المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابعمحاسن تشبيهاته واستعاراته وأمثاله ونحوه - موائد الحيس في فوائد القيس

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌القَوْلُ في المُقَدِّمَةِ:

- ‌البَابُ الأَوَّلُفي مُتَشَابِهِ كَلَامِهِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ في القَلِيلِ وَالكَثِيْرِ

- ‌البَابُ الثَّانِيفي مُتَشابِهِ شِعْرِهِ بِشِعْرِ غَيْرِهِمِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَعَرَبِيٍّ وَمُولّدٍ، في الّفْظِ وَالْمَعْنَى،عَلى حَسَبِ طَاقَتِي فِي الإِملاءِ، وَقَد أُخِلُّ مِنْ ذلِكَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ

- ‌وفائِدَةُ هذا البَابِ شَبِيْهَةٌ بِفَائِدَةِ ما قَبْلَهُ. ولَنْخَتِمْهُ بِضابِطٍ في تَحْقِيْقِ التَّلَقِّي والتَّناولِ

- ‌البَابُ الثَّالِثُفي سَبَبِ اشْتِباهِ كلامِهِ بَعْضِهِ بِبعضٍ

- ‌أَحَدُهُما: اتِّحادُ مَوْضوعِ كلَامِهِ، أَعْنِي مَقْصودَهُ في شِعْرِهِ

- ‌والثَّانِي: تَفَنُّنهُ في البَيَانِ، وقُدْرَتُهُ على الكَلَامِ

- ‌البَابُ الرَّابِعُمحاسِنُ تشبيهاتِهِ واستعاراتِهِ وأمثالِهِ ونَحْوِهِ

- ‌البَابُ الخَامِسُفِي فَوَائِدَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ كَشْفِ مُشْكِلٍ وَغَيْرِهِ

الفصل: ‌الباب الرابعمحاسن تشبيهاته واستعاراته وأمثاله ونحوه

‌البَابُ الرَّابِعُ

محاسِنُ تشبيهاتِهِ واستعاراتِهِ وأمثالِهِ ونَحْوِهِ

ولا يَلْزَمُ اسْتِقْصَاءُ ذلكَ، بل ما نَسْتَحْسِنُه، ويَسْهُلُ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذِكْرِ التَّشْبِيهِ والاسْتِعَارَةِ والمَثَلِ.

أمَّا التَّشْبِيهُ: فهُو إلحاقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ في الحُكْمِ؛ لاتِّفاقِهِما في بَعْضِ الأوصَافِ، وكذلكَ الاستِعَارةُ، غَيْرَ أَنَّ التَّشْبِيهَ يَكُونُ بأداتِهِ وهي الكافُ، والاسْتِعارَةُ بدونِها على جِهَةِ الإِسْنَادِ، فَتَقولُ في التَّشْبِيهِ زَيْدٌ كالأسَدِ، وفي الاستعارَةِ زَيْدٌ أَسَدٌ، فهذا فَرْقُ ما بَيْنَهُما.

والمَثَلُ: قَوْلٌ يَصْدُر عَنْ سَببٍ، ثُمَّ يَتَداوَلُهُ النَّاسُ بِلَفْظِهِ في نَحْوِ ذلكَ السَّبَبِ، هذا هو المَثَلُ، ويَلْحَقُ بهِ ما في مَعْنَاهُ، وقد استقَصَيْتُ حُكْمَ هذهِ الأَشْيَاءِ وغَيْرِهَا هُنَا.

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ص: 254

تَرَى بَعَرَ الصِّيْرانِ في عَرَصَاتِهَا

وقِيْعَانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ

شبه بَعَر الغُزْلانِ بالفُلْفُلِ في سَوَادِهِ وصِغَرِهِ، وإِنْ كانَ الفُلْفُلُ مُسْتَطِيْلاً، فَقَد وَقَعَ التَّشْبِيْهُ في ثَلَاثِة أَشْيَاءَ: اللَّوْنُ والكَمِّيَّةُ والكَيْفِيَّةُ، وهما المِقْدارُ والشَّكْلُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كَأَنِّي غَداةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ

يَعْنِي: كاسِرَ الحَنْظَلِ بِيَدِهِ، فَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ، ومُرَادُهُ: أنَّهُ يَبْكي لِفِراقِهِمْ، وكَذَلِكَ البَصَلُ والخَرْدَلُ، مَنْ قرَّبَهُ مِنْ عَيْنِه دَمَعَتْ، ويُقَالُ: إِنَّ مُخَادِعي الوُعَّاظِ يَنْقَعونَ مَنَادِيْلَهُم في الخَرْدَلِ،

ص: 255

فإذا صَارَوا على المِنْبَرِ مَسَحوا بها وجُوهَهُمْ فَتَدْمَعُ أَعْيُنُهم، فَيَظُنُّ الحاضِرونَ أَنَّهم يَبْكونَ فَيَبْكونَ هُمْ أَيْضاً، ويَحْمَى المْجْلِسُ ويَطِيبُ بِهَذِهِ الذِّكْرُ.

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

إذا قامتا تَضَوَّعَ المِسْكُ منهما

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

تَقْدِيْرُهُ عَلَى الحَقِيْقَةِ: تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُما تَضَوُّعاً مِثْلَ تَضَوُّعِ نَسِيْمِ الصَّبَاـ ففي هذا أحْسنَ التَّشْبِيهَ والاخْتِصارَ بِكَثْرَةِ الحَذْفِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

ص: 256

وهُوَ القَزُّ، وهو مِنْ جَيِّدِ التَشْبِيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّحْمَ أَبْيَضُ كالقَزِّ في البَيَاضِ، وجَعَلَهُ مُفَتَّلاً، إِشَارَةً إلى أَنَّه كانَ مُضَرَّبَا؛ أَعْنِي: ضَرَائِبَ ضَرَائِبَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ولا تُبْعِدِينِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ

الجَنَا: الثَّمَرُ، اسْتَعارَهُ لِمَا يَنَالُهُ مِنْها مِنْ رَشْفٍ وتَقْبِيْلٍ، واستِعارَتُهُ ذَلِكَ لِجَرْي الفَرَس في قَوْلِهِ:

ص: 257

إذا ما اجْتَنَيْنَاهُ تَأَوَّدَ مَتْنُهُ

مِنْ أَبْدَعِ الاستِعاراتِ، يَعْنِي: استَخْرَجْنَا جَرْيَهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيْقَةٌ

فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثيابِكِ تَنْسُلِ

أَيْ: قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ، والقَلْبُ يُكْنَى عَنْهُ بِالثِّيابِ، كَما قَالَ عَنْتَرَةُ:

فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأصَّمِّ ثِيَابَهُ

أي: قَلْبَهُ، وفي التَّنْزِيْلِ:{وثيابك فطهر} [المدثر: 4]؛ أَيْ: قَلْبَكَ مِنْ الشَّكِّ والشِّرْكِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى فَسُلِّي نَفْسِي مِنْ

ص: 258

نَفْسِكِ، وكَنَى بالثِّيَابِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ كلّاً مِنْهُما كاللَّابِسِ للآخَرِ. وفي التَّنْزِيلِ:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]. وقَالَ النَّابِغَةُ الجَعْدِيُّ:

إذَا ما الضَّجِيْعُ ثَنَى جِيْدَها

تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

ص: 259

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ومَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلَّا لَتَضْرِبي

بِسَهْمَيْكِ في أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

أيْ: في نَوَاحِي قَلْبٍ مُعَذَّبٍ هَالِكٍ، كأَنَّهُ قَتِيلٌ، وفي سَهْمَيْها قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُما: أنَّهُما عَيْنَاهَا، لَمَّا بَكَتْ لَحَظَتْهُ بِهِمَا، فَكَأَنَّها رَمَتْهُ بِسَهْمَيْنِ، والثَّانِي: أَنَّه كِنَايَةٌ واستِعَارَةٌ، مَقْصُودُها أَنَّها مَلَكَتْ قَلْبَهُ، واستَوْلَتْ عَلَيْهِ، كما يَسْتَوْلي اليَاسِرُ على الجَزورِ بِسَهْمَيْهِ؛ الرَّقِيْبُ والمُعَلَّى على ما ذُكِرَ في صِفَةِ المَيْسِرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرَامُ خِبَاؤُها

ص: 260

كِنَايَةً عِنِ المَرْأةِ بالبَيْضَةِ، مِنْ جَيِّدِ الاستِعَارَةِ، لاشْتِرَاكِهِما في البَيَاضَ والصَّفَاءِ والمَلَاسَةِ والنُّعومَةِ، وفي التَّنْزِيلِ:{كأنهن بيض مكنون} [الصافات: 49]؛ يعني: بَيْضَ النَّعَامِ، وهو أَبْيَضُ مُشْرَباً صُفْرَةً، وَإِلَيْهِم الإشارَةُ بِقَوْلِهِ:

كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ

ص: 261

أَيْ: المُخَالَطُ بَيَاضُهُ بِصُفْرَةٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

تَرَائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ

يَعْنِي: المَرأَةَ، وإلى صِقَالِها المُنْتَهِي [يُشيرُ]، فهُو مِنْ جَيِّدِ التَّشْبِيهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وتَتَّقِي

بِنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ

أَيْ: ذَاتُ طِفْلٍ، كَمَا قَالَ:

نَظَرَتْ إليكَ بِعَيْنِ جازئَةٍ

حَوْرَاءَ حانِيَةٍ على طِفْلِ

ص: 262

وَهِيَ أَحْسَنُ ما تَكُونُ نَاظِرَةً.

وَيُقَالُ: إنَّ امْرَأَ القَيْسِ أَوَّلُ مَنْ نَهَجَ لِلنَّاسِ تشَبِيْهٌ عُيُونِ النِّسَاءِ ونُحُورِهِنَّ بِعُيونِ الظِّبَاءِ والبَقَرِ، وهذا إنَّما يَصِحُّ ما لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ في شِعْرِ مَنْ قَبْلَهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ

[وقَوْلُهُ]:

وفَرْعٍ يزينُ المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ

أَثِيْثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

ص: 263

شَبَّهَ الشَّعْرَ بِعِذْقِ النَّخْلَةِ المُتَداخِلِ بَعْضُهُ في بَعْضٍ، وأَشارَ إلى طُولِهِ بِقَوْلِهِ:«يَزِينُ المَتْنَ» ، فَذَكَر سَوَادَهُ وطُوْلَهُ وكَثَافَتَهُ، ولَيْسَ بَعْدَ ذَلكَ في الشَّعْرِ حُسْنٌ يُطْلَبُ.

وقَوْلُهُ:

وكَشْحٍ لَطِيْفٍ كالجَدِيْلِ مُخَصَّرٍ

الجَدِيْلُ مُخَصَّرٌ: يَعْنِي: الزِّمامَ المُتَّخَذِ مِنَ السُّيُورِ، فهو لَيِّنٌ دَقِيقٌ رَشِيقٌ.

وسَاقٍ كأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلِّلِ

يَعْنِي: الشَّجَرَ المُتَعَاهَدَ بالسَّقْي، فهو مُمْتَلِئٌ رَيَّاهٌ، فَيَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ:«رَيَّا المُخَلْخَلِ» .

ص: 264

وقَوْلُهُ:

تُضِيْءُ الظَّلامَ بالعِشَاءِ كَأَنَّها

مَنَارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ

وإنَّما قالَ بالعِشَاءِ؛ لأنَّ الظُّلْمَةُ تَكُونُ أَشَدَّ، لِغُيوبَةِ الشَّمْسِ، ووَصَفَ الرَّاهِبَ بالتَّبَتُّل؛ لِدوامِ النُّورِ عنِدْهَ؛ ُ يَعْنِي: أَنَّ نُوْرَ هذِهِ المَرْأَةِ لازِمٌ دائِمٌ لَيْسَ عَارِضاً فَيُفَارِقُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَه

البيت

لأنَّ مَوْجَ البَحْرِ كثيرٌ مُوحِشٌ، مُتَتَابِعٌ لا يَفْرُغُ، ومِنْ ذلكَ المَثَلُ السَّائِرُ، أَنَّ بَعْضَهُم عَدَّ مَوْجَ البَحْر فَغَلِطَ فَقَالَ:«بِنْعُود مِنَ الأَوَّل» . فَشَبَّهَ اللَّيْلَ بهِ في هذهِ الأَوْصَافِ، ثُمَّ استَعارَ لَهُ الصُّلْبَ

ص: 265

ورَشَّحَهُ بالتَّمَامِ، والأَعْجَازَ ورَشَّحَها بالإِردافِ، والكَلْكَلَ وهو الصَّدْرُ، ورَشَّحَهُ بالنَّوْءِ، وهو النُّهَوضُ مُتَثَاقِلاً في قَوْلِهِ:

فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ

وأَرْدفَ أَعجازاً، ونَاءَ بَكَلْكَلِ

مَعَ أنَّ العَجُزَ والصَّدْرَ مُتَقابِلانِ، ولا نَعْلَمُ أَحْسَنَ مِنْ هذا التَّصَرُّفِ في الاستِعارَةِ، وإنْ أُلحِقَ بهِ شَيْءٌ مِنَ الاستِعاراتِ الشِّعْرِيَّة، فَقَوْلُ أَبي ذُؤَيبٍ:

وإذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَها

أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لا تَنْفَعُ

ص: 266

وما كانَ مِنْ نَحْوِ ذلِكَ قَوْلُهُ:

فيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كأَنَّ نُجومَهُ

بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

شَبَّهَ رُكَودَ النُّجومِ بِرَبْطِها بالحِبَالِ القَويَّةِ إلى الجَبَلِ العَظِيمِ، وهو مبالَغَةٌ في المَقْصُودِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُناتِها

بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ

فِيْهِ اسْتِعارَتَانِ، إحداهُمَا قَوْلُهُ:«قَيْدِ الأَوابِدِ» ؛ أيْ: يَمْنَعُها مِنَ الهَرَبِ بِلُحُوقِهِ بها، فكأنَّهُ قَيْدٌ لَهَا، وهو مِنْ إِبْداعاتِهِ.

ص: 267

والثانية: قَوْلُهُ: «هَيْكَلِ» ، شَبَّهَ الفَرَسَ بالهَيْكَلِ، وهو البِنَاءُ العَظِيمُ مِنْ مَعَابِدِ أَهْلِ الكِتَابِ وغَيْرِهِمْ، وتَبِعَهُ النَّاسُ في ذَلِكَ، فَقَالَ البُحْتُرِيُّ:

وأَغَرَّ في الزَّمنِ البَهِيمِ مُحَجَّلاً

قَدْ جِئْتُ مِنْهُ عَلَى أَغَرَّ مُحَجَّلِ

ص: 268

كالهَيْكَلِ المَبْنِيِّ إلَّا أَنَّهُ

في الحُسْنِ جاءَ كَصُورَةٍ في الهَيْكَلِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

يَعْنِي: الفَرَسَ في جَرْيهِ، وهوَ مِنْ أَبْلَغِ التَّشْبِيْهِ؛ لِأَنَّ في ذَلِكَ شَيْئَيْنِ يَقْتَضِيَانِ السُّرْعَةَ، أحدُهُمَا: انحِطَاطٌ مِنْ عُلوٍّ، والثَّانِي: كَوْنُ السَّيْلِ يَدْفَعُهُ فَيَصِيرُ لَهُ دَافِعٌ طَبِيعِيٌّ وقَسْرِيٌّ. ويُرْوَى لِامْرِئِ القَيْسِ بَيْتَانِ في هذا المَعْنَى في غايَةِ المُبَالَغَةِ، وهُوَ قَوْلُهُ:

قد أَشْهَدُ الغَارَةَ الشَّعْواءَ تَحْمِلُني

جَرْدَاءُ مَعْرُوقَةُ اللَّحْيَينِ سُرْحُوبُ

كالدَّلْوِ بُتَّتْ عُرَاهَا وهي مُثْقَلَةٌ

وخَانَها وَذَمٌ مِنْها وتَكْرِيْبُ

ص: 269

شَبَّه سُرْعَةَ فَرَسِهِ بِدَلْوٍ انقَطَعَتْ مِنْ رَأْسِ البِئْرِ مُثْقَلَةً.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

على الذَّيْل جَيَّاشٍ .... البيت

شَبَّهَ هَفِيْفَ الفَرَسِ في جَرْيِهِ بِغَلْي المْرْجَلِ، وهو جَيِّدٌ جِدّاً.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

دَرِيْرٍ كَخُذْرُوفِ الوَلِيْد

البيت

دَرِيْرٌ: مِنْ دَرَّ اللَّبَنُ، إذا سَالَ بِسُرْعَةٍ وكَثْرَةٍ. وخُذْرُوفُ الوَلِيْدِ: خَشَبَةٌ عَرْضُ إصْبَعَيْنِ في طُولِ شِبْرٍ، يُثْقَبُ رَأْسُهَا، ويُجْعَلُ فيهِ خَيْطٌ

ص: 270

طَوِيْلٌ ثُمَّ يُدِيْرُها ويُصِيْبُ بها الأَرْضَ، فَيَجيءُ لها صَوْتٌ بِسُرْعَةٍ، وحِكَايَةُ صَوْتِها خَرْخَرْ؛ ولِذلكَ تُسَمَّى الخَرَّارَةُ، وهذه صُورَتُها:

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

لَهُ أَيْطلا ظَبْيٍ ..... البيت

استَعَارَ لِفَرَسِهِ هذِهِ الأَعْضَاءَ والأَفْعالَ مِنْ هذِه الحيواناتِ، وهي أَحْسَنُ ما تَكُونُ فيها، والسِّرْحاُن: الذِّئْبُ، وإرخاؤُهُ: مَدُّ عُنُقِهِ مُسْتَرسِلاً، والتَّنْفُلُ: وَلَدُ الثَّعْلَبِ، وتَقْرِيْبُهُ: جَمْعُ يَدَيْهِ ووَثْبُهُ.

ص: 271

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كأن سَرَاتَهُ لدى البَيْتِ قائماً

مَدَاكُ عَرُوسٍ

البيت

أَيْ: كَأَنَّ ظَهْرَهُ لانْجِرارِهِ، مَداكُ عَروسٍ؛ وهي الحَجَرُ الذي يُدَقُّ بهِ العِطْرُ، فهو أمْلَسُ مُنْجَرِدٌ، وجَعَلَهُ لِلْعَروسِ؛ لِأَنَّه أكْثرُ استِعمالاً؛ لاحْتِيَاجِها إلى التَّعطُّرِ كَثِيْراً، فهو شَبِيْهٌ بِقَولِ ذِي الرُّمَّةِ:

ووَجْهٌ كمرآةِ الغَريْبَةِ أَسْجَحُ

لِأَنَّ الغَرِيْبَةَ لَيْسَ لهَا مَنْ يُصْلِحُ شَأْنَها، فَتحتَاجُ إلى أنْ تكونَ مِرْآتُها [أَكْثَرَ] استِصْقالاً.

وهذا البَيْتُ مُقَرِّرٌ لِقَوْلِهِ: «بِمُنْجَرِدٍ، في أَوَّلِ وَصْفِهِ، فَهُنَاكَ وَصَفَهُ بِمُطْلَقِ الانجِرادِ، وهَاهُنا بالَغَ فيهِ، و «صَلَايةُ الحَنْظلِ» شَبِيْهٌ

ص: 272

بـ «مَدَاكِ العَرُوسِ» وَهِيَ حَجَرٌ يُفْلَقُ بهِ الحَنْظَلُ، فَيْنَجَرِدُ ويَمْلُسُ، وقِيلَ صَلايَةُ الحَنْظَلِ: لَهَبَتُهُ في اشْتِعالِهِ حِيْنَ تُوْقَدُ بهِ النَّارُ، وَهِيَ تَخْرُجُ مُرْتَفِعةً مُنْتَظِمةً، شَبَّهَ سَراةَ الفَرَسِ بها في ذلكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كأنَّ دِمَاءَ الهادِياتِ بِنَحُرِهِ

عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ

الهَادِيَاتُ: مُتَقَدِّماتُ الوَحْشِ وسَوَابِقُهُ، شَبَّهَ دِماءَهَا في نَحْرِهِ بالحِنَّاءِ في الشَّيْبِ، وهو مُشْعِرٌ بِأَنَّ الفَرَسَ أَبْيَضُ، لَكِنْ يَرُدُّهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كُمَيْتٌ، وَهُوُ الأَحْمَرُ الذي عُرْفُهُ وذَنَبُهُ أَسْودانِ،

ص: 273

ثُمَّ في ذلكَ وَجْهَانِ، أَحَدُهُما، وهو المَشْهورُ: أَنَّهم كانوا يُلَطِّخونَ نَحْرَ الفَرَسِ بِدَمِ صَيْدِهِ، علامَةً عَلَيْهِ، والثَّانِي، وهو أَحْسَنُ تَخَيُّلاً: أنَّ هذا الفَرَسَ لِشِدَّة جَرْيهِ، وارتِفاعِ وَثْبِهِ، يَقْتَحِمُ الوَحْشَ فَيَرْكَبُهُ، فإذا طَعَنَهُ الفارِسُ، نَضَحَ دَمُهُ على نَحْرِ الفَرَسِ وصَدْرِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعَاجَهُ

عَذَارَى دَوارٍ في مُلاءٍ مَذَيَّلِ

شَبَّهَ النَّعاجَ مِنَ الظِّباءِ والبَقَرِ بالعَذَارى في المَلاحِفِ؛ كَأَنَّهُ شَبَّهَ جُلُودَها الحاوِيَةَ لِلُحومِهَا بالمُلاءِ، واستِرْسَالَها عَلى أَكارِعِها بالأَذْيَالِ.

ص: 274

ثُمَّ قَالَ:

فأَدْبَرْنَ كالجَزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ

بِجِيْدٍ مُعَمٍّ في العَشِيْرةِ مُخْوَلِ

شَبَّهَهُنَّ بذلكَ إشارةً إلى أنَّ فِيهِنَّ سُودَاً وبِيْضاً، فَهُنَّ كالجَزْعِ الجامِعِ بَيْنَ السَّوادِ والبَيَاضِ، وجَعَلَهُ بِجِيْدِ الصَّبِيِّ المُعَمِّ المُخوَلِ؛ أَيْ: الشَّرِيفِ العَمِّ والخَالِ؛ لِأَنَّ قِلادَتَهُ تكونُ أَحْشَمَ، وتَفْصِيلُها أَحْسَنَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

فَأَلحقنا بالهادياتِ

البيت

هذا مِنْ جَيِّدِ الاستِعاراتِ، شَبَّه سَوَابِقَ الوَحْشِ بِهادِي القَوْمِ في الطَّرِيْقِ، لِأَنَّه يَتَقَدَّمُهُمْ، ولِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَعْنَاُق الخَيْلِ هَوَادِيْهَا؛ لأَنَّها أَسْبَقُ أَعْضَائِها إلى قُدَّامِها فَكأنَّها تَهْدِي سَائِرَ بَدَنِها.

ص: 275

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَلَمْ يُنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ

أَيْ: لم يَعْرَقْ، استَعَارَ لِلْعَرَقِ نَضْحَ الماءِ والغَسْلَ بِهِ، كَمَا صَرَّحَ بهِ في مَوْضعٍ آخرَ حَيْثُ قالَ:

ولم يُنْضَحْ بِمَاءٍ فَيَعْرَقِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

مَتَى ما تَرَقَّ العَيْنُ فِيْهِ تَسَهَّلِ

إشَارَةً عَجِيْبَةً إلى كَمالِ مَحَاسِنِه؛ أَيْ: لا يُدْرَى لِحُسْنِهِ إلى أَيِّ شَيءٍ تَنْظُرُ مِنْهُ.

وهو كَقَوْلِهِ:

تَصَوَّبُ فيهِ العَيْنُ طَوْرَاً وتَرْتَقِي

ص: 276

وأَظُنُّهُ سَبَقَ في البَاِب الأَوَّلِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وباتَ بِعَيْنِي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ

أَيْ: في عَيْنِي، بِنَاءً عَلَى أَنَّ إدْراكَ المَرْئِي بالانطِباعِ، لا بِاتِّصالِ الشُّعَاعِ، فَاسْتَعارَ نَفْسَ الفَرَسِ لِمثَالِهِ المُنْطَبعِ في العَيْنِ، وهذا المَذْهَبُ هو الصَّحِيحُ الأَكْثَرُ، والعَرَبُ لا يَتَنَبَّهونُ لِتَحْقِيقهِ، غَيْرَ أَنَّ لُغَتَهُمْ وَرَدَتْ مُوافِقَةً لَهُ، وذَلِكَ دَلِيْلُ شَرَفِها وصِحَّتِها، إذْ كانَتْ مُوافِقَةً لِلْفَلْسَفَةِ الصَّحِيْحَةِ، فَتَأَمَّلْ هذِهِ النُّكْتَةَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيضَهُ

كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ

شَبَّهَ وَمِيْضَ البَرْقِ في السَّحابِ بِلَمْعِ يَدَي المَرْأَةِ إذا أَشارَتْ بِهِما ثُمَّ أَخْفَتْهُمَا، وهو تَشْبِيهٌ جَيِّدٌ جِدّاً، وقَوْلُهُ:«في حَبِيٍّ» وهو بحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ باءٍ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ آخِرَ الحُروفِ مُشَدَّدَةٍ، فَعِيْل، مِنْ حَبَا يَحْبُو، ومَرُّ السَّحَاب: شَبَّهَ سَيْرَهُ في الهواءِ

ص: 277

على فُؤادِهِ بِحَبْوِ الصَّبيِّ، فَعَلى هذا قَوْلُهُ:«في حَبِيٍّ» مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: «أُرِيْكَ وَمِيْضَهُ» لا بِلَمْعِ اليَدَيْنِ، وإِنَّمَا ذَكَرْتُ هذا؛ لِأَنَّ بَعَضُهُم يَقُوْلُ:«في خِبَاءٍ مُكَلَّلِ» بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَمْدُودَةٍ، وهو الخِبَاءُ الَّذي يُسْتَكَنُّ فيهِ، وتَعَلُّقُهُ بِلَمْعِ اليَدَيْنِ، وهو خَطَأٌ، والصَّوابُ ما ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَن، تَقْدِيرُهُ: أُرِيْكَ وَمِيضَهُ في حَبِيٍّ مُكَلَّلٍ كَلَمْعِ اليَدَيْنِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

يُضِيءُ سَنَاهُ أو مَصَابِيحُ رَاهِبٍ

شَبَّه وَمِيْضَ البَرْقِ في السَّحابِ بِشيَئْينِ، أَحَدُهُما: لَمْعُ اليَدَيْنِ، وقَدْ سَبَقَ. الثَّانِي: مَصَابِيحُ الرَّاهِبِ، شَبَّهَ كُلَّ وَمْضَةٍ مِنْ وَمَضَاتِ البَرْقِ بِمصْبَاحٍ مِنْ مَصَابِيْحِهِ.

ومِنْ ذلكَ قَوْلُهُ في صِفَةِ السَّيْلِ:

يَكُبُّ على الأَذْقَان دَوْحُ الكَنَهْبُلِ

ص: 278

لَمَّا اسْتَعارَ الكَبَّ، رَشَّحَه بالأَذْقَانِ، أوْ بِالعَكْسِ، لمَّا استَعَارَ الأَذْقَانَ رَشَّحَهُ بالكَبِّ، وهو في الحُسْنِ شَبِيْهٌ بِقَوْلِهِ:

فقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ

البيت

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كَأَنَّ ثَبِيْراً في عرانِيْنِ وَبْلِهِ

كَبِيْرُ أُنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّل

شَبَّهَ الجَبَلَ في شُمُولِ السَّيْلِ لَهُ بِرَئِيْسِ قَوْمٍ اشتَمَلَ بِكِساءٍ، ويُشْعِرُ قَوْلُهُ، بأنَّ ثَبِيْراً أَعْظَمُ الجِبالِ الَّتِي حَوْلَهُ، حَتَّى يُطابَقُ تَشْبِيهَهُ بِكَبِيرِ أُنَاسٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كأَنَّ ذُرى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً

مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءَ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

ص: 279

المُجَيْمِر: قِيْلَ: جَبَلٌ، وقيلَ: أَرْضٌ، وفي وجْهِ التَّشْبِيهِ قَولَانِ؛ أحدُهما: أَنَّ السَّيْلَ غَشِيَ هذا المكانَ حَتَّى لم يَبْقَ مِنْ أَعَالِيْهِ إلا مِثْلَ فَلْكَةِ الِمْغزلِ، والثَّانِي: أنَّ الماءَ غَمَرَهُ جَمِيعَهُ حَتَّى صَارَ الغُثَّاءُ على وَجْهِ الماءِ في قُلَّةِ الجَبَلِ، يَدُورُ كَدَوَرانِ فَلْكَةِ المِغْزَلِ، وهو أَقْرَبُ وأَحْسَنُ مِنْ ظاهِرِ قَوْلِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وأَلْقَى بِصَحراءِ الغَبِيْطِ بَعَاعَهُ

نُزولَ اليَمَانِيِّ ذي العِيابِ المُحَمَّلِ

شَبَّه إِلْقَاءَ السَّحَابِ ثِقَلَهُ مِنَ الماءِ، بإلقاءِ التَّاجِرِ ثِقَلَهُ مِنَ المَتَاعِ عِنْدَ نُزولِهِ لِلرَّاحَةِ، فلم يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئاً.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ص: 280

كَأَنَّ مَكَاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً

صُبِحْنَ سُلافَاً مِنْ رَحِيقٍ مُفَلْفَلِ

شَبَّهَ الطَّيرَ بالسُّكارَى، إمَّا لِخَوْفِها مِنَ السَّيْلِ أَنْ يُهْلِكَها، أو لِفَرحِها بِهِ، ونَشَاطِهَا لَهُ، فهي تَصَوَّتُ وتَطْرَبُ، وهذا أَشْبَهُ، والمَكاكِيُّ: جَمْعُ مُكَّاءٍ، وهو نَوْعٌ من الطَّيْرِ يَصْفُرُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كأَنَّ السِّبَاعَ فيه غَرْقَى عَشِيَّةً

بِأَرْجائِهِ القُصْوَى أَنَابِيشُ عُنْصُلِ

شَبَّهَ السِّباعَ والوَحْشَ الغَرْقَى في السَّيْلِ بأَنَابِيشِ العُنْصُلِ، وهو البَصَلُ البَرِّي ُّالذي تُسَمِّيهِ النَّاسُ بَصَلَ الخِنْزِيرِ؛ لأَنَّه ضاربٌ في الأَرضِ كَثِيْراً، فلا يُقْلَعُ إلا بِحَفرٍ كَثِيْرٍ، يَبِقَى لَهُ على وَجهِ الأرْضِ

ص: 281

تُرابٌ مُجْتَمِعٌ عالٍ، كَجُثَّةِ السَّبُعِ المّيِّتِ، وقَوْلُهُ:«بأَرْجَائِهِ القُصْوَى» ؛ أَيْ: بِجَوانِبهِ البَعِيدَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَها بِمَوْجِهِ حَتَّى انحازَتْ إلى هُنَاكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ألا انعَمْ صَبَاحاً أَيُّها الطَّللُ البَالِي

أَيْ: الخَالِي مِنْ أهْلِهِ، اسْتَعارَ لَهُ البِلَى، وهو فَسادُ الذَّاتِ بِتَلاشِي أجزائِها؛ لأنَّ خُلوَّ المكَانِ مِنْ أهْلِهِ فَسَادٌ، وهذا ضَرْبٌ مِنَ الُمَناقَضَةِ المُسْتَعْمَلةِ في البَيَانِ، وهو أنْ يُقَدِّمَ الشَّاعِرُ كَلاماً ثُمَّ يَنْقُضْهُ، كَمَا قَالَ زُهيرٌ:

ص: 282

قِفْ بِالدِّيارِ الَّتي لَمْ يَعْفُها القِدَمُ

ثُمَّ قالَ:

بَلَى وغَيَّرَها الأَرْواحُ والدِّيَمُ

وكَذَلِكَ هذا قالَ: «ألا انعَمْ صباحاً» ثُمَّ قَالَ: «وهَلْ يَنعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخَالِي» ، دَعَا لَهُ بالنَّعيمِ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ وأَنْكَرَهُ لَهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

وجِيْداً كَجِيْد الرِّئْمِ لَيْسَ بمِعْطَالِ

وفي الأُولَى: «ولا بِمُعَطَّلِ» ، وأصْلُ العُطْلَةُ والعَطَلُ: ذَهَابُ مَنْفَعةِ العُضْوِ وبُطْلانُ فِعْلِهِ، ثُمَّ نَزَّلوا الحَلِيَّ لِلْجِيْدِ مَنْزِلَةَ المَنْفَعَةِ لِلْعُضْوِ إثْبَاتَاً، وبَقيا على طَرِيقِ الاسْتِعارَةِ، ولِذَلِكَ الفَضِيلَةُ للذَّاتِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ص: 283

بَلَى رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهُوتُ وَلَيْلَةٍ

بآنِسَةٍ كأَنَّها خَطُّ تِمْثَالِ

يَعْنِي: الصُّورَةَ المُصَوَّرَةَ والهِيَاكِلَ والبِيْعَ وغَيْرَها، وهو مِنْ أحْسَنِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ المَذْكُورَةَ على اخْتيارِ المُصَوِّرينَ، فَيَأْتُونَ فيها بِكُلِّ حُسْنٍ وافِرٍ، وَكَمَالٍ باهِرٍ، وإنْ شِئْتَ تَحْقِيقَ هذا، فَانْظُرْ كَنائِسَ النَّصارى، وَلِذَلِكَ قالَ الشَّاعِرُ:

وهَلْ أنتِ إلَّا دُمْيَةٌ في كَنِيْسَةٍ

وقولُهُ:

يُضِيءُ الفِراشَ وَجْهُها لِضَجِيعها

كمِصْباحِ زَيْتٍ في قَنادِيْلِ ذُبَّالِ

سَبَقَ شَبِيْهُهُ في قَوْلِهِ: «يضيء الظلام بالعِشَاءِ

البيت».

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كأنَّ على لَبَّاتِها جَمْرَ مُصْطَلٍ

أَصابَ غَضىً جَزْلاً، وكُفَّ بأجْذالِ

وَهَبَّتْ لَهُ رِيْحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوى

صَباً وشَمَالاً في مَنَازِلِ قُفَّالِ

ص: 284

شَبَّهَ حُلِيَّها في حِلَقِها بِجَمْرِ مُصْطَلٍ: وهو المُسْتَدْفِي ونحوُهُ، أَوْقَدَ فيه غَضىً جَزْلاً: وهو الحَطَبُ الغَلِيْظُ؛ لِأَنَّ جَمْرَهُ أْكْبَرُ، وأْكْثَرُ دِفئاً واستِنَارَةً، وجَعَلَ حَوْلَهُ أُصولَ الشَّجَرِ، فهو أحْسَنُ لِمَنْظَرِهِ، وهَبَّتْ لهُ رِيْحَانِ مُخْتَلِفتانِ، تُذْكِيْهِ هذِهِ مِنْ جِهَةٍ، وهذهِ مِنْ جِهَةٍ، فَمِنْ حيثُ نُظِرَ إليهِ وُجِدَ تَمامُ الاستِنَارَةِ. وهذا مِنْ جَيِّدِ التَّشْبِيْهِ.

ومِنْ [ذلكَ] قَوْلُهُ:

لَعُوبٍ تُنَسِّيني إذا قُمْتُ سِرْبالي

كَنَى عَنْ طِيْبِ مُعاشَرَتِها بما هو مُسَبَّبٌ عَنْهُ، وهو نِسْيَانُهُ السِّرْبَالَ؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ يَشْتَغِلُ عَنِ الشَّيْءِ بما هو أَهَمُّ وآثَرُ عِنْدَهُ، وَضْعاً لِلْمُسَبَّبِ مَوْضِعَ السَّبَبِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

كَدِعْصِ النَّقا يَمْشِي الوَلِيْدانِ فَوْقَهُ

ص: 285

شَبَّهَ جِسْمَها بالكَثِيْبِ الصَّغيرِ مِنَ الرَّمْلِ بِتَلَبُّدِهِ ولِيْنِهِ وسُهُولَتِهِ وحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وقد اشْتَهَرَ تَشْبِيْهُ الأَرْدافِ بالكُثْبانِ لذلِكَ، وأمَّا قوْلُهُ:«يَمْشِي الوليدانِ فَوْقَهُ» فأَحْسَنُ ما عِنْدِي فِيْهِ، أنَّ جِسْمَ هَذِهِ المَرْأَةِ كانَ فيه خالٌ وشامٌ مُتفَرِّقٌ، وهو مِمِّا يُسْتَحْسَنُ في الأَجْسَامِ، فشَبَّههُ بآثارِ الوَلِيْدَيْنِ في الكَثِيْبِ؛ لِلَطَافَةِ آثارِهِ، بخِلافِ آثارِ الكَبِيرَيْنِ، وأما تَثْنِيَةُ الوَلِيْدَيْنِ، فَلأَنَّهُ أَخَفُّ مِنَ الجَمْعِ، ولَعَلَّه رَأَى وَلِيدَيْنِ يَلْعَبَانِ على كَثِيْبٍ فَشَبَّهَ بهما تَشبِيهَ عَيانٍ وتأَمُّلٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

إذا ما اسْتَحَمَّت كانَ فَضْلُ حَمِيْمِها

على مَتْنَيْها كالجُمانِ لَدى الجَالِي

شَبَّهَ القَطَراتَ البَاقِيَةَ على جِسْمِها مِنَ الغُسْلِ بالجُمانِ المَجْلُوِّ، وهو قِطَعٌ تُتَّخَذُ مِنَ الفِضَّة ِكاللؤُلُؤِ، وقِيلَ: الحَمِيمُ هو عَرَقُها، وعلى التَّقْدِيرَيْنِ فالتَّشَبيهُ جَيِّدٌ، والأَوَّلُ أجْودُ؛ لأنَّهُ قال:«كانَ فَضْلُ حَمِيمِها» ، فَظَاهرٌ أَنَّهُ أرَاد ما ذَكَرْنَا، إذ لا يُقَالُ كانَ فاضِلُ عَرَقِها.

ص: 286

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

نَظَرْتُ إليها والنُّجُومُ كَأَنَّها

مَصَابِيحُ رهبانٍ تُشَبُّ لِقُفَّالِ

كانَ المَسِيحيُّونَ في الجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْهُمُ الآنَ، إذ لم يَكُنْ مَعَهُم دِيْنٌ آخرُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتِ الدِّياراتُ في البَرِّ وعلى الطُّرُقاتِ كَثِيرَةٌ تَهْتَدِي القُفُولُ بِمَصابِيحِهِم إلى الأَقْطَارِ والجِهاتِ، وتَشْبِيهُ النُّجومِ بها في إنارَتِها ورُكُودِها، وقُرْبِها مِنَ الأَرْضِ في رَأْي العَيْنِ جَيْدٌ جِدّاً.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

سَمَوتُ إليها بَعْدَ ما نَامَ أهْلُها

سُمُوَّ حَبَابِ المَاءِ حَالاً على حَالِ

ص: 287

قِيلَ: مَعْنَاهُ: شَيْءٌ بَعْدَ شَيءٍ، وحَبَابُ الماءِ: الطّرائِقُ المُتَكَسِّرةُ فيه كالوَاشْي، والتَّحقيقُ في هذا أنَّ قَوْلَهُ:«سَمَوتُ إليها» يُحْتَمَلُ أنَّهُ بالهِمَّةِ؛ أيْ: سَمَتْ هِمَّتِي إلى زِيَارَتِها والاجْتِمَاعِ بها، فَسَعَيْتُ إليها، فَيكُونُ الَمْعَنى ما سَبَقَ؛ لِأَنَّ الشَّخصَ يَقْطَعُ الطَّريقَ إلى مَنْ يَزُورُهُ شَيْئاً بَعْدَ شَيْء؛ كَطرائِق المَاءِ تَسْري شَيْئاً بَعْدَ شَيْءٍ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ بالبَدَنِ، بِأَنَّ تَسَوَّرَ إليها مَكاناً عَالِياً كَما قَالَ الآخَرُ:

رَبَّهُ مِحْرابٍ إذا جِئْتُها

لم أَلْقَها أو ارْتَقِي سُلَّما

وَكَمَا فَعَلَ الفَرَزْدَقُ، حَتَّى قِيلَ لَهُ:

ص: 288

تَدَلَّيْتَ تَزْني مِنْ ثَمانِيْنَ قامةً

ونَكَّبْتَ عَنْ طُرْقِ العُلَى والمكارمِ

فَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أنَّ الماءَ إذا جَرَى على الأَرْضِ ارتَفَعَ بَعْضُهُ على بَعْضٍ، طَبَقَةً على طَبَقَةٍ، حَتَّى يَصيرَ لهُ عُمْقٌ، كما أنَّ مُتَسوِّرَ الجِدارِ ونَحْوِهِ يَرْتَفِعُ عَنْ بَسِيْطِ الأَرْضِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الحَدِيثَ واسْمَحَتْ

هَصَرْتُ بِغُضْنٍ ذي شَمَارِيخَ مَيَّالِ

تَنَازَعْنَا الحَدِيثَ: تَرَاجَعْنَاهُ، وهُوَ مِنْ جَيِّدِ الاسْتِعَارَةِ، واسْتَعَارَ الغُصْنَ لِلْقَدِّ، والشَّمَارِيخَ لَمَا فِيْهِ مِنَ الشَّعْرِ ونَحْوِهِ، كما سَبَقِ مِنْ قَوْلِهِ:

أَثِيْث ٍكَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

فَصِرْنَا إلى الحُسْنَى وَرَقَّ كلامُنَا

ورُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَوً أيَّ إذْلالِ

قَوْلُهُ: «فَصِرْنَا إلى الحُسْنَى» كِنَايَةً عَنْ سَمَاحِها وتَسَهُّلِها بَعْدَ التَّوَعُّر، «ورَقَّ كَلامُنا»: كنايَةً عَنِ المُغَازَلَةِ وما يَتْبَعُها مِنَ الكَلامِ، «ورُضْتُ»: كِنايةً عَنِ المُداراةِ والمَلَامَةٍ.

ص: 289

[وَمِنْ ذَلِكَ] قَوْلُهُ:

يَغِطُّ غَطِيْطَ البَكْرِ شُدَّ خِنَاقُهُ

لِيَقْتُلَنِي

البيت

يَعْنِي: مِنَ الغَيْظِ والغَيْرَةِ، يَظْهَرُ لَهُ عَلَيَّ غَلَيَانٌ وزَمْجَرَةٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوالِ

يَعْنِي: نُصولَ السِّهَامِ، شَبَّهَها بِأَنْيَابِ الغُولِ في رِقَّتِها وحِدَّتِها ونُفُوذِها، والغُولُ: زواني الجِنِّ، يُنَفِّرونَهُنَّ من بَينِهم، فَيَتَخَطَّفْنَ

ص: 290

النَّاسَ في البَرِّ، وقد ذَكَرَ تَأَبَّطَ شَرّاً في شِعْرِهِ أنَّه رَأَى الغُولَ وَقَتَلَها، حَيْثُ قالَ:

بأني قد رَأَيْتُ الغُولَ تَهْوي

بِسَهْبٍ كالصَّحيفةِ صَحْصَحانِ

فَأَضْرِبُها بلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ

صَرِيْعاً لِلْيَدَيْن وللجِرانِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

طِوالِ المُتونِ والعَرانِيْنِ والقَنَا

لِطافِ الخُصورِ في تَمامٍ وإكمالِ

ص: 291

كَنَى بالقَنَا عن القُدودِ والقَاماتِ، وهذا البَيْتُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ نَظِيْرٌ في حُسْنِهِ وكمالِهِ، وعُذوبَةِ زِحافِهِ.

وَقَوْلُهُ في صِفَةِ الفَرَسِ:

كَأَنَّ مكانَ الرِّدفِ مِنْهُ على رالِ

[والرَّأْلُ] هو فَرْخُ النَّعَامِ، وهو مِنْ جَيِّدِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ رِدْفَ النَّعامِ مُمْتَلِئٌ مُعْتَدِلٌ مَحْبوكٌ صُلْبٌ أَجْرَدُ، وكُلُّ ذلكَ مَحْمودٌ.

قَوْلُهُ في صِفَتِها أيضاً:

كُمَيْتٍ كأنَّها هِراوةُ مِنْوالِ

وهي الخَشَبَةُ الَّتي يَطْوي عليها الحائِكُ الثَّوبَ، والظَّاهِرُ أَنَّها التي تُسَمَّى النَّوْلَ، شَبَّههَا بها في صَلابَتِها ورَشَاقَتِها.

ص: 292

وقَوْلُهُ في سِرْبِ الوَحْشِ:

وأَكرُعُهُ وَشْيُ البُرودِ مِنَ الخَالِ

أي: ذاتُ خُطوطٍ كالوَشْي، وهو ظَاهرٌ لِمَن يتأمَّلُه في حُمُرِ الوَحْشِ ونَحْوِها، في أَرْجُلِها خُطوطٌ بِيْضٌ وغُبْرٌ، ولَعَلَّ رُؤْبَةَ أَشَارَ إليها بِقَوْلِهِ:

فيها خُطوطٌ مِنْ سَوادٍ وبَلَقْ

كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيْعُ البَهَقْ

قَوْلُهُ:

كأَنَّ الصُّوارَ إذ تَجَاهَدْنَ غُدْوَةً

على جُمُدٍ خَيْلٌ تَجُولُ بِأَجْلَالِ

شَبَّه بَقَرَ الوَحْشِ في حالِ هُروبها بِخَيْلٍ جائِلَةٍ مُجَلَّلَةٍ؛ لأَنَّ الغُبَارَ الَّذي أَثارَتْهُ البَقَرُ عليها كالأجلالِ لِلْخَيْلِ.

قَوْلُهُ:

كأني بِفَتْخَاءِ الجَنَاحَيْنِ لِقْوَةٍ

صَيُودٍ من العِقبانِ طَأْطَأْتُ شِيْمَالِ

شَبَّهَ فَرَسَهُ بالعُقابِ وانقضاضِهَا علَى الصَّيْدِ، وشِيْمالي: أيْ:

ص: 293

شِمالي إليه، أَشْبَعَ الكَسرَةَ ضَرورَة، فَنَشأتِ اليَاءُـ ونَظَائِرُهُ كَثيٌر، نحو: الدَّراهيْمِ والصَّيارِيْفِ ونِيضَال، وَنَحْوِهِ، واللِّجامُ يَكُونُ في الشّمالِ، فالأرجاءُ لِلْفَرَسِ وأَعْنَانُ رَأْسِها يَكُونُ بِهَا.

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً

لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالي

استَعْمَلَ هاهنا اللَّفَّ والنَّشْرَ مُرَتَّباً، وتَقْدِيرُهُ: كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً العُنَّابُ، ويابسَاً الحَشَفُ؛ يَعْنِي: عِنْدَ وَكْرِ اللِّقوةِ التي شَبَّهَ بها الفَرَسَ.

قَوْلُهُ:

ونِسْوانٌ قِصارٌ كَهَيْئَةِ الحَجَلِ

ص: 294

الحَجَلُ: طائِرٌ قَصِيرُ الرِّجْلِ والجُثَّةِ، وشَبَّهَ بِهِ النِّسَاءَ في ذِمَالِهِنَّ؛ لِأَنَّ المَحمودَ مِنَ المَرْأَةِ طُولُ القامَةِ في تَمَامٍ وإكمالٍ كما سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ.

قَوْلُهُ:

كأَنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بِلَبُونِهِ

عُقابُ تَنوفٍ أو عُقَابُ القواعِلِ

[يَعْني] دِثَارَ رَاعِيْهِ، وكانَ قد أُغِيْرَ على إبلِهِ، فَشَبَّه ذَهَابَ المُغِيْرينَ بها باخَتِطافَ العُقْبانِ لَهَا، والقَوَاعِلُ: جِبَالٌ صِغَارٌ بالقَافِ، وتَنَوفٌ: الجَبلُ المُشْرِفُ.

قولُهُ:

عَيْنَاكَ دَمْعُهما سِجالُ

كأَنَّ شَأْنَيْهِما أَوْشالُ

هذهِ قَصِيْدَةٌ عِدَّتُها سَبْعَةَ عَشرَ بَيْتاً، وفيها تَشْبِيهَاتٌ

ص: 295

عَدِيْدَةٌ ومنها قَوْلُهُ:

مِنْ ذِكْرِ لَيْلَى وأينَ لَيْلَى

وخَيْرُ ما رُمْتَ ما يُنالُ

وهو مِنْ جَيِّدِ المَثلِ والحِكْمةِ، لكِنَّها لا تُشْبِهُ شِعْرَ امرئِ القَيْس؛ لاضْطِرَابِ وَزْنِها، فَهِيَ شَبِيْهَةٌ بِقَصِيدَةِ عَبيْدِ بْنِ الأَبْرَصِ:

أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

وَأَيْضاً لم يَعْرِفْها الأَصمَعِيُّ لِامرِئِ القَيْسِ، فَتَرَكْنَاها، وإن كُنَّا ذَكَرْنَا بَعْضَها فيما تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ:

أتَنَكَّرَتْ لَيْلى عَنِ الوَصْلِ

ونَأَتْ وَرَثَّ معاقِدُ الحَبْلِ

ص: 296

كِنايةً عَنْ نَقْضِ العَهْدِ، وخَلْفِ الوَعْدِ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ السَّيْفِ:

في مَتْنِهِ كَمَدَبَّةِ النَّمْلِ

شبَّهَ فِرِنْدَهُ في تَجْعِيْدِهِ بِمَدَّبِ النَّمْلِ؛ أَيْ: مَوْضِعِ دَبِيْبِهِ، وهو جَيِّدٌ.

وقَوْلِهِ:

نَظَرَتْ إليكَ بِعَيْنِ جازِئَةٍ

حَوْرَاءَ حانيةٍ على طِفْلِ

فَلَها مُقَلَّدُها ومُقْلَتُها

ولَهَا عَلَيْهِ سَراوَةُ الفَضْلِ

أَي: لها جِيْدُ الظَّبيةِ ومُقْلَتُها، وهي أَسْرَى مِنها في ذَلِكَ؛ أيْ: أَفضلُ وأَحْسَنُ، وهذا كلامٌ بالِغٌ في الحُسْنِ والجَزَالَةِ.

قَوْلُهُ:

فالله أَنْجَحُ ما طَلَبْتُ بِهِ

والبِرُّ خَيْرُ حَقِيبَةِ الرَّحْلِ

هذا مما يَجْرَى مَجْرَى الأَمثالِ، وهو مِنْ أَصْدَقِها وأَحْسَنِها.

ص: 297

قَوْلُهُ:

نَازَعْتُهُ كَأْسَ الصَّبُوحِ

أي: تَناوَلْتُها مِنْهُ، وتَنَاوَلَها مِنِّي، فَأَشْبَهَ التَّنَازعُ، َ فاسْتَعارَهُ لَهُ.

قَوْلُهُ:

إنِّي بِحَبْلِكَ واصِلٌ حَبْلي

هو كنايَةٌ عَنِ المَحَبَّةِ، وتَقَارُبِ القُلُوبِ.

وقَوْلُهُ:

وَبِرِيْشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي

هو كنايةٌ عنِ التَّقَوِّي به والاعتِمادِ عَلَيْهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.

ص: 298

وقَوْلُهُ:

...... وما

نَبَحَتْ كِلابُكِ طارقاً مِثْلي

كِنَايَةً عَنْ وُرُودِهِ عَلَيْها؛ لِأَنَّ الكِلَابَ تَنْبَحُ الوارِدَ على أَهْلِهَا، مَعَ أَنَّه قد صرَّحَ بالمَقْصودِ حَيْثُ قالَ:«طارقاً» .

قولُهُ في صِفَةِ الخَيْلِ:

مُسْتَفْرِماتٍ بالحَصَى جَوافِلا

أَيْ: يُطَيِّرَّن الحَصَى إلى فُروجِهِنَّ مِنْ شدَّةِ جَرْيِهَا، تَشْبِيهاً باستِفْرَامِ المَرْأَةِ، وهو جَعْلُ شَيْءٍ ما في فَرْجِها تَضْييقاً لَهُ، جَوَافِلا: مُسْتَجمِعاتٌ في الجَرْي، وفي بَعْضِ كُتُبِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ إلى الحَجَّاجِ يَتَوَعَّدُهُ، يَقُوُل:«يا ابنَ المُسْتَفْرِمَةِ بِعَجَمِ الزَّبِيْبِ» .

ص: 299

قَوْلُهُ في صِفَةِ الدَّارِ:

صُمَّ صَدَاها ...........

كِنَايَةً عَنْ خُلُوِّها مِنَ السَّاكِنِ فَمَا عَادَ يُسْمَعُ فِيْهَا صَوْتٌ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ القَتْلَى:

أَرْجُلُهُم كالخَشَبِ الشَّائِلِ

كنايةً عن ارْتفاعِها؛ لانْتِفَاخِها وتَشَنُّجِها وفَسَادِ مِزَاجِها بالقَتْلِ.

قَوْلُهُ:

الحَرْبُ أوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً

تَسْعَى بِزِيْنتها لِكُلِّ جَهُولِ

ص: 300

أي: يَغْتَرُّ بها مَنْ لا يَعرِفُها، فَكَنَى عَنْ إقدامِ الجَاهِلِ عليها بِتَزَيُّنِها لَهُ.

قَوْلُهُ:

حَتَّى إذا اسْتَعَرَتْ وشَبَّ ضِرامُها

صَارَتْ عَجوزاً غَيْرَ ذاتِ خَلِيْلِ

هو كنايَةٌ عَنْ بُغْضِ النَّاسِ لها، كَبُغْضِهِمْ العَجوزَ فلا يتزوَّجُها أَحَدٌ.

قَوْلُهُ:

شَمْطاءَ حَزَّتْ رَأْسَها وتَنَكَّرَتْ

مَكْروهَةً لِلشَّمِّ والتَّقْبيلِ

هذا تَرْشِيْحٌ لقَوْلُهُ: «صَارَتْ عَجُوزاً» .

قَوْلُهُ:

ويَعْدو على المَرْءِ ما يَأْتَمِرْ

هذا جَارٍ مَجْرى المَثَلِ، ومَعْنَاهُ: أَنَّ المَرْءَ قَدْ يَعودُ عَلَيْهِ رَأْيُهُ أو فِعْلُهُ بالهَلَاكِ، كَمَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ سِلاحُهُ فَيَقْتُلُهُ ونَحْوُهُ.

قَوْلُهُ:

إذا رَكِبُوا الخَيْلَ واسْتَلْأَموا

تَحَرَّقتِ الأَرْضُ واليَوْمَ قَرّ

ص: 301

هو كِنَايةٌ عَنْ شِدَّةِ بَأْسِهِمْ وبَطْشِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّ الأَرْضَ تَحْتَرِقُ مِنْهُمْ احتِراقاً، لا يَمْنَعُهُ بَرْدُ الرِّمالِ.

قَوْلُهُ:

وهِرٌّ تَصِيْدُ قلوبَ الرِّجالِ

وأَفْلَتَ منها ابنُ عمرٍو وحُجُرْ

كَنَى بِصَيْدِها القُلوبَ عَنْ تَعَلُّقِها بِها، ومَيْلِها إليها، وتَبِعَهُ في ذلكَ جَرِيْرٌ حَيْثُ قَالَ:

طَرَقَتْكَ صائِدَةُ القُلُوبِ وَلَيْسَ ذا

وَقْتُ الزِّيارةِ فاذْهَبِي بِسَلامِ

قَوْلُهُ:

رَمَتْنِي بِسَهْمٍ أصابَ الفؤادَ

غداةَ الرَّحِيْلِ فَلَمْ أَنْتَصِرْ

هذا كقَوْلِهِ:

وما ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلَّا لِتَضْرِبِي

بِسَهْمَيْكِ

البيت

ص: 302

على القَوْلِ الأَوَّلِ فيه، وحاصِلُهُ أنَّها قَنَصَتْهُ بِأَسْرِها لِقَلْبِهِ، وتَعَذَّرَ وَصْلُها عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ:

فَأَسْبَلَ دَمْعِي كَفَضِّ الجُمانِ

أو الدُّرِّ رَقْرَاقِهِ المُنْحَدِرْ

هذا نَحْوٌ مِنْ تَشْبِيهِهِ فَضْلِ حَمِيْمِها بالجُمانِ، والدَّمْعُ يَتَشَكَّلُ بِشَكْلِ الجُمانِ في استدارَتِهِ وصفَائِهِ.

قَوْلُهُ:

وإذْ هِي تَمْشِي كَمَشْي النَّزِيْفِ

.......... البيت

يَعْنِي: سَكْرَى مِنَ الصِّبَا والجَمَالِ والدَّلَالِ، كالسَّكْرَى مِنَ الخَمْرِ.

قَوْلُهُ:

بَرَهْرَهَةٌ رَخْصةٌ رُؤْدَةٌ

كَخُرْعوبَةِ البانَةِ المُنْفَطِرْ

ص: 303

شَبَّهها بِعُصْنِ البَانِ في اللِّيْنِ والتَّثَنِّي، وأَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ المُدامَ وصَوْبَ الغَمامِ

وريحَ الخُزامَى ونَشْرَ القُطُرْ

يُعَلُّ به بَرْدُ أَنْيَابِها

إذا طرَّبَ الطَّائِرُ المُسْتَحِرّْ

شَبَّهَ فَمَها في طِيْبِ طَعْمِهِ ورائِحَتِهِ بهذهِ الأَشْيَاءِ، غَيْرَ أَنَّ في ذِكْرِهِ الأَنْيَابَ إغْراقاً، إذ لَيْسَتْ مَحَلَّ الرَّشْفِ، وأَكْثَرُ ما يُذْكَرُ في ذلكَ الثَّغْرُ والثَّنَايا، ولو قَالَ أَسْنَانَها لكَان أَعَمَّ من ذلِكَ كُلِّهِ.

قَوْلُهُ:

فَكَرَّ إِلَيْهِ بِمِبْراتِهِ

كما خَلَّ ظَهْرَ اللِّسانِ المُجِرّْ

يَصِفُ الثَّوْرَ الوَحْشِيَّ حِيْنَ ضايَقَهُ الكَلْبُ، فَعَطَفَ إليهِ، فَنَطَحُهُ بِقَرْنِهِ فَشَكَّهُ، والمُجِرُّ: هو الذي يَثْقُبُ لِسَانَ الفَصِيْل بِعُودٍ ليُمْنَعَ مِنْ شُرْبِ اللَّبِنِ ونَحْوِهِ، يَقُوُل: أَنْفَذَهُ بِقَرْنِهِ كما يَنْفُذُ ذَلِكَ العُودُ لِسَانَ الفَصِيْلِ.

قَوْلُهُ:

فَظَلَّ يُرَنِّحُ في غَيْطلٍ

كما يَسْتَدِيْرُ الحِمارُ النَّعِرْ

ص: 304

يَعْنِي: الكَلْبَ لما نَطَحَهُ الثَّوْرُ وَلَّى مُنْهَزِماً يَتَمايَل، كالحِمَارِ الذي أَصَابَهُ الذُّبَابُ في أنْفِهِ، فهو يَحِنُّ مِنْهُ مُنْهَزِماً، والغَيْطَلُ: الشَّجَرُ المُلْتَفُّ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ فَرَسٍ:

لها حافِرٌ مِثْلُ قَعْبِ الوَلِيْـ

ـدِ رُكِّبَ فيه وَظِيْفٌ عَجِرْ

قَعْبُ الوَلِيْدِ: قَدَحٌ صَغِيرٌ، وهو يكونُ لَطِيفاً غَيْرَ مُضْطَرِبٍ، ويُسْتَحَبُّ ذلكَ في الفَرَسِ، والمَقْصُودُ: اسْتِدارَتُهُ وتَحْرِيْفُهُ.

قَوْلُهُ:

لها ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ العَرُوسِ

تَسُدُّ بهِ فَرْجَها مِنْ دُبُرْ

هذا مِنْ أحْسَنِ التَّشْبيهِ، وفَرْجُها عَائِدٌ على الفَرَسِ.

ص: 305

قَوْلُهُ:

لها جَبْهَةٌ كسَرَاةِ المِجِنِّ

حَذَّقَهُ الصَّانِعُ المُقْتَدِرْ

شَبَّهَ جَبْهَتَها بِظَهْرِ التُّرْسِ، سَعَةً واعْتِدَالاً، وهو مَحْمودٌ لها.

قَوْلُهُ:

لها مَنْخِرٌ كَوِجارِ الضِّباعِ

فَمِنْهُ تُرِيْحُ إذا تَنْبَهِرْ

وِجَارُ الضَّبْعِ: مَسْكَنُها الذي تأْوي إليه، شَبَّهِ بِهِ مَنْخَرُ الفَرَسِ، وبيَّنَ فائِدَةَ سَعَتِهَ، وهو سُهولَةُ التَّنْفِيس عِنْدَ الانْبِهارِ وغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ:

وتَعدو كَعَدْوِ نَجاةِ الظِّباءِ

البيت

ص: 306

شَبَّهَ الفَرَسَ في عَدْوِها بالظَّبْيَةِ السَّرِيْعَةِ الطَّالِبَةِ للنَّجاةِ، وهُوَ أَشَدُّ ما يكونُ مِنْ عَدْوِها.

قَوْلُهُ:

لها وَثَباتٌ كَصَوْبِ الغَمَامِ ** فوادٍ خِطاءٌ ووادٍ مَطِرْ

شَبَّهَ وثَبَاتِ الفَرَسِ بِصَوْبِ الغَمامِ، وهو يَحِلُّ بِوَادٍ دُونَ وادٍ، فَكذا هذِه الفَرَسُ، وادٍ تَطْفُرُهُ، ووَادٍ تَجْري فيه، وهذا من أَخْصَرِ الكلام وأَكْثرِهِ مَعْنًى.

قَوْلُهُ:

فَشَبَّهْتُهُمْ في الآل حِيْنَ زهاهُمُ

عَصائِبَ دَوْمٍ أو سَفِيْناً مُقَيَّرا

شَبَّه الرَّكبَ الرَّاحلِيْنَ بِشَيْئَيْنِ؛ جَمَاعاتِ الشَّجَرِ الكِبارِ وهو الدَّوْمُ، والسُّفُنِ المُقَيَّرَةِ لِسَوادِها.

قَوْلُهُ في صفة الناقة:

تُقَطِّعُ غِيْطاناً كَأَنَّ مُتُونَها

إذا أَظْهَرَتْ تُكْسَى مُلاءً مُنَشَّرا

ص: 307

[قَوْلُهُ: تُكْسَى مُلاءً مُنَشَّراً] يَعْنِي: السَّرابَ، هو أَبْيَضُ مُنْتَشِرٌ في البَرِّ كالمُلاءِ المُنَشَّرَةِ، وهو مِنْ أَحْسَنِ ما قِيْلَ في السَّرابِ.

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ صَلِيْلَ المَرْوِ حِيْنَ تُطِيْرُهُ

صَلِيْلُ زُيوفٍ يُنْتَقَدْنَ بِعَبْقَرَا

شَبَّهَ صَوْتَ الحَصَى إذا أَطارَتْهُ بِخُفِّها، بِصَوتِ الدَّراهمِ المُنْتَقَدَةِ، وجَعَلَها زُيُوفاً؛ لِأَنَّ صَوْتَها لَيْسَ بِصَافٍ، فهو كصَوْتِ الحَصَى، فهو عَدْلٌ في التَّشْبِيهِ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ فَرَسٍ:

أَقَبَّ كسِرْحانِ الغَضَى مُتَمَطِّرٍ

أيْ: ضامِرٌ سَريعُ العَدْوِ، وهذا مِنْ أَشْجَعِ الكلامِ وأَجْزَلِهِ.

ص: 308

وقَوْلُهُ:

ولا مِثْلَ يَوْمٍ في قُذارانَ ظِلْتُهُ

كَأَنِّي وأَصْحَابي على قَرْنِ أَغْفَرا

أيْ: على قَرْنِ ظَبْي، كِنَايةً عَنْ عَدَمِ استِقْرارِ قُلُوبِهِمْ، وعم قَلَقِهِمْ ونَحْو ذلك، كما أنَّ الذي على قَرْنِ الظَّبْي لا يَسْتَقِرُّ لِضِيْقِ مَكَانِهِ وَوُعُورَتِهِ.

وقَوْلُهُ:

وابنُ عَمٍّ قد فُجِعْتُ بِهِ

مِثْلُ ضَوْءِ البَدْرِ في غُرَرِهِ

أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تَشْبِيْهِ الشَّخْصِ بالبَدْرِ، [لكنَّ قَوْلَهُ] في غُرَرِه، مِنَ الجَزالَةِ والفَخَامَةِ ما لَيْسَ بغَيْرهِ، وغُرَرُ البَدرِ: قِيْلَ بياضُهُ وضَوْءُهُ، وقِيْلَ الأَيَّامُ البِيْضُ؛ لأنَّها غُرَّةُ الشَّهْرِ، وأَتَمُّ ما يَكُونُ القَمَرُ فِيهِنَّ.

ص: 309

قَوْلُهُ:

ألا إنَّما ذا الدَّهرُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ

ولَيْسَ على شَيْءٍ قَويمٍ مُسْتَمِرّْ

هذا الشَّطْرُ مما يَجْرِي مَجْرَى المَثَلِ في عَدَمِ اسْتِقْرارِ الدَّهْرِ على حَالٍ.

ودَخلَ معَ قَيْصَرَ الحَمَّامَ فَرآهُ أقْلَفَ، فقَالَ:

إني حَلَفْتُ يَمِيْناً غَيْرَ كاذِبَةٍ

أَنَّكَ أَقْلَفُ إلا ما جَنَى القَمَرُ

إذا طَعَنْتَ بهِ مالَتْ عِمَامَتُهُ

كما تُلَوَّى بِرَأْسِ الفَلْكَةِ الوَبَرُ

فاسْتَعارَ لِقُلْفَةِ الذَّكَرِ اسْمَ العِمَامَةِ، [وهي] مِنْ بَدِيْعِ

ص: 310

الاسْتِعارَةِ. وأَمَّا قَوْلُهُ: «إلَّا ما جَنَى القَمَرُ» فَيُرِيْدُ قَوْلَ العَرَبِ: إنَّ المَرْأَةَ إذا وَلَدَتْ في الشَّمْسِ أو القَمَرِ، لا حَائِلَ بَيْنَهما، اخْتَلَسَتْ قُلْفَتَهُ أو بَعْضَ أَسْنَانِهِ.

قَوْلُهُ:

فَعَيْناكَ غَرْبَا جَدْولٍ بِمَفاضَةٍ

كَمَرِّ خَلِيْجٍ في صَفِيْحٍ مُنَصَّبِ

شبَّه عَيْنَيْهِ بِدَلْوِيْ جَدْولٍ لِكَثْرَةِ الدَّمْعِ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ حِمَارِ الوَحْشِ:

يَمُجُّ لُعاعَ البَقْلِ في كُلِّ مَشْرَبِ

ص: 311

يُرِيْدُ أنَّهُ قد أكل الرَّبِيْعَ فَخَبُثَ وِرْدُ الماءِ، بِمَجِّ خُضْرَةِ العُشْبِ فيه.

قَوْلُهُ:

وقد أغتَدِي قَبْلَ الشُّروقِ بِسَابِحٍ

أَقَبَّ كَيَعْفورِ الفَلَاةِ مُحَنَّبِ

شَبَّهَ الفَرَسَ باليَعْفورِ في خِفَّتِهِ وضُمورِهِ ورَشَاقَتِهِ. وانْظُرْ إلى لُغَتِهِ كَيْفَ يَقُولُ تارَةً كيَعْفورِ الفَلاةِ، وتَارَةً كَسِرْحَانِ الغَضَى، وتارَةً كالعُقابِ، وتارةً كَهَراوةِ المِنْوَالي، وَتَارَةً غَيْرَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ:

لَهُ جُؤْجُؤٌ حَشْرٌ كَأَنَّ لِجَامَهُ

يُعَالِي بهِ في رَأْسِ جِذْعٍ مُشَذَّبِ

أَيْ: مَنْزوعُ السَّعَفِ، شَبَّهَ الفَرَسَ في عُلُوِّ صَهْوَتِهِ بالجِذْعِ العَالِي.

ص: 312

قَوْلُهُ:

لَهُ حارِكٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَةُ النَّدى

إلى كاهِلٍ مِثْلِ الرِّتاجِ المُضَبَّبِ

شَبَّهَهُ في صَلابَةِ مَقْدَمِهِ وعَجُزِهِ بالكَثِيْبِ المُلَبَّدِ، والبَابِ المُضَبَّبِ.

وقَوْلُهُ:

كُمَيْتٍ كَلَوْنِ الأُرْجُوانِ نَشَرْتُهُ

لِبَيْعِ التِّجارِ في الصِّوانِ المُكَعَّبِ

شَبَّهَهُ في حُمْرَتِهِ بِلَوْنِ الأُرْجوانِ؛ لِأَنَّه أَظْهَرُ لِلَوْنِهِ وأَحْسَنُ لِكَوْنِهِ.

ص: 313

قَوْلُهُ:

فَقَفَّى على آيارِهِنَّ بِحَاصِبٍ

وغَيْبةِ شُؤْبوبٍ مِنَ الشَّدِّ مُلْهِبِ

اسْتَعارَ لِجَرْيهِ اسْمَ الحاصِبِ: وهي الرِّيْحُ التي تَرْمي بالحَصْبَاءِ لِشِدَّتِها، والشُّؤْبُوبُ: وهو الدُّفْعَةُ الشَّدِيْدَةُ مِنَ المَطَرِ.

قَوْلُهُ:

يَمُرُّ كَمَرِّ الرَّائِحِ المُتَحَلِّبِ

يَعْني: [الرَّائِحُ المُتَحَلِّبُ] كَتَحَلُّبِ اللَّبن.

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ عُيونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبائنا

وأَرْحُلِنَا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ

ص: 314

شَبَّه عُيونَ الوَحْشِ الذي صَادُوهُ وأَكَلوهُ بالجَزْعِ؛ لِجَمْعِهِما بَيْنَ السوادِ والبياضِ، وقَوْلُهُ:«الذي لم يُثَقَّب» تَحْقِيقٌ للتَّشْبِيهِ؛ فلو شَبَّهَ بالجِزْعِ ألمُثَقَّبِ أو بِمُطْلَقِ الجِزْعِ، لَكَانَ في التَّشْبِيهِ نَقْصٌ بالنِّسْبَةِ إلى الجَزْعِ المُثَقَّبِ.

وبَعْضُ الأُدَباءِ، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلِمْنَا مِنْهُمْ، زَعَمَ أن قَوْلُهُ:«الذي لم يُثَقَّبِ» مِنْ بَابِ الإِيغَالِ، وزَعَمَ بأَنَّ التَّشْبِيهِ تَمَّ بِدُونِهِ، فإنْ أرادَ

ص: 315

مُطْلَقَ التَّشْبِيهِ فَنَعمْ، وإن أرادَ التَّشْبيهَ التَّامَ فلا نُسَلِّمُ، وعلى هذا فليسَ مِنْ بابِ الإِيغالِ.

قَوْلُهُ:

ورَاحَ كَتَيْسِ الرَّبْلِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ

البيت

ص: 316

يَعْنِي: مِنْ نَشَاطِهِ ومَرَحِهِ.

قَوْلُهُ:

وجُرْحُ اللِّسانِ كَجُرحِ اليَدِ

هذا مِنْ بابِ المَثَلِ، ولَقَد اقْتَصَرَ، وإلَّا فَجُرْحُ اللِّسانِ أَعْظَمُ مِنْ جُرْحِ اليَدِ، بما لا يُقَاسُ، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

يَموتُ الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ

وَلَيْسَ يَمُوتُ المَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ

فَعَثْرَتُهُ بالقَوْلِ تَرْمي بِرَأْسِهِ

وعَثْرَتُهُ بالرِّجْلِ تَبْرا على مَهْلِ

ولِذلكَ مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ بِلِسَانِهِ كَهِجاءٍ وشَتْمٍ وقَذْفٍ، فهو أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَجْرَحَهُ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ الفَرَسِ:

ص: 317

سَبُوحاً جَموحاً وإحضَارُها

كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوْقَدِ

شَبَّهَ حَفِيْفَ جَرْيها كَصَوْتِ السَّعَفِ في النَّارِ، وهو شَبِيْهٌ بِقَوْلِهِ:

إذا ما جَرَى شأوَيْنِ وابتَلَّ عِطْفُهُ

تَقُولُ هَزِيْزُ الرِّيْحِ مَرَّتْ بأَثْأَبِ

قَوْلُهُ:

ومُطَّرِداً كَرِشَاءِ الجَرو ** رِ من خُلُبِ النَّخْلَةِ الأَجْرَدِ

يَعْني: الرُّمحَ، شَبَّهَهُ بِرِشاء البِئْرِ العَمِيْقةِ؛ وهي الجَرورُ، لِاعْتِدالِهِ وطُولِهِ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ الدِّرْعِ:

ص: 318

ومَشْدودةَ السَّكِّ مَوْضُونَةً

تضاءَلُ في الطَّيِّ كالمِبْرَدِ

أَيْ: تَتَقارَبُ تكاسِيْرُها وغُصُونُها بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ؛ كَتَقارُبِ حُروفِ المِبْرَدِ. وهذا شَيْءٌ لا يُعرَفُ لِغَيْرِهِ، وهو بَدِيْعٌ جداً.

قَوْلُهُ:

تَفِيضُ على المَرْءِ أَرْدَانُها

كَفَيْضِ الأتِيِّ على الجَدْجَدِ

أَيْ: كَفَيْضِ الجَدْولِ عَلى المَكانِ الصُّلْبِ، وشُبِّهَتْ بِالماءِ لِبَرِيْقها وصَفَائِها وَلِينها.

قَوْلُهُ في صِفَةِ كِلابِ الصَّيْدِ:

مُغَرَّثَةً زُرْقاً كَأَنَّ عُيُونَها

مِنَ الذَّمْرِ والإِيحاءِ نَوَّارُ عِضْرَسِ

ص: 319

شَبَّهَ عُيُونَها في حُمْرَتِها بِنُوَّارِ العِضْرِسِ، وهو شَجَرٌ أَحْمَرُ [النَّوْرِ].

قَوْلُهُ:

فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ والنَّسَا

كما شَبْرَقَ الوِلدَانُ ثَوْبَ المُقَدَّسِ

شَبَّه تَمْزِيقَ الكلابِ للثَّوْرِ الوَحْشِيِّ، بِتَمْزِيقِ الصِّبْيانِ ثَوْبَ المُقَدَّسِ، وهو راهِبٌ كانَ يأْتي إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَيَتَلَمَّسُهُ الصِّبيَانُ تَبَرُّكاً بهِ حَتَّى يُمَزِّقوا ثَوْبَهُ.

قَوْلُهُ:

أَعِنِّي على بَرْقٍ أَرَاهُ وَمِيْضِ

يُضِيْءُ حَبِيَّاً في شَمَارِيْخَ بِيْضِ

شَبَّهَ أَهْدَابَ السَّحَابِ بِشَمَارِيْخِ الجِبَالِ، وهي أَعَالِيْها.

قَوْلُهُ:

ويَهْدأُ تاراتٍ سَنَاهُ وتَارَةً

يَنُوءُ كَتَعْتَابِ الكَسِيْرِ المَهِيْضِ

شَبَّهَ نُهوضَ الوَمِيْضِ بِتَعْتَابِ الكَسِيْرِ المَهِيْضِ، وفيهِ وَجْهانِ،

ص: 320

أحَدُهُما: أنَّ المَرِيْضَ إذا عاتَبَ ففي عِتَابِهِ ضَعْفٌ جِدّاً، وهذا في غَايَةِ اللُّطفِ والغرابَةِ، والثَّانِي: أَنَّ الكَسِيْرَ: البَعِيْرَ الذي لا يَسْتَمِرُّ على قوائمِهِ، والمَهْيِضُ:[الذي] انْكَسَرَ بَعْدَ الجَبْرِ، وتَعْتَابُهُ: مَشْيُهُ على ثَلاثِ قوائِمَ، فهو يَقْزِلُ.

قَوْلُهُ في سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاقَةِ:

تَروحُ إذا رَاحَتْ رَواحَ جَهامَةٍ

بإثْرِ جَهَامٍ رائِحٍ مُتَفَرِّقِ

الجَهَامَةُ: السَّحَابَةُ قد رَاقَتْ مَاءَهَا، فَهي سَرِيْعَةُ السَّيْرِ، شَبَّهَ سَيْرَ النَّاقَةِ بِهَا.

قَوْلُهُ:

إذا المَرْءُ لم يَخْزُنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ

فَلَيْسَ على شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ

هذا مما يَجْري مجرى الأَمْثَالِ والحِكَم.

ص: 321

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ قُرونَ جِلَّتِهَا العِصِيُّ

شَبَّه قرونَ المِعْزَى بالعِصِيِّ.

قَوْلُهُ:

إذا ما قامَ حالِبُها أَرَنَّتْ

كَأَنَّ القَوْمَ صَبَّحَهُمْ نَعِيُّ

هذا مِنْ جَيِّدِ التَّشْبِيهِ وبَلِيْغِهِ.

قَوْلُهُ:

تَروحُ كَأَنَّها مِمَّا أصَابَتْ

مُعَلَّقَةٌ بِأَحْقِيها الدُّلِيُّ

ص: 322

وهذا أيضاً كالذي قَبْلَهُ، شَبَّهَ ضُروعَهَا بالدِّلاءِ لِكَثْرَةِ لَبَنِها.

قَوْلُهُ:

كَأَنَّ تجاوُبَ الحُلَّاب فيها

وَقَدْ حَشَكَتْ حوافِلُها دَوِيّ

شَبَّه أصْواتَ الحلَّابِيْنَ لها بالدَّوِيِّ، وهو الصَّوْتُ العَالِي المُسْتَدِيرُ الَّذي لا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ.

وليَكُنْ هذا آخرَ البَابِ، وقد ذَكَرْتُ فيهِ جُلَّ تَشْبِيهاتِهِ واسْتِعاراتِهِ ومَحَاسِنها، ولم أُخِلَّ مِنْها إلا بالأَقَلِّ، إما رَغْبَةً عَنْهُ، أو ضَجَراً مِنْهُ، لاقتِضاءِ الحالِ ذلكَ، واللهُ عز وجل أعْلَمُ بالصوابِ.

ص: 323