المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وأهم مقاصد السورة ما يلي: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌وأهم مقاصد السورة ما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة هود

‌هذه السورة مكية:

روى الترمذي والطبرانى - وغيرهما - أن أَبا بكر - رضى الله عنه - قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "ما شيّبَكَ؟ قال: شَيبَتْنى هُودٌ وأَخَواتها". وفي رواية أخرى: "شيبتنى هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون" والمراد: ما فيها من ذكر ما أَصاب الطغاة من عذاب شديد، في الدنيا وما ينتظرهم من أهوال يوم القيامة التي تجعل الولدان شيبا.

‌وأهم مقاصد السورة ما يلي:

1 -

الحديث عن القرآن الكريم وأَحكامه من لدن حكيم خبير، ودعوة الناس للعمل بما فيه من عقائد وأَحكام شرعية، ليمتعهم متاعًا حسنا ويؤتى كل ذى فضل فضله، وبيان أن المرجع إليه - سبحانه - وأنه على كل شيءٍ قدير.

2 -

الحديث عن علم الله تعالى وإحاطته عز وجل بمكنون الظمائر، وتكفله برزق كل دابة ومعرفته جميع أَحوالها وحركاتها وسكناتها.

3 -

الإشارة إلى آيات الله الكونية، في خلق السموات والأرض والعرش العظيم، وأنه اختبرنا بالتكاليف ليبلو عباده أيهم أحسن عملا.

4 -

الحديث عن إِعجاز القرآن الكريم، وعجز البشر عن محاكاته، وأن هذا كافٍ في الدلالة على أنه من عند الله، وأن الله أيَّد به رسوله، وأَن ما يدعونه من افترائه على الله زعم باطل.

5 -

بيان موقف الناس من الإِسلام، وذكر ثواب المطيعين وعقاب المسيئين - وأن مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، وأَنهما لا يستويان مثلًا.

6 -

الحديث عن قصة نوح عليه السلام وقوعه، والطوفان، ونجاة المؤمنين وهلاك المكذبين الكافرين ليعتبر كفار قريش ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم.

7 -

بيان قصة هود عليه السلام مع قومه عاد، ونجاة المؤمنين منهم وهلاك العاصين المتمردين، ليكون في نبئهم عبرة لأُولى الأَلباب.

ص: 156

8 -

قصة صالح عليه السلام مع قومه "ثمود" ونجاة المؤمنين منهم وهلاك المكذبين بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، جزاءَ كفرهم وتكذيبهم لرسول الله إليهم.

9 -

قصة إبراهيم عليه السلام وتبشير الملائكة له بإِسحق ومن ورائه يعقوب عليهما السلام.

10 -

قصة الملائكة وزيارتهم لوطا عليه السلام. وإهلاك الله لقومه بإِبادة قراهم، وإِمطارهم بحجارة من سجيل، جزاءَ شذوذهم الشهوانى، وكفرهم بآيات ربهم.

11 -

قصة شعيب عليه السلام وتمرد قومه عليه وإهلاكهم بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، كما حدث لقوم صالح عليه السلام ونجى الله شعيبا ومن آمن معه.

12 -

قصة موسى وفرعون، وبيان أَن قوم فرعون اتبعوا أَمره، فأَهلكهم الله وأتبعهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بسبب كفرهم.

13 -

الإشارة إِلى سنة الله في عقاب الكفار في الدنيا، ونجاة المؤمنين بقوله:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وبيان أَن في ذالك آية لمن خاف عذاب الآخرة.

14 -

بيان حال الكافرين الأَشقياء في الآخرة من الخلود في النار وزفيرهم وشهيقهم فيها، وبيان حال المؤمنين السعداء فيها، من الخلود في الجنة والنعيم المقيم فيها.

15 -

بيان أنه - تعالى - قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قَصَصَ إخواته الأنبياء مع أُممهم، ليُثَبِّتَ بها فؤادَه، وموعظة وذكرى للمؤمنين.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}

ص: 157

المفردات:

{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : نظمت آياته نظمًا محكمًا لا خلل فيها ولا تناقض ولا اضطراب.

{فُصِّلَتْ} : ذكرت فيها الأُمور التي يحتاج إليها العباد في عقائدهم وسلوكهم ومعادهم ومعاشهم مفصلة مبينة.

{مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} : من عند إِله مبدع للأُمور على خير وجه.

{خَبِيرٍ} : عليم بما كان وما يكون، ظاهرًا أو خفيًّا.

{نَذِيرٌ} : محذر لعباد الله من سوءِ عاقبة الكفر والعصيان.

{بَشِيرٌ} : مخبر بما يسر الصالحين من ثواب الله.

التفسير

1 -

{الر} : تحدثنا في أَول سورة البقرة عما بُدىء به بعض السور من مثل هذه الفواتح، وذكرنا آراءَ المفسرين فيها، وأرجح الآراء في تأْويلها هو أنها ترمز إِلى التحدى بأَن يأْتوا بمثل هذا القرآن المؤلف من كلمات وجمل ذات حروف مما ينظمون منها كلامهم، إِن كانوا صادقين في زعمهم أن الرسول تَقَوَّلَهُ على الله، فإذا عجزوا عن الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه مع ما يمتازون به من الفصاحة والبلاغة وحسن البيان، فمحمد مثلهم وشأْنه شأْنهم فهذا دليل على أَن القرآن من عند الله وأَنه:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1). وتكرارها في القرآن على هذا الرأْى تكرار للتحدى، وقيل: إِن المقصود بها هو تنبيه السامعين إِلى ما يأْتى بعدها.

{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} :

هذا كتاب كريم، أنزل الله آياته البينات في غاية الإِحكام، فهي فصيحة الكلمات، بليغة العبارات متناسقة الموضوعات، رائعة المعانى غزيرة الفوائد، لا يمكن أَن يتطرق إليها أي اضطراب أَو اختلال كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).

(1) فصلت الآية: 42

(2)

النساء من الآية: 82

ص: 158

وكما هي متقنة في أُصولها، فهي متقنة في تفصيلاتها الفرعية في قوة، ودقة، ووضوح لأنها مُنَزَّلَة من الحكيم الذي يضع الأُمور في مواضعها، الخبير بما كان وما هو كائن والعطف بحرف (ثُمَّ) لإفادة علو مرتبة التفصيل، لوفائه بحاجات البشر.

2 -

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} :

جاءَت هذه الآية مبينة المقصود من إنزال القرآن محكما ومفصَّلا - وهو الدعوة إلى الإيمان باللهِ سبحانه وتعالى والتوجه إليه عز وجل وحده بالعبادة، دون شريك، وهذا هو جوهر الرسالات السماوية.

والمعنى: هذا كتاب أُحكمت آياتُه وفصلت من عند الحكيم الخبير، لكيلا تعبدوا غير الله - تعالى - فإِننى لكم منه منذر فلا تعصوه خوفا من عقابه، ومبشر فأَقبلوا على طاعته طمعا في ثوابه.

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

المفردات:

{تَوَلَّوْا} : أَصلها تتولوا أَي تعرضوا. {مَرْجِعُكُمْ} : مصيركم.

التفسير

3 -

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} :

هذه الآية مكملة للآية السابقة في المعنى.

والمعنى: هذا كتاب أُحكمت وفصِّلت آياته من عند الله - وحده - لكي تعبدوه دون سواه وتستغفروه وتتوبوا إليه من ذنوبكم ومعاصيكم، على أَن تكون توبة نصوحا، وهى المنبعثة

ص: 159

عن الندم، مع العزم على تجنب المعاصي والآثام والإكثار من الطاعات، فإِنها تمحو السيئات، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1).

وقد بينت الآية أن من ثمرات الاستغفار والتوبة، أن الله يمنُّ على صاحبهما بالثواب العاجل في الدنيا، فيغمره بفضله وإِحسانه فيها، حى يوافيه أجله المحتوم المقدر عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (2).

وأدنى المتاع الحسن في الدنيا، الأمن والدعة وراحة النفس والرضا بما قسم الله - تعالى - والصبر على المحن.

{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} : أي ويمنح في الآخرة كل صاحب فضل في دينه جزاء فضله، بعد أن متَّعه في دنياه، متاعًا حسنا.

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} :

وإن تنصرفوا عمَّا دعوتكم إليه من طاعة الله والتوبة من المعاصي فإنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول، رهيب الجزاءِ، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (3).

4 -

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} :

أي إِلى الله - وحده - مصيركم ومآلكم، بعد هذه الحياة. فعليهم أَن تتزودوا لهذا المصير بما يجزل الله لكم به الثواب ويقيكم العذاب - قال تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (4).

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

ختم الله الآية بهذه الجملة، ليعلم العباد أَن من كان قادرا على كل شيء فهو عز وجل قادر على بعثهم، ومجازاتهم بما يستحقون من ثواب وعقاب، وأَن عليهم أَن يتقوه

(1) هود من الآية: 114

(2)

نوح الآيات: 10 - 12

(3)

الحج الآية: 2

(4)

البقرة من الآية: 197

ص: 160

ويحذروا عقابه، ويدعوه مستغفرين تائبين طامعين في فضله وإحسانه، كما قال تعالى:

{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1).

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

المفردات:

{يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} : يطوون قلوبهم على ما فيها من نوايا.

{لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} : ليستروا أَنفسهم عنه سبحانه.

{يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} : يوارون أنفسهم بثيابهم.

التفسير

5 -

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} :

تحدثت الآيات السابقة عن وجوب الإيمان باللهِ واستغفاره، والتوبة إِليه من الذنوب ليمتعهم في الدنيا متاعا حسنًا، ويؤتى في الآخرة كل ذى فضل ثواب فضله حين يرجعون إِليه، وجاءَت هذه الآية تبيّن إصرار المشركين على الكفر، وتنذرهم بأَن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأَنه سيجزيهم بما كانوا يعملون.

ورأَى بعض المفسرين: أَن هذه الآية نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يخفون الكفر ويظهرون الإِيمان، ولكن هذا الرأْى لا يناسب ما تقدم عليها وما تأخر عنها، من وعظ المشركين وإِنذارهم مَغبَّة ما هم عليه، في حين أَن السورة مكية، فلا ينبغي أَن يُقْحم أَمر

(1) الأعراف من الآية: 56

ص: 161

المنافقين بين ما هو مرتبط بمسلك المشركين بمكة، قال العلامَةُ البيضاوى بعد حكايته القول بأنها نزلت في المنافقين وفيه نظر، إذ الآية مكية، والنفاق حدث في المدينة اهـ. ويؤيد ذلك ما روى عن ابن عباس في سبب نزولها، فقد روى عنه أَنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلًا حلو المنطق حسن السياق للحديث، يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة، ويضمر في قلبه ضدها.

والمعنى: ألا إن الكافرين الذين لم يتأثروا بآيات القرآن، يطوون صدورهم على الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ينتفعون بتلك الزواجر التي تقدمت في صدر السورة، يريدون أن يخفوا أَمرهم عن الله، أو يعتقدون أن أمرهم يخفى عليه، ثم رد الله عليهم وخطَّأَ مسلكهم فقال:

{أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

ليس المراد من استغشائهم ثيابهم المعنى الحقيقى، بل المراد: مبالغتهم في إِخفاء أَمرهم فهو من التعبيرات الكنائية، ويدل لذلك قوله تعالى في ختام الآية:{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} والمعنى: ألا إنهم حين يبالغون في ستر حالهم وإِخفاءِ كفرهم وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ويستخفون تحت ظواهرهم من المودة والملاطفة، يعلم الله ما يخفونه من الكفر باللهِ والعداوة لرسوله، وجميع ما تنطوى عليه جوانحهم، ويعلم ما يعلنونه من جميع ظواهرهم، وصدق الله إذ يقول في سورة سبأ:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية

رئيس مجلس الإدارة

محمد حمدى السعيد

رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1979

الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية

693 س 1979 - 25004

ص: 162

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

المفردات:

{دَابَّةٍ} : هي اسم لكل حيوان يدب على الأرض زحفا أو على قوائم، مأخوذة من الدبيب وهو الانتقال البطىء، والمقصود منها هنا جنس الحيوان من ماشية وسباع وهوام وحشرات وغيرها ويدخل فيها الإِنسان، فإِنه يدب على الأرض، ومنه قول الشاعر:

إِنما الشيخ من يدب دبيبا.

{مُسْتَقَرَّهَا} : موضع استقرارها وإقامتها. {وَمُسْتَوْدَعَهَا} : ومكان استيداعها ووجودها إِلى حين تنقل بعده إلى غيره. {كِتَابٍ مُبِينٍ} : هو كناية عن علم الله تعالى، أو هو اللوح المحفوظ.

التفسير

6 -

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا .... } الآية.

بين الله في الآية السابقة أن الكافرين مهما حاولوا الاستخفاء من الله تعالى بما يظنون أَنه يخفيهم عنه، ومهما تستروا في كفرهم وعداوتهم للرسول فإِنهم لا يخفون على الله العليم بما يسرون وما يعلنون، وجاءَت هذه الآية لتقرر ما سبق، ببيان شمول رزقه تعالى وعلمه لكل دابة في الأرض.

والمعنى: وما من حيوان في أي جزءٍ من أَجزاءِ الأرض، ذكرا كان أو أُنثى يمشى على رجلين أَو يمشى على أَربع، أو يمشى على غير هذه الصور، إلا تكفل الله برزقه اللائق به، وأوجبه على نفسه تفضلا وإحسانا.

وكما تكفل برزقه أينما كان يعلم مستقره وموطنه الذي ولد ونشأ فيه، ومستودعه الذي يرحل إليه لطلب الرزق وغيره، كما يعلم مساكنه في أدوار حياته ويعلم ما يودع فيه بعد مماته، كل ذلك في كتاب بين واضح.

ص: 163

والكتاب المبين هنا: إما كناية عن علم الله تعالى، وإما حقيقة مراد منها اللوح المحفوظ.

وتذييل الآية بهذه الجملة، للإيذان بأَنه تعالى لا يبتدئ العلم بأَحوال الدواب ابتداءً، بل علمه بها أَزلى قديم، وواضح لديه أمرها قبل خلقها ورزقها وإيوائها في مستقرها ومستودعها، وأَنه دبر أَمرها أَزلا على النحو الفائق العجيب الذي أَراده لها، وأَبرزها عليه وفق تدبيره الأزلى القديم فتبارك الله أحسن الخالقين.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}

المفردات:

{سِتَّةِ أَيَّامٍ} : المراد بالأيام، أيام الله لا أَيامنا نحن ولا يعلمها إلا الله، وسيأْتى الحديث عنها.

{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} : وكان عرشه فوق الماءِ، ولا يقتضي هذا أَن يكون العرش فوقه مباشرة، وسيأتى تفصيل الحديث عن هذه الجملة في تفسيرها.

التفسير

7 -

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} :

بعد أَن بين الله سبحانه في الآية السابقة تكفله بأَرزاق دواب الأرض، وعلمه بجميع أَحوالها، بين في هذه الآية خلقه للسموات والأرض، وأيام خلقه لها، ليعلم الناس عظمته تعالى، فلا يشركوا به في العبادة ما ليس له دخل في خلق ولا رزق، بل يتنافسوا في إِحسان العمل والتقرب به إِليه سبحانه، ونعى عليهم فيها إنكارهم للبعث بعد الموت للحساب والجزاءِ ووصفهم للقرآن الذي أَخبرهم بذلك بأنه سحر مبين.

ص: 164

واعلم أن أصل السموات والأرض الدخان، قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1). وقال جل وعلا في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (2).

ويقول أهل العلمِ الحديثِ: إن أصل العالم غاز الهيدروجبن، وهم بذلك يهتدون إِلى ما سبقهم به القرآن العظيم بأكثر من ألف عام، وتحويلُ هذا الدخان إلى سموات وأرضين، استغرق ستة أَيام كما نصت عليه الآية الكريمة، ولا يصح حمل الأيام هنا على أيامنا في أرضنا، فإنها نشأت بعد خلق السموات والأَرض، وأيامنا على قدر حجم أَرضنا، والأيام في الكواكب الأُخرى على قدر حجمها صغرا أو كبرا.

أَما الأيام التي استغرقها خلق السموات والأرض، فهى بقدر عظمة هذا الكون وما يقتضيه من زمان طويل جدًا، حتى يتم تحويل الغاز أَو الدخان إِلى سموات وأَرضين، كما تقتضيه سنة التطوير التي شاءَها الله تعالى، مع أَنه قادر على أَن يقول لها كونى فتكون فورا.

ولقد ضرب الله مثلا لأَيامه بقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (3).

وبقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (4). وذلك يقتضي أن أيام الله ليس لها حد معين وأنها تكون في طولها وامتدادها حسب الأمر الذي تتصل به، وفي موضوع تكوين السموات والأرض قد تكون الأيام أطول من هذين المثلين وربما وصل اليوم فيها إِلى ملايين السنين، وليس من الحكمة تحديد مدى أَيام الله تعالى فذلك شأْنه تعالى، ولا سبيل لنا إِلي علمه، وعلى هذا يكون معنى الجملة من الآية ما يلى:

وهو الذي خلق السموات والأرض مادة وصورة، وهيأَ لها كل ما خلقت لأَجله من العناصر والوظائف والمواضع في هذا الفضاء الرهيب، ووصل بينها بالقوى التي تربط بعضها ببعض من غير عمد ترونها، وكان ذلك كله في سته أيام من أيامه تعالى، حتى تمت على أَجمل صورة وأكمل إبداع، وأقوى بناء، فلا ترى فيها من عيب ولا فطور وشقوق. وصدق الله إِذ يقول: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ

(1) سورة فصلت، من الآية: 11

(2)

سورة الأنبياء، من الآية: 30

(3)

سورة الحج، من الآية: 47

(4)

سورة المعارج، من الآية: 3

ص: 165

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (1).

{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} : دلت هذه الجملة على أن عرشه تعالى كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض، فكأَنه قيل: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام في حال كون عرشه تعالى على الماءِ، ويدل صراحة لهذا المعنى، ما جاءَ في كتاب بدء الخلق بصحيح البخاري من حديث عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيءٍ وخلق السموات والأرض".

فهذا الحديث يدل على أَنه تعالى أزلى لا أَول له، وأَنه لم يكن يشاركه شىءٌ غيره في الوجود وأَنه سبحانه كان عرشه على الماء وأنه كتب كل شيء قبل خلق السموات والأَرض، وأنه خلق السموات والأرض بعد ذلك، ومن هذا كله يعلم أن الماءَ مخلوق قبل خلق السموات والأرض، فهو أَصل خلقهما ومادته وأَصل كل شيء حى ويدل لذلك صراحة قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (2). قال الشيخ رشيد رضا في شرح قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} : نفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السموات والأَرض أو في أَثنائه هو هذا الماءُ الذي أخبرنا عز وجل أَنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياءِ، إِذ قال:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . والرؤية هنا علمية.

والمعنى: ألم يعلموا ما ينبغي أَن يعلموه من أَن السموات والأرض كانتا مادة واحدة لا فتق فيها ولا انفصال - وهى ما يسمى في عرف علماءِ الفلك بالسديم، وبلغة القرآن بالدخان - ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض، فكان منها ما هو سماء، ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء في المقابلة لحياة الأحياء كلّ شىءٍ حىّ. اهـ

(1) سورة الملك، من الآيتين: 4،3

(2)

سورة الأنبياء، من الآية: 30

ص: 166

واختلف في المراد من عرش الله الذي كان على الماء، فمن العلماء من يفهمه على أَنه جسم كونى عظيم. خلقه الله أول ما خلق، وجعله مصدر أوامره في الكون الذي شاءَ إنشاءَه بعده، والله يعلم مادته وصورته، ومعنى كون عرشه تعالى على الماء على هذا أنه فوقه، وهذا لا يلزم منه أنه فوقه مباشرة بحيث يكون مرتكزا عليه. فأَنت تقول: السحاب على الأرض أو فوق الأرض، مع أنه ليس مباشرا بالعلو والفوقية لها، بل بينهما فراغ.

قال الشيخ رشيد رضا بعد ما نقلناه عنه سابقا في شرح الآية: فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فينزل إليه منه أَمر التدبير والتكوين هو الماء الذي هو الأَصل لجميع الأَحياء؛ ثم قال: والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء، كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل - اهـ من ص 16جـ 12 طبعة الشعب.

ومن العلماء من ذهب إلى أن العرش كناية عن الملك والسلطان وَرَمزٌ له، ومعنى قوله تعالى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} - على هذا الرأْى - وكان سلطانه على الماء ليخلق منه ما يريد خلقه من السموات والأَرض، وقد تقدم الكلام في سورة الأَعراف - الآية 45 - على قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فارجع إِليه لتعرف تفصيلا أكثر لما قاله العلماء في معنى العرش والله تعالى أعلم.

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} : أي وهو الذي خلق السموات والأرض، وكان سلطانه على الماء في خلق ما يريد، وسخر لكم ما في السموات والأرض ليمتحنكم، فيظهر أَيكم أحسن عملا من سواه، فيجازيكم على عملكم لا ما علمه أزلا بكم. فإِن العمل حجة على صاحبه، ويفهم من ذلك أن الله تعالى خلق الكون ليعبده العقلاءُ من خلقه فيه، فإِنه سبحانه ما خلقهم إلا ليعبدوه كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1).

وإنما جعل الله ذلك غاية لخلقه السموات والأرض، لأَنه تعالى زود عباده بالعقل والاستعداد للنظر في الآيات الكونية التي بثها سبحانه في أرجاءِ السموات والأرض، وجعلها مصدرا

(1) سورة الذاريات، من الآيتين: 58،56

ص: 167

لخيراتهم ومنافعهم، وجعل ذلك كله شاهدا لأنه هو الخالق المدبر الحكيم، الرءوف الرحيم، المستحق لشكرهم إياه بالإخلاص في عبادته وحده، وإنما اقتصر في البلاء على أيهم أَحسن عملا، مع أن منهم من هو حَسَنُ العمل ومنهم من هو سيئه، ليحثهم بذلك على التنافس في إِحسان العمل، وليرشدهم إلى أن الغاية العظمى من خلق ذلك هو أن يكونوا في عملهم على أحسن وجه وأَكمله، بقدر استطاعتهم واجتهادهم وفي حدود طاقتهم.

{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

أَي ولئن قلت أَيها النبي تبليغا للناس إِنكم جميعًا مبعوثون من بعد الموت للحساب وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب وأقمت الأَدلة عليه.

{لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : أَي لانفرد الكافرون بإنكار البعث، وليقولُن تكذيبا لك: ما البعث الذي تخيفنا منه، أو القرآن المشتمل على الإنذار به، إِلا كالسحر يخدع ويغر ولا ثبات له ولا دوام، يعنون بذلك أن لا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب.

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}

المفردات:

{أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} : مدة قليلة. {مَا يَحْبِسُهُ} : ما يمنعه.

{مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} : مدفوعا ومتحولا عنهم. {حَاقَ بِهِمْ} : أي نزل وأحاط بهم.

ص: 168

التفسير

8 -

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} : بعد ما بينت الآية السابقة ما يقوله المشركون إنكارا للبعث، بينت هذه الآية، ما يقولونه إنكارا للعذاب الذي أَنذرهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمعنى: ولئن أَخرنا عن هؤلاء المكذبين العذاب الموعود الذي أَنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه إن استمروا في كفرهم وعنادهم، لئن أخرناه إلى مدة من الزمن معدودة مقدرة في علمنا، كما هو شأْننا في تحديد الآجال {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لئن أَخرناه هكذا ليقولن منكرين مستهزئين: أَي شيء يمنع وقوع هذا العذاب بنا؟ يقصدون بذلك التكذيب بوقوعه. فيرد الله عليهم بقوله تعالى:

{أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} :

والمعنى: أنَّ الله تعالى يؤكد بهذه الجملة وقوع العذاب بهم حينما يأْتى الوقت المقدر لوقوعه، ويومئذ لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه عنهم حابس وقد أَحاط بهم العذاب الذي كانوا به يستعجلون استهزاءً وتكذيبًا.

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}

المفردات:

{أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} : أعطيناه نعمة ذاق لذتها. {نَزَعْنَاهَا} : سلبناها وأخذناها. {لَيَئُوسٌ} : لشديد اليأْس من عود ما سلب منه.

ص: 169

{كَفُورٌ} : مبالغ في جحد النعمة وعدم شكرها. {نَعْمَاءَ} : نعمة من صحة وغنى وغيرهما، ولم يرد في القرآن لفظ النعماءِ إلا في هذه الآية. {ضَرَّاءَ}: من فقر ومرض وغير ذلك. {مَسَّتْهُ} : أصابته ولحقته. {فَرِحٌ} : كثير الفرح بطرا.

{فَخُورٌ} : مبالغ في الفخر بها والتعالى على عباد الله.

التفسير

9 -

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} :

جاءَت هذه الآية والآيتان بعدها لبيان حال الإِنسان وطبيعته عند الابتلاء بالسراءِ والضراءِ. وأنه لا يصبر على المحن ولا يشكر النعم إلا الصالحون.

والمعنى: ولئن أعطينا الإِنسان منا نعمة من النعم وأذقناه حلاوتها ولذتها، كالصحة والمال والولد البار، ثم أخذناها منه فإنه يجمع بين شيئين: المبالغة في اليأس من عودة مثل ما سلب منه، والمبالغة في جحد النعمة وعدم شكر ما بقى منها ونعم الله لا تحصى، وإنما يفعل ذلك لحرمانه من فضيلتى الصبر والشكر، فهو لذلك لا يرجو ثوابا، ولا يخطر بباله أن الله سيردها إليه أو مثلها أو خيرًا منها إِن هو صبر أَو شكر، مع أنه لا يقنط من رحمة الله إِلا الضالون.

10 -

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} :

أَي وإذا أنعمنا على الإِنسان مما تطيب به حياته ويشعر بلذته - أنعمنا عليه بذلك - بعد ضر كان يقاسيه ويعانيه، ليقولن مطمئنا إلى بقاءِ هذه النعمة. قد مضى البأْس وانقضى الضُّرُّ ولن يعود.

{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} : أي إِنه نسى ما كان فيه من ضَرَّاءَ، واطمأن إلى بقاء النعمة الطارئة، وفرح بها فرح بطر وغرور وتفاخر بها على عباد الله، وغاب عن ذهنه شكر الله عليها، وأَن الله قد يحرمه منها بعدم قيامه بشكره من أَجلها.

11 -

{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : لما بين الله تعالى حال جنس الإنسان الذي يَيْئس من رحمة الله إن أصابته محنة، والدى يكفر بالنعمة بعد التفسير فلا يشكر

ص: 170

الله عليها، ويظن بقاءَها ويتفاخر بها على عباد الله، جاءت هذه الآية لتبين صنفا من الناس ليسوا على شاكلة هؤلاءِ وأُولئك، وهم الذين يصبرون عند نزول المحن والشدائد استسلامًا لقضاءِ الله ويضبطون أنفسهم عند امتحانها بالغنى فلا يفرجون ولا يغترون. شكرًا لنعم الله عند السراءِ، وامتثالا لأَمر الله تعالى وتقربًا إليه في حال النعماءِ.

والمعنى: لكن الذين صبروا على الابتلاء، وعملوا الصالحات في الضراء والسراء.

{أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : أَي أُولئك الموصوفون بهذه الصفات الحميدة المخالفة لصفات من قبلهم، لهم مغفرة من الله تعالى يستر بها ذنوبهم، وأَجر كبير في الآخرة لصبرهم في الشدة وشكرهم في الرخاء، ولأنهم ردوا ما ينالهم من خير إلى فضل الله، وما يقع عليهم من ضر إِلى قدر الله تعالى الموافق للحكمة والصواب.

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

المفردات:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} : لعلك راغب في عدم إِسماعم بعض ما يوحى إِلِيك من دلائل نبوتك كراهة معارضتهم لك، وترويضًا لنفوسهم.

{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} : أي هلا أعطى الله محمدًا مالًا ينفقه. {وَكِيلٌ} : حفيظ مطلع يحفظ أَحوالك وأَحوالهم. {افْتَرَاهُ} : اختلقه. {يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} : يجيبوكم. {مُسْلِمُونَ} : منقادون لله.

ص: 171

التفسير

12 -

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ........ } :

هذه الآية واللتان بعدها لتسلية الرسول والتخفيف عن نفسه الشريفة بِسبَبِ ما يجده من عناد المشركين واقتراحهم الآيات، مع كفاية ما جاءهم به منها في الإيمان.

كما أنها مسوقة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس مسئولا عن كفرهم، فما هو إِلا منذر، والله وكيل ورقيب عليهم.

والمعنى: فلعلك يا محمد تارك إسماعهم بعض ما يوحى إِليك من الآيات الدالة على حقيقة نبوتك، المنادية بكونها من عند الله تعالى لمن له أُذن واعية وقلب رشيد، ولعلك يضيق صدرك بتلاوته عليهم وتبليغه إِياهم أثناءَ المحاجة والدعوة إلى الإيمان، بسبب معارضتهم الشديدة لك، وإِصرارهم على رفض ما جئتهم به من التوحيد والوعد والوعيد وبسبب قولهم هلا أُعطى مالًا كثيرًا كما يعطى الملوك والعظماءُ، ليكون ذلك أمارة على أَن ربه يشد أزره ولا يدعه فقيرًا بين الناس، وهلا جاء معه ملك يؤيده ويشهد له بالنبوة.

فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تترك تبليغهم شيئًا مما أوحى إِليك، ولا يضق صدرك بما يقولون، فإنه لا ينبغي لمثلك أن يتأثر بمثل هذا القول الدال على ضعف تفكيرهم وشدة وطأة الحق الذي جئت به عليهم، فهم يحاولون التنفيس عن أنفسهم وتخفيف وطأَته عليهم.

{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} : ما أنت يا محمد إِلا منذر

لكل مكذب ولست عليهم بمسيطر فدع أمرهم لله فإنه هوالموكل بأُمور خلقه

والعالم بها، يحصى عليهم أَعمالهم ويجازيهم بها أتم الجزاء، فتوكل عليه وفوض أَمرك إليه.

13 -

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} : أَي بل أيقولون إِن محمدًا اختلق القرآن من عند نفسه ونسبه إِلى الله تعالى. قل لهم أَيها الرسول إن كان الأَمر كما تزعمون فأْتوا بعشر سور مفتريات مثل القرآن في بلاغته. وحسن تنسيقه، فإنكم أَهل الفصاحة وفرسان البلاغة الحريصون على إبطال دعوتى.

{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : أي واستعينوا على ذلك بما تشاءُون، وادعوا من استطعتم دعوته في المعارضة، أو فادعوهم ليشهدوا لكم إِن كنتم صادقين في دعواكم: أنى اختلقته وأَنه ليس من عند الله تعالى.

ص: 172

14 -

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} :

إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كان المعنى: فإن لم يستجب هؤلاء المشركون إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن وحدهم أو مع من يشد أزرهم فأثبتوا على العلم الذي أَنتم عليه، وازدادوا يقينا وثباتًا بأنه منزل من عند الله تعالى، وأنه لا إله إلا الله؛ لأنه العالم بما لا يعلمه غيره والقادر على ما لم يقدر عليه سواه، ومن ذلك اختصاصه بالقدرة على إنزال هذا القرآن الذي أعجز البشر.

وإن كان الخطاب للمشركين كان المعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم للشهادة على أَن محمدًا اختلقه ولم يوافقوكم على دعواكم، فاعلموا أَنما أُنزل بعلم الله المحيط بحاجات البشر في التشريع والسلوك، وأَنه لا سبيل إلى أن يؤلف مثله بشر، واعلموا أَيضًا أَنه لا شريك له تعالى حتى يأْتى بمثل هذا القرآن. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: أَي أَسلموا أَيها الكفار وأخلصوا لله وحده حيث ثبت عجزكم وعجز من استعنتم بهم عن معارضة القرآن.

هذا إذا كان الخطاب هنا وفيما قبله للكفار، فإن كان للمسلمين على ما تقدم بيانه فالغرض منه حثهم على الثبات أَمام حرب المشركين لهم، أي فهل أنتم ثابتون على إسلامكم أَمام أعدائكم بعد أن وضح الحق، واختفى الباطل، يريد بذلك الأُسلوب إلهاب عزائمهم.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

المفردات:

{وَزِينَتَهَا} : الزينة ما يتزين به من اللباس والأثاث والأَولاد والأَسباب.

{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} : نوصل إليهم جزاء أَعمالهم وافيًا كاملًا.

ص: 173

{لَا يُبْخَسُونَ} : لا ينقصون شيئًا من أجورهم. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} : أي بطل وضاع ثواب عملهم في الآخرة.

{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أي لا قيمة له حيث لم يعمل لوجه الله.

التفسير

15 -

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا .... } :

بعد ما ثبت أَن القرآن من عند الله تعالى بعجزهم عن الإتيان بمثله، جاءت هذه الآية والتي بعدها لتبين أن من ينصرف عن العمل به إلى الاهتمام بالدنيا وحدها وترك العمل للآخرة، عاقبتُه الخسران المبين.

والمعنى: من كان كل همه ومقصده من وجوده الدنيوى التمتع بلذات الدنيا وما يتزين به فيها فيعمل للتمتع بملذاته فيها، دون أَن يهتم بلقاءِ الله تعالى والعمل للآخرة بالبر والإِحسان وتزكية النفس بالإِيمان والتقوى.

{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} : أَي نعطهم جزاء أعمالهم وافيًا في الدنيا، من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد وغير ذلك، وهم فيها لا ينقصون شيئًا من أجورهم الدنيوية {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ثم بين الله تعالى عاقبة أمر هؤلاءِ في الآخرة فقال:

16 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أَي أُولئك الذين لا يريدون إلا زينة الحياة الدنيا وبهجتها وإشباع غرائزهم فيها ولم تمتد أَبصارهم وأَعمالهم وآمالهم إِلى ما وراءَ هذه الحياة - أُولئك - ليس لهم في الآخرة مثوى إِلا النار؛ لأنهم استوفَوْا في الدنيا ما تقتضيه صور أعمالهم، وبقيت لهم أَوزار عقائدهم ونياتهم السيئة، وبطل ثواب ما صنعوه في الدنيا، لأنه لم يعمل لوجه الله تعالى، فلا نفع ولا خير لهم فيه قال تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (1).

(1) سورة الإسراء الآيتين: 19،18

ص: 174

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}

المفردات:

{بَيِّنَةٍ} : حجة واضحة وبرهان ظاهر. {وَيَتْلُوهُ} : أي يتبعه. {شَاهِدٌ مِنْهُ} : أَي من الله تعالى يشهد بصحته. {إِمَامًا وَرَحْمَةً} : كتابًا يؤتم به في الدين ورحمة على المنزل عليهم.

{الْأَحْزَابِ} : أهل مكة ومن تحزب معهم. {مِرْيَةٍ مِنْهُ} : شك من الوعيد بالنار أو من القرآن.

التفسير

17 -

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} : هذا بيان لحال المسلمين الذين يريدون بأعمالهم وجه الله تعالى إثر بيان حال من يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وحدها.

والمعنى: أيكون حال من كان على بينة وبرهان عقلى بما يؤمن به ويدعو الناس إِليه ويتْبعُ هذا النورَ الفطرى والبرهان العقلى شاهِدٌ من الله تعالى يشهد على صحة ما اهتدى إليه العقل وهو القرآن الذي ثبت صدقه وأَنه من عند الله، ويؤيده شاهد آخر من قبله، وهو التوراة كتاب موسى الذي جعله الله إمامًا يؤتم به في الدين، ورحمة لمن عمل به من بنى إسرائيل قبل نسخه بالقرآن فقد بشر بمجىء محمَّد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.

أفمن كان على هذا الحال؟ يكون كمن يريد الحياة الدنيا وحدها محرومًا من الحياة الدينية الموصلة إلى السعادة في الدار الآخرة؟! لا يستويان.

{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} : أي أُولئك الذين استناروا بالحجج العقلية والنقلية يؤمنون بالقرآن ويعملون به.

ص: 175

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} : أي ومن لم يؤمن به من أهل مكة ومن تحزب معهم على محمد صلى الله عليه وسلم ممن يسير على غير هدى، أو من أهل الكتاب، فموعدهم ومآلهم النار يعذبون فيها ويردونها لا محالة بمقتضى وعيده تعالى لهم ولأَمثالهم، لقيام الحجة عليهم وعدم ما يثير الشكوك والجحود.

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} : أي فلا تكن أيها العاقل المكلف في شك من أن موعد أهل الكفر النار أو من أَن القرآن من عند الله تعالى.

{إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} : أَي إِن الوعيد بالنار. أو إنَّ القرآن هو الحق من الله الذي لا شك فيه، فإنه:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1). ولكن أَكثر الناس لا يؤمنون؛ لأنهم لا يمعنون النظر فيه ولا في الادلة التي تهدى إليه.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}

المفردات:

{وَمَنْ أَظْلَمُ} : لا أحد أَشد ظلما. {يُعْرَضُونَ} : أَي يعرضون ذاتا وعملا.

{الْأَشْهَادُ} : جمع شاهد أو شهيد (2) وهو من يشهد عليهم. {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} : إبعاده لهم من رحمته. {يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أي يمنعون غيرهم عن دين الله، أو يُعْرِضُون هم عن دينه.

{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} : أي يريدونها معوجة.

(1) سورة فصلت الآية: 42

(2)

ومن الوزن الأول صاحب وأصحاب، ومن الوزن الثانى شريف وأشراف.

ص: 176

التفسير

18 -

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} :

بعد أن بينت الآيات السابقة إصرار المشركين على الكفر بآيات الله جاءت هذه الآية وما بعدها لبيان طائفة أخرى من جرائمهم وجزائهم عليها.

والمعنى: لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله تعالى فنسب إليه ما لا يليق به كالشريك والولد، أو وصفه بما لا يجوز وصفه به، أو أخبر عنه بما لم يقله، فهؤلاء أعظم الناس ظلما وأشدهم جرما.

{أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} : أي أولئك الكاذبون يعرضون على ربهم ليحاسبهم على أعمالهم.

{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} : المراد من الأشهاد إما من شهدوا كفرهم ومعاصيهم التي اجترحوها في الدنيا، وهم الملائكة والنبيون وصالحو المؤمنين أو أهل الموقف.

والمعنى: ويقول هؤلاء الأشهاد مشيرين إليهم عند عرضهم على ربهم هؤلاء هم الذين افتروا على الله كذبا، فنسبوا اليه ما لا يليق به.

{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} : يحتمل أن تكون هذه موجهة من الله تعالى إليهم، أو من هؤلاء الأشهاد.

والمعنى: ألا بعدًا وطردًا من رحمة الله لهؤلاء الظالمين لأنفسهم المعتدين على الحق.

19 -

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} :

الصد عن سبيل الله، يستعمل بمعنيين (أحدهما): منع الناس عن دين الله (والثانى): الامتناع عنه، وكلاهما يحصل من الكافرين، فكما يكفرون في أنفسهم، يحسون غيرهم على الكفر.

والمعنى: هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن دين الله الذي هو السبيل إلى معرفته ومرضاته كما صرفوا أنفسهم عنها، ويريدون أن تكون هذه السبيل معوجة حسب أهوائهم.

ص: 177

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} :

أي: وهم مع صدهم عن سبيل الله ينكرون البعث وما بعده، من حساب وثواب وعقاب ويجحدونه، وتكرار الضمير (هُمْ): لتأكيد كفرهم بالآخرة، والإيذان بعمق جذوره.

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}

المفردات:

{مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} : مفلتين من عقاب الله. {أَوْلِيَاءَ} : نصراءَ.

{خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : أضاعوها بكفرهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} : وغاب عنهم.

{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : يدعون من ألوهية الأصنام وشفاعتها. {لَا جَرَمَ} : لا بد.

التفسير

20 -

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} :

أي هؤلاء الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويطلبون لها اعوجاجا وعدم استقامة - هؤلاء - لم يكونوا ناجين من عذاب الله في الدنيا إذا ما أراد الانتقام منهم في أي جزء من أجزاء الأرض، فهم في قبضته وملكه فلا يقدرون على الامتناع منه.

ص: 178

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} :

أي وليس لهؤلاء المشركين من أنصار يتولون أمرهم ويمنعونهم من عذاب الله تعالى إذا ما أراده بهم.

{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} :

أي يزاد لهم العذاب مثلا أو مثلين أو أكثر بسبب صدهم الناس عن دين الله وإنكارهم البعث بعد الموت لأنهم ضلوا في أنفسهم أضلوا غيرهم.

{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} :

أي فقدوا القدرة على السمع والبصر النافع فإنهم أغلقوا نوافذ المعرفة عندهم فأَصموا آذانهم عن سماع الحق بتدبر واعتبار، فلهذا لم ينتفعوا بما يسمعون، وهم مع ذلك ما كانوا يبصرون إبصار تأمل وعبرة فيما ينفعهم ويعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة ويؤهلهم لرضا الله تعالى كما قال سبحانه:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (1).

21 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

أي أُولئك الذين أَغلقوا آذانهم عن سماع الحق، وحجبوا أبصارهم عن النظر في آياته باعتبار وتأمل - أولئك - هم الذين جنوا على أَنفسهم فأَوقعوها في الخسران بافترائهم الكذب على الله تعالى، واشترائهم الضلالة بالهدى فضيعوا على أنفسهم حظوظها من رحمة الله تعالى، وقد غاب عنهم في الآخرة الآلهة الذين كانوا يزعمون أنهم شفعاءُ لهم ومنقذوهم من العذاب، فم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا.

22 -

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} :

أَي لابد أَنهم في الآخرة هم أشد الناس خسرانا، لأنهم أَضاعوا منازلهم في الجنة واستبدلوا بها النار.

(1) سورة المدثر، الآيات: 49 - 51

ص: 179

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

المفردات:

{وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : خضعوا إلى الله، واطمأنوا إلى عبادته وحسن جزائه.

التفسير

23 -

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : لما ذكر الله تعالى سوءَ أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بيان حسن حال المؤمنين فيهما.

والمعنى: إن الذين آمنوا باللهِ ورسله وبكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات من الواجبات والمسنونات، وخشعوا لله واطمأَنت قلوبهم بذكره. فجمعوا بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب لتكون أعمالهم مقبولة عِند الله تعالى.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : أي هؤلاء هم أَهل الجنة وأصحابها دون من عداهم، هم فيها خالدون لا يبرحونها اختيارا، ولا يخرجهم منها أَحد اضطرارًا. كما قال تعالى:{وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (1).

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}

المفردات:

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} : صفة الفريقين، فريق الكفار وفريق المؤمنين.

{الْأَعْمَى} : فاقد البصر. {الْأَصَمِّ} : فاقد السمع. {الْبَصِيرِ} : حاد البصر. {السَّمِيعِ} : قوى السمع.

(1) سورة الحجر، من الآية:(48)

ص: 180

التفسير

24 -

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ .... } الآية.

تحدثت الآيات السابقة عن الكفار وإغراقهم في الضلال ومصيرهم الرهيب، كما تحدثت عن المؤمنين وخشوعهم لله وثوابهم الجزيل، وجاءت هذه الآية لتوضيح الفرق الشاسع بين الفريقين.

والمعنى: مثل الكفار في عدم الانتفاع بأبصارهم وأسماعهم، كمثل الأعمى الذي لا يبصر والأصم الذي لا يسمع أي كمثل الذي جمع بين العمى والصم (1) فهو يتخبط في الضلال كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2).

ومثل المؤمنين في معرفة الله والتصديق بوحدانيته وكمالاته، مثل الرجل الحاد البصر القوى السمع فكما أَنه لا يغيب عنه شيء مما يرى ويسمع، فكذلك المؤْمن لا يغيب عن بصيرته وصفاءِ قلبه، شيءٌ مما يليق بكمالات الله تعالى فهو ينتفع بمدركاته العقلية ويميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، فيتبع الخير ويبتعد عن الشر بعكس الأول.

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} : الاستفهام هنا بمعنى النفى، أي لا يستويان حالا وصفة.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

أي أَتغفلون عن عدم استوائهما وما بينهما من الفرق فلا تعتبرون بالفرق بين هؤلاءِ - وهؤلاءِ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (3). فما بالكم لا تدركون الفرق الشاسع بين الفريقين.

(1) قوله تعالى (كالأعمى والأصم) صفتان لموصوف واحد وكذلك (البصير والسميع) فهى من عطف الصفة على الصفة، ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم.

(2)

الأعراف، الآية:179.

(3)

سورة الحشر، الآية: 20

ص: 181

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}

المفردات:

{نَذِيرٌ} : محذر من وقوع خطر. {مُبِينٌ} : موضح. {أَلِيمٍ} : شديد الإيلام.

التفسير

تحدثت الآيات السابقة عن فريق الكفار ومصيرهم الأليم، وفريق المؤمنين وثوابهم العظيم وفي الآيات التالية إلى آخر السورة يقص الله سبحانه وتعالى علينا أمثلة تاريخية واقعية لهذين الفريقين في عصر كل الرسل بالترتيب الزمنى التاريخى، وابتدأَ بقصة نوح عليه السلام فقال:

25 -

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

استهلت الآية بتأْكيد القصة بقوله: (وَلَقَدْ) لأن تاريخ نوح عليه السلام موغل في القدم وفي التأكيد تنبيه على صدق القصة مع جذب انتباه السامعين إليها.

والمعنى: ولقد أَرسلنا نوحا إِلى قومه قائلا لهم: إننى لكم محذر من غضب الله وعقابه إن بقيتم على كفركم، موضح لكم ما فيه خلاصكم ورضا ربكم.

26 -

{أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} : أي أَرسلنا نوحا إلى قومه ليقول لهم: لا تعبدوا إلهًا غير الله فإنه وحده الجدير بالعبادة والتقديس.

واستمال قلوبهم إليه بتأْكيد إشفاقه عليهم وحرصه على إنقاذهم، مما يتعرضون له من عقاب يوم رهيب شديد الإيلام، إِذا أَصروا على الشرك والضلال فقال:

{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : واليوم الأليم هو يوم القيامة الذي يجعل الولدان شيبا. أو يوم الهلاك والاستئصَال في الدنيا أو هما معًا، وقد حل بهم عذاب يوم الطوفان. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} .

ص: 182

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}

المفردات:

{الْمَلَأُ} : الزعماء والقادة. {الأرَاذِلُ} . جمع أَرذل وهو الخسيس الدنئُ.

{نَظُنُّكُمْ} : نعتقد ونوقن، مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ} .

{بَادِيَ الرَّأْيِ} : ما يبدو من الرأْى للوهلة الأُولى دون إمعان للنظر.

التفسير

27 -

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} :

أي فتحدث زعماءُ قوم نوح الذين كذبوا رسالته قائلين له: ما أثبت إلا بشر مشابه لنا في البشرية لا ميزة لك علينا، فكيف نستجيب لك ونتبعك؟ وقد فاتهم أَن البشر لا يقدرون على الأَخذ من الملائكة ولا يستطيعون لقاءهم، وأنهم لو جعلوا في صورة البشر لالتبس الأمر على من أُرسلوا إليهم، كما فاتهم أن البشرية ليست على مستوى واحد، فهي تعلو حتى تفوق الملائكة، وتهبط حتى تصل إلى درك الشياطين.

ثم عللوا تكذيبهم بسبب ثان فقالوا:

{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} : أي ولا نعلم أحدًا اتبعك من الزعماء والأشراف، بل اتبعك الضعفاء والفقراءُ وقد اتبعوك دون روية أو تفكير، لأنهم لا يحسنون التدبر في الأُمور.

{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} : أي وما نعلم لك ولمن اتبعك مزية ولا فضلا في أي شأن حتى نترك مكانتنا في الرياسة والزعامة وننقاد لكم.

ص: 183

ثم ختموا اعتراضهم على رسالته بقولهم له:

{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} : أي بل نعتقد أنكم مفترون فيما زعمتموه لأنفسكم من فضل: والظن هنا بمعنى الاعتقاد كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1).

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُورَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}

المفردات:

{أَرَأَيْتُمْ} : أخبرونى عن رأْيكم. {بَيِّنَةٍ} : حجة قوية واضحة. {رَحْمَةً} : نعمة.

والمراد بها هنا نعمة النبوة والرسالة. {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} : أنكرهكم على اتباعها.

{فَعُمِّيَتْ} : أُخفيت عليكم فلم تدركوها.

التفسير

28 -

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} :

في هذه الآية وما يليها يرد نوح عليه السلام على الأسباب التي استند إِليها قومه في تبرير كفرهم - ويرد في رفق وأناة - ويجادلهم بالتى هي أحسن، رجاءَ أن يفيئوا إلى الصواب.

(1) سورة البقرة، من الآية:249.

ص: 184

والمعنى: يا قوم إني لا أزعم أنى أمتاز عليكم فإننى بشر مثلكم، ولكن أخبرونى عن رأيكم فيما أعرضه عليكم: إن الله سبحانه قد هدانى إليه فآمنت به إيمانا راسخا ثابتا معتمدا على الحجة والبينة الظاهرة، وتفضل على بنعمة خصنى بها من عنده وهى الرسالة، وأمرنى بإبلاغها إليكم تفضلا منه عليكم، وقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة فخفى أمرها عليكم حين بادرتهم إلى تكذيبها دون تدبر أو تأمل، فأخبرونى ماذا أفعل لكم أنا ومن معى من المؤمنين بعد ذلك؟ أنرغمكم على العمل بشريعة الله التي رحمكم بها وأنتم لها كارهون.

وعاد نوح فذكرهم بأنهم قومه قائلًا:

29 -

{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} : أَي يا قوم إننى لا أُريد منكم مالا على أَداءِ هذه الرسالة، فما أَجرى إِلا على الله وحده فما بالكم ترفضون ما دعوتكم اليه من الحق، وهذا الذي قاله نوح لقومه من الأُسس الهامة التي تقوم عليها دعوات المرسلين، وينبغى أن تكون قدوة لجميع الدعاة والمصلحين، فإِن الدعوة للإصلاح إذا تجردت عن المطامع الذاتية، تكون أَدعى للاستجابة إليها، واستمالة القلوب نحوها وفي ذلك يقول الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1).

{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : هذا جواب عما طلبوه منه من طرد الفقراءِ بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} كأَنهم يرحون إليه بطردهم والتبرؤ منهم.

والمعنى: لست بطارد المؤمنين لفقرهم كما أردتم، فإِنهم سيلقون الله فينصفهم منى إذا ظلمتهم وأبعدتهم عني إرضاءً لكم، ولن أَغضب الله بازدرائى لهم كما تحبون وليس الأمر في شرع الله دائما على الصور والأجسام والثياب، بل مرده إلى طمأْنينة القلوب ونظافة الصدور.

وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشْعَث مَدْفُوع بِالأبوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّه"(2).

(1) سورة يس: الآية 21

(2)

حديث شريف رواه مسلم وأحمد.

ص: 185

{وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} : أي لا تعرفون أقدار هؤلاء المؤمنين حين حكمتم بأنهم أراذل، ولن أكون مثلكم في الخطأ وسوء التقدير.

ويجوز أن يكون المعنى: أراكم قوما بكم جهالة وحمق، دفعكم إلى التعالى على هؤلاء المؤمنين والسخرية بهم، والازدراءِ والامتهان لهم.

30 -

{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

ويقول لهم مرة أخرى: ويا قوم من يمنعنى من انتقام الله إن طردت هؤلاء الفقراء الذين جعلتموهم أرذلكم، وهم على ما هم عليه من الايمان والاستقامة، أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل والحمق، فلا تتذكرون ولا تتدبرون أن قيمة الناس عند الله ليست في مظاهرهم وثرائهم، بل في صفاء نفوسهم وطواعيتهم للحق، واستقامتهم على جادة الصدق، فكيف أطردهم وهم على النهج المستقيم؟

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}

المفردات:

{خَزَائِنُ} : جمع خزانة بكسر الخاءِ وهى موضع المال أَو المتاع والمقصود بخزائن الله ما عنده من خير جزيل.

{الْغَيْبَ} : المراد من الغيب ما غاب وخفى عن الإنسان من العوالم المجهولة، أو أحداث المستقبل. {تَزْدَرِي}: تحتقر.

ص: 186

التفسير

31 -

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} :

بعد أن جادلهم في ادعاءاتهم وفنَّد مزاعمهم، أعلن لهم أنه حين يبلغهم رسالة ربه لا يدعى أنه يملك ما عند الله من خير ورزق وفير، حتى يستدلوا بعدمه عنده على كذبه بقولهم له ولمن آمن معه:{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} . فإن النبوة لا تنال بالأسباب الدنيوية، ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه، ولا تفتقر إليهما.

{وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} :

أَي لا أقول لكم حين أُنذركم بقولى: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : لا أقول لكم إني أعلم الغيب، حتى تسارعوا إِلى الإنكار والاستبعاد.

{وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} : أي لا أزعم أنى ملك حين دعوتكم إلى دين الله، حتى تردوا دعوتى بقولكم:{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} على حين أن البشرية لا تمنع من النبوة، بل هي من مقتضياتها.

{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} :

أَي ولا أَقول في شأْن المؤمنين الفقراء الذين تحتقرهم أَعينكم، لا أقول في حقهم ما قلتموه أنتم من أنه تعالى لن يؤتيهم خيرا لرثاثة حالهم، فإن الله لا ينظر إلى الصور والثياب، ولكن ينظر إِلى القلوب، فعسى الله أَن يمنحهم الخير في الدنيا والآخرة.

{اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} :

أَي أَن الله تعالى أعلم بما انطوت عليه نفوسهم، فكيف أحكم عليهم بأنهم لن ينالوا من الله خيرا، إني لو قلت هذا لكنت من الظالمين لهم بنقص مرتبتهم وغمط حقوقهم، أو لكنت من الظالمين لأنفسهم بالحكم في شيء غير لا سبيل لى إلى معرفته فإن أسرار القلوب بين يدى علام الغيوب.

ص: 187

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

المفردات:

{جِدَالَنَا} : الجدال، مقارعة الحجة بالحجة طلبا لتغليب رأْى على رأى آخر، ويطلق على شدة المخاصمة والقدرة على النقاش.

{بِمُعْجِزِينَ} : بسابقين، والمراد أنهم لا يفلتون من عذاب الله.

{أَنْ يُغْوِيَكُمْ} : أي يترككم في غيكم ويتخلى عن هدايتكم، أو يوقعكم في الغىِّ وهو العذاب، ومنه قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} . أي هلاكا وعذابا.

التفسير

أفحم نوح قومه ولم يجدوا مجالا للرد عليه، فتحدوه بأن ينفذ ما وعدهم به من العذاب وذلك ما حكاه الله بقوله:

32 -

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

المعنى: قالوا يا نوح قد بالغت في مناقشتنا ولسنا مقتنعين برسالتك، ولا بما قدمته عليها من الأدلة والبراهين، ونحن مصرون على تكذيبك فيما تدعيه من ثواب المؤمنين وعقاب الكفار، فأتنا بما أوعدتنا من العذاب الأليم إن كنت صادقا فيما تقول.

ص: 188

33 -

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

قال نوح مجيبا لهم بما يتفق مع بشريته التي أعلنها لهم من قبل، وبما يتفق مع رسالته عن الله، قال لهم: ما يأتيكم بالعذاب الموعود إلا الله إن شاء أنزله بكم، وليس أمره بيدى حتى تطلبوه مني، ولن تستطيعوا الإفلات منه حين يريد نزوله بكم.

34 -

{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} :

أي ولا ينفعكم ما أبذله لكم من نصح أَردت بذله لكم، إن كان الله يريد أن يبقيكم في غيكم الذي أَصررتم عليه، ثم بيَّن أن مردهم إلى ربهم صاحب الأَمر فيهم فقال:{هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : أي أَنه تعالى هو مالك أَمرهم وحده، وإليه مرجعهم بعد الموتِ للحساب والجزاءِ فأَمر هدايته وجزائهم إليه وحده وليس لي من ذلك شيءٌ.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}

المفردات:

{افْتَرَاهُ} : اخترعه من نفسه ولم ينزله الله عليه.

{إِجْرَامِي} : إرتكابى إثما كبيرًا.

التفسير

35 -

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} :

لما عجز قوم نوح عن محاجته زعموا أن كلامه كله كذب وادعاء، فأمره الله أن يبرئ نفسه مما يقولون، ويحملهم عاقبة افترائهم عليه.

ص: 189

والمعنى: بل أَيقول قوم نوح بعد عجزهم عن الردَّ عليه - إنه اختلق هذا الدَّين الذي يزعم أَنه من عند الله.

{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} :

أَي قل لهم يا نوح إن كنت قد اختلفت ما أَبلغتكم إيَّاه من رسالة الله، فعلىَّ إثم إجرامى بالافتراء على الله، وما يترتب عليه من عقاب يستحقه كل من افترى عليه الكذب، فكيف أَفترى على الله الكذب وأَنا المسئول عنه دون غيرى، وبما أَننى صادق فأَنا برىءٌ من إجرامكم وكفركم.

وهذا شبيه بقوله - تعالى - للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (1).وهنا يتجلى الإِنصاف الكامل.

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)} .

المفردات:

{فَلَا تَبْتَئِسْ} : لا تحزن ولا تتأَلم.

{الْفُلْكَ} : السفينة الواحدة والجمع.

{بِأَعْيُنِنَا} : تحت رعايتنا وتوجيهنا.

التفسير

نصح نوح عليه السلام قومه بكل الوسائل ودعاهم إلى الإيمان بمختلف الأَساليب العقلية في رفق ولين، ولكنهم أَصرُّوا على عنادهم وركبوا رءُوسهم، ورموه بالكذب

(1) سورة يونس الآية: 41

ص: 190

على الله كما تقدم بيانه، وفيما يلى من الآيات قصة نوح مع قومه وبيان نهايتهم الأَليمة.

36 -

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} :

أي: وأَوحى الله إِلى نوح أَنه لن يستجيب لدعوتك أَحد من قومك سوى الذين آمنوا بك من قبلُ، فلا مجال لبذل النصيحة والدعوة إلى الهداية مع مصرين على الكفر تلك الدهور الطويلة.

{فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :

أَي فلا تحزن عليهم ولا يَضِقْ صدرك بكفرهم ومكرهم، وانغماسهم في الآثام والذنوب.

37 -

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} :

أي وقم بعمل السفينة طبقًا لوحينا الذي بينا لك فيه كيفية صنعها، وذلك تحت رعايتنا، وبتوجيه وسند منَّا لتؤدى الغرض المقصود منها.

{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} :

ظاهر الآية أن نوحا عليه السلام شفع في قومه أو كان بصدد أن يشفع فيهم فنهي عن ذلك، وسيأتى في سورة نوح أنه صلى الله عليه وسلم طلب من ربِّه أن يُهلكهم بقوله:

{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1). وتوفيقا بين هذه الآية وبين ما جاءَ هنا نقول: إِنه سبحانه يعلم شفقة نوح بقومه وطول إِقامته - معهم، وأنه قد يدعو ربه أن يتأَنى معهم وأن لا يغرقهم أو كان قد دعاه فعلا، فلهذا نبهه هنا إلى أن لا يطلب منه ذلك مستقبلا، فقضاء الله فيهم لا رجعة فيه بشفاعته، فلا يطلب منه ما سبيل إلى إِجابته.

أما ما سيأْتى في سورة نوح من قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} . فقد صدر منه بعد يأْسه تماما من إيمان قومه.

والمعنى: ولا تخاطبنى في تأجيل تعذيب هؤُلاء الذين ظلموا أنفسهم ونبيهم، إِنهم مغرقون ولابُدَّ، فلا مجال للرحمة بهم ولا مفرَّ من إهلاكهم.

(1) سورة نوح، الآية: 26

ص: 191

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} .

المفردات:

{مَلَأٌ} : جماعة من الأشراف. {سَخِرُوا مِنْهُ} : اتخذوة هدفا للاستهزاءِ ومجالا.

للضحك. {يُخْزِيهِ} : يذلُّه ويفضحه.

التفسير

38 -

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} :

نفذ نوح أَمر ربه، وظل يباشر صناعة السفينة وكلما رآه جماعة عن أَشراف قومه أثناءَ صنعتها واجهوه بالاستهزاءِ والسخرية منه. فقد عهدوه داعيا إِلى توحيد الله وعبادته، فإذا هو قد انصرف عن الدعوة واشتغل بقطع الأَشجار وتهيئة الألواح وضم بعضها إلى بعض ولم يدركوا السر في هذا التغيير.

{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} : لما رأَى نوح قومه يسخرون من اشتغاله ببناءِ السفينة. هدَّدهم بقوله إن تسخروا منا اليوم فإننا عن قريب نجيب على سخريتكم بالفرح بهلاككم، وتخليص الأرض من شروركم وجهلكم في حق ربِّكم وحقِّ أَنفسكم.

39 -

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} :

أَي إنكم تسخرون منا اليوم وسوف تعلمون غدًا من أَهل للسخرية والاستهزاءِ حينما يفجؤكم عقاب من الله يخزيكم في الدنيا، وحينما يحل بكم عذاب خالد يوم القيامة وبئس المصير.

ص: 192

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}

المفردات:

{فَارَ} : فاض وارتفع بقوة واشتد اضطرابه. {التَّنُّورُ} : الفرن.

{سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} : حق عليه قضاءُ الله.

التفسير

40 -

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} : ظل نوح عليه السلام يصنع السفينة ويسمع سخرية الساخرين واستهزاءَ المستهزئين من قومه، حتى إذا أَتم صنعها وحل قضاءُ الله وتدفقت ينابيع الماء من مكان غير مأْلوف وهو جوف الفرْن، وهطل المطر من السماء مدرارًا، كما قال تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (1).

حتى إذا حدث هذا كله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} : أَي قلنا لنوح عليه السلام احمل في سفينتك من كل صنف من الحيوان زوجين اثنين ذكرًا وأُنثى حتى لا تنقرض الأنواع، أَما الأَنواع التي أَمره الله بحملها معه فلم نعلم أَنه ورد في تحديدها نص صريح يوثق به.

{وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} : أَي واحمل معك في، السفينة أهلك جميعًا إِلَاّ مَن حقَّ علمه - قضاءُ الله بالهلاك مع الكفار لأَنه منهم، ومن سبق عليه القول من أَهله هم: ابنه وزوجته كما ورد في أَكثر من موضع في القرآن الكريم.

{وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} : أي واحمل معك الذين استجابوا لدعوتك وآمنوا برسالتك وهم عدد قليل.

(1) سورة القمر، الآيتين: 11، 12

ص: 193

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}

المفردات:

{ارْكَبُوا فِيهَا} : أي اركبوا مستقرين فيها. {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} : أَي جريها في الماء، وإِرساؤها أي إِثباتها في مرساها، ويجوز أن يكون المراد منهما مكان أو زمان جريها وإرسائها.

التفسير

41 -

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} :

بعد أَن بيَّنت الآية السابقة أَن الله - تعالى - أمر نوحا عليه السلام أَن يحمل في السفينة زوجين اثنين من كل الحيوانات المنتفَعِ بها، وأن يحمل فيها أَهلَه إلا من سبق عليه قول الله بالغرق بالطوفان، جاءَت هذه الآية لِتبيِّن أَنه نفَّذ ما أَمره به، وأَوصى أهله أَن يذكروا اسمه - تعالى - عند ركوبهم فيها على النحو الذي سنشرحه، والركوب كما قال العلامة أَبر السعود: هو العلو على شيءٍ له حركة، إِمَّا إرادية كالحيوان أَو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما، فإذا استعمل في الأَول لم يذكر معه لفظ (في) كما في قوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (1).

وإذا استعمل في الثاني لوحظت الظرفية فذكر معه لفظ (في) كما هنا، وكما في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} . (2) وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} . هذه خلاصة ما أسهب به في هذا الموضوع، وقال البيضاوى:{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} : أي صِيرُوا فيها وجعل ذلك ركوبا، لأَنها في الماءِ كالمركوب في الأرض: اهـ.

والمعنى: وقال نوح عليه السلام لأهله والمؤْمنين الذين أمره الله بحملهم معه: اركبوا في السفينة قائلين بسم الله جريها فوق الماءِ المتلاطم الأَمواج، وبين

(1) سورة النحل من الآية: 8

(2)

سورة الكهف، من الآية: 71

ص: 194

الزوابع والعواصف وتحت سُحُبٍ مفتَّحة الأَبواب بماءٍ منهمر، وبسم الله إرساؤُها وإيقافها عن الجرى عند مرْساها الذي شاء الله أَن يوقفها ويثبتها عنده.

ويجوز أن يكون نوح بعد أن أمرهم بركوبها، أخبرهم بأَن جريها وإِرساءَها بإِذن الله وحمايته حتَّى لا يخافوا من ركوبها في هذا الفزع الأَكبر، فكأَنه قال لهم: اركبوا في السفينة بإذن الله جريها وإيقافها لا بإِذنى فلا تخافوا من الغرق، ويرشح هذا المعنى ختم الآية بقوله سبحانه:

{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : أي إن ربي لعظيم الغفران لذنوب المؤمنين، واسع الرحمة والرأْفة بهم، ومن كان كذلك فهو الكفيل بنجاتهم من كل خطر يُحيط بهم.

{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} .

المفردات:

{فِي مَعْزِلٍ} : أَي في مكان عزل نفسه فيه عن أَهله.

{يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} : يمنعنى، يحمينى منه.

التفسير

42 -

{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} :

هذا الكلام مرتبط بمقدر مفهوم من الآية السابقة، أي فركبوا في السفينة {بِسْمِ اللهِ} الخ، وفي تجرى بهم بعد ركوبهم، في موج مرتفع كالجبال، لشدة العواصف والرياح التي يثأَثر بها الموج ويشتد ارتفاعه.

ص: 195

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ

} الآية.

في هذه الآية عدة أَسئلة:

(أحدها): كيف ينادي نوح ابنه ليركب معه في السفينة مع أَنه نهى عن ذلك بقوله سبحانه: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ؛ ومن سبق عليه قول الله هم الذين قضى بإغراقهم لكفرهم؟ وقد أُجيب عن ذلك: بأَنه لم يقطع الأَهل في إِيمانه إِذ لم يكن لديه علم بأَنه مصرُّ على الكفر وأنه من المغرقين، إلا بعد أَن أَخبره الله بأَنه ليس من أهله المؤمنين وبأنه من المغرقين، ويدل لذلك قوله:{ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} . فكأَنه يقول له اركب معنا نحن المؤمنين وكن مؤْمنا في جملتنا، ولا .. تكن باقيا على الكفر مع الكافرين حتى لا تغرق بسبب كفرك وعزلتك معهم، وقيل: إنه كان ينافق أباه فيظهر له الإِيمان ويبطن الكفر فلذلك دعاه ليركب مع المؤْمنين ظانًّا أنه مؤمن، والرأْى الأَول أَظهر.

(وثانى هذه الأَسئلة):

ما المراد بكونه {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} ؟ والجواب: أَنه كان في مكان عزل فيه نفسه عن أَبيه وعن المؤْمنين وقتما كانوا على الشاطىء يستعدون لركوب السفينة، ولكنه كان بحيث يسمع النداءَ، فلذلك ناداه أَبوه بترك العزلة مع الكافرين، والانضمام إِليهم في الإيمان وركوب السفينة معهم.

(والسؤال الثالث):

ظاهر النص الكريم، أَن نوحا نادى ابنه وكانت السفينة تجرى بهم في موج كالجبال والمعقول أنه يناديه قبل أن تبحر بهم؟ والجواب: أن هذا حكاية لما حدث منه لولده قبل إبحار السفينة، وليس في النص ما يقتضي تأَخره إِلى ما بعد جريانها فكأَنه قيل: وهى تجرى بهم في موج كالجبال، وكان نوح قد نادى ولده ليترك مَعْزلَهُ، ويؤمن ويركب معهم، لينجو من الغرق في طوفان أَمواجه كالجبال، فأَبى وقال: سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء الخ.

والمعنى الإجمالى للآية: فركبوا في السفينة بإذن الله جريها وإِرساؤها، وهى تجرى بهم في موج كالجبال، وكان نوح قبل إِبحارها قد نادى ابنيه وكان في مَعزل عنه وعمَّن

ص: 196

آمن معه، قائلا له بحكم الشفقة الدينية والأَبوية: يا بنى اركب معنا نحن المؤْمنين ودع ما أَنت عليه من الكفر، لتنجو من الغرق، ولا تكن منعزلا عنا مع الكافرين، فإنهم سيغرقون ويهلكون.

43 -

{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} :

توهم هذا الولد المفتون أَنه يستطيع أَن ينجو من الغرق باللجوءِ إلى جبل مرتفع، كما يحدث في بعض المُلمَّات من اللجوءِ إلى أَسباب النجاة العادية، فلهذا رفض دعوة أَبيه وقال له: سأَلجأُ إِلى جبل مرتفع يحمينى من الماء ويمنعنى تسلُّقُه من الغرق بالطوفان، فردَّ عليه أَبوه قائلًا:

{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} : أَي ليس هذا الذي نزل بالناس ماءً عاديا يُتَّقى فيضانه بارتقاء الجبال، بل هو عذاب الله وعقابه للكافرين فلا يُنْجِى منه إلا الله الذي رحم عباده المؤْمنين بإركابهم سفينة النجاة فدع عنك هذه الغفلة، وآمن بربك واركب مع المؤمنين سفينة النجاة، لتنجو معهم، ولكنه لم يستمع إلى نصيحة أبيه.

{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .

أي قام الموج حائلا بين نوح وابنه فاجتذبه إِليه، وانقطعت صلة التفاوض بينهما، وكان هذا الولد من جملة الذين أَغرقهم الله بالطوفان من الكفار أَمثاله.

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}

المفردات:

{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} : ويا سماءُ أَمسكى عن المطر، والسماءُ هنا؛ السحاب.

ص: 197

{وَغِيضَ الْمَاءُ} : أَي نقص. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} : واستقرت السفينة على جبلٍ يُسمَّى بهذا الاسم، واختلف في موقعه على ما سنبينه في الشرح.

{بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : أَي هلاكا لهم، يقال: بَعُدَ بُعْدًا وَبَعْدًا، إذا بَعُدَ بحيث لا يرجى رجوعه، ثم استُعِير للهلاك.

التفسير

44 -

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} .

بعد ما بيَّنت الآية السابقة شدة الطوفان وإِغراقه لأَهل الأَرض، وأَنه لم يعصم منه إلا من رحمه الله وهم أهل السفينة التي صنعها لهم نوح، جاءَت هذه الآية لتبيِّن انتهاءَ الطوفان بأَمر الله، بعدما أَهلك الله به الظالمين.

والمعنى: أَنه - تعالى - بعد إهلاكه الظالمين بالطوفان، أَمر الأَرض أَن تكف عن الفوران وأَن تبتلع ما على ظهرها من الماءِ الذي جاءَ به الطوفان، دون ما فيها من مياه البحار والمحيطات، وأَمر السماءَ أن تكفَّ عن المطر، وتقلع عن إرساله مدرارًا، وظاهر الآية: أن الأرض والسماء نوديا حقيقة، وأنه - تعالى - خلق لهما إدراكا جعلهما أَهلا لتقبُّل التكليف، وَلا يبعد ذلك على قدرة الله تعالى، ويشهد له قوله تعالى:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (1).

ومن المفسِّرين من جعل ذلك تمثيلا لكمال قدرة الله عليهما، وتمام انقيادهما لما يشاؤه فيهما، قال الإِمام البيضاوى: نوديا بما ينادى به أُولو العلم، وأُمرا بما يؤمرون به تمثيلا لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاءُ تكوينه فيهما، بالآمر المطاع الذي يأْمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أَمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه، انتهى.

{وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} :

ونقص الماء حتَّى غاب في الأَرض بعد ما صدر أمر الله للسماء بالإقلاع والأَرض بالابتلاع وتنفيذهما مشيئته فيهما، وأنجز الأَمر الذي جاءَ الطوفان من أجله، وهو هلاك أُولئك

(1) سورة الأنبياء، من الأية: 79

ص: 198

الظالمين من نوح، وتطهير الأرض منهم، لينشأَ جيل جديد من البشر على توحيد الله وطاعته، واستقرت السفينة بعد أن جف ظاهر الأَرض، على جبل اسمه الجودى.

وقد اختلف الناس في بيان موقعه؛ فمنهم من قال: إنه بالموصل، ومنهم من قال: بالشام ومنهم من قال بآمل - بمدّ الهمز وضمّ الميم - ومنذ عدة سنين نشر بالصحف، أَنهم وجدوا أَلواحا طويلة على جبل أرارت تشبه أَلواح سفينة كبرى، وقيل: إنها بقايا سفينة نوح، والله - تعالى - أَعلم بالحقيقة.

{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

إذا قلت: بعدا لفلان، فأَنت تدعو عليه، فهو خاص بدعاءِ السوءِ، وكثيرا ما يستعار للدعاءِ بالهلاك كما هنا.

والمعنى: وقيل من جهة الله تعالى: هلاكا لقوم نوح لكونهم ظالمين أَشد الظلم.

ويقول العلامة البيضاوى، في وصف بلاغة الآية وفصاحتها ما يلى:

"والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها، وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإِيجاز الخالى عن الإِخلال، وفي إيراد الإِخبار على البناءِ للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل وأَنه متعين في نفسه، مستغنٍ عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره، للعلم بأَن مثل هذه الأَفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار". انتهى.

وقال الألوسى: هذه الآية بلغت من مراتب الإِعجاز أَقاصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، إلى آخر ما قال.

هل شمل الطوفان جميع الأَرض

إذا قرأَنا قصة الطوفان في سور القرآن التي تحدثت عنه، نجد فيها أن الله تعالى جعله عقوبة لقوم نوح لغلوهم في الكفر، وإصرارهم عليه أحقابا ودهورا، وقوم نوح كانوا في إقليم من أقاليم الأَرض يعلمه الله، ولم يكونوا منتشرين في أرجائها كلها، فهل يبعثنا هذا على القول بأَن الطوفان لم يعم الأرض جميعا، بل كان قاصرًا على المنطقة التي كان يوجد فيها قوم نوح لعقابهم، وهل يشهد لصحة هذا الاستنتاج أَن الله تعالى قال هنا في آخر القصة:{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . كما يشهد له أن نوحا كان قريبا

ص: 199