المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في المقدمة: - موائد الحيس في فوائد القيس

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌القَوْلُ في المُقَدِّمَةِ:

- ‌البَابُ الأَوَّلُفي مُتَشَابِهِ كَلَامِهِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ في القَلِيلِ وَالكَثِيْرِ

- ‌البَابُ الثَّانِيفي مُتَشابِهِ شِعْرِهِ بِشِعْرِ غَيْرِهِمِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَعَرَبِيٍّ وَمُولّدٍ، في الّفْظِ وَالْمَعْنَى،عَلى حَسَبِ طَاقَتِي فِي الإِملاءِ، وَقَد أُخِلُّ مِنْ ذلِكَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ

- ‌وفائِدَةُ هذا البَابِ شَبِيْهَةٌ بِفَائِدَةِ ما قَبْلَهُ. ولَنْخَتِمْهُ بِضابِطٍ في تَحْقِيْقِ التَّلَقِّي والتَّناولِ

- ‌البَابُ الثَّالِثُفي سَبَبِ اشْتِباهِ كلامِهِ بَعْضِهِ بِبعضٍ

- ‌أَحَدُهُما: اتِّحادُ مَوْضوعِ كلَامِهِ، أَعْنِي مَقْصودَهُ في شِعْرِهِ

- ‌والثَّانِي: تَفَنُّنهُ في البَيَانِ، وقُدْرَتُهُ على الكَلَامِ

- ‌البَابُ الرَّابِعُمحاسِنُ تشبيهاتِهِ واستعاراتِهِ وأمثالِهِ ونَحْوِهِ

- ‌البَابُ الخَامِسُفِي فَوَائِدَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ كَشْفِ مُشْكِلٍ وَغَيْرِهِ

الفصل: ‌القول في المقدمة:

البَابُ الثَّاني: في مُتَشَابِهِ شِعْرِهِ بِشِعْرِ غَيْرِهِ.

البَابُ الثَّالِثُ: في سَبَبِ اشتِباهِ كلامِهِ بعضِهِ ببَعْضٍ.

البَابُ الرابعُ: في مَحَاسِنِ تَشْبِيهَاتِهِ وأَشْعَارِهِ وأَمْثَالِهِ.

البَابُ الخامِسُ: في فوائِدِ كَلامِهِ، من كَشْفِ مُشْكِلٍ ونَحْوِهِ.

وعلى الله عز وجل اعتِمَادِي، وإِليه نَجَاتِي وإِسنادي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِليهِ أُنِيْبُ.

‌القَوْلُ في المُقَدِّمَةِ:

وهي تَشْتَمِلُ على تَفْسِيرِ اسْم هذا الكِتَابِ، ولِمَ اختَرْتُ تَسْمِيَتَهُ بهِ، ولِمَ خَصَصْتُ امرأَ القَيْسِ بالكَلامِ على فوائدِهِ دونَ غَيْرِهِ.

أما اسمُ الكِتابِ، فالموائِدُ جَمْعُ مائِدَةٍ، وهي الخُوانُ عَليهِ الطَّعامُ، فإِنْ لم يَكُنْ عليهِ طَعَامٌ فهو خُوانٌ فَقَطْ، وأما الحَيْسُ: فهو أَخلاطٌ من خُبْزٍ وسَمْنٍ وحلاوَةٍ، وإذا أُتقِنَ عَمَلُهُ، واستُجِيْدَتْ موادُّهُ، كانَ من جَيِّدِ الحَلاواتِ. والفوائِدُ جمعُ فائِدَةٍ، وهي المَعْنَى المُدْرَكُ بالفُؤادُ، وهو القَلْبُ؛ لأَنَّهُ مَحَلُّ القُوَّةِ المُدْرِكَةِ، وهي العَقْلُ عِنْدَ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ.

وامرؤُ القَيْسِ: هو ابنُ حُجْرٍ، بِضَمِّ الحاء وسُكونِ الجِيْمِ، الكِنْدِيُّ، وأَمَّا أَوْسُ بنُ حَجَرٍ فبفَتْحِهِما، وهو واحِدُ الأَحْجارِ،

ص: 162

وامرؤُ القَيْسِ: مُضافٌ ومُضافٌ إِليهِ، فالمُضافُ امرؤُ وهو مُذَكَّرُ امرأةٍ، كما أَنَّ المَرْءَ مُذَكَّرُ مَرْأَةٍ، يُقَالُ: امْرَةٌ وامرَأَةٌ ومَرْأَةٌ، والمُضَافُ إليه القَيْسُ، وهو مَصْدَرُ قاسَ يَقِيسُ قَيْساً وقِياساً، وهو الاسْتِدلالُ والاعتِبَارُ. وأَخْذُ أَحكامِ الأَشْياءِ بَعْضِها مِنْ بَعْضٍ، ومِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ لأَبِي مُوْسَى:«قِسِ الأُمورَ بِرَأْيكَ، واعرِفِ الأَشْبَاهَ والنَّظائِرَ» أو كَما قَالَ. فامرؤُ القَيْسِ إذاً بِمَعْنَى قَوْلِهم: قيسُ الرَّأْيَ، فَمَعْنَاهُ، إِنْسَانُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ رَأَيَهُ ومَعْرفَتَهُ بالأُمور كان جَيِّداً، وقد دَلَّ على ذلكَ جَوْدَةُ شِعْرِهِ، وإبداعُهُ فيه، ولِأَنَّهُ كَانَ مَلِكاً،

ص: 163

ولا يُسْتَنْكَرُ لَهُ جَوْدةُ الرَّأْي والمَعْرِفَةِ، ثُمَّ قِيْلَ: امرؤُ القَيْسِ اسمُهُ العَلَم، وقيل: اسمُهُ عمرٌو أَوْ غَيْرُهُ، وامرؤُ القَيْسِ: لَقَبٌ، وإِعرابُهُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ؛ الراءِ والهَمْزَة، فَنَقولُ: هذا امرُؤُ القَيْسِ بِضَمِّهِما، ورَأَيْتُ امرَأَ القَيْسِ بِفَتْحِهِمَا، ومَرَرتُ بامرِئ القَيْس بِكسْرِهما.

وأما اختياري تَسْمِيَةَ الكِتابِ بهذا الاسمِ، فلأَنِّي كُنْتُ مَرَّةً في سَفَرٍ، ومَعَنَا قَوْمٌ حُجَّاجٌ، وقد تَزَوَّدوا بزادِ الحَجِّ، ومن جُمْلَتِهِ حَيْسٌ، فَرَمَى إِليَّ بَعْضُهم قِطْعَةً فَأَكَلْتُها، فلم أَجِدْني أَكَلْتُ أَطْيَبَ منها، فَلِذلِكَ سَمَّيْتُ هذا الكِتَابَ بِذلكَ، وأَيْضاً تَحْصيلاً للتَّناسُبِ في فاصِلَتَيْ الاسمِ.

وأَمَّا تَخْصِيْصي امرأَ القَيْسِ بالكَلامِ على فَوائِدهِ، فلِوجُوهٍ؛ أَحَدُها: الإِجْمَاعُ على أَنَّهُ من الطَّبَقةِ الأولى مِنَ الشُّعراءِ، وإِنْ كانَ قد اختُلِفَ في أَيُّهُمْ أَشْعَرُ؟ فقالَ قَوْمٌ: امرؤُ القَيْسِ وهو الأَكْثَرُ، وقِيلَ: النَّابِغَةُ، وقِيْلَ: زُهَيْرٌ، وقِيْلَ: الأَعْشَى، وكان عُمَرُ يُفَضِّلُ

ص: 164

النَّابِغَةَ، وعَلِيٌّ يُفَضِّلُ .....................

ص: 165

امرأَ القَيْسِ، وذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلى أَنَّ كلَّ واحِدٍ منهم بَرَّز على أَصْحابِهِ في فَنٍّ، فَقَالَ: أَشْعَرُهُم امرؤُ القَيْسِ إذا رَكِبَ، والنابِغَةُ إذا رَهِبَ، وزُهَيْرٌ إذا رَغِبَ، والأَعْشَى إذا طَرِبَ، والمختارُ أَنَّ أَشْعَرَهُمْ امرؤُ القَيْسِ والأَعْشَى، فَهُما سِيَّانِ، أو مُتقَارِبانِ جداً، وعلى شِعْرِ الأَعْشَى مِنْ نَهْجَةِ البَلاغَةِ ما يَقْتَضِي تَفْضِيْلَهُ.

ص: 166

والوَجْهُ الثَّاني: أَنَّ في كلام امْرِئِ القَيْسِ مِنَ البلاغَةِ والجَزالةِ الخَاصَّةِ ما لا يُوجَدُ في كلامِ غَيْرِهِ، وسَبَقَ مِنَ التَّشْبِيهاتِ والاسْتِعارَاتِ إِلى مالَمْ يُسْبَق إليهِ، والنَّاسُ بَعْدَهُ تَبَعٌ لَهُ فِيهِ.

الوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرْوَى عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «امرؤُ القَيْسِ حَامِلُ لواءِ الشِّعْرِ إلى النَّارِ» ، وهذا شَهادَةٌ لَهُ بالتَّقَدُّمِ، وَلَمَّا سَمِعَ

ص: 167

قَوْلَهُ: «قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ» قال: «قاتَلَهُ اللهُ! وقَفَ واستَوْقَفَ، وبكى واسْتَبكى، وذَكَرَ الحبيبَ والمَنْزِلَ في مِصْراعٍ واحِدٍ» ، وهذا تنبيه حَسَنٌ على مَعْنًى حَسَنٍ، ونَحْوَ هذا ما قِيْلَ في قَوْلِهِ عز وجل:{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رآده إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]، إِذْ أتَى بأَمْرَينِ ونَهْيينِ وخَبَرَيْنِ، هما بُشْرَيانِ في آنةٍ واحِدَةٍ.

ولوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ أَمِيْرَ المؤمنينَ عليّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وهو أَوْحَدُ العالَمِ في الفصاحَةِ ونَقْدِ الكلامِ، سُئِل عَنْ أَشْعَرِ الشعراءِ، فَقالَ: إِنَّ القَوْمَ لم يَجْروا في حَلَبَةٍ تُعْرَفُ الغايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِها، فإِنْ كانَ ولا بُدَّ فالمَلِكُ الضِّلِّيلُ؛ يُريدُ: امرأَ القَيْسِ.

وهذا الكلامُ مَذْكُورٌ في النَّهْجِ، والكلامُ عَلَيْهِ في أُمورٍ:

ص: 168

أَحَدُها: أَنَّ النَّهْجَ مِنْ كَلامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. فإنَّ بَعْضَ النَّاسِ نازعَ في ذلكَ، والدَّليلُ عَلَيْهِ أَنَّ نَهْجَ البلاغَةِ إِمَّا أَنْ يُقالَ: إِنَّهُ مِنْ كلامِ عَليٍّ أو مِنِ اختِراعِ الشَّريفِ المُوْسَويِّ مُؤَلِّفِهِ، أو مَجموعٌ مُنْتَحَلٌ مِنْ كَلَامِ خُطَباءِ العَرَبِ وفُصائِحهِمْ، ولا رَابِعَ لِهذهِ الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ، والقِسْمانِ الأَخيرانِ بَاطِلانِ، فَتَعَيَّنَ الأَوَّلُ.

أَمَّا بُطلانُ كَوْنِهِ مِنِ اختراعِ الشَّرِيْفِ؛ فَلِأَنَّ ديوانَ الشَّرِيْفِ الرَّضِيِّ مَوْجُودٌ في العالَم مَشْهورٌ، وَبَيْنَهُ وبَيْنَ نَهْج البَلاغَةِ

ص: 169

في الفصاحَةِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ يَظْهَرُ لِمَنْ لَهُ أَدْنى فَضِيْلَةً، مَعَ أَنَّ شِعْرَ كُلِّ واحِدٍ أَفْصَحُ كلامِهِ؛ لأَنَّهُ يَجْتَهِدُ في تَثْقِيْفِهِ بِخلافِ غَيْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عُرْضَةٌ للطَّاعِنِ والمُزَيِّفِ والعادِلِ والمُتَحَيِّفِ، فَدَلَّ على أَنَّ النَّهْجَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ [الشَّرِيْفِ] الرَّضِيِّ، بل مِنْ كلامِ الرَّضِيِّ والمُرْتَضَى عليٍّ رضي الله عنه.

وأَمَّا بطلانُ كَوْنِهِ مَجْموعاً مِنْ كلامِ خُطباءِ العَرَبِ؛ فَلأَنَّ كلامَ أُولئِكَ مَشْهورٌ، قد جَمَعَهُ الجاحِظُ في كِتاب «البَيانِ والتَّبيين» ، وقد رَأَيْنَاهُ ورَأَيْنا النَّهْجَ، ولَيْسَ في النَّهْجِ مِنْ كلام أولئكَ شَيْءٌ بِلَفْظِهِ، إلا المَشْهورَ المُشْتركَ بَيْنَ الخُطَباءِ العَرَبِ، كَبَيْتِ شِعْرٍ أو مَثَلٍ ونَحْوِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَخْطَبَ العَرَبِ مَنْ يُضْرَبُ به مِنْهُم المَثَلُ في الخطابَةِ وهو سَحْبَانُ وائلٍ والحَجَّاجُ، إذ يقالُ: أَخْطَبُ مِنَ

ص: 170

الحَجَّاجِ، وأَبْلَغُ مِنْ سَحْبانِ وائِلٍ، يُقالُ: إِنَّ سَحْبَانَ خَطَبَ يَوْماً بِأَجْمَعِهِ إلى اللَّيْلِ فَلَمْ يَتَلَجْلَج، ولم يَتَلَعْثَمْ، ولم يُفَكِّرْ، فَضُرِبَ به المَثَلُ، وبَيْنَ كلام هذينِ وغيرِهِما مِنْ خُطباءِ العَرَبِ، وبَيْنَ كلامِ النَّهْجِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ، يَعْرِفُهُ أَهْلُ النَّقْدِ، فَلَيْسَ كلامُهُ مأخوذاً مِنْ كلامِهِمْ.

وأيضاً فإِنَّ أَفْصَحَ الكلامِ كَلامُ اللهِ عز وجل القُرآنِ، ثُمَّ كَلامُ رسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لِقَوْلِهِ:«أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بالضَادِ» ثُمَّ كلامُ النَّهْجِ،

ص: 171

وقَدْ أُجْمِعَ على تَقَدُّمِ عَلِيٍّ في الفَصَاحَةِ على غَيْرهِ، حَتَّى إِنَّ فُصَحاءَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ وكُتَّابَهُمْ؛ كَعْبَدِ الحَمِيدِ ونَحْوِهِ، تَلامِيْذُهُ وتابِعُونَ لِطَرَيْقَتِهِ، فكانَ أَوْلى بِنِسْبَةِ النَّهجِ إِليهِ مِنْ غَيْرِهِ.

ص: 172

وأيضاً فإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُشْبِهُ بَعْضُ كلامِهِ بَعْضاً، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ المُحَدِّثِيْنَ جَعْلَ هذا طَرِيْقَاً في نَقْدِ الحَدِيْثِ وتَصْحِيحِهِ مِنْ إِبْطالِهِ، فَيقولُ: هذا حديثٌ لا يَصِحُّ؛ لأَنَّهُ لا يُشْبِهُ كلامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ونَحْنُ فَقَدْ قَابَلْنَا بَيْنَ النَّهْجِ وبَيْنَ ما صَحَّ لنا مِنْ كلامِ عليٍّ بالإِسنادِ الصَّحِيْحِ، فَوَجَدْنَاهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضَاً، خارِجَاً مِنْ مِشْكاةٍ واحِدَةٍ، وكَثِيرٌ من كلامِ النَّهْجِ مَوْجُودٌ في غَيْرِهِ عَنْ عليٍّ ومُسْنَدٌ.

الأَمْرُ الثَّاني: في قَوْلِهِ رضي الله عنه: «إِن القَوْمَ لم يَجْروا في حَلَبَةٍ تُعْرَفُ الغايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِها

إلى آخرِهِ». اعْلَمْ أَنَّ هذا كلامٌ عَظِيْمُ الوَقْعِ، وعُذْرُهُ بَعِيْدٌ يَحْتَاجُ إلى كَشْفٍ، وهو مِنْ إشاراتِهِ اللَّطِيفَةِ، وإبداعاتِهِ العَجِيْبَةِ، فَأَقُولُ في إِيضَاحِهِ إِنَّ الشُّعَرَاءَ بِحَسَبِ الغَرَضِ قَدْ يَتَكَلَّمونَ في معنًى واحِدٍ؛ كَوَصْفِ السَّحابِ والفَرَسِ، كما تَكَلَّمَ امرؤُ القَيْسِ وعَلْقَمَةُ

ص: 173

والتَّوْءَمُ اليَشْكُريُّ في ذلكَ، وقد يَتَكلَّمونَ في معاني شَتَّى، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ في مَعْنًى، فَبِالاعتِبَارِ الأَوَّلِ: يُمكِنُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بالحَقِيْقَةِ، وإليه أَشارَ بقولِهِ:«إن القَوْمَ لم يَجْروا في حَلَبَةٍ تُعْرَفُ الغايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِها» ؛ أي: لم يَتَكَلَّموا في مَعْنًى واحِدٍ حَتَّى يُعْرَفُ أَفْضَلُهْم فيه بالحَقِيْقَةِ.

ص: 174

وبالاعتِبار الثَّاني: إِنَّما يُعْرَف التَّفضِيْلُ بَيْنَهم بالتَّقْرِيْبِ بِحَسَبِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ في مَوادِّ شِعْرِهِم، مِثْلَ أَنْ نَنْظُرَ: أَيُّهم أَحْسَنُ مبَادِي ومَقَاطِعَ وتَشْبِيهاتٍ واسْتِعارَةٍ، وأَشَدُّ تَمَكُّنَ فواصِلَ، وأَقَلُّ صَوْناً في شِعْرِهِ، فَيُحْكَمُ لَهُ، وإليهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:«فإن كانَ ولا بُدَّ، فالمَلِكُ الضِّلِّيلُ» ؛ أَيْ: لا طَرِيْقَ إِلَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ تَقْريباً، فالمَلِكُ الضِّلِّيْلُ أَفْضَلُهُم؛ لِأَنَّهُ في القَدْرِ المُشْتَرَكِ الذي ذَكَرْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَرْجَحُ مِنْهُمْ.

الأَمْرُ الثَّالِثُ: في قَوْلِهِ: «فالمَلِكُ الضِّلِّيلُ» . إِنَّ وَصْفَهُ لَهُ بالمَلِكِ، فَلِأَنَّهُ كانَ مَلِكاً ابنَ مَلِكٍ، وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ في شِعْرِهِ حَيْثُ يَقولُ:

وكُنَّا أُناسَاً قَبْلَ غَزْوَةِ قَرْمَلِ

وَرِثْنَا الغِنَى والمَجْدَ أَكْبَرَ أَكْبَرا

وقَوْلُهُ:

فَقُلْتُ له: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّما

نُحاوِلُ مُلْكاً أو نَموتَ فَنُعْذرا

وقَوْلُهُ:

ولكِنَّما أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ

وقد يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالي

ص: 175

وغَيْرُ ذلكَ.

وأَمَّا وصَفُهُ بالضِّليلِ؛ فَلأَنَّ الضِّلِّيلَ هو المُبالِغُ في الضَّلالِ؛ كَقْولِهِمْ: سِكِّيرٌ وخِمِّيرٌ وشِرِّيبٌ وشِرِّيرٌ وسِكِّيتٌ وصِدِّيقٌ وقِدِّيسٌ، وكانَ امرؤُ القَيْسِ صَالّاً في دِيْنِهِ وشِعْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جاهِليَّاً كافراً مُتَهَتِّكاً مُجاهراً بالفُجورِ والفُسوقِ، وذلكَ واضِحٌ في شِعْرِهِ، ويقالُ: إِنَّ لَبِيْدَ بنَ رَبِيْعَةَ مَرَّ على قَوْمٍ فَسأَلوهُ: مَنْ أَشْعَرُ الناسِ؟ فقالَ: المَلِكُ الضِّلِّيلُ، قِيْلَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ الشَّابُّ القَتيلُ، قِيْلَ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: ثُمَّ الشَّيْخُ أبو عَقِيلٍ، يَعْنِي

ص: 176

نَفْسَهُ، والشَّابُّ القَتِيْلُ: طَرَفَةُ بنُ العَبْدِ، قَتَلَهُ عَمرو بنُ هِنْدٍ، وقصَّتُهُ مَشْهورةٌ. وَلِيَكُنْ هذا آخِرُ القَوْلِ في المُقَدِّمَةِ.

ص: 177