المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامسفي فوائد من كلامه من كشف مشكل وغيره - موائد الحيس في فوائد القيس

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌القَوْلُ في المُقَدِّمَةِ:

- ‌البَابُ الأَوَّلُفي مُتَشَابِهِ كَلَامِهِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ في القَلِيلِ وَالكَثِيْرِ

- ‌البَابُ الثَّانِيفي مُتَشابِهِ شِعْرِهِ بِشِعْرِ غَيْرِهِمِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَعَرَبِيٍّ وَمُولّدٍ، في الّفْظِ وَالْمَعْنَى،عَلى حَسَبِ طَاقَتِي فِي الإِملاءِ، وَقَد أُخِلُّ مِنْ ذلِكَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ

- ‌وفائِدَةُ هذا البَابِ شَبِيْهَةٌ بِفَائِدَةِ ما قَبْلَهُ. ولَنْخَتِمْهُ بِضابِطٍ في تَحْقِيْقِ التَّلَقِّي والتَّناولِ

- ‌البَابُ الثَّالِثُفي سَبَبِ اشْتِباهِ كلامِهِ بَعْضِهِ بِبعضٍ

- ‌أَحَدُهُما: اتِّحادُ مَوْضوعِ كلَامِهِ، أَعْنِي مَقْصودَهُ في شِعْرِهِ

- ‌والثَّانِي: تَفَنُّنهُ في البَيَانِ، وقُدْرَتُهُ على الكَلَامِ

- ‌البَابُ الرَّابِعُمحاسِنُ تشبيهاتِهِ واستعاراتِهِ وأمثالِهِ ونَحْوِهِ

- ‌البَابُ الخَامِسُفِي فَوَائِدَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ كَشْفِ مُشْكِلٍ وَغَيْرِهِ

الفصل: ‌الباب الخامسفي فوائد من كلامه من كشف مشكل وغيره

‌البَابُ الخَامِسُ

فِي فَوَائِدَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ كَشْفِ مُشْكِلٍ وَغَيْرِهِ

وقد سَبَقَ أَنَّهُ في أوَّلِ شِعْرِهِ وَقَفَ واسْتَوْقَفَ، وبَكَى واسْتَبْكَى، وذكرَ الحَبِيْبَ والمَنْزِلَ في مِصْراعٍ واحِدٍ، وهذا مِنْ مَحَاسِنِ التَّشْبِيْهاتِ والفَوائِدِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «بِسِقْطِ اللِّوَى» .

يَجُوزُ تَعَلُّقُ البَاءِ بِقِفَا وَنَبْكِ وذِكْرى، وهو أَوْلَى.

ص: 324

قَوْلُهُ:

فَتُوضِحَ فالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنوبٍ وشَمْأَلِ

إنْ قِيْلَ هذا تَنَاقُضٌ؛ لأنَّ نَسْجَ الرِّيْحَيْنِ لَهَا يَقْتَضِي عُفوَّها ودُرُوسَها، فَكَيْفَ نَفَاهُ مع ذَلِكَ؟ . والصَّوابُ إثْبَاتُهُ كما قَالَ النَّابِغَةُ:

عفا آيَهُ نَسْجُ الجَنوبِ مَعَ الصَّبَا

وأسْحَمُ دانٍ مُزْنُهُ مُتَصَوِّبُ

فَجَوابُهُ مِن وُجُوهٍ:

أحَدُها: لا نُسَلِّمُ أنَّ نَسْجَ الرِّيْحَيْنِ لها يَقْتَضِي عُفُوَّها.

الثَّاني: سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لكن أَيُّ الرِّيحَيْنِ يَقْتَضِي نَسْجُهما لِلْمَنْزِلِ عُفُوَّهُ، المُتَقَابِلَينِ أو المُتَقارِبَيْنِ؟

الأَوَّلُ مَمْنُوعٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ امرؤُ القَيْسِ؛ لِأَنَّ الجَنُوبَ تُقابِلُ الشَّمَالَ في الجِهَةِ، فكُلَّما عَفَتْ إحداهُما شَيْئاً مِنْهُ، كَشَفَتْهُ الأُخْرَى

ص: 325

مِنْهُما، كَمَا قَالَ القائِلُ:

تَنَافَرَتْ غَنَمِي يَوْماً فقلتُ لها:

يا ربِّ سَلِّطْ عليها الذِّئْبَ والضَّبُعَا

لِأَنَّهُما إذا اجتَمَعا، اختَصَما وسَلِمَتِ الغَنَمُ، فهو دُعاءٌ لَهَا لا عَلَيْها، بِخِلافِ ما إذا طَرَقَاها مُنْفَرِدَيْنِ.

والثاني مُسَلَّمٌ، وهو الَّذي ذَكَرَهُ النَّابِغَةُ؛ لِأَنَّ الجَنوبَ تَهُبُّ مِنْ ناحِيَةِ سُهَيْلٍ، والصَّبا مِنْ مَشْرِقِ الاسْتواءِ، وهما مُتَقاربانِ، فَيَتَّفِقانِ على الرَّبْع فَيَعْفوانِهِ.

ص: 326

الثَّالِثُ: سَلَّمنا ذلِكَ، لَكِنَّ النَّابِغَةَ لم يَقْتَصِرْ في عُفوِّ الرَّبْعِ على نَسْجِ الرِّيْحَيْنِ لَهُ، بل ذَكَرَ مَعَهما المَطَرَ بِقَوْلِهِ:«وَأَسْحَمُ دانٍ مُزْنُهُ مُتَصَوِّبُ» ، ولم يَذْكُرْ امرؤُ القَيْسِ ذلكَ، ولا يَلْزَمُ مِنْ عُفوِّ الرَّسْمِ بثلاثَةِ أَشْيَاءَ غُفُوَّهُ بِشَيْئَيْنِ.

الرَّابعُ: أنَّ مُرادَ امْرئِ القَيْسِ «لم يَعْفُ رَسْمُها» [لا] لِنَسْجِ الرِّيحِ لَهَا، بَلْ لِتَقَادُمِ الزَّمَنِ كما في قَوْلِهِ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرَى حَبِيْبٍ وعِرْفانِ

ورَسْمٍ عَفَتْ آياتُهُ مُنْذُ أَزْمانِ

وَكَقَوْلِ زُهَيْرٍ:

لِمَنِ الدِّيارُ، بِقُنَّةِ الحِجْرِ؟

أَقْوَيْنَ، مُذْ حِجَجٍ، ومِنْ دَهْرِ

وقَوْلُهُ:

قِفْ بالدِّيارِ، التي لمْ يَعْفُها القِدَمُ

بَلَى، وغَيَّرَها الأرواحُ والدِّيَمُ

ص: 327

قَوْلُهُ:

وُقُوفاً بها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُم

البيت

يَجوزُ تَعَلُّقهُ بِقَوْلِهِ: «قِفَا نَبْكِ» فَيكونُ لِنَصْبِ وقوفاً وَجْهانِ، أَحَدُهُما: على المَصْدرِ؛ أَيْ: قِفَا نَبْكِ، فَقَدْ وَقَفَ وقوفاً بها صَحْبِي. والثَّاني: حالٌ؛ أيْ: قِفا وقوفاً بها صَحْبِي؛ أيْ: حَالَ وقوفِ حَصْبي، ويحُوزُ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ:

كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ

فالتَّقديرُ كَأنِّي نَاقِفُ حَنْظَلٍ إذا كانَ وُقُوفاً بها صَحْبِي.

قَوْلُهُ:

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

إن قِيْلَ هذا أيْضَاً يُعارِضُ قَوْلُهُ: «لم يَعْفُ رَسْمُها» ، وقد

ص: 328

جَعَلَهُ هنا دارِساً، فَجوابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُما: الوَجْهُ الرَّابعُ مِمَّا سَبَقَ، وبِهِ يَزولُ التَّعارُضُ، الثَّاني: حَمْلُ الدَّارسِ على من لا ساكِنَ بِهِ، والعَافِي على ما خَفِيَتْ آثارُ أَهْلِهِ ومَعَالِمُهُم مِنْهُ، ولا تَنَافِي بَيْنَ ذَهابِ السُّكانِ وبَقَاءِ آثارِهِم.

قَوْلُهُ:

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها .... البيت

ويروي كَدِيْنِك، والدَّأْبُ والدِّينُ: العَادَةُ، والمَعْنَى: أَنْتَ في هذا كَدَأْبِكَ قَبْلَهُ مَعَ أُمِّ الحُوَيْرِثِ؛ أي: لا يَنْفَكُّ مُغْرَماً عاشِقاً كُلَّما

ص: 329

ذَهَبَ عَنْكَ غرامُ شَيْءٍ خَلَفَهُ غَيْرُهُ. ويُحْتَمَلُ أنَّه تَحْرِيْضٌ لِنَفْسهِ على مُلَازَمَةِ الغَرامِ والعِشْقِ؛ أَيْ: كُن كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ فلا تَخْلُ مِنْ غرام وعِشْقٍ، فلا عَيْشَ إلا لِلْعُشَّاقِ كما قالَ الشَّيْخُ عُمَرُ بنُ الفَارِضِ رضي الله عنه:

نَصَحْتُكَ عِلْماً بِالْهَوَى، وَالَّذِي أَرَى

فَخَالَفتَنِي فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا يَحْلُو

قَوْلُهُ:

إذا قامتا تَضَوَّع المَسْكُ مِنْهُمَا

ص: 330

يعني: أمَّ الحُوَيرثِ وجارتَها

يُرْوى: المِسْكُ بِكَسْرِ المِيْمِ، وهو الطِّيْبُ، فهو كَقَوْلِهِ:

ويُضْحي فَتِيتُ المِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا

ويُرْوَى المَسْكُ بِفَتْحِ المِيْمِ، وهو الجِلْدُ؛ أي: جِلْدُهُما يَتَضَوَّعُ طِيْباً، فَيُحْتَمَلُ أنَّهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أنَّهُ كَقَوْلِهِ:

وَجَدْتُ بها طِيبَاً وإنْ لم تَطَيَّبِ

أي: يَضَّوَّعُ جلْدُها طِيْبَاً مِنْ غَيْر تَطَيُّبٍ.

ص: 331

قَوْلُهُ:

فَفَاضَتْ دُموعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

البيت

يَجُوزُ انْتِصَابُ صَبَابَةً على التَّمييزِ والمَفْعولِ لَهُ، وَقَوْلُهُ:«حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلي» هو السَّيْرُ الذي يُحْمَلُ بهِ السَّيْفُ، يُحْتَملُ أَنَّهُ ابْتَلَّ بالدَّمْعِ مَعَ جَمِيْعِهِ مُبَالَغَةً، ويُحْتَمَلُ أَنَّ المُرَادَ ابْتِلَالُ ما قابَلَ النَّحْرَ مِنْهُ، وهو ما على الصَّدْرِ مِنَ المِحْمَلِ، ويكونُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الجُزْءِ باسم الجُمْلَةِ.

قَوْلُهُ:

ألا رُبَّ يَوْمٍ صَالحٍ لَكَ مِنْهُما

ص: 332

ويُرْوَى:

ألا رب يَوْمٍ لكَ مِنْهُنَّ صَالِحٌ

والأَوَّلُ أَشْبَهُ تَعْلِيقاً لِلْكَلَامِ بأُمِّ الحُوَيْرِثِ وَجَارَتِهَا.

قَوْلُهُ: «ولا سيَّما يَوم» يَجُوزُ في يَومِ الرَّفْعُ والنَّصْبُ والجَرُّ، على الخَبَرِ والاستثناءِ والإِضافةِ.

ص: 333

قَوْلُهُ:

فيا عَجَبا لِرَحْلِها المُتَحَمَّلِ

ويُرْوَى: «من رَحْلِها» وهو أَجْوَدُ، لِسَلامَتِهِ، مِنَ الزِّحافِ مَعَ اسْتِوَاءِ مَعْنَاهُما، وَعَجَباً: بِمَعْنَى عَجَبي، فهو غَيْرُ مُنَونٍ، مِنْ بَابِ يا غُلامِي، ويا غُلامَا.

قَوْلُهُ:

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

ويُرْوَى: «يَوْمَ عُنَيْزَةٍ» فَفِيها قَوْلانِ، أَحَدُهُما ذلكَ، والثَّانِي:

ص: 334

عُنَيْزَةُ أرضٌ أو جَبَلٌ؟ فَأَما قَوْلُهُ:

تَراءَتْ لَنَا يوماً بِسَفْحٍ عُنَيْزَةٌ

فهو جَبَلٌ.

قَوْلُهُ: «وقد مالَ الغَبِيْطُ بنا مَعَاً» ؛ أي: مَيْلةً وَاحِدَةً فِي زَمَنٍ واحدٍ، وَهُوَ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاجِبٌ.

فأما قَوْلُهُ: «مُقْبلٍ مُدْبرٍ مَعَاً» في صِفَةِ الفَرَسِ، فهو في الحَقِيْقَةِ مُحَالٌ، إذ زَمَنُ الإقبَالِ غَيْرُ زَمَنِ الإِدْبَارِ، وإنَّما ذَكَرَهُ مُبالَغَةً.

قَوْلُهُ:

فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقتُ وَمُرْضِعٍ

ص: 335

أيْ: فَرُبَّ مِثْلُكِ، كَقَوْلِهِ:

فَمِثْلُكِ بَيْضَاءِ العَوارِضِ طَفْلَةٍ

وقَوْلِ الآخَرِ:

يا ربَّ مِثْلِكِ في النِّسَاءِ غَرِيَرَةٍ

بَيْضاءَ قَدْ مَتَّعْتُها بِطَلاقِ

وَيَجُوزُ فِي «مُرضعٍ» الرَّفْعُ والنَّصْبُ والجَرُّ.

قَوْلُهُ:

فَأَلْهَيْتُها عَنْ ذي تمائِمَ مُحْوِلِ

أيْ: قَدْ أَتى لَهُ حَوْلٌ، فهو كَقَوْلِهِ:

. لو دَبَّ مُحْوِلٌ

مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإِتْبِ منها لَأثَّرا

ص: 336

فأمَّا قَوْلُهُ:

بِجِيْدٍ مُعَمٍّ في العَشِيْرَةِ مُخْوَلِ

فَهُو بخاءٍ مُعْجَمَةٍ؛ أَيْ: كَرِيْمُ الخَالِ.

قَوْلُهُ:

أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قاتِلي

وأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُري القَلْبَ يَفْعَلِ

أنكَرَ بَعْضُهُم عليهِ هذا، وقالَ: لِمَ تَسْتَغْربُ منها شَيْئاً، وقد أَعطَيْتَها سَبَبَهُ، وأَيُّ شَيْءٍ يُطْعِمُها فِيْكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْتَ. وجَوابُهُ أنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: لا تَغْتَرِّي بشِدَّةِ إقبالِي عَلَيْكِ، ومَحَبَّتِي لَكِ، فتُسْرِفي في التَّمَنُّعِ، فَإنَّ لي هِمَّةَ المُلُوكِ، فإنْ لم تُنْصِفِيْني في هَواكِ، أَعْرَضتْ بي هِمَّتِي عَنْكِ، فهو كَقولِ الآخَرِ:

ضَلَّتْ ولو كُنْتُ في هذا كما زَعَمَتْ

ما كُنْتُ أُغْمِضُ أجفاني على الضَّررِ

قَوْلُهُ:

تجاوَزْتُ أحراسَاً إليها ومَعْشَرَاً

عَلَيَّ حِراصاً لو يُسِرُّون مَقْتَلِي

ص: 337

يُروى بالسِّيْنِ على مَعْنَى يُخفونَهُ، وَيَجْعَلُونَهُ سِرّاً فَيَضيعُ خَبَري، إمَّا صيانَةً لِأعْرَاضِهِمْ، أو خَشْيَةً مِنْ مُطَالِبِهم بِدَمِي، وبالشِّيْنِ المُعْجَمَةِ، ولَهُ وَجْهانِ: أَحَدُهُما: أنَّه مِنَ الشَّرِّ ضِدَّ الخَيْرِ؛ أيْ: يَقْتُلونِي شَرَّ قِتْلَةٍ كَمُثْلَةٍ ونَحْوِها، والثَّانِي: هو مِنْ شَرَّرْتُ الثَّوْبَ؛ أيْ: نَشَرْتُهُ؛ يَعْنِي: يُظهِرونَ مَقْتَلي افْتِخاراً بي؛ لأَنِّي مَلِكٌ، فَقَتْلِي مما يُفْتَخَرُ بهِ.

قَوْلُهُ:

فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى

بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي قِفافٍ عَقَنْقَلِ

ص: 338

كثيرٌ مِنْ أهْلِ اللُّغَةِ زَعَمُوا أنَّ الواوَ في «وانْتَحى» زَائِدَةٌ، وجَعَلُوهُ شَاهِداً في زِيادَةِ الواوِ في نَحْوِ:{حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} [الزمر: 73]، {فلما أسلما وتله للجبين} [الصافات: 103]، {ولقد ءاتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [الأنبياء: 48]، {وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22] وأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وهو وَهْمٌ، بَلِ الوَاوُ هُنَا عَاطِفَةٌ، وجَوابُ «لَمَّا» قَوْلُهُ:

هَصَرْتُ بِفُودِي رَأْسَها فتَمَايَلَتْ .... البيت

قَوْلُهُ:

وجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفاحِشٍ

إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ

كثيراً ما يستَشْهِدُ الأُصُولِيُّونَ بهذا البَيْتِ على أنَّ النَّصَّ في اللَّغَةِ الكَشْفُ والظُّهورُ، والكَلامُ في تَحْرِيرِهِ غَيْرَ هَاهُنَا.

ص: 339

قَوْلُهُ:

لم تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ عَنْ بِمَعْنَى بَعْد؛ أَيْ: تَفَضُّلٍ، ولا ضَرورةَ إلى ذلك، وإنْ كانَ المَعْنَى قَرِيْبَاً، بَلْ هِيَ على أَصْلِها في المُجَاوَزَةِ إِذْ مَعْنَاهُ لمَ ْتَتَجاوَزْ التَّفَضُّلَ إلى الانْتِطاقِ، وإذا تَجَرَّدَتِ المَرْأَةُ لِشُغْلِها ثُمَّ انْتَطَقَتْ، فَكَانَ انْتِطاقُها صَادِراً عَنْ تَجَرُّدِها صُدُورَ السَّهْمِ عَنِ القَوْسِ في قولِكَ: رَمَيْتُ عَنِ القَوْسِ.

قَوْلُهُ:

كَبِكْرِ المُقَانَاةِ البَيَاضُ بِصُفْرَةٍ

ص: 340

هذا مِمَّا قَدْ يَشْكثل فَهْمُهُ، والمُقانَاةُ: المخالَطَةُ، فَمَعْناهُ: كَبِكْرِ [البَيْضَةِ] التي خُولِطَ بَيَاضُها بِصُفْرَةٍ، أو كَبِكْرِ المُخَالطِ بَيَاضُها، أو المُخالِطَةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ، والمُرادُ: كَأَوَّلِ بَيْضَةٍ باضَتْها نَعامَةٌ خَالَطَ بَيَاضَها صُفْرَةٌ، ويُرْوَى.

كَبِكْر مُقانَاةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ

فَيَكُونُ اختلَاطُ البَيَاضِ بالصُّفْرَةِ لِلْبَيْضَةِ لا لِلنَّعامَةِ.

قَوْلُهُ:

فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ

صَفِيْفَ شواءٍ أو قَدِيْرٍ مُعَجَّلِ

بَعْضُهم يَجْعَلُ هذا إقواءً؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أن يَنْتَصِبَ على صَفِيْفٍ،

ص: 341

تقْدِيْرُهُ: مُنْضِجٍ صَفِيْفاً أو قَدِيْراً مُعَجَّلاً. ويَتَّجِهُ صَوابُهُ بِأَنَّ يُجْعَلَ عَطْفاً على شِواءٍ؛ أَيْ: صَفِيْفَ شِواءٍ وصَفِيْفَ قَدِيرٍ؛ لأَنَّ اللَّحْمَ يُصَفُّ إذا شُوِيَّ، كَذلِكَ قُدورُهُ تُصَفُّ إذا طُبِخَ.

قَوْلُهُ في صِفَةِ المَطَرِ:

وتَيْمَاءَ لم يَتْرُكْ بها جِذْعَ نَخْلَةٍ

ولا أُطُماً إلا مَشِيْداً بِجَنْدَلِ

هذا كما يُحكَى عَنِ المَسِيحِ أنَّه قالَ في بَعْضِ أَمْثَالِهِ التي ضَرَبَها لِقَوْمهِ: إنَّ العاقِلَ يَبْنِي بُنْيَةً بالحَجَرِ في أَرْضٍ صُلْبَةٍ، فإذا جاءَ المَطَرُ لا يُؤَثِّرُ فيه، والجاهِلُ يَبْنِي بُنْيَةً على الرَّمْلِ فَيَجِيءُ المَطَرُ يَسْتَأصِلُهُ، أَوْ كَمَا قالَ.

ص: 342

قَوْلُهُ:

كَأنَّ ثَبِيْراً في عَرانِيْنِ وَبْلِهِ

كَبِيْرُ أُنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ

هذا إقواءٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ «مُزَمَّلِ» أَنْ يَرْتَفِعَ على النَّعْتِ لِكَبِيْرٍ؛ أيْ: كَبِيرٌ مُزَمَّلٌ، لَكِنَّ جَرَّهُ على الجِوَارِ إصلاحاً لِلْقَافِيَةِ، وقالَ أبو عليٍّ: تَقْديرُهُ في بِجَادٍ مُزَمَّلٍ فيه، كما قال:«[هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ]» ؛ أَيْ: خَرِبٍ جُحْرُهُ، وعلى هذا فلا إقواءٌ.

قَوْلُهُ:

فَقَالَتْ سَبَاكَ اللهُ إنَّكَ فاضِحي

أَلَسْتَ تَرَى السُّمَّارَ والنَّاسَ أحْوالي

يُريدُ: جَمْعَ حَوْلَ، مِنْ قَوْلُهُ عز وجل:{فلما اضاءت ما حوله} [البقرة: 17]، ولا أرَى جَمْعَهُ جَائِزاً، كما لا يُقَالُ: أَقْبَالي وأبعادِي، في قَبْلَ وبَعْدَ، ولا أَعْنَادِي في عِنْدَ، ولم يُسْمَعْ بِجَمْعِ «حَوْلَ» إلا في هذا البَيْتِ، فقد يُسَوَّغُ؛ لِنُطْقِ هذا العَرَبِيِّ الفَصِيْحِ بهِ. وقد يُحْمَلُ بِمَنْعٍ، ويُحْمَلُ نُطْقُهُ على الشُّذوذِ والضَّرورةِ، أو على أَنَّهُ حَكَى لَفْظَ

ص: 343

المَرْأَةِ، وقد لا تكونُ عَرَبِيَّةً فَصِيْحَةً. ويَخْطُرُ لي أنَّ هَذِهِ بِنْتُ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فإنَّ امرأَ القَيْسِ لَمَّا وَرَدَ عليه يَسْتَنجِدُهُ على بَنِي أَسَدٍ، أكرَمَهُ قَيْصَرُ وقَرَّبَهُ، وكان مَعْشَقاً، فَعَشِقَتْهُ ابْنَةُ قَيصرَ، وعَادَ يَخْتَلِفُ إليها، وبِذلكَ وشَى بهِ الطَّمَّاحُ الأَسَدِيُّ إلى قيْصرَ حَتَّى مَكَرَ بهِ فَقَتَلَهُ مَسْمُوماً، فَلَعَلَّ حِكايَتَهُ ها هنا عن بَعْضِ اختلافاته إلى بِنْتِ قَيْصَرَ، وهي دَخِيْلَةٌ في العربيّةِ، لا يحتجُّ بها فيها.

قَوْلُهُ:

فَقُلْتُ يَمِيْنُ اللهِ أَبْرَحُ قاعِداً

ولو قَطَّعوا رَأْسِي لَدَيْكِ وأَوْصَالي

أَيْ: لا أبْرَحُ، فَحَذَفَ «لا» لدَلَالَةِ الكَلَامِ عَلَيْها، إذْ لَوْ كانَ إثْبَاتاً لَقَالَ: يَمِيْنُ اللهِ لأَبْرَحَنَّ، ومِثْلُهُ:{تالله تفتؤا} [يوسف: 85]؛ أي: لا تَفْتَؤُ.

ص: 344

قَوْلُهُ:

وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إذْلالِ

يَجُوزُ رَفْعُ «صَعْبَة» ونَصْبُها على الخِلَافِ بَيْنَ أهْلِ المِصْرَيْنِ في تَنَازُعُ العامِلَيْنِ، فالرَّفْعُ بَصْرِيٌّ، والنَّصْبُ كُوفِيٌّ.

قَوْلُهُ:

حَلَفْتُ لها باللهِ حِلْفَةَ فاجِرٍ

لَنَاموا فما إنْ مِنْ حَديثٍ ولا صَالِ

أَيْ: لَقَدْ نَاموا لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وإنما حَذَفَ (قَدْ) للضَّرورَةِ، أو لِظُهورِ إرادَتِها كما في «أَبْرَحُ قاعداً» و {جاءوكم حصرت صدورهم} [النساء: 90]، وهذا جواب قَوْلِها: «ألَسْتَ تَرَى السُّمَّارَ

ص: 345

والنَّاسَ أَحْوَالِي»، كأَنَّها قَالَتْ لَهُ: النَّاسُ حَوْلِي سَامِرٌ ومُصْطَلٍ، فَحَلَفَ لها أنَّه لم يَبْقَ واحِدٌ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ:

يَغِطُّ غَطِيْطَ البَكْرِ شُدَّ خِنَاقُهُ

البيت

هَذِهِ الجُمْلَةُ حالِيَّةٌ؛ أَيْ: مَشْدوداً خِنَاقُهُ، ويَجوزُ أنْ يُقَدَّرَ: البَكْرِ إذا شُدَّ خِنَاقُهُ، والبَكْرِ الَّذي شُدَّ خِنَاقَهُ، فَهذِهِ وأَمْثالُها دائِرَةٌ بَيْنَ الحَالِ والصِّفَةِ والشَّرْطِ.

قَوْلُهُ:

ولَيْسَ بذي سَيْفٍ فَيَقْتُلُنِي به

ولَيْسَ بذي رُمْحٍ وليْسَ بِنَبَّالِ

ص: 346

هذهِ قِسْمَةٌ جَيِّدَةٌ؛ لأَنَّ الآتِ القَتْلِ وإنْ كَثُرَتْ، غَيْرَ أَنَّ المَشْهورَ عِنْدَ العَرَبِ هَذهِ الثَّلاثَةُ؛ السَّيْفُ والرُّمحُ والسَّهْمُ، وقد استَوْفَى ذِكْرَهَا.

قَوْلُهُ:

وقد عَلِمَتْ سَلْمَى وإنْ كانَ بَعْلُها

بِأَنَّ الفَتَى يَهْذِي، ولَيْسَ بِفَعَّالِ

تَقْدِيرُهُ: وقد عَلِمَتْ سَلْمَى وإنْ كانَ بَعْلُها يَهْذي بِقَتْلي، بِأَنَّ الفَتَى يَهْذِي، فاسْتَغْنى عنها بِأَحَدِهِما استِخْداماً أو شِبْهَهُ.

قَوْلُهُ:

وماذا عَلَيْهِ أَنْ نَرُوضَ نَجائِباً

كَغِزلَانِ وَحْشٍ في محاريبِ أَقْوالِ

اعلم أنَّ هذا اسْتِهْتَارٌ يُضْحَكُ مِنْهُ، إذ يَقُولُ: وماذا على الرَّجُلِ أنْ يُهْتَكَ عِرْضُهُ ويُهَانَ فِراشُهُ، فهو كَمَنْ يَقْتُلُ إنسَاناً ويَقُولُ: ماذا عليكَ أَنْ استَخْرِجَ مِنْكَ دَماً كَأَنَّهُ العَقِيْقُ في حُمْرَتِهِ، والمُدامُ في قَوامِهِ، وعينُ الدِّيْكِ في صَفائِهِ. ولَقَدْ ذَكَرْتُ لِهذا حِكايَةً وهي أنَّ

ص: 347

إسحاق المَوْصِليِّ كانَ يهوى وَلَّادةَ المَخْرَمِيَّةَ، فَكَتَبَ إليها:

«تَقي الله فِيمَنْ قَدْ تَبَلْتِ فُؤادَهُ

وتَيَّمْتِهِ حَتَّى كَأَنَّ بهِ سِحْراً

دَعِي البُخْلَ، لا أسْمَعْ بِقَوْمِك

إنَّما سَأَلتُكِ شَيْئاً لَيْسَ يُعْري لَكُمْ ظَهْراً»

فَكَتَبَتْ إليه تَقُولُ: «صَدَقْتَ، أَعزَّكَ اللهُ، إنَّه لا يُعري لَنَا ظَهْراً، ولكِنَّهُ يَمْلأُ مِنَّا بَطْناً» .

ص: 348

ويُحكى أنَّ أعرابياً دَخَلَ البَصرةَ فرأى المُؤذِّنِيْنِ على مَكانٍ يُؤَذِّنونَ، فقالَ لِرَجُلٍ: ما يَقولُ هؤلاءِ؟ فقالَ لَهُ الرَّجُلُ: هَؤلاءِ يَتَمَنَّوْنَ حوائِجَهُمْ فَتُقْضَى، قالَ: فإنَّ لي حاجَةً أُرِيْدُ أَتَمَنَّاها، قَالَ: وما هي؟ فأَنْشَدَهُ أبْيَاتاً تَتَضَمَّنُ حاجَتَهُ، فاسْتَحْمَقَهُ الرَّجُلُ، ثُمَّ جَاءَ إلى رَئيسِ المُؤَذِّنِيْنَ فقالَ: هاهُنَا أعْرَابِيٌّ يُؤذِّنُ جَيِّداً، فَإنْ رَأَيْتَ أنْ تُجَرِّبَهُ ثُمَّ تَجْعَلُهُ مِنْ أَصْحابِكَ، قالَ: فادْعُهُ، فَدَعَاهُ، فقالَ لَهُ: أسْمِعْنَا ما عِنْدَكَ، فَجَعَلَ يَدُورُ على ذلكَ العُلُوِّ ويُنْشِدُ:

جَزَى اللهُ عَنَّا ذاتَ بَعْلٍ تَصَدَّقَتْ

على عَزَبٍ حَتَّى يكونَ له أهْلُ

وإنَّا سَنَجْزيها بما صَنَعَتْ بنا

إذا ما تَزَوَّجَتْ ولَيْسَ لها بَعْلُ

أفِيْضوا على عُزَّابِكم بِنِسَائِكُمْ

فما في كِتَابِ اللهِ أَنْ يُحْرَمَ الفَضْلُ

قالَ: فَلَعَنَهُ الرِّجالُ وأَلْقَوْهُ عن ذلكَ المكانِ، وأمَّا النِّساءُ فَتَأَسَّفْنَ علَيْهِ وقُلْنَ: ما أَحْسَنَ ما قَالَ! وما أَذَّنَ أَحدٌ أَحْسَنَ مِنْه.

قَوْلُهُ:

ص: 349

أَوانِسَ يُتْبِعْنَ الهوى سُبُلَ المُنَى

يَقُلْنَ لِأَهلِ الحِلْمِ ضُلّاً بِتَضْلالِ

أيْ: يُصَيِّرنَ المُنَى تَبَعاً لِلْهَوى، فإذا هَويَهُنَّ الشَّخْصُ اعْتَراهُ بِمُنَى وَصْلِهِنَّ [ضَلَالٌ] بِكُلِّ سَبِيْلٍ، وهذا مِنْ أَخْصَرِ الكَلَامِ، مَعَ كَثْرَةِ مَعْنَاهُ، وشَطْرُهُ الأَخِيْرُ شَبِيْهٌ بِقَوْلِهِ:

إلى مِثْلِها يَرْنو الحَلِيْمُ صَبَابَةً

قَوْلُهُ:

صَرَفْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدى

ولَسْتُ بِمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ

قِيْلَ: مَعْنَاهُ خَشْيَةَ الفَضِيْحَةِ، وقد أَبانَ بهذا مَعَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كانَ تَارَةً يَتَهَتَّكُ، وتَارَةً يَتَصَوَّنُ، وتارةً يَتَمَسَّكُ.

قَوْلُهُ:

كأني لم أَرْكَبْ جواداً لِلَذَّةٍ

ولم أتَبَطَّنْ كاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ

ولم أَسْبإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولم أَقُلْ

لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّة بَعْدَ إجفالِ

ص: 350

أَنْكَرَ بَعْضُهم عليه هذا وقالَ: إنَّ شُطُورَ هذين البَيْتَيْنِ غَيْرُ مُلْتَئِمَةٍ، ولو كَانَ هكذا:

كَأَنِّي لم أَرْكَبْ جواداً ولم أَقُلْ

لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ

ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ لِلَذَّةٍ

ولم أَتَبَطَّنْ كاعِبَاً ذاتَ خَلْخَالِ

لَكانَ أَجْوَدَ، لِيَجْمَعَ لَذَّةَ الخَيْلِ في بَيْتٍ واحدٍ، ولَذَّةَ الخَمْرِ والنِّساءِ في بَيْتٍ وَاحِدٍ. وأُجِيْبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أراد جَمْعَ لَذَّةِ مَرْكُوبِيِّ اللَّيْلِ والنَّهارِ في بَيْتٍ، ولَذَّةِ الغَزَاةِ والخَمْرِ المُشَجِّعَةِ على القِتَالِ في بَيْتٍ، واعتَرَضَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ هذا الاعتِراضَ على

ص: 351

أبي الطَّيِّبِ في قَوْلِهِ:

وَقَفْتَ وما في المَوْتِ شَكٌّ لواقِفٍ

كَأَنَّكَ في جَفْنِ الرَّدَى وهو نائِمُ

تَمُرُّ بِكَ الأَبْطالُ كَلْمَى هَزِيْمَةً

وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وثَغْرُكَ باسِمُ

فأجاب أبو الطَّيِّبِ: بأنَّهُ أرادَ المُطَابَقَةَ بَيْنَ ذِكْرِ المَوْتِ والرَّدَى في بَيْتٍ، والجَمْعَ بَيْنَ عَبُوسِ المُهْرِ وتَبَسُّمِ المَمْدُوحِ في بَيْتٍ، فاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ.

ص: 352

قَوْلُهُ:

ولو أَنَّ ما أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيْشَةٍ

كفاني، ولم أَطْلُبْ، قَلِيْلٌ مِنَ المالِ

ولَكِنَّما أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ

وقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

احتجَّ الكوفيونَ بِقَوْلِهِ: «كَفَانِي ولَمْ أَطْلُب قَلِيْلٌ» على إعمال الأوَّلِ عِنْدَ تَنازُعِ العامِلَيْنِ، ووافَقَهُمْ أبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ في الإِيضاحِ على أَنَّهُ مِنْ هذا البَابِ، وزَعَمَ البَصْرِيُّونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأدائِهِ إلى التَّنَاقُضِ، فعَلى الأَوَّلِ تَقْدِيْرُهُ: كَفَاني قَلِيْلٌ مِنَ المالِ ولم أطْلُبْهُ، بَلْ كانَ يأْتِيني عَفْوَاً بلا تَعَبٍ، وعلى الثَّاني تَقْدِيْرُهُ: كَفَاني قَلِيْلٌ

ص: 353

مِنَ المالِ ولم أَطْلُبِ المُلْكَ، فَلَمْ يَتَوَجَّها إلى مَعْمولٍ واحِدٍ. والأَشْبَهُ قَوْلُ الكُوفِيِّينَ، غَيْرَ أَنَّ النُّصوصَ مَعَ البَصْريين أَكْثَرُ.

قَوْلُهُ:

نَطْعَنُهُمْ سُلْكَى ومَخْلُوجَةً

كَرَّكَ لَأْمَينِ على نَابِلِ

أي: نَطْعَنُهم طَعْناً مُسْتَقِيماً ومُنْحَرِفاً. ثُمَّ في وَجْهِ التَّشْبِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُما: أنَّهُ شَبَّهَ ذلك بإلقاءِ سَهْمَيْنِ إلى نابِلٍ، فَيَمْضِي أَحَدُهما مُسْتَقيماً وَيَنْحَرِفُ الآخرُ. والثاني: أنَّهُ هكذا كَرُّ كلامَيْنِ على نَابِلِ، هو أنْ يُقالَ لَهُ: ارْمِ ارْمِ. وهذا فيه لَمْحَةٌ مِنْ

ص: 354

قَوْلِهِ في الصَّيْدِ:

فَعَادَيْتُ منها بَيْنَ ثورٍ ونَعْجَةٍ .... البيت

كَأَنَّهُ يَقْلَعُ الرُّمْحَ مِنَ الثَّوْرِ ويَضَعَهُ في النَّعْجَة، كَذَلِكَ هنا يَقْتَلِعُ الرُّمْحَ مِنَ الطَّعْنَةِ المُسْتَقِيْمَةِ، ثُمَّ يَطْعَنُ بهِ مُنْحَرِفَةً بتَوَاتُرٍ مِنْ غَيْرِ تَفَاتُرٍ.

قَوْلُهُ:

فاليَومَ أَشْرَبْ غَيرَ مُسْتَحْقِبٍ

إثْمَاً مِنَ اللهِ ولا واغِلِ

أصْلُهُ أشْرَبُ بِضَمِّ البَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارعٌ لا جازِمَ لَهُ، وإنَّما أَسْكَنَ البَاءَ تَخْفيفاً لإِقامَةِ الوَزْنِ، ولو ضَمَّها لانحَرَفَ شيئاً ما، والمُبَرِّدُ يَرْوِيْهِ.

فاليَوْمَ فاشْرَبْ

ص: 355

أَمْرٌ، فلا ضَرُورةَ.

قَوْلُهُ:

فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُك إنَّما

نحاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فَنُعْذرا

تَقْدِيْرُهُ: إلَّا أَنْ نَمُوتَ، وتَحْقِيْقُهُ: إنَّما نحاوِلُ أنْ نَمْلِكَ أو نَموتَ، فهو أَقْرَبُ وأَشْبَهُ.

قَوْلُهُ:

فإنِّي أَذِيْنٌ إن رَجَعْتُ مُمَلَّكاً

بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الفُوانِقَ أَزْوَرا

قيل: مَعْنَاهُ: ضامِنُ وكَفِيْلٌ، والصَّوابُ أَنِّي مُعْلِمٌ ومُنْذِرٌ مَنْ أَذِنْتُ؛ أَيْ: عَلِمْتُ.

قَوْلُهُ:

وَعَمْرو بْنُ دَرْماءَ الهُمامُ إذا غَدا

بِذِي شُطَبٍ عَضْبٍ كمِشيَةِ قَسْوَرا

ص: 356

هذا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ قَسْوَرَ هَاهُنَا في مَحَلِّ جَرٍّ بالإِضافةِ، ولا أَعْلَمُ لِنَصْبِهِ وَجْهَاً إلا الضَّرورَةَ مِنْ بَابِ الإِقواءِ، كقَوْلِهِ:«في بِجادٍ مُزَمَّلِ» ونَحْوِهِ، اللَّهُمَّ إلا أنْ يَكُونَ أرادَ «قَسْوَرَةٍ» ثُمَّ حَذَفَ التاءَ وأشْبَعَ الفَتْحَةَ قَبْلَها لِأَجْلِ القَافِيَةِ، فَنَشَأَت الأَلِفُ، هذا وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ:

وتَعْرِفُ فيهِ مِنْ أَبِيْهِ شَمَائِلاً

ومِنْ خَالِهِ ومِنْ يَزِيْدَ ومِنْ حُجُرْ

سَمَاحةَ ذا وبِرَّ ذا ووفاءَ ذا

ونائِلَ ذا إذا صَحَا وإذا سَكِرْ

هذا البَيْتُ لا يَعْلَمُ مِثْلُهُ في كَثْرَةِ زحافِهِ، فإنَّهُ في جَمِيْعِ أَجْزَائِهِ وأَكثَرِها.

قَوْلُهُ:

فَظَلَّ لَنَا يَومٌ لَذِيذٌ بِنَعْمَةٍ

فَقُلْ في مَقِيلٍ نَحْسُهُ مُتَغَيِّبِ

أي: مُتَغَيِّبٍ نَحْسُهُ، قَدَّمَ وأَخَّر لِأَجْلِ القافيَةِ، ولو كانَ على ظاهِرِ تَرْتِيْبِهِ لَوَجَبَ الرَّفْعُ خَبَراً لِمُبْتَدَأ، وَكَانَ إقواءً. قَوْلُهُ: فَقُلْ، مِنَ القَوْلِ، لا مِنْ القَيْلُولَةِ؛ أيْ: قُلْ فيه بِجُهْدِكَ فلن يُمْكِنكَ أن تَصِفَهُ إلا بالحُسْنِ والسَّعْدِ.

ص: 357

قَوْلُهُ:

يُفَدُّونَهُ بالأُمَّهاتِ وبالأَبِ

أيْ: وَبِالآبَاءِ، وإنِّما أَفْرَدَ رِعَايَةً لِلْقَافِيِةِ، وهذا أقَلُّ ما يُمْكِن في البَحْرِ الطَّويلِ، أَنْ يكونَ شَطْرُهُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ.

قَوْلُهُ:

وبَعْدَ مُلُوكِ كِنْدَةَ قد تَوَلّوا

بأَكرمِ شِيْمَةٍ وأَقَلِّ عابِ

إن أرادَ عَدَمَ العَيْبِ بالكُليَّةِ، ولكِنَّهُ كَقَوْلِهِ عز وجل:{فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88]، و {قليلاً ما تشكرون} [الأعراف: 10، والسجدة: 9، والملك: 23] ونَحْوِهِ مما استُعْمِلَتْ فيهِ القِلَّةُ مَوْضِعَ العَدَمِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ امرأَ القَيْسِ استَعْمَلَ الصِّدْقَ أو العَدْلَ في هذا، وعَلِمَ أنَّ قَوْمَهُ لا يُجلُّونَ مَنْ عابَ، فَوَصَفَهُمْ بِقِلَّتِهِ لا بعَدَمِهِ.

ص: 358

قَوْلُهُ:

وَكَأَنَّمَا بَدْرٌ وَصِيْلُ كُتَيْفَةٍ

وَكَأَنَّمَا مِنْ عاقِلٍ أَرْمَامُ

هَذِهِ [قافيةٌ] مَرفوعةٌ مِنْ قَوِافٍ مَجْرورَةٍ، وهي قَوْلُهُ:

لِمَن الدِّيارُ غَشِيْتُها بِسُحَامِ

فهو إقواءٌ.

قَوْلُهُ:

ثيابُ بني عَوْفٍ طَهارَى نَقِيَّةٌ

وأَوْجُهُهمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانِ

هذا حَقُّهُ الرَّفعُ، وهو في قَوافٍ مَجْرورةٍ، فهو كالذي قَبْلَهُ.

ص: 359

هذا آخِرُ ما تَرْجَمْنَاهُ مِنَ الأَبوابِ في صَدْرِ الكِتابِ، وقد تَضَمَّنَ جُلَّ فوائِدِ الدِّيوانِ، ولم يَبْقَ مِنْ شَرْحِهِ إلَّا أَنْ نَسْتَقْرِيَ أَبْيَاتَهُ، فَنَذْكُرَ منها الغَرِيْبَ والمَعَانِيَ ما لم يَتَضَمَّنْهُ إملاؤُنا هذا، وقد كُنْتُ عَزَمْتُ على أنْ أَجْعَلَ ذلك خاتِمَةَ هذا التَّعْلِيقِ فَيَكْمُلُ بهِ شَرْحُ الدِّيوانِ على التَّحْقِيْقِ، غَيْرَ أَنَّ عَوادِيَ الأَقْدارِ تَصُدُّ الإِنْسَانَ عَمَّا يَخْتَارُ، فَلَقَدْ أوْرَدْتُ هذا التَّعلِيقِ مُتَعَلِّلاً بهِ تَعَلُّلَ اللرَّضِيْعِ زَمَنَ الفِطامِ، بما يُلْهَى بهِ من الطَّعَامِ لأَوْقاتِ ضَنَكِهِ، وَرَجَاءِ مُنْفَكَّهِ، لا أَجِدُ مِنْها قراراً، ولا أُطْعَمُ النَّومَ إلَّا غِراراً، وإنْ مَنَّ اللهُ عز وجل بالعافيةِ، أَكْمَلْت شَرْحَ الديوانِ، بانياً على هذا التَّعلِيقِ، أو مُسْتَأنِفاً له بِتَقْديرِ التَّوفِيقِ، وقد أَتَيْتُ مِنْ كُلِّ بابٍ مِنَ الأبوابِ الخَمْسَةِ على أكثرِهِ، ولم أَلتَزِمْ استِقصاءَ نَظْمٍ أَجْمَعِهِ. والحُكْمُ أنَّ مِن خَصَائِصِ شِعْرِ امرئ القَيْسِ كثْرَةَ الزِّحافِ، وغَلَبةَ البحرِ الطَّويلِ، والزِّحافُ بهذا البَحْرِ في شِعْرِ غيرِهِ كَثيرٌ.

تمَّ بِحَمْدِ اللهِ

ص: 360