الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة يوسف
عليه السلام
وهى مكية، وآياتها مائة وإِحدى عشرة آية فقط، وذكرت بعد هود لما يجمع بينهما من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء السابقين وما لاقوا من أذى الأباعد كقصص سورة هود وأذى الأقارب كقصة يوسف عليه السلام.
وتمتاز سورة يوسف بأنها تناولت قصته كاملة من أولها إلى نهايتها، حيث شرحت أمره مع أبيه ومع أخوته في صغره وشبابه وكهولته في فقره وفي غناه، وبينت كيف تآمر عليه إخوته، حتى ألقوه في غيابة الجب، وكيف التقطه بعض المسافرين وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، وأَنه تربى في بيت عزيز مصر، ونشأ فيه نشأة عبد مملوك، وأن جماله في شبابه أغرى به زوجته فراودته عن نفسه فاستعصم، فكادت له عنده، ودفع به كيدها إِلى السجن وعاش فيه بضع سنين، وكان معه فتيان، وفي ليلة رأيا في المنام رؤيا، وسألاه عن تعبيرها، فقال في تعبيرها:{أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، وتحقق تأويله لرؤياهما فقتل أحد السجينين وصلب، وعفى عن السجين الثاني، وأصبح ساقيا لملك مصر، ولما رأى الملك رؤيا أزعجته وفشل الكهنة في تأويلها، علم من ساقيه مكانة يوسف في تعبير الرؤيا، فاستدعاه فعبرها تعبيرًا عرف منه الملك منزلته من العلم، وبرَّأته زوجة العزيز مما نسبته إِليه ظلما وجعله الملك على خزائن الأَرض
ثم بينت القحط الذي أصاب الناس وبينت كيف كان هذا سببا في حضور إخوته ليتزودوا من الطعام الذي خزنه يوسف ليكون قوتا للناس في سبع سنين عجاف، وكيف خزنه حتى سلم من الآفات هذه المدة، وكيف عاد إليه أَبواه وإخوته، ثم رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، إلى غير ذلك من غرائب هذه القصة التي تعتبر عبرا وعظات ينبغي أن ينتفع بها كل ذى عقل رشيد.
وقد بدئت السورة بثلاث آيات في بيان أحسن القصص، ثم جيء عقبها بقصة يوسف كاملة، وختمت بإحدى عشرة آية توضح أَهداف القصة والحكم المستفادة منها، ودلالتها الواضحة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما يلاحظ في هذه السورة الكريمة أنها تصور الفضائل في أَسمى صورها مثل: صبر يعقوب على فراق يوسف ثم فراق أخيه، وصبر يوسف على ما قاساه من تعرض للهلاك بعد الأمان في حضن أبويه، وما عاناه من عبودية بعد الحرية، وما تعرض له من ظلم في غيابة السجن دون ذنب جناه.
ومن الفضائل الكبرى في القصة: العفة في أسمى صورها في يوسف عليه السلام، مع وفرة عوامل الإغراء والإغواء في شرخ الشباب، ومن الفضائل الكبرى التي أَبرزتها أيضا الثقة بالله وآثارها فإن يعقوب لم يفقد ثقته به، ولم يقنط من رحمته، ويوسف لم ييئس - وهو في قرارة السجن - من الفرج، وظل ثابت الإِيمان يدعو إِلى الله ويعتصم بتقواه، حتى بدل الله حالهما إلى أحسن حال.
كما أبرزت القصة فضيلة العفو والصفح الجميل الصادر من يوسف لإِخوته والاستغفار من يعقوب لأبنائه، ومقابلة الإِساءة بالإِحسان.
وكما صورت القصة الفضائل في أسمى صورها صورت أَيضا الرذائل في أبشع مظاهرها حيث صورت حقد إخوة يوسف عليه، وارتكابهم ما آذى أَباهم أَشد الإِيذاء، وما عرض أخاهم للهلاك، كما صورت استهتار زوجة العزيز وإصرارها كل الإصرار على الخيانة الزوجية وإنها لم تكترث بسوء القالة في حقها، ولما لم يستحب يوسف لرغبتها، أغرت به زوجها العزيز وحرضته على إلقائه في السجن ظلما وعدوانا.
وقد بينت سورة يوسف كما بينت سورة هود أن العاقبة للمتقين، كما بينت أن مع العسر يسرا وأن لكل شدة نهاية، وأَن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
التفسير
1 -
{الر} : أسماءُ حروف بدأ الله عز وجل بها بعض سور (1) كتابه الكريم إشارة إلى أنه مكون من كلمات ذات حروف عربية كتلك التي يتأَلف منها كلام معارضيه - تحديا لهم أن يأتوا ممثله إن كانوا صادقين في دعواهم أَن الرسول تقوله، فإِذا عجزوا فمحمد مثلهم لا يقدر على مثله، فيجب الايمان حينئذ بأَنه من عند الله أنزله تأييدًا لرسوله.
وقيل هي سرّ بين الله عز وجل وبين رسوله أَوحى الله به إليه عليه الصلاة والسلام ولا يلزم علم جميع الأَنام بما يوحيه الله عز وجل لأَنبيائه، فهم قد علموا من الأسرار القدسية ما لا تستطيع وعيه العقول البشرية العادية، روى عن أَبي بكر: لكل كتاب سر، وسر القرآن أَوائل السور. وقد تحدثنا عن هذه الفواتح في أول سورة البقرة وآل عمران وغيرهما مما تقدم.
(1) السور المبدوءة بالحروف المفردة تسع وعشرون سوة وهى:
(1)
البقرة (2) آل عمران (3) الأعراف (4) يونس (5) هود (6) يوسف (7) الرعد (8) إبراهيم (9) الحجر (10) مريم (11) طه (12) الشعراء (13) النمل (14) القصص (15) العنكبوت (16) الروم (17) لقمان (18) السجدة (19) يس (20) ص (21) غافر (22) فصلت (23) الشورى (24) الزخرف (25) الدخان (26)(الجاثية)(27) الأحقاف (28) ق (29) القلم.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} : الإشارة إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب القرآن عامة والمبين من أَبان اللازم بمعنى بان وظهر، أي الظاههر أَمره في كونه حقا من عند الله، أو الواضح في معانه وأَغراضه.
أو هو من أبان غيره أَي أظهره، فهو يظهر حقائق الدين ومصالح الدنيا لمن تلاه وتدبر ما فيه. قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ولا مانع من أن يكون المعنى عاما يشمل كل ذلك فيكون ظاهرًا في نفسه مظهرًا لغيره من الحقائق.
والمعنى: تلك الآيات الواردة في هذه السورة آيات من الكتاب الواضح في كونه من عند الله، الظاهر في معانيه وأغراضه، الموضح لحقائق الدين الحق، ومصالح الدنيا والآخرة.
ولما وصف الكتاب بما يدل على الشرف الذاتي من بعد منزلته ورفعة بيانه وحسن إبانته عقب ذلك بما يدل على الشرف الإضافى فقال:
2 -
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على محمد قرآنا عربيا لتستطيعوا قراءته وتعقله وفهمه أيها العرب، وتكونوا دعاة لشرائعه في الأمة العربية وغيرها.
3 -
آيات القرآن الكريم معجزة في جميع صورها، سواءٌ أوردت في صيغة خطابية أَم جدلية أم قصصية، والقصَص التربوى بصفة عامة يعطينا صورًا واضحة للفضائل والرذائل، حتى تترك آثارها العميقة في أغوار النفوس البشرية فتقبل على الفضائل لحسن عاقبتها، وتدبر عن الرذائل لقبح مصيرها.
وقد ساق الله القصص القرآنية، لنستفيد من روايتها مكارم الأخلاق ونتعظ بعظاتها وعبرها، حتى نكون بمأمن من عثرات الحياة ومنجاة من أَخطار الدنيا والآخرة، وسورة يوسف مليئة بالعظات والعبر، فلهذا تعتبر بحق أحسن القصص كما وصفها الله تعالى
ومعنى هذه الآية ما يلي: نحن نروي لك يا محمد أحسن القصص الواقعى النافع في شتى نواحي الحياة، وإِن كنت من قبل إِيحائه إليك، لمن الغافلين عن هذه القصة، فم تخطر لك ببال، ولم يسبق لك بها علم.
قال القرطبي في بيان كون سورة يوسف أحسن القصص: مسألة اختلف العلماء لم سميت هذه السورة أَحسن القصص من بين سائر الأقاصيص، فقيل لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة، وبيانه قوله في آخرها:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . وقيل سماها أَحسن القصص بحسن مجاوزة يوسف عن إخوته وصبره على أذاهم، وعفوه - بعد التقائهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم حتى قال:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} . وقيل لأَن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجن والإِنس، والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن. وفيها ذكر التوحيد والفقة والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجُمَل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا.
ثم ذكر عن بعض أَهل المعاني أنه قال: إنما كانت أحسن القصص، لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة، انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز - قيل - وللملك أَيضا، فقد أسلم وآمن بيوسف، وكذا مستعبر الرؤيا الساقى، والشاهد فيما يقال، فما كان أَمر الجميع إلا إلى خير. اهـ.
المفردات:
{يَا أَبَتِ} : بمعنى يا أبي، والتاء عوض عن ياء المتكلم.
{يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} : يختارك ويصطفيك {تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} : تفسير الأَحلام وبيان ما تؤول إليه.
{أَبَوَيْكَ} : المراد بهما الجدان إبراهيم وإسحق بن إبراهيم عليهما السلام، وأَطلق عليهما أبوان لأن الجد أب لغة وعرفا وشرعا حيث يرث ميراثه عند فقده.
التفسير
4 -
هذه الآية الكريمة بداية للحديث عن قصه يوسف التي وصفها الله بأَنها أَحسن القصص ووعد بأنه سيقصها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: واذكر يا محمد لمن يعارضون في نبوتك اذكر لهم قصة يوسف التي لا تعلمها أَنت ولا قومك، ليعلموا أنها عن وحي الله وأنت صادق في دعوى رسالتك: اذكر
لهم حين قال يوسف لأبيه يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام: يا أَبي إني رأيت في منامى أحد عشر كوكبا من الكواكب السماوية، والشمس والقمر، رأيتها جميعا تركت مواقعها وسجدت لى. وكان إخوة يوسف عليه السلام أحد عشر فجاءَت هذه الرؤيا مؤذنة بأَنهم سيسجدون ليوسف مع والديه المشار إليهما بالشمس والقمر فالشمس رمز إلى أبيه، والقمر رمز إلى أمه أَو بالعكس، وقد تحققت هذه الرؤيا تماما، كما بينه قوله تعالى في آخر السورة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
…
} (1).
والرؤيا الصادقة في النوم قد تكون من الله لأنبيائه فتكون وحيا، وقد تكون إلهاما للصالحين، قال صلى الله عليه رسلم:"الرُّؤيا الحسَنَةُ مِن الرجلِ الصالحِ جُزءٌ مِنْ سِتِّةٍ وَأَرْبَعينَ جُزْءا مِنَ النُّبُوةِ" أخرجه البخاري. وقال أيضا: "لَمْ يَبْق مِنَ النبوةِ إلَاّ المُبَشرَاتُ قَالُوا وَمَا المُبَشِّرَاتُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الرّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصالحُ أوْ تُرَى لَهُ" أخرجه البخاري. وليس بلازم أن تكون الرؤيا الصادقة خاصة بأهل الدين الحق، فقد يراها غيرهم ويغلب على الظن، أَنها حينئذ لا تكون صريحة بل مؤولة، كتلك التي رآها ملك مصر الوثني، وهى رؤيته سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأَخر يابسات، وقد أولها يوسف عليه السلام بسبع سنوات خصبة تأتي بعدها مثلها جدباء.
وأحيانا يستدل بها على أمراض معينة، ولهذا كان أطباءُ اليونان يعتمدون عليها في تشخيص المرض عند المريض، وكان بعض قواد الرومان يعتمدون على رؤاهم في وضع خططهم الحربية، لأَن لديهم تجارب صحيحة في تأويلها: انظر مادة الرؤيا في دائرة المعارف للأستاذ محمد فريد وجدى وأحيانا تكون الرؤيا أخلاطا متباينة وهى المعبر عنها بأضغاث الأحلام وتلك هي التي لا يعرف المعبرون تأويلها لخروجها عن القواعد التي ألفوها في تعبير الرؤى - والله تعالى أعلم.
(1) سورة يوسف من الآية: 100
وقد استفيد من هذه الآية وما بعدها ما يأتي:
أَولا: أن إخوة يوسف كانوا يعرفون تأويل الرؤى، ولذا حذره أبوه من أَن يقص رؤياه عليهم حتى لا يكيدوا له بسبب ما يفهمونه من المعاني التي تشير اليه، وهى السمو والرفعة، وأَن تكون أسرته مرءوسة له وهو رئيسهم، إلى غير ذلك من ألوان العز المنتظرة له.
ثانيا: أَن تعبير الرؤيا أَمر يقره الشرع ولا ينهى عنه وأنه حقيقة علمية يمكن الانتفاع بها، فقد أَشار والده إِلى مآل رؤياه وتعبيرها، إشارة غير خفية، إذ أفهمه أن إِخوته إِذا سمعوها أَولوها برفعة له مستقبلا وأَنهم لذلك سوف يكيدون له، كما دلت الآية الثانية على أَنه تعالى سيعلم يوسف من تأويل الأَحاديث أَي تعبيرها، وأن ذلك من تمام النعمة عليه.
وقد جاءَ في فضل الرؤيا الصادقة قوله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَبْقَ بَعْدِى مِنَ المُبَشِّرَاتِ إلا الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الرَّجُل الصَّالحُ أَوْ تُرَى لَهُ".
وقال: "الرُّؤْيا جزْء مِنْ سِتَّةٍ وَأرْبَعِينَ جُزْءًا من النبُوةِ". والحديثان صحيحان وليس بلازم أَن تكون الرؤيا الصادقة جزءًا من النبوة دائما، فقد وقعت من بعض الكفار وممن لا يرضى دينه، كرؤيا ملك مصر الوثني سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورؤيا السجينين الوثنيين في السجن: وسيأتي في هذه السورة بيان تلك الرؤى وتأويلها، ورؤيا بختنصر التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وإِن كان وقوعها من هؤلاء وأَمثالهم على سبيل الندرة والقلة (1).
كما أنه ليس بلازم أَن يكون الأخبار بالغيب ناشئا عن نبوة. فقد يخبر الكاهن بخبر غيبي فيصدق، بممارسة بعض أنواع الرياضات الروحية. أو استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من الملأ الأعلى، ويفلتون من الشهب الراصدة التي يقذفون منها من كل جانب.
(1) انظر القرطبي في المسألة الرابعة من تعليقه على قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ
…
} الآية.
ثالثا: أفاد قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} أنها لا تقص على غير شقيق ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها، قيل لمالك: أيَعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال أبِالنُّبوة يلعب؟
وقال أيضا: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أَو ليصمت، قيل فهل يعبرها على الخير وهى على المكروه، لقول من قال: إنها على ما تأولت عليه فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزءٌ من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
رابعا: أفادت أيضا أن للمسلم أن يحذر المسلم ممن يخافه عليه ولو مسلما أو ابنا ولا يكون بذلك داخلا في إثم الغيبة، لأن يعقوب قد حذر ابنه يوسف من أولاده الآخرين من إن يقص رؤياه عليهم حتى لا يكيدوا له، كما أنه يستفاد ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:"اسْتعِينُوا عَلى إنجاحِ حَوَائِجِكُم بالكِتْمانِ فإِنَ كلَّ ذِى نِعْمةٍ مَحْسُودٌ".
5 -
لما سمع يعقوب من يوسف رؤياه، أدرك أَنها إِلهام من الله وبشرى بأن يوسف ينتظره مستقبل سعيد يجعله رئيسا كبيرا، وأن أسرته جميعا ستكون في جملة من يعظمه كما أدرك أن إخوته إن علموا برؤياه هذه يكيدون له يدبرون المكايد حسدا له، كما حدث من قابيل مع أَخيه هابيل، حيث قتله من أَجل امرأة، وأحدث بذلك أول جريمة بشرية على الأرض، ولهذا أَوصى أبنه يوسف قائلا: يابنى لا تخبر إِخوتك برؤياك التي تشير إلى رفعتك عليهم، فيحرضهم الشيطان عليك فيكيدوا لك كيدا شديدا، أن الشيطان للإنسان عدو بين العداوة، واضح الكراهية، حريص على إِشعال النار بين أفراده، أقارب كانوا أو أَباعد، تنفيذا لوعيده لآدم:
{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} .
6 -
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ
…
}:
المراد بالتشبيه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} بيان المماثلة بين الصورة المرئية في عالم المثال - وهى التي حدثت في المنام - وبين الذي سيقع في عالم الشهادة والواقع.
والمعنى: ومثل هذا الاجتباء والاصطفاء العظيم الذي شاهدته في عالم المثال والنوم، حيث بدا لك يا يوسف أنه تعالى سخر لك تلك النيرات العلوية فخضعت لك، مثل هذا الاجتباء وعلى سنته يسخر لك الله وجوه الناس ونواصيهم - ومنهم أَهلك - مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة، ويصطفيك ربك لجنابه على أشراف الخلائق وسراة الناس قاطبة. فيجعلك رسولًا وملكا على عرش مصر دون سواك، ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة والواقع، حسبما عاينته مناما من غير قصور.
{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} :
المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤى، فإن الرؤى أحاديث الملك إِن كانت صادقة واضحة، أو أحاديث النفس أو الشيطان إن كانت غير ذلك.
وكما بشر يعقوب ابنه يوسف عليهما السلام بأنه تعالى سيصطفيه للرسالة والملك، بشره أيضا بأنه سبحانه سيعلمه من تأويل الأحلام، مشيرا بذلك إلى السببيل الذي سيسلكه حتى يصل إلى العز الدنيوى المدخر له، فإنه وصل إليه عن طريق تعبير الرؤيا لصاحبي السجن، ثم رؤيا الملك، وهذا العز الذي سيؤول أَمر رؤياه إليه، هو بعض ما عبر عنه بإتمام النعمة في قوله تعالى:
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} :
فإنه شامل لعز النبوة والملك، والمراد من آل يعقوب بنوه، وحفدته، وإتمام النعمة بهذه الرؤيا على آل يعقوب لأنها مؤذنة بأنهم سيكونون كواكب يهتدى بأَنوارهم، حيث خرج من ذريتهم الأنبياءُ كما أَنهم سوف ينالون من عز يوسف وجاهه وماله حيث سجدوا له وخضعوا لسلطانه، وكل ذلك سيحدث ويتم به الله نعمته عليك يا يوسف وعلى آل يعقوب.
{كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} :
إِسحق جد يوسف الأَول وإبراهيم جده الثاني، وإطلاق لفظ الأب عليهما لغة وعرفا من شرعا لأَن الجد أب، وإتمام النعمة على إبراهيم باتخاذه خليلا وإنجائه من النار ومن ذبح ولده، وإتمامها على إِسحق بنبوته ونبوة ولده يعقوب، وجعل الأنبياءَ في ذرية ولده يعقوب. واعلم أَنه لا يجب في التشبيه أن يطابق المشبه المشبه به من كل وجه فيكفى فيه وجود بعض الصفات مشتركة بينهما.
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :
هذه الجملة مستأنفة لتحقيق مضمون الجمل المذكورة، أَي يفعل ما ذكر لأنه محيط العلم بكل شيء فيعلم من يستحق الاجتباء وما يتفرع عليه من النعم، حكيم فيما يقدره ويشاؤه، فيكون دائمًا موافقا للصواب مجانبًا للخطأ.
المفردات:
{عُصْبَةٌ} : أي جماعة، وتطلق لغة على الجماعة من الرجال عشرة صاعدًا، اطلق عليهم ذلك، لأَن الأمور تعصب بهم (1) أَي تشتد بهم وتقوى.
{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : خطأ بين واضح، وأصل الضلال البعد عن الطريق الموصل إلى الغاية.
(1) انظر البيضاوى.
التفسير
7 -
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} :
بينت الآيات السابقة أَن يوسف عليه السلام أَخبر أباه برؤياه وأن والده أولها برفعة شأنه في مستقبل حياته، فلهذا أَوصاه أَن لا يقص رؤياه على إِخوته فيكيدوا له كيدًا، لأن الشيطان للإنسان عدومبين، وجاءت هذه الآية وما بعدها إِلى آخر السورة لتحدثنا عن كيد إِخوته له، لما رأوه من حب أَبيه له أكثر من حبه لهم، ولتذكر لنا ما آل إليه أَمر يوسف من علو الشأن وسمو المنزلة تحقيقًا لرؤياه، وما تخلل ذلك من أَحداث عظام، وآيات تلك السورة مترابطة ترابطًا مسلسلا وثيقًا، انفردت به عما سواها من سائر السور، لأنها تضمنت قصة واحدة متتابعة الحلقات.
والمقصود من إخوة يوسف إما جميعهم، ويدخل فيهم شقيقه بنيامين الذي احتجزه يوسف في مقابل صواع الملك - كما سيأتي الحديث عن قصته وَإمَّا إخوته لأبيه الذين كادوا له فلم يفلحوا، ورفعه الله مكانًا عليا، وعلى أي الوجهين ففيهم جميعًا آيات للسائلين.
والمقصود من السائلين إما كل من سأل عن قصتهم وعرفها، وإِما المشركون واليهود خاصة، فقد سألوا الرسول عنها امتحانًا له، وإما الطالبون للآيات والعبر ليتعظوا بها، لصفاء نفوسهم، دون غيرهم.
وإِليك المعاني وفقا لهذه الاحتمالات كما يلي:
المعنى الأول: لقد كان في قصة يوسف وإخوته جميعًا علامات عظيمة الشأن على قدرة الله تعالى الباهرة لكل من سأل عن قصتهم وعرفها، فإنها تدل على أنه تعالى لا يصلح عمل المفسدين، وأنه وحده هو الذي ينجي من أحاطت به أَسباب التهلكة، ويرفع من يشاءُ ويعز من يشاءُ ويذل من يشاء، ويحقق الأمل بعد اليأس.
المعنى الثاني: لقد كان في قصة يوسف وإِخوته علامات واضحة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنها من المشركين واليهود، حيث أخبرهم بها على ما هي عليه من غير
سماع من أَحد ولا قراءة في كتب، وهذا قاطع بأن الذي نبأه بها هو العليم الحكيم، تأييدًا لرسالته ودليلا على صحتها.
المعنى الثالث: لقد كان في أحداث قصة يوسف وإخوته علامات واضحات لطالبى العبرة الذين يتعظون بآيات الله تعالى، فتخبت لها قلوبهم، وتنصرف بها إلى مرضاة الله نفوسهم، فهى تحرك القلوب الراكدة وتنبه النفوس النائمة، إلى أن الملك لله، لا يجري فيه حدث إلا بمشيئته، ولا يحيق المكر السيءُ إلا بأَهله، ولا يستطيع أحد أن يضع من رفعه الله، إلى غير ذلك من العظات.
8 -
اذكر أيها السائل عن قصتهم حين قال بعضهم لبعض: والله ليوسف وأخوه الشقيق (بنيامين) أحب إِلى أبينا منا مع أننا جماعة قوية يشتد بنا ساعده، فما باله يحبهما أكثر من حبه لنا، ويؤثر القلة على الكثرة؟ إن أبانا في ترجيحهما في المحبة علينا لفي بعد عن طريق العدل بين واضح، وخطأ في الرأى جلى بعد به عن الصواب، وفاتهم أن الفضل في الرجال ليس بالكثرة بل يسمو الروح، وصفاء النفس وغلبة الخير، وكل ذلك كان في يوسف وشقيقه بنيامين وقد اجتمع إِلى ذلك ما دلت عليه رؤيا يوسف عليه السلام من الجاه العظيم والعز الرفيع الذي ينتظره عند الله والناس، فكان ذلك كله باعثا على أن يؤثرهما يعقوب عليه السلام بمزيد من الحب، أكثر من بقية إخوتهما، فحقدوا عليهما وتآمروا على يوسف ليخلوا لهم وجه أبيهم حيث إِنهم يرونه السبب الأول في عدم اهتمامه بهم دون بنيامين، فلذا أفردوا يوسف بالتآمر على قتله، وذلك ما حكاه الله عنهم بقوله:
9 -
أي وقال بعضهم لبعض أيضًا: اقتلوا يوسف بأي وجه من وجوه القتل أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن بلادنا بحيث لا يستطيع الرجوع، فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثمه، فإن فعلتم واحدًا منهما.
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} : ويفرغ لكم فلا ينازعكم فيه أحد.
وخلو وجهه لهم كناية عن إقباله عليهم بوجهه وإيثارهم بحبه حيث لا ينازعهم في ذلك أحد.
{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} :
المراد من صلاحهم صلاح أمرهم مع أبيهم، وانتظام شئون دنياهم.
والمعنى: اقتلوا يوسف أَو ابعدوه عن أرضنا بحيث لا يستطيع الرجوع إليها، يفرغ لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعد التخلص منه قومًا صالحين مع أبيكم، بأن يكون اكثر حبّا لكم وإقبالًا عليكم، وأن تنتظم معه شئون دنياكم فيكثر من بركم وإِغداق الخير عليكم، بعد يأسه من عودة يوسف، وخفاءَ أمره عليه.
وفسر الكلبي صلاحهم بتوبتهم إلى الله تعالى مما فعلوه بيوسف، ويبعده أن المتآمر على قتل أخيه لا يعقل أنه يفكر حين تآمره في مرضاة الله كما أنه لا يظن أن مثل هؤلاء يفكرون في صلاح أمرهم بالتوبة إلى الله، وهم يعلمون أن شرائع الله تعالى أجمعت على الحكم الذي جاءَ في سورة النساء، بقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) فهو من الأَحكام التي لا تختلف فيها الشرائع، وقد نشأوا في بيت النبوة فلا يخفى هذا الحكم عليهم، فالصواب أن الصلاح الذي أرادوه هو صلاح دنياهم، وهو الذي دعاهم إلى التفكير في التخلص من يوسف، فهم طلاب دنيا وليسوا أهل تقوى.
{غَيَابَتِ الْجُبِّ} : الجب البئر قبل أن يبني محيطها، وأطلقه بعض اللغويين على البئر مطلقًا، وغيابة الجب: قاعه، وفسره الهروي بكهف أَو طَاق فيه فوق الماء، وأطلق عليه غيابة لأنه يغيب ما فيه عن العيون. {السَّيَّارَةِ}: الجماعة التي تسير.
(1) سورة النساء، الآية: 93
التفسير
10 -
لا يزال مجلس التآمر منعقدًا، ولكنه لم يخل من وجود داع من دواعي الخير في قلوب بعض الإِخوة، إذ أراد صرفهم عن الجريمة البشعة إلى ما يحقق غرضهم من الإبعاد، ولكنه يبقى على حياة أخ صغير لا حول له ولا قوة ولابد أن الجب الذي اقترح إلقاء أخيه.
فيه كان معروفًا لهم وكان ضحل الماء حيث يبقى على حياة أخيه يوسف حتى يلتقطه بعض السيارة، فلذا قال لهم: ألقوه في غيابة الجب ولم يقل ألقوه في غيابة جب (1).
ويلاحظ أن ما قاله الهروى من أن غيابة الجب كهف فيه لا يناسب هنا، فإن إِلقاءه من أعلى الجب يوصله إلى قاعه لا إِلى كهف فيه فوق الماء كما قال، وخاض بعض المفسرين في تعيين صاحب هذا الاقتراح، فالسدى يقول هو (يهوذا) وقتادة وابن اسحاق يقولان هو رابيل، ومجاهد يقول هو شمعون، إلى غير ذلك ولم نجد سندًا لواحد من هؤلاه المفسرين، فلذا لا نستطيع تعيينه، وإنما لم يذكر واحد منهم باسمه في الآية سترًا على المسيء، وكل واحد منهم لم يخل من الإساءَة، ولكن مراتبها تتفاوت.
والمعنى: قال قائل منهم عز عليه قتل أخيه بلا ذنب جناه، لا تقتلوا يوسف قتلا مباشرًا - ولا تطرحوه في أرض يتعرض فيها للموت، ولكن ألقوه في قاع البئر المعررفة لنا بقلة مائها، فإِن فعلتم ذلك يلتقطه حيا بعض الجماعات السيارة في الصحراء حين يدلون بدلائهم فيها ليستقوا منها، فيتعلق بها فيبعدوه عن بلادنا إلى حيث يجد رزقه ويبقى حيا.
أي إن كنتم مصرين على إبعاده عن أَبيه ليخلو لكم وجهه، فاعملوا بمشورتي، ليتحقق لكم مرادكم، ويبقى أخونا حيا فلا نأثم بقتله.
(1) نقل القرطبي عن وهب بن منبه أن هذا الجب كان على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام والله أعلم.
المفردات:
{يَرْتَعْ} : أصل الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، وذكر الراكب أنه حقيقة في أكل البهائم. ويستعار للإنسان إِذا أَريد به الأكل الكثير اهـ.
والمراد به هنا نشاطه في الأكل المستتبع لحسن نموه، ولذا قرنوه باللعب، فإِنه يساعد على ذلك.
{لَيَحْزُنُنِي} : بفتح الياء وقرئ بضمها. وكلاهما بمعنى يجعلني حزينا.
التفسير
11 -
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} :
بعد أن وافق إِخوة يوسف على ما عرضه عليهم أحدهم بإلقاء يوسف في غيابة الجب - بعد أن وافقوه على ذلك أخذوا في أسباب تنفيذه، ومهدوا لذلك بطلبهم من أبيهم أَن يوافق على خروجه معهم، إذ قالوا له استدرارًا لعطفه، واستجلابًا لقبوله. وبثا الثقة في قلبه: يا أَبانا أي شيء يجعلك لا تأمنا على أخينا يوسف وأنت أب لنا جميعًا ونحن إخوة شركاء في الانتساب إليك بالبنوة، وإنا جميعًا له لمخلصون نريد له الخير ونشفق عليه، يريدون بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم وتخوفه عليه
من كيدهم لما بدا له من حسدهم ليوسف. وتعبيرهم بقولهم لأبيهم: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} الآية تؤذن بأنهم طلبوا قبل ذلك من أَبيهم أَن يخرج يوسف معهم، فلم يوافق على ما طلبوه، فقالوا هذه العبارة متعجبين من رفضه لطلبهم، مع أَنه أبوهم جميعًا وهم جميعًا أبناؤه، وأنهم يريدون الخير ليوسف ويشفقون عليه، ويؤكدون ذلك بما تضمنته جملة:{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} من المؤكدات المختلفة (1)، ولم يتركوا أباهم يفكر فيما عرضوه عليه وأَشفقوا من أَن لا يجيبهم إلى ما طلبوه فلاحقوه بما يسد عليه باب الرفض، وذلك قولهم له فيما حكاه الله عنهم.
12 -
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} :
يريدون بذلك المقال أن يسدوا عليه باب التفكير في رفض طلبهم، حيث حددوا له فيه اليوم التالى لذهابه معهم، وطلبوا ذلك منه طلب الواثق من الإِجابة، وعَيَّنوا له الغرض الذي طلبوه من أجله، وهو إن يرتع ويلعب معهم، وكلاهما يحبه الأب لأطفاله، ويحبه الأطفال لأنفسهم وأكدوا أنهم جميعًا له حافظون.
والمعنى أرسل معنا يوسف في رحلة رياضية، يأكل ما يشتهى فيها، حيث يطيب الطعام في الرحلة، ويلعب ما يشاءُ من ألوان اللعب النافع لبدنه وروحه، كالاستباق والاصطياد وأَلعاب الفروسية، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وما نظن أنك تخيب رجاءَنا أَو تشك فينا بعد الذي شرحناه لك.
فلما انتهوا من التماسهم أجابهم أَبوهم بما حكاه الله بقوله سبحانه:
13 -
طوى يعقوب في نفسه ما يشعر به من كيدهم ليوسف، وقال معتذرا مشفقًا عليه: إني ليحزنني ويؤلمنى أن تذهبوا به ويكون بعيدًا عني لشدة شفقتي عليه، وقلة صبرى عنه، وأَخافُ أن يأكله الذئبُ، وأَنتم عنه غافلون.
(1) وهي "إن" و"اللام" في قوله: {لَنَاصِحُونَ} وتقديم لفظ "له" على {لَنَاصِحُونَ} وكون الجملة اسمية.
ولم يصرح لهم بما يراه من سبب غفلتهم حتى لا يتهمهم صراحة بالتقصير في شأنه، وقلة مبالاتهم به، بل تركهم يحملونه على نحو اشتغالهم عنه بما خرجوا من أجله، وهو الرتع واللعب، فأجابوه بما يفيد أَنهم لن يغفلوا عنه، ولن يشغلهم عن حفظه ما سيكونون فيه من الرتع واللعب، لكي يطمئن عليه ويرسله معهم، وقد حكى الله ذلك بقوله:
14 -
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} .
أي قالوا لأَبيهم ليطمئنوه على يوسف إن خرج معهم: والله لئن أكله الذئب وهو معنا في هذه الرحلة ونحن جماعة محيطون به يشد بعضنا بعضا، لئن أكله الذئب ونحن كذلك إنا حينئذ لخاسرون سمعتنا وكرامتنا بين قومنا، ونحن لا نقبل على أنفسنا هذا الهوان.
المفردات:
{أَجْمَعُوا} : أي عزموا - يقال: أجمع الأمر وعليه أي عزم فيه.
التفسير
15 -
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ
…
} الآية.
تقدم بيان أَن إخوة يوسف من أبيه تشاوروا فيما بينهم في الطريقة التي يتخلصون بها من يوسف عليه السلام، لأنه يستحوذ على معظم حب أَبيه يعقوب، وهم يريدونه لهما وحدهم، وأنهم لذلك طرحوا اقتراحين لاختيار أحدهما، (أَولهما) أَن يقتلوه قتلا مباشرا، (وثانيهما) أَن يلقوه في مكان بعيد يصعب عليه فيه العودة إلى أَبيه.
وذكرنا أن أحدهم نهاهم عن قتله، واقترح عليهم أن يلقوه في غيابة الجب، وأنهم وافقوا على اقتراحه هذا وأَخذوا في تنفيذه، فبدأوا يعتبون على أَبيهم أنه لا يأمنهم على يوسف مع أَنهم له ناصحون، وطلبوا منه أَن يرسله معهم إلى مراعيهم التي بها مواشيهم،
حيث يرتع ويلعب - أَي يتسع في الطعام فيأكل ما يشاءُ، ويلهو معهم، وتعهدوا بأنهم له حافظون، ولما أظهر لهم خوفه من إهمالهم له، حتى يأكله الذئب وهم عنه غافلون أَكدوا له أنهم سيحرسونه فهم عصبة وجماعة قوية، فلن يستطيع أن يأكله منهم، وأنه لو أكله منهم وهم كذلك خسروا سمعتهم وكرامتهم بين الناس، لأنهم لم يستطيعوا أَن يحفظوا أَخاهم وهم عصبة، فوافقهم على ذهابه معهم، بعد كل هذه التوكيدات منهم.
وقد بينت هذه الآية، أنهم نكثوا عدهم مع أبيهم وفيما يلى معناها:
فلما ذهب إخوة يوسف به من عند أَبيهم بعد ما زعموا له أنهم ليوسف ناصحون حافظون، وقد أَجمعوا في قرارة نفوسهم أن يلقوه في الجب الذي يجعله غائبا عن أَعين طالبيه - فلما ذهبوا به وهم على هذا الإِجماع. نفذوا ما أَجمعوا أمرهم عليه، وألقوه في غيابة الجب، وخانوا أَباهم ونكثوا معه عهدهم، وأوحى الله إلى يوسف عليه السلام، وهو في محنته هذه، تبشيرا له بما يؤول أمره أليه. وإِيناسا له وإزالة لوحشته، لتتخلصن مما أنت فيه يا يوسف من سوءِ الحال وضيق المجال، ولتخبرن إخوتك بما فعلوه بك، وهم لا يشعرون - وأنت تخبرهم - بأَنك أنت يوسف الذي القوه في غيابة الجب، لأنك تحدثهم وأنت في حال رفيعة المقدار جليلة الهيبة، حيث تكون على أريكة الملك وهم في ذلة الحاجة إليك، وذلك ما سيحكيه الله مجملا بقوله في هذه السورة {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} .
والمؤرخون يتحدثون عما فعله إخوته معه قبل إلقائه في الجب في شتم ولطم وضرب حتى أوشكوا أن يقتلوه، وأَن قلوبهم لم ترق لاستغاثته بكل واحد منهم وبكائه من شدة قسوتهم، بل نزعوا قميصه، ليلطخوه بالدم بعد عودتهم إلى أبيهم بلونه، وجعل يطلبه منهم ليتوارى به فلم يكترثوا بطلبه، ثم دلوه في البئر حتى بلغ نصفها فتركوه ليقع في البئر،
وأنهم كانوا يقولون له شامتين، ادع الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر التي سجدت لك لتؤنسك في قاع هذا البئر، إلى غير ذلك من التفاصيل البشعة.
وبما أن هذه التفاصيل لم نجد لها سندا، فلهذا لا نستطيع الجزم بها وإن كنا لا نستبعدها، فإِن من أرادوا قتله، لا يبعد عليهم أن يصنعوا ما هو دونه.
المفردات:
{عِشَاءً} : أول الظلام، وقيل من المغرب إلى ثلث الليل ويسمى العتمة.
{مَتَاعِنَا} : ما نتمتع به من الثياب والطعام ونحوهما.
{بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : بمصدق لنا فيما نقوله.
{سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} : أي سهلته لكم حتى ارتكبتموه.
التفسير
17،16 - {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}:
وبعد ما اقترفوا جريمتهم بإلقاء يوسف في غيابة البئر، جاءُوا أباهم ليلا يتصنعون البكاء، وشرحوا له سبب بكائهم قائلين:
يا أَبانا ذهبنا في مرتعنا الذي كنا نرتع فيه، ذهبنا نتسابق في العدو والرمي، وتركنا يوسف عند متاعنا وخصائصنا التي نتمتع بها من الثياب والأزواد وغيرهما حيث المكان أَمين في ظننا - فأكله الذئب فور تركنا يوسف، وقبل أن يمضي زمن يعتاد فيه التعهد والتفقد، فنحن لم نقصر بعدم وضعه في مكان أمين. ولم نغفل عن مراقبته، بل تركناه في مأمننا، ومجتمع أَمتعتنا التي نحرص عليها، وعلى مرأَى منا، وما فارقناه إلا زمنا يسيرًا، وبيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان.
ولما كانوا يعرفون أَن إفكهم هذا لا يصدقه أبوهم قالوا عقب ذلك:
{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} :
أي وما أنت بمصدق لنا فيما قلناه ولو كنا عندك صادقين (1) لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيىء الظن بنا، غير واثق بقولنا، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون كلامًا كثيرا في هذا اللقاء الذي حدث بينهم وبين أَبيهم، ومن ذلك أنه لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أَجرى في الغنم شيءٌ؟ قالوا: لا، قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ فلما جاءوه به ألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أَكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه، وقيل إِنهم لما قالوا له أَكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، وروى أن يهوذا لما رأى ذلك قال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أَبانا، فم يفق يعقوب إلا ببرد السَّحر، إِلى آخر ماقيل مما لم نجد له سندا، فلهذا لا نستطيع القطع به.
(1) قال العلامة أبو السعود في تعليقه على حرف (لو) في قولهم "ولو كنا صادقين" قال: وكلمة (لو) في أمثال هذه المواقع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم إثباتا ونفيا في جميع الأحوال، بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له، ليكون سواها أولى بالحكم وقد تقدم الكلام عل مثله في قوله تعالى في سورة البقرة:"أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" اهـ.
ويستفاد من الآية أَن بكاءَ المرء لا يدل على صدق مقاله، فما أكثر البكاء المصنوع، ويستفاد منها أيضًا أن الاستباق مشروع.
قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة على قدميه فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، فقال لها:"هذه بتلك".
وقد أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إِلا في الخف والحافر والنصل، قال الشافعى: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار اهـ.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبْقَ إلَّا في نَصْلِ أوْ خفٍّ أوْ حَافِر".
وقد زاد أبو البختَرِى القاضى كلمة "أو جناح" في روايته لهذا الحديث، يريد بزيادتها إرضاء الرشيد حيث كان يتسابق بالحمام فكشف الرشيد وضعه، وأَقصاه من مجلسه وامتنع العلماء من كتابة حديثه، ووصموه بالوضع وتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18 -
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ .. } :
أي وجاءُوا بعد إخبارهم أباهم بأكل الذئب ليوسف، جاءُوا بقميصه ملوَّثًا بدم مزور مكذوب في شأنه، حيث زعموا أنه دم يوسف أثناء افتراس الذئب له، يريدون أَن يجعلوه برهانًا على صدقهم فيما زعموه من أَكل الذئب له، ولكنه لم يقتنع بأَن هذا الذي فوق القميص دم ولده يوسف وقال:
{
…
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}:
أي ليس الأمر كما زعمتم من أكل الذئب له، بل سهلت لكم أنفسكم الكارهة له أمرًا منكرًا فظيعا نحوه لا يعلمه إلا الله فصبر منى جميل، لا تشوبه منى شكوى لغيره جل وعلا.
ولما كان الصبر الجميل الذي أَلزم نفسه به، لا يقوى عليه وهو رازح تحت خطبه الجسيم، فلهذا استعان عليه بربه قائلًا:
{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} :
أي والله هو المطلوب منه العون لى على احتمال ما تقولونه في شأن يوسف كذبًا.
واعلم أن الوصف في اللغة ذكر الشيء بنعته، وهو قد يكون صدقًا، وقد يكون كذبًا، والمراد به هنا الثاني، كما في قوله تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (1).
قال الآلوسي: بل قيل إن الصيغة غلبت في ذلك ونحن نقول: إن من هذا الاستعمال قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (2).
روى ابن عباس وغيره أن يعقوب عليه السلام لما تأمل القميص فلم يجد فيه خرقًا ولا أثرًا استدل بذلك على كذبهم وقال لهم: متى كان الذئب حكيمًا، يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟
وروى عنه أيضًا أنه قال: كان الدم دم سخلة (3)، وأن يعقوب لما نظر إلى القميص قال: كذبتم، لو كان الذئب أكله لخرق القميص.
المفردات:
{سَيَّارَةٌ} : جماعة تسير. {وَارِدَهُمْ} : الوارد، هو الذي يرد الماءَ ليستقي منه، والضمير في:{وَارِدَهُمْ} يعود على السيارة بحسب المعنى، أي وارد القوم الذين يسيرون، ولو رجع إلى السيارة بحسب اللفظ لقيل: واردها، وكلاهما جائز لغة.
(1) الصافات الآية: 180
(2)
النحل من الآية: 63
(3)
السخلة: ولد الشاة.
{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} : أي أَرسلها إِلى الجب ليملأها، وأما دلاها فمعناهُ جذبها ليخرجها. ذكره القاموس، وحكاه القرطبي عن الأصمعى وغيره.
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} : وأخفوه متاعًا للتجارة، وسمى مال التجارة بضاعة، لأنه بضعة من المال العام - أي قطعة منه.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} : أي باعوه بثمن مبخوس - أي منقوص من بخسه إِذا نقصه.
{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} : أي دراهم قليلة. ومن هذا المعنى قوله تعالى في شأن، قلة أَيام الصيام {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}: أَي من الذين لا يرغبون فيما بأَيديهم.
التفسير
19 -
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} :
أي وبعد إلقاء يوسف في البئر وعودة إخوته إلى أَبيهم جاءَت جماعة من المسافرين إلى مصر، ونزلوا قريبًا من هذه البئر التي القى فيها يوسف. فأَرسلوا الذي يرد الماءَ لهم عادة، ليستقي لهم من هذه البئر، فأرسل دلوه وأَنزلها في البئر ليملأها ماءً.
وأمسك بحبلها ليجذبها به، فتعلق يوسف بالحبل، فثقلت الدلو على الوارد، فأعانه على جذبها مساعدوه من الرفقة الذين جاءُوا معه ليستقوا لقومهم.
{قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} :
قال هذا الوارد الذي يستقي للجماعة السيارة مستبشرا فرحا، يا بشرى هذا غلام كأنه نادى البشرى، وقال لها أقبلي فهذا أَوانك ، حيث فاز بنعمة خرجت له فجأَة من حيث لا يحتسب.
وظاهر الآية أنه قال: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قبل أن يخرج يوسف من البئر وبعد إدلاء الدلو، ولعلها لما ثقلث عليه حين انتزاعه إياها، خاطبه يوسف مستنجدا به لينقذه بإِخراجه من غيابة الجب، ويشبه أَن يكون هذا هو المتبادر، وإن كان يجوز أن يكون هذا القول بعد إخراجه إِياه واطلاعه على حسنه والله تعالى أَعلم.
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} :
قلنا إِن واردهم الذي ذهب ليستقي لهم كان معه بعض الرفقاء ليعينوه في استخراج الماء وحمله إلى جماعتهم التي نزلت عن قرب من الجب، ويدل لذلك قوله تعالى:
{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} : بضمير الجماعة، كما تدل له طبيعة المهمة التي أرسل الوارد من أجلها، فإنها تقتضي أَن يقوم بها عدد منهم.
وبعد هذه المقدمة نقول: إن يوسف كان رائع الجمال، وقد جاءَ في حسنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج بصحيح مسلم، "فإِذَا أَنا بِيوسُفَ إذَا هُو قَدْ أعْطِىَ شَطْرَ الحُسْنِ"، فلما رآه وارد الماء ومرافقوه في هذا الجمال عديم المثال {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: أَي أخفوه متاعا للتجارة، أَي - أخفوه - عن باقى جماعتهم التى أَرسلتهم لاستقاء الماءِ والمراد أنهم أَخفوا أمره عنهم، فلم يقولوا لهم إنهم أخرجوه من الجب حتى لا يشاركوهم في ثمنه إِذا باعوه لتجار الرقيق بمصر، بل قالوا لهم ما يجعل الأمر فيه لهم، كقولهم: إن أصحاب الماءِ أَعطونا إياه لنبيعه لهم بمصر ونرد لهم الثمن، ونقل القرطبى عن ابن عباس أَنه قال: أَسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب وذلك أنهم جاءُوا فقالوا: بئسما صنعتم هذا عبد لنا أَبقَ، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء وإما أن نأخذك فنقتلك فقال: أَنا أقِرُّ لكم بالعبودية، فباعوه منهم وقيل غير ذلك - والله أعلم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} :
هذه الجملة وعيد لإِخوة يوسف على ما صنعوه بشأنه من تآمرهم على قتله، ثم إبداله بإلقائه في الجب، وتعريضة للعبودية.
20 -
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} :
كلمة (شرى) تستعمل تارة بمعنى اشترى وأخرى بمعنى باع، فهى تستعمل في الضدين
وهي هنا بمعنى باع، أي وباعوه بثمن قليل ناقص عن القيمة التي تؤدي لأمثاله من الرقيق، وكان البائعون فيه من الزاهدين الذين لا يرغبون في بقائه معهم، وسبب ذلك أنهم التقطوه، والملتقط للشىء متهاون فيه لكونه لقطة، ولخوفه أَن يظهر له مستحق فينتزعه منه، فلهذا باعوه بالوكس لأول مساوم ليتخلصوا منه.
قال العلامة أبو السعود: ويجوز أن يكون معنى "شروه" الخ اشتروه من إخوته - على ما حكى - وهم غير راغبين في شرائه خشية ذهاب ما لهم لما طنّ (1) في آذانهم من الإباق، أي لما سمعوه من إِخوته من أنه عبدهم هرب منهم، فهم لهذا تساهلوا في ثمنه، ليتعجلوا التخلص منه قبل أن يهرب منهم، كما هرب عن بائعيه الذين زعموا أنه عبدهم وأنهم مالكوه.
المفردات:
{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} : أكرمي موضع ثِوَائِهِ أي إقامته - من ثوى بالمكان - أي أقام به -.
{مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} : أي جعلنا له فيها مكانًا ثابتا.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} : أي غالب على الأمر الذي يشاؤه، فلا يستعصى عليه مراده، أو معناه غالب على أمر يوسف، فهو الذي يتولاه ويدبره ولا يكله إلى غيره.
(1) طن بالطاء أي تردد في آذانهم.
التفسير
21 -
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} :
وبعد أَن باعه الذين أخرجوه من البئر بثمن زهيد، قال الذي اشتراه منهم من أهل مصر لامرأَته: اجعلى محل ثوائه - أَي محل إقامته - كريمًا حسنًا مرضيًا، يريد من هذه العبارة تكليفها بإكرام يوسف على أَبلغ وجه، لأن إكرام محل إقامته بالعناية بشئونه، يستلزم إكرامه هو، فإن من قام بالعناية بمحل الضيف نظافة وفرشا، فإنما يفعل ذلك لأجل الضيف، فما ظنك بالعناية به هو شخصيًّا - فإنها تكون آكد وأعظم.
وهذا الذي اشتراه من أهل مصر هو عزيز مصر لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ
…
}.
قال الضحاك: العزيز: هو ملك مصر، وقال ابن عباس: هو وزيره قطفير.
{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} :
وقد أوصى العزيز الذي اشترى يوسف امرأته بالعناية به والاهتمام بشأنه كله، وقال لها عسى أن ينفعنا في قضاء مصالحنا إذا تدرَّب وعرف مجارى الأمور، أو نتخذه لنا ولدًا، فيكون شأنه منَّا شأن ولد الصلب، وإنما قال العزيز ذلك لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة.
أَخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه وجماعة عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "أفْرَسُ الناسِ ثَلَاثَة: العَزِيزُ حينَ تَفَرَّسَ في يُوسُفَ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وَبنْتُ شُعَيْبٍ حينَ قالتْ لأبِيهَا فِى موسى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وأَبو بَكْرٍ حِينَ استَخْلفَ عُمَرَ".
قال ابن العربى تعليقًا على هذا الخبر: عجبًا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر، وليس كذلك فما نقلوه، لأن الصّدِّيق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها والاطلاع على ما شاهده منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة، وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة - على ما يأتي بيانه في (القصص) وأما أَمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة، لأَنه لم تكن معه علامة ظاهرة .. اهـ (1).
وإنما قال العزيز: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لأنه كان حصورًا لا يولد له كما قال ابن العباس، وابن إسحاق.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} :
أي وكما أنقذناه من إِخوته ومن الجب، وجعلنا له مكانا عظيما في قلب العزيز الذي اشتراه، حتى أمر امرأته دون سواها من خاصته بإكرام مثواه، جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر، حيث عرف فيها بأخلاقه الرفيعة - إلى جانب ما أضفاه العزيز عليه من البنوة، وما أَعطاه الله إياه من الوجاهة - جعلنا له هذه المكانة في الأرض ليترتب عليها ما جرى بينه وبين امرأة العزيز قبل أن يسجن ولنعلمه بعض تأويل الأحلام، فتظهر براءَته مما نسبته امرأَة العزيز إليه، وليؤدى ذلك إلى المرتبة العليا، والرياسة العظمى كما سيأتي بيانه في رؤْيا السجينين ورؤيا ملك مصر، وكما يشير إليه قوله تعالى:
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} :
أي والله غالب على أي أَمر يريده، لا يحول أحد دون تحقيقه، فإنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، ويدخل في أمره تعالى شئون يوسف عليه السلام.
والضمير على هذا التأويل راجع في كلمة (أمره) إلى الله تعالى، وقيل: إنه عائد إلى يوسف، أي والله غَالب على أَمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أي الأمر كله لله تعالى، فيزعمون أن لهم من الأمر شيئا {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} .
(1) انظر الآلوسي في خبر ابن مسعود ص 185 ج 12 طبعة منير، والقرطبي ص 160 ج 9 طبعة دار الكتب في تعليق ابن العربي.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
المفردات:
{بَلَغَ أَشُدَّهُ} (1): استكمل قوته الجسدية والعقلية.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} : أعطيناه حكمة وفقها في الدين.
التفسير
22 -
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} :
علم من الآيات السابقة أن يوسف عليه السلام، كان في بيت عزيز مصر، يعامل معاملة كريمة، بوصية من العزيز، وأنه عومل هذه المعاملة رغبة في أن ينفعهم حينما يكتمل نموّه، أو أن يكون لهم ولدًا، لما كان يبدو عليه عن مخايل الرشد والنجابة وأنه تعالى مكن ليوسف في أَرض مصر بسبب ما فطر عليه من هبات الله التي حببته إلى أهلها وما أسبغه عليه العزيز من العناية في التربية، وقد جاءت هذه الآية لتبين لنا طرفا آخر من قصته، وذلك حين جاوز مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب وبلوغ الأشد، واختلف في المراد بالحكم والعلم في الآية، فمن قال: إنه أوتي النبوة صبيًا، وفسّر الآية بقوله: ولما بلغ أشده زدناه فهما وعلما، فوق النبوة وقد حمله على ذلك قوله تعالى في شأن يوسف قبل استخراجه من غيابة الجب:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .
(1) يرى سيبوبه أن أشد جمع، واحدة شدة، ويرى الكسائي أن مفرده شد، وقال أبو عبيد لا واحد له من لفظه.
فالإيحاء هنا على رأيه هو إنزال الملك إليه بالوحي. ومن قال إن الإيحاء حينئذ كان إلهاما أو نحوه، فسر الحكم بالنبوة، العلم بعلم الدين ، وإلى هذا ذهب ابن عباس حيث قال: الحكم النبوة، والعلم الشريعة.
ومنهم من فسر الحكم بالحكمة، وهي حبس النفس عن هواها، وصونها عما لا ينبغي، وفسر العلم بالعلم النظري ، ومنهم من فسر الحكمة والعلم بالحكم بين الناس وعلم مصالحهم وشئونهم ، فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز، أمره أن يحكم بينهم ، لما رأى من عقله وإصابته في الرأى. ويقتضيها هذا الخلاف، أن نفسر الآية الكريمة تفسيرًا يتفق مع ما سبق وما يليها، حيث يناسب المقام والمناخ الذي سيقت له، ولا يمنع من قبول أي رأي من هذه الآراء فنقول:
ولما بلغ يوسف منتهى قواه الجسدية والعقلية، وأصبح أهلا لتحمل أعباء الحياة والحكم بين الناس في قضاياهم المختلفة ، وتوجيههم إلى الخير والبر والهدى، آتيناه حكمة في القول، وإصابة في الحكم وعلمًا غزيرًا، وبصرًا بالأمور، ومثل ذلك الجزاء الجميل، نجزي كل من يحسن في عمله.
المفردات:
{وَرَاوَدَتْهُ} : المراودة؛ الرفق في الطلب، يقال في الرجل راودها عن نفسها، وفي المرأة، راودته عن نفسه.
{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} : أحكمت إِغلاقها. {هَيْتَ لَكَ} : هيت اسم فعل أمر بمعنى: أقبل وبادر، واللام في {لَكَ} للبيان - أن لك أقول هذا - كما في هلم لك، وقُرىءَ:{هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء بمعنى تهيأت لك، فهو فعل ماض وفاعله.
{مَعَاذَ اللَّهِ} : أستجير بالله وأعوذ به معاذا مما تدعيننى إليه.
{إِنَّهُ رَبِّي} : إنه سيدى الذي رباني.
{أَحْسَنَ مَثْوَايَ} : أحسن إكرامي في مثواى ومقامي عنده فلا أَخونه.
{هَمَّتْ بِهِ} : عزمت وأصرت على مخالطته.
{وَهَمَّ بِهَا} : شرع يدفعها عن نفسه.
{لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} : أي حجته التي منعته من الانتقام منها.
التفسير
23 -
تحدثت الآيات السابقة عن شراء عزيز مصر ليوسف. وأنه أمر زوجته دون سواها أن تكرمه وتعنى به لعله ينفعهم أَو يتخذونه ولدًا. وأنه بذلك وبما كان عليه من العقل والوجاهة وحسن المعاشرة مع الناس مكن الله له في الأرض، وأنه لما بلغ أشده آتاه الله الحكمة والعلم، فاكتمل شبابه بالقوة والحكمة والعلم إلى جانب ما هو عليه من الجمال حتى بلغ شطر الحسن كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكانت امرأة العزيز ترى هذا كله أمامها، وتشعر في نفسها أنه جدير بالإعجاب والحب، فأعجبت به وأحبته وراودته عن نفسه كما جاءَ في هذه الآية الكريمة، أي طلبت منه مخالطتها: وأصل المراودة الطلب برفق ولين. ومن هذه المادة يطلق الرائد على طالب الكلإِ والماء، وصيغة المفاعلة تقتضى حدوث القعل من الجانبين كقاتل وضارب وصارع وغالب، ولكنها قد تستعمل من جانب واحد كما في مطالبة الدائن ومماطلة المدين ومداواة الطبيب وغير ذلك، والمراودة هنا كذلك، فإنه. من زوجة العزيز ليوسف، أما هو فقد استعصم - كما سيأتي بيانه - وكما يشير إليه قوله تعالى:{عَنْ نَفْسِهِ} فإنه يشير إلى أَنها تخادعه وتريد أَن تجذب عنه مطلبها، قال الزمخشري: أي فعلت ما يفعله
المخادع لصاحبه عن الشىء الذي لا يريد أن يخرجه من يده: يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه - الخ اهـ.
والمعنى: واحتالت امرأَة العزيز التي هو في بيتها حيث موضع التكريم والعناية، احتالت عليه وطالبته برفق وخديعة، أن يمكِّنها من نفسه فيخالطها مخالطة الرجل للمرأة، وغلَّقت الأبواب التي توصل إليهما وأحكمت إغلاقها، وقالت هيت لك (1) - أي أسرع (2) والطلب موجه لك - فكأنها تقول إرادتي كائنة لك.
وقد وقعت هذه المراودة من نفس يوسف موقع الإِباء والرفض حيث قال لها: {
…
مَعَاذَ اللَّهِ}:
أي أعوذ بالله تعالى معاذا مما تريدين مني فهو أَمر منكر هائل يستعاذ بالله للخلاص منه ومن سوء عاقبته، وعلل رفضه، لمطلبها بما عسى أَن يصرفها عنه، ويدعوها إلى مراجعة نفسها والإقلاع عن خيانتها لزوجها، مما سمعته منه من أنه لا يصح أن يخونه وقد أَحسن إليه وذلك قوله لها.
{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} : أي إن الأمر والشأن الخطير الذي يمنعني من إجابتك هو سيدي الذي رباني وأحسن تعهدى، حيث أمرك بإِكرامي فكيف أسىءُ إليه بخيانته في حرمه.
واختار أبو حيان إن الضمير لله تعالى، والمعنى على هذا إن الله تعالى خالقى أَحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي: فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة ثم أيد يوسف امتناعه عن تلبية مطلبها وعلله بعلة أخرى فقال:
{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : أَي إن الشأن في سنة الله في خلقه وعدالته هو أنه لا يفوز الظالمون في دنياهم وأخراهم، أما دنياهم فيعاقبون فيها بالعلل والأَسقام، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، وغير ذلك من الآفات وأما أخراهم فالجحيم والزمهرير، ومن فاتته عقوبة الدنيا، أدركته عقوبة الآخرة {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3).
(1) اللام في كلمة (لك) لتبيين من له الخطاب كما في (سقيا لك).
(2)
وقيل إنه اسم فعل ماضى معناه تهيأت لك، وبهذا التأويل وافقت قراءة مروية عن ابن عباس (هئت لك) بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وضم التاء.
(3)
سورة إبراهيم الآية: 42
24 -
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} :
حكت الآية السابقة موقف يوسف الحاسم أمام مراودة امرأَة العزيز له وطلبها مخالطته، وتهيئتها كل الأَسباب لاجتذاب ميله، وأولها تهيئة نفسها له ذاتا وثيابا وتغليقا للأبواب وآخرها دعوة رقيقة له بقولها تهيأت لك ولم أتهيأ لغيرك، ولا بد أن هذه الدعوة التي حكاها القرآن هي إجمال كريم لدعوة مختلفة الأساليب تجيدها المرأَة الوالهة، ويعف القرآن الكريم عن التصريح بها، وكان رد يوسف الحاسم عليها هو قوله لها:
{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :
ولقد ظن يوسف أن هذا الذي قاله لها سيجعلها ترجع عن موقفها الشائن نحو زوجها ونفسها ونحو ربيب نعمتهم ذى الأخلاق الفاضلة التي لا تسمح له بالخيانة لرب نعمته، ولكنها لم ترعو عن غبها وانتهت إلى موقف آخر يتسم بالعزم والإصرار على تنفيذ جريمتها وهو ما حكته هذه الآية من قوله تعالى:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} : ولكنه عليه السلام أصر على موقفه السلبى منها، وعزم على وضع حد لتشبثها. فمانعها وهمَّ بإيذائها، وفيما يلى معنى الآية على هذا التأويل الذي تطمئن له نفوسنا.
المعنى: ولقد همت امرأة العزيز بيوسف عليه السلام تجذبه إلى نفسها، وتوسعه لوما على موقفه منها مع أنها هي التي طلبته وراودته، وأَذلت له نفسها، وهو في نظرها عبد لها وهي سيدته، ولكنه همَّ بها يدفعها عن نفسه وكاد يضربها لمزيد إصرارها على مخالطتة، لولا إن رأَى في ضميره برهان ربه يصرفه عن ضربها، لأنها آوته وأَكرمته، ولأنه لو ضربها لادعت أنه راودها، ولما امتنعت من إجابته ضربها، لولا ذلك لضربها وانتقم منها لهذه الجريمة التي دبرتها له وهو منها برىء ومعصوم.
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} :
أي فعلنا مثل ذلك التثبيت بالبرهان مع يوسف عليه السلام لنصرف عنه السوء. وهو ضرب من أكرمته وآوته، ولنصرف عنه الفحشاء التي دعته إليها - وهى المخالطة - إنه من عبادنا الذين أَخلصناهم لنا وهم آباؤه الذين أخلصهم ونقَّاهم
من شوائب النقص، فقد قال الله تعالى فيهم {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} (1).
وفسرها بعض العلماء بقوله: ولقد همت به المرأَة ضربا - لأنه أذلها وحطَّم كبرياءها، وهم بها دفاعا عن نفسه. ولكن ما قلناه أولى، فإن حبها الشديد له وجذبها له من قميصه يمنع من أَنها تفكر في ضربه، ولهذا ترجح ما قلناه قبل ذلك، وقيل الهم منها عزم وإصرار على المعصية، ومنه مجرد خطور بالبال بمقتضى الطبيعة البشرية مع الاعتصام بالتقوى.
وسمى باسم الأول مشاكلة. ويدل لذلك أن الله تعالى مدحه بأنه من عباده المخلصين.
ولا يكون ذلك إلا مع سلامة الإرادة وقوة الوازع المتمثل في برهان ربه. وهذا ليس قادحا في العصمة. فإنه تعالى هو العاصم وقد عصمه ببرهانه، وهو الحجة التي أقامها الله في نفسه على التحريم حين المراودة منها له ولجاجتها عليه وقوة البرهان وسلطانه على إرادة الأنبياء ينتهيان دائما إلى العصمة من دواعى البشرية المحرمة، ولا شك أن الامتناع مع الخطور بالبال يدل على قوة الوازع وقوة الإرادة أكثر من الامتناع مع عدم وجوده - ومع جودة هذا الرأى فما قلناه أَولا هو أفضل الآراء. وهو ما وفقنا الله له. والله تعالى أعلم.
وقد ضربنا صفحا عما سطره بعض المفسرين من القصص الهابطة التي ذكرت في تفسير الآية. وينبو قلمنا عن تسطيرها.
(1) سورة ص، الآيات: 45 - 47
المفردات:
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي تسابقا إليه ، كل يريد أن يصل إِليه قبل الآخر: هي لتمنعه من الخروج وهو ليهرب منها.
{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} : أَي قطعت قميصه من خلفه، والقد: القطع. وأكثر ما يستعمل في القطع الطولى. أما القط فيستعمل في القطع العرضي
…
قاله القرطبى وغيره.
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} : ووجدا زوجها - عزيز مصر - عن الباب الذي تسابقا إِليه، وهو الباب الأخير الذي يؤدي إلى خارج ما غلقت أبوابه.
التفسير
25 -
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
…
}:
حكت الآيتان السابقتان الحب الشديد الذي أخرج امراة العزيز عن الوقار، وأَذلَّها حتَّى هبطت إلى أن تراود يوسف ربيب نعمتها عن نفسه، وتحكم إغلاق جميع الأَبواب حتى تستحكم خلوتها به، ولا ينغص عليها في مخالطتها له منغص، ودعته برفق إلى قضاء لبانتها من مخالطته إياها، وأنه أبي عليها هذه الجريمة التي تختان بها زوجها، وتحمله على أَن يشاركها في هذه الخيانة مع أَنه أحسن إيواءه وتربيته، كما حكت أنه عليه السلام،
استعاذ بالله ولجأ إِليه لكي ينقذه من هذا الإثم والظلم المبين، وأَنها قابلت هذا الامتناع الحازم من يوسف بمزيد من الهمة والإصرار وتحريضه على مخالفتها بمختلف الوسائل، من جذب ولوم وأسى وغير ذلك، وأنه لم يجد بدًّا من أن يهم بضربها لتكف عن غيها، ثم تراجع عما همّ به من إيذائها حين رأى في قرارة نفسه وبإلهام من ربه، رأى حجة الله وبرهانه على أن إِيذاءها وهو يمنعها عن نفسه، سوف تتخذه دليلا في أَنه هو الذي طلب مضاجعتها، فلما أبت عليه ضربها وآذاها، فلهذا كف عنها.
وجاءت هذه الآية لتبين أن كليهما قد أسرع إِلى الباب، فأما يوسف فقد أسرع إليه ليتخلص من شَرَك هذه المرأة الوالهة وشرها، وأما هي فقد أسرعت لتمنعه من الهرب وتحمله على الاستسلام إليها، ولما سبقها هو إِلى الباب جذبت قميصه من خلفه جذبة قوية ترتب عليها قطع القميص من خلفه، حيث كانت تجذبه منه وعندما وصل الأمر بينهما إلى هذه الحال وجدا سيد المرأَة - أي زوجها - عند الباب. الذي أراد يوسف الخروج منه - وكان قد فتح - حتى أصبحا وجها لوجه أَمام العزيز لدي الباب، ولم تصرح الآية بمن فتحه، فهل فتحه العزيز لما وصل إليه خبر هذه الاحتياطات التي اتخذتها امرأته لمراودة يوسف، أو فتحه حين وصلت إِليه أصوات المشادة التي حصلت بينهما، أو أَن يوسف هو الذي سبق إليه وفتحه، وصادف مجىء العزيز حينئذ، وهذا هو الظاهر، لأن المرأة كانت قد غلقت الأبواب من الداخل فلا تفتح إِلا من الداخل، والمراد من الباب هنا الباب الأخير الموصل إِلى الخارج، وهو الذي رأَيا سيد المرأة عنده، أما الأبواب الأخرى التي غلقتها فلابد من أَن يوسف كان قد فتحها مسرعا قبل أَن يصل إلى هذا الباب الأخير الذي أدركته عنده وشقت قميصه وهى تجذبه إليها حتى لا يفلت منها بعد أن وصل إليه، ولما وجدت نفسها أَمام زوجها في هذه الحالة النكراء، برَّأت نفسها ومكرت بيوسف بأخبث أَسلوب، وذلك ما حكاه الله تعالى بقوله:
{
…
قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}:
أي قالت امرأَة العزيز لزوجها حين رآهما على هذه الحالة: ما جزاءُ هذا الذي دخل علي مخدعي وأراد سوءا بزوجك التي هي أهلك وعرضك الذي يهمك أَمره، ما جزاؤه سوى
أن يسجن ليمنع شره عن النساء، أَو عذاب شديد الإيلام، حتى لا يعاود مثل هذه الإرادة الرعناء.
بهذه الحيلة أَرادت أن تبعد التهمة عن نفسها وأن تهدد يوسف بمقدرتها على سجنه وتعذيبه طمعا في أَن يستجيب لها اضطرارا بعد أن فقدت الأمل في أن يستجيب لها اختيارا لكن يوسف لم يأبه لتهديدها - كما سيتضح بعد من قوله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} بعد قولها: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} وسيأتي بيان ذلك.
26 -
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
…
}:
أَي قال يوسف للعزيز دفاعا عن نفسه بعد أَن اتهمته زوجته بأنه أراد اغتصابها: قال يوسف لم يحدث مني شيء مما تقوله ولكن الذي حدث أنها هي التي راودتني على أن أنزل لها عن نفسي ولم أوافقها على ما طلبته منى. وبهذا حصل التعارض بين اتهامها ودفاعه، واحتاج الفصل في القضية إلى شاهد، وذلك هو ما قصه الله تعالى بقوله:
{
…
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}:
اختلف المفسرون في هذا الشاهد، فقيل: إنه طفل في المهد شهد بما فصله الله بعد، وكان من أهل امرأَة العزيز - قال السهيلى - وهو الصحيح - للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله:"لَمْ يَتَكَلَّمْ في الْمَهْدِ إلَّا ثَلَاثَةٌ" وذكر منهم شاهد يوسف.
وقال القشيرى أَبو نصر: قيل كان صبيًّا في المهد في الدار وهو ابن خالتها.
وقيل: هو رجل حكيم ذو عقل كان العزيز يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها، فقالا: قد سمعت الاستباق والجلبة وراءَ الباب وشق القميص، فلا يُدرَى أيكما قُدَّام صاحبه، فإِن كان شق القميص من قُدَّامِه فأنتِ صادقة، وإِن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إِلى القميص فاذا هو مشقوق هن خلف.
ونسب هذا القول إلى الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد والسدى.
قال السدى: كان ابن عمها، وروى عن ابن عباس وهو الصحيح في الباب والله أعلم اهـ. ذكره القرطبي.
وقال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره فجاء بهذه الدلالة، ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة، لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال بالعادة.
ونحن نرى أن الذي قاله أَبو جعفر النحاس هو الأجدر بالقبول فكلام الشاهد كلام رجل حكيم ذى بصر بالأمور، وليس في النص الكريم ما يدل على أنه طفل، بل يوجد في صحيح السنة ما يفيد حصر المتكلمين في المهد في ثلاثة، وليس فيهم شاهد يوسف، فقد جاء في الصحيحين عن أَبي هريرة رضى الله عنه. أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَم يَتكَلَّم فىِ المهدِ إلا ثَلَاثَة: عيسَى بنُ مَرْيمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْج، وَصَبيُّ كَانَ يَرْضَعُ مِنْ أمّهِ، فمَرَّ رَاكِبٌ كَاَن حَسَنَ الهَيْئَةِ، فَقَالَتْ أمه: اللهم اجْعَل ابْنىِ مِثْل هَذَا، فَتَرَكَ الصَّبىُّ الثدْىَ وَقَال: اللهُمَّ لَا تَجْعَلنى مِثْلَهُ".
وقد اعتبر الطيبي هذا الحديث يرد الحديث السابق المروى عن أحمد، انظر الآلوسي ج 12 والقرطبي ج 9 والله أعلم.
ويلاحظ أن هذا الكلام من القريب لا يعتبر شهادة، لأنه لم ير شيئا مما حدث، ولكنه لما كان يرشد إلى دليل الحكم، أطلق عليه شهادة مجازا، لأَنه يشبهها في التوصيل إلى الحكم الصحيح.
والمعنى: وأرشد مرشد حكيم من أهل امرأَة العزيز إِلى دليل الحكم، بعد ما علم باتهامها ليوسف، وبما قاله يوسف دفاعا عن نفسه، وقد اشتبه الأمر واحتاج إلى مرجح فقال: إن كان قميص يوسف شق من قدامه، فقد صدقت في دعواها أَنه أراد بها سوءا فهو قرينة على أنه بادرها بالاعتداء، فنازعته وأخذت بتلابيبه من قدامه، وجعلا يتصارعان وهي ممسكة
بتلابيبه فشق القميص في يدها من قدامه وهو يخلصه منها، وهو حينئذ من الكاذبين في دعواه أنها راودته عن نفسه فامتنع.
27 -
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :
أي وإِن كان قميصه شق من خلفه فقد كذبت في دعواها أنه هو الذي أَراد بها سوءا، وهو من الصادقين في قوله: أنها هي التي راودته عن نفسه، وأَنه أَسرع إلى الباب ليهرب منها، ووجه دلالة شقه من الخلف على صدقه، أنه يؤذن بأنها تبعته وجذبت ثوبه من الخلف لتمنعه من الهروب مما دعته إِليه.
قال القرطبي في المسألة الثالثة: في هذا الموضوع ما يفيد أنه الحكم بالأمارات عند فقد الشهود يؤخذ به في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت أَمتعة معهم فادَّعاها قوم وليست لهم بينة فإن الحاكم يننظر بعض الوقت، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال محمد في متاع البيت إِذا اختلف فيه الرجل والمرأة: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة وما كان للرجل والمرأَة فهو للرجل.
وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان العلامات في الحكومات أَي في القضايا التي لا شهود فيها، وأصل ذلك هذه الآية: اهـ
المفردات:
{مِنْ كَيْدِكُنَّ} : من احتيالكن ومكركن أيتها النساء.
{مِنَ الْخَاطِئِينَ} : من المذنبين المتعمدين: من خطىء المرءُ إذا تعمد الذنب، ومضارعه يخطَأُ بوزن يأثَم بفتح الثاء ومصدره الخطءُ بكسر الخاء بوزن الإثم.
التفسير
28 -
أي فلما رأي سيدها - أي زوجها - قميص يوسف شق من خلفه. قال لامرأته: إِن اتهام يوسف بأنه أراد بك سوءًا ناشيءٌ من كيدكن أيتها النسوة للرجال، فأنت التي راودتِهِ فم يفعل، وفرَّ منك فاجتذبتهِ إليكِ وأنتِ كاذبة في نسبة إرادة السوء إليه.
وقد أَصاب العزيز في الحكم بأن كيد النساء عظيم، لأنه أشد تأثيرًا في النفس ولأنه قد يورث من العار أشد مما يورثه كيد الرجال، ولتفرغهن لهذا الفن أكثر منهم، ولهذا كن أَعظم وسائل الشيطان في عصيان الله - تعالى - قال حكيم:"ما أَيس الشيطان من أَحد إلا أتاه من جهة النساء".
ولهذا قال بعض العلماء: أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان، فإنه - تعالى - يقول في حق الشيطان:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} وقال في حق النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} .
29 -
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} :
بعد ما ظهرت براءة يوسف، وكيد المرأَة، قال العزيز: يا يوسف أَعرض عن هذا الإثم ولا تلتفت إليه، ولا تتحدث عنه، حتى لا تفتضح امرأتي بين الناس، واستغفري أنتِ أَيتها المرأَة من ذنبك الذي صدر عنك في حقي وحق يوسف إنك كنت من صنف الخاطئين الآثمين المتعمدين اقتراف الذنب، ولم يحدث منك عفوا.
ويلاحظ أنه أمر امرأته بالاستغفار لذنبها، والاستغفار طلب الغفران، والتجاوز عن الذنب، وهذا يحتمل أَنه يريد أن تطلب منه الصفح والمغفرة لما بدا منها، أو أَن تطلب الغفران من الله - تعالى - إن كانوا يعتقدون أَن لهم إِلها أَكبر من آلهتهم التي يعبدونها، وأنهم يتقربون بعبادتهم إيَّاها إِليه كشأن عبدة الأوثان في كل مكان، ولعله يشير إلى ذلك قول يوسف:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .
المفردات:
{نِسْوَةٌ} : جماعة من النساء لا واحد له من لفظه.
{امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} : زوجته.
{تُرَاوِدُ فَتَاهَا} : تطالب فتاها بمضاجعتها وتخادعه عن نفسه.
{شَغَفَهَا حُبًّا} : شق حبه شغاف قلبها، والشغاف حجاب القلب - والمراد أن حبه تمكن من قلبها.
{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : بُعْد عن طريق الصواب والعفة بيِّن واضح.
{مُتَّكَأ} : ما يتكأ عليه من النمارق والوسائد.
{أَكْبَرْنَهُ} : أَعظمنه وتهيَّبنه.
{حَاشَ لِلَّهِ} : تنزيهًا له عن صفات العجز والنقص، والمراد التعجب من حسن يوسف.
التفسير
30 -
كان لمراودة امرأَة العزيز ليوسف عليه السلام دوى هائل بين القصور، فتناولتها الأَلسنة حتى قال نسوة من عقائل أَشراف المدينة - عجبًا من هذه المرأَة وانتقاصًا لها كيف تنزل امرأَة عزيز مصر - وهى في مكانها الرفيع - إلى هذا الحد الوضيع، فتراود فتاها عن نفسه وتطالب غلامها بمخالطتها، قد تمكن حبه من قلبها فملأه ولم يدع فيه مجالًا لسواه، حتى كاد ينفطر من شدة الحب.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
أَي إنا لنعلمها في بُعْدٍ واضح عن الصواب والعِفَّة والكرامة، حيث سمحت لنفسها بالهبوط إلى هذا الدرك الأسفل، بمراودتها لمملوك لها، وأَمرها نافذ فيه وكيف تجاوز حبها له أقصى الحدود، حيث مزقت ثيابه حينما حاول الإفلات منها، وكيف تفعل معه ذلك ولها زوج عظيم، هو عزيز مصر، إنها لخائنة ذليلة النفس.
31 -
أي فحينما بلغ هذه المرأَة ما قالته نسوة المدينة في شأن عشقها ليوسف أَرسلت إليهن تدعوهن إِلى ضيافتها، وهيأت لهن من النمارق والوسائد ما يتكئن عليه في أَثناء الطعام والشراب والحديث، وأَعطت كل واحدة منهن سكينًا لتقطع به ما يحتاج إِلى القطع من
الطعام كاللحم والفاكهة، وغرضها من ذلك ما سيقع من قطعهن لأيديهن من شدة انبهارهن من جماله - كما سيأتي بيانه، وسمى اغتيابهن لها مكرًا لكونه خفية منها كمكر الماكر - وإن كان ظاهرًا لغيرها، وكان المترفون في الزمان الخالى يجلسون للطعام على الوسائد والنمارق، فإذا انتهوا منه أتموا وقتهم في الحديث وهم على وسائدهم جالسون، ولا تزال هذه الطريقة متبعة في ولائم العرب ملوكًا ورعايا، وكذا في بلاد كثيرة.
وفسر بعضهم "المتكأ" بالطعام، أخذًا من قولهم اتكأنا عند فلان - أي طعمنا عنده - قال جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا
…
وشربنا الحلال من قُلَلِه
وقال مجاهد: {مُتَّكَأ} : أَي طعاما يُحزُّ حزًّا، كأن المعنى: يعتمد عليه بالسكين عند القطع لأن القاطع يتكْىءُ على المقطوع بالسكين.
{وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية.
كان الطعام بين أيدى هؤلاء النسوة المدعوات، وكن مشغولات به أَكلًا وتقطيعًا بالسكين، ولم يكن يوسف حاضرًا، فدعته قائلة: اخرج عليهن، تريد بذلك أَن يفاجئهن بجماله وهن ممسكات بالسكاكين، ولم يكن يدرى ماذا تخبئه له هذه المرأة الماكرة، فخرج عليهن فحينما رأَينه في جماله الفتَّان، وحسنه الرائق الفائق، عظمنه وتهيبن حسنه الرائع، وجرحن أَيديهن بما معهن من السكاكين، لفرط دهشتهن، وخروج الأمر عن منهاج الإرادة والاختيار، حتى لم يشعرن بما فعلن، {وَقُلْنَ}: تنزيهًا لله - تعالى - عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالى، {حَاشَ لِلَّهِ} وغرضهن من ذلك التعجب من قدرته - سبحانه - على خلقه، وقلن أيضًا:{مَا هَذَا} الذي نراه (بَشَرًا)، فما مثله في الناس أَحد، {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، يردن بهذه العبارة وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال، وهكذا جرت العادة في تشبيه كل متناهٍ في الحسن بالملك، كما جرت في تشبيه كل متناهٍ في القبح بالشيطان.
المفردات:
{لُمْتُنَّنِي فِيهِ} : عَيَّرتنَّنِى في الافتتان به. (رَاوَدتهُ عَن نفْسِهِ): أي طلبت مخالطته وخادعتُه عن نفسه ليحقق لى ما أرجوه من ذاته. {فَاسْتَعْصَمَ} : أَي امتنع طالبا للعصمة مما دعوتُه إليه، وبالغ في ذلك كما تدل عليه السين والتاءُ كما في استمسك واستجمع الرأى.
{مِنَ الصَّاغِرِينَ} : من الأذِلَاّء. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} : استجب إِلى هواهن.
{مِنَ الْجَاهِلِينَ} : أَي من أَهل الجهالة، والمراد منها هنا السفاهة وفقدان الحكمة والرشد.
{فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} : منع أثره عنه فلم يحقق لهن ما أردنه منه بما حصنه به من قوة الثبات على العفة.
التفسير
بعد أن تحقق لامرأة العزيز ما أرادت من اطِّلاع النسوة على جمال "يوسُف" عليه السلام وتأثرهن به أَكثر من تأَثرها به، حتى وصل أمر الدهشة بهن إِلى أن فقدن الِإرادة والاختيار، فجرحن أيديهن تجريحا من غير وعى، وكأَنهن كن يقطعن الطعام الذي بين أَيديهن، بعد أَن تحقق هذا كله، وجهت امرأة العزيز الخطاب إِلى أولئك النسوة، مبينة لهن أنها لم تكن مختارة فيما طلبته منه من المخالطة، لشدة سلطان
جماله عليها، وصرحت لهن بما كانت تنكره أمام زوجها عزيز مصر: فقالت إنها هي التي راودته عن نفسه فامتنع، وذلك ما قصه الله - تعالى - بقوله:
32 -
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} :
وكلمة {فَذَلِكُنَّ} : فيها إِشارة (بذا) إِلى يوسف، وخطاب بحرف (كن) إلى النسوة.
والمعنى: قالت امرأَة العزيز للنسوة اللاتى دعتهن لطعامها بعد أَن فتنهن جمال يوسف: فذلك الذي فتنتن به وقطعتن أَيديكن من أجله وقلتن إنه يشبه في الحسن والجمال الملك الكريم، هو يوسف الذي وجهتن إلىَّ الملام بسببه وقلتن عنى:{امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} : وقد ملأ حبُّه قلبها، ونحن نراها من أَجل ذلك في ضلال واضح، فلم يعد لَكنَّ بعد ذلك الذي حدث منكن بسبب جماله ما يدعوكن لملامى، وإنى أؤكد لكن بصراحة أننى أنا التي طلبته لمضاجعتى فامتنع وبذل أقصى الجهد في الإِباء والتحفظ الشديد - وبعد أن بسطت العذر لهن عما كان منها، هددته بأسلوب الملوك وأهل القهر في جملة من التأكيدات قائلة:
{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} :
أَي ولئن أصرَّ يُوسُف على إبائه ولم يفعل ما آمره به من المضاجعة، ليوضعن في السجن، وليكونن فيه من الأذلاء.
ومما سبق تعلم أن يوسف عليه السلام لم يتجه بشهوته البشرية نحوها، فقد ظل سنين عديدة تحت رعايتها وإكراها وبين يديها، ولم يتجه إليها بنظرة خبيثة ولا بعبارةٍ نابية، وذلك لكمال نفسه وطيب خلقه، وإعداد الله إياه للنبوة التي تنتظره وقد تأكدت هذه العصمة الربانية وتجلت بأَجلى مظاهرها، حين دعته إلى مخالطتها وبذلت له من أَساليب الإغراء ما بذلت، لترفع بذلك عن نفسه الخشية منها وتهيب مقامها وتدفعه إلى الرغبة فيها والاجتراء عليها بعد أن أذلت له أنوثتها، وأنه مع هذا الإغراء والتمكين التام، امتنع وأبى قائلا:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} فاستعاذ بالله ولجأ إليه ليعصمه منها، ويحميه من شباكها، وأَكد هذا الامتناع بأنه لا يخون
سيده الذي اشتراه ورباه وأَحسن مثواه ليثير بذلك وازع الأمانة في نفسها نحو زوجها، فلعله يستيقظ من سُباته فيكُفها عنه، ولكنها أصرت، فذهب إِلى الأبواب ليفتحها ويهرب منها، فهمت به تمنعه وتجذبه إليها، وهمَّ بها يدفعها عن نفسه ويحاول أن يضربها لولا أن راى في نفسه حُجة ربّه وإلهامه إياه أَنه لو ضربها لاستخدمت هذا الضرب حجة لها على أنه هو الذي راودها عن نفسها، ولما امتنعت ضربها، فكف عن ضربها، وتمت عصمة الله له، وعند الباب الخارجى بوغتا معا بالعزيز فتتهمه المرأة بأَنه أراد بها سوءًا، ويكذبها قميصه الذي قُدَّ من دُبُرٍ، ويقتنع العزيز ببراءَته ويوصيه بأن يعرض عن هذا الأمر فلا يذيعه في الناس، ولكن نساءَ القصور يجدن دائما من يتطوع بإِذاعة أَخبارهن، وهكذا كان الأمر بالنسبة لامرأة العزيز مع يوسف فلما تسرب أمرها مع يوسف إلى نساء الأمراء وعبن عليها ما فعلته مع غلامها الذي ترفع عليها وقاومها، أرادت أَن تقطع ألسنتهن عن غيبتها والتشهير بها، بإيقاعهن في شرك هواه والافتتان به مثلها، فأعدت لهن مأدبة يُستعمل في طعامها السكاكين، وبينما هن يأكلن والسكاكين في أيديهن يقطعن بها الطعام، أخرجت يوسف عليهن ففوجئن بجماله الفتان فجرحن أيديهن بالسكاكين من شدة الذهول الذي أَصابهن عن جماله وقلن إعجابا به:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} .
وكأنهن بهذه العبارة يقلن لها أنت معذورة فيما فعلت معه لروعة جماله وقوة تأثيره على النساء.
فلما ظفرت منهن بهذا الإِقرار الذي يحمل معه الاعتراف بأنها معذورة فيما صنعت، أجترأت على المصارحة بما لم تصرح به من قبل، فقالت:
{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} :
وبذلك التصريح كذبت نفسها فيما قالته لزوجها من أنه أراد بها سوءا، واعترفت بأنها هي التي راودته وأنه هو الذي امتنع أشد الامتناع وجاهد في سبيل التخلص منها
وزادت على ذلك أنها مصرة على تحقيق رغبتها فيه من المخالطة لا يصرفها عنها لوم العوازل، ولا إعراض الحبيب فقالت مهددة له:
{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} :
ليعلم يوسف أنها ليست في أمرها معه على خفية ولا خيفة من أحد، فتضيق عليه الحيل، ولكى ينصحه أولئك النسوة بموافقتها، وإزاء هذا كله ماذا صنع يوسف عليه السلام هذا ما يجيب عنه قوله تعالى:
33 -
أي قال يوسف بعد هذا التهديد والوعيد: يا رب دخول السجن آثر عندى وأَسهل وأهون من المخالطة التي يدعوننى إِليها، وإِلا تصرف عنى كيدهن بتثبيتى على ما أنا عليه من العصمة والعفة، وردعهن عنى، أُجبهن إلى ما طلبنه منى بمقتضى الطبيعة البشرية، وأكن بذلك من أهل الجهالة والسفه، الذين لا يعملون بما يعلمون، فإن من لم يعنه الله على العفة والحصانة، مع هذا الإغراء والقهر قد يخونه طبعه البشرى وجبلتُه، وتتحكم فيه قوته الشهوية، واعلم أَن السجن في ذاته ليس محبوبا، كما أن إجابتها إِلى ما طلبته كذلك، فهي والسجن شرَّان غير محبوبين له، ولكن أهونهما وأقربهما إِلى نفسه هو السجن، ليتخلص به من الفاحشة الكبرى فلذا عبر في جانبه بقوله:
{أَحَبُّ إِلَيَّ} : بمعنى أسهل عليَّ - على سبيل المجاز - وقد يقال إن أهون الشَّرين يحب أَحيانا، لأنه هو الوسيلة الوحيدة لتخليصه من شرٍّ أكبر وعلى أي حال فأفعل التفضيل على غير بابه.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنه لم يرد في النص الكريم أن النسوة المدعوات للمأدبة، دعونه إلى الاستجابة لامرأَة العزيز، ولا إِلى الفاحشة معهن، فلهذا يحمل قوله تعالى:{مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} على أنهن لما تأثرن بجماله إِلى درجه أنهن قطعن أَيدين دعونه إلى مطاوعتها، بل ربما طلبن منه مثلما طلبت منه، وقيل: إن ضمير جمع النسوة في قوله: {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
إِلخ راجع إلى امرأَة العزيز إِما للتعظيم لشأنها، وإِما للتعريض بدل التصريح ويرجح الرأى الأول قوله تعالى حكاية عن الملك:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} (1).
34 -
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :
أي فتفضل عليه ربه الذي يتولى تربيته وحمايته فاستجاب له دعاءه الذي تضمنه قوله:
{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} ولهذا ثبته وأيأسهن من موافقته لهن فصرف بذلك كيدهن عنه، إنه - تعالى - عظيم السمع والعلم فلا يخفى عليه حاله ولا حال غيره، وهكذا يستجيب الله سبحانه لأهل الصدق في دعائه والاستعاذة به من كل مكروه.
المفردات:
{بَدَا لَهُمْ} : ظهر للعزيز وأهل مشورته.
{الْآيَاتِ} : العلامات الدالة على براءَته.
{أَعْصِرُ خَمْرًا} : أي أعصر عنبًا، سمي باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود.
{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} : أخبرنا بمآل ما رأيناه في المنام.
التفسير
35 -
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} :
أي ثم ظهر للعزيز وأهل مشورته من بعد ما رأَوا العلامات الشاهدة ببراءة يوسف وانحراف امرأَته والعلامات الدالة على أَنها مصرة على مخالطته غير مكترثة بالفضيحة.
(1) من الآية، 51
بدا لهم من بعد ذلك أَن يسجنوا يوسف عليه السلام حتى زمن تنقطع فيه الإشاعة ويبدو للناس من سجنه أَنه هو الذي أرادها بسوء فلهذا عوقب، وليكون وجوده في السجن حائلا بينها وبينه حتى لا تعود إِلى مراودته.
تنبيه: لو أكره رجل على الزنى بالسجن فعليه الامتناع ولو سجن، فإن فعل فهو آثم بالإِجماع: انظر القرطبي في تفسير الآية.
36 -
يطلق الفتى على الشاب، من الفتاء وهو الشباب، ويطلق أيضًا على العبد صغيرًا كان أو كبيرًا كما قاله الماوردى.
وكان الفتيان اللذان دخلا السجن بصحبة يوسف عبدين للعزيز، أحدهما ساقيه، والآخر صاحب طعامه وقيل: خبازه، وروى بشأنهما روايات لا سند لها فلذا ضربنا صفحا عنها والمعنى: ودخل السجن مع يوسف فتيان من عبيد الملك ورأَى كل منهما في نومه حلمًا أَحس بحاجته إِلى تأويله لتستريح نفسه، فإن السجين كثير الخوف من المستقبل محتاج إِلى الطمأنينة وقد اعتاد البشر من قديم على الاستعانة بالأحلام للكشف بها عن المجهول، وإذا لم يستطع الحالم تأويل حلمه لجأ إلى من يحسنه ويشتهر بذلك، وكان يوسف عليه السلام يخبر السجناء ببعض الغيوب - كما سيأتي بيانه - فلهذا أخبراه بحلميهما، قال أَحدهما: إِني أَرى في منامي أنني أعصر عنبًا ليتحول إلى خمر بعد حينٍ، وقال الآخر: إني أرى في منامي أَننى أحمل فوق رأسى خبزًا تنقره الطير وتأكل منه، ثم قالا له بعد أَن عرضا عليه حلميهما.
{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :
أي أخبر كُلا منا بتأويل حلمه الذي عرضه عليك مفصلا: إِنا نراك من الذين يحسنون تفسير الأحلام، حيث إنك تعودت أَن نفسر للسجناء أحلامهم قبل أن نرى حلمنا.
وتأويل الإحسان بذلك هو الأقرب إلى المقام، حيث عرضا حلميهما عليه، لأنهما جربا خبرته مع غيرهم في تأويلها إِلى درجة الإحسان.
ومن المفسرين من حمله على إِحسان العلم، وبه قال الفراء، ومنهم من حمله على الإحسان في المعاملة وذلك لأنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويساعد المحتاجين ويواسي السجناء ويسري عنهم ويصبرهم.
وقيل: معناه من المحسنين إِلينا إن فسرته لنا وأرحت قلوبنا.
واختلف في رؤياهما فقيل إنها مصطنعة وليست حقيقية، فعن ابن مسعود: قال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرب هذا الفتى العبراني، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا، قاله ابن مسعود.
وقيل: إنها صحيحة وهو الظاهر، قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها، ولذلك صدق تأويلها.
التفسير
37 -
لما طلب السجينان من يوسف عليه السلام أن يعبر لهما حلميهما وقالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَخبرهما بما يحقق صحة ما اعتقداه فيه من أَنه ممن يحسنون تأويل الأحلام
تحدثا بنعمة الله عليه، وذلك أَنه قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما قبل حضوره إليكما بنوعه وأوصافه، فقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أَنه قبل حضور الطعام إليهما، يقول لهما: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كذلك بعد حضوره، وأطلق التأويل على ذلك تشبيها له بتأويل الرؤيا، فإنهما يشتركان في الإخبار بالغيب.
ولما آنس منهما الثقة به وحسن الظن فيه، حيث قالا له:{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَراد أن يفهمهما مصدر هذا الإحسان، ومنشأ هذا العلم الذي تجلى به واستحق به صفة الإحسان، فقال مخاطبًا إياهما مشيرًا إِلى ما عنده من العلم.
أي ذلكما الذي عرفته من تأويل الرؤيا والإخبار بالمغيبات، بعض ما علمنيه ربي بالوحي أو الإلهام من العلم، فلست أخبركما به تكهنًا فما أنا بكاهن، وقد علمنى ربي إِياها لأني تركت ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله على الوجه الذي يليق بجلاله، بل يشركون معه غيره، وهم بالآخرة هم كافرون، فلا يؤمنون بالبعث ولا بالنشور ولا بالثواب ولا بالعقاب، والمراد من تركه لملتهم أَنه لم يدخلها أصلا، ولهذا قال في الآية التالية -:"مَا كَانَ لَنَا أن نشرِكَ بِاللهِ مِن شَيء".
38 -
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} :
أي تركت ملة الوثنيين من قومي، حيث نشأت متبعا ملة آبائى الذين أرسلهم الله لهداية الخلق إِلى ملة التوحيد، وهم إِبراهيم ومن بعده ولده إسحق، ثم حفيده يعقوب والد يوسف عليهم السلام.
{مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} :
أي ما صح ولا استقام لنا معاشر الأنبياء، أن نشرك بالله أي شيء من الكائنات العاقلة وغيرها، فكلها مخلوقة لله وآيات شاهدات بوجود الله ووحدانيته، فلا يصح أن نعبدها مع الله.
{ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} :
أي ذلك المنهج الذي سلكناه في عقيدتنا ناشئ من فضل الله علينا، حيث أيدنا بالنبوة وجعلنا أهلا لتبليغ رسالته إلى الناس، وقيادتهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ومن فضله على الناس أيضا، حيث وفقنا لإِرشادهم إلى توحيده، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله بتوحيده وإجابة المرسلين إلى العمل بما جاءهم به، مع أَنه تعالى أقام الأدلة والآيات في الأنفس والآفاق على استحقاقه وحده للعبادة.
المفردات:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} : المراد بهما الفتيان اللذان دخلا معه السجن، ورأيا في منامهما الحلمين وعرضاهما عليه ليعبرهما لهما.
{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} : متعددون لا ارتباط ولا اتفاق بينهم.
{الْقَهَّارُ} : الغالب الذي لا يدانى في قهره ولا يعارض في مراده، ولا يستعصى عليه جبار ولا يفوته مطلوب. {مِنْ سُلْطَانٍ}: من حجة.
{أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} : أسماء اتخذتموها دون أن يكون لها مسميات على الحقيقة.
التفسير
39 -
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :
بين الله تعالى فيما سبق من الآيات أن يوسف لما دخل السجن صحبه فتيان وأَنهما رأيا حلمين، وطلبا من يوسف عليه السلام أن يعبرهما، وأَن يوسف قبل أن يعبرهما ذكر للسجينين المذكورين أنه اعتاد معهما أَن يخبرهما بالغيب قبل حدوثه، فكان لا يأتيهما طعام إِلا أَخبرهما بنوعه وحاله ووصفه قبل مجيئه، حتى إِذا جاءهما كان على وفق ما حدثهما به، ثم بين لهما أنَّ مصدر العلم بذلك هو الله ربه، فهو الذي علمه إياه، ولم يكن من باب الكهانة والتنجم، وأنه ترك ملة قومه المشركين، فلم يشاركهم في شركهم وكفرهم بالآخرة، واتبع ملة آبائه إِبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأَنه لا يصح له ولا لأحد أَن يشرك بالله شيئا، وأن معرفة البشر بوحدانيته تعالى من فضل الله عليهم.
وجاءت هذه الآية لإقامة الدليل لصاحبى السجن على فساد الشرك، وبيان أن الحكم في أمر العباد ليس إلا لله تعالى، وأنه جل وعلا أَمر أَن لا يعبد أحد سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لإِفسادهم فطرتهم وسوء اختيارهم، وأَنت ترى من عرض هذه المعانى لتلك الآيات، أَن يوسف عليه السلام لم يتعجل إجابة صاحبى السجن بتفسير حلميهما كما طلبا، بل بدأَ يمارس معها ما أعده الله له من النصح والإِرشاد لعباده، والهداية إلى توحيده وعبادته، كما هو شأن آبائه المرسلين عليهم السلام.
وكان يرجو بذلك أن يهديهما الله تعالى إلى الحق، فمن اهتدى منهما كان من أَهل النجاة والسعادة، ومن نجا منهما كان داعيا لمن حوله من بطانه العزيز إلى توحيد الله تعالى، وكأنه يقول لهما عندي العلم بتأويل رؤيا كما فأنتما تعلمان أَنه لا يأتيكما طعام إلا أَخبرتكما بتأويله قبل أن يحضر إليكما، ولكن تعالوا فاسمعوا أَولا ما يطهر عقيدتكما من الشرك، ويهديكما إلى معرفة الواحد الديان قبل أَن أعبر لكما رؤياكما، ثم قص عليهما مصدر علمه بالتأويل، وتحدث عن ملة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وأَنه لا يصح الإشراك بالله، لأنه لو تعددت الآلهة وتفرقت لفسدت السموات والأرض، وهذا المعنى الأخير هو الذي أشار إليه قوله تعالى حكاية عنه:
{يَا صَاحِبَيِ (1) السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :
والمراد بصاحبي السجن الفتيان اللذان دخلا السجن معاقبين معه: وناداهما بعنوان الصحبة له في السجن لأن السجن مدار الأشجان، ودار الأحزان، التي تصفو فيها مودة نزلاته فلهذا ناداهما بعنوان الصحبة له، ليقبلا عليه ويقبلا منه ما ينصحهما به.
والمعنى: يا رفيقي اللذين رافقاني وصحباني في السجن أخبرانى: أَأرباب شتى متفرقون لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، خير لهذا الكون، أم الله المنفرد بالألوهية والخلق والإيجاد.
الغالب لكل ما في السموات والأرض، فلا يتعاصى عليه مقدور فيهما، ولا يمتنع عليه أَن يخلق غيرهما، فكيف يعبد المشركون سواه، مع أنه مخلوق لله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
وبعد أن نبه يوسف صاحبي السجن إلى فساد تعدد الأرباب، بين لهما سقوط منزلتها وفقدان أهليتها للربوبية فقال لهما. كما يحكيه الله تعالى:
40 -
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} :
الخطاب في قوله {مَا تَعْبُدُونَ} لصاحبي السجن وقومهما، ولذا قال بعد ذلك {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} بخطاب الجماعة أو المراد بالجمع ما فوق الواحد: ثم عطف عليهم آباءَهم.
والمعنى: ما تعبدون يا قوم عزيز مصر إلا أسماء ليس لها مسميات في الحقيقة فكل ما عبدتموه وأطلقتم اسم الألوهية عليه لا يستحق الألوهية، وتكون عبادتكم لتلك التي زعمتموها آلهة، عبادة اسماء ليس لها مسميات في الواقع.
{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} :
أي ما أَنزل الله بألوهيتها من حجة تصحح ألوهيتها وتسوغ عبادتها.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} : ما الحكم في الألوهية وغيرها إلا لله سبحانه، والله لم يحكم بها لأحد سواه، لأنه لا إله غيره، ولا يستحق الألوهية سواه فكل ما عداه عبده ومحتاج إِليه، فلهذا {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}: وعقب هذا بقوله {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
(1) أصله يا صاحبين لى في السجن فأضيف الصاحبان إلى السجن الذي هو ظرف لهما وموضع لصحبتهما، ومن هذا الاستعمال قول العربي: يا سارق الليلة أهل الدار: أي يا سارقا في هذه الليلة أهل الدار.
هكذا يحكي الله تعالى ما دار بين يوسف وصاحبيه في السجن وخلاصته: أنه أعلمهما أَن التي يعيدونها ويسمونها آلهة لا تصلح للألوهية، وأنها أسماءٌ بلا مسميات وألوهيتها دعوى بغير دليل، وأن المستحق للألوهية هو الله وحده، ولهذا لم يحكم بها لسواه، بل أمر أن لا يعبدوا غيره، وأخبر أن ذلك هو الدين المستقيم الذي أجمعت على استقامته وصحته الأدلة النقلية والعقلية، ثم قال:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :
أي ولكن أكثرهم يجهلون أَن ذلك هو الدين المستقيم دون سواه، لأنهم لم يستعملوا عقولهم في الاستدلال على الحق سبحانه بآياته.
وبعد أن بين يوسف عليه السلام لصاحبي السجن أن عبادة الله تعالى هي الحق، وأنها خير لهما من عبادة الأَرباب المتفرقين الذين ليس لهم من صفة الألوهية أَدنى نصيب، وأن الحكم لله وحده في الكون كله، فلا ألوهية لأحد سواه، وأنه تعالى أمر أن لا يعبدوا إلا إياه، وأن هذا هو الدين القيم - بعد أن بين لصاحبي السجن كل ذلك - شرع يعبر لهما ما رأَياه في النوم ويفسره لهما فقال:
المفردات:
{فَيَسْقِي رَبَّهُ} : أي فيسقي سيده. {تَسْتَفْتِيَانِ} : تطلبان الفتيا.
{عِنْدَ رَبِّكَ} : عند سيدك. {بِضْعَ سِنِينَ} : البضع، العدد من الثلاث إلى التسع، واشتهر أن يوسف مكث في السجن سبع سنين.
التفسير
41 -
كرر يوسف النداء هنا لصاحبي السجن بعد أن أطال الحديث معهما في دعوتهما إلى الحق، تنبيها على أنه سيدخل بهما موضوعا آخر مغايرًا له، وهو تعبير حلميهما الذي طلباه، يقول يوسف: يا صاحبي في السجن، إِليكما تعبير رؤيا كليكما، أما أحدكما - وهو الذي رأى في منامه أنه يعصر خمرًا - فإنه يعود إلى خدمة سيده الملك بعد أن يعفو عنه ويخرج من السجن، وسيقوم على شرابه فيسقيه خمرا، وأما الآخر - وهو الذي رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل منه الطير - فإنه يصلب فتأكل الطير من رأسه، ثم أغلق الباب دون التساؤل أَو التضرر مما أفتاهما به فقال:
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} :
أي أتِمَّ الأمر الذي كنتما تستفتيان فيه وأحكم، ولم يعد فيه مجال للافتراض أو العدول عنه، فهو إِخبار موافق لما علمه ربه إياه وأرشده إليه، وليس فيه حدس ولا تخمين، والمراد بالأمر الذي فيه يستفتيان: ما رأياه من الرؤيين، وليس المراد مآلهما الذي هو نجاة أحدهما وهلاك الآخر - كما قال العلامة أبو السعود - فكأنه قال - عبرت لكما رؤييكما وأنا واثق من صدق تعبيرهما.
42 -
أي وقال يوسف للسجين الذي ظن نجاته من صاحبي السجن - وهو الذي رأى في منامه أنه يعصر لسيده الملك خمرًا - وأفتاه بأنه سيعود إِلى خدمته، قال يوسف لهذا السجين: اذكرني عند سيدك الملك حين تعود إلى خدمته، وحدثه عن تعبيري لرؤياك ورؤيا صاحبك حتى تحقق أمرهما على ما أخبرتكما، وأخبره أننى مظلوم حبست بلا ذنب، لعله يخرجني من السجن، ويمحو هذا الظلم عني.
وكان يوسف يرجو أن يسارع بإخبار الملك حين يعود إلى خدمته، وفاء بعهده معه، وإدراكًا منه لما يقاسيه السجين في السجن من العذاب النفسي، والحرمان من الحرية، فقد شاركه في ذلك. ولكن الشيطان الذي يكره الوفاء بالعهد أنساه تذكير سيده الملك بأمر يوسف، حيث شغل قلبه بما استجد له من نعمة الحرية والعودة إِلى العمل في قصر الملك. وشواغل الخدمة المتتابعة لسيده. فمكث يوسف في السجن بعد خروج صاحبه السجين بضع سنين - والبضع من الثلاث إلى التسع كما تقدم - ويقال إنه مكث في السجن سبع سنين.
وأعاد بعض المفسرين الضمير في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} إلى يوسف عليه السلام، أي فأنسى الشيطان يوسف - ذكر ربه سبحانه. فلجأ إلى صاحبه السجين وقال له: اذكرني عند ربك - أي سيدك الملك - فعاقبه الله بأن أبقاه في السجن بضع سنين، جزاء له على تركه الاعتماد على الله تعالى. والميل في طلب النجاة إلى عبد من عبيده. وكان عليه أن يشكو إلى الله ويستغيث به.
وأَصحاب هذا القول اعتمدوا على أحاديث واهنة لا يصح الأخذ بها. وما يظن أحد من المنصفين وأهل التحقيق أن يوسف ترك الشكوى إلى الله، وهو الذي استعاذ بالله من خيانة العزيز الذي أحسن مثواه. وعف عن الحرام والإثم الذي كانت تدفعه إليه زوجته الخاطئة بشتى المغريات، وهو الذي دعا السجينين إِلى توحيد الإله سبحانه وترك الأرباب المتفرقين، الذين هم أسماء بلا مسميات. والحق ما قلناه أولا من أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو ساقي الملك، والدليل الحاسم على ذلك هو قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} : أي وقال الذي نجا منهما وتذكر يوسف بعد مدة طويلة: إلخ، كما أنه لا مجال لأن يتسلط الشيطان على نبي فينسيه ذكر ربه وهو يقول سبحانه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (1) على أن الأخذ بالأسباب مشروع قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (2).
(1) الإسراء، من الآية: 65
(2)
الملك، من الآية: 15
المفردات:
{عِجَافٌ} : جمع عجفاء على غير قياس (1) والعجفاء الهزيلة. {الْمَلَأُ} : الأشراف والمراد بهم هنا الكهان والحكماء. {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} : فسروها لى وبينوا عاقبتها.
{أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} : أخلاط أحلام لا تؤول، والأضغاث جمع ضغث، يقال لكل مختلط من يقل أو حشيش أَو غيرهما، وقد استعير للرؤيا الغامضة لفظ الأضغاث، لأنها أخلاط من أَحاديث العقل الباطن وخيالاته ومخاوفه وآلامه وآماله.
التفسير
43 -
بعد أن عبر يوسف الرؤيين وتحقق تأويله لهما، حيث قتل الخباز وصلب، وأَخرج الساقي من السجن وأعيد إلى خدمة الملك، بقى يوسف في السجن، ونسى الساقي أمره، فساق الله سببا يخرج به يوسف من السجن عزيزا كريما، وذلك أن ملك مصر رأى في منامه رؤيا أَزعجته، فجمع كبار الكهنة والحكماء في مملكته وقال لهم مستحضرًا للصورة التي شاهدها في منامه: إِني أرى سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع بقرات في غاية الهزال، وأرى سبع سنبلات حضر قد امتلأت بالحب ولم تجف بعد ،
(1) القياس أن تجمع على عجف كحمراء وحمر.
وسبع سنبلات أُخر قد يبست وجف حبها ونضج، وبعد أن قص هذه الرؤيا على حكمائه ومستشاريه من الكهنة ناداهم قائلا:
{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} :
أي يأيها الرؤساءُ من الكهنة والحكماء فسروا لى رؤياى، وبينوا لى حكمها ومآلها، إن كنتم لجنس الرؤيا تعرفون تفسيرها، حتى تستطيعوا أن تنتقلوا من الصور الرمزية المشاهدة في المنام، إلى صور وأمثلة لها في حقائق الحياة، وعَبْرُ الرؤيا مأخوذ من العبور وهو المجاوزة، تقول عبرت النهر أي قطعته وجاوزته، وكذلك يفعل مفسر الرؤيا، فإنه يعبر بها من الخيال إِلى الحقيقة، أما تأويلها فمعناه بيان مآلها في ظاهر الحياة، وعبر الرؤيا وتعبيرها بمعنى واحد، غير أن الأول لغة القرآن، فهو أَولى من الثاني، وبعد أَن سأَلهم إفتاءه في رؤياه إن كانوا يستطيعون عبر الأحلام أظهروا عجزهم، وذلك ما يحكيه الله تعالى بقوله:
44 -
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} :
أي قال الملأ من الكهان والحكماء: هذه الرؤيا أخلاط أحلام كأضغاث النبات المختلطة، فلا تأويل لها عندنا، يريدون بذلك أن يخرجوا رؤيا الملك من جنس الرؤى الصادقة التي يمكن تأويلها لأهل العلم، وأن يجعلوها من جنس الأحلام الكاذبة، التي لا يستطاع تأويلها، ولهذا قالوا:{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ويجوز أَن يكون هذا القول منهم اعترافًا بقصور علمهم عن تأويل الأحلام مطلقًا لأنهم ليسوا بنحارير (1) - كما قال أَبو السعود - وإِطلاق الأحلام على الكاذب منها والرؤى على الصادق منها عرف غالب، وإِن كان كلاهما عامًا في الصادق والكاذب، ولهذا قالوا أخلاط أَحلام، يريدون أنها ليست من الأحلام الواضحة التي يمكن تأويلها ويصدق مدلولها وقد سوى صاحب القاموس بينهما بقوله: الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا.
(1) أي ليسوا علماء متعمقين في تأويل الأحلام مع أن لها تأويلا.
المفردات:
{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} : قرىء بضم همزة {أُمَّةٍ} وتشديد ميمها مفتوحة (1). أي وتذكر بعد جماعة كثيرة من الزمن، قال الأخفش: هو في اللفظ واحد. وفي المعنى جمع: أهـ، وكل جماعة كثيرة فهى أمة. {الصِّدِّيقُ}: الكثير الصدق.
التفسير
45 -
أى وبعد أن عرض الملك رؤياه على رهبانه وحكمائه، وعجزوا عن تأويلها قائلين {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} قال الذي نجا من صاحبي يوسف في السجن، والتحق بخدمة الملك ساقيًا له، وقد تذكر يوسف وقدرته العظيمة على تأويل الرؤيا، وأنه أوصاه أن يذكره عند سيده لعله يخرجه من السجن لأنه مظلوما {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} للملك وأهل مجلسه: أنا أخبركم بتأويل حلم الملك بعد أَن أعرفه من عليم بتأويل الأحلام فأرسلوني إليه لأسأله.
46 -
أي فأرسلوه إليه. فناداه نداء يشتمل على الثقة بصدقه العظيم في أمره كله، وبخاصة فى تأويل الرؤيا حسبما جربه منه وشاهد أحواله إذ قال له في براعة استهلال: يا يوسف
(1) وقرئ (بعد أمة) بكسر الهمزة وتشديد الميم، ومن معانيها. النعمة ورغادة العيش، وقرئ (بعد أمة) بهمزة مفتوحة. وميم مفتوحة مخففة وهاء مهملة. أي بعد نسيان. ومنه قول الشاعر:
أمهت وكنت لا أنسى حديثا
…
كذلك الدهر يودي بالعقول
أيها البليغ الصدق: أفتنا في رؤيا سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع بقرات شديدة الهزال وأفتنا في سبع سنبلات خضر مليئة بالحب وسبع سنبلات أخر يابسات ناضجات الحب، وبين لنا مآلها وحكمها في عالم الشهادة.
وإنما قال ليوسف {أَفْتِنَا} بضمير الجمع مع أنه وحده هو المستفتي، للإِشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له شأن في أمور الناس. وأنه في حكايتها سفير لغيره، ولهذا ختم استفتاءه بقوله:
{لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} :
أي لكي أرجع إلى من بيدهم الأمر ليعلموا تأويلها ويعملوا بمقتضاه، وليعلموا فضلك ومكانك العلمي العظيم مع ما أنت فيه من الحال، فينتبهوا إليك ويخلصوك مما أنت فيه.
ولم يقل: لأرجع إلى الناس ليعلموا، بل عبر بإسلوب الرجاءَ {لَعَلِّي أَرْجِعُ} الخ جريًا على نهج الأدب مع يوسف، واحترازًا عن المجازفة بأسلوب اليقين، لأنه لم يكن على يقين من رجوعه، فربما اخترمته المنية قبل أن يعود إلى مجلس الملك، كما أنه لم يكن على يقين من بقائهم حتى يعلمهم، فإن العالم بذلك كله هو الله - تعالى - وحده.
المفردات:
{دَأَبًا} : مصدر دأب في العمل - أي جَدَّ فيه. {سَبْعٌ شِدَادٌ} : سبع سنين صعاب على الناس. {مِمَّا تُحْصِنُونَ} : مما تدخرون من البذور {يُغَاثُ النَّاسُ} : من الغيث أي يمطرون في
وقت الحاجة، يقال غِيثَتْ البلاد إِدا مطرت في وقت الحاجة، ولذا يسمى المطر في هذه الحالة غيثا ويصح أَن يكون من الغوث، يقال أَغاثنا الله أَي أمدنا برفع المكاره حين داهمتنا.
التفسير
47 -
لما انتهى رسول الملك من إِخبار يوسف برؤيا الملك التي أزعجته، أول يوسف البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبات ذات زروع وثمار كثيرة، وأول البقرات العجاف والسنبلات اليابسات بسنين مجدبة تؤكل فيها حبوب جافة مخزونة في سنابل جافة، ووصف الطريقة التي يجتازون بها أزمة المجاعة في سبع سنين متتابعة، فقال لسائله بعد إحساسه وإدراكه أن السائل هو الملك: تزرعون الأرض سبع سنين دائبين جادين غير متوانين ولا كسلين، حتى تجود الأرض بأقصى خيراتها وأغزر ثمارها وحبها، فتلك السنوات السبع ذات الزروع والثمار الغزير هي تأويل البقرات السبع السمان والسنابل الخضر اليانعات، فما حصدتموه في كل سنة فاتركوه واختزنوه في سنابله ولا تجردوه لكي ينجو من أكل السوس، إِلا قليلا من حبها تعدونه للأكل كل عام فليس عليكم بأس من تجريده من سنابله.
فأنت تراه قد استدل على زراعة القمح سبع سنين دأبا بالسنبلات السبع الخضر فهي إشارة إِلى السنوات السبع الخصيبة، واستدل على تخزين القمح في سنابله سبع سنين بالسنبلات السبع اليابسات، واستدل على أن السنوات السبع الأخيرة ستكون جدباء وأنه يجب الاحتياط. لها بتخزين الطعام، استدل على ذلك بالبقرات السبع العجاف التي أَكلت البقرات السبع السمان كما سيأتى ببانه، ويبدو أن تخزين القمح في سنابله لمدة طويلة تصل إلى سبع سنين لم يكن معروفًا لدى قدماء المصريين، فقد كانوا يزرعون لكل عام ولا يحرمون من فيضان النيل سبع سنين متتابعة فلذا أرشدهم يوسف إِلى هذه الطريقة المثلى في التخزين لمدة طويلة، ولا عجب في أن يخبرهم بها
يوسف عليه السلام مع أنه لم يألف مثل ذلك، فقد علمه ربه علوما كثيرة، وحسبك دليلا على ذلك قوله لصاحبي السجن:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} .
وقد قال القرطبي تعليقًا على هذه الآية ما يلى:
هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأُمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة، ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إِلى السعادة الأخروية ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده من غير وجوب عليه الخ.
ثم شرع يوسف يبين بقية التأويل فقال:
48 -
أي ثم يأتي من بعد السنين الخضراء التي تجدون وتتعبون في الزرع فيها فتأكلون منه وتدخرون من حبه - يأتي من بعد ذلك - سبع سنين صعاب على الناس يأكلن ما قدمتم لهن من الحب المتروك في سنابله إِلا قليلا مما تدخرونه منها لبذور الزراعة، وإسناد الأكل إليهن مع أن الآكلين هم الناس، على سبيل المجاز كما في قولهم: نهاره صائم، وفي هذه الآية تأويل أكل البقرات السبع العجاف التي هي رمز للسنوات السبع الجدباء للبقرات السبع السمان التي هي رمز للسنوات السبع الخصبة.
49 -
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} :
أي ثم يأتي من بعد ما ذكر من السنين الخصيبة والجدباء عام فيه يمطر الناس بالغيث الذي كانوا محرومين من تتابعه وغزارته سبع سنين، وفيه يعصرون ما يقبل العصر من الثمار والحب وغيرهما، كالعنب والزيتون والسمسم والقصب. وقيل معنى يعصرون يحلبون الضروع.
المفردات:
{مَا بَالُ النِّسْوَةِ} : ما حالهن.
{مَا خَطْبُكُنَّ} : ما شأنكن، والخطب الأمر الذي يستحق أن يخاطب المرءُ فيه صاحبه.
{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} : تنزيها لله وتعجبًا من نزاهة يوسف.
{حَصْحَصَ الْحَقُّ} : وضح بعد خفاء، وأصله بمعنى تبينت حصة الحق من حصة الباطل.
{لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} : أي لا ينفذه ولا يوصله إلى غايته.
التفسير
50 -
بعد أن سمع رسول الملك من يوسف تأويل الرؤيا عاد وأخبره بما سمعه من يوسف، ويبدو أنه حدثه بعلمه وفضله وخلقه وأنه قد حبس ظلما سنين كثيرة، فعرف فضله على خاصته وكهَّانه وأدرك أَن حقه في الحرية والكرامة ينبغي أن يرد إليه.
وقال: ائتوني بيوسف، فلما جاءه الرسول يدعوه إلى لقاء الملك لم يشأ أن يجيبه إلى طلبه قبل أن تظهر براءته، بل قال له: ارجع إلى سيدك فاسأله ما حال النسوة الآتي قطعن أيديهن ودعونه إلى الفاحشة ، يريد بذلك أن يحقق الملك في شأنهن معه ليعل نزاهته مما نسبته إليه من مراودته إياهن.
وإِنما لم يتعرض يوسف لامرأة العزيز مع أنها أصل البلاء، محافظة على حقها، وتفاديًا لمكرها، وأما النسوة فقد كان يطمع في شهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، لذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدى، ولم يصرح بمراودتهن له وقولهن أطع مولاتك، واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله:
{إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} : مجاملة لهن. واحترازًا من خصومتهن له دفاعًا عن أنفسهن، إذا سمعن أنه ينسبهن إلى الفساد.
51 -
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} :
قال الملك لما جاء الرسول بطلب يوسف أن يحقق مع النسوة: ما شأنكن حين راودتن يوسف وخادعْتُنَّه عن نفسه بترغيبه في إِطاعة مولاته هل وجدتن فيه من سوء وريبة.
{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} .
أي قلن مجيبات للملك: {حَاشَ لِلَّهِ} أي تنزيها لله. يردن بذلك تبرئة يوسف والاعتراف بنظافته وعفته، ولذا عقبن هذه العبارة بما أردته منها وهو قولهن:
{مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} : مبالغة منهن في نزاهة يوسف عن جنس السوء. فضلا عن الفحشاء.
{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} : مقرة بالحق في مجلس التحقيق.
{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} : أي الآن في هذا المجلس تبين الحق ووضح بعد خفاء، أنا راودته عن نفْسِهِ.
{وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} : في تنزيه نفسه عن مراودته لى عن نفسي، وهكذا يحق الله - تعالى - الحق على روؤس الأشهاد، إظهارًا لكرامة الصادقين من عباده، وبذلك تحقق ليوسف ما أراده من ظهور براءته ونزاهته قبل خروجه من السجن في هذا المجلس الحافل،
حتى يطمئن الناس إلى طهره يقينًا، ولا سيما العزيز الذي رباه، ولذلك قال يوسف عقب ذلك.
52 -
أي ذلك الذي تقدم من البقاء في السجن حتى يسأل الملك النسوة ، وتظهر براءتي مما نسبته امرأَة العزيز إِليَّ، ليعلم العزيز قبل خروجي من السجن علمًا صادرًا عن اعتراف زوجته - ليعلم - أَنِّي لم أخنه بالغيب وراء الأبواب المغلقة والستور المرخاة، كما زعمت امرأَته، وليعلم أيضًا أَن الله تعالى لا يُنَفِّذ كيد الخائنين، ولا يوصله إلى السداد بل يبطله كما فعل بزوجته ولو كنت خائنا له فيها لفضحني ولم يهد كيدى كما فعل بها.
ويعلم مما تقدم من التأويل أَن هذه الآية حكاية لما قاله يوسف عليه السلام تبريرًا لإصراره على إِظهار براءته قبل خروجه من السجن، حتى لا يحمل خروجه قبل ذلك على أَنه من باب العفو عنه مكافأة له على تأويل رؤياه، ولعله قال مضمون هذه الآية:{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} الخ بعد أن عاد إليه رسول - الملك وأخبره بما جرى في مجلس التحقيق من ظهور براءته، وعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} .
حكاية لكلام يوسف بعد ما ظهرت براءته بإقرار النسوة أمام الملك وجلسائه.
وقيل إن الآيتين حكاية لكلام امرأة العزيز، ومعنى هذه الآية على أَنها حكاية لكلامها:
ذلك الذي قلته عن يوسف وهو غائب عن هذا المجلس وحبيس في السجن من أنني راودته عن نفسه، ليعلم أنَّ لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته عن هذا التحقيق، بل قلت الحق الذي أنكرته عبر هذه السنين، وليعلم أَن الله لا يهدى كيد الخائنين.
وسيأتي بيان قوله تعالى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} على الوجهين المذكورين.
واعلم أَن يوسف عليه السلام بلغ من النزاهة وكرم النفس مبلغا عظيمًا وحسبك أَنه لم يتعجل الخروج قبل أَن تظهر براءته علنية على هذا النحو المشرف، مع أنه
لبث في السجن سنين كثيرة قال ابن عطية تعليقا على ذلك: كان هذا الفعل من يوسف أناة وصبر ، وطلبًا لبراءة الساحة، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة فيقول الناس: هذا هو الذي راود امرأة مولاه ، وقد صفح عنه الملك، ويراه الناس أبدًا بتلك المنزلة، فأراد أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير، ويخرج بعد شرف البراءة ليحظى من الملك بالمرتبه السنية على طهر وكرامة، فلهذا قال للرسول: ارجع إلى ربك لينظر في أمرى: هل سجنت بحق أَو بظلم: اهـ ملخصا ولقد أَعظم النبي صلى الله عليه وسلم مكانته من الصبر والنزاهة وعزة النفس والكرامة فقال:
"إنَّ الكَرِيمَ ابْن الكرِيمِ ابن الْكرِيمِ ابْن الْكريم (1) يُوسُفُ بنُ يَعْقَوبَ بنِ إِسْحق ابنِ ابْراهيمِ قال - وَلوْ لبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ ثُم جاءَني الرّسولُ أجبتُ - ثم قرأ: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} .
الحديث: أخرجه الترمذي في صحيحه - والحديث مروى في الصحاح بعبارات متقاربة.
والنبي صلى الله عليه وسلم مع كونه يشير في الحديث إِلى مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، لكنه يوميء إِلى أنه بالغ في ذلك، وأنه كان الأحوط أن يخرج حتى لا يعدل الملك عن إخراجه لأنه لم يجب طلبه بالحضور إليه، ولأن هذه المرأة إن كانت زوجته أو زوجة وزيره فإن سؤال النسوة عنها سينتهى إِلى فضيحتها، فربما عدل عن سؤالهن لذلك، وآثر إبقاءه في السجن، لاشتراطه للخروج شرطًا يؤدى تحقيقه إلى هذه الفضيحة، فيظل مسجونًا ظلما.
وقال ابن عطية: فإن قيل: كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم يذهب بنفسه عن حالة مدح بها غيره، فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجهًا آخر له جهة من الجودة
(1) تكررت (ابن الكريم) ثلاث مرات.
يقول: لو كنت أنا لبادرت بالخروج ، ثم حاولت بيان عذري وبراءتي بعد ذلك، لأن هذه القصص والنوازل معرضة لأن يقتدي بها الناس إلى يوم القيامة، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور حتى لا تضيع فرصة الخروج من السجن في مثل ذلك ، وتنصرف نفس مخرجه عنه ، وإذا كان يوسف قد أمن ذلك بعلمه من الله ، فغيره من الناس لا يأمن ذلك فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ، وما فعله يوسف عليه السلام صبر وجلد: انتهى ملخصًا.