الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأطفال والجواري والشباب أولاً
يا عبدَ الله، إذا فقدتَ طعمَ العيد فلا تُفْقِدْه أولادَك (احذر)، فلقد ارتويتَ (أنتَ) منه أيام طفولتك، ولديك الآن أطفال ومَنْ في حُكْمِهم، فلهم عليك حق في العيد، وانظر في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كيف أجاز الممنوع (الدف) لأجل العيد، وقال:(هذا عيدنا) ..... وإظهار السرور بالعيد من شعائر الدين ـ كما سبق ـ.
ولا تحتج بالعادات وما تلقيته من والديك وأجدادك، لأن «العادات يمكن تبديلها مهما تمكنت من الإنسان، وكلُّ عمَلٍ تعمَلُه يكون ـ إذا واظَبْتَ عليه ـ بدايةَ عادَةٍ جدِيدةٍ» . (1)
جميلٌ أن تبحث كثيراً في حدود منطقتك، وقدرتك، ومالك أفكاراً لتصنع بها سروراً لأولادك، ف «جعل السرور فكراً، وإظهاره في العمل» (2) هو واجبك في العيد، فاستعد له قبل ذلك.
(1). «فصول اجتماعية» للطنطاوي (ص 56).
(2)
. «وحي القلم» للرافعي.
قال الأديب الكبير: الرافعي (ت 1356 هـ) رحمه الله: «الأطفال لايعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور.
وقال: الأطفال بثيابهم الجديدة يكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا. ينتبهون الفجر للعيد فيبقى الفجر على قلوبهم إلى غروب الشمس!
وليس للإنسان أن يسأل: كيف أفرحُ بالعيد، وأُسعِد أولادي؟ ! !
لأن هذا السؤال كقوله: كيف آكل، وأشرب، وأنام؟ !
مَنْ حَرِصَ عَلَى شَئٍ؛ وَجَدَهُ، وَرُبَّما يَحتَارُ فِيْمَا يَخْتَارُ.
* * *
(1). «وحي القلم» للرافعي ـ ط. دار القلم ـ (1/ 60 ـ 63) بتصرف.
والحديث عن إظهار الفرح والسرور في العيد، وأنه من شعائر الدين؛ وأنَّ نَدْب الكبار للعيد، وعدم قيامهم بما يجب عليهم تجاه أولادهم، وظهور شئ من الحزن على سيماهم، مما يُنغِّص على الأولاد والزوجات وغيرهم لرؤيتهم هذا الكبير وكأنه في مأتم! !
هذا الموضوع يأخذنا لموضوع أشمل، وهو القدرة على الفرح والسرور في المجتمعات الشرقية، مقارنة بالمجتمعات الغربية، وهو ما طرحه بابتكار الأديب المصري: أحمد أمين (ت 1373 هـ) رحمه الله في مقالة وَسَمَها بِ «فنُّ السرور» (1) أنتقي منها ما أراه مناسباً لمقالتي هذه، وبعض النقل فيه تصرف يسير:
(1). «فيض الخاطر» لأحمد أمين رحمه الله (2/ 200 ـ 204). وهو حديثٌ عامٌّ عن السرور وليس خاصاً بالعيد، ولا تخلو المقالة من ملحوظات.
ولابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» ـ ط. دار الصميعي ـ (4/ 3080 ـ 3107) حديثٌ عن السرور.
قال رحمه الله: (يُخطئُ مَنْ يظنُّ أنَّ أسبابَ السرورِ كلَّها في الظروف الخارجية، فيشترطُ لِيُسَرَّ: مَالاً، وبنينَ، وصِحةً؛ فالسرورُ يَعتمدُ على النفس أكثرَ مما يعتمدُ على الظروف.
وفي الناس مَن يشقى في النعيم، ومنهم مَن ينعم في الشقاء؛ وفي الناس مَن لا يستطيع أنْ يشتريَ ضَحكةً عَميقةً بكُلِّ مالِه وهُو كثير، وفيهم مَن يستطيع أنْ يشتريَ ضحكاتٍ عاليةً عميقةً واسعةً بأتْفَهِ الأثمان، وبِلا ثَمَنٍ).
ويتأسَّفُ الأستاذُ: أحمد أمين لأنَّ كميةَ السرورِ في مصر والشرق قليلةٌ، مع يُسرِ الحياة وكثرةِ الخيرات ــ في زمنه ـ، وقِلَّة المصايب من الحروب، فهي أقل من الغرب!
وبدأ يعدد أسباب قلة السرور في الشرق مقارنة بالغرب، فذكر عدداً تأخذُ منها وتَذَرُ
…
مِن الأسباب قوله: (أول درس يجب أن يُتعلَّم في فنِّ السرور:
…
«قوة الاحتمال» فأكبر أسباب الشقاء: رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إنْ يُصاب المرءُ بالتَّافِه من الأمر حتى تَراه حَرِجَ
الصدر، لهيفَ القلب، كاسِف الوجه، ناكِس البصر، تتناجى الهمومُ في صدره، وتقضُّ مضجعَه، وتُؤرِّق جفنَه.
وهيَ وأكثرُ منها إذا حدثَتْ لمن هُو أقوى احتمالاً، لم يُلقَ لها بالاً، ولم تُحَرِّك منه نَفْساً، ونامَ ملءَ جُفُونه رَضِيَّ البال فارغ الصدر).
وذكر من الفوارق أن تاريخ الغرب الحربي متسلسل متتابع ـ في زمانه وقبله ـ، ومن مزايا الحروب أنها تصهر الأمم، وتُرخص الحياة، وتُهوِّن الموت، وإذا رخصت الحياة وهان الموت؛ رأيت المرءَ لا يعبأ بالكوارث إلا بقدر محدود؛ وإذا كان لا يهاب الموت فأولى ألا يهاب ما عداه؛ لأنَّ كل شيء غير الموت أهون من الموت؛ فكل أسرة أوربية لها رجال فُقِدوا في الحرب؛ أو أصيبوا في الحرب أو ابتُلوا بنوع من كوارث الحرب؛ فعلَّمتهم أن يتقبلوا هذه الرزايا بقوة احتمال، ونشأ عن هذا أنهم لا يُنغِّصون حياتَهم بذكرى الرزايا؛ فالأولى ألَّا يُنغصوها بتوافه الأمور.
وقال: (أما أُمَمُ الشرق فقد مرَّ عليهم دهرٌ طويل لم يكونوا فيه أمماً حربية؛ بل كانوا مستسلمين وادعين، يتولى غيرهم الدفاع عنهم، وإن حاربوا فحرب الضرورة، وحرب الأفراد لا حرب الشعوب، فاستفظعوا الموت، وغَلوا في الحرص على الحياة، ولم يصابوا بكوارث
شعبية يستعذبون معها الموت والتضحية، وتبع ذلك رخاوة العيش، وعدم القدرة على الاحتمال، وتهويل الصغائر، والجزع من توافه الأمور، ولا دواء لهذا إلا التربية القوية، وبث الأخلاق الحربية).
قلت: وقد انعكست الحال الآن، فأصبح الشرق ملئ بالمصائب والحروب والكوارث والفواجع، وبلاد الغرب وادعة ساكنة من عشرات السنين، والأمر لم يتغيَّر في موضوع «السرور» ! ! فسقط هذا السبب!
بل إني أرى أنَّ الشرق أكثرُ راحة ومتعة من الغرب، رغم الفقر، وقلة المتع عند المسلمين في المشرق؛ ودليل ذلك: قلة أو انعدام المصحات النفسية في بلدان المسلمين في أزمنة سابقة، بخلاف الدول الغربية.
كذلك وجود حالات الانتحار في الغرب حتى بين كبار المتعلمين منهم، وانعدام ذلك في المشرق ـ خاصة في زمن أحمد أمين في أوائل ومنتصف القرن الرابع عشر الهجري ـ.
والغربي ليس له إلا ابن واحد أو بنت واحدة، يطردهما بعد البلوغ أو يطلب منهما دفع مال مقابل المعيشة عنده، وليس عند غالبهم حقوق: حق الوالدين، الأقارب، الجار، اليتيم، المسكين، فليس للوالدين بر
ورحمة، ولا الأقارب صلة، أما الأسرة بمعناها الصحيح (1) ـ كما عند المسلمين ـ، فهي من نوادر النوادر عندهم، فأي التزامات مالية ووقتية، وصلة رحم لدى الغربي، عنده: وظيفة، وبيت صغير جداً، وملهى؟
بينما الشرقي تجد عنده: بنين عدداً، وأرحاماً كثيرة، ومناسبات متعددة، والتزامات فرضتها الحياة ـ بتعقيدات الشرقيين وتكلُّفهم ومباهاتهم ـ، مع زيادة الأمراض مقارنة بالغربيين؛ كل هذا مما يزيد من أغلال النفس والبدن؛ فيُضعِف شيئاً من إظهار الفرح والسرور مقارَنة بالخمار الزاني، الذي يأكل ويشرب وينام، كالأنعام بل هو أضل كما وصفهم الله تعالى في كتابه، ومع ذلك هم في غمرات الهم والحزن والضيق والاكتئاب رغم متع الحياة المفتوحة على مصراعيها وجمال الطبيعة و
…
وقال الأستاذ: أحمد أمين: (وسبب آخر لقلة السرور في الشرق، وهو: سوء النظم الاجتماعية؛ ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية، وفي كل مصلحة أهلية أو حكومية مأساة
(1). لا أقصد العائلة = البيت الواحد من عائل واحد.
من سوء العلاقات المصلحية، وأحاديث الدرجات والعلاوات، وعدم التعاون في حمل الأعباء، وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات.
ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية؛ فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ضيقة نادرة، وفي كثير من الأحيان تنتهي بمنغصات.
والملاهي العامة إما داعرة لا تُرضي الذوق السليم، ولا ترمي إلى غرض شريف، وإما تافهة لا يرقيها ذوق؛
…
إلى أن قال:
(ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلَّب على كل هذه المصاعب، ويخلق السرور حوله، وجُزءٌ كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه! ! بدليل أنا نرى في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمَّة الواحدة مَن يستطيع أن يخلق من كُلِّ شيءٍ سروراً، وبجانبه أخوهُ الذي يَخلِقُ مِن كُلِّ شيء حُزْناً؛ فالعامل الشخصي ــ لاشك ــ له دخلٌ كبيرٌ في خلق نوع من الجوِّ الذي يتنفس منه
…
إلخ
وقال رحمه الله: (ولعلَّ مِن أهم أسباب الحزن: ضيقَ الأفق، وكثرةَ تفكيرِ الإنسان في نفسِه، حتى كأنها مركزُ العالم، وكأنَّ الشمسَ والقمرَ
والنجومَ والبحارَ والأنهارَ والأمَّةَ والحكومةَ والميزانيةَ والسعادةَ والرخاءَ كلَّها خُلِقَتْ لِشَخصِه؛ فهو يَقِيسُ كلَّ المسائل بمقياس نفسِه، ويُديمُ التفكيرَ في نفسِه وعلاقةِ العالم بها، وهذا ـ من غيرِ رَيْب ـ يُوجِدُ البؤسَ والحزنَ؛ فمُحَالٌ أن يجري العالَمُ وِفْقَ نفسِه؛ لأنَّ نفسَه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإنْ هو وسَّعَ أُفُقَهُ، ونظَرَ إلى العالم الفسيح، ونسيَ نفسَهُ أحيَاناً، ونَسِيَ نفسَه كثيراً؛ شَعُرَ بأنَّ الأعباءَ التي ترزحُ تحتَها نفسُه، والقيودَ الثقيلةَ التي تثقلُ بها نفسُه قَدْ خَفَّتْ شَيئاً فشَيئاً، وتحلَّلَتْ شَيئاً فشيئاً.
وهذا هو السببُ في أنَّ أكثر الناس فراغاً أشدُّهم ضِيقَاً بنَفْسِهِ، لأنَّه يجدُ مِن زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجَةِ أنْ يُجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عملِه، وفكَّر في أمته، وفكَّر في عالَمِه؛ كان له من ذلك لذة مزدوجة: لذَّةَ الفِكْرِ وَالعمَلِ، ولذَّةَ نِسيانِ النَّفْسِ.
ونصح الأستاذ أحمد أمين: بأن يقبض الإنسان على زمام تفكيره؛ فيُصَرِّفَهُ كما يشاء؛ فإن هو تعرض لموضوع مُقْبِضٍ، عدل عنه إلى موضوع آخر
…
وذكر من الدروس أيضاً: (ألَاّ تقدِّرَ الحياةَ فوق قيمتِها؛ فالحياةُ هيِّنَةٌ، وكُلُّ مَا فيها زائلٌ؛ فاعمَلْ الخيرَ مَا استطعْتَ، وافرَحْ مَا استطَعْتَ، ولا تَجْمَعْ عَلى نَفْسِكَ الألمَ بِتَوقُّعِ الشَرِّ، ثُمَّ الألم بوقوعه! ! فيَكفِي في هذه الحياة ألمٌ واحِدٌ للشَرِّ الواحد).
وختم مقالته بأن يتصنَّع الإنسان الفرح والسرور والابتسام للحياة؛ حتى يكون التطبُّعُ طَبْعَاً.
انتهى المراد نقله من مقالة «فن السرور» لأحمد أمين. (1)
والحقيقة التي لا تقبل الامتراء: أن السعادة والسرور والفرح والبهجة كلَّها من القلب، وأنه لا حياة للقلب ولا سعادة ولا سرور إلا بالله وحده، فإذا فرح القلب اطمأن، وظهر الفرحُ على الوجه والأعضاء، وسَعِد حقاً لا تكلُّفاً، وفَرَحُ القَلْبِ إنما هو بالله وحده لا بالمال ولا بالولد ولا بالسياحة ولا بالفُرجَة ولا بالمنصب ولا بأي شئ، فوالله لو كان الإنسانُ فقيراً مدقعاً، كثير العلل والأمراض، وتعلَّق بالله لملأ الله قلبه فرحاً وحبوراً وطمأنينة وبشراً وسعادة، والعكس لو كانت الدنيا وما
(1). «فيض الخاطر» لأحمد أمين (2/ 200 ـ 204) بتصرف يسير.
فيها من المتع الحلال والحرام بين يديه، وهومعرض عن الله؛ لضاقت الدنيا كلها عليه، وأصبح ضيقاً حرَجاً كأنما يصَّعَّد في السماء
…
(1) دليل ذلك:
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: 28
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الزخرف: 36
(1). قال ابن القيم (ت 751 هـ) رحمه الله في «مدارج السالكين» (4/ 3096):
(ففي القلب: شَعَثٌ، لا يلُمُّه إلا الإقبالُ على الله.
وفيه: وحشةٌ، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
وفيه: حُزنٌ لا يُذهِبه إلا السرورُ بمعرفته وصِدق معاملته.
وفيه: قَلَقٌ لا يُسكِّنُه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه.
وفيه: نيرانُ حسراتٍ لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.
وفيه: طَلَبٌ شديد، لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه.
وفيه: فاقةٌ، لا يسدُّها إلا محبتُه، والإنابةُ إليه، ودوامُ ذكره، وصدقُ الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا بما فيها، لم تُسَدَّ تلك الفاقةُ منه أبداً).