المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة - منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة

الأول، هكذا نحن عند الله!) انتهى (1).

فالخوف علينا أن نكون من جنس العبد الثاني، وياليتنا نسير بدرب العبد الثالث!، أما العبد الأول فلغته لا نعرفها فلا نخوض بالكلام في إرادته وطلبه، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!.

وحيث إن عمل العبد على حسب شاهده فسوف أكتب هنا‌

‌ شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة

مما يُبين ويُوضح معنى ما سبق إن شاء الله:

الشاهد الأول: قال ابن القيم رحمه الله: (فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلّة وفائها وكثرة جفائها وخِسَّة شركائها وسرعة انقضائها، ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بَدّعَتْ بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمَرَّ الشراب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً، سقتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها.

الشاهد الثاني: فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الدار الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار ومحطّ الرحال ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال

(1) مدارج السالكين، 2/ 349.

ص: 30

النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ ترجع)(1).

وقال بعض التابعين: " ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا ".

الشاهد الثالث: ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبُعْد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم.

فلما انتهوا إليها فُتِّحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} (2) فيراهم شاهد الإيمان وهم إليها يُدفعون، وأتى النداء من قِبَل رب العالمين {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} (3) ثم قيل لهم:{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ? أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ? اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم

(1) رواه مسلم برقم (2858) وأحمد برقم (18037) عن المستورد بن شداد – رضي الله عنه.

(2)

سورة الكهف، الآية:53.

(3)

سورة الصافات، الآية:24.

(4)

سورة الطور، الآيات 14 – 16.

ص: 31

يسحبون، وفي النار كالحطب يسجَرون {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (1) فبئس اللِّحَاف وبئس الفِرَاش، إنِ استغاثوا من شِدة العطش {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} (2) فإذا شربوا قطّع أمعاءهم في أجوافهم وصهر ما في بطونهم، شرابهم الحميم وطعامهم الزقوم {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ? وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (3).

فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر، وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهانَ عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه.

وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة وينضجها ثم يخرجها، فيجد القلب لذّة العافية وسرورها.

الشاهد الرابع: فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعَدّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما

(1) سورة الأعراف، من الآية:41.

(2)

سورة الكهف، من الآية:29.

(3)

سورة فاطر، الآية: 36 – 37.

ص: 32

وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور.

فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها تربتها المسك وحصباؤها الدّر وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور وألّذ من الزنجبيل، ونساؤها لوْ برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون وشرابهم عليه خمرة لا فيها غوْل ولا هم عنها ينزفون وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يُحبرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.

الشاهد الخامس: فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك

ص: 33

قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (1)، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) (2)، فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابِّها فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً) انتهى.

قد يظن القارئ أن هذا منتهى المسير، والحقيقة أننا إن انتهينا إلى هذا انتهينا إلى غاية جليلة عظيمة، فهذا المقام بالنسبة لعلمنا وزماننا وأحوالنا مَنْ يناله؟!، وإنما لم ينته المسير بَعْد، وما يأتي وهو الشاهد السادس هو الذي عليه مدار معاني هذا الكتاب لبيان خطأ التعلق الشديد بالحور العين وخشية الانقطاع أو ضعف التعلق بالمعبود الحق سبحانه، وإن كانت هذه المقامات لا تليق بنا ولا بزماننا وإنما نرجو رحمة الله وأن يتوب علينا وينجينا من النار، ونريد هنا بيان إخلاص التوحيد وتجريد المحبة وتصحيح العبودية، والتوفيق بيد الله، وَفضْلُه عظيمٌ يؤتيهِ مَنْ يَشاء، وقبل أن أنقل هنا الشاهد السادس من شواهد السائر إلى ربه عز وجل أسأل الله أن يغفر لي ولجميع المسلمين، ولا مانع وإن كنا لسنا بأهل أن يتجاوز كلامنا وصْف جهنم فهو نقل عن السلف والعلم شيء والحال شيء آخر، فلا يُحمّل الكاتب مالا يحتمل، وكما يقال:

(1) سورة يس، آية:57.

(2)

رواه ابن ماجه برقم (184) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

ص: 34

فالخوف أوْلى بالمسي

ءِ إذا تَألَّهَ والحَزَنْ

والْحُبُّ يَجْمُلُ بالتُّقا

ءِ وبالنَّقَاءِ مِنَ الدّرَنْ

الشاهد السادس: ثم قال ابن القيم - قدس الله روحه -: (هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد، ويغيب به العبد عنها كلها، وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزّه وسلطانه وقيوميته وعلوّه فوق عرشه، وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه.

فإذا شاهده شاهد بقلبه قيّوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته، آمرًا ناهياً مرسلاً رسله ومنزلاً كتبه، يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويحب ويكره، ويرحم إذا اسْتُرحم ويغفر إذا استُغفر، ويعطي إذا سُئل، ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا اسْتقيل، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء).

ثم قال: (ولوْ قُدِّر جمال الخلق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم بذلك الجمال، ثم نُسِب إلى جمال الرب تعالى لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس).

ثم قال: (فالسموات السبع في كَفِّه كخردلة في كف العبد، ولوْ أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل،

ص: 35

لوْ كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحَاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه (1).

فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تُعدم.

بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها!.

وَمَنْ هذا شاهده فله سلوك وسيْر خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أوْ معرفة مجملة.

فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه، له شأن وللناس شأن، هو في واد والناس في واد ..

خَلِيلَيَّ لَا وَاللهِ مَا أنا مِنكمَا

إذا عَلَمٌ مِن آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا (2)

قال الحسن البصري رحمه الله: (لوْ عَلِمَ العابدون أنهم لا يروْن ربهم يوم القيامة لذابتْ أنفسُهم!)(3)؛ وقال: (إن أحبّاء الله هم الذين ظفروا بطيب الحياة، وذاقوا لذة نعيمها بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم

(1) تقدم ذكرُ حديث السُّبحات، وتخريجه، وشرح معنى (السبحات) في ص (4 – 5).

(2)

مدارج السالكين، 3/ 250.

(3)

أخرجه اللالكائي في (اعتقاد أهل السنة) برقم (869)، وابن إسحاق في (التصديق بالنظر) برقم (2)، وأبو نعيم في الحلية 2/ 159؛ وأورده ابن رجب في شرح حديث لبيك ص (89)، وزاد عن الحسن قوله:(إذا تجلى سبحانه لأهل الجنة نسوا كل نعيم الجنة) ثم أورد كلامه.

ص: 36

وما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم، ولاسيما إذا خطر على بال أحدهم ذكر تكليمه وكشْف ستورِ الحُجُب عنه في المقام الأمين والسرور الدائم، وأراهم جلاله وأسمعهم لذيذ كلامه، وَرَدّ عليهم جواب ما ناجَوْه به أيام حياتهم إذْ قلوبهم به مشغوفة، وإذْ مودّتهم إليه معطوفة، وإذْ هم له مؤثرون، وإليه منقطعون.

فليبشر المصفّون له وُدّهُمْ بالمنظر العجيب بالحبيب، فواللهِ ما أراه يحلّ لعاقل ولا يجمل به أن يسْتَوْعبه حب أحد سوى حب الله عز وجل انتهى (1).

قال أبو تراب النخشبي:

لا تُخدعَنّ!، فللمُحِبِّ دَلَائلُ

ولَديْه مِنْ تُحفِ الحبيبِ وسائلُ

منها تنعّمُهُ بِمُرّ بَلَائِهِ

وسرُوره في كُلِّ مَا هُوَ فاعِلُ

فالمنعُ منه عَطِيَّة مَقبُولةٌ

والفقرُ إكرامٌ وبِرٌّ عاجلُ

وَمِن الدلائلِ أن يُرى مِنْ عَزْمِهِ

طَوْع الحبيبِ وإنْ ألَحَّ العاذِلُ

وَمِن الدلائلِ أن يُرى متبسِّماً

والقلبُ فيهِ مَنَ الحبيبِ بَلَابلُ

وَمِن الدلائلِ أن يُرى مُتفهِّماً

لِكلام من يُحظى لديْه السَّائلُ

وَمِن الدلائل أن يُرى متقشِّفاً

متحفِّظاً في كُلِّ مَا هُوَ قائِلُ (2) 2)

(1) أخرجه الأصبهاني في كتابه (العظمة) 1/ 261.

(2)

استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس، ص (41).

ص: 37

ومن أسمائه سبحانه (الودود)، قال ابن عباس – رضي الله عنهما:(الودود) الحبيب (1).

وقال ابن القيم رحمه الله: (الودّ أصفى الحب وألطفه)(2)، وقد قال تعالى عن أوليائه:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (4).

إن كثيراً من الناس لا يعرف من العبادة إلا الأعمال الظاهرة، أما حال القلب وعمله وحبه وشوْقه وتعلّقه فقد لا يبالي أن ينصرف لأي وِجْهةٍ ويسلك أيّ سبيل لِقصور فهمه ونقص علمه، ولذلك فإن فَهْم معنى التعبّد والعبادة يبين الأمر على جليَّته.

قال ابن القيم رحمه الله: (وأما التعبد فهو غاية الحب وغاية الذّل، يُقال: عَبَّدَه الحب - أي ذلّله -، وطريق مُعَبّدٌ بالأقدام - أي مُذلّل - وكذلك المحب قد ذلّله الحب وَوَطَّأه، ولا تصلح هذه المرتبة لأحد غير الله عز وجل.

ولا يغفر الله سبحانه لمن أشرك به في عبادته ويغفر ما دون ذلك لمن

(1) ذكره البخاري في صحيحه (4/ 1885) و (6/ 2698).

(2)

روضة المحبين، ص (47).

(3)

سورة المائدة، الآية:54.

(4)

سورة البقرة، الآية:222.

ص: 38

شاء، فمحبة العبودية هي أشرف أنواع المحبة، وهي خالص حق الله على عباده) انتهى (1).

ومن أعظم القواطع عن محبة الله وعبوديته العشق الذي قال فيه ابن القيم: (إنه شرك في المحبة وفراغ عن الله، وتمليك للقلب والروح والحب لغيره).

وقال – رحمه الله: (فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد، بل هو خمر الروح الذي يُسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه، والتلذذ بمناجاته، والأنس به؛ ويُوجب عبودية القلب لغيره، فإن قلب العاشق متعبّد لمعشوقه، بل العشق لُبّ العبودية، فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم) انتهى (2).

ولاشك أن التعلق بالدنيا والسُّفْلِيَّات وشِدَّة الرغبة فيها يُوثِق القلب ويقيّد الروح أنْ تصعد لمرادها الحق، فَتَجُول في العالَم السُّفلي المظلم الموحِش فلا تجد سوى الظلمة والوحشة، وتكون بذلك مُعذّبة بحسب قوة ذلك التعلق وضعفه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وكلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى، فلا يزال في عُلوِّ مادام كذلك، فإذا أذنب

(1) روضة المحبين، ص (52).

(2)

زاد المعاد، 3/ 154.

ص: 39

هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال في هبوط مادام كذلك) انتهى (1).

وعن عطاء بن يسار، قال: قال موسى صلى الله عليه وسلم: (ياربّ مَن أهْلُكَ الذين هم أهْلُكَ الذين تظلهم في ظِلِّ عَرْشِك؟!، فذكر صفاتهم ومنها: " ويَكْلَفُون (2) بُحُبِّي كما يكْلَف الصبيُّ بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلّت كما يغضب النِّمْرُ إذا حَرِب (3) ") انتهى (4).

لقد كان سلف هذه الأمة يتنافسون في هذا لكمال علمهم ومعرفتهم بمعبودهم الحق سبحانه، ومن هنا صاروا أولياء لله، ولذلك استحقوا أن يقول فيهم سبحانه كما في الحديث القدسي:(من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)(5)، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) الحديث (6).

(1) مجموع الفتاوى، 14/ 160.

(2)

الكَلَف هو: الولوع بالشيء مع شدة الحب له وشغل القلب به. أنظر لسان العرب لابن منظور 9/ 307.

(3)

معنى (إذا حَرِب): أيْ إذا حُورِش؛ وقد جاء التعليلُ بضرب الْمَثل بغضب النِّمْر في قوله تبارك وتعالى في الرواية الأخرى: ( .. والذي يغضب إذا انتُهكَت محارمي غضب النمْرِ لنفْسِه، فإنَّ النمرَ إذا غضب لم يُبالِ أقَلَّ الناسُ أم كَثُرُوا) أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (1839)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 1/ 13 عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل ربه عن أكرم خلقه عليه، فذكر ذلك.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد ص (75)، وابن أبي الدنيا في الأولياء برقم (37) عن عطاء بن يسار، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9520) عن مالك بن دينار، وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 222 وابن قدامة في (المتحابين في الله) برقم (37) عن زيد بن أسلم.

(5)

رواه الطبراني بهذا اللفظ في " المعجم الأوسط " برقم (609) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً.

(6)

رواه البخاري برقم (6137) عن أبي هريرة – رضي الله عنه.

ص: 40

وكما في كلام الله تعالى لموسى عليه السلام: (واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة) وهذا يوافق ما عندنا في الحديث المتقدم، وقد ذَكره الإمام أحمد من رواية وهب بن منبه في كلام الله لموسى في الطور لما أراد سبحانه إرساله إلى فرعون؛ وسوف أنقل هنا بعضه لما فيه من العِبر والآيات، ولِما فيه مما يُصدِّق ما عندنا، ولمناسبته لِحالنا وما يجري في زماننا.

قال سبحانه في كلامه لموسى في الطور: (إني قد أقمتك اليوم مقاماً لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك، أدْنيْتك وقربتك حتى سمعت كلامي، وكنت بأقرب الأمكنة مني، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإن معك يدي ونصري، وإني قد ألْبستك جُنَّة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بَطِر نعمتي وأمِنَ مكري، وغرّته الدنيا عني حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعُبِدَ من دوني، وزعم أنه لا يعرفني، وإني أُقسم بعزتي لوْلا العذر والحجة اللذان بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دَمّرته، وإن أمرت البحار غرّقته، ولكنه هان عليّ وسقط من عيني ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي وحُقّ لي .. إني أنا الغني لا غني غيري، فبلّغه رسالاتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي، وذكّره بأيامي، وحذّره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة

ص: 41

أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يَروعَنَّك ما ألْبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي، ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني.

قل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وأنه قد أمهلك أربعمائة سنة وفي كلها أنت مبارز لمحاربته، تَشبَّه وتَمَثَّل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء ويُنبت لك الأرض، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تُغلَب، ولوْ شاء أن يُعجل ذلك لك أوْ يسلبكه فعل، ولكنه ذو أناةٍ وحِلْمٍ عظيم.

وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان لجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَلَ له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا يعجبكما زينته ولا ما مُتِّع به ولا تمدان إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين وإني لوْ شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أُوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزْويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديماً ما خِرْتُ لهم (1) في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبلَه عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سلْوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرّة (2)؛ وما ذلك لِهَوَانِهم عَلَيّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفوراً، لم تكْلمْه الدنيا، ولم يُطْغِه الهوى.

(1) أي اخترت لهم.

(2)

مبارك العرة: أي مواضع الإبل الجُرْب. أنظر لسان العرب 4/ 585، وانظر النهاية لابن الأثير 1/ 121.

ص: 42

واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا فإنها زينة المتقين، عليهم منها لِباس يُعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود (1)، أولئك أوليائي حقاً، فإذا لَقيتَهم فاخفض لهم جناحك، وذلّل لهم قلبك ولسانك.

واعلم أن من أهان لي وَلياً أو أخافَه فقد بارزني بالمحاربة، وبدأني، وعَرَّض بنفسه ودعاني إليها، فأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي .. أيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟! .. أوَ يظُن الذي يُغازيني أن يُعجزني؟! .. أوَ يظُن الذي يبارزني أن يسبقني أوْ يفوتني؟!؛ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكِلُ نصرتهم إلى غيري

) إلى آخره (2).

(1) للفائدة فإن بعض الناس قد يظن أن البقعة السوداء التي تظهر على الجبهة هي السيماء المقصودة هنا وفي آية سورة الفتح، وقد يغتر بعض الناس بهذا حيث يظهر على جبهات بعض الضُّلال كالروافض وغيرهم وإنما المقصود بقوله تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} " سورة الفتح، من الآية: 29 " هو السمت الحسن – كما قال ابن عباس -، وساق ابن أبي حاتم بسنده عن منصور عن مجاهد أنه قال عن ذلك: هو الخشوع، قال منصور: فقلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني مَن هو أقسى قلباً من فرعون!. أنظر تفسير ابن كثير 4/ 205، وجاء عند الطبراني في المعجم الكبير برقم (6685) عن الجعيد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاءه الزبير بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وفي وجهه أثر السجود، فلما رآه قال: من هذا؟، قيل: الزبير، قال: لقد أفسد هذا وجهه!، أمَا واللهِ ما هي السيماء التي سماها الله، ولقد صليتُ على وجهي ثمانين سنة ما أثر السجود بين عيني)؛ ولذلك فإنه ليس بالضرورة أن يكون مَن تظهر على جبهته بقعة سوداء علامة على صلاحه وتقواه وأن ذلك هو السيماء المذكور، وإنما المراد هو ما تقدم من تفسير ذلك بالخشوع والسَّمْت الحسَن أو أن المراد هو حُسن الوجه.

والله تعالى أعلم.

(2)

أخرجه بتمامه الإمام أحمد في كتاب الزهد ص (63)؛ وأبو نعيم في حلية الأولياء 1/ 12.

ص: 43

والشاهد هنا عناية الله بأوليائه، وما بلغوا ذلك إلا بتجريد محبتهم لمعبودهم سبحانه، فهم كما قال ابن القيم – رحمه الله:(فالنفوس العليّة الزكيّة تعبده لأنه أهل أن يُعبد ويُجَلّ ويُحَبّ ويُعظّم، فهو لذاته مستحق للعبادة، ولا يكون العبد كأجير السوء إن أُعطي أُجرةً عَمِل، وإن لم يُعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة!) انتهى (1).

وذكر رحمه الله محبة خواص أولياء الله، وأنهم يريدون قربه، ووصولهم إليه، واشتغالهم به عما سواه والتنعم بحبه، ولذّة الشوق إلى لقائه.

وذكر أن هذا هو مطلوبهم الأعظم وأنه إذا انضاف إلى هذا المطلب الأعظم المقصود بالقصد الأول طلبهم لِثوابه المخلوق المنفصل فلا عِلّة في هذه العبودية.

وعلماء السلف رحمهم الله يُبيّنون التوحيد ليتجرّد ويتصفى من العِلل والشوائب.

ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتّان ما بينهما)(2).

وليس المراد مما تقدم عَيْب سؤال الله الجنة، وإنما العَيْب أن يكون مبلغ

(1) مدارج السالكين، 2/ 76.

(2)

المصدر السابق.

ص: 44

العلم ومنتهى الإرادةِ والطلبِ هو الجنة المخلوقة، والغيْبَة عن حقيقة التعَبُّدِ والتألّه، فالشأن كلّ الشأن في العلم بالله تعالى ومعرفته وحُبه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهَارُ الجنة)(1).

ولذلك قال ابن القيم في هذا الحديث: (ومعلوم أن هذا مسْكن خاصة الخاصة وسادات العارفين، فسؤالهم إياه ليس عِلّةً ولا قدحاً فيه)(2).

وقال رحمه الله عن الجنة:) (وقد حَضّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه وأمته فَوصفها وجلاّها لهم ليخطبوها وقال: " ألا مشمرٌ للجنة!، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها، هي وربِّ الكعبةِ نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصْر مَشِيد، ونهر مُطَّرِد، وفاكهة كثيرة نَضِيجَة، وزوجة حسناء جميلة، وحُلَل كثيرة في مقامٍ أبداً، في حَبْرة ونضْرَة، في دُورٍ عاليةٍ سليمةٍ بَهيةٍ "، فقال الصحابة: نحن المشمرون لها. فقال صلى الله عليه وسلم: " قولوا: إن شاء الله " (3).

إذاً ليس المراد الشَّطَح، وإنما المراد بيان حقيقة التوحيد والعبودية والفرقان

(1) رواه البخاري برقم (2637)، وأحمد برقم (8400) والترمذي برقم (2530) من حديث أبي هريرة.

(2)

مدارج السالكين، 1/ 480.

(3)

رواه ابن حبان في صحيحه برقم (7381)، وابن ماجه برقم (4332)، والطبراني في " المعجم الكبير " برقم (388)، كلهم عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – مرفوعاً، وزاد ابن حبان في روايته في آخر الحديث (ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الجهاد وحَضَّ عليه).

ص: 45

بين المخلوق مهما يكن حتى الحور العين وبين الخالق سبحانه المعبود الحق.

وحتى لا يكون التعبُّد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة بل يكون لِذات المعبود سبحانه.

ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (المحبة المقصورة على إحسان الربِّ على عبده هي محبة العوام لأن مَنْشأها من الأفعال لا من الصفات والجَمال، ولوْ قُطِع الإحسان عن هذه القلوب لتَغيّرتْ وذهبت محبتها أو ضعفت فإن باعِثها إنما هو الإحسان، ومَن وَدَّكَ لأمرٍ ولىّ عند انقضائه، فهو برؤية الإحسان مشغول، وبتوالي النعم عليه محمول) انتهى (1).

إن من الواجب علينا أن نتفقد أحوالَنا بِعِلْم لأن الفرق كبير بين فهمنا وفهوم سلف هذه الأمة.

ولتعلم حقيقة كلام ابن القيم الأخير في ذَمّ المحبة المقصورة على الإحسان فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلَّ علمه وحضر عذابه)(2).

وقال ابن أبي الحواري - رحمه الله تعالى -: سُئل أبو سليمان الداراني رحمه الله وأنا حاضِر: ما أقرب ما يُتقرب به إلى الله عز وجل؟!،

(1) طريق الهجرتين، ص (415).

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4468)، وابن السري في الزهد برقم (599)، وأبو بكر القرشي في الشكر برقم (92)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 210.

ص: 46

فبكى رحمه الله!، ثم قال:(مثلي يُسأل عن هذا؟!، أقرب ما يُتقرب به إليه أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو)(1).

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: (النُّسُك هو العناية بالسرائر وإخراج ما سِوى الله من القلب)(2).

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: (ما من ساعة إلَاّ واللهُ سبحانه يطّلع فيها على قلوبِ العبادِ فأيُّ قلبٍ رأى فيه غَيره سلّط عليه إبليس!) انتهى (3).

والكلام في هذا الكتاب مداره على المعرفة بالله وبحقه وألا يتداخل حقه سبحانه بحق المخلوق، ولذلك قال ابن القيم في قول أبي فراس الحمداني في شِعْره:

فليتكَ تحلُو والحياةُ مَرِيرةٌ

وليتكَ ترضَى والأنامُ غِضَابُ

وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ

وبيني وبينَ العالمينَ خَرَابُ

إذا صَحَّ منكَ الودُّ فالكلُّ هَيِّنٌ

وكُلُّ الذي فوقَ الترابِ ترابُ (4)

(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 257، ونسَبه العمادي الدمشقي في " الروضة الريا فيمن دفن بريا " ص (83) لمالك بن دينار، وأتبعه بقوله رحمه الله:(كل ما يشغلك عن الله تعالى من أهل أو مال أو ولد فهو عليك مشؤوم!).

(2)

ذم الهوى لا بن الجوزي ص (69)، وروضة المحبين لا بن القيم ص (439).

(3)

المصدر السابق.

(4)

ديوان أبي فراس الحمداني، ص (27).

ص: 47

قال – رحمه الله – عن هذه الأبيات: (أساء كل الإساءة في قوله إذْ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً) .. أيْ أن هذا لا يصلح إلا للهِ عز وجل.

وقد ذكر أهلُ العلمِ أنَّ مِنْ علامات العارفِ باللهِ أنه مستأنس بربه، مُسْتَوْحش ممن يقطعه عنه.

وأن المعرفة بالله تعالى على ثلاثة أركان: الهيْبة، والحياء، والأُنس.

وقالوا: (لكل شيء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله).

وقال يحيى بن معاذ – رحمه الله: (يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطَره من شيئين: بكاءٍ على نفسه، وثناءٍ على ربه).

قال ابن القيم: (وهذا من أحسن الكلام، فإنه يدل على معرفته بنفسه وعيوبه وآفاته، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله، فهو شديد الإزراء على نفسه لهج الثناء على ربه، ومَن عرف الله تعالى صفا له العيش، فطابت له الحياة، وهابَه كلُّ شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنِسَ بالله؛ ومَن عرف الله قرّتْ عينه بالله، وقرّت عينه بالموت، وقرّت به كل عين، ومَن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات؛ ومَن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه؛ ومَن ادّعى معرفة الله وهو راغب في غيره كذَّبَتْ رغبتُه معرفتَه، ومَن عرف الله أحبّه على قدر معرفته به وخافه ورجاه وتوكل عليه وأناب

ص: 48

إليه ولَهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستحيا منه وأجَلّه وعظّمه على قدر معرفته به؛ والمعرفة حياة القلب مع الله.

ومجالسة العارف تدعوك من سِتٍّ إلى سِتٍّ: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكِبر إلى التواضع، ومن سوء الطويّة إلى النصيحة) (1).

وقال بعض السلف: (مَن رَكَنَ إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رماداً تذروه الرياح، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب يُنتفع به، ومن ركن إلى الله أحرقه نور التوحيد فصار جوْهراً لا قيمة له! (2)(3)؛ فانظر كيف فَرَّقتْ المعرفة بالله بين الركون إليه والركون إلى الآخرة.

قال أبو زيد البحراني – رحمه الله: دخلت على عابد بالبحرين فإذا هو مكبوب على وجهه ويقول: (وعزتك يا حبيبي لقد أذاب قلبي الشوقُ إلى النظرِ إلى وجهك الكريم)، قال: فأبكاني واللهِ، فلم يلبث بعد ذلك إلا أياماً حتى مات - رحمه الله تعالى -؛ فرأتْ امرأةٌ من أهله كأنها دخلت الجنة وقد زُخرفتْ، فقالت: لِمن زُخرفت الجنة؟!؛ فقالوا: لولي من أولياء الرحمن قد مات البارحة؛ فقالت: فخرج وعلى يده كوب ياقوت، فلما

(1) أنظر مدارج السالكين، 3/ 345.

(2)

أي لا تُقدَّر قيمتُه بثمنٍ لعلوها على الأثمان.

(3)

جامع العلوم والحكم، ص (398).

ص: 49

رأيته بُهِتُّ – أيْ دُهِشْت -!، فقال:(لن تراعي!، إنما هي الجنة للمليك يُتحف بها من أحبَّ من عباده)، قالت: قلت بأبي أنتَ! .. بِمَ نِلْتَ هذه المنزلة من الله؟!، قال:(بمحبته وإيثار محابِّه عز َّوَجل).

قال أبو سليمان الداراني: (لوْ لم يكن لأهل المعرفة إلا هذه الآية الواحدة لاكْتفوا بها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1)(2).

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أي شيء أراد أهل المعرفة؟!، واللهِ ما أرادوا إلا ما سأل موسى عليه السلام (3)؛ يريد قوله:{قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (4).

وكان سعيد بن علقمة من نُسَّاكِ النخع وكانت أمه طائية؛ قالت: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامّة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: (اللهم همّك عطّل عليَّ الهموم وحال بيني وبين السُّهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب)، قالت:(ولربما ترنّم في السحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جُمع في ترنّمه تلك الساعة)(5).

(1) سورة القيامة، الآية: 22، 23.

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 294.

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 264.

(4)

سورة الأعراف، الآية:143.

(5)

أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل برقم (174)، وأبو بكر القرشي في الهم والحزن برقم (147).

ص: 50

وقال عبد العزيز بن محمد: رأيت فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: مَنْ يحضر مَنْ يحضر؟!؛ فأتيته، فقال لي: ما تريد؟!، فقلت: سمعتك تقول: مَنْ يحضر مَنْ يحضر؟!، فأتيتك أسألك عن معنى كلامك، فقال لي: أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأولياء، فأدْرِكْ فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه، قال: فأتيته فإذا الناس حوْله وهو يقول:

ما نالَ عَبْدٌ مِنَ الرحمنِ منْزِلَةً

أعلَى مِنَ الشوقِ إنَّ الشوقَ محمودُ!

قال: ثم سَلّم ونزل؛ فقلت لرجل إلى جنبي: مَنْ هذا؟!؛ فقال: أمَا تعرفه؟!؛ فقلت: لا؛ فقال: هذا داود الطائي؛ فعجبت في منامي منه؛ فقال: أتعجب مما رأيت!، واللهِ لَلَّذي لداود عند اللهِ أعظمُ من هذا وأكثر! (1).

ورأى إبراهيم بن أدهم في المنام كأنّ جبريل عليه السلام قد نزل إلى الأرض، فقال له إبراهيم: لِمَ نزلت إلى الأرض، قال: لأكتب المحبين. قال: مثل مَن؟! قال: مثل مالك بن دينار وثابت البناني وأيوب السخّتياني، وعَدَّ جماعات. قال إبراهيم: أنا منهم؟! قال: لا؛ فقلت: فإذا كتبتهم فاكتب تحتهم: محبٌ للمحبين. قال: فنزل الوحي: أكتبه أولهم! (2).

(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 7/ 360.

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، 12/ 34.

ص: 51

وقبل سنتين ونصف تقريباً حدثني أحد الإخوان في الله أن صاحباً له كان ممن مَنَّ الله عليه بمعرفته والشوق إليه والإقبال عليه، وكان كلما جلس في مجلس وسمع البعض يتكلمون فيه عن الحور العين والشوق إليهن قال لهم متعجباً: أفلا أدلكم على ما هو أعظم من الحور العين؟!، فيسألونه بتعجب عن ذلك وقد كانوا غافلين عنه!. فيقول لهم: إن رؤية الله تعالى والشوق إليه أعظم نعيماً من الحور العين والشوق إليهن!.

وفي حدود عام 1423هـ توفي ذلك الرجل الصالح، فرآه أحدُ أصحابه في المنام بعد أيام من وفاته فسأله: أين أنت الآن؟، فقال: أنا في الجنة بحمد الله؛ فقال له الرائي: هل تصف لنا الجنة وحورها الحسان؟. فقال له: ويحك!، أفَلَا تسألني عن رؤية الله تعالى!، ثم قال:(والله لقد أعطاني الله أن أرى وجهه الكريم متى ما أردتُّ!) انتهى.

فتأمل ذلك!، ولا عجب فقد جاء في حديث صهيب الرومي رضي الله عنه – الذي تقدم ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رؤية أهل الجنة لربهم - سبحانه وبحمده -:(فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ)(1)، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:(الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جداً بالنسبة إلى شوق المحبين لله تعالى، بل لا نسبة له إليه البتة!) انتهى (2).

(1) رواه مسلم برقم (181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه –.

(2)

مدارج السالكين، 3/ 57.

ص: 52

وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله: (رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منه ما نرجو) انتهى (1).

ولذلك فإن الملائكة عليهم السلام لا يأكلون ولا يشربون وليست لهم شهوة إلى النساء، ومع هذا فهم في نعيم لا يبلغه وصفنا من قربهم لربهم وحبهم له وشوقهم إليه!.

وبهذه المناسبة فقد أورد الإمام ابن رجب رحمه الله – أبياتاً رقيقة في محبة الله تعالى لأحد العارفين، يقول فيها (2):

هَنِيئاً لِمَنْ أضْحَى وَأنتَ حَبِيبُهُ

وَلَوْ أنَّ لَوْعات الغرَامِ تُذِيبُهُ

وَطُوبَى لِصَبٍّ أنتَ سَاكِن سِرِّهِ

وَلَوْ بَانَ عنهُ إلفُهُ وَحَبِيبُهُ

وَمَا ضَرَّ صَباً أن يَبِيتَ وَمَا لَهُ

نصِيبٌ مِنَ الدُّنيَا وأنتَ نَصِيبُهُ

فمَا ضرَّهُ في الناسِ مَن يَستغيبُهُ

وَيَا مَرَضاً فِي القلْبِ أنتَ طَبيبُهُ

إذا لَمْ تُجِبْهُ أنتَ مَنْ ذا يُجيبُهُ!.

.

وَمَنْ تكُ رَاضٍ عَنْهُ في طَيِّ غَيْبهِ

فَيَا عِلَّةً في الصَّدْرِ أنتَ شِفَاؤهَا

عُبَيْدُكَ فِي بَابِ الرَّجَا مُتَعَلِّقٌ

.

وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: حدثني سعيد الأفريقي، قال: (كنت ببيت المقدس مع أصحاب لي في المسجد، فإذا أنا بجارية عليها

(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول، 10/ 557.

(2)

استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس لابن رجب، ص (104).

ص: 53

درع شعر وخمار من صوف، فإذا هي تقول: إلهي وسيدي ما أضْيق الطريق على مَن لَمْ تكن دليله وأوْحش خلْوة من لم تكن أنيسه!. فقلت: يا جارية ما قطع الخلق عن الله عز وجل؟!، فقالت: حبُّ الدنيا إلاّ أن للهِ عز وجل عباداً أسقاهم من حُبِّه شربةً فَوَلَهَتْ قلوبهم فلم يُحبوا مع الله غيره) انتهى (1).

وقال ابن القيم رحمه الله: (وهل تعلّقت المحبة بموجود مُحْدَث إلا لِكمال في وجوده بالنسبة إلى غيره؟!، وهل ذلك الكمال إلا من آثار صُنع الله الذي أتقن كل شيء؟!، وهل الكمال كله إلا له؟!.

فكل مَن أحبّ شيئاً لِكمالِ ما يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله وأنه أوْلى بكمال الحب من كل شيء.

ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها!، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجَلّ الأشياء وأشرفها) (2).

إذاً لابد من العلم بصفات المعبود الحق سبحانه لأن المحبة تابعة للشعور، ولذلك فإن المنكِر لوجوده سبحانه لا يُشعر به، أما المسلم فيُشعر بوجوده بقدر علمه به سبحانه، والتفاوت بين المسلمين في ذلك كبير، والعمل الصالح المقبول يُقوّي الشعور جداً.

(1) صفة الصفوة لابن الجوزي، 4/ 252.

(2)

طريق الهجرتين، ص (472).

ص: 54

قال ذو النون المصري: (بينما أنا أسير على ساحل البحر إذْ بَصرتُ بجارية عليها أطمار شعر، وإذا هي ذابلة ناحلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول وإذا هي متصلة الأحزان بالأشجان، وعصفت الرياح وأنا واقف عندها فاضطربت الأمواج، فصرختْ ثم سقطتْ على الأرض.

فلما أفاقت نَحَبَتْ، ثم قالت: يا سيدي بِكَ تفرّد المتفردون في الخلوات، ولعظمتك سَبّحتْ الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قُدْسِك اصطفقت الأمواج المتلاطمات .. أنتَ الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار، والفَلَك الدّوْار، والبحر الزَّخّار، والقمر النوّار ..

يا مُؤنِسُ الأبْرَارِ فِي خَلَوَاتِهَا

يا خَيْر مَنْ حَطّتْ بِهِ النُّزَّالُ!

ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا!.

فبقيت أتعجب مما رأيت منها، فإذا بِنِسْوةٍ قد أقبلنَ عليهنَّ مدارع الشعر فاحتملنها فغيّبْنَهَا عني، فغسّلنها ثم أقبلن بها في أكفانها، فقلن لي: تقدم فصلِّ عليها، فتقدمت فصليت عليها، ثم احتملنها ومضيْن) انتهى (1)؛ والمراد هو الكلام على المعرفة بالله سبحانه وأنها هي التي تُوجب مع التوفيق صفاء المعاملة.

(1) صفة الصفوة، 4/ 374.

ص: 55

قال ابن القيم رحمه الله: (هذا الصِّدِّيق يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد!، وعمر يناشد حذيفة: هل أنا منهم؟!، والمخلِّط على بساط الأمن!.

يا من يستعظم أحوال القوم تنقل في المراقي تصل، مَن جمع بين العلم بالسنة ومتابعتها أَنْتَجَا لَهُ المعاني البديعة، فهي تنادي على رؤوس الأشهاد: وُلدتُ من نكاح لا من سفاح!، ومَن قرَن بين البدعة والهوى أنْتجا له ضروب الهذيان، فهي تنادي على رؤوس الأشهاد: أيها الفَطِن لا تغتر!.

تقف في صلاتك بجسدك وقد وجّهت وجهك إلى القبلة ووجهت قلبك إلى قِطْرٍ آخر!، ويْحك ما تصلح هذه الصلاة مهر الجنة فكيف تصلح ثمناً للمحبة؟!، إما أن تصلي صلاةً تليق بمعبودك وإما أن تتخذ معبوداً يليق بصلاتك.

استغث بمقلب القلوب يُعينك، فإن تأخرت الإجابة فابْعث رائد الانكسار خلفها تجده عند المنكسرة قلوبهم!.

اللطف مع الضعف أكثر، فتضاعف ما أمكنك.

لا تنس العناية بالسحرة جاءوا يحاربونه ويحاربون رسله وخُلَعُ الصُّلح قد فُصِّلت وتيجان الرضى قد وُضعِت.

ص: 56

لَمَّا غَلَبَت عليهم المحبةُ صُلبوا في جذوع النخل، واعجباً لِعَزَماتٍ ما ثناها {لأَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} (1) سَجَدوا له سجدةً واحدةً فمَا رفعوا رؤوسهم حتى رأوا منازلهم من الجنة!، فغلبهم الوجْدُ وتمكن منهم الشوق فقالوا:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (2):

تَمُرُّ الصَّبا صُبحاً بساكن ذي الغضا قريبةُ عَهْدٍ بالحبيب وإنما

ويُصدَع قلبي أن يَهب هبوبُها

هوى كلّ نفْس أينَ حَلّ حبيبُها

ضيف المحبة مالَه قِرى إلا المُهج، إذا رأيت محباً ولم تَدْرِ لمن حُبه، ضع يدك على نبْضه وسَمِّ له من تُطبِّه به فإن النبض ينزعج عند ذكره .. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3).

إحذر معاشرة البطَّالين فإن الطبعَ لِصّ .. لا تُصادقَنَّ فاسقاً ولا تَثِق إليه فإن مَن خان أوَّلَ مُنعمٍ عليه لا يفي لك.

ويحك لا تحقر نفْسَك فالتائبُ حبيبٌ والمنكسر صحيحٌ، إقرارك بالإفلاس عين الغنى، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة، اعترافك بالخطأ نفس الإصابة.

عُرضت سلعةُ العبوديةِ في سوقِ البيع فَبَذَلت الملائكةُ نَقْد: {وَنَحْنُ

(1) سورة الأعراف، الآية:124.

(2)

سورة طه، الآية:72.

(3)

سورة الأنفال، الآية:2.

ص: 57

نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (1) فقال آدم: ما عندي إلا فلوس الإفلاس نقشها: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (2).

فقيل: هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنِين المذنبين أحب إلينا من زَجَل المسبحين!.

لو أبصرت طلائعَ الصِّدِّيقين في أوائل الركب أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب أو شاهدت ساقة المستغفرين في آخر الركب لعلمت أنك قد انقطعت تحت شجرة أم غيلان، واحَسْرتا لمنقطع دون الركب يعد المنازل ..

أعُدُّ الليالِي لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ

وَقَدْ عِشْتُ دَهْراً لا أَعَدُّ اللَّياليا

وَقَدْ يَجْمَعُ الله ُالشَّتِيتِيْنِ بَعْدَمَا

يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أن لَا تلَاقيا

إلى متى الرَّوَاح في الهوى والتغليس؟!، وحتى متى السعي في صحبة إبليس؟!، وكم بَهْرَجَة في العمل وتدليس؟!.

أين أقرانك!، هل تسمع لهم من حسيس، أمَا علمت أنهم اشتد ندمُهم وحسرتُهم على إيثار الخسيس!، تالله لقد وَدّوا لو كانوا طلقوا الدنيا قبل المسيس ..

(1) سورة البقرة، الآية:30.

(2)

سورة الأعراف، الآية:23.

ص: 58

عينُ المنبِّه تُغضي غير مُطْرقةٍ

وطرْف مطلوبها مُذْ كَانَ وَسْنانُ

جَهْلاً تمكَّنَ منهُ حِينَ مَوْلدهُ

فالنطقُ صاحَ ولبُّ المرءِ سكرانُ

لوْ سُقي الحنظل بماء السُّكَّرِ لم يخرج إلا مُرّا.

شجر الأثل والصفصاف والحَوْر ونحوها ولوْ دام الماء في عروقها لا تثمر أبداً .. سحاب الهوى قد طبّق بَيْداء الأكوان وأمطر مشارق الأرض ومغاربها ولكن قيعان قلبك لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأً، ومع هذا فلا تيأس.

يا من هبّت على قلبه جنوبُ المجانبة فتكاثفت عليه غيوم الغفلة فأظلم أُفُقُ المعرفة: لا تيأس!، فالشمس تحت الغيم، لوْ تصاعد منك نَفَسُ أسَفٍ استحالت شمالاً فتقطع السحاب فبانت الشمس تحته.

رَميْتَ صخرة الهوى على ينبوع الفطنة فاحتبس الماءُ فإن لم تُطق رَفْعَها فانِقب حولها لعل ينابيع الماء تتفجر.

عشاق الدنيا بين مقتول ومأسور .. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (1).

يا طالبي العلم! .. قد كتبتم ودرستم فَلَوْ طَلَبَكُم العلمُ في بيت العمل فُلِّسْتُم، وإن ناقشكم الإخلاص أفْلسْتم!.

(1) سورة الأحزاب، من الآية:23.

ص: 59

شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع .. {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟! (1).

عمل المرائي بَصَلَة كلها قشور!، المرائي يحشو جراب الزُّوَادة رملاً يُثقله في الطريق وما ينفعه!، ريح الرياء جيفة تجافاها مَشَامُّ القلوب) انتهى (2).

وقال رحمه الله كلاماً يُفسِّر المعاني المرادة بهذا الكتاب. قال: (إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} (3) استغرقت إحساس الناظرات فقطّعن أيديهن وما شعرن، فكيف بالحال يوم المزيد!) انتهى (4).

يوضح هذا قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله الآتي: (كأن ذا لم يكن شيئاً فيما رأوه).

وارجع في التأمل في حديث صهيب رضي الله عنه: (فَمَا أُعطُوا شَيئاً أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ)(5).

قيل لعبد الرحمن بن أبي ليلى: أرأيت قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى

(1) سورة الأنعام، آية:22.

(2)

بدائع الفوائد، 2/ 194 – 197.

(3)

سورة يوسف، آية:31.

(4)

بدائع الفوائد، 3/ 233.

(5)

رواه مسلم برقم (181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه –.

ص: 60

وَزِيَادَةٌ} (1) قال: إن أهل الجنة إذا أُعطوا فيها ما أُعطوا من الكرامة والنعيم نودوا: يا أهل الجنة إن الله وعدكم الزيادة!، فيتجلى لهم.

قال ابن أبي ليلى – رحمه الله: فما ظنك حين ثقلت موازينهم وحين صارت الصحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم وأُدخلوا الجنة وأُعطوا ما فيها ما أُعطوا من الكرامة والنعيم كأن ذا لم يكن شيئاً فيما رأوه) انتهى (2).

وقد قال ضيغم الحلَاّب عن محبة الله تعالى ورؤيته عز وجل: (إن حُبَّه شغل قلوب مريديه عن التلذذ بمحبة غيره، فليس لهم في الدنيا مع حُبهِ لذة، ولا يأملون في الآخرة من كرامته الثواب أكثر عندهم من النظر إلى وجهه الكريم) انتهى (3).

وقال ذو النون المصري: (قرأت في التوراة أن الأبرار الذين يؤمنون، والذين في سبيل خالقهم يمشون، وعلى طاعته يقبضون .. أولئك إلى وجه الجبار ينظرون، فغاية أمل الآمِلِ المحبِّ الصادقِ النظر إلى وجه الله الكريم فلا ينعمهم في مجلسهم بشيء أكبر عندهم من النظر إلى وجهه) انتهى (4).

(1) سور يونس، من الآية:26.

(2)

كتاب الزهد لابن المبارك، ص 80.

(3)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (430).

(4)

أخرجه أبو نعيم في الحلية، 10/ 82.

ص: 61

وأنشدَ يحي بن معاذ وغَيرُه:

كُلُّ مَحْبوبٍ سِوَى اللهِ سَرَفْ

وهُمُومٌ وغمُومٌ وأسَفْ

كُلُّ مَحْبُوبٍ فَمِنْهُ خَلَفٌ

ما خَلَا الرَّحمنِ مَا مِنْهُ خَلَفْ

لَا بِدَارٍ ذاتِ لَهْوٍ وتَرَفْ

إنَّ ذَا الْحُبِّ الَّذِي يُعْنَى بِهِ

لَا ولَا الحوْرَاءِ مِنْ فَوْقِ غُرَفْ!

ظَهَرَتْ مِنْ صَاحِبِ الْحُبِّ عُرِفْ

ذاهبُ الفِكْرِ وباللهِ كَلِفْ

لَا ولَا الفِرْدوسِ لايألفُهَا

حُبُّهُ غَايَةُ غايَاتِ الشَّرَفْ

إنَّ لِلْحُبِّ دَلَالَاتٌ إذا

وَعَلَاهُ الشَّوْقُ مِمَّا قَد كَشَفْ

هَمُّهُ فِي اللهِ لَا في غَيْرِهِ

وأمَامَ اللهِ مَوْلَاهُ وَقَفْ

دائمُ التِّذكارِ مِنْ حُبِّ الذي

فإذا أمْعَنَ فِي الْحُبِّ لَهَى

بَاشَرَ الْمِحْرَابَ يَشكُوُ بثَّهُ

قائِماً قُدَّامَهُ مُنْتِصِباً

رَاكِعاً طَوْراً، وطَوْراً سَاجِداً

لَهِجاً يَتلُو بآيَاتِ الصُّحُفْ

باكِياً والدَّمْعُ للهِ يَكِفْ (1)

وقال بعضهم عن العارفين بالله وما أثمر لهم حبُّهُم لَربهم عز وجل:

قُلُوبُ العارفينَ لَهَا عيُونٌ

تَرَى ما لا يَرَاهُ النَّاظِرُونَا (2)

تَغِيبُ عَنِ الكِرامِ الكاتبينا

وَألْسِنَةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي

إلَى مَلكُوتِ رَبِّ العَالمينَا

وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بغيْرِ رِيشٍ

دَنوْا مِنْهُ فَصَارُوا وَاصِلِينَا

عِبَادٌ أَخْلَصُوا للهِ حَتَّى

(1) أنظر التدوين في أخبار قزوين 3/ 165، وانظر لآلي البيان في محبة الرحمن ص (272 – 273).

(2)

روى ابن جرير في تفسيره 26/ 57، والذهبي في سير أعلام النبلاء 4/ 539 عن خالد بن مَعْدان أنه قال:(ما من آدميٍّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أبصَرَت عيناه اللتان في قلبه فأبصر بهما ما وَعَدَ بالغيبِ فآمَن القلبُ بالغيبِ، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمَسَ عليهما، وقرأ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} " سورة محمد، من الآية: 24 ").

ص: 62

وقال أبو الوفاء القزويني وغيره في وصف العارفين بالله تعالى المحبين له:

تشَاغلَ قَوْمٌ بِدنياهُمُ

وَقَوْمٌ تَخَلَّوْا لِمَوْلَاهُمُ

فَألزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ

وَعَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ أَغْنَاهُمُ

فَمَا يَعْرفُونَ سِوَى حُبِّهِ

وَطَاعَتِهِ طُولَ مَحْيَاهُمُ

يَصُفُّونَ بالليلِ أَقْدَامَهُمْ

وَعَيْنُ المُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُ

فَطَوْراً يُنَاجُونهُ سُجَّداً

وَيَبْكُونَ طَوْراً خَطَايَاهُمُ

إِذَا فَكَّرُوا فِي الَّذِي أَسْلَفُوا

أَذَابَ القُلُوبَ وَأَبكَاهُمُ

وَإِنْ يَسْكُنِ الْخَوْفُ لَاذُوا بِهِ

وَبَاحُوا إِلَيْهِ بِشَكْوَاهُمُ

وأضحَوْا صِيَاماً عَلَى جَهْدِهِمْ

هُمُ القومُ أَعطَوْا مَلِيكَ الْمُلُوك

تَبَارَكَ مَنْ هُوَ قَوَّاهُمُ

هُمُ الْمُجْتَبَوْنَ بنياتهمْ

صِدْقَ القُلُوبِ فَوَالَاهُمُ

وأَسْكَنَهُمْ فِي فَرَادِيسِهِ

أرادوا رِضَاهُ فأعْطَاهُمُ

فَنَالُوا المُرَادَ بِرُؤيَتِهِ

وَأَعلَا المنازِلِ بَوَّاهُمُ

فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَاهُمُ (1)

وقال أبو عبدالله الحكيم الترمذي: (فأما أهلُ المعرفةِ وهم المقرَّبون فغمومهم من البقاء في الدنيا، فإنّ الدنيا "سِجْن" المقربين ينتظرون متى الراحة منها، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن " (2)، وأما أحزانهم فمن ظمأ الشوق إلى الله عز وجل، فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم

(1) أنظر لآلي البيان للعفاني ص (273)، والتدوين للقزويني 4/ 201، وفيض القدير للمناوي 4/ 282.

(2)

رواه مسلم برقم (2950) عن أبي هريرة – رضي الله عنه.

ص: 63

والأحزان، وسائرهم مخلِّطون بطَّالون لِعُمُرِهم غافلون .. عن الآخرة سكارى حيارى .. سكارى عن وعده ووعيده .. حيارى في سيرهم إليه وركض الليل والنهار بهم إلى الله تعالى، فهُمُ الذين يفزعون من غموم الدنيا ورين الذنوب المعذبة لقلوبهم في ظلمات سجون المعاصي إلى المرجاح تلهياً وتلعباً، يتفرَّجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسِيمَها ولا يعلمون أن النزهة في نزاهة القلوب وتطهيرها من آفاتِ النفْسِ وخدعِها ورينِ الذنوب حتى يجدوا نسيمَ الملكوتِ وروْحَ قُربِ الله تعالى على قلوبهم في عاجل دنياهم .. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الإيمان حلوٌ نزه فنزهوا)(1)، فإذا التمس العبدُ هذه النزهة فهو نور على نور، والقلب مشحونٌ بالنور، والصدر مشرق بالنور، يعلم من ربه ويعلم ما مَنَّ به عليه ربُّه وهو عنه غَنِىٌّ ولكنه رحِمَه فمَنَّ عليه مما يرى عنده، فأيُّ فرَحٍ يتسع مع هذا الفرح في قلب!، وكيف يبقى في قلب فيه هذا الفرح بالله متسعٌ للفرح بالدنيا وأحوالها!، فالقلوب التي تعتوِرُها غمُومُ الآخرةِ هي نورانية تنفرج بتلك الأنوار التي يطالع بها الآخرة وعظيم الرجاء من عند الماجد الكريم، وأما القلوبُ التي تعتوِرُها ظُلماتُ المعاصي فهي قلوبٌ مُعذَّبةٌ ونفوسٌ لَقِسة (2)، وجوارح كَسِلة،

(1) لم أجد حديثاً بهذا النص، ولكن هناك حديث صحيح يشير لحلاوة الإيمان، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن أحبَّ عبداً لا يحبه إلا لله، ومَن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يُلقى في النار) رواه البخاري برقم (21) ومسلم برقم (43) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه.

(2)

لقِسَة: أي خبيثة. أنظر لسان العرب لابن منظور 6/ 208.

ص: 64

يريدون أن يسترْوِحُوا إلى مثل هذه الأشياء من الملاهي ويتنفَّسُوا في فسيح النُّزُهات وقد أخذت غموم النفْسِ بأنفاسهم وجَرَّعَتْهُم الغيْظَ في أنهم لا يصِلُون إلى مُناهم على الصفاء!) (1)؛ فتأمل ذلك، وكيف هو الفرق كبيرٌ جداً بين نعيم المحبين لله تعالى وبين لذاتِ أهل الشهوات المسمومة!.

هذا، وقد قال ابن القيم في أمر الرحمن خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام:(مَنْصِبُ الخُلَّةِ منصبٌ لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب، وأخذ الولد شُعْبة من شِعاب القلب، غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شُعْبةٍ من شعاب قلبه فأمره بذبحه، فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها، فجاءته البشرى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2) .. ليس المراد أن يُعَذِّب ولكن يبتلي لِيُهَذِّب، ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد إنما العجب من مباشرة الذبح بيده!؛ ولَوْلا الاستغراق في حُبِّ الآمِرِ لَمَا هانَ مثل هذا المأمور، فلذلك جُعلت آثارُها مثابة للقلوب تحنّ إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوْكارها) (3).

وقال رحمه الله في هذه الآثار التي جعلها الله مثابة للقلوب: (وهذا يدُلُّك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولَوْ لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نَفْسه

(1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول لأبي عبدالله الحكيم الترمذي، 1/ 158 – 189.

(2)

سورة الصافات، الآية:107.

(3)

بدائع الفوائد، 2/ 185.

ص: 65

بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} (1) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً.

وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسَلَبَتْ نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يُسْليهم كما قيل:

أطوفُ بهِ والنفسُ بَعْدُ مَشُوقةٌ

إليهِ، وهلْ بعدَ الطَّوافِ تَدَاني

وألثمُ منهُ الركنَ أطلبُ بَردَ مَا

بقلبيَ مِنْ شوقٍ ومِن هَيَمَاني

فوَ اللهِ مَا أزدادُ إلَاّ صَبَابة

ولا القلبُ إلا كثرةُ الخفقانِ

فيا جنة المأوى ويا غاية المنى

ويا منيتي مِنْ دونِ كلِّ أمانِ

أبَتْ غلبَاتُ الشوقِ إلا تقرباً

إليكَ فمالي بالبِعادِ يَدانِ

وما كان صَدّي عنك صَدُّ مَلالةٍ

ولي شاهدٌ مِنْ مُقلتي ولساني

دعوتُ اصطباري عنك بعدك والبكا

فَلَبّى البكا والصبرُ عنكَ عصاني

وقد زعموا أن المحبَّ إذا نأى

سيَبْلَى هواهُ بَعدَ طُولِ زمَانِ

ولوْ كان هذا الزعمُ حقاً لكانَ ذا

دواءُ الهوى في الناسِ كُلّ أوانِ

بلى إنَّهُ يَبْلَى التصبُّرُ والهوَى

علَى حالهِ لم يُبْلِهِ الملَوَانِ (2)

وهذا محبٌّ قادَهُ الشوقُ والهوَى

بغيرِ زِمامٍ قائدٍ وَعِنَانِ

أتاكَ على بُعْدِ المَزارِ ولَوْ وَنَتْ

مطيَّتُه جاءتْ بهِ القَدَمَان

(1) سورة الحج، الآية:26.

(2)

المَلَوَان هما: الليل والنهار. أنظر لسان العرب 15/ 292، وانظر مختار الصحاح للرازي ص (294).

ص: 66

واعلم أن مدار معرفة الله سبحانه على ما وصف به نفسه سبحانه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول العلماء عنه عز وجل:(كلّ ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك)، وهم يريدون بذلك أن الكُنْهَ والكيْفَ لله تعالى لا يدركه البشر في الدنيا لعدم المثيل والنظير.

ولذلك يقول عمرو بن عثمان المكي رحمه الله: (واعلم رحمك الله أن كل ما تَوَهّمَه قلبُك أوْ رسخ في مجاري فكرتك أوْ خطر في معارضات قلبك من حُسْن أوْ بَهاء أو إشراق أو ضياء أو جمال، أو شبحٍ ماثِل أو شخصٍ متمثّل فالله بخلاف ذلك كله، بل هو تعالى أعظم وأجلَّ وأكمل؛ ألم تسمع إلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) وقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (2) أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، وقِفْ عند خبره مسلِّماً مستسلماً، مذعناً مصدقاً بلا مباحثة التنقير، ولا مفاتشة التفكير جَلّ الله وعلا الذي ليس له نظير ولا يبلغ كنه معرفته خالص التفكير، ولا تحويه صفة التقدير، السموات مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، أقام لِقلوب الموقنين حداً يمسكه التسليم عن التيه في بحور الغيوب المضروبة دون ذي الجلال والكبرياء فشكر لهم تسليمهم واعترافهم بالجهل بما لا علم لهم به وسَمّى ذلك منهم رسوخاً وربانية وإيماناً فقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ

(1) سورة الشورى، من الآية:11.

(2)

سورة الإخلاص، الآية:4.

ص: 67

عِنْدِ رَبِّنَا} (1) وما أخبر عن ملائكته إذْ قالوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) عجزت الملائكة المقربون أن تحدّ أحسن الخالقين، أو تُكيِّف صفة رب العالمين، فهم خشوع خضوع خنوع {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (3) انتهى (4).

ولتمام الفائدة وما نحن بصدده من معرفة الرب عز وجل فإننا نذكر هنا إشارة إلى رؤيته سبحانه في المنام من كلام شيخ الإسلام – رحمه الله.

قال: (كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه، فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك وإلا كان بالعكس.

قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجاباً بينه وبين الله.

وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظنّ

(1) سورة آل عمران، من الآية:7.

(2)

سورة البقرة، الآية:32.

(3)

سورة الأنبياء، الآية:20.

(4)

حلية الأولياء 10/ 192.

ص: 68

عاقلاً يُنكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه إذِ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين) (1).

وقال: (والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام)(2).

وقال: (ليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه وقول من يقول ما خطر بالبال أو دار في الخيال فالله بخلافه، ونحو ذلك إذا حُمِل على مثل هذا كان محملاً صحيحاً، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته وإن كان ما رآه مناسباً مشابهاً لها، فالله تعالى أجل وأعظم) انتهى (3).

هذا، وليس من التكرار ذكر العشق وأنه من أعظم ما يقطع عن الله لكثرة البلوى به في هذا الزمان ولِتَوفر أسبابه، فتأمل الآن ما قاله ابن القيم وانظر الواقعَ المخيف.

(1)، (2)، (3) نقض تأسيس الجهمية، 1/ 73.

ص: 69

قال رحمه الله: (قال بعض العلماء: ليس شيء من المحبوبات يسْتوعب محبة القلب إلا محبة الله أوْ محبة بشر مثلك؛ أما محبة الله فهي التي خُلق لها العباد، وبها غاية سعادتهم وكمال نعيمهم؛ وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه ماليس مثله بينه وبين جنس آخر من المخلوقات، ولهذا لا يُعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب في الجنس ما يُزيل العقل ويُفسد الإدراك ويُوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب، وإنما يُعرف ذلك في محبته لجنسه) انتهى (1).

يريد ابن القيم رحمه الله أنه وإن كان حب المال والرياسة ونحو ذلك من المحابِّ التي يُبتلى بها أربابُ القلوبِ الفارغةِ من محبة الله عظيماً في القلوب يصرفها عن المحبة التي خلقت لها إلاّ أن محبة البشر المماثل تستحوذ على القلب وتسْتوعب محبته كلها كما قال رحمه الله أن قلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه كما قيل:

ما في الفؤاد لغير حبك موْضعٌ

كلا ولا أحَدٌ سواك يَحُلّهُ

ثم قال بعد الكلام السابق: (فتستوعب قلبه، وتسلب لُبَّه، ويصير لمعشوقه سامعاً مطيعاً كما قيل:

إنَّ هواكَ الذي بقلبي

صَيَّرني سامِعاً مُطيعاً

(1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 2/ 152 - 153.

ص: 70

ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق حتى يبذل نفْسَه ويُسْلِمها للتلف في طاعة معشوقة، كما يبذل المجاهد نفسه لربه حتى يُقتل في سبيله.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " مُدْمن الخمر كعابد وثن "(1)، ومَرّ عليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه بقومٍ يلعبون بالشطرنج فقال:" ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ".

فما الظن بالعاشق المتيّم الفاني في معشوقه؟!) انتهى (2).

وقال – رحمه الله: (والفتنة بعشق الصُّوَر تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص من كوْن دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق، وربما أخرجتْ صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله) انتهى (3)، وقال أيضاً:(وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن).

وقال بعضُ أهلِ العلم: (وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساةِ العذاب الأليم، وجَرَّعَتْهُم بين أطباق النار

(1) رواه ابن ماجه برقم (3375) عن أبي هريرة – رضي الله عنه –، وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم:(مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن) رواه الإمام أحمد برقم (2453) عن ابن عباس – رضي الله عنهما –.

(2)

إغاثة اللهفان، 2/ 153.

(3)

إغاثة اللهفان، 2/ 158.

ص: 71

كؤوس الحميم؛ وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين؛ وكم أزالت من نعمة وأحلت من نقمة؛ وكم أنزلت مِن مَعقِلِ مَن عِزُّهُ عزيزاً فإذا هو من الأذلين، ووضعَت مِنْ شريفٍ رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل السافلين؛ وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم؛ وكم أضرمت من نار حسراتٍ أحرقت فيها الأكباد وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد؛ وكم جَلَبت من جَهْد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، فَقَلَّ أن يفارقها زوال نعمة أو فُجَاءة نقمة أو تحويل عافية أو طروق بلية أو حدوث رزية، فلو سألت النِّعَمَ: ما الذي أزالكِ؟!، والنِّقَمَ: ما الذي أدالكِ؟!، والهمومَ والأحزانَ: ما الذي جلبكِ؟!، والعافيةَ: ما الذي أبعدكِ وجنبكِ؟!، والسترَ: ما الذي كشفكَ؟!، والوجهَ: ما الذي أذهبَ نُوركَ وكسَفَكَ؟! والحياةَ: ما الذي كدَّركِ؟!، وشمسَ الإيمانِ: ما الذي كوَّرَكِ؟!، وَعِزَّةَ النفْسِ: ما الذي أذلكِ وبالهوانِ بعْد الإكرامِ بدَّلكِ؟! .. لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً: هذهِ واللهِ بعضُ جناياتِ العشقِ على أصحابه لو كانوا يعقلون .. {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1)! .. ويكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق، وذلك موجود في كلِّ زمان) انتهى (2).

(1) سورة النمل، الآية:52.

(2)

روضة المحبين ص (189، 196).

ص: 72