالاستعارة

- ‌مجازات القرآن

- ‌الكناية والتعريض

- ‌الفصل الثالث السورة

- ‌الفصل الرابع أسلوب القرآن

- ‌الكتاب الثانى

- ‌الفصل الأول المعانى القرآنية

- ‌الله

- ‌محمد

- ‌ القرآن

- ‌يوم القيامة

- ‌الجنة

- ‌النار

- ‌الجهاد

- ‌المعارك الحربية

- ‌الإنسان المثالى

- ‌الحياة الدنيا

- ‌عبادة الأوثان

- ‌العقائد والعبادات

- ‌الأحكام

- ‌مظاهر الطبيعة

- ‌المدح

- ‌الهجاء

- ‌العتاب

- ‌مصرفى القرآن

- ‌القصة في القرآن

- ‌الجدل

- ‌الابتهال

- ‌بعض صور الحياة الجاهلية

- ‌الفصل الثانى موازنات

- ‌خاتمة

- ‌مراجع البحث

الفصل: ‌مجال الأدب بين مظاهر الشعور

‌مجال الأدب بين مظاهر الشعور

يرى علماء النفس للشعور مظاهر ثلاثة: فهو تفكير، إذا كان بحثا عن حقائق الوجود، لمعرفة أسبابها، واستنباط قواعدها، وإدراك ما بين بعضها وبعض من صلة أو تنافر. وهو وجدان، إذا صحبه إحساس باللذة والألم، فالحب والبغض، والسرور والحزن، والرجاء واليأس، والخوف والغضب، كلها وجدانات تتصل بالنفس، فتحدث بها لذة أو ألما. وهو إرادة إذا حفز المرء إلى العمل، ودفعه إليه، كالرغبات والنيات.

وإن بين هذه المظاهر النفسية اتصالا وثيقا، لا يتأتى معه انفصال واحد عن صاحبيه، وإن كان المظهر الغالب لأحدها. فمن المحال أن نجد ألما في أنفسنا من غير أن نبحث عن سببه، ونبذل طاقتنا في سبيل إبعاده. ويستحيل أن نفكر فى عمل عقلى، من غير أن نشعر بارتياح إذا سهل الأمر وانقاد، وامتعاض إذا اعتاص والتوى. والأعمال الإرادية يصحبها التفكير والوجدان، ولا تستقل بنفسها أبدا.

غير أن الصلة التى تربط هذه المظاهر بعضها ببعض، قد تكون طبيعية، إذا كانت التجربة نفسها تستدعى هذا الترابط، بطريق تداعى المعانى؛ كما إذا وصل إليك نبأ نجاحك مثلا، فإن خواطر شتى تفد إلى نفسك من كل صوب، ما بين سرور وابتهاج بما ظفرت به، وتفكير في الوسائل التى انتهجتها، فوصلت بك إلى تلك الغاية السعيدة، إلى رغبات وعزمات تصمم عليها، ويدفعك إليها هذا الظفر المحبوب، وبينما ترى بعض هذه الخواطر واضحا جليا للنفس، ويحتل بؤرة الشعور أو الحواشى القريبة منها، تجد بعضها الآخر غامضا خفيا، لا تكاد تشعر به؛ وتكون الصلة غير طبيعية إذا لم تكن التجربة مستدعية لها بطريق تداعى المعانى، كما إذا كنت تدرس نظريات الهندسة، فسئمت العمل وتركته، فليس بين نظريات الهندسة والسأم من صلة.

ليس التفكير الخالص بميدان للأدب، وإنما هو مرتع للعلم وحده، أما الأدب فمجاله الإحساس بالحسن، الذى يثير في النفس لذة، أو بالقبح الذى يبعث فيها

ص: 15

ألما، فالأدب تعبير عن هذا الإحساس، وتصوير له، فهو لسان الوجدان وترجمانه، إذا كان العلم لسان التفكير والمبيّن عنه.

تسمع قول قريط بن أنيف يعاتب قومه الذين لم ينجدوه، ويمدح بنى مازن، لأنهم أخذوا بيده ونصروه:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلى

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصرى معشر خشن

عند الحفيظة، إن ذو لوثة لانا

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه، زرافات، ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

فى النائبات، على ما قال برهانا

لكن قومى، وإن كانوا ذوى عدد

ليسوا من الشر في شىء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيته

سواهم من جميع الناس إنسانا

فليت لى بهم قوما إذا ركبوا

شنوا الإغارة فرسانا وركبانا

فالشاعر هنا يصور لنا نقمته على قومه، وازدراءه كثرة عددهم، لخورهم، وجبنهم، حتى ليقابلون ظلم ظالمهم بالصفح والغفران، وإساءة المسيئين إليهم بالعفو والإحسان، يلتمسون لضعفهم المعاذير، من الخضوع لتعاليم الدين، فكأن الله لم يخلق غيرهم لخشيته. أما بنو مازن، فهو معجب ببسالتهم وإقدامهم، يمنعون حماهم أن يستباح، ويجد أعداؤهم فيهم خشونة لا تلين، يسرعون إلى نصرة أخيهم، قبل أن يطلبوا منه برهانا على ما قال، فلا عجب أن تمنى استبدال قومه بغيرهم.

تحدث الشاعر في تلك القطعة عن إعجابه وسخطه، أى عن إحساسه بالجمال والقبح، ونجح في تصويرهما ونقلهما إلينا، مستعينا على ذلك بألوان من الخيال، تكاد تلمس بها خشونة جانب من نصروه، وترى بها الشر مكشرا لهم عن أنيابه، وتبصرهم طائرين لا يلوون على شىء، وموردا هذه المناقضات التى ما كان يليق أن تكون، ومتهكما بهم تهكما مرّا لاذعا، ويشعر القارئ لهذا الشعر بلذة، أثارها فينا نجاحه في التصوير، وبراعته في التعبير.

بينما نحن لا نعد من الأدب هذه المقالات العلمية، التى تخاطب التفكير وحده، من غير أن تشرك الوجدان معه.

على أن الأديب قد يستعين بقضايا الفكر، على تصوير هذا الإحساس، كما فعل المتنبى عند ما أراد أن يصور حيرته اليائسة من الوصول إلى أن يدرك كنه الحياة، ومصير الوجود، فقال:

ص: 16

تخالف الناس، حتى لا اتفاق لهم

إلا على شجب، والخلف في الشجب (1)

فقيل: تخلص نفس المرء سالمة

وقيل: تشرك جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجته

أقامه الفكر بين العجز والتعب

وهنا نجد الطريق ممهدا للحديث عن هدف الأدب، والحق أننا نقف بهذا الهدف عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة، ولا أن يثير فينا النزوع إلى الأعمال الصالحة، أى أنه ليس مهمته التعليم والإصلاح، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يزودنا بالأفكار، أو أن يحرك إرادتنا للعمل، سواء أكان ذلك مقصودا للأديب أم غير مقصود، فقد يقف الأدب عند حد الإثارة الوجدانية فحسب، كما في أدب الطبيعة، وشعر الغزل، وكثير من المرائى، والرسائل، والمقالات العاطفية المحضة، مثل قول حافظ يصف عاصفة مرت بالبحر الأبيض، وهو يركب سفينة فيه:

عاصف يرتمى، وبحر يغير

أنا بالله منهما مستجير

وكأن الأمواج، وهى توالى

محنقات، أشجان نفس تثور

أزبدت، ثم جرجرت، ثم ثارت

ثم فارت، كما تفور القدور

ثم أوفت، مثل الجبال على الفلك،

وللفلك عزمة لا تخور

تترامى بجؤجؤ، لا يبالى

أمياه تحوطه أم صخور

أزعج البحر جانبيها من الشدّ،

فجنب يعلو، وجنب يغور

وهو آنا ينحط من علو كالسيل،

وآنا يحوطها منه سور

وهى تزور كالجواد إذا ما

ساقه للطّعان ندب جسور

وعليها نفوسنا خائرات

جازعات، كادت شعاعا تطير

فى ثنايا الأمواج والزبد المندوف،

لاحت أكفاننا والقبور

وقول القشيرى:

حننت إلى ريّا، ونفسك باعدت

مزارك من ريّا، وشعباكما معا

فما حسن أن تأتى الأمر طائعا

وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا

قفا ودعا نجدا، ومن حل بالحمى

وقولا لنجد عندنا أن يودعا

بنفسى تلك الأرض، ما أطيب الربا

وما أحسن المصطاف والمتربعا!

ولما رأيت البشر (2) أعرض دوننا

وجالت بنات الشوق يحنن نزّعا

بكت عينى اليسرى، فلما زجرتها

عن الجهل بعد الحلم، أسبلتا معا

(1) الهلاك.

(2)

اسم جبل.

ص: 17

تلفتّ نحو الحى حتى وجدتنى

وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (1)

وأذكر أيام الحمى، ثم انثنى

على كبدى، من خشية أن تصدعا

وليست عشيات الحمى برواجع

إليك، ولكن خل عينيك تدمعا

وقول ابن الرومى يرثى ابنه:

بكاؤكما يشفى، وإن كان لا يجدى

فجودا، فقد أودى نظير كما عندى

ألا قاتل الله المنايا ورميها

من القوم حبات القلوب على عمد

توخّى حمام الموت أوسط صبيتى

فلله، كيف اختار واسطة العقد؟!

على حين شمت الخير من لمحاته

وآنست من أفعاله آية الرشد

طواه الردى عنى، فأضحى مزاره

بعيدا على قرب، قريبا على بعد

لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها

وأخلفت الآمال ما كان من وعد

لقد قل بين المهد واللحد لبثه

فلم ينس عهد المهد، إذ ضم في اللحد

محمد، ما شىء توهم سلوة

لقلبى، إلا زاد قلبى من الوجد

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزند

إذا لعبا في ملعب لك لذّعا

فؤادى، بمثل النار، عن غير ما قصد

فما فيهما لى سلوة، بل حرارة

يهيجانها دونى، وأشقى بها وحدى

وحينا يمدنا بمعلومات عن الحياة ونظم الكون والمجتمع، على شريطة أن يكون ذلك ممتزجا بشعور الأديب، وناشئا عن تجربة شخصية له، كما ترى ذلك فى ألوان الأدب الاجتماعى والسياسى، وفي شعر الحكمة، كقول زهير:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة

يضرس بأنياب، ويوطأ بمنسم

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه، ويذمم

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يعد حمده ذما عليه، ويندم

ومن لا يزد عن حوضه بسلاحه

يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

ومن يغترب يحسب عدوا صديقه

ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس، تعلم

لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقول المتنبى:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضر، كوضع السيف في موضع الندى

(1) الليت صفحة لعنق والأخدع عرق فيها.

ص: 18

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

ومن لك بالحر الذى يحفظ اليدا

وقيدت نفسى في ذراك محبة

ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

وقوله:

إنما أنفس الأنيس سباع

يتفارسن جهرة واغتيالا

من أطاق التماس شىء غلابا

واقتسارا، لم يلتمسه سؤالا

كل غاد لحاجة يتمنى

أن يكون الغضنفر الرئبالا

وقديما عدوا حسن إيراد الحجة من البلاغة، وضربوا لذلك المثل بقوله تعالى:

وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)(يس 78 - 83).

وحينا يثير الأدب فينا الإرادة، ويدفعنا إلى العمل، وأظهر ما يتجلى ذلك في الخطابة، فإنها كثيرا ما ترمى إلى إثارة التفكير المصحوب بالوجدان، المتبوع بالعمل، كخطبة عبد الله بن طاهر في جنده، وقد تجهز لقتال الخوارج:«إنكم فئة الله، والمجاهدون عن حقه، الذابون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، بمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أشروا وتمردوا، وشقوا عصا الطاعة، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادا، فإنه يقول تبارك وتعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (محمد 7). وليكن الصبر معقلكم الذى إليه تلجئون، وعدتكم التى بها تستظهرون، فإنه الوزر المنيع الذى دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التى أمركم الله بلباسها، غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قدما على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به، كما أمركم الله فإنه يقول: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال 45). أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحيطة والنصر» .

فأنت تراه قد أثار وجدانهم، بما عرضه عليهم، من الأفكار ليدفعهم إلى الجهاد. وكما في الآيات القرآنية التى ترمى إلى تحريك الإرادة، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت 34).

ص: 19

وكقول الشاعر:

دببت للمجد، والساعون قد بلغوا

جهد النفوس، وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا المجد، حتى مل أكثرهم

وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرا، أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تعلق الصبرا

وأكثر ما يحرك الأدب الإرادة من غير أن يأمرها بذلك، كما في الروايات التمثيلية الخلقية والاجتماعية، وكما في كثير من الشعر، وربما كان هذا هو ما حدا بالأقدمين إلى أن يوصوا أولادهم بحفظه ودراسته، بل ربما كان هو المعنى الذى لاحظوه عند ما وضعوا لهذا اللون من القول الجميل اسم الأدب.

قال معاوية لابنه: يا بنى ارو الشعر، وتخلق به، فلقد هممت يوم صفين بالفرار مرات، فما ردنى عن ذلك إلا قول ابن الأطنابة:

أبت لى همتى، وأبى بلائى

وأخذى الحمد بالثمن الربيح

وإقدامى على المكروه نفسى

وضربى هامة البطل المشيح

وقولى كلما جأشت وجاشت

مكانك، تحمدى، أو تستريحى

لأدفع عن مكارم صالحات

وأحمى بعد عن عرض صحيح

وأنت ترى الشعر نفسه لا يطلب إقداما، ولا يحث على ثبات، ولكنه حديث عن هذا النزاع الذى دار بنفس قائله، وهو في ميدان القتال، وكيف استطاع أن يثبت فى هذا الميدان، يحمله على الثبات ماض ملىء بالجهاد، وهمة تأبى النقيصة، وقلب موكل باكتساب المجد، ونفس اعتادت الإقدام على المكارم، وضرب هامات الأبطال؛ دفاعا عن مآثره، وحماية لعرضه، وليس في الشعر سوى هذا.

ولكن معاوية رأى في صاحبه بطلا جديرا بالاقتداء.

وبما قدمناه يتبين أن الخلاف على أن الإصلاح الاجتماعى من أهداف الأدب خلاف ظاهرى يزيله تحديد معنى الأدب، وتحديد مجاله، أما وقد قلنا: إن كل ما في الحياة يصلح أن يكون موضوعا للأدب، على أن يتناول من ناحية إحساس الأديب، بما فيه من جمال أو قبح، فلا ضير على الأديب إذا أن يتناول مسألة خلقية أو اجتماعية يعالجها، أو أن يدعو إلى فضيلة، أو ينهى عن مأثمة، على شريطة أن يكون ذلك من تجاربه، وأن يثير فينا الوجدان فيرضى فنعمل، أو يكره فنكف.

الأديب حر في أن يتناول ما يشاء من تجاربه، من غير أن نضع له خطة ينتهجها، وكل ما نطالبه به أن يرسم لنا شعوره، ولذا نرى من الأدباء من أحس بجمال المشورة فمدحها، كبشار بن برد، إذ قال:

ص: 20