الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاث وعشرون: آثار الشيوعية
لقد قامت الشيوعية على أسس ومبادئ آمن بها الشيوعيون، وحاولوا تطبيقها على مجتمعاتهم، زاعمين بأن تلك الأسس والمبادئ ستخلِّص الشعوب من وطأة الرأسمالية وتوصلها إلى الفردوس المنتظر، وتقضي على جميع المشكلات وتنأى عن الطبقية والفردية.
فماذا تم بعد قيام الشيوعية؟ وما الذي حدث من جراء تطبيقها؟ وما الآثار التي ترتبت على اعتناقها؟ وماذا كانت النتيجة؟
الجواب سيتضح - إن شاء الله - من خلال الحديث عن الشيوعية بعد التطبيق، وعن الآثار المترتبة على الإلحاد، ثم عن سقوط الشيوعية.
أولاً: الشيوعية بعد التطبيق (1):
لقد زعمت الشيوعية بأنها ستحقق العدل، وتنشره بين الناس؛ حيث ستلغي الفوارق بين الطبقات، وستجعل الناس يعيشون في مستوى اقتصادي واحد، وسيأخذ كل واحد منهم قدر حاجته من المال.
وإذا تساوى الناس في مستواهم الاقتصادي والمالي فسيكون الطريق أمامهم مفتوحاً للمساواة في جميع المجالات سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.
هذه هي الدعوى، ولكن أي البينة؟
والدعاوى ما لم يقيموا عليها
…
بيناتٍ أصحابها أدعياء
إن الحقائق تكذب تلك الدعاوى، والواقع يقول بخلاف ذلك؛ فلقد حصل بعد تطبيق الشيوعية ما يلي:
1 -
وقوع الشيوعيين في الطبقية: لقد ادعى الشيوعيون أن إلغاء الفوارق بين الطبقات أمر لابد منه، وأن السبيل إلى ذلك هو الصراع الدموي؛ فكل امتياز أو طبقية - بزعمهم - إنما هو أثر من آثار الأنانية وتحكيم المصلحة الذاتية.
وإذا كان النظام الشيوعي يدعي تلك الدعوى فإن واقعه يكذبها؛ فما تلك الدعاوى سوى شعارات براقة، ووعود معسولة كاذبة يخدعون بها السذج دونما التزام بها، وإليك بعض الأمثلة:
أ - تفاوت الأجور: فمعدل الأجر المتوسط للعامل في الاتحاد السوفيتي عام 1935م حوالي 1800 روبل سنوياً، في الوقت الذي بلغ فيه راتب الأمين العام للجنة الغزل والحرير الصناعي مبلغ 45 ألف روبل سنوياً.
ثم إن أجرة الفلاح الروسي 300 روبل شهرياً، ويقتطع منها 150 روبلاً لتقوية الصناعات.
في الوقت الذي يتقاضى فيه أهل الطبقة المثقفة - كما يزعمون - من الممثلين والفنانين والأدباء والراقصات أجوراً عالية تصل إلى 20 ألف روبل شهرياً.
ب - تفاوت مستويات التعليم: فأبناء الطبقة المثقفة يتمتعون بالتعليم الجامعي المجاني وغير المجاني.
أما أبناء الفلاحين فلا يستطيعون ذلك.
ج - إقرار الحوافز: فهؤلاء الذين يرفعون شعار المساواة، والعدل ورفض الطبقية أقروا الحوافز والجوائز؛ فلقد أذاعت وكالة الأنباء السوفيتية - تاس - أن جائزة ستالين للموسيقى وقدرها مائة ألف روبل - قد منحت سنة 1947م لجوزيف كلينا من أجل أنه لَحَّنََ أغنية عن ستالين.
وأن جائزة ستالين للتصوير - وقدرها مائة ألف روبل - قد منحت لأراكلي طويزر من أجل تصويره ستالين يخطب في احتفال الذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر.
أما الجائزة الثالثة - وقدرها خمسون ألف روبل - فقد منحت للرسام باراكر فتشنكو من أجل تصويره الأديب مكسيم جوركي يقرأ قصة أمام ستالين، ومولوتوف، وتورسيلوف.
وأما جائزة ستالين للنحت - وقدرها مائة ألف روبل - فهي لنيقولا توسكي من أجل رسمه تمثال ستالين.
بالإضافة إلى جوائز أخرى سلمت لموسيقيين، ورسامين، ونحاتين، من أجل أعمال قاموا بها لشخص ستالين.
(1) انظر ((الرياض الناضرة)) لابن سعدي (ص 194)، و ((نبذة في العقيدة الإسلامية)) للشيخ محمد ابن عثيمين (11 - 15)، و ((رسائل في العقيدة)) للكاتب (15 - 20).
ولما رأوا أن العمال لا يمكن أن يعملوا بجد وإخلاص طالما أن جهدهم يتمتع به غيرهم، لجأوا إلى الحوافز، واضطروا إلى الاعتراف بها لتشجيع المنتجين من فلاحين ورعاة، وعمال مصانع؛ فأخذت الدولة تُمَلِّكهم شيئاً من إنتاجهم؛ فأين المساواة؟ وأين محاربة الملكية الفردية؟!
د - سحق العمال تحت نظام السخرة في المصانع: والسخرة هي العمل المجاني، حيث يقوم العمال بالعمل دون أن يكون لأحد من نصيب إلا حد الكفاف لا الكفاية.
فالعامل الفرد في ظل هذا النظام يجبر على أن يحشر هو وكل أفراد أسرته في غرفة واحدة، هي غرفة جلوسهم، ونومهم ومطبخهم.
ثم هي غرفة في مجمع سكاني ضخم غير متجانس، ويشترك سكان الشقة في دورة مياه واحدة، وقد تكون تلك الدورة بنيت بلا أبواب منذ إنشائها.
وإذا كانت الغرفة لا تحتوي إلا على سرير واحد فردي - فإن الأبوين ينامان عليه حين ينام الأولاد صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم على المنضدة متلاصقين.
وتلك المنضدة هي التي تستعمل في النهار للطبخ، وربما كان الزوجان والثلاثة يعيشون في غرفة واحدة يفصل بينهم حبل من حبال الغسيل تثبت به قطعة من القماش.
ثم إن الطعام الذي توزعه المزارع الجماعية لا يكاد يسد الرمق.
أضف إلى ذلك غلاء الأسعار الفاحش، فثمن الكيلو غرام الواحد من الزبدة في السوق الحرة يوازي الأجر الشهري للعامل العادي، وثمن زوج الأحذية يوازي أجر شهرين وإذا مرض أحد من عامة الناس لم يُهتم بعلاجه.
هـ - إغراق الطبقة الحاكمة في الترف والنعيم: ففي الوقت الذي يسحق فيه عامة الناس، ويعانون من شظف العيش، وضيقه - إذا بالطبقة الحاكمة تغرق في النعيم والترف إلى الأذقان؛ فأعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالملذات والمساكن الراقية الفسيحة، والمراكب الفارهة التي تستورد من الغرب الرأسمالي.
وإذا مرض واحد من أعضاء الحزب بُودر في علاجه بأرقى أنواع العلاج.
ويكفي شاهداً على ترفهم ذلك القصر الباذخ الذي كان يتخذه الرئيس خروتشوف مشتىً له على ضفاف البحر الأسود الدافئة.
ولقد وصف الصحفي المصري محمد حسنين هيكل ذلك القصر وصفاً مذهلاً وذلك في ملحق الأهرام بتاريخ 22مايو سنة 1964م فذكر الأثاث الفاخر، والحدائق الغناء، وحمام السباحة المثير المغطى بقبة من البلور الشفاف، المُكَيَّف بدرجة حرارة مناسبة تتغير آليا حسب الجو، إلى آخر ما وصف به ذلك القصر.
2 -
تسلط الحزب الحاكم واستبداده: فبالرغم من أن الاتحاد السوفيتي يتكون من 15 ولاية رئيسة فُرِض عليها الاتحاد فرضاً وفي كلٍّ منها مجلس وزراء - إلا أن سلطاتها تنحصر في الأمور العادية.
أما الحل والعقد والبت في الأمور فيملكه الحزب في موسكو، ولا يناقشه أحد بذلك.
3 -
البطش والإرهاب: حيث اتسمت سياسة الشيوعية بعد التطبيق بالبطش والإرهاب والتدمير والتعذيب، والتنكيل الذي لم يسبق له على مدى التاريخ مثيل، ولقد مرَّ بنا قبل قليل نماذج من ذلك.
4 -
انقسام المعسكر الشيوعي على نفسه: حيث توالت الخلافات بين الدول الشيوعية، بل داخل الدولة الواحدة وبين أعضاء الحزب الواحد؛ فلا يكاد يجمعهم سوى خوف كل طرف من الطرف الآخر فهناك خلافات لينين مع ستالين والتي كان لينين بسببها ينوي إقصاء ستالين من مكانته، وهناك الخلافات بين ستالين وتروتسكي، والتي أدت بستالين إلى تدبير اغتيال تروتسكي.
وكلما وصل رئيس إلى سدة الحكم ندد بسلفه، وأقذع في شتمه وسبه. ومن ذلك ما حصل في المؤتمر الخمسين للحزب الشيوعي عندما وقف الرئيس خروتشوف يندد بستالين، ويقول عنه: إنه ديكتاتور سفاح، مجرم سافل دنيء، وإنه غلطة لا ينبغي أن تتكرر، وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان (1).
وفي مؤتمر الحزب الشيوعي الذي عقد في موسكو في 28/ 6/1988م دعا جورباتشوف إلى إصلاحات جذرية في الشؤون السياسية والاقتصادية للاتحاد السوفيتي، كما انتقد سياسة ستالين وبريجنيف التي حجرت على الفكر في الاتحاد السوفيتي - وصدق الله إذ يقول: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38].
5 -
التجسس والرقابة الصارمة: فالتحركات في المجتمع الشيوعي مراقبة، والاتصالات الهاتفية مسجلة، والزيارات - وخاصة من الغرباء - مراقبة تماماً ولقد روى ذلك كثير من الزائرين لروسيا بعد أن لاحظوا من يراقبهم ويرصد تحركاتهم.
ولذلك يتحاشى الروسيون الحديث عن السياسة، وكثيراً ما يرددون عبارات جاهزة مكررة في مدح سياسة بلادهم بمناسبة أو بغير مناسبة؛ فقد يكون جزاء المقصر أو المتجاوز النفي إلى سيبيريا؛ حيث البرد القارس والأعمال الشاقة.
وقد قال أحد الكتاب: إن نصف سكان موسكو جواسيس على النصف الآخر، فقال له صاحبه: ولكن النصف الآخر جواسيس أيضاً على النصف الأول، وتلك فكاهة ليست ببعيدة عن واقع المجتمعات الشيوعية.
ويدل على ذلك ما حصل في ألمانيا الشرقية عندما سقطت الشيوعية؛ حيث ذهب بعض الناس لأقسام الشرطة والمباحث؛ ليتسلم ما كتب عنه من تقارير؛ ففوجئ كثير منهم بأن الذي تجسس عليه أمه، أو زوجته، أو أخوه، أو أقرب الناس إليه.
6 -
السرية والغموض: فمعظم الأمور هناك أسرار غامضة؛ فلا دليل للهاتف ولا مخطط للمدينة، ولا كتب عن مشاهير الناس.
أما أعضاء الحكومة فحياتهم وأماكن سكناهم، واجتماعاتهم وتحركاتهم - سر مغلق، لا يُعلن عنه، ولا يُتحدث فيه.
بل من الصعب أن تقابل روسياً عادياً على انفراد.
ومما اعتاده الناس هناك اختفاء بعض الناس في ظروف غامضة، سواء كانوا مسؤولين أم من عامة الناس، ثم إنه لا يجرؤ أحد على السؤال عنهم أو الاستفسار. يقول آرثر كستلر (2) عن مجتمع الحزب الشيوعي:"كان عالماً يسكنه أناس يعرفون بأسمائهم الأولى فقط، أما أسماء أسرهم، أو عناوين سكناهم فلم يكن لها وجود، كان الجو متناقضاً؛ فهو خليط من الزمالة الأخوية، والارتياب المتبادل. ويمكن أن نقول: إن الشعار هنا هو: أحبب رفيقك ولكن لا تثق فيه أنملة لصالحك؛ لأنه يشي بك ولصالحه؛ إذ من الخير له ألا تعرضه للإغراء والوشاية. (3).
7 -
غياب شموس الحرية عن الحياة الفكرية: فجميع الصحف ودور النشر خاضعة تماماً لرقابة الدولة، ومهمتها كيل المديح الأجوف الممل لقادة الحزب مع تسويغ أعمالهم وحماقاتهم.
وأبرز مثال على ذلك دائرة المعارف الروسية التي ملئت بالتشويهات وقلب الحقائق؛ إرضاء لهوى المتسلط.
(1) انظر كتاب ((الله يتجلى في عصر العلم)) تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعات الأرض، أشرف على تحريره جون كلوفر مونسيما ترجمة د. الدمرداش عبدالمجيد سرحان، راجعه وعلق عليه د. محمد جمال الدين الفندي. وانظر إلى كتاب ((العلم يدعو للإيمان)) تأليف كريسي موريسون، ترجمة محمد صالح الفلكي. والكتابان من منشورات دار القلم بيروت.
(2)
سيأتي تعريف بالكتاب بعد قليل.
(3)
الكرملين: يطلق على قصر الحزب الشيوعي الحاكم، ويطلق على الحكومية الروسية.
وبالجملة فإن البلاد التي ساد فيها النظام الشيوعي قد تحولت إلى سجن كبير لا مكان فيه لحرية الرأي، ولا يستطيع الفرد أن يفصح عما يدور في خلده تجاه النظام؛ فهو يعيش في رعب دائم، وقلق مستمر.
8 -
إهدار كرامة المرأة: فالمرأة في النظام الشيوعي أداة من أدوات الإنتاج للأطفال، وما دامت أدوات الإنتاج الأخرى على الشيوع فينبغي أن تكون المرأة كذلك.
ولقد تحققت شيوعية المرأة في مجتمعهم بصورة مستترة، لكنهم يريدون أن يتحول الواقع إلى نظام علني.
لقد أراد ماركس بمخططه أن تكون كل أنثى لكل ذكر، أو أن تتحول كل امرأة في مجتمعه إلى أنثى من إناث الدولة، وكل رجل من رجال مجتمعه إلى فحل من فحول الدولة، فيجمعهم الفراش ثم يذهب كل منهما إلى عمله وإنتاجه؛ فلا يجوز - في نظرهم - أن يختص أحد بالمرأة؛ لأنهم يرون أن الزواج قيد لحريتها.
وبذلك تكون المرأة كلأً مباحاً للأعين والأيدي، وتتحول البشرية إلى حياة الغاب والقطيع.
ولقد لجأ الشيوعيون في سبيل إفساد المرأة إلى أساليب ماكرة؛ حيث ألقوا في روعها أنها إذا تحررت من تبعيتها الاقتصادية للرجل فستكون حرة طليقة، كما أفهموها أن الدين شيء صنعه الرجل؛ لتظل المرأة تحت سلطانه؛ فإذا خلعت ربقة الدين، وتحررت من قيود الأخلاق - فستنعم بالحرية، والحياة السعيدة.
فما الذي حصل؟ لقد تحقق لهم ما يريدون.
ولكن هل تحققت السعادة للمرأة؟ وهل كانت النتائج في صالحها وصالح المجتمع؟
الجواب: لا؛ فلقد لاحظوا نذر الكارثة؛ إذ انتشرت الأمراض، وكثر الإجهاض، وبدأ الشعب الروسي يتناقص؛ فَحَرَّموا الإجهاض، فأخفقوا؛ لأن الشباب اعتاد الزنا والفواحش فأباحوا الإجهاض، ووزعوا حبوب منع الحمل مجاناً، وكافأوا الأم براتب عن كل مولود بِغَضِّ النظر عن شرعيته من عدمها.
كما اضطربوا في الطلاق؛ حيث أباحوه، ثم حرموه، ثم حدَّدوه، وهكذا أصبحت المرأة ميداناً لتجاربهم وتخبُّطهم.
9 -
تخبط نظام الأسرة: فمن أهداف نظام الشيوعية القضاء على نظام الأسرة؛ فالكيان الأسري الذي يربط أفراد الأسرة بروابط لها قوتها وقدسيتها - يتعارض في نظر الماركسية - مع الرابطة المقدسة الكبرى - الأم - التي هي الدولة.
فهي تطلب من الفرد أن يفنى في الأمة فناء تاماً يتلاشى فيه كل انتماء لدين، أو رحم، أو وطن، ويحل محل ذلك الانتماء للدولة بنظمها الماركسية.
ومن هنا قَوَّضت الشيوعية كل التقاليد والشرائع المُرَغِّبة في الزواج حتى أصبح الأمر فوضى لا حد لها.
وتهدف من وراء ذلك أن ينشأ الأطفال نشأة ماركسية تقوم فيها الدولة بدور الحضانة والتربية والتعليم دونما حاجة ماسة إلى أبوة، أو أمومة، أو بُنُوَّة؛ فالرجال رجال الدولة والنساء نساؤها، والأطفال الذين هم ثمرة هذه العلاقات الجنسية - المشروعة أو غير المشروعة - هم أبناء الدولة - ومعلوم أن الفرد في النظام الشيوعي ليس ملكاً لنفسه، ولكنه ملك للدولة؛ ولهذا فهم لا يحبذون الترابط الأسري؛ لأجل أن يكون الولاء خالصاً للدولة.
ثانياً: الآثار المترتبة على الإلحاد:
لقد اعتنقت الشيوعية الإلحاد، وقام عليه أكبر الدول في الشرق وهي روسيا، حيث حملت في بنودها رفض الغيب، والنظر إلى الحياة كلها من منظور مادي بحت.
ولقد أصبح الإلحاد ظاهرة عالمية؛ فالعالم الغربي في أوروبا وأمريكا - وإن كان وارثاً في الظاهر للعقيدة النصرانية - إلا أنه ترك هذه العقيدة تقريباً، وأصبح إيمان الناس هناك بالحياة الدنيا، وأصبحت الكنيسة مجرد تراث تافه، وأصبح الإلحاد هو الدين الرسمي المنصوص عليه في دساتير البلدان الأوروبية والأمريكية، ويعبر عن ذلك بالعلمانية تارة، وباللادينية تارة أخرى.
والإلحاد له آثاره السيئة، وثمراته المنتنة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات؛ فالأمم الكافرة تعيش حياة صعبة معقدة لا يجدون حلاً لأكثر مشكلاتهم؛ نظراً لغياب المنهج الصحيح وهو دين الإسلام، فهم يعاقبون في هذه الدنيا أشد أنواع العقوبات، وإن ماتوا على كفرهم وإلحادهم فالخلود في النار بانتظارهم. ولقد مرَّ بنا في الصفحات الماضية ذكر لما تعانيه تلك الأمم بسبب كفرها وإلحادها، وبعدها عن الله، وفيما يلي إجمال للآثار المترتبة على الإلحاد زيادة على ما مضى (1):
1 -
القلق والاضطراب: فالملاحدة محرومون من طمأنينة القلب، وسكون النفس، قال الله - تعالى -: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
كيف لا يصيب الملاحدة القلق والهم والغم وفي داخل كل إنسان أسئلة محيرة؟ من خلق الإنسان؟ ومن خلق الحياة؟ وما نهايتها؟ وما بدايتها؟ وما سر هذه الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟
من يجيب عن تلك التساؤلات؟ آلشيوعية؟! أنى لها؟
ثم إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان بسبب مشاغل الحياة، إلا أنها ما تلبث أن تعود، ملحة على صاحبها.
وما نراه اليوم من كثرة الانتحارات، وإدمان المخدرات إلا هروب من ذلك الواقع المؤلم.
2 -
الأثرة والأنانية: فلا رحمة، ولا شفقة، ولا بر بالوالدين، ولا صلة للأرحام، ولا إحسان إلى الجيران وسائر الناس؛ فكل فرد معني بنفسه فحسب؛ فالإلحاد لا يعير هذه الروابط أدنى اهتمام.
3 -
حب الجريمة: فالملحد يجد في نفسه حباً للجريمة، وإرادة الانتقام، ورغبة في التشفي من كل موجود.
كما أن الثقة بين الناس في المجتمع الملحد شبه مفقودة؛ فكلٌ يخاف من أقرب الناس إليه.
4 -
الانطلاق في الإباحية: فالملحد لا يحافظ على عرض أحد، ولا يؤتمن على مال، أو حرمة إلا أن يعجز عن الوصول إلى شيء من ذلك.
ومتى ساعدته الفرصة، وظن أنه بمأمن من العقوبة - عاث في الأعراض والأموال غير متحرج من انتهاك حرماتها.
وقد يقع انتهاك الأعراض، وغشيان الحرمات، ونحوها من غير الملحد بدافع الشهوة، أما الملحد فإنه يأتيها مستبيحاً لها.
وضرر الطائفة التي ترتكب الفسوق مستبيحة له أشد من ضرر من يفعله معتقداً أنه يأتي أمراً محرماً.
5 -
الإجرام السياسي: وهذا من أعظم آثار الإلحاد؛ ذلك أن الأخلاق المادية الإلحادية ملأت قلوب أصحابها بالقسوة والجبروت مما دفعهم إلى تطبيق ذلك عملياً؛ ولذلك ترى الدول الكبرى كيف تفعل بالدول المستعمرة من الإهانة، والقتل، والإذلال، والتشريد.
هذا شيء من الآثار المترتبة على الإلحاد، وقد جاء القرآن بما يدل على ذلك.
قال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
وقال عز وجل: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
وقال سبحانه وتعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
ولقد عبر عن ذلك العذاب النفسي والهلع الذي لا يهدأ فريق من كبار فلاسفة الملاحدة، فمنهم على سبيل المثالث:
(1)((الصنم الذي هوى)) (ص 9).
أ - الفيلسوف الإنكليزي - هربارت سبنسر: فلما نظر إلى الوجود بالمنظار المادي المحدود الذي لا يفسر الحياة تفسير المؤمنين بالله واليوم الآخر - بدت له الحياة تافهة حقيرة لا تستحق البقاء؛ حيث قال ذلك في خاتمة كتابه المبادئ الأولى ..
ولما دنا الموت منه نظر وراءه يستعرض حياته، فإذا هي في نظره أيام كلها تنقضي في كسب الشهرة الأدبية، دون أن يتمتع بشيء من الحياة نفسها؛ فَسَخِر من نفسه، وتمنى لو أنه قضى أيامه الدابرة حياة يسيرة، سعيدة.
ب - الفيلسوف الملحد (شوبنهور): وهو فيلسوف التشاؤم، قال: إننا لو تأملنا الحياة المصطخبة لرأينا الناس جميعاً يشتغلون بما تتطلبه من حاجة، وشقاء، ويستنفذون كل قواهم لكي يرضوا حاجات الحياة التي لا تنتهي، ولكي يمحو أحزانها الكثيرة ..
والسبب في تشاؤمه أنه عزل عن تصوره مسألة الإيمان بالله، واليوم الآخر.
ج - الفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر): ذلك الملحد الذي أبصر الوجود كله من خلال دوائر القلق، والغثيان، والمتاعب والآلام، وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية، التي تتقيأ المكاره، والتي أبرز فيها الحياة تافهة، حقيرة، مملوءة بالمشقيات، مشحونة بالآلام
ثالثاً: سقوط الشيوعية:
لقد أخفقت الشيوعية في التطبيق أيما إخفاق، وقادت البشرية إلى ويلات إثر ويلات، ونزلت بالمستوى البشري إلى أحط الدركات.
وبعد ذلك كله سقطت الشيوعية وهوت من عليائها؛ حيث تفككت دولها، وانفرط عقدها، وسُلَّ نظامها.
ولم يكن سقوط الشيوعية مفاجأة لمن سبر أغوارها، وعرف أطوارها؛ ذلك لأنها قامت على أسس لا يمكن أن تدوم وتخلد، حيث أسست على شفا جرف هار فانهار بأصحابه.
هذا وقد تكلم كثير من الكتاب المسلمين على نهاية الشيوعية المحتومة قبل أن تسقط بسنوات عديدة، وذلك لأن المسلمين يعتقدون بيقين ثابت أن الشيوعية مبدأ ولد ميتاً، وحكمهم عليها - منذ عرفوها - ليس من باب التنبؤ، والضرب بالرمل، أو علم الغيب.
وإنما هو حكم منتزع من وحي عقيدتهم، وهدي دينهم.
إنها مبدأ أرضي، والمبادئ الأرضية لا تثبت للمبادئ الربانية.
ولئن حُرست هذه المبادئ الباطلة بالقوة الغاشمة فترة ما - فلن تظل محروسة إلى الأبد؛ لأن حراسها سيدركهم التعب، وسوف ينتابهم ما يرخي قبضتهم الحديدية. وقد ينخدع بالكذب أناس على أمل أن يُحَقَّق لهم شيءٌ، فإذا اكتشفوا أنه كسراب بقيعة كفروا به (1).
ثم إن سنة الله عز وجل لا تتبدل ولا تتحول؛ ومن تلك السنن أن الزبد يذهب جفاءاً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، والشيوعية زبد؛ فلا بد أن تذهب جفاء.
يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار مبيناً مصير الشيوعية المحتوم، وذلك قبل أن تسقط بسنوات: ومهما كان الأمر فمصير الشيوعيين المحتوم معروف، ولن يكون هذا المصير إلا الفناء نهاية مذاهب الهدم والتخريب. وستتبدل الشيوعية على أيدي أتباعها قبل أن تتغير على أيدي أعدائها، ثم تلقى المصرع الذي يسلمها إلى القبر، فترتاح الإنسانية من هذا المذهب الباطل الهدام (2).ويقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني متحدثاً عن ذلك المصير: وإذا كان لنا أن نتنبأ عن المستقبل فإن لنا أن نقول: إن الشيوعية وأنظمتها ستتساقط في كل أرجاء العالم طال الزمن أو قصر متى وهنت القبضة الحديدية الخانقة لرقاب الشعوب المحكومة بها، أو متى استنفد الذين دفعوا إليها وأقاموا أنظمتها أغراضهم منها وغدت عبئاً عليهم، أو تعمل ضد مصالحهم (3).
وهكذا صحت التوقعات، فتراجعت الشيوعية شيئاً فشيئاً، ثم سقطت ذلك السقوط المريع على يد الرئيس ميخائيل جورباتشوف فأين فردوس الشيوعية المنتظر! وأين تفسيرهم المادي للتاريخ؛ ليفسر لنا ذلك السقوط؟!
المصدر:
رسائل في الأديان والفرق والمذاهب لمحمد الحمد – ص 431
(1) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/ 371)، و ((شفاء العليل)) لابن القيم (57 - 75)، و ((نبذة في العقيدة الإسلامية)(ص11).
(2)
رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).
(3)
رواه مسلم (2865).