المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أفهام خاطئة في معنى الآية - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌أفهام خاطئة في معنى الآية

ولم يجالس من قرأها وعلم بها، فقد نشأَ بين قريش الوثنية، فهذا برهان واضح على أَن الله تعالى هو الذى أَعلمه بها وأَوحاها إِليه، وأنه صادق فيما أَبلغكم عن الله، وأَن الإيمان بنبوته فيه النجاة، وأَن الكفر بها يستتبع الهلاك.

‌أفهام خاطئة في معنى الآية

ويرى بعض المفسرين أَن الخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم لغرض تهييجه وإثارته، ليزداد ثباتًا على دينه، من غير احتمال وقوع شك منه، وهذا الرأْى لا يصح قبوله بحال من الأحوال، فإن فرض الشك فيه لأى غرض من الأغراض وبأَى تأْويل مما قالوه، مخالف للنقل مرفوض من جهة العقل، وخطأٌ فاحش استغله أعداءُ الإِسلام، وقالوا إن محمدًا لم يكن متيقنًا أنه رسول من الله - تعالى - وساقوا هذه الآية وتفسير المفسرين لها على هذا النحو تأييدًا لفريتهم، فكيف يصح عقلا أَن يفرض الشك في الرسول لغرض إثارته وزيادة تثبيته - كما أَولوا به موضوع فرض الشك فيه - فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة إِلى مزيد تثبيته وإِثارته، لكي يزداد استمساكه بتبليغ دعوة ربه، كلا وألف مرة كلا، فقد سجل القرآن الكريم ما يناقض ذلك، قال تعالى:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (1).

وكيف يحتاج الرسول إِلى التثبيت وهو الذي كان يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى، على أن أَترك هذا الدين، ما تركته حتى يظهره الله أَو أهلك دونه". وكيف يحتاج إلى التثبيت وإِلى سؤال أَهل الكتاب ليزداد طمأْنينة، وهو الذي تحمل من إيذاء قومه ثلاثة عشر عامًا، ما لا تحتمله الشمُّ الرواسى، وشاركه في ذلك من آمن معه من المؤمنين حتى مات بعضهم من شدة العذاب، ألم يقاطعهم المشركون لا يؤاكلونهم ولا يزاوجونهم ولا يبيعونهم الطعام، حتى اضطروهم إلى الإقامة في شعب أَبي طالب ثلاث سنين، ووصل بهم الجوع هناك إِلى أن يأكلوا أَوراق الشجر وهم صابرون، وكيف يستطيع أن يحمل عبءَ هذه الدعوة

(1) سورة النجم، الآيات: 10 - 18

ص: 139

الضخمة من هو بحاجة إِلى التثبيت، وكيف يعمل لها بهمة وصدق عزيمة لا تعرف الكلل، حتى دخل الناس في دين الله أَفواجا، وذاع في عهده وانتشر حتى غطى الجزيرة العربية كلها، فوالله لولا أَنه ثابت الجنان عظيم الاطمئنان، واثق من دين الرحمن، لما استطاع أَن يفلت من حصار أَهل الشرك له بمكة، بل كان يسلم لهم القياد، ويجيبهم إِلى ما يبتغون فأَسمعهم حين يخاطبهم خطاب الواثق من نفسه بأَنه يبلغ عن الله - تعالى -:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ولقد علم الناس من سيرته الوثيقة، أَنهم عرضوا عليه الرياسة والمال بعد أَن يئسوا من استجابته بالإِيذاءِ فأَبى وقرأَ عليهم سورة فصلت، وقد جاءَ فيها:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (2). فهل يكون هذا حال من هو محتاج إِلى التثبيت .. ؟

ولقد أَحسن البيضاوى إِذ حكى في آخر كلامه، رأْيًا لبعض المفسرين أَن الخطاب في قوله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ .. } إِلخ لكل من يسمع، وقال في معناه على هذا الرأْى: أَي إِن كنت أَيها السامع في شك مما أَنزلنا على نبينا إليك {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} .

ولو أَن الإِمام البيضاوى وغيره اقتصر على هذا الرأْى، ولم يذكر معه سواه - لا قَبْله ولا بَعْده - لكان قد أَسدى خيرًا للحق الذي يجانب غيره من تلك الآراءِ الفاسدة، المخالفة لنص القرآن ولواقع النبي صلى الله عليه وسلم من الهمة ومضاءِ العزيمة، ومن ثباته على دينه رغم المغريات من الملك والمال، بعد أَن لم يصرفه عن دينه الإِيذاءُ والاستهزاءُ.

{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} : لقد جاءَك أَيها المكلف الحق من ربك فلا تكونن من أَصحاب الشكوك والأَوهام، بل كن من ذوى الإيمان الثابت بهذا الحق المبين.

95 -

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : هذه الآية خير شاهد لما قلناه من أَن الخطاب ليس موجهًا إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم،

(1) سورة يونس، الآية 104

(2)

الآية: 13

ص: 140

بل إِلى كل مكلف من أُمة الدعوة المحمدية، فإِن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يتصور منه أَن يكون مكذبا لآيات الله وهو يدعو الناس إلى الإِيمان بربه.

والمعنى: وكما نهيناك أيها المكلف عن الشك فيما أَنزلناه إليك على لسان محمد، ننهاك عن التكذيب بآيات الله، فلا تكونن من جملة المكذبين بدين الإِسلام، فتكون بذلك التكذيب في عداد الخاسرين في الدنيا والآخرة.

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}

التفسير

في هاتين الآيتين بيان شدة إصرار أهل الكفر على الجحود والعصيان ولو جاءَتهم كل آية طلبوها أو لم يطلبوها، وأَن اقتراحهم ما هو إلا تعلة لرفضهم الإِسلام، لعدم تحقيقها وبيان ذلك فيما يلي:

96 -

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} : أي إن الذين حقت ووجبت عليهم كلمة ربك أي حكمه وقضاؤه بأَنهم لا يؤمنون، بل يموتون على الكفر ويخلدون في النار، بسبب ما علمه منهم من الإِصرار على تكذيب رسوله تكبرًا وعنادًا، وتقليدًا للآباءِ والأجداد، فآثروا الضلالة على الهدى، مع وضوح الحق، ودوام التذكير.

97 -

{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} : أَي إن هولاءِ الذين حكم الله بعدم إيمانهم وخلودهم في النار بسبب اختيارهم العمى على الهدى لا يستجيبون لدعوة الحق ولو جاءَتهم كل آية كونية طلبوها أو لم يطلبوها، وكل آية نقلية من شأْنها أَن تجذب

ص: 141

القلوب إلى قبول الهدى والرشاد، كما قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1).

{حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} : أَي هؤلاء يستمرون على كفرهم وعنادهم فلا يصدقون بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة ولا يؤمنون إِلى أن يأْتيهم العذاب الأليم على كفرهم، فيؤمنوا حين لا ينفع نفسا إِيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا - كشأْن فرعون وأَمثاله ممن آمنوا عندما شاهدوا العذاب الذي أُنذِروه محيطا بهم من حيث لا يعلمون، وقد فات الأوان الذي ينفع فيه الإيمان.

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}

المفردات:

{فَلَوْلَا} : لولا كلمة تفيد الحث على الفعل بمعنى هلَاّ. {قَرْيَةٌ} : اسم للمبانى المتصلة التي يسكنها جمع من الناس، وقد جاءَ في القرآن الكريم أَن القرية والمدينة بمعنى واحد قال - تعالى -:{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} . ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} . وقيل القرية بلدة أَصغر من المدينة - والمراد من القرية في الآية أهلها.

التفسير

98 -

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ..... } الآية.

بعد أَن بينت السورة قبل هذه الآية امتناع الإيمان ممن حكم الله عليهم بالخسران لاختيارهم طريق العصيان، مع تمكنهم من إنقاذ أنفسهم بالإيمان قبل فوات الأَوان، جاءَت

(1) سورة الأنعام، الآية: 7

ص: 142

هذه الآية الكريمة ترتيبًا على ما تقدم لتقرير هذا المعنى: إذ بينت أَن الله تعالى قد أهلك الذين أَخروا إيمانهم من الأمم السابقة، حتى إذا عاينوا الهلاك قالوا آمنا.

والمعنى: فهلا كان أهل كل قرية بعث الله إِليهم رسولا، بادروا إِلى الإيمان بما جاءَهم به قبل أَن يحيط العذاب بهم فيقبله منهم وينجيهم من الهلاك: لكن لم يبادروا بالإيمان قبله فهلكوا.

{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} :

أَي لكن قوم يونس عليه السلام لما آمنوا عندما رأَوا أَمارات العذاب، وتابوا إِلى الله - تعالى - قبل حلوله بهم، أَزال الله عنهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا وكشفه عنهم بعد أن كاد يقع بهم، ومتعهم بما في الدنيا من زينة ونعيم ومتاع إلى انقضاءِ آجالهم، لمسارعتهم إِلى التصديق بما جاءَ به رسولهم عند رؤيتهم أَمارات العذاب.

روى عن عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير وعبد الله بن عباس أن يونس عليه السلام أرسل إِلى أَهل نينوى من أَرض الموصل - وكانوا أهل كفر وشرك - فكذبوه وأصروا على ذلك، فأوحى الله إِليه أنْ أَنذرهم أن العذاب يصبحهم بعد ثلاث ليال، فأخبرهم بذلك، فلما قرب موعد الإنذار غامت السماء غيمًا أَسود هائلا، ذا دخان شديد، فهبط حتى غشى مدينتهم، فاستولى عليهم الخوف والفزع، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأَيقنوا صدقه فلبسوا المسوح، وخرجوا إِلى الصحراءِ بأَنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب، فَحَنَّ بعضها إِلى بعض - فَحَنَّت الأولاد إلى الأُمهات والأُمهات إلى الأَولاد وعلت الأَصوات والضجيج، وأَخلصوا النية وأَعلنوا إيمانهم، وتضرعوا إِلى الله فاستجاب دعاءهم فرحمهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أَظلهم، وليس هذا الذي نقلناه عن عبد الله بن مسعود وغيره حديثًا مرفوعًا بل هو أَثر مروى عنهم في تفسير الآية والله تعالى أعلم.

ص: 143

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}

التفسير

99 -

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا .... } الآية.

كان صلى الله عليه وسلم لفرط شفقته على أمته حريصا أَشد الحرص على إِيمان الناس جميعًا، وللوصول إلى تلك الغاية حمل نفسه أَعباء ثقيلة، ومتاعب جسيمة، فخفف الله عنه، ببيان أَنه ليس مكلفًا بإكراه الناس على الإِيمان، وحملهم جميعًا عليه، فليس عليه إلا البلاغ وقد فعل، وحسبه التبليغ الذي لا يرهقه، فإن الهداية من الله.

والمعنى: ولو شاء ربك أَيها الرسول إيمان من في الأرض جميعًا من الجن والإِنس لآمنوا كلهم لا يشذ منهم أحد، لكن مشيئته - تعالى - الموافقة لحكمته البالغة اقتضت أن يكون الناس فريقين: فريقا شاءَ الله إيمانه فيؤمن لا محالة وهم الذين اختاروا الهدى فيوفقهم الله - تعالى - إِليه، وفريقًا شاء الله كفره لسوءِ نيته فيكفر لا محالة.

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} : أَي أَفَأَنت مطلوب منك أَن تكره الناس علي دينك حتى يصيروا مؤمنين به؟ كلاّ. فاشفق على نفسك فما عليك إِلا البلاغ، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (1) ولا تُحَمِّل نفسك المصاعب والمشاق، بالمبالغة في دعوة المعاندين المستكبرين {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (2).

(1) سورة فاطر، من الآية: 8

(2)

سورة الكهف، الآية: 6

ص: 144

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}

المفردات:

{بِإِذْنِ اللَّه} : بإِرادة الله. {الرِّجْسَ} : يطلق على القذر حسيًّا كان أَو معنويًّا، ومن المعنوى الذنب والكفر، وَكُلُّ يصح أن يراد هنا، وقد يطلق على العذاب والشك وغير ذلك.

التفسير

100 -

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : أخبرنا الله تعالى في الآية السابقة أَنه لو شاءَ لهدى الناس جميعًا، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك إكراه الناس على الإِيمان ولم يكلف به، ثم أَخبرنا في هذه الآية أَن إيمان أَي نفس متوقف على إرادة الله، فلا تستطيع نفس أَن تهتدى إِلا إذا أَراد الله هدايتها، فإِن الهدى هدى الله وحده، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} (1) ومن سنن الله في خليقته أَن يهدى من هو أَهل للإيمان به من أصحاب الفطر السليمة {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (2).

ومن الذين أَحسنوا استعمال حواسهم وعقولهم في سبيل الوصول إلى الحق، أما الذين ألغوا حواسهم وأَهملوا عقولهم، واتبعوا أَهواءَهم واستقبلوا الرسالات السماوية بالعناد واللجاج، وآثروا الضلال على الهدى، فهم غير أهل للهداية والإيمان، فلا يأذن به ولا يعينهم عليه بسبب سوء اختيارهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ

(1) سورة آل عمران، من الآية: 73

(2)

سورة الزمر، من الآية: 18

ص: 145

{بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1). وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (2) وهذا الصنف هو الذي يشير إليه قوله تعالى في آخر الآية:

{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} فالرجس هنا بمعنى الكفر ليقابل الإيمان في صدر الآية.

والمعنى: أَنه تعالى يجعل الكفر قضاءً منه على الذين عطلوا عقولهم فلم ينتفعوا بآياته، ولم يهتدوا برسله، كما أَذن بالإيمان وحكم به وأَعان عليه الذين يعقلون ويهتدون بهداه، ويؤمنون برسله.

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}

المفردات:

{انْظُرُوا} : تفكروا واعتبروا. {النُّذُر} : جمع نذير وهو الذي ينبه الناس إِلى الخطر.

التفسير

101 -

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :

بينت الآية السابقة أن الهدى بإذن الله لمن هو أهل له، ممن يستعملون عقولهم في فهم آياته، وأن الرجس - أَي الكفر - قضى الله به على من لا يعقلون ولا يتدبرون فيها، وجاءت هذه الآية آمرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يحث الناس على التفكر في آياته حتى يتيسر لهم الإيمان بالحق تبارك وتعالى.

والمعنى: قل لهم يا محمد تأملوا وتفكروا في عجائب صنع الله في السموات وما تضمه من مجرات ونجوم وكواكب، وانظروا ما في الأرض وما يتعاقب فيها من ليل ونهار

(1) سورة الأعراف الآية: 179

(2)

سورة فصلت، من الآية: 46

ص: 146

وفصول متوالية، وما يطرأْ عليها من زوابع عاتية وهواء عليل، وما تضمه من جبال وبحار، ومحيطات وقارات، ومن صحارى جدباء، وحدائق غناء، ومروج خضراء، وما يجرى على سطحها من جداول وأَنهار، وما يستقر في جوفها من مناجم وكنوز، وما يعتريها من زلازل وبراكين، وما تراه فوقها من إنسان وحيوان ونبات، انظروا في هذا كله وغيره من عجائب خلق الله، فإنه يهديكم إِلى معرفة الله، ويدعوكم إلى إِفراده بالعبادة والتقديس.

{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} :

"ما": إما أن تكون نافية أو استفهامية، فعلى النفى يكون المعنى: أن آيات الله الكونية وآياته المنزلة على الرسل بالتبشير والإنذار، لا تغنى هؤلاءِ الكفار ولا تنفعهم في الاهتداءِ إِلى الإيمان، ما داموا مصرين على الكفر والضلال، وعلى أَن "ما" استفهامية يكون المعنى: كيف يمكن أَن تنفع الآيات والنذر هؤلاءِ الممعنين في الضلال المصرين على عدم الإيمان؟

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}

المفردات:

{يَنْتَظِرُونَ} : يترقبون ويتوقعون. {خَلَوْا} : مضوا.

التفسير

102 -

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} :

في هذه الآية الكريمة إنذار بعقاب الله لمن ينصرفون عن الله ويحجبون أَبصارهم وبصائرهم عن الهداية، وتذكير لهم بما أَصاب الأُمم السابقة التي أَصرت على الكفر، وما حل بها من عذاب شديد، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ

ص: 147

مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1). والمراد من الاستفهام في قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} النفى، أَي لا ينتظر هولاءِ الكفار أَثرا لكفرهم إلا أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من عذاب ونكال، والمراد أَن العقاب الشديد سيحل بهم لا محالة، فهم في حكم المنتظرين لهذا العقاب {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: قل لهم يا محمد فانتظروا وترقبوا آثار إصراركم على الكفر، فإنى مترقب معكم ما سيصيبكم من عذاب إِن ظللتم مصرين على الكفر والإنكار.

103 -

{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} :

بعد أن أفادت الآية السابقة أَن الهلاك يحل بالكفار المعاندين، جاءَت هذه الآية تفيد أن الله سبحانه سينجى رسله والذين آمنوا معهم مما أصاب كفار قومهم من عذاب وتنكيل؛ لأن عدالة الله تقتضى ألا يعذب قوما بذنوب آخرين، قال تعالى في قوم هود:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (2). وقال سبحانه في قوم صالح: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)} (3).

{كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} : أَي كما أنجى الله الأنبياء والمؤْمنين مما أَصاب أَقوامهم، كذلك اقتضت عدالته وصدق وعده، أن ينجى المؤْمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مما يتعرض له الكفار المصرون على الكفر والضلال، قال تعالى:{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} (4).

(1) سورة العنكبوت، الآية: 40

(2)

سورة هود، الآية: 58

(3)

سورة هود، الآية: 66، 67

(4)

سورة الأنبياء، الآية: 9

ص: 148

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ

الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}

المفردات:

{يَتَوَفَّاكُمْ} : يستوفى آجالكم، بقبض أَرواحكم. {وَجْهَكَ}: المراد من الوجه: الذات أَو القلب أو القصد. {حَنِيفًا} : منصرفا عن الباطل مقبلا على الحق.

التفسير

بعد أَن بينت الآيات السابقة، ما ينتظر الكافرين من الهلاك، وما يتوقعه المؤمنون من الفوز والنجاة - أَمر الله رسوله في هذه الآيات أن يعلن الكافرين أَنه لن يعبد ما يعبدون، وأن الله أَمره بالإِخلاص في عبادته وحده، وفيما يلي بيانها:

104 -

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أَي قل يا محمَّد للمشركين باللهِ الشاكين في نبوتك يأَيها الناس، إِن كنتم في ريب وشك من دينى، حتى أدى بكم الشك فيه إِلى تكذيبى فيما جئتكم به، فاعلموا أننى مؤمن إِيمانا راسخا بما أنزله الله تعالى علىّ، ثابت كل الثبات على عقيدتى، فلا تتوقعوا منى أَن أجنح إلى مشاركتكم في عقيدتكم، وعبادة آلهتكم التي عبدتموها من دون الله بغير حق.

{وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} :

أَي ولكننى أَعبد الله - تعالى - الذي يستوفى آجالكم، بقبض أَرواحكم فهو الجدير بالعبادة والتقديس، فاعرضوا عقيدتى هذه على عقولكم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا

ص: 149

صحتها وفساد ما أنتم عليه من عبادة آلهة لا شأْن لها في إحياءٍ ولا إماتة - وإنما خص التوفى بالذكر لتهديدهم.

{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :

أَي وأَمرنى الله تعالى أن أَكون من المتمسكين بالإيمان به، وعدم المبالاة بآلهتكم، فإنهم {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (1).

105 -

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

المراد من إقامة وجهه صلى الله عليه وسلم للدين، استقامته في الاتجاه إِليه، وقد أكد ذلك بقوله:{حَنِيفًا} : أي مائلا عن الأديان كلها إليه، أي وكما أَمرنى الله تعالى بالإيمان به - أمرنى سبحانه بالإخلاص في الاتجاه إِلى دينه بقلبى وجوارحى، وأَقوالى وأَفعالى، بحيث لا يصرفنى عنه صارف، وأَمرنى أَيضًا أن لا أشرك في عبادته أَحدا حتى لا أَكون كهؤلاءِ الذين قال الله فيهم:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) وقد عرفت من هذا العرض أن الآية السابقة دعت إلى الإيمان، وأن هذه الآية دعت إلى الإخلاص في الإيمان، والحرص على صفائه ونقائه وثباته، والحذر من أن يتطرق إليه أي شك أَو لبس والخطاب وإِن كان موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون داخلون في حكمه، فهم مطالبون بالإخلاص في دينهم، وقد جاءَ ذلك صراحة في قوله عز وجل:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3):

أَي الذين صدقوا بإِخلاص، ولم يخلطوا إِيمانهم بشرك يظلمون به أَنفسهم، ويعتدون به على الحق، أولئك لهم الأَمن من المكاره، وهم مهتدون إلى الحق وإِلى عظيم الثواب، وقال -

(1) الفرفان من الآية: 3

(2)

يوسف من الآية: 106

(3)

الأنعام الآية: 82

ص: 150

صلى الله عليه وسلم - محذرا من الشرك: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل" أَخرجه الإِمام أحمد والطبرانى.

106 -

{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} :

جاءَت هذه الآية، لزيادة تأْكيد ما جاءَ في الآيات السابقة، فقد نهى الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاتجاه في دعائه وعبادته، إلا إِليه وحده لأنه سبحانه هو الذي يملك جلب المنافع ودفع المضار، أَما الآلهة المزعومة، فلا تملك أَنْ تنفع ذاتها أَو أن تدفع الضر عنها، فكيف تملك لغيرها نفعًا أَو ضرًّا؟!

{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} :

الخطاب - هنا وفيما سبق - موجه للمسلمين عامة في جميع العصور، وإن بدا في لفظه إِلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإنك تكون - حينئذ - من الظالمين لأَنفسهم بالشرك. واستعمال أَداة الشرط (إن) تفيد استبعاد أن يدعو الرسول والمؤمنون غير الله - تعالى - بعد إيمانهم به سبحانه وتعالى.

والآية تنهى نهيًا حاسمًا، عن الاتجاه بالدعاء إلى غير الله، كائنا ما كان كما جَاءَ في الحديث الشريف. الذي ذكرت فيه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما -:"وإذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىءٍ، لم ينفعوك إِلا بشىءٍ قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أَن يضروك بشىءٍ لم يضروك إلا بشىءٍ قد كتبه الله عليك. رفعت الأَقلام وجفت الصحف". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 151

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ

مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

المفردات:

{يَمْسَسْكَ} : يصبك.

التفسير

نهت الآية السابقة، عن الاتجاه بالدعاءِ إلى ما لا ينفع ولا يضر. وقررت أَن هذا إشراك بالله - تعالى - وجاءت هذه الآية لتؤكد أن النفع والضر، من الله وحده. وفيما يلي بيانها:

107 -

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} :

أي: وإِن يصبك الله بما يضرك، من قحط أَو فقر أَو مرض. أَو خوف أَو إِيذاءٍ أو غيرها، فإِن أحدًا لن يستطيع أَن يزيل عنك ما أصابك إِلا الله وحده {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (1).

والناس يتعرضون للضر، ابتلاءً من الله - تعالى - واختبارًا منه لعباده. ليظهر مدى إيمانهم وصبرهم، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) وقد يتعرض الناس للضر، عقابًا لهم على ما اجترحوا من آثام لكي يعودوا إلى الله بالتوبة والاستغفار، قال تعالى:{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (3) وقال جل شأنه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (4). وقد يكون هذا التعرض تكفيرًا للذنوب أَو رفعة للمنزلة.

(1) الشورى الآية: 28

(2)

البقرة: 155

(3)

الأنعام من الآية: 42

(4)

الشورى: 30

ص: 152

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُسِلمَ من نَصَبٍ وَلَا وَصَب، وَلا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ، ولا أَذى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكها إلَّا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاه"(1). وقد جرت سنة الله تعالى، أن لا يديم الضر على عباده، بل يكشفه عنهم، كما يشير إليه قوله تعالى:{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (2).

{وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} :

والمعنى: أَنه - تعالى - إن يرد عبده بخير من فضله، فلن يستطيع أحد منع هذا الخير عنه، فإن إرادته - جل وعلا - نافذة، وفضله سبحانه لا يستطيع أَن يرده أحد من خلقه.

وكما يكون الضرُّ ابتلاءً من الله لعباده لإظهار مدى إِيمانهم وصبرهم، يكون الخير كذلك لإظهار مدى شكرهم لله وإقبالهم عليه - تعالى ـ قال سبحانه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (3) وقد يكون الخير تكريمًا من الله لعباده الصالحين، وتعجيلا بنصيب من الثواب في الدنيا قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (4). وكما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5).

{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : أَي والله سبحانه وتعالى عظيم المغفرة واسع الرحمة.

يفسح لعباده مجال التوبة والاستغفار قبل أَن ينزل بهم العقاب، فإنه - سبحانه -:{أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (6). ومن فضل الله ورحمته أنه يتجاوز عن كثير من السيئات، كما قال عز وجل:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (7). ولا يؤاخذهم عاجلا بما كسبوا، كما قال سبحانه:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (8).

وكما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} (9).

(1) أخرجه البخاري في كتاب المرض عن أبي سعيد الخدرى (باب ما جاء في كفارة المرض).

(2)

سورة الطلاق الآية: 7

(3)

سورة الأنبياء الآية: 35

(4)

سورة النحل من الآية: 30

(5)

سورة الطلاق من الآية: 4

(6)

ختام المدثر.

(7)

سورة الشورى من الآية: 30

(8)

سورة فاطر من الآية الأخيرة.

(9)

سورة الكهف: آية 58

ص: 153

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}

المفردات:

{بِوَكِيلٍ} : الوكيل، من يُوكل إليه الأَمر.

التفسير

108 -

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ..... } الآية.

أثبتت الآيات السابقة، أن الذي يملك الهداية، والنفع والضرَّ والموت والحياة هو الله وحده، فهو الجدير بالعبادة والتقديس، وجاءَت هذه الآية لتبين أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَدى رسالته للناس على وجهها الحق، وأنه ليس مسئولا عنهم إن أعرضوا عنها.

والمعنى: قل يا محمَّد لأُمتك: يا أَيها الناس قد جاءَكم من ربكم الدين الحق، الثابت بالمعجزات والبراهين العقلية والنقلية، وقد أصبح الحق واضحًا لا شك فيه، فلا عذر لأَحد في التكذيب به، أو العمل بما يخالفه.

{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} : أي فمن اهتدى إلى هذا الدين الحق بالإيمان والمتابعة فإنما يهتدى لمنفعة نفسه دون سواها.

{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} : ومن ضل عن هديه وانصرف عنه، فما وبال ضلاله إِلا على نفسه دون غيرها، فلا منفعة لله ولا لرسوله من اهتدائكم، ولا ضرر على الله ولا على رسوله من ضلالكم، أَخرج مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "يَا عِبَادِى إنَّكُم لَن تَبْلُغُوا ضرِّى فَتَضرُّونِى. وَلَن تَبْلغُوا نَفْعِى فَتَنفَعُونِى يا عبادى لوْ أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم، وإنْسَكُم وِجنَّكُم، كَانُوا عَلَى أَتقى قلب رَجُلٍ واحدٍ مِنْكُم،

ص: 154

مَا زَاد ذَلك فِى مُلكِى شَيئًا .. يا عبادى لو أن أَوَّلكم وآخِرَكم وإنْسكُم وجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُم، مَا نَقَص ذَلِك مِنْ مُلكِى شيئًا" (1).فالله - سبحانه - غنى عن الناس، والناس جميعًا مفتقرون إِلى رحمته، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2).

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} :

وقل لهم أَيها الرسول: إن الذي كُلِّفتُ به هو أداء، رسالة الله إليكم. وقد أَديتها كاملة ولم يوكل إِلىّ إرغامكم علي اتباعها؛ لأننى لست عليكم بمسيطر. كما قال تعالى:

{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (3).

109 -

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} :

بعد أَن أمر الله رسوله بتبليغ قومه أنه جاءَهم بالحق من ربهم، وأن عاقبة الاهتداءِ إِليه والضلال عنه لا تلحق سواهم، وأَنه ليس مكلفًا بقهرهم على الاهتداءِ، أمره في هذه الآية بالثبات على اتباع وحيه، والصبر حتى يأْتى النصر.

والمعنى: دم على ما أنت عليه من اتباع وحى الله - تعالى - ولا تدخل اليأْس على نفسك بسبب إصرارهم على كفرهم، واصبر على ما تتعرض له من إِيذاءِ المشركين وعنتهم وإِمعانهم في الضلال، حتى يقضى الله تعالى فيهم قضاءَه، وينفذ فيهم مشيئته وحكمه، فإنه أَعدل الحاكمين.

وقد نفذ الرسول ما أَمره الله به من ملازمة الاتباع، ومداومة الصبر، وصبر معه المؤمنون وتحملوا أَذى المشركين، حتى صدق الله وعده وأعز جنده، وهزم المشركين وحده، وجاءَ نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أَفواجًا، والحمد لله رب العالمين.

(1) رواه أبو ذر الغفارى - رضى الله عنه - والحديث طويل وهذا جزء منه.

(2)

سورة فاطر الآية: 15

(3)

الغاشية الآيتين: 21، 22

ص: 155