المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول من آداب الوقوف على المنبر] - منبر الجمعة أمانة ومسؤولية

[عبد الله بن محمد آل حميد]

الفصل: ‌[الفصل الأول من آداب الوقوف على المنبر]

هذا الموضوع، ممَّا استنتجته من خلال وقوفي منذ بضع سنوات على منبر الخطابة في جامع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله بمدينة أبها.

وهذا جهد المقلّ فإِن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. وأسأل الله سبحانه السداد والإِخلاص في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[الفصل الأول من آداب الوقوف على المنبر]

الفصل الأول

من آداب الوقوف على المنبر إِن الغاية المثلى من الخطبة توجيه المستمعين وتذكيرهم بما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم، إِلى جانب التأثير في أرواحهم وامتلاك قلوبهم، وهذا يتطلب من الخطيب اتخاذ السبل القويمة في زرع الثقة بينه وبين مستمعيه، وتلك الثقة هي التي تولد محبتهم له واستجابتهم وتأثرهم بما يقول، لأن الواحد منهم ينتظر منه في كل جمعة أن يطرق موضوعا جديدا يعالج فيه مشكلة اجتماعية، أو ظاهرة تخالف تعاليم الإسلام، ثم يستوفي فيها ما تتطلبه من عرض موجز لمضمونها، وإيراد للأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة التي تنهى عن الوقوع فيها مع الحرص على إِجادة الأسلوب وسلامة الإِلقاء.

وحتى يحقق الخطيب ذلك لا بدَّ أن تتوافر فيه جملة من الآداب المرعية، والصفات الهامة، والمؤهِّلات المتعددة التي من أهمها:

ص: 6

أولًا: العلم وسعة الاطلاع ولمَّا كان الخطيب قد تصدَّر لتعليم الناس وإرشادهم إلى الخير ونهيهم عن الوقوع في الشرّ، لزم أن يتزوَّد بزاد وفير من العلم الشرعي الذي يمكنه من العرض، والاستدلال، والترجيح ويتمثل ذلك في حفظ القرآن الكريم وكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة؛ إِلى جانب الإِلمام بالثقافة العامة التي تعينه على الاستشهاد بالأشعار والقصص والحكم والأمثال في مواطنها.

والخطيب الناجح هو الذي تكون جعبته العلمية مليئة زاخرة يتناول منها ما يريد، فلا يضعف موقفه، ولا يملّ سماعه. وأمَّا إِذا كان محدود العلم قليل الزاد أوقعه ذلك في مشكلات كثيرة عندما تنصب حصيلته أثناء إِلقائه لخطبته، ممّا يضطرّه إِلى التكرار، وإعادة المعاني والموضوعات أكثر من مرَّة، فيورث ذلك سآمةً في نفوس مستمعيه، وشرودا لأذهانهم، فيودّ حينئذ لو أنهى خطبته تخلصا من الحرج.

ص: 8

ثانيًا: الاستعداد الشخصي والموهبة إِن الخطابة تستمدّ معينها من الفطرة المركوزة في نفس الخطيب بعد توفيق الله عز وجل. فمتى ما توفَّر الاستعداد الشخصي والموهبة الذاتية لدى الخطيب انثالت المعاني من ذهنه كالسيل الجرَّار، في أسلوب أخَّاذ لا تكلف فيه ولا تصنُّع. ولكنه يحتاج مع ذلك إلى الدربة والممارسة ليشحذ مقدرته الخطابية وينمِّيها ويقوّمها.

وبمقدار ما ترتكز الخطابة على الدربة فإنها ترتكز ابتداءً على الاستعداد الفطري عند الخطيب. فكم من إِنسان يشار إِليه بالبنان في سعة العلم والتضلع فيه، لكنّه إِذا وقف خطيبا كبا جواد لسانه، وتعثَّر وتلجلج وارْتُج عليه لأنه لا يملك الاستعداد الفطري الذي يؤهله للخطابة.

ثالثا: القدوة الحسنة في التعامل والسلوك إِن الناس لهم عقول يفكرون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها، ولهم ألسنة يتكلمون

ص: 9

بها، فإذا رأوا خطيب الجمعة يدعو إِلى خُلُق ولا يتمسك به، وينهى عن منكر ولا يكف عنه فإِن ثقتهم به تتلاشى، وحضورهم يقلّ، ولا يكون لكلامه - وإن كان خطيبا مفوَّها - وزن يذكر.

ولأجل ذلك فإِن من نصَّب نفسه مرشدا للناس إِلى الهدى، وداعيا لهم إِلى الخير يجب أن يكون قدوة حسنة في تصرفاته، حريصا على اتباع السنَّة، نزيها عن الوقوع في الشبهات والشهوات.

- فهو بمثابة الصفحة البيضاء التي لو تلطَّخت ببقعة سوداء لظلّ أثرها واضحا لكل أحد. وإذا وقع في معصية كانت المصيبة أعظم مَّما لو وقع فيها غيره من عامة الناس، فإِن أدنى هفوة تصدر عنه تسقط اعتباره، وتكثر الزراية عليه، ويصبح أضحوكة يتندَّر بها عباد الله.

- ولا شك أن هذا النوع من الخطباء أشدّ خطرا على الأمة من العدو اللَّدود لأنه يظهر للناس ما لا يبطن، وفيه وفي أمثاله يقول الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]

ص: 10

وجاء في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجَاء بالرجل يوم القيامة، فيُلْقى في النار، فتندلقُ أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان. ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (1) .

وفي ذلك يقول الشاعر:

لا تنْهَ عن خُلُق وتأتيَ مثلَهُ

عارٌ عليكَ إِذا فعلتَ عَظيْمُ

ابدأْ بنفسكَ فَانههَا عن غيِّها

فإِذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ

(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب صفة النار وأنها مخلوقة رقم 3267، ورواه مسلم في كتاب الزهد باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله رقم 2989.

ص: 11

فهناك يُقْبَلُ إِن وعظتَ ويُقْتَدَىَ

بالقول منك وينفعُ التعليم (1)

رابعا: المظهر الحسن لا شك أن لمظهر الخطيب وحسن هيئته أثرا كبيرا في ارتياح الناس وتقبلهم لما يقول، فينبغي عليه أن يأتي إِلى الخطبة مغتسلا متطيبا تفوح منه رائحة الطيب الزكيَّة، وأن يكون أنيقا في هندامه، خاليا من العيوب المنفّرة، فلا يكون رثَّ الثياب والهيئة، وهذا هو المظهر الغالب على كثير من خطباء الجمعة ولله الحمد، ولكن كم هو محزن أن نجد قلَّة منهم يخرجون على الناس

(1) هذه الأبيات تنسب إِلى أبي الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني من التابعين وكان معدودا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء. مات بالبصرة سنة تسع وستين هجرية. الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت ط 8 سنة 1989م ج3 ص236، 237، وأبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي، تأليف/ فتحي عبد الفتاح الدجني، نشر وكالة المطبوعات بالكويت، ط1 سنة 1974م ص217.

ص: 12

بمظاهر مزرية، وهي وإن لم تكن خطيئة لكن مكانتهم في المجتمع وكونهم خطباء تفرض عليهم حسن المظهر والمخبر، كيف لا وهم الذين يعلمون الناس الخير، ويرشدونهم إِلى التمسك بالفضيلة، ويحذرونهم من الوقوع في الرذيلة، والله عز وجل قد أنعم عليهم بهذه النعمة العظيمة وهي إِمامة الناس، وجمعهم لهم في كل يوم جمعة ليستمعوا إِليهم ويشنّفوا آذانهم بما يقولونه من خطب.

وقد شرع الإِسلام لكل مسلم سواء كان خطيب جمعة أو غير ذلك أن يغتسل يوم الجمعة وأن يتطيب، والخطيب أولى الناس بذلك لأنه قدوة لهم في تتبع الأحكام الشرعية والعمل بها، والله تعالى يقول:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما على أَحدكم إِن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (1) ولذا

(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب اللبس للجمعة برقم 1079 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 954.

ص: 13

فإِن الخطيب الذي يخرج إِلى الناس على المنبر وهو قذر الثياب متغيّر الرائحة، يجعلهم ينفرون منه ويزهدون في سماع كلامه، ولا يقيمون له وزنا.

ص: 14