الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمحات عن منهج الحافظ ابن حجر في كتابه (التمييز)
لقد أخذ الحافظ ابن الملِّقن في كتابه "البدر المنير" بذيل التّطويل والإطناب، وبَدَت عنده ظاهرة الاستطراد والإسهاب، بحيث يشعر المطالع فيه بالحاجة الملحّة إلى اختصاره وتلخيص مقاصده، فجاء الحافظ ابن حجر رحمه الله فَرغِب في إخلاء الكتاب من تلك الظّاهرة، وصون فوائده من الضّياع في زحمة التّكرار، من دون إخلالٍ بمقاصد الكتاب وغاياته.
وقد أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى شيء من رَسمِه وجزءٍ من خطته في تلخيصه كتابَ شيخه الحافظ ابن الملقن-رحمه الله. فقال في ديباجة كتابه: ". . . فقد وقفتُ على تخريج أحاديثِ "شرح الوجيز" للإمام أبي القاسم الرّافعي -شكر الله سعيه. لجماعةٍ مِن المتأخِّرين؛ منهم: القاضي عزّ الدّين ابن جماعة، والإمام أبو أمامة ابن النقّاش، والعلّامة سراج الدّين عمر بن علي الأنصاريّ، والمفتي بدر الدِّين محمَّد بن عبد الله الزّركشي، وعند كلٍّ منهم ما ليس عند الآخر من الفوائد والزَّوائد، وأوسعها عبارةٌ وأخلصها إشارةً كتابُ شيخنا سراج الدِّين، إلَّا أنّه أطاله بالتِّكرار فجاء في سبع مجلَّدات، ثمّ رأيته لَخَّصه في مجلَّدةٍ لطيفةٍ أخلّ فيها بكثيرٍ من مقاصد المطوّل وتنبيهاته، فرأيتُ تلخيصَه في قدر ثُلث حجمه مع الالتزام بتحصيل مقاصدِه، فمنَّ الله بذلك، ثمّ تتبعت عليه الفوائد الزَّوائد من تخاريج المذكورين مَعه، ومن تخريج "أحاديث الهداية" في فقه الحنفيَّة للإمام جمال الدِّين الزَّيلعي؛ لأنّه ينبّه فيه على ما يحتجّ به مخالفوه. وأرجو الله إن تمّ هذا التّتبع أن يكون حاويًا لجلِّ ما يَستدلّ به الفقهاءُ في مصنّفاتهم في الفروع، وهذا مقصد جليل. . .".
كما أشار إلى بعض ذلك في كتابه "الدراية"(1) فقال: "فإنني لَمّا لَخّصت تخريجَ الأحاديث الّتي تضمّنها "شرح الوجيز" للإمام أبي القاسم الرّافعي، وجاء اختصاره جامعًا لمقاصد الأصل مع مزيد كثير، كان فيما راجعتُ عليه تخريج أحاديث الهداية. . .".
ويمكننا أن نلخِّص ما في رَسْمِه هذا في النّقاط التّالية:
- تلخيص كتاب (البدر المنير) في قدر ثلُث حجمه.
- الالتزام بتحصيل مقاصِده الّتي أخلَّ بها الحافظ ابن الملَّقن في كتابه "خُلاصَة البدر المنير"، حيثُ اختصر به الأصل.
- تَتَبُّع الزَّوائد والفوائدِ الّتي عند غيره مِمَّن عُني بتخريج أحاديث شرح الوجيز، وضمِّها إليه.
- إضافة ما عند الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" من تنبيهاته على ما يحتجّ به مخالفو الأحناف عند محاجاتهم.
هذه خُلاصَة ما نصّ عليه الحافظ في رَسْمِ منهجه في هذا الكتاب، إلَاّ أنّ المطالِعَ في كتاب "التمييز" يمكنه أن يرتِّب وجوهًا من خطّة الحافظ الّتي سار عليها في اختصاره وتلخيصه هذا، وهي كما يلي:
1 -
حَذف الحافظ رحمه الله مقدّمة الحافظ ابن الملِّقن وهي مقدّمة أطال فيها النَفَسَ جدًّا؛ إذ اشتملت على بيان أهميّة معرفة السنّة، ومنزلتها من الكتاب، وضرورة معرفة القاضي بأحاديث الأحكام، والتعريف ببعض المصطلحات
(1)(ص 10).
الأصوليّة، كالعام والخاصّ والمطلق والمقيّد ونحو ذلك. وتحدَّث فيها عن اهتمام الصّحابة والتّابعين بحفظ السنَّة وتبليغها، وتدوين الحديث النّبويّ وظهور المصنّفات فيه، مع بيان نبذةٍ من حال حفّاظ الحديث، وطوفٍ من أخبارهم. وتكلَّم فيها على تعريفِ بعض المصطلحات الحديثيَّة، كالصّحيح والحسن والضَّعيف، ونحوها.
ثم تناول كتابَ "فتح العزيز" بالذِّكر والثّناء، ثم ذَكَرَ مصادره في تخريجه لأحاديثه، وتحدث عن شَرْط الإِمام مالك وأصحاب الكتب السَّتَّة، وابن حبان والحاكم.
ثم تَرْجَمَ للإمام الرافعي بذكر ما يتعلق بأحواله الشخصية والعلمية، وثناء العلماء عليه وغير ذلك (1).
كلّ هذا رآه الحافظ ابن حجر غيرَ لصيقٍ بموضوع التّخريج، وحاجةُ النَّاظر في كتابه غيرُ ماسّة إليه، فعمل على إسقاط المقدمة كلّها، ولم يعوض بها غيرها، يقول د. جمال السيد. مشيرًا إلى هذا الصنيع-:
"أسقط الحافظ ابن حجر من كتابه مقدّمة "البدر المنير" والتي اشتملت على فوائد جمَّة، ولعل ابن حجر رحمه الله أراد أن يكون الكتاب قاصرً على تخريج الرافعي، والذي هو صُلْبُ موضوع "البدر المنير"؛ إذ لا يخفى أن ابن الملقن أطال في هذه المقدّمة جدًّا، فحذفها الحافظ ابن حجر طلبًا للاختصار، ولو ضَمَّنَ كتابه مقاصدها لكان أجود"(2).
(1) انظر: البدر المنير (1/ 255 - 344).
(2)
تحقيقه لجزء من كتاب البدر المنير (1/ 168)(رسالة علميَّة بالجامعة الإسلاميّة، ولم تنشر).
قلتُ: ما استجاد رحمه الله ذكرَ شيءٍ منها؛ لأنّها في نظره لَيستْ من مقاصد التّخريج في شيءٍ.
2 -
حذف الحافظ ابن حجر أسماء المصادر التي خرّجت الحديث، ومصادر أقوال الأئمَّة الَّتي نقلها الحافظ ابن الملِّقن، واكتفى بذكر أسماء أصحابها.
3 -
حذف الأسانيد الّتي يُطيل الحافظُ ابن الملقن بذكرها وتكرارها (1)، واكتفى بصحابيِّ الحديث أو صاحب القول المأثور، وقد يُشير إلى طرفِ الإسناد إذا أراد إبرازَ موطن العلَّة منه، ومَكمنِ الوهن فيه.
4 -
حذف كثيراً من ألفاظ الحديث وسياق قصَّته، مقتصِرًا على موضع الشَّاهد فيه، مع الإشارة إلى وُجود القصَّة.
5 -
حذف بيان اختلاف ألفاظ الرِّواية إلَاّ حيث يكون لذكرها أثرٌ أوكان الإِمام الرّافعي ذَكَرَ الحديث على أوجهٍ مختلفة فَيُشير إليها حينئذٍ.
6 -
حذف نصوص أقوالِ الأئمَّة في الرّاوي الّتي يسوقها ابن الملِّقن لبيان مرتبة الرّاوي جرحًا وتعديلًا، واكتفى في الْغَالِب بما يُعطي تلك المرتبة بعبارةٍ موجَزةٍ من لَفْظه، مثل:"فيه فلان وهو ضعيف"، أو "متروك" أو "ضعيف جدًا، أو"كذَّاب" ونحوها، أو يحكي معنى كلام الإِمام في الرّاوي بمثل قوله: "وثّقه فلان"، أو "ضعّفه فلان"، أو "كذّبه فلان"، وشبهه.
(1) قد يبلغ به التطويلُ أحيانًا إلى ذكر أسانيدَ لنفسه دون فائدةٍ تُذكر مع أنّ ذلك ليس من جملة رَسْمِ منهجه في الكتاب؛ فمن ذلك في (1/ 520 - 521) لَمّا ذكر حديثًا لخولة بن يسار وهو في سنن أبي داود -رواية ابن الأعرابي- والبيهقي، قال:"هذا الحديث روي عن خولة رضي الله عنها من طريقين، ولنذكر ذلك يإسنادين إليها، لئلا يخلو الكتاب من إسناد"، فساق الحديث بإسنادين لنفسه إلى البيهقي، والطراني. انظر: البدر المنير (1/ 521 - 523).
7 -
حذف كثيراً من أقوال الأئمّة في بيان درجة الحديث؛ كأقوال التّرمذي والحاكم، وابن عبد البَرِّ وابن القطَّان، وابن دقيق العيد، وأمثالهم، مكتفيًا بحكاية معنى ذلك، مثل:"صحّحه فلان" أو"ضعّفه فلان"، وقد يُغفل هذا النَّحو أيضا.
8 -
إذا كان الحديث في "الصَّحيحين"؛ فإنّه يكتفي بالعزو إليهما عن الحكم عليه بالصّحة، بخلاف ما فعله الحافظُ ابن الملِّقن، فإنّه يقول:"صحيح أخرجه البخاري ومسلم".
9 -
كثيرًا ما يحذف ألفاظَ الرّوايات ويكتفي بذكر صاحبها والمصدر المخرِّج لها، ويَكثر صنيعُه هذا فيما يَسوقه في شواهد الباب.
10 -
أطال الحافظ ابن الملَقِّن جدًّا في شرح غريب الحديث، وتعيين الأمكنة، وضبط الأسامي والألفاظ، وتوضيح المبهمات في المتون، وذكر الأقوال الفقهيّة (1)، وغير ذلك.
وقد حذف الحافظُ ابن حجر كثيرًا من هذه الاستطرادات، ولَخَّص منها شيئًا
(1) قد يخرج بالأطالة في هذا أحيانا إلى حدِّ شرح الحديث شرحًا وافيًا، فمثلا في تخرجه لحديث "إنما الأعمال بالنيات"، بعد أن خرج الحديث طفق يشرحه شرحًا أتى فيه بمعظم ما يذكر في كتب الشروح، من ييان استحباب العلماء الاستفتاح به في مصنفاتهم، وكونه عليه مدار الإِسلام، وشرح بعض ألفاظه كلفظ الهجرة، وبيان حقيقة الدنيا عند المتكلّمين، وسبب ورود الحديث، وغير ذلك، ثمّ قال في النهاية:"فهذه أحرفٌ مختصرة من الكلام على هذا الحديث، وقد نبّهنا بما ذكرنا على ما أهملنا ولولا خوف الإطالة وخروج الكتاب عن موضوعه لذكرنا هنا نفائس"، وانظر كيف اعتبر كلَّ هذا الاستطراد غير خارج عن موضوع كتاب التّخريج! انظر:(البدر المنير (1/ 654 - 666).
يتعلّق بغريب الحديث، وما تمسّ الحاجة إليه من تعيين بعض الأمكنة، وتوضيح بعض الأسماء المبهمة الواردَة في المتون، وقليل من الأقوال الفقهيّة.
11 -
من عادة ابن الملقِّن رحمه الله أن يذكر في خلال تخريجه لأحاديث الرّافعي أحاديثَ أخرى كثيرةً، إمَّا لكونها شواهدَ أو لفوائدَ أخرى، مثل أن يكون في المسألة حديثٌ موضوع، أو ضعيف يخالف الصَّحيح، فَيُبَيِّنُ وَهَاءَه وضعفَه، أو يكون حديثان صحيحان بينهما تعارضٌ في الظَّاهر فيذكر أوجهَ الجمع بينهما، أو يكون فيه زيادةٌ ليست في غيره، فالحافظ ابن حجر رحمه الله تَبعَ ابن الملقِّن في ذِكْرِ غالبها باختصار، أو بإشارةٍ، لكنّه أحيانًا يَضرب الصَّفح عن بعضها إمَّا لقصد الاختصار، أو لكون الحديث موضوعًا أو ضعيفًا جدَّا (1)، أو يسوق الحافظ ابن الملقِّن حديثًا أو أثرًا من وجه ضعيف، ثم يعود ويسوقه من وجه صحيحِ، فيقتصر الحافظ على الوجه الصّحيح، ويحذف الضَّعيف (2).
12 -
وقد يحذف الحافظ ابن حجر بعض الأحاديث؛ لأنها عائدةٌ إلى حديث باطل، رويت من مخرج آخر لوَهْمِ وَقع من بعض رواتها، من ذلك: ذِكْرُ ابن الملقن (3) روايةً للدارقطني في غرائب مالك من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، ثم نَقَلَ قول الدّارقطني:"وهو باطل بهذا الإسناد، مقلوب، وهو في "الموطأ" عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة، عن أبي هريرة".
(1) انظر: نماذج مما حذفه الحافظ ابن حجر في مقدمة تحقيق جزء من كتاب "البدر المنير" للدّكتور أركي نور محمّد (1/ 97 - 104)(رسالة ماجستير بالجامعة الإسلاميّة بالمدينة، لم تنشر).
(2)
انظر: البدر المنير (1/ 432 - 433)، وقارن بالتمييز (رقم 28).
(3)
البدر المنير (1/ 369 - 370).
وقد حذف الحافظ ابن حجر هذا؛ إذ هو عائد إلى حديث الباب، فلا فائدة حينئذ من ذِكْرِه في الشَّواهد.
13 -
قد يُنَبَّه الحافظ ابن الملقن رحمه الله في تعليل بعض الأحاديث على أكثر من عِلَّة، فيقتصر الحافظ ابن حجر رحمه الله على أشدَّها وأقواها في الإعلال دون باقي ما ذَكَرَه صاحب الأصل (1).
14 -
قد يخرِّج الحافظ ابن الملقِّن حديثًا من أكثر من مَصدر، فيقتصر الحافظ على أشهرها تاركًا بعضَها (2).
* * * *
(1) انظر مثلا: البدر المنير (1/ 427)، حديث سوادة عن أنس في الماء المشمس، وقارن بالتمييز (رقم 27)، والبدر المنير (1/ 670)، و (1/ 364 - 366)، مقارنًا بالتمييز حديث (رقم 4).
(2)
انظر مثلًا: البدر المنير (1/ 434) فقد خرج أثرا لابن عمر من مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وكتاب الطهور لأبي، فاكتفي الحافظ ابن حجر بالمصدرَين الأولين.