الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في مصنفاته في الفنون، ومؤلّفاته المحقّقة للواقف عليها الآمال والظنون
،
وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون
اعلم أن تصانيف لسان الدين التي علمت نحو الستين، وكلّها في غاية البراعة، بحيث إنّه لم يأت أحد من أهل عصره بمثل ما جاء به، بل وكثير من غير أهل عصره رحمه الله تعالى، وقد وقفت بالمغرب على كثير منها، وفيها أقول مضمناً ببعض تغيير:
تصانيف الوزير ابن الخطيب
…
ألذ من الصّبا الغضّ الرّطيب
فأية راحةٍ ونعيم عيشٍ
…
توازي كتبه أم أيّ طيب قال رحمه الله تعالى في تعريفه بنفسه آخر " الإحاطة " ما صورته (1) :
التواليف: " التاج المحلي في مساجلة القد المعلى، و [" الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة "] (2) ، و " الإكليل الزاهر فيما فضل عند نظم التاج من الجواهر " ثم " النقاية بعد الكفاية " هذا في نحو القلائد والمطمحين لأبي نصر الفتح بن محمد، و " طرفة العصر في دولة بني نصر " في أسفار ثلاثة، و " بستان الدول " موضوع غريب ما سمع بمثله، قلّ أن شذّ عنه فن من الفنون، يشتمل على شجرات
(1) الإحاطة، الورقة:312.
(2)
سقط ذكر الكتيبة الكامنة من ق، وهو الأصوب لأن المقري سيستدرك من بعد بين الكتب التي لم تذكر قبلا.
عشر: أوّلها شجرة السلطان، ثم شجرة الوزارة، ثم شجرة الكتابة، ثم شجرة القضاء والصلاة، ثم شجرة الشرطة والحسبة، ثم شجرة العمل، ثمّ شجرة الجهاد، وهي فرعان: أسطول، وخيول، ثمّ شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطباء والمنجّمين والبيازرة والبياطرة والفلاحين والندماء والشطرنجيين والشعراء والمغنين، ثمّ شجرة الرعايا، وتقسيم هذا كلّه غريب يرجع إلى شعب، وأصول، وجراثيم، وعمد، وقشر، ولحاء، وغصون، وأوراق، وزهرات مثمرة، وغير مثمرة، مكتوب على كل جزء من هذه الأجزاء بالصبغ اسم الفن المراد به، وبرنامجه صورة بستان، كمل منه نحو من ثلاثين سفراً، ثم قطّع عنه الحادث على الدولة، وديوان شعري في سفرين سميته الصيّب والجهام والماضي والكهام، والنثر في غرض السلطانيات كثير، والكتاب المسمى باليوسفي في صناعة الطب في سفرين كبيرين، كتاب ممتع، وعائد الصلة وصلت به صلة الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، في سفرين، وكتاب الإحاطة بما تيسر من تاريخ غرناطة كتاب كبير في أسفار تسعة، هذا متصل بآخرها، وتخليص الذهب في اختيار عيون الكتب الدبيات الثلاثة، وجيش التوشيح في سفرين، ومن بعد الانتقال من الأندلس وما وقع من كياد الدولة نفاضة الجراب في علالة الاغتراب موضوع جليل في أربعة أسفار، وكتاب عمل من طبّ لمن حب ومنزلته في الصناعة الطبية بمنزلة كتاب أبي عمرو ابن الحاجب المختصر في الطريقة الفهقية، لا نظير له، ومن الأراجيز المسمّاة رقم الحلل في نظم الدول والأرجوزة المسمّاة بالحلل المرقومة في اللمع المنظومة ألفية من ألف بيت في أصول الفقه (1) ، والأرجوزة المسماة بالمعلومة معارضة للمقدمة المسماة بالمجهولة في العلاج من الرأس إلى القدم
(1) ق: اللغة.
إذا أضيفت إلى رجز الرئيس أبي علي كملت بها الصناعة كمالاً لا يشينه نقص، والأرجوزة المسمّاة ب " المعتمدة في الأغذية المفردة " والأرجوزة " في السياسة المدنية "، إلى ما يشذ عن الوصف كالرجز " في عمل الترياق الفاروقي "، و " الكلام على الطاعون المعاصر "، و " الإشارة "، و " قطع السلوك "، و " مثلى الطريقة في ذم الوثيقة " حتى في المويسقى والبيطرة والبيزرة، هذر كثف به الحجاب، ولعب بالنفس الإيجاب، وضاع الزمان ولا تسل بين الرد والقبول والنفي والإيجاب، ولله در القائل - وهو المؤلف (1) -:
والكون أشراك نفوس الورى
…
طوبى لنفسٍ حرة فازت
إن لم تحز معرفة الله قد
…
أورطها الشيء الذي حازت وكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ انتهى ما له في آخر " الإحاطة " بحروفه.
قلت: ولنذكر ما تأخّر تأريخه عن الإحاطة أو أشير إليه فيها مجملاً فنقول:
من أشهر تواليفه رحمه الله تعالى كتاب " ريحانة الكتّاب ونجعة المنتاب " في عدة مجلدات، وهو داخل في قوله السابق في الإحاطة: والنثر في غرض السلطانيات كثير؛ وهذا الكتاب قد اشتمل من الإنشاء على كثير في أغراض شتى من مخاطبات الملوك على اختلاف أجناسهم وصدقاتهم وغير ذلك مناحوالهم وأحوال الكبراء ومخاطباتهم حتى ملوك النصارى، وذكر في صدره خطب بعض كتبه، وفي آخره بعض مقاماته وتحليته لأهل عصره، وغير ذلك، وبالجملة فهو كتاب مفرد في بابه.
وقال الأمير الشهير العلامة أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر رحمه الله تعالى في كتابه " نثير فرائد الجمان فيمن نظمني وإيّاه الزمان " ما صورته (2) : لابن الخطيب
(1) وهو المؤلف: زيادة من ق، لم ترد في الإحاطة.
(2)
نثير فرائد الجمان: 244 وأزهار الرياض: 189.
الأوضاع المصنفات، التي آذان إحسانها هي المقرّطات المشنّفات، منها في التصوف، الذي أكثر أهل الحقائق إليه نظر التشوف روضة التعريف بالحب الشريف؛ انتهى، وسرد غير هذا الكتاب ممّا قدمنا ذكره وغيره.
وهذا الكتاب - أعني روضة التعريف - غريب المنزع، وعارض به ديوان الصبابة لابن أبي حجلة صاحب السكردان، وضمنه من التصوف وعبارات أهله العجب العجاب، وتكلم فيه على طريقة أهل الوحدة المطلقة، وبذلك سجل عليه أعداؤه في نكبته الآخرة التي ذهبت فيها نفسه، ونسبوه إلى مذهب الحلول وغيره، ممّا ذكره يطول حسبما ألمعنا بذلك فيما سبق، وقد جعل هذا الكتاب شجرة ذات أفنان وعمود، مشتمل على القشر والعود، وأوراق، وصورة طائر فوقها، ولم أر في فنّه مثله، جازاه الله تعالى عن نيته؛ فإنّه في الحب الشريف الرباني، مبلغ الناظر فيه غاية أمنيته.
اللمحة البدرية في الدولة النصرية
ومن تواليفه رحمه الله تعالى غير ما سبق اللمحة البدرية في الدولة النصرية
وكتاب السحر والشعر ومعيار الأخبار ومفاضلة مالقة وسلا وخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف وقد ذكرهما في الرحيانة بنصهما، وجعلهما من جملة ما اشتملت عليه، والمسائل الطبية في مجلد، والكتيبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة ورسالة تكوّن الجنين والوصول لحفظ الصحة في الفصول وكتاب الوزارة ومقامة السياسة والغيرة على أهل الحيرة وحمل الجمهور على السّنن المشهور والزبدة المخوضة والرد على أهل الإباحة وسد الذريعة في تفضيل الشريعة وتقرير الشبه وتحرير الشبه واستنزال اللطف الموجود في سر الوجود وأبيات الأبيات فيما اختاره رحمه الله تعالى من مطالع ما له من الشعر، وفتات الخوان ولقط الصوان في سفر يتضمن المقطوعات فقط، وكناسة الدكان بعد انتقال السكان، والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة جمع فيه نظم ابن صفوان، وأعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام وما يجر ذلك
من شجون الكلام والمباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية وخلع الرسن في أمر القاضي ابن الحسن وتدوين شعر شيخه ابن الجياب، وجمع نثر المذكور وسمّاه تافه من جمّ ونقطة من يمّ وشرحه لكتاب نفسه رقم الحلل في نظم الدول؛ فهذا ما حضرني علمه من تواليف لسان الدين رحمه الله تعالى، فأما البيزرة ففي مجلد، وأما البيطرة فكذلك في مجلد جامع لما يرجع إليه من محاسن الخيل وغير ذلك، وأما رجز الأصول فقد شرحه قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون صاحب التاريخ المشهور، وأمّا رقم الحلل في نظم الدول فهو في غاية الحلاوة والعذوبة والجزالة، وقد كنت بالمغرب أحفظ أكثره، فنسيته الآن، وابتدأه بقوله:
الحمد لله الذي لا ينكره
…
من سرحت في الكائنات فكره وعلق بحفظي الآن منه قوله في الوليد بن يزيد:
ثمّ الوليد بن يزيد العائث
…
قد نقلت من فعله خبائث وفي آخر دولة بني أمية قوله:
وصار قصر الملك من أميّه
…
أقفر ربعاً من ديار ميّه وفي الأمين:
باع العلا بشادن وكاس
…
وصحبة الشيخ أبي نواس وفي المعتصم:
وهو الذي تألّف الأتراكا
…
فنصبوا لقومه الأشراكا ومن أبيات هذا الكتاب قوله:
ويفسد الملك بالاحتجاب
…
كذاك بالزّهو وبالإعجاب وما أحسن قوله فيه عند ذكر موت بعض الملوك:
وأقفرت من ملكه أوطانه
…
سبحان من لا ينقضي سلطانه [معلومات عن كتاب الإحاطة]
وأمّا كتاب الإحاطة فهو الطائر الصيت بالمشرق والمغرب، والمشارقة أشد إعجاباً به من المغاربة، وأكثر لهجاً بذكره، مع قلّته في هذه البلاد المشرقية، وقد اعتنى باختصاره الأديب الشهير البدر البشتكي (1) ، وسمّاه مركز الإحاطة في أدباء غررناطة وهو في مجلدين بخطّه، رأيت الأخير منهما بمصر، وقال في آخره ما نصّه: هذا آخر ما أردت إيراده، وفوّفت أبراده، من كل طرفة وتحفة وفائدة أدبية ونادرة تاريخية، في كتاب الإحاطة بتاريخ غرناطة، ولما كان المعول عليه، والباعث الداعي إليه، ذكر أدبائه، ومآثر علمائه، سميته مركز الإحاطة بأدباء غرناطة والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، علقه لنفسه ثم لمن شاء الله تعالى من بعده الفقير إلى عفو ربّه محمد بن إبراهيم بن محمد البدر البشتكي، لطف الله تعالى به بمنّه وكرمه، مستهل صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ انتهى.
وقد جعل كل أربعة أجزاء من الأصل في مجلّد، إذ هو في مجلدين كما سبق، ونسخة الأصل في ثمانية مجلّدات، فنقص من الأصل ثلاثة أرباع أو نحوها.
ولمّا وقف سلطان الأندلس من كتاب الإحاطة نسخة على بعض مدارس غرناطة كتب ابن عاصم حجة الوقفية بخطّه، ولنثبتها لما فيها من الفوائد، قال
(1) هو محمد بن إبراهيم بن محمد أبو البقاء بدر الدين الأنصاري البشتكي الدمشقي الأصل المتوفي بالقاهرة سنة 830 (انظر الضوء اللامع 6: 277 ومطالع البدور 1: 80) .
الأديب الفقيه أبو عبد الله محمد بن الحداد الشهير بالوادي آشي نزيل تلمسان المحروسة: كان على ظهر النسخة الرائقة الجمال، والفائقة الكمال، من الإحاطة بتاريخ غرناطة المحبّسة على المدرسة اليوسفية، من الحضرة العلية، بخط قاضي الجماعة، ومنفذ الأحكام الشرعية المطاعة، صدر البلغاء، وعلم العلماء، ووحيد الكبراء، وأصيل الحسباء، الوزير الرئيس المعظّم أبي يحيى ابن عاصم - رحمة الله تعالى عليه - ما نصّه: الحمد لله الجاعل الاستدلال بالأثر على المؤثر مما سلمه الأعلام، وشهدت به العقول الراجحة والأحلام، وهو الحجّة المعتمدة حين تتفاضل الألباب وتتقاصر الأفهام، وبه الاستمساك إن طرقت الشكوك أو عرضت الأوهام، وحسبك بما يسلم في هذا المقام العالي من الأدلة، وما يعتمد في هذا المجال المتضايق من البراهين المستقلّة، فحقيق أن يتلقى هذا النوع من الاستدلال فيما دون الفن المشار إليه بالقبول، ويستنبل المهتدي لاستنباطه لما فيه من التبادر للأفهام والتسابق للعقول، وإذا ثبت أن المستدل بهذه الأدلّة سالك على سواء سبيل، ومنتمٍ من صحة النظر إلى أكرم قبيل، فلا خفاء أن كتاب الإحاطة للشيخ الرئيس ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - من أثر هذه الدولة النّصرية أدامها الله تعالى بكل اعتبار، ومآثرها التي هي عبرة لأولي الألباب وذكرى لذوي الأبصار، أما الأول فلأن الأنباء التي أظهرت بهجتها، وأوضحت حجّتها، وشرفت مقصدها، وكرمت مصعدها، إنّما هي مناقب ملوكها الكرام، ومكارم خلفائها الأعلام، أو أخبار من اشتملت عليه دولتهم الشريفة من صدور حملة السيوف والأقلام، وأفذاذ حفظة الدّين والدنيا، والشرف والعليا، والملك والإسلام، أو ما يرجع إلى مفاخر حضرة الملك، وينتظم نظم الجمان في ذلك السلك، من حصانة قلعتها، وأصالة منعتها، وقديم اختطاطها، وكريم جهادها ورباطها، وحسن ترتيبها ووضعها، وما اشتمل عليه من مقاصد الأنس آهل ربعها، وما سوى هذه الأقسام الثلاثة فمن قبيل القليل، وممّا يرجع إلى شرف الحضرة ممّن انتابها
من أهل الفضل الواضح والمجد الأثيل، وأما ثانياً فإن راسم آياتها المتلوة، ومبدع محاسنها المجلوة، وناقل صورتها من الفعل إلى القوّة، إنّما هو حسنة من حسنات هذه الدولة النّصرية الكريمة، ونشأة من نشآت جودها الشامل النعمة الهامل الدّيمة، فما ظهر عليه من كمالات الأوصاف، على الإنصاف، فأخلاف هذه المكارم النصرية أرضعته، وعناياتها الجميلة أسمته فوق الكواكب ورفعته، وإليها ينسب إحسانه إن انتسب، ومن كريم تشريفها اكتسب، والحضرة هي منشؤه الذي عظم فيه قدره، بل أفقه الذي أشرق فيه بدره، والتشريفات السلطانية التي فتقت اللها باللها، وأحلّت من مراقي العز فوق السها، وأمكنت الأيدي من الذخائر والأعلاق، وطوّقت المنن كالقلائد في الأعناق، وقلدت الرياسة والأقلام أقلام، وثنت الوزارة والأعلام أعلام، فبهرت أنواع المحاسن، وورد معين البلاغة غير المطروق (1) ولا الآسن، وبرعت التواليف في الفنون المتعدّدة، وشاترهت التصانيف ومنها هذا التصنيف المشار إليه لما له من الأذمة المتأكّدة، إذ أظهر هذا الاستدلال، وأوضح البيان ما كتمه الإجمال، فلنفصح الآن بما قصد، ولنحقق من أنجم السعادة ما رصد، وذلك أن لمولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، الغالب بالله المؤيد بنصره أبي عبد الله محمد ابن الخلفاء النصريين، أيده الله ونصره، وسنّى له الفتح المبين ويسره، مآثر لم يسبق إليهها، ومكارم لم يجر أحد ممّن وسم بالكرم عليها، لجلالة قدرها، وضخامة أمرها، من ذلك هذا المقصد الذي أثر لها كالكتاب المذكور وسواه، ممّا هو واحد في فنّه وفذ في معناه، عقد في جميعها التحبيس على أهل العلم والطلبة بحضرته العليا هنالك ليشمل به الإمتاع، ويعم به الانتفاع، والله تعالى ينفع بهذا القصد الكريم، ويتولى المثوبة على هذا العقد الجسيم، وهذه النسخة في اثني عشر سفراً متفقة الخط والعمل، اكتتب هذا
(1) المطروق: الماء الذي بالت فيه الدواب.
على ظهر الأول منها، وبتاريخ رجب الفرد من عام تسعة وعشرين وثمانمائة، عرف الله تعالى بركته بمنّه؛ انتهى.
وكان لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - أرسل في حياته نسخة من الإحاطة إلى مصر، ووقفها على أهل العلم، وجعل مقرها بخانقاه سعيد السعداء، وقد رأيت منها المجلّد الرابع، وهذا نص وقفيته: الحمد لله وحده، وقف الفقير إلى رحمة الله تعالى الشيخ أبو عمرو ابن عبد الله بن الحاج الأندلسي - نفع الله تعالى به - عن موكّله مصنّفه الشيخ الإمام العلامة بركة الأندلس لسان الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن الخطيب الأندلسي السّلماني - فسح الله تعالى في مدّته، وفتح لنا وله أبواب رحمته، ومنحنا وإيّاه من رفده وعطيته، وأسكننا وإيّاه أعالي جنّته - جميع هذا الكتاب تاريخ غرناطة، وهو ثمانية أجزاء، هذا رابعها، عن مصنّفه المذكور بمقتضى التفويض الذي أحضره، وهو أنّه فوّض إليه النيابة عنه في جميع أموره المالية كلّها، وشؤونه جميعها، والنظر في أ؛ واله على اختلافها وتباين أجناسها، تفويضاً تاماً على العموم والإطلاق، والشمول والاستغراق، لم يستثن شيئاً ممّا تجوز النيابة فيه إلاّ أسنده إليه، وهو ثابت على سيّدنا ومولانا قاضي القضاة يومئذ بثغر الإسكندرية المحروس أدام الله تعالى أيامه كمال الدين خالصة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن الربعي المالكي ثبوته مؤرخ بثالث ذي الحجّة عام سبعة وستين وسبعمائة، وقفاً شرعيّاً على جميع المسلمين ينتفعون به قراءة ونسخاً ومطالعة، وجعل مقرّه بالخانقاه الصالحية (1) سعيد السعداء، رحم الله تعالى واقفها، وجعل النظر في ذلك للشيخ العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجلة، حرسه الله تعالى، ثم من بعده لناظر أوقاف الخانقاه المذكورة، فلا يحل لأحد، يؤمن بالله العظيم، ويعلم أنّه صائر إلى ربّه الكريم، أن يبطله ولا شيئاً منه،
(1) ق: الصلاحية.
ولا يبدله ولا شيئاً منه، فمن فعل ذلك أو أعان عليه فإنّما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع عليم، ومن أعان على إبقائه على حكم الوقف المذكور جعله الله تعالى من الفائزين المطمئنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأشهد الواقف الوكيل عليه في ذلك في الثاني والعشرين لشهر الله تعالى المحرم عام ثمانية وستين وسبعمائة؛ انتهى.
وقد رأيت بظهر أول ورقة من هذه النسخة خطوط جماعة من العلماء، فمن ذلك ما كتبه الحافظ المقريزي المؤرخ، ونصّه: انتقى منه داعياً لمؤلّفه أحمد ابن علي المقريزي في شهر ربيع سنة ثمان وثمانمائة:
وما رقمه الحافظ السيوطي ونصّه: الحمد لله وحده، طالعته على طبقات النحاة واللغويين، وكتبه عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي سنة ثمان وستين وثمانمائة؛ انتهى.
وبعد هذين ما صورته: انتقى منه داعياً لمؤلّفه محمد بن محمد القوصوني سنة أربع وخمسين وتسعمائة.
وبعده ما صورته: أنهاه نظراً وانتقاء علي الحموي الحنفي، لطف الله به.
وبخط مولانا العارف الرباني علامة الزمان وبركة الأوان سيدي الشيخ محمد البكري الصديقي ما نصّه: طالعته مبتهجاً برياضه المونقة، وأزهار معانيه المشرقة، مرتقياً في درج كلماته العذاب سماء الاقتباس، مقتنياً من لطائفه درراً وجواهر بل أحاشيها بذلك القياس، كتبه محمد الصديقي غفر الله له؛ انتهى.
ورأيت بهامش هذه النسخة كتابة جماعة من أهل المشرق والمغرب كابن دقماق والحافظ ابن حجر وغيرهما من أهل مصر، ومن المغاربة ابن المؤلف أبي الحسن علي ابن الخطيب، والخطيب الكبير سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق، والعلامة أبي الفضل ابن الإمام التلمساني، والنحوي الراعي، والشيخ الفهامة الشهير يحيى العجيسي شارح الألفية وصاحب التآليف، وغير هؤلاء ممّن يطول
تعدادهم، رحم الله تعالى جميعهم.
وقد أشار ابن الأحمر حفيد الغني بالله تعالى الذي كان ابن الخطيب وزيراً له ثم انفصل عنه حسبما تقدّم إلى ما يتعلّق بكتاب الإحاطة في جملة كلام نصّه: وتلقينا ممّن نثق به أن الكاتب المجيد الأصيل حسباً، البارع أدباً، أبا عبد الله ابن جزي وفد على السلطان أبي عنان صاحب المغرب في حدود عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فأكرم جنابه، وكمل من تقريبه واصطناعه آرابه، فانتدب إلى ذكر وطنه الأندلسي، وصاح بمن عذله:
أيا ويح الشجيّ من الخلي
…
وبرع غاية البراعة في التاريخ الذي جمعه، ورفع راية البلاغة لما كلف به ووضعه، فلم يكن شيء من الكلام إلاّ قال الإحسان وأنا معه، استوعب ما شاء، وأبدع في كل ما نقل سواء كان شعراً أو إنشاء، لكن سابق أجله منع من الإمتاع بمجمله ومفصّله، وجاءت الحادثة العظمى من وفاة مولانا والد جدّنا أمير المسلمين أبي الحجاج في غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة فعين لتعريف صاحب المغرب بالكائنة خاص الدولة ورئيس الجملة أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب، فوقف من تاريخ ابن جزي على شاطىء نهر فياض، وانتشق من ورقاته أزاهر رياض، وحمله النظر في بدائعه على أن يأخذ في جمع كتابه المسمى بالإحاطة فيما تيسّر من تاريخ غرناطة ووجد لذلك موجباً أغراه بجمعه، وهو أن الشيخ الحجّة الشاعر المفلق أبا إسحاق ابن الحاج وفد على الأندلس بعد جوبه في الآفاق، وترحله إلى ما وراء الشام والعراق، وإعلامه أنّه يذهب في بدأة تاريخ مذهب ابن جزي وغيره، وكان وحيداً في فنون الآداب، والمساجلة لأعلام الكتّاب، وبحكم الاتفاق على أثر وصول ابن الخطيب من الرسالة للسلطان أبي عنان وجد الحاجب الخطير أبا
النعيم رضوان قد استولى على وظيفة الحجابة والرياسة وأقنعه بالاسم من ذلك المسمى، وبأن وقفه دون طموحه إلى عادته من المرقب الأسمى، فأنتج الانتباذ من تلك الرياسة الخطيبية أن ألفى الخطبة على جلالة مقدارها، وتوضّح أنوارها، في مرتقى إجلالها وإكبارها، وأخذ في تأليف الإحاطة مستدعياً تصحيح الموالد والوفيات، والأسماء والمسميات، ومستكثراً من طرف المصنّفات، ليتم قصده من الإطناب، ونقله العيون الرائقة من كلّ كتاب، وألقى جميع مقاصده، والمعظم من تنظيم فرائده، بيد الشيخ العمدة معلم الجملة منا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أبي عبد الله الشريشي، قدس الله تعالى ضريحه، وهذا الشيخ الذي لم يجاوز سنّ الكهولة في ذلك الوقت هو الذي تولى من المبيضات نقله، وأحكم جنسه وفصله، وانختم على مجلدات ستة. ولما عاد ابن الخطيب إلى الأندلس بعودة جدنا الغني بالله تعالى إلى ملكه عام ثلاثة وستين وسبعمائة تلاحقت الفروع من كتاب الإحاطة بالأصول، وأنجز من التبحر فيه الوعد الممطول، ووضعت بخانقاه سعيد السعداء نسخته المتمّمة من اثني عشر سفراً؛ انتهى كلامه.
وقد علمت أن المكتوب في الوقفيّة كما مر ثمانية مجلدات، لا اثنا عشر، فلعل ذلك الاختلاف بسبب الكبر والصغر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
والكاتب أبو عبد الله ابن جزي الذي أشار إليه قد عرّفنا به فيما سبق فليراجع.
[ترجمة ابن الحاج النميري]
وأمّا العلامة ابن الحاج، فهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم ابن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم الكاتب القاضي النميري، ويعرف بابن الحاج الغرناطي، قال
في الإحاطة (1) : نشأ على عفاف وطهارة، وبر وصيانة، وبلغ الغاية في جودة الخط، وارتسم في كتّاب الإنشاء عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، مع حسن سمت، وجودة أدب وخط، وظهور كفاية، يقيد ولا يفتر (2) ، ويروي الحديث مع الطهارة والنزاهة، مليح الدعابة، طيب الفكاهة، شرق وحج وتطوف وقيد واستكثر ودون رحلة سفره، وناهيك بها طرفة، وقفل لإفريقية، وخدم بعض ملوكها، وكتب ببجاية، ثم خدم سلطان المغرب أبا الحسن، ثم كتب عن صاحب بجاية، ثم تنزه عن الخدمة، وانقطع بتربة الشيخ أبي مدين مؤثر الخمول، ذاهباً مذهب العكوف بباب الله تعالى، حجّة على أهل الحرص والتهافت، ثم جبر على الخدمة عند أبي عنان، ثم أفلت عند موته فلحق بالأندلس، وتلقّيَ ببرّ وتنويه وعناية، وولي القضاء بقرب الحضرة، وهو الآن من صدور القطر وأعيانه، متوسط الاكتهال، روى عن مشيخة بلده واستكثر، وأخذ في رحلته عن ناس شتى، وألف تواليف منها إيقاظ الكرام بأخبار المنام وجزء في بيان الاسم الأعظم كثير الفائدة، ونزهة الحدق في ذكر الفرق وكتاب اللباس والصحبة في جمع طرق المتصوفة المدعي أنّه لم يجمع مثله، وجزء في الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت بالمشرق، وجزء في الأحكام الشرعية سمّاه بالفصول المقتضبة في الأحكام المنتخبة ورجز في الجدل، ورجز صغير في الحجب والسلاح، ورجز صغير سمّاه بمثالث القوانين في التورية والاستخدام والتضمين، مولده بغرناطة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وامتحن بالأسر مع جماعة بعد قتال عام ثمانية وستين، ثمّ فكّه الله تعالى؛ انتهى ملخصاً.
وأخذ عنه جماعة كالقاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة وغيره، وهو من الأدباء المكثرين، وكان عندي بالمغرب مجلد من رحلته التي بخطّه،
(1) الإحاطة 1: 193 والمقري ينقل ملخصاً.
(2)
الإحاطة: وهو في أثناء هذه الحال يقيد ولا يفتر.
وقد أتى فيه بالعجب العجاب، وتمهر في الحديث على طريقة أهل المشرق، لأنّه لقي جماعة من الحفاظ كالذهبي والبرزالي والمزي، وناهيك بالثلاثة، وغيرهم ممّن يطول تعداده، وله النظم الرائق، العذب الجامع بين جزالة المغاربة ورقة المشارقة، كما ستراه، فمن نظمه يمدح الحافظ جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي، وقد أبصره على أسرّة دار الحديث الأشرفية بدمشق:
جمال الدين للإقراء يعلو
…
أسرّته إذا اصطفّ الرجال
فمذ جليت محاسنه بدا لي
…
محيّا في أسرّته الجمال ضمن قول المعرّي (1) :
أهلّ فبشّر الأهلين منه
…
محيّا في أسرّته الجمال وقوله في الحافظ علم الدين أبي القاسم محمد بن يوسف البرزالي:
نوى النّوى علم الدين الرضى فأنا
…
من بعد فرقته بالشام ذو ألم
فلا تلمني على حبي دمشق فقد
…
أصبحت فيها زماناً صاحب العلم وقال فيه أيضاً:
نوى النوى علم الدين الرضى فذكت
…
نار اشتياقي حتى اشتعظموا ألمي
فقلت: إنّي من قوم شعارهم
…
جود، فلا تنكروا ناري على العلم وقال في الحافظ شمس الدين الذهبي:
رحلت نحو دمشق الشام مبتغياً
…
رواية عن ذوي الأحلام والأدب
ففزت في كتب الآثار حين غدت
…
تروى بسلسلة عظمى من الذهب
(1) شروح السقط: 1717.
وقال في الحافظ المزي أيضاً:
جمال الدين أضحى في دمشق
…
إماماً نحوه طال الذميل
فلم أعدم بمنزله جميلاً
…
فحيث هو الجمال هو الجميل وقال حين بدوره على الأمير الصالح المحدّث الجليل قطب الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق ابن السلطان الملك الرحيم بدر الدين بن لؤلؤ بن عبد الله النوري صاحب الموصل ليروي عنه:
إلى قصد قطب الدين وافيت عندما
…
أقمت على الترحال في الشرق والغرب
وأصبحت كالأفلاك في السير والسّرى
…
فها أنا في مصر أدور على القطب وقال في قاضي القضاة العالم الشهير صاحب التفسير عماد الدين الكندي، وهو ممّن أخذ عنه بثغر الإسكندرية:
ولمّا اختبرت ذوات الورى
…
تعجّبت من حسن ذات العماد
فتلك التي لم أكن مبصرا
…
مدى عمري مثلها في البلاد وقال في القاضي وجيه الدين يحيى بن محمد الصنهاجي:
أضحى وجيه الدين أسبق سابق
…
في العلم والعلياء والخلق النبيه
عجب الورى من سبقه وتعجبوا
…
فأجبتهم لا تنكروا سبق الوجيه ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى قوله:
قد قارب العشرين ظبي لم يكن
…
ليرى الورى عن حبّه سلوانا
وبدا الربيع بخدّه فكأنّما
…
وافى الربيع ينادم النّعمانا وقوله:
وعارض في خدّه نباته
…
بحسنه بين الورى يسحرنا
أجرى دموعي إذ جرى شوقاً له
…
فقلت {هذا عارضٌ ممطرنا}
وقال وقد توفّي أبو يحيى أبو بكر صاحب تونس وولي ابنه أبو حفص عمر بعد قتله لإخوته:
وقالوا أبو حفصٍ حوى الملك غاصباً
…
وإخوته أولى وقد جاء بالنّكر
فقلت لهم كفّوا فما رضي الورى
…
سوى عمر من بعد موت أبي بكر وقال:
أتوني فعابوا من أحبّ جماله
…
وذاك على سمع المحبّ خفيف
فما فيه عيب غير أنّ جفونه
…
مراضٌ، وأنّ الخصر منه ضعيف وقال (1) :
أيا عجباً كيف تهوي الملوك
…
محلّي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة
…
وما أنا إلاّ خديم بفاس وقال:
لي المدح يروى منذ كنت كأنّما
…
تصوّرت مدحاً للورى وثناء
وما لي هجاء فاعجبنّ لشاعرٍ
…
وكاتب سرٍّ لا يقيم هجاء وقال في حقّه القاضي أبو البقاء خالد البلوي (2) : نقلت من خط سيدي ورفيقي وصديقي إمام المسلمين، برهان الدين، أبي إسحاق ابن إبراهيم بن عبد الله بن الحاج وأكثره ممّا كان أنشدنيه قديماً من نظمه في التورية قوله:
ومهاةٍ تقول إن هي كلّت
…
ودعا للمزاح خلٌّ ممازج
(1) انظر أيضاً تاج المفرق، الورقة:221.
(2)
عندما عاد البلوي من رحلته ووصل قسنطينة (سنة 740) نزل عند صديقه ابن الحاج تاج المفرق، الورقة: 209) .
وازر الردف إنّ في الأزر مني
…
رمل يبرين يا طبيب وعالج وقوله:
وروض ممحل جدب المراعي
…
سريع القيظ وقداً والتهابا
حكى ابن أبي ربيعة لا شجوناً
…
ولكن كونه يهوى الرباب وقوله:
وظبي طرّ عارضه وأعفى
…
عذاراً بعد يزهو باخضرار
رأى سقماً بمقلته فوافى
…
بآسٍ عاد لكن من عذار وقوله:
أتوني بنمامٍ من الروض يانعٍ
…
سقته الغوادي كلّ أسجم مدرار
فلا غرو إن أصليته نار زفرتي
…
وحكم على النمام الإلقاء في النار وقوله:
هذه الشمس بالحجاب توارت
…
بعد نورٍ لها ورحبٍ وبشر
وأتى اللّيل بالنسيم عليلاً
…
فهو يمشي من أفقه لابن زهر يعني بذلك الوزير الكبير الشهير الطبيب ابن زهر الإشبيلي الأندلسي، فإنّه كان وحيد دهره في الطب، فجاءت التورية بسبب ذلك محكمة إلى الغاية.
وقال أبو إسحاق النميري المذكور:
أيا ضوء الصباح ارفق بصبٍ
…
تسيل دموعه في الخدّ سيلا
وكنت بليلة ليلاء طالت
…
فها أنا في الورى مجنون ليلا (1)
(1) كتبناها هكذا لتناسب التورية في " ليلاء ".
وقال يخاطب شيخه سيف الدين:
لمولاي سيف الدين في الفقه بيننا
…
مقام اجتهاد ليس يلحقه الحيف
فتقليده فرض على أهل عصرنا
…
ولا عجب عندي إذا قلّد السيف وقال:
رعى الله معطار النّسيم فإنّه
…
رأى من غصون البان ما شاء من عطف
وأبدى حديث الغيث وهو مسلسلٌ
…
لذاك لعمري ليس يخلو من الضعف وترشحت التورية بكون المحدثين يقولون الحديث المسلسل لا يخلو من الضعف، ولو في التزام التسلسل، مع كون متن الحديث صحيحاً كما قرر في محله.
وقال رحمه الله تعالى:
نظرت إلى روض الجمال بوجهه
…
وسقيّته دمعاً به العين تكلف
فصحّ حديث الحسن عن ورد خدّها
…
وإن كان أضحى وهو راوٍ مضعف وقال رحمه الله تعالى:
بدا عارض المحبوب فاحمرّ خجلةً
…
وأهدى لنا ورداً به الحسن ناهض
فقلت له لا تنكر الورد ناضراً
…
فقد سال في خدّيك من قبل عارض وقال:
النوم عن إنسان عيني نافرٌ
…
كالوحش ليس يقاربُ الإنسانا
والدمع منها فاض طوفاناً فلا
…
عجبٌ إذا ما غرّق الأجفانا وقال رحمه الله تعالى:
بكت شجناً ففاض الدمع يحكي
…
يتامى الدرّ إذ يهوي تؤاما
وسلّت من محاجرها سيوفاً
…
فخفت على المحاجر واليتامى وقال القاضي خالد البلوي رحمه الله تعالى: من نظم صاحبنا أبي إسحاق ابن الحاج النميري يخاطب شيخه وشيخنا أيضاً صاحب ديوان الإنساء الإمام جمال الدين إبراهيم ابن الإمام العلامة صاحب ديوان الإنشاء ملك الكلام قس الفصاحة شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، وقد تقرب إليه في قصد الرواية عنه:
إلى ابن شهاب الدين طال تغرّبي
…
فلمّا سرت عيسي له وركابي
رويت حديث الفضل عنه فصحّ لي
…
كما شئت مرويّاً عن ابن شهاب وقوله يخاطب كمال الدين بن جمال الدين المذكور:
أشبهت والدك الرضى في فضله
…
وأخذته عنه بخير مناب
وملكتني فحديث فضلك في الورى
…
عن مالكٍ يروى عن ابن شهاب وقال رحمه الله تعالى:
لعمرك ما ثغره باسمٌ
…
ولكنّه حببٌ لاعب
ولو لم يكن ريقه مسكراً
…
لما دار من حوله الشارب وقال رحمه الله تعالى ملغزاً في القلم:
سألتك ما واشٍ يراد حديثه
…
ويهوى الغريب النازح الدار إفصاحه
تراه مدى الأيّام أصفر ناحلاً
…
كمثل عليلٍ وهو قد لازم الراحه وقال وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء ببعض الثغور وشرب منها:
تعجبت من ثغر هذي البلاد
…
ومولاي من عينها شارب
فلله ثغر أرى شارباً
…
وعين بدا فوقها حاجب
وقال:
وحمراء في الكأس مشمولة
…
تحثّ على العود في كلّ بيت
فلا غرو أن جاءني سابقاً
…
إلى الأنس خلٌّ يحثّ الكميت وقال:
بروضتنا الظّمياء طال اكتئابنا
…
فلله غيثٌ ميت آمالنا أحيا
وأشبه مهياراً فها تلك عينه
…
تفيض إذا شام البروق على ظميا وقال:
اثنان عزّا فلم يظفر بنيلهما
…
وأعوزا من هما في الدهر مطلبه
أخ مودته في الله صادقة
…
ودرهمٌ من حلالٍ طاب مكسبه وقال مورياً بالقائد نافع على ما اختاره البخاري وجماعة أن أصح الأسانيد مالك عن نافع:
عن نافع أسند حديث أحبتي
…
يا مالكاً رقّي بحسن صنائع
فأجلّ إسنادٍ وخير روايةٍ
…
عندي رواية مالكٍ عن نافعِ وقال:
إنّي لأعجب من فعالك في الهوى
…
لمّا حللت بحسن ذاتك ذاتي
ونفيت نومي ثم أثبتّ الأسى
…
فجمعت بين النفي والإثبات وقال:
ألا معصمٌ للصبّ من وشي معصم
…
أطلت إليه نظرة المتوسّم
فأبقت به عيني حُلىً من سوادها
…
وبعض سوادٍ وسط قلبي المتيّم
وليس خضاباً ما علاه، وإنّما
…
جرى فيه بعد الدمع ما عزّ من دمي
ولم يعد منّي اللون لون سواده
…
خلا أنّني أشقى وقيل له: انعم وقال وقد جاء الشاعر المفلق أبو العباس أحمد بن عبد المنّان بيت الكتاب وفي عينه خضرة:
أيا أحمد المرتضى للعلا
…
ومن حاز في صنعه كلّ زين
تراءيت في العلم روضاً نضيراً
…
فلا تنكرن خضرةً حول عين وله فيه:
لك الخير عدم السبك أبدل ناظري
…
زمردةً مخضرةً من لجينه
فلا تنكروا ما راع من ذاك إنني
…
لصائغ تبر القول ناقد شينه
ولا عجب إن أعوز السبك صائغاً
…
فأوجب عدم السبك خضرة عينه وقال فيمن يعرف بالصهّال:
ألا ربّ فرسان توافوا فأدركوا
…
مع الليل أوتاراً لهم دون إمهال
وأجروا بصهّالٍ كميتاً كما ابتغوا
…
فلا تنكروا الإجراء منهم بصهّال ولما كتب الرئيس الكاتب الجليل أبو عبد الله العزفي مداعباً:
يا عصبةً كل فتى منهم علم
…
فرغتم من كتبكم ردّوا القلم أجابه ابن الحاج المذكور بقوله:
ألا احتسبوا ما قد أعرتم لفتية
…
تركّمكم بالصفح عن فعلهم قاضي
ولا تطمعوا في الردّ فالناس كلّهم
…
رأوا أنّ مولانا له القلم الماضي وقال الوادي آشي: نقلت من خط الكاتب العلامة الصدر البارع الحاج
القاضي الناظم الناثر الجامع للمحاسن والمفاخر أبي إسحاق إبراهيم بن الحاج النميري ما نصّه: كتب إليّ الفاضل النخبة أبو الفضل ابن رضوان متمثلاً بقول المأمون:
ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني
…
فكتبت إليه في التورية:
هنيئاً لك البشرى بهنّ فدم كما
…
تريد بنعمى للسعادة جامعه
وإن كنت من أهل الصلاح فلا تكن
…
بمائل قلب منك عن حبّ رابعه فأجابني بقوله:
يا سيدي ذكّرتني بالرابعه
…
لعلّها لكلّ خيرٍ جامعه
إنّي أخاف أن تكون باقعه
…
فتفرك المغازل المطاوعه ولابن الحاج المذكور من قصيدة طويلة:
لمن الخيام سطت ببيض صفاح
…
وارت سواداً غال كلّ صباح
إن مزقت رقعت بنقع كتائب
…
أو قوضت عمدت بسمر رماح وله في رثاء الطبيب ابن عمار، واقترح عليه ذلك ابن جزي:
ألا أسعدا عيني على السهد والبكا
…
فقد واصل السهد المبرح تذكاري
وأبدى الردى فتك ابن عباد اذ سطا
…
فلا غرو أن أبكي لفقد ابن عمّار وقال ممّا يكتب في الترس:
أنا الترس قد أنشأت بالأمر عدّة
…
ليوم جهاد مطلع غرّة النصر
فلاقوا بي الأعداء في زحفهم ولا
…
تبالوا بقرع الزرق والبيض والسمر
ولا تنكروا ستري لمقتل حاملي
…
ففي اسمي كما شاهدتم أحرف الستر وله يهني السلطان أبا عنان أمير المؤمنين المريني بالإبلال من المرض:
مطالب إلا أنّهنّ مواهب
…
قضى الله أن تقضى، فنعم المطالب
شفاء أمير المؤمنين وإنّه
…
لأكرم من تحدى إليه الركائب
وكم قلت غاب البدر والشمس ضلةً
…
ورانت على قلبي الهموم النواصب
ولم يغبا لكن شكا الضرّ فارس
…
وأوحش منه مجلس الملك غائب
لك الله يا خير الملوك وخير من
…
تحن له حتى العتاق الشوازب
وقل لمن وافى بشيراً نفوسنا
…
فما هي إلا بعض ما أنت واهب
أقول لجرد الخيل قبّاً بطونها
…
معقدة منها لحرب سباسب
طوالع من تحت العجاج كأنّها
…
نعامٌ بكثبان الصّريم خواضب
محجّلة غرّاً كأنّ رعالها
…
بحارٌ جرت فيها الصّبا والجنائب
من الأعوجيّات الصّوافن ترتمي
…
إذا رجفت يوم القراع مقانب
هنيئاً فقد صحّ الإمام الذي به
…
تفلّ السيوف المرهفات القواضب
ومستأصل الفلّ المغذ جياده
…
لضرب كما ترغو الفحول الضوارب
ومن حطّم السمر الطوال كعوبها
…
بطعن كما امتاح الركيّة شارب
وكرّ على أرض العدا بفوارسٍ
…
كأنّهم في الحرب أسد غوالب
كأنّ رماح الخطّ أحسابهم، وما
…
حوت من نفوس المعتدين مناقب
هم ما هم، حدّث عن البحر أو بني
…
مرين فنهج القول أبلج لاحب
من البيت شادت قيس عيلان فخره
…
فطالت معاليه وطابت مناسب
وأحيا له ملك الخليفة فارس
…
مآثر غالتها اللّيالي الذواهب
كريم فلا الحادي النجائب مخفق
…
لديه، ولا المنضي الركائب خائب
أرى بذله النعمى ففضّت مكاسب
…
أرى بأسه الأنضى ففضّت كتائب
أنامله يروي الورى صوب جودها
…
فلولا دوام الرأي قلت السحائب
وكم خلت برقاً في الدجى نور بشره
…
تشيم سناه الناجيات النّجائب
فأخجلني أنّي أرى البرق خلّباً
…
فلا الصوب هام لا ولا الجود ساكب
أعرني أيمر المؤمنين بلاغة
…
فإنّي عن عجز لمدحك هائب
وأنطق لساني بالبيان معلّماً
…
فإنّي في التعليم للجود راغب
وكيف ترى لي بعد في الجود رغبة
…
وجودك لي فوق الذي أنا طالب
وقد شبّت الآمال إذا شبت ثم إذ
…
تفقدتها لم يدر ما شبّ شائب
بلغت بك الآمال حتى كأنّها
…
وقد صدقت ما شئت صدقاً كواذب
عجبت وما تولي، وأوليت معجباً
…
فلا برحت تنمو لديك العجائب
وحسبي دعاء لو سكت كفيته
…
كما قيل لكن في الدعاء مذاهب
وما أنا إلاّ عبدك المخلص الذي
…
يراقب في إخلاصه ما يراقب
فخذها تبث العذر لا المدح؛ إنّه
…
هو البحر قل هل يجمع البحر حاسب
بقيت بقاء الدهر ملكك قاهر
…
وسيبك فيّاض، وسيفك غالب
وعوفيت من ضرّ وأعطيت أجره
…
ولا روّعت إلا عداك النوائب وقال رحمه الله تعالى:
ولولا ثلاث جاء جبريل سائلاً
…
لخير الورى عنها لآثرت فقداني
مقامات إسلام أزيد بفعله
…
ثواباً وإيمانٌ أديم وإحساني وقال رحمه الله تعالى: أنشدني السلطان أمير المؤمنين أبو عنان فارس ابن أمير المسلمين أبي الحسن المريني رحمهما الله تعالى لنفسه:
يا ملمّاً بأرض تلك البلاد
…
حيّ فاساً وحيّ أهل الوداد
إن تناءت بشخصها عن عياني
…
فحماها مصوّرٌ في فؤادي [قصائد في مدح تلمسان وفاس]
قلت: تذكرت بهذا البحر والروي والغرض قول الفقيه الكاتب العلامة الناظم الناثر أبي عبد الله محمد بن يوسف الثغري كاتب سلطان تلمسان أمير المسلمين أبي حمّو موسى بن يوسف الزياني يمدحه ويذكر تلمسان المحروسة:
أيّها الحافظون عهد الوداد
…
جدّدوا أنسنا بباب الجياد
وصلوها أصلائلاً بليالٍ
…
كلآل نظمن في الأجياد
في رياضٍ منضدات المجاني
…
بين تلك الربى وتلك الوهاد
وبروج مشيدات المباني
…
باديات السنا كشهب بواد
رقّ فيها النسيب مثل نسيبي
…
وصفا النهر مثل صفو ودادي
وزها الزهر والغصون تثنّت
…
وتغنّت عليه ورق شواد
وانبرى كل جدول كحسام
…
عاري الغمد سندسيّ النّجاد
وظلال الغصون تكتب فيه
…
أحرفاً سطّرت بغير مداد
تذكر الوشم في معاصم خودٍ
…
نصبت فوقه ذوات امتداد
وكؤوس المنى تدار علينا
…
بجنى عفّةٍ ونقل اعتقاد
واصفرار الأصيل فيها مدامٌ
…
وصفير الطيور نغمة شاد
كم غدونا بها لأنس ورحنا
…
جادها رائح من المزن غاد
رقّت الشمس في عشاياه حتى
…
أحدثت منه رقةً في الجماد
جدّدت بالغروب شجو غريبٍ
…
هاجه الشوق بعد طول البعاد
يا حيا الزمن حيّها من بلادٍ
…
غرس الحب غرسها في فؤادي
وتعاهد معاهد الأنس منها
…
وعهود الصبا بصوب العهاد
حيث مغنى الهوى، وملهى الغواني
…
ومراد المنى، ونيل المراد
ومقرّ العلا، ومرقى الأماني
…
ومجرّ القنا، ومجرى الجياد
كل حسن على تلمسان وقف
…
وخصوصاً على ربى العبّاد
وسما تاجها على كل تاجٍ
…
ونما وهدها على كلّ ناد
يدّعي غيرها الجمال فيقضي
…
حسنها أنّ تلك دعوى زياد
بشعري فهمت معنى علاها
…
من حلاها فهمت في كلّ وادي
حضرة زانها الخليفة موسى
…
زينة الحلي عاطل الأجياد
وحباها بكلّ بذل وعدل
…
وحماها من كلّ باغ وعاد
ملك جاوز المدى في المعالي
…
فالنهايات عنده كالمبادي
معقل للهدى منيع النواحي
…
مظهر للعلا رفيع العماد
قاتل المحل والأعادي
…
جميعاً بغرار الظبى وغرّ الأيادي
كلّما ضنّت السحائب أغنت
…
راحتاه عن السحاب الغوادي
كم هباتٍ له وكم صدقاتٍ
…
عائدات على العفاة بواد
فأيادي خليفة الله موسى
…
أبحرٌ عذبة على الورّاد
ركّب الجود في بسيط يديه
…
فتلافى به تلاف العباد
جلّ باريه ملجأ للبرايا
…
كالحيا ضامناً حياة البلاد
جلّ من خصّه بتلك المزايا
…
باهرات من طارف وتلاد
شيم حلوة الجنى وسجايا
…
شهد المجد أنها كالشّهاد
يا إمام الهدى (1) وشمس المعالي
…
وغمام الندى وبدر النادي
(1) ق: العلا.
لك بين الملوك سرٌّ خفيٌّ
…
ليس معناه للعقول بباد
فكأنّ البلاد كفك مهما
…
كان فيها من ينتمي لعناد
قبضت كفّك البنان عليه
…
فأتى بالإذعان حلف انقياد
بكم تصلح البلاد جميعاً
…
إنّ آراءكم صلاح البلاد
لم تزل دائماً تحنّ إليكم
…
كحنين السقيم للعوّاد
لو أعينت بمنطق شكرتكم
…
مثل شكر العفاة للأجواد
قد أطاعتكم البلاد جميعاً
…
طاعةً أرغمت أنوف الأعادي
فأريحوا الجياد أتعبتموها
…
وأقرّوا السيوف في الأغماد
واهنأوا خالدين في عزّ ملك
…
قائم السعد دائم الإسعاد
وإليكم من مذهبات القوافي
…
حكماً سهّلت ليان المقاد
كلّ بيت من النظام مشيدٍ
…
عطّر الأفق بالثّناء المجاد (1)
ذو ابتسام كزهر روض مجودٍ
…
وانتظام كسلك درٍّ مجاد ولأبي المكارم منديل ابن الإمام الشهير صاحب المقدمة الآجرومية قصيدة في المنحى وافقت قصيدة الثغري في البحر وبعض المطلع، فلا ندري أيهما نسج على منوال الآخر: إذ هما متعاصران، إلا أن ذاك قالها في تلمسان، وهذا في مدينة فاس؛ وهي:
أيها العارفون قدر الصّبوح
…
جدّدوا أنسنا بباب الفتوح يعني بباب الفتوح أحد أبواب فاس، كما أن باب الجياد في كلام الثغري أحد أبواب تلمسان.
ثم قال ابن آجروم بعد المطلع:
(1) ق: المشاد.
جدّدوا ثمّ أنسنا ثمّ جدوا
…
يسرح الطرف في مجال فسيح
حيث شابت مفارق اللوز نوراً
…
وتساقطن كاللجين الصريح
وبدا منه كلّ ما احمرّ يحكي
…
ششفقاً مزقته أيدي الريح
وكأنّ الذي تساقط منه
…
نقطٌ لحن من دمٍ مسفوح
وإذا ما وصلتم للمصلّى
…
فلتحلوا بموضع التسبيح
وبطيفورها فطوفوا لكيما
…
تبصروا من ذراه كلّ سطوح
ولتقيموا هناك لمحة طرف
…
لتردّوا به ذماء الروح
ثم حطوا رحالكم فوق نهر
…
كلّ في وصفه لسان المديح
فوق حافاته حدائق خضرٌ
…
ليس عنها لعاشق من نزوح
وكأن الطيور فيها قيان
…
هتفت بين أعجم وفصيح
وهي تدعوكم إلى قبة الجو
…
ز هلمّوا إلى مكان مليح
فيه ما تشتهون من كلّ نور
…
مغلق في الكمام أو مفتوح
وغصون تهيج رقصاً إذا ما
…
سمعت صوت كلّ طير صدوح
فأجيبوا دعاءها أيّها السر
…
ب وخلوا مقال كل نصيح
واجنحوا للمجون فهو جدير
…
وخليق من مثلكم بالجنوح
واخلعوا ثمّ للتصابي عذاراً
…
إنّ خلع العذار غير قبيح
وإذا شئتم مكاناً سواه
…
هو أجلى من ذلكم في الوضوح
فاجمعوا أمركم لنحو خليج
…
جاء كالصلّ من قفار فسيح
عطرت جانبيه كف الغوادي
…
بشذا عرف زهرها الممنوح
قل لمهيار إن شممت شذاها
…
قول مستخبرٍ أخي تجريح
أين هذا الشّذا الذكيّ من القي
…
صوم والرند والغضا والشيح
حبّذا ذلك المهاد مهاداً
…
بين دان من الرّبى ونزوح
ثم من ذلك المهاد أفيضوا
…
نحو هضب من الهموم مريح
فيه للحسن دوحة وروايا
…
وانشراح لذي فؤاد قريح
وحجار تدعى حجار طبول
…
غير أنّ التطبيل غير صحيح
تنثر الشمس ثمّ كلّ غدوّ
…
زعفراناً مبلّلاً بنضوح
وسوى من هناك يسبي عقولاً
…
ويجلّي لحاظ طرف طموح
وعيون بها تقرّ عيونٌ
…
وكلاها يأسو كلوم الجريح
فرشت فوقها طنافس زهرٍ
…
ليس كالعهن نسجها والمسوح
كلّما مرّ فوقهنّ طليح
…
عاد من حسنهن غير طليح
فانهضوا أيّها المحبون مثلي
…
لنرى ذات حسنها الملموح
هكذا يربح الزمان وإلا
…
كلّ عيش سواه غير ربيح وما أحسن قول الكاتب الثغري يمدح تلمسان والسلطان المذكور آنفاً:
تاهت تلمسانٌ بحسن شبابها
…
وبدا طراز الحسن في جلبابها
فالبشر يبدو من حباب ثغورها
…
متبسّماً أو من ثغور حبابها
قد قابلت زهر النجوم بزهرها
…
وبروجها ببروجها وقبابها
حسنت بحسن مليكها المولى أبي
…
حمو الذي يحمي حمى أربابها
ملك شمائله كزهر رياضها
…
ونداه فاض بها كفيض عبابها
أعلى الملوك الصّيد من أعلامها
…
وأجلّها من صفوها ولُبابها
غارت بغرة وجهه شمس الضحى
…
وتنقيت خجلاً بثوب ضبابها
والبدر حين بدت أشعّتها له
…
حسناً تضاءل نوره وخبا بها
لله حضرته التي قد شرّفت
…
خدّامها فسموا بخدمة بابها
فاللثم في يمناه يبلغها المنى
…
والمدح في علياه من أسبابها وللثغري المذكور قصيدة لامية بديعة في مدح السلطان أبي حمو
ووصف بلاد تلمسان، وأجاد فيها إلى الغاية؛ وهي (1) :
قم مبصراً (2) زمن الربيع المقبل
…
تر ما يسرّ المجتني والمجتلي
وانشق نسيم الروض مطلولاً وما
…
أهداك من عرفٍ وعرفٍ فاقبل
وانظر إلى زهر الرياض كأنّه
…
درٌّ (3) على لبّات ربّات الحلي
في دولة فاضت يداها بالندى
…
وقضت بكل منى لكلّ مؤمل
بسطت بأرجاء البسيطة عدلها
…
وسطت بكلّ معاندٍ لم يعدل
سلطانها المولى أبو حمو الرضى
…
ذو المنصب السامي الرفيع المعتلي
تاهت تلمسان بدولته على
…
كلّ البلاد بحسن منظرها الجلي
راقت محاسنها ورقّ نسيمها
…
فحلا بها شعري وطاب تغزّلي
عرّج بمنعرجات باب جيادها
…
وافتح بها باب الرجاء المقفل
ولتغد للعبّاد منها غدوة
…
تصبح هموم النفس عنك بمعزل
وضريح تاج العارفين شعيبها
…
زره هناك فحبّذا ذاك الولي
فمزاره للدين والدنيا معاً
…
تمحى ذنوبك أو كروبك تنجلي
وبكهفها الضحّاك قف متنزهاً
…
تسرح نفوسك (4) في الجمال الأجمل
وتمشّ في جنباتها ورياضها
…
واجنح إلى ذاك الجناب المخضل
تسليك في دوحاتها وتلاعها
…
نغم البلابل واطّراد الجدول
وبربوة العشاق سلوة عاشق
…
فتنت وألحاظ الغزال الأكحل
بنواسمٍ وبواسم من زهرها
…
تهديك أنفاساً كعرف المندل
فلو امرؤ القيس بن حجر راءها
…
قدماً تسلّى عن معاهد مأسل
(1) القصيدة في بغية الرواد 1: 13.
(2)
البغية: نجتل.
(3)
البغية: درر.
(4)
البغية: جفونك.
أو حام حول فنائها وظبائها
…
ما كان محتفلاً بحومة حومل
فاذكر لها كلفي بسقط لوائها
…
فهواي عنها الدهر ليس بمنسل
كم جاد لي فيها الزمان بمطلبٍ
…
جادته أخلاف الغمام المسبل
واعمد إلى الصفصيف يوماً ثانياً
…
وبه تسلّ وعنه دأباً فاسأل
وادٍ تراه من الأزاهر خالياً
…
أحسن به عطلاً وغير معطل
ينساب كالأيم انسياباً دائماً
…
أو كالحسام جلاه كفُّ الصيّقل
فزلاله في كلّ قلب قد حلا
…
وجماله في كل عين قد جلي
واقصد بيوم ثالث فوّارة
…
وبعذب منهلها المبارك فانهل
تجري على درّ لجيناً سائلاً
…
أحلى وأعذب من رحيق سلسل
واشرف على الشّرف الذي بإزائها
…
لترى تلمسان العلية من عل
تاج عليه من المحاسن بهجة
…
أحسن بتاج بالبهاء مكلّل
وإذا العشية شمسها مالت فمل
…
نحو المصلّى ميلة المتمهل
وبملعب الخيل الفسيح مجاله
…
أجل النواظر في العتاق الحفّل
فلحلبة الأشراف كلّ عشية
…
لعب بذاك الملعب المتسهل
فترى المجلّي والمصلّي خلفه
…
وكلاهما في جريه لا يأتلي
هذا يكرّ وذا يفرّ فينثني
…
عطفاً على الثاني عنان الأول
من كل طرف كلّ طرف يستبي
…
قيد النواظر فتنة المتأمّل
وردٌ كأن أديمه شفق الدّجى
…
أو أشهب كشهاب رجم مرسل
أو من كميت لا نظير لحسنه
…
سام معمٍّ في السوابق مخول
أو أحمر قاني الأديم كعسجد
…
أو أشقر يزهو بعرف أشعل
أو أدهم كاللّيل إلا غرّةً
…
كالصبح، بورك من أغر محجّل
جمع المحاسن في بديع شياته
…
مهما ترقّ العين فيه تسله
عقبان خيلٍ فوقها فرسانها
…
كالأسد تنقضُّ انقضاض الأجدل
فرسان عبد الواد آساد الوغى
…
حامو الذمار أولو الفخار الأطول
فإذا دنت شمس الأصيل لغربها
…
فإلى تلمسان الأصيلة فادخل
من باب ملعبها لباب حديدها
…
متنزهاً في كلّ نادٍ أحفل
وتأنّ من بعد الدخول هنيهةً
…
واعدل إلى قصر الإمام الأعدل
فهو المؤمّلُ والديار كنايةٌ
…
والسرُّ في السكان لا في المنزل
فإذا أمير المؤمنين رأيته
…
فالثم ثرى ذاك البساط وقبّل
فالمجد لفظ في الحقيقة مجملٌ
…
وحلاه تفصيل لذك المجمل
بشرى لعبد الواد بالملك الذي
…
خلصوا به من كلّ خطب معضل
بأعزّهم جاراً، وأمنعهم حمىً
…
وأجلّهم مولى، وأعظم موئل
بالعادل المستنصر المنصور وال
…
مأمون والمهديّ والمتوكّل
وكفاهم سعداً أبو حمو الذي
…
يحمي حماهم بالحسام الفيصل
وبحسن نيّته لهم وبجده
…
وبسعده وبسعيه المتقبّل
ذو الهمّة العليا التي آثارها
…
حلّت به فوق السماك الأعزل
بحر الندى الأحلى وفخر المنتدى
…
وسنا الدجى الأجلى وزين المحفل
ينهل منه لنا الجدا وبه الدجى
…
تجلى بمشرق وجهه المتهلّل
هنىء به زمن الربيع وقلْ له
…
بشرى بأملح من حلاك وأجمل
وعلى علاه من صنيعة فضله
…
ترداد نافحة السلام الأكمل وكأنّه عارض بهذه القصيدة قطعة في بحرها ورويها في مدح مدينة فاس لبعض العلماء، وأظنّه القاضي المزدغي، وهي:
يا فاس حيّا الله أرضك من ثرى
…
وسقاك من صوب الغمام المسبل
يا جنّة الدنيا التي أربت على
…
حمص بمنظرها البهيّ الأجمل
غرف على غرف ويجري تحتها
…
ماء ألذ من الرحيق السلسل
وبساتن من سندس قد زخرفت
…
بجداول كالأيم أو كالفيصل
وبجامع القروين شرّف ذكره
…
أنس بذكراه بهيج تململي
وبصحته زمن المصيف عجائب
…
فمع العشيّ الغرب فيه استقبل
واشرب بتلك البيلة (1) الحسنا به
…
واكرع بها عنّي فديتك وانهل وقد تمثل لسان الدين رحمه الله تعالى في مدينة فاس بقول القائل (2) :
بلد أعارته الحمامة طوقها
…
وكساه ريش جناحه الطاووس
فكأنّما الأنهار فيه مدامة
…
وكأن ساحات الديار كؤوس وما أحسن قوله - أعني لسان الدين - في مدح تلمسان (3) :
حيّا تلمسان الحيا فربوعها
…
صدفٌ يجود بدرّه المكنون
ما شئت من فضلٍ عميم إن سقى
…
أروى ومنٍّ ليس بالمنون
أو شئت من دين إذا قدح الهدى
…
أورى ودنيا لم تكن بالدون
ورد النسيم لها بنشر حديقة
…
قد أزهرت أفنانها بفنون
وإذا حبيبة أمّ يحيى أنجبت
…
فلها الشفوف على عيون العين يعني بحبيبة أم يحيى عين ماء بتلمسان من أعذب المياه وأخفها، وكانت جارية بالقصور السلطانية، ولم تزل إلى الآن منها بقية آثار ورسوم، والبقاء لله تعالى وحده.
وممّن مدح تلمسان الحاج الطبيب أبو عبد الله محمد بن أبي جمعة الشهير بالتلالسي رحمه الله تعالى، إذ قال (4) :
سقى الله من صوب الحيا هاطلاً وبلا
…
ربوع تلمسان التي قدرها استعلى
(1) قد شرحنا البيلة، هامش: 1 مجلد: 1 ص: 206.
(2)
مر البيتان والقول في نسبتهما، المجلد: 1 ص: 169 وانظر مشاهدات لسان الدين: 111.
(3)
أزهار الرياض 1: 7.
(4)
أورد له صاحب بغية الرواد عدداً من القصائد والموشحات في الجزء الثاني؛ وهذه القصيدة في الجزء الأول ص: 17.
ربوع بها كان الشباب مصاحبي
…
جررت إلى اللذات في دارها الذيلا
فكم نلت فيها من أمانٍ قصيةٍ
…
وكم منح الدهر الضنين (1) بها النيلا
وكم غازلتني الغيد فيها تلاعباً
…
وكم من عذول لا أطيع له قولا
وكم ليلة بتنا بصفصيفها الذي
…
تسامى على الأنهار إذ عدم المثلا
وكدية عشاق لها الحسن ينتهي
…
يعود المسنّ الشيخ من حسنها طفلا
نعم، وغدير الجوزة السالب الحجى
…
نعمت بها طفلاً وهمت بها كهلا
ومنه ومن عين أم يحيى شرابنا
…
لأنهما في الطيب كالنيل بل أحلى
وعبّادها ما القلب ناس ذمامه
…
به روضة للخير قد جعلت حلاّ
به شيخنا المذكور في الأرض ذكره
…
أبو مدين أهلاً به دائماً أهلا
لها بهجة تزري على كل بلدة
…
بتاج عليها كالعروس إذا تجلى
فيا جنّة الدنيا التي راق حسنها
…
فحازت على كلّ البلاد به الفضلا
ولا عجب أن كنت في الحسن هكذا
…
وموسى الإمام المرتضى فيك قد حلاّ
ولاحت لدينا فيك منه محاسن
…
كأنّ سناها حاجب الشمس إذ جلّى
مطاع شجاع في الوغى ذو مهابة
…
حسام على الباغين في الأرض قد سلاّ
كريم حليم حاتميّ نواله
…
سعيد حميد يصدق القول والفعلا
له راحة كالغيث ينهل ودقها
…
وصارم نصرٍ مرهف الحد لا فلاّ
هو الملك الأرقى هو الملك الرضي
…
هو الملك الأسنى هو الملك الأعلى
ومن هذه الأوصاف فيه تجمّعت
…
حقيقاً على كلّ المعالي قد استولى
إمام حباه الله ملكاً مؤزراً
…
فلا ملك إلاّ لعزّته ذلاّ
من الزاب وافانا عزيزاً مظفّراً
…
يجر من النصر المنوط به ذيلا
(1) البغية: المنيف.
بدت إليك الغرب شدة بأسه
…
وإنعامه للمعتفين وما أولى
فبادره بالصلح خوف فواته
…
وسالمه إذ كان ذاك به أولى
فكان بحمد الله صلحاً مهنّأ
…
به طابت الدّنيا وجزنا به السبلا
له في المعالي رتبة لا ينالها
…
سواه وكتب في فضائله تتلى
لطاعته كلّ الأنام تبادرت
…
فيا سعد من وافى ويا ويح من ولّى
أحسّاده موتوا فإنّ قلوبكم
…
بدمر الغضا ممّا بها أبداً تصلى
لقد جبر الله البلاد بملكه
…
به ملئت أمناً، به ملئت عدلا
فلا زال هذا الملك فيه مخلداً
…
وصارمه الأمضى وخادمه الأعلى وممّا مدحت به تلمسان قول الإمام الصوفي أبي عبد الله محمد بن خميس الذي قدمنا ذكره في هذا الكتاب وبعض ما يتعلّق به، وذكرنا أيضاً فيما مرّ بعض أمداحه لها (1) :
تلمسان جادتك السحاب الروائح (2)
…
وأرست بواديك الرياح اللواقح
وسحّ على ساحات باب جيادها
…
ملثّ يصافي تربها ويصافح
يطير فؤادي كلّما لاح لامعٌ
…
وينهل دمعي كلّما ناح صادح
ففي كل شفرٍ من جفوني مائع
…
وفي كلّ شطر من فؤادي قادح
فما الماء إلا ما تسحّ مدامعي
…
ولا النار إلا ما تجنّ الجوانح
خليليّ لا طيف لعلوة طارق
…
بليل ولا وجه لصبحي لائح
نظرت فلا ضوء من الصبح ظاهر
…
لعيني ولا نجم إلى الغرب جانح
بحقّكما كفّا الملام وسامحا
…
فما الخلّ كلّ الخلّ إلاّ المسامح
ولا تعذلاني واعذراني فقلّما
…
يردّ عناني من عليّة ناصح
(1) وردت القصيدة في بغية الرواد 1: 11.
(2)
البغية: الدوالح.
كتمت هواها ثم برّح بي الأسى
…
وكيف أطيق الكتم والدمع فاضح
لساقية الروميّ عندي مزيّة
…
وإن رغمت تلك الرواسي الرواشح
فكم لي عليها من غدوٍّ ورحةٍ
…
تساعدني فيها المنى والمنائح
فطرف على تلك البساتين سارحٌ
…
وطرفٌ إلى تلك الميادين جامح
تحار بها الأذهان وهي ثواقب
…
وتهفو بها الأحلام وهي بوارح
ظباء مغانيها عواطٍ عواطف
…
وطير مجانيها شوادٍ صوادح
تقتّلهم فيها عيونٌ نواظر
…
وتبكيهم منهم عيون نواضح
على قرية العبّاد منّي تحيّة
…
كما فاح من مسك اللطيمة فائح
وجاد ثرى تاج المعارف ديمة
…
تغصّ بها تلك الرّبى والأباطح
إليك شعيب بن الحسين قلوبنا
…
نوازع لكنّ الجسوم نوازح
سعيت فما قصّرت عن نيل غاية (1)
…
فسعيك مشكور وتجرك رابح
نسيت وما أنسى الوريط ووقفة
…
أنافح فيها روضة وأفاوح
مطلاً على ذاك الغدير وقد بدت
…
لإنسان عيني من صفاه صفائح
أماؤك أم دمعي عشية صدّقت
…
عليّة فينا ما يقول المكاشح
لئن كنت ملآناً بدمعي طافحاً
…
فإني سكران بحبّك طافح
وإن كان مهري في تلاعك سائحاً
…
فذاك غزالي في عبابك سابح
قراح أتى ينصبّ من رأس شاهق
…
بمثل حلاه تستحثّ القرائح
أرق من الشوق الذي أنا كاتم
…
وأصفى من الدمع الذي أنا سافح
أما وهوى من لا أسميّه إنّني
…
لعرضي كما ق النصيح لناصح
أبعد صيامي واعتكافي وخلوتي
…
يقال فلان ضيّق الصدر بائح
لبعت رشادي فيه بالغيّ ضلّةً
…
وكم صالح مثلي غدا وهو طالح
وأيّ مقام ليس لي فيه حاسد
…
وأيّ مقالٍ ليس لي فيه مادح
(1) البغية: رغبة.
ألا قل لفرسان البلاغة أسرجوا
…
فقد جاءكم منّي المكافي المكافح
أيخمل ذكري عندهم وهو نابهٌ
…
ويغمط شجوي عندهم وهو شائح
بدور إذا جنّ الظّلام كوامل
…
وأسدٌ إذا لاح الصباح كوالح
تركت سوق البزّ لا عن تهاونٍ
…
وكيف وظبيٌ سانحٌ فيك بارح
وإنّي وقلبي في ولائك طامعٌ
…
وناظر وهمي في سماطك طامح
أيا أهل ودّي والعشير مؤمّن
…
أتقضي ديوني أم غريمي فالح
وهل ذلك الظبي النصاحيّ للذي
…
يقطّع من قلبي بعينيه ناصح
كنيت بها عنه حياءً وحشمةً
…
ووجه اعتذاري في القضيّة واضح [تعريف بتلمسان]
وتلمسان هذه هي مدينتتنا التي علّقت بها التمائم، وقد نزلها من سلفنا عبد الرحمن بن أبي بكر المقرّي بن علي صاحب السيخ ابن مدين، الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين، وهو الأب الخامس كما سبق في ترجمة أخبارهم، وهي من أحسن مدائن المغرب ماء وهواء، حسبما ق ابن مرزوق:
يكفيك منها ماؤها وهواؤها
…
وقال الكاتب أبو زكريا يحيى بن خلدون في كتابه بغية الرواد في أخبار بني عبد الواد وأيام أبي حمّو الشامخة الأطواد بعد كلام في شأن البربر، ما صورته (1) : ودار ملكهم وسط بين الصحراء والتل تسمى بلغة البربر تلمسن، كلمة مركبة من تلم ومعناه تجمع، وسن ومعناه اثنان: أي الصحراء والتل فيما ذكره شيخنا العلامة أبو عبد الله الآبلي، رحمه الله تعالى، وكان
(1) بغية الرواد 1: 19/9.
حافظاً بلسان القوم، ويقال تلمشان، وهو أيضاً مركّب من " تلم "(1) ومعناه لها، وشان أي لها شأن، وهي مدينة عريقة في التمدن، لذيذة الهواء، عذبة الماء، كريمة المنبت، اقتعدت بسفح جبل، ودوين (2) رأسه بسيط أطول من شرق إلى غرب، عروساً فوق منصّة، والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين ويطل منها (3) على فحص أفيح معد للفلاحة تشق ظهوره الأسلحة عن مثل أسنمة المهاري، وتبقر في بطونه عند تدميث الغمائم بطون العذارى (4) ، وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة، والصروح الشاهقة، والبساتين الرائقة، ممّا زخرفت عروشه، ونمقت غروسه، ونوسبت أطواله وعروضه، فأزرى بالخورنق، وأخجل الرصافة، وعبث بالسّدير. وتنصبّ إليها من عل أنهار من ماء غير آسن، تتجاذبه أيدي المذانب والأسراب المكفورة (5) خلالها، ثم ترسله بالمساجد والمدارس والسقايات بالقصور وعلية الدور والحمامات، فيفعم الصهاريج، ويفهق الحياض، ويسقي ريعه (6) خارجها مغارس الشجر ومناب الحب، فهي التي شحرت الألباب رواء، وأصبت النّهى جمالاً (7) ، ووجد المادحون فيها المقال فأطالوا وأطابوا، إلى أن قال: فأنا أنشد ساكنها قول ابن خفاجة لاستحقاقها إيّاه عندي (8) :
ما جنّة الخلد إلا في منازلكم
…
وهذه كنت لو خيّرت أختار
(1) البغية: تل.
(2)
البغية: ودون.
(3)
البغية: تطل منه.
(4)
البغية: العدارى. والعذارى: الأراضي التي لم توطأ.
(5)
المكفورة: المستورة.
(6)
البغية: بساتينها.
(7)
جمالاً: سقطت من البغية.
(8)
ديوان ابن خفاجة: 364.
لا تتّقوا بعدها أن تدخلوا سقراً
…
فليس تدخل بعد الجنّة النار وتوسطت قطراً ذا كورٍ عديدة تعمرها أمشاج البربر والعرب، مريعة الجنبات، منجبة للحيوان والنبات، كريمة الفلاحة، زاكية الإصابة، فربما انتهت في الزّوج الواحد منها إلى أربعمائة مد كبير؛ ثم أطال في ذلك ابن خلدون المذكور بما يوقف عليه في الكتاب المذكور.
وممّا يُنسب للسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى في وصفها ما صورته: تلمسان مدينة جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت في موضع شريف، كأنّها ملك على رأسه تاجه، وحواليه من الدوحات حشمه وأعلاجه، عبّادها يدها وكهفها كفها، وزينتها زيانها، وعينها أعيانها، هواها المقصور بها فريد، وهواؤها الممدود صحيح عتيد، وماؤها برود صريد، حجبتها أيدي القدرة عن الجنوب، فلا نحول فيها ولا شحوب؛ خزانة زرع، ومسرح ضرع، فواكهها عديدة الأنواع، ومتاجرها فريدة الانتفاع، وبرانسها رقاق رفاع، إلاّ أنّها بسبب حب الملوك، مطمعة للملوك، ومن أجل جمعها الصّيد في جوف الفرا، مغلوبة للأمرا، أهلها ليست عندهم الراحة، إلاّ فيما قبضت عليه الراحة، ولا فلاحة، إلا لمن أقام رسم الفلاحة، ليس بها لسع العقارب، إلا فيما بين الأقارب، ولا شطارة، إلا فيمن ارتكب الخطارة؛ انتهى.
وقد كنت بالمغرب نويت أن أجمع في شأنها كتاباً ممتعاً أسميّه بأنواء نيسان في أنباء تلمسان وكتبت بعضه، ثم حالت بيني وبين ذلك العزم الأقدار، وارتحلت منها إلى حضرة فاس حيث ملك الأشراف ممتدّ الرّواق، فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها، ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز، وها أنا ذا إلى الآن في البلاد المصرية، وفي علم الله تعالى ما لا نعلم، والتسليم لأحكام الأقدار أسلم، والله تعالى يختم لنا بالحسنى بجاه نبيّه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف، ثم رجعت إليها آخر عام عشرة وألف، ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة ثلاث عشرة وألف، إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة سبع وعشرين وألف، ودخلت مصر برجب من عام ثمانية وعشرين وألف، والشام بشعبان عام سبعة وثلاثين وألف، وأبت منها إلى مصر أواخر شوّال من العام، وشرعت في هذا المؤلف بالقعدة من العام.
[ترجمة أبي مدين]
وقد تخرّج بتلمسان من العلماء والصلحاء ما لا ينضبط، ويكفيها افتخاراً دفن وليّ الله سيدي أبي مدين بها، وهو شعيب بن الحسين الأندلسي، شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين، قال الشيخ أبو عبد الله محمّد ابن التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب: كان (1) الشيخ سيدي أبو مدين فرداً من أفراد الرجال، وصدراً من صدور الأولياء الأبدال، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة، وأقامه ركن الوجود هادياً وداعياً للحق، فقصد بالزيارة من جميع الأقطار، واشتهر بشيخ المشايخ، وذكر التادلي وغيره أنّه خرج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات، وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهداً فاضلاً عارفاً بالله تعالى، خاض بحار الأحوال، ونال أسرار المعارف، خصوصاً مقام التوكّل، لا يشق غباره، ولا تجهل آثاره، قال التادلي: كان مبسوطاً بالعلم، مقبوضاً بالمراقبة، كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك، أخبرني من شهد وفاته أنّه رآه
(1) انظر نيل الابتهاج: 107 فأكثر هذه الترجمة منقول عنه.
في آخر الرمق يقول: الله الحق. وكان من أعلام العلماء، وحفّاظ الحديث، خصوصاً جامع الترمذي، وكان يقوم عليه، ورواه عن شيوخه عن أبي ذر، وكان يلازم كتاب الإحياء ويعكف عليه، وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت، وله مجلس وعظ يتكلّم فيه، فتجتمع عليه الناس من كل جهة، وتمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع، وربما مات بعضها، وكثيراً ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرّج عليه جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال، وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه جميلاً، ويخصّه بين أصحابه بالتعظيم والتبجيل، قرأ بفاس بعد قدومه من الأندلس على الشيخ الحافظ أبي الحسن ابن حرزهم، وعلى الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن ابن غالب.
وذكر عنه أنّه قال: كنت في أوّل أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو معنى حديث قنعت به وانصرفت لموضع خال خارج فاس أتخذه مأوى للعمل بما فتح به عليّ، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إليّ وتؤنسني (1) ، وكنت أمرّ في طريقي بكلاب القرى المتصلة بفاس، فيدورون حولي، ويبصبصون لي، فبينا أنا يوماً بفاس إذا برجل من معارفي بالأندلس سلّم علي، فقلت: وجبت ضيافته، فبعث ثوباً بعشرة دراهم، فطلبت الرجل لأدفعها له، فلم أجده هنالك، فخليتها معي، وخرجت لخلوتي على عادتي، فمررت بقريتي، فتعرض لي الكلاب، ومنعوني الجواز، حتى خرج من القرية من حال بيني وبينهم، ولمّا وصلت لخلوتي جاءتني الغزالة على عادتها، فلمّا شمّتني نفرت عنّي، وأنكرت علي، فقلت: ما أوتي علي إلاّ من أجل هذه الدراهم التي معي، فرميتها، فسكنت الغزالة، وعادت لحالها معي، ولمّا رجعت لفاس جعلت الدراهم معي، ولقيت الأندلسي، فدفعتها إليه، ثم مررت بالقرية في خروجي للخلوة، فدار بي كلابها وبصبصوا على عادتهم، وجاءتني الغزالة فشمتني من
(1) انظر أيضاً التادلي: 320.
مفرقي لقدمي، وأنست بي كعادتها، وبقيت كذلك مدّة، وأخبار سيدي أبي يعزى ترد عليّ، وكراماته يتداولها الناس وتنقل إليّ، فملأ قلبي حبّه، فقصدته مع جماعة الفقراء، فلمّا وصلنا إليه أقبل على الجماعة دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم، وبقيت كذلك ثلاثة أيام، فأجهدني الجوع، وتحيرت من خواطر ترد عليّ، ثم قلت في نفسي: إذا قام الشيخ من مكانه أمرغ وجهي في المكان، فقام، ومرغت وجهي فقمت وأنا لا أبصر شيئاً، وبقيت طول ليلتي باكياً، فلمّا أصبح دعاني وقرّبني، فقلت له: يا سيدي، قد عميت ولا أبصر شيئاً، فمسح بيده على عيني، فعاد بصري، ثم مسح على صدري، فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة، فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يرعك فإن غلب خوفه عليك فقل له: بحرمة يدنور (1) إلا انصرفت عني، فكان الأمر كما قال. فتوجّه الشيخ أبو مدين للشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرّف في عرفة بالشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني، فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيراً من الحديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره، وحلاه بملابس أنواره، فكان أبو مدين يفتخر بصحبته، ويعدّه أفضل مشايخه الأكابر.
وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين: بثّ العلم ولا تبالِ، ترتع غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري، فقصصتها عليه فقال لي: عزمت على الخروج للجبال والفيافي حتى أبعد عن العمران، ورؤياك هذه تعدل بي عن هاذ العزم، وتأمرني بالجلوس، فقولك ترتع غداً مع العوالي إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنّة، والعوالي: أصحاب عليين، ومعنى قوله أبي الذراري أن آدم أعطي قوّة على النكاح
(1) التشوف: يلنور.
وأمر به، ولم يجعل له قوّة على كون ذريته مطيعين مؤمنين، وكذا نحن أعطانا الله العلم وأمرنا ببثّه وتعليمه، ولا قدرة لنا على كون أتباعنا موفّقين.
وكان يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي بالسند إلى رب العزة جل جلاله.
وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت سيدي أبا مدين يقول: أوقفني ربي عز وجل بين يديه وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك قلت: يا رب عطاؤك، قال: وعن شمالك قلت: يا رب قضاؤك، فقال: يا شعيب قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا، فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك.
وعن سيدي أبي العباس المرسي: جلت في ملكوت الله تعالى، فرأيت سيدي أبا مدين متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذ أشقر أزرق، فقلت له: وما علومك وما مقامك فقال: علومي أحد وسبعون علماً، وأما مقامي فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال.
وسئل رضي الله عنه عمّا خصّه الله تعالى به، فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية، وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية، ملأت علومه سرّي وجهري، وأضاء بنوره برّي وبحري، فالمقرب من كان به عليماً، ولا يسمو إلاّ من أوتي قلباً سليماً، الذي يسلم ممّا سواه، ولا يكون في الوعاء إلاّ مما جعل فيه مولاه، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شك " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب " النمل:88.
وسئل عن الحياء، فقال: أوّله دوام الذكر، وأوسطه الأنس بالمذكور، وأعلاه أن لا ترى شيئاً سواه.
واختلف أهل مجلسه: هل الخضر ولي أم نبي فرأى رجل صالح منهم معروف بالولاية النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فقال صلى الله عليه وسلم: الخضر نبي، وأبو مدين ولي.
وذكر التادلي (1) وغيره أن رجلاً جاءه ليعترض عليه، فجلس في الحلقة، فأخذ صاحب الدولة في القراءة، فقال له أبو مدين: أمهل قليلاً، ثم التفت للرجل، وقال له: لم جئت فقال: لأقتبس من نورك، فقال له: ما الذي في كمك قال له: مصحف، فقال له: افتحه واقرأ في أوّل سطر يخرج لك، ففتحه وقرأ أوّل سطر فإذا فيه " الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " الأعراف: 92 فقال له أبو مدين: أما يكفيك هذا فاعترف الرجل وتاب وصلح حاله.
وذكر صاحب الروض عن الشيخ الزاهد أبي محمد عبد الرزاق أحد خواص أصحابه قال: مر شيخنا أبو مدين في بعض بلاد المغرب، فرأى أسداً افترس حماراً وهو يأكله، وصاحبه جالس بالبعد على غاية الحاجة والفاقة، فجاء أبو مدين وأخذ بناصية الأسد، وقال لصاحب الحمار: أمسك الأسد واستعمله في الخدمة موضع حمارك، فقال له: يا سيدي أخاف منه، فقال: لا تخف، لا يستطيع أن يؤذيك، فمرّ الرجل يقوده والناس ينظرون إليه، فلمّا كان آخر النهار جاء الرجل ومعه الأسد للشيخ وقال له: يا سيدي هذا الأسد يتبعني حيث ذهبت، وأنا شديد الخوف منه، لا طاقة لي بعشرته، فقال الشيخ للأسد: اذهب ولا تعد، ومتى آذيتم بني آدم سلطتهم عليكم.
ومن مشهور كراماته أنّه كان ماشياً يوماً على ساحل، فأسره العدوّ، وجعلوه في سفينة فيها جماعة من أسرى المسلمين، فلمّا استقرّ في السفينة توقفت عن السير، ولم تتحرّك من مكانها، مع قوّة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم: أنزلوا هذا المسلم فإنّه قسيس، ولعلّه من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له بالنزول، فقال: لا أفعل إلاّ إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد لهم من ذلك،
(1) التشوف: 323.
فأنزلوهم كلّهم، وسارت السفينة في الحال.
ومن كراماته أنّه لمّا اختلف طلبة بجاية في حديث إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنّة وأشكل عليهم ظاهره: إذ يموت مؤمنين يستحقان كل الجنّة، فجاءوا إليه وهو يتكلّم على رسالة القشيري، فكاشفهم في الحال بلا سؤال، وقال لهم: المراد أنّه يعطى نصف جنته هو، فيكشف له عن مقعده ليتنعم به وتقر عينه، ثم النصف الآخر يوم القيامة.
وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل.
وذكر تلميذه الصالح سيدي عبد الخالق التونسي عنه أنّه قال: سمعت برجل يسمى موسى الطيار يطير في الهواء ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند صدع الفجر فيسألني عن مسائل لا يفهمها الناس، فوقع ليلة في نفسي أنّه موسى الطيار الذي سمعت به، وطال عليّ الليل في انتظاره، فلمّا طلع الفجر نقر الباب رجل، فإذا هو الذي يسألني، فقلت له: أنت موسى الطيار فقال: نعم، ثم سألني وانصرف، ثم جاءني مع رجل آخر فقال لي: صلّينا الصبح ببغداد، وقدمنا مكة فوجدناهم في صلاة الصبح (1) ، فأعدنا معهم، وجلسنا (2) حتى صلينا الظهر، وأتينا القدس فوجدناهم في الظهر، فقال لي صاحبي هذا: نعيد معهم، فقلت: لا، فقال لي: ولم أعدنا الصبح بمكّة فقلت له: كذلك كان شيخي يفعل، وبه أمرنا، فاختلفنا وأتيناك للجواب، فقال أبو مدين: فقلت لهم: أمّا إعادة الصبح بمكة فلأنّها بها عين اليقين، وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أولى من علم اليقين، وصلاتكم الظهر بمكة - وهي أم القرى - فلذلك لا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا.
وكان استوطن بجاية ويقول: إنّها معينة على طلب الحلال، ولم يزل بها
(1) ق: فوجدناهم في الظهر في صلاة الصبح.
(2)
نيل الابتهاج: فيقينا.
يزداد حلاه على مر الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر بالوقائع والغيوب، إلى أن وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنّا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمّه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصيّة به والاعتناء، وأن يحمل خير محمل، فلمّا أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا وتكلّموا (1)، فسكتهم وقال لهم: إن منيتي قربت، وبغير هذا المكان قدرت، ولا بد لي منه، وأ، اشيخ كبير ضعيف (2) ، لا قدرة لي على الحركة، فبعث الله تعالى من يحملني إليه برفق، ويسوقني إليه أحسن سوق، وأنا لا أرى السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم، وذهب بوسهم، وعلموا أنه من كراماته، فارتحلوا به على أحسن حال، حتى وطئوا به حوز تلمسان، فبدت له رابطة العباد، فقال لأصحابه: ما أصلحه للرقاد، فمرض مرض موته، فلمّا وصل وادي يسر اشتد به المرض، ونزلوا به هناك، فكان آخر كلامه: الله الحق.
وتوفّي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فحمل إلى العباد، مدفن الأولياء الأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة، والمحافل الكريمة، وفي ذلك اليوم تاب الشيخ أبو علي عمر الحباك، وعاقب الله تعالى السلطان، فمات بعده بسنة أو أقل.
ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب، وجربه جماعة، وقد زرته مئين من المرات، ودعوت الله تعالى عنده بما أرجو قبوله.
وقد أطال في ترجمته التادلي في كتابه " التشوّف لرجال التصوّف "(3) وقد
(1) وتكلموا: سقطت من نيل الابتهاج.
(2)
نيل الابتهاج: وقد كبرت وضعفت.
(3)
انظر هذا الكتاب ص: 316 - 325.
أفردها ابن الخطيب القسمطيني بتأليف سمّاه أنس الفقير.
ومن كلامه: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجراً فهو خراب.
وقوله: بفساد العامّة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصّة تظهر دجاجلة الدين الفتّانون.
وقوله: من عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله تعالى احترامهم ابتلاه الله بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صولة المطيع.
وقوله: من علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق.
وسئل عن المحو والشيخ، فقال: المحو من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالاحترام والتعظيم، والشيخ من هداك بأخلاقه، وأيدك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه، إلى غير ذلك من كلامه النيّر، وهو بحر لا ساحل له.
وله نظم كثير مشهور بأيدي الناس، وممّا يُنسب له قوله:
بكت السحاب فأضحكت لبكائها
…
زهر الرياض وفاضت الأنهار
وقد أقبلت شمس النّهار بحلّة
…
خضرا، وفي أسرارها أسرار
وأتى الربيع بخيله وجنوده
…
فتمتعت في حسنه الأبصار
والورد نادى بالورود إلى الجنى
…
فتسابق الأطيار والأشجار
والكأس ترقص والعقار تشعشعت
…
والجوّ يضحك والحبيب يزار
والعود للغيد الحسان مجاوب
…
والطار أخفى صوته المزمار
لا تحسبوا الزمر الحرام مرادنا
…
مزمارنا التّسبيح والأذكار
وشرابنا من لطفه، وغناؤنا
…
نعم الحبيب الواحد القهار
والعود عادات الجميل، وكأسنا
…
كأس الكياسة، والعقار وقار
فتألفوا وتطيبوا واستغنموا
…
قبل الممات فدهركم غدّار
والله أرحم بالفقير إذا أتى
…
من والديه فإنّه غفّار
ثمّ الصلاة على الشّفيع المصطفى
…
ما رنّمت بلغاتها الأطيار وإنّما ذكرت ترجمة سيدي الشيخ أبي مدين للتبرك به، ولكونه شيخ جدي، فأنا في بركته لقول جدّي: إنّه دعا له ولذريته بما ظهر قبوله، ولأنا ذكرنا في هذا التأليف كثيراً من أنباء أبناء الدنيا، فأردنا كفّارة ذلك بذكر الصالحين، والله الموفّق بمنّه وكرمه، آمين.